العقد الفريد

ابن عبد ربه الأندلسي

مقدّمة المحقّق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فمنذ أن فتح العرب بلاد الأندلس عام 92 للهجرة نجد أن تلك الأصقاق قد شهدت نزوح كثير من القبائل العربية إليها حيث ألقت هناك عصا الترحال واستقرّ بها النّوى، ومكّنها ذلك فيما بعد من إحداث نهضة أدبية سرعان ما نمت وتطوّرت وعرفت في عصر الدولة الأموية التي أنشئت هناك على أنقاض الدولة الأموية التي انهارت في المشرق العربى تحت ضربات العباسيين، أوج ازدهارها، وقمّة عطائها، وقد ظهر في تلك الديار النائية التي لم تفقد في يوم من الأيام صلتها بالمشرق الأم، كثير من العلماء والأدباء الذين حاكوا بنتاجهم أكثر من ظهر في المشرق العربي من نتاج، والتزموا بأذواقهم الذوق الأدبي اسائد آنذاك، حتى أنّ الصاحب بن عباد بعد اطلاعه على «العقد الفريد» نراه يقول: «هذه بضاعتنا ردّت إلينا» ، ومن هؤلاء الأدباء الكثر، صاحب العقد أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم القرطبي، الذي كان مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان. ولد الرجل في مدينة قرطبة في العاشر من شهر رمضان سنة 246 هـ- الموافق للتاسع والعشرين من تشريع الثاني سنة 860 م. وقرطبة حيث ولد ابن عبد ربّه من أعظم المدن الأندلسيّة، وكانت عظيمة الشبه بمدينة بغداد حاضرة العباسيين، وعنها يقول المقّري صاحب نفح الطيب: «يحكى أنّ العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أنه كان يمشى فيها بضوء لمن قطف بيده ما يمنحونه منه، ونهرها €

إن صغر عندها عن عظمه عند اشبيلية فإنّ لتقارب برّيه هنا لك، وتقطّع غدره ومروجه معنى آخر، وحلاوة أخرى، وزيادة أنس، وكثرة آمان من الغرق، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة. في هذه البيئة المليئة بالعطر والورود والأفياء نشأ صاحب العقد، وأمضى سحابة شبابه مستمتعا بطبيعة بلاده وأجوائها المساعدة على النظم واللهو والغناء، ولذا فقد أولع الرجل بسماع الغناء والطرب اللذين شاعا في المدن الأندلسيّة أيّما شيوع، حتّى أصبحت بلاطات الأمراء مسارح للمغنّيات والقيان اللواتي كنّ يفدن إلى هناك من مختلف الأقطار العربية في بداية الأمر كالجارية العجفاء، وقد استأثرت قرطبة باستقبال روّاد هذا الفن، ثم انتقل مركز الغناء إلى اشبيلية حتى ظنّ أنّها عاصمة هذا الفنّ. وتفرّدت قرطبة بالعلم والفقه، وأصبحت عاصمة الأدب وحاضنة علوم الدين. وكان طبيعيّا أن يتأثر أديبنا بطبيعة بلاده، ويساير تلك الموجة العارمة من الطرب واللهو والعبث والمجون، فشرب الخمرة، وطرب لسماع الأصوات العذبة، وهذا ما يمكننا أن نستشفّه من خلال شعره المبثوث في ثنايا عقده. ومن الواضح أنّ الرجل قد تاب عن غيّه وعاد إلى رشده خلال العقد الرابع من عمره، فطرق باب الفقه، وتتلمذ على شيوخ عدة نذكر منهم الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، وفي تلك الحقبة من الزمن كانت دراسة الفقه مدخلا وممهدا لتسلّم المراكز الرفيعة، فامتلأت المدن الأندلسية التي خضعت للحكم العربي وخاصة قرطبة بالعلماء والأدباء والفقهاء.. ويظهر أنّ صاحب العقد كان على صلة مع أمراء عصره، فقد مدح أمير قرطبة محمد بن عبد الرحمن الحكم، كما كان على صلة بابنه المنذر أيضا، وفي هذه الحقبة من تاريخ الأندلس كثرت الفتن، حتى أن أحد قوّاد الفتنة، عمر بن حفصون، قد هدّد السلطة الأمويّة، وقد نعته ابن عبد ربه، بالمارق الفاسق.. واتصل صاحب العقد كذلك بالقائد العربي ابراهيم بن الحجاج الذي جعل أمارته في أشبيلية، وكان كريما سخيّا على الأدباء والشعراء، فوفد إلى بلاطه معظم علماء الأندلس وشعرائها. €

وأقام الرجل كذلك علاقات طيبة مع عبد الرحمن بن محمد الملقّب بالملك الناصر، الذي بنى مدينة الزهراء، ومدحه بقصائد كثيرة منها قصيدته الرائعة التي أدرجها في المجلد الثالث من العقد. وابن عبد ربه الذي يقول فيه الثعالبي النيسابوري صاحب يتيمة الدهر إنّه «أحد محاسن الأندلس علما وفضلا وأدبا ومثلا، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة» أصيب آخر أعوامه بالفالج، كما أصيب الجاحظ من قبله، وأبو الفرج الأصبهاني من بعده، وتوفي يوم الأحد لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأولى سنة 328 هجرية وهو ابن إحدى وثمانين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيّام ودفن في اليوم التالي لوفاته ... هذه لمحة موجزة عن حياة الرجل، أما عن أعماله الأدبية فقد كان «العقد» أكثر كتبه شهرة، وقد تحدّث نفسه عن تسميته بهذا الاسم فقال: «وسمّيته كتاب العقد الفريد لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة المسلك وحسن النظام» وقد اعتمد كما لاحظنا في تأليفه واختياره لموضوعاته وأخباره على مصادر كثيرة، منها ما هو ديني كالقرآن والانجيل والتوراة، والحديث النبويّ الشّريف، ومنها ما هو أدبيّ وتاريخيّ، كعيون الأخبار، والمعارف لابن قتيبة، والحيوان، والبخلاء، والبيان والتبيين، للجاحظ، والكامل للمبرّد وكليلة ودمنة والأدب الكبير والصغير لابن المقفّع، والأمالي لأبي عليّ القالي، ودواوين كثيرة لشعراء جاهليين وإسلاميين، وغير ذلك من الكتب التي تناولتها يداه ... وقد قسّم الرجل كتابه إلى فنون عديدة، وضمّنه خمسة وعشرين كتابا انفرد كلّ كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد «بحيث يقع على كلّ من جانبي واسطة العقد، اثنتا عشرة جوهرة، كلّ منها سمّيت باسم التي تقابلها من الجانب الآخر، وبذلك تكون أولى جواهر العقد وآخره على اسم واحد، ففي العقد لؤلؤتان وزبرجدتان وياقوتتان وجمانتان وهلمّ جرّا» وقد أشار ابن عبد ربّه في مقدمة كتابه إلى ذلك فقال: «وجزّأته على خمسة وعشرين كتابا كلّ كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا» . €

أمّا الموضوعات التيّ تناولها العقد، فقد تنوّعت وتوزّعت بين السياسة والسلطات، والحروب ومدار أمرها، والأمثال والمواعظ، والتّعازي والمراثي وكلام الأعراب وخطبهم وأنسابهم وعلومهم وأدابهم وأيّامهم واخبار مشهوريهم من الخلفاء والقادة، هذا فضلا عن تضمينه كتابه كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكثيرا من الأشعار والأخبار التاريخية، وإثباته لنفسه كثيرا من القصائد التي وردت على شكل معارضات لشعر كبار الشعراء في الموضوعات التي استشهد بأشعارهم عليها. وقد صاغ صاحب العقد موضوعاته وما تضمّنها من معلومات بأسلوب أدبيّ، واضح بحيث نراه يهذّب كلّ ما جمعه، ويصفّيه من الأسانيد التاريخية لأنّ غايته من تأليف كتابه كانت أدبيّة بحتة، هذا ونلاحظ في كتابه ميلا إلى الفكاهة والدّعابة، ونزوعا إلى القصص والنّوادر والنكات، فنراه في كتابه يذكر الكثير من ذلك أو لا يستنكف عن ذكر بذيء اللفظ وسافل المعنى، ورغم كلّ ذلك فإنّ المسحة الأدبيّة تبدو قويّة في كتابه بحيث يشعر بها كلّ من يقرأ العقد أو يتصفّحه فقد أراد الرجل أن يكون كتابه «مجموعة من متخيّر الآداب ومحصول جوامع البيان» وقد وفّق إلى ذلك وسبق الكثيرين ممّن ألفّوا على شاكلة كتابه، وامتاز على غيره بالوضوح والسهولة وحسن الترتيب والتنسيق حتى غدا كتابه كلّا متماسكا وسفرا جامعا لأكثر علوم عصره إن لم نقل كلّها، هذا وقد تضمّن العقد «ما لا يقل» عن عشرة آلاف بيت من الشعر لأكثر من مئتي شاعر من العصر الجاهلي والأموي والعباسي، وربّما يصعب أن نذكر شاعرا معروفا لا نرى عنه خبرا أو نتفا من شعره، استشهد بها ابن عبد ربه لمناسبة ما فضلا عن تخصيصه كتابا لأعاريض الشعر وعلل القوافي، كما تضمّن العقد خطبا كثيرة ورسائل عديدة لكثير من الأدباء والمتراسلين.. كذلك فإنّ في العقد فصولا نقدية قيّمة نقلها من الكتب السابقة لكتابه ويجدر بمن يتعاطى مهنة الأدب أن يطلع عليها للإفادة منها، كما أن فيه فصولا دينية قيّمة، فقد ذكرنا من قبل أنّ الرجل كان فقيها، فلا غرو إذا ظهرت في كتابه الثقافة الدينية بمختلف فروعها، ونستطيع في هذا المجال أن نلاحظ أخبار كثير من الائمة الذين تقدّموه كما نلاحظ كثيرا من أقوالهم وأحكامهم وفتاويهم في بعض المسائل. €

بعد هذا العرض الموجز لما تضمّن العقد من مادة غنيّة ومتنوعة، نستطيع القول: إنّ العقد كتاب عظيم النفع جليل القيمة، وافر المعلومات واسع الأفق، بحيث نراه يتحوّل بجهد صاحبه إلى سفر موسوعيّ ضخم يتضمّن كثيرا من المعارف والعلوم والآداب، التي رتبها ابن عبد ربه ونسّقها بحيث غدت متّصلة العرى متآلفة الموضوعات متماسكة الحلقات، تشهد للرجل بحسن البراعة والاختيار، كما تشهد له بالعلم والمعرفة وسعة الاطلاع، فالرجل في مصنّفه لم يكن مجرّد ناقل ومبوّب، بل كان صاحب رأي وصاحب ذوق يطلان في كثير من الآماكن بشكل واضح وجلّي، فضلا عن كونه شاعرا بارعا قويّ الديباجة، سلس الأسلوب دقيق المعاني، ولكن مع ميل إلى تقليد المشارقة، والعمل على محاكاتهم وإظهار التفوّق عليهم في أغلب الأحيان. وهكذا فإنّ العقد بجواهره النفيسة التي تشعّ كثيرا من الأصواء والمعارف، كتاب ينبغي الاقتناء له والاستفادة من ألقه الرائع بين السطور والكلمات. والله من وراء القصد. د. مفيد محمد قميحة

الجزء الأول

الجزء الأول [مقدمة المؤلف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ربّ يسّر وأعن قال أبو عمرو أحمد بن عبد ربّه الأندلسيّ، رحمه الله] : الحمد لله الأوّل بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء؛ المنفرد بقدرته، المتعالي في سلطانه؛ الذي لا تحويه الجهات ولا تنعته الصّفات؛ ولا تدركه العيون، ولا تبلغه الظنّون؛ الباديء بالإحسان، العائد بالامتنان؛ الدالّ على بقائه بفناء خلقه، وعلى قدرته بعجز كلّ شيء سواه؛ المغتفر إساءة المذنب بعفوه، وجهل المسيء بحمله؛ الذي جعل معرفته اضطرارا، وعبادته اختيارا؛ وخلق الخلق من [بين] ناطق معترف بوحدانيّته، وصامت متخشّع لربوبيّته؛ لا يخرج شيء عن قدرته، ولا يعزب «1» عن رؤيته؛ الذي قرن بالفضل رحمته، وبالعدل عذابه؛ فالناس مدينون بين فضله وعدله، آذنون بالزّوال، آخذون في الانتقال؛ من دار بلاء، إلى دار جزاء. أحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ فإنّه رضي الحمد ثمنا لجزيل نعمائه، وجليل آلائه «2» ؛ وجعله مفتاح رحمته، وكفاء نعمته، وآخر دعوى أهل جنّته، بقوله جلّ وعزّ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3»

وصلّى الله على [سيّدنا محمّد] النبيّ المكرّم، الشافع المقرّب، الذي بعث آخرا واصطفي أوّلا، وجعلنا من أهل طاعته، وعتقاء شفاعته. وبعد: فإنّ أهل كلّ طبقة، وجهابذة «1» كلّ أمّة؛ قد تكلّموا في الأدب وتفلسفوا في العلوم على كلّ لسان، ومع كلّ زمان؛ وإنّ كلّ متكلّم منهم قد استفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار بديع معاني المتقدّمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين؛ وأكثروا في ذلك حتى احتاج المختصر منها إلى اختصار، والمتخيّر إلى اختيار. ثم إني رأيت آخر كلّ طبقة، وواضعي كلّ حكمة ومؤلّفي كل أدب، أعذب ألفاظا وأسهل بنية وأحكم مذهبا وأوضح طريقة من الأوّل، لأنه ناكص متعقّب «2» ، والأوّل باديء متقدّم. فلينظر الناظر إلى الأوضاع المحكمة والكتب المترجمة بعين إنصاف، ثم يجعل عقله حكما عادلا [وفيصلا] قاطعا؛ فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع، طيّبة المنبت، زكيّة التّربة، يانعة الثّمرة. فمن أخذ بنصيبه منها كان على إرث من النّبوّة، ومنهاج من الحكمة؛ لا يستوحش صاحبه، ولا يضلّ من تمسّك به. وقد ألّفت هذا الكتاب وتخيّرت جواهره من متخيّر جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الّلباب؛ وإنّما لي فيه تأليف [الأخبار، وفضل] الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كلّ كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله «3» . وقال الشاعر: قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ن دليلا على الّلبيب اختياره

وقال أفلاطون: عقول الناس مدوّنة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم. فتطلّبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال، ثم قرنت كلّ جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته؛ ليستدلّ الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كلّ باب. وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرا، وأظهرها رونقا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة؛ آخذا بقول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1» . وقال يحيى بن خالد: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون: ويتحدّثون بأحسن ما يحفظون. وقال ابن سيرين: العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كلّ شيء أحسنه. وفيما بين ذلك سقط الرأي، وزلل القول؛ ولكلّ عالم هفوة [ولكلّ جواد كبوة] ، ولكل صارم «2» نبوة. وفي بعض الكتب: انفرد الله تعالى بالكمال، ولم يبرأ أحد من النّقصان. وقيل للعتّابي: هل تعلم أحدا لا عيب فيه؟ قال: إنّ الذي لا عيب فيه لا يموت [أبدا] ، ولا سبيل إلى السّلامة من ألسنة العامّة. وقال العتّابي: من قرض شعرا أو وضع كتابا فقد استهدف للخصوم واستشرف للألسن، إلا عند من نظر فيه بعين العدل، وحكم بغير الهوى، وقليل ما هم. وحذفت الأسانيد من أكثر الأخبار طلبا للاستخفاف والإيجاز، وهربا من

التثقيل والتّطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتّصاله، ولا يضرّها ما حذف منها. وقد كان بعضهم يحذف أسانيد الحديث من سنّة متّبعة، وشريعة مفروضة؛ فكيف لا نحذفه من نادرة شاردة، ومثل سائر، وخبر مستطرف، [وحديث يذهب نوره إذا طال وكثر] . سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث. فأخذ بحلقه وأسنده إلى حائط وقال: هذا إسناده! وحدّث ابن السّمّاك بحديث، فقيل له: ما إسناده؟ فقال: هو من المرسلات عرفا «1» . [وروى الأصمعيّ خبرا، فسئل عن إسناده. فقال: هو من الآيات المحكمات التي لا تحتاج إلى دليل وحجّة] . وحدّث الحسن البصريّ بحديث، فقيل له: يا أبا سعيد، عمّن؟ قال: وما تصنع بعمّن يا بن أخي؟ أمّا أنت فنالتك موعظته، وقامت عليك حجّته. وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة فوجدتها غير متصرّفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار؛ فجعلت هذا الكتاب كافيا [شافيا] جامعا لأكثر المعاني التي تجري على أفواه العامّة والخاصّة. وتدور على ألسنة الملوك والسّوقة. وحلّيت كلّ كتاب منها بشواهد من الشّعر، تجانس الاخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها؛ وقرنت بها غرائب من شعري، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته «2» ، وبلدنا على انقطاعه، حظّا من المنظوم والمنثور.

وسمّيته كتاب (العقد الفريد) لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السّلك وحسن النّظام؛ وجزّاته على خمسة وعشرين كتابا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا [و] قد انفرد كلّ كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد، فأوّلها: كتاب اللؤلؤة في السلطان. ثم كتاب الفريدة في الحروب [ومدار أمرها] . ثم كتاب الزّبر جدة في الأجواد والأصفاد. ثم كتاب الجمانة في الوفود. ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك. ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب. ثم كتاب الجوهرة في الأمثال. ثم كتاب الزّمردة في المواعظ والزّهد. ثم كتاب الدّرّة في التعازي والمراثي. ثم كتاب اليتيمة في النسب [وفضائل العرب] . ثم كتاب المسجدة في كلام الأعراب. ثم كتاب المجنّبة في الأجوبة. ثم كتاب الواسطة في الخطب. ثم كتاب المجنّبة الثانية في التّوقيعات والفصول والصّدور وأخبار الكتبة. ثم كتاب المسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم. ثم كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجّاج [والطالبيّين والبرامكة] . ثم كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم. ثم كتاب الزّمرّدة الثانية في فضائل الشّعر ومقاطعه ومخارجه. ثم كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشّعر وعلل القوافي.

ثم كتاب الياقوتة الثانية في [علم] «1» الألحان واختلاف الناس فيه. ثم كتاب المرجانة الثانية في النّساء وصفاتهنّ. ثم كتاب الجمانة الثانية في المتنبّئين والممرورين والبخلاء والطّفيليّين. ثم كتاب الزّبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان [وتفاضل البلدان] . ثم كتاب الفريدة الثانية في الطّعام والشراب. ثم كتاب اللؤلؤة الثانية في [النّتف والهدايا و] الفكاهات والملح.

كتاب اللؤلؤة في السلطان

كتاب اللّؤلؤة في السلطان فرش الكتاب : السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار [الدين و] الدنيا. وهو حمى الله في بلاده وظلّه الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم «1» ، ويأمن خائفهم. للحكماء : قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل «2» . وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم. ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن «3» . وقال وهب بن منبّه: فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السّلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي. فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة. فحق على من قلّده الله أزمّة حكمه، وملّكه أمور خلقه، واختصه بإحسانه، ومكّن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيّته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته، بحيث وضعه الله من الكرامة، وأجرى عليه من أسباب السعادة. قال الله عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «4» .

للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة» . وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم. كلّكم راع، وكلّ راع مسئول عن رعيته. وقال الشاعر: فكلّكم راع ونحن رعيّة ... وكلّ يلاقي ربّه فيحاسبه ومن شأن الرعيّة قلة الرضى عن الأئمة، وتحجّر العذر عليهم «1» ، وإلزام اللأئمة لهم ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة إذ كان رضى جملتها، وموافقة جماعتها من المعجز الذي لا يدرك والممتنع الذي لا يملك. ولكلّ حصته من العدل، ومنزلته من الحكم. فمن حقّ الإمام على رعيته أن يقضي عليهم بالأغلب من فعله والأعمّ من حكمه، ومن حق الرعيّة على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها وإضرابه صفحا عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق واليا عليها: أيها الناس، قد كانت بين وبينكم إحن «2» ، فجعلت ذلك دبر «3» أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السّل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي صفحته لي «4» . لابن عمر : وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائرا فله الوزر وعليك الصبر. لكعب الأحبار : وقال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس: مثل الفسطاط والعمود

نصيحة السلطان ولزوم طاعته

والأوتاد. فالفسطاط الإسلام، والعمود السلطان، والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضهم إلا ببعض. وقال الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا «1» والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... يوما فقد بلغوا الأمر الذي كادوا نصيحة السلطان ولزوم طاعته قال الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2» وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله. للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من فارق الجماعة أو خلع يدا من طاعة مات ميتة جاهليّة» . وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم» . فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلّا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه. مما وصى به العباس ابنه حين قدمه عمر : الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي أبي: أرى هذا الرجل- يعني عمر بن الخطاب- يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم. وإني

لرجل من الهند ينصح ملكا

موصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابنّ عنده أحدا. قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف. لرجل من الهند ينصح ملكا : وفي كتاب للهند «1» : أنّ رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال: أيها الملك، إنّ نصيحتك واجبة في الصغير الحقير والكبير الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يشقّ «2» موقعه [من الأسماع والقلوب] «3» في جنب صلاح العامة وتلافي الخاصة، لكان خرقا مني «4» أن أقول؛ ولكنا إذا رجعنا إلى أنّ بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بدّا من أداء الحق إليك وإن أنت لم تسلني ذلك، فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثّه «5» ، فقد أخلّ بنفسه؛ وأنا أعلم أنّ كل كلام يكرهه سامعه لا يتشجّع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول؛ فإنه إذا كان عاقلا احتمل ذلك؛ لأنه ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنّك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي وتصرّف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقا بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إيّاك على نفسي. ابن عتبة ينصح الوليد : وقال عمرو بن عتبة للوليد حين تغيّر الناس عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال: كلّ مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.

لابن صفوان في خالصة السلطان

لابن صفوان في خالصة السلطان : وقال خالد بن صفوان: من صحب السلطان بالصحّة والنصيحة أكثر عدوّا ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنّه يجتمع على الناصح عدوّ السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان ينافسه في مرتبته، وعدوّه يبغضه لنصيحته. ما يصحب به السلطان لابن المقفع في خادم السلطان: قال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان ألا يغتر به إذا رضي ولا يتغيّر له إذا سخط، ولا يستثقل ما حمّله، ولا يلحف في مسألته. وقال أيضا: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة «1» منك لنفسك على طاعتهم. فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قرّبوك، أمينا إذا أئتمنوك ذليلا إذا صرموك «2» ، راضيا إذا أسخطوك، تعلّمهم وكأنك متعلّم منهم، وتؤدّبهم وكأنك متأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر. وإلا فالبعد منهم كلّ البعد، والحذر منهم كل الحذر. وقال المأمون: الملوك تتحمّل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرّض للحرم. وقال ابن المقفع: إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة؛ فإنّ ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض «3» . وقال الأصمعي: توصلت بالملح وأدركت بالغريب «4» . وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عنده حمل إليه.

وصاة أبي سفيان وزوجه لابنهما معاوية حين عمل لعمر

وصاة أبي سفيان وزوجه لابنهما معاوية حين عمل لعمر : ولما قدم معاوية من الشام، وكان عمر قد استعمله عليها، دخل على أمه هند؛ فقالت له: يا بنيّ، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فأعمل بما وافقه أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان؛ فقال له: يا بنيّ، إنّ هؤلاء الرهط «1» من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصّر بنا تأخّرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة؛ وقد قلّدوك جسيما من أمرهم؛ فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفّست «2» فيه. قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ. لا برويز ينصح صاحب بيت ماله : وقال أبرويز لصاحب بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم، ولا أحمدك على صيانة ألف ألف؛ لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا. واحترس من خصلتين: النّقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطي؛ واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والعدّة على العدوّ، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه، وخواتمه التي هي عليه، فحقّق ظني باختياري إياك أحقق ظنّك في رجائك إياي؛ ولا تتعوّض بخير شرّا، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، [ولا بأمانة خيانة] «3» . ليزيد بن معاوية ينصح سلما حين ولاه خراسان : ولما ولّى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له: إنّ أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا؛ فلا تتكلنّ على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك مني قبل أن أقول إياي منك؛ فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك فيّ؛ وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.

لعمر بن الخطاب ومعاوية حين قدم عليه الشام

لعمر بن الخطاب ومعاوية حين قدم عليه الشام : قال يزيد: حدّثني أبي أنّ عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقّاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى أخبر به، فرجع إليه. فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا. فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلد لا نمتنع فيها من جواسيس العدوّ ولا بدّ لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان؛ فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال: لئن كان الذي تقول حقا فإنه رأي أريب «1» ؛ وإن كان باطلا خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: لحسن موارده جشّمناه ما جشّمناه «2» . الربيع الحارثي في حضرة ابن الخطاب : وقال الربيع بن زياد الحارثيّ: كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين. فكتب إليه عمر بن الخطاب يأمره بالقدوم عليه هو وعمّاله وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا. فلما قدمنا أتيت يرفأ «3» ، فقلت: يا يرفأ، ابن سبيل مسترشد، أخبرني أيّ الهيئات أحبّ إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عمّاله؟ فأومأ إلى الخشونة. فأخذت خفّين مطارقين «4» ، ولبست جبّة صوف، ولثت رأسي. بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفّنا بين يديه وصعّد فينا نظره وصوّب «5» ، فلم تأخذ عينه أحدا غيري، فدعاني؛ فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كل

ابن عبد ربه يفسر غريب الخبر

يوم. قال: كثير! فما تصنع بها؟ قلت: أتقوّت منها شيئا وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا بأس، ارجع إلى موضعك؛ فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعّد فينا وصوّب، فلم تقع عينه إلا عليّ، فدعاني؛ فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث وأربعون سنة قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العيش وقد تجوّعت له، فأتي بخبز يابس وأكسار بعير «1» ، فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل. فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم، ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا. فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول: لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز ليّنا وباللحم غريضا. فسكّن من غربه وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم. قال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرّحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها «2» ثم أمر أبا موسى أن يقرّني وأن يستبدل بأصحابي! ابن عبد ربه يفسر غريب الخبر : قوله «لثتها على رأسي» . يقال: رجل ألوث، إذا كان شديدا، وذلك من اللوث؛ ورجل ألوث، إذا كان أهوج، مأخوذ من الّلوثة. يقال: (لثت عمامة على رأسي) يقول: أدرتها بعضها على بعض على غير استواء. وقوله «صلائق» هي شيء يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى، يقال: صلقت اللحم، إذا طبخته، وصلقته إذا شويته. وقوله «غريضا» يقول طريا. يقال: لحم غريض، تراد به الطراوة قال العتابي:

زياد أول من استن ترك السلام على قادم عند السلطان

إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت و «سبائك» يريد الحوّارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق: السبائك. و «الصناب» طعام يؤخذ من الزبيب والخردل، ومنه قيل للفرس: صنابي إذا كان في لونه حمرة. قال جرير: تكلّفني معايش آل يزيد ... ومن لي بالمرقّق والصّناب وقوله: «أكسار بعير» فالكسر والقصل والجزل: العظم يفصل ما عليه من اللحم. وقوله «نعى على قوم شهواتهم» أي عابهم بها ووبّخهم. زياد أول من استن ترك السلام على قادم عند السلطان : ومما يصحب به السلطان: ألا يسلّم على قادم بين يديه، وإنما استنّ ذلك زياد بن أبيه؛ وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد؛ فرحّب به معاوية وألطفه وقرّب مجلسه ولم يكلّمه زياد شيئا فابتدأه ابن عباس وقال: ما حالك أبا المغيرة! كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرا. قال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كفّ عنه يا بن عباس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت. ترك أبي مسلم السلام على المنصور بحضرة السفاح : دخل أبو مسلم على أبي العباس وعنده المنصور. فسلم على أبي العباس. فقال له: يا أبا مسلم؛ هذا أبو جعفر! فقال له: يا أمير المؤمنين. هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك!

معاوية وابن العاص بين يدي عمر حين مقدمهما من الشام ومصر

معاوية وابن العاص بين يدي عمر حين مقدمهما من الشام ومصر : أبو حاتم عن العتبي قال: قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر على عمر بن الخطاب؛ فأقعدهما بين يديه وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإليّ تقصد؟ هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك! قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأنّ عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره؛ فأردت أن أفعل شيئا أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية. فقال عمر: تالله ما رأيت رجلا أسفة منك! قم يا معاوية فاقتص منه. قال معاوية: إن أبي أمرني ألّا أقضي أمرا دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان. فلما أتاه ألقى له وسادة وقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . ثم قصّ عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية. فقال: لهذا بعثت إليّ؟ أخوه وابن عمه؛ وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له. لبعضهم في تلمس الحيلة لنصيحة السلطان : وقالوا: ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها، وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك ولكن يضرب له الأمثال، ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه. وقالوا: من تعرّض للسلطان ازدراه، ومن تطامن له تخطّاه «1» . فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديد التي لا تضر بما لان وتمايل معها من الحشيش والشجر، وما استهدف لها قصمته «2» . قال الشاعر: إن الرّياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرّتم «3» لشبيب في مسايرة السلطان : وقال شبيب بن شيبة: ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي إذا أراد

وزير للهند بين الملك والملكة

الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس. وزير للهند بين الملك والملكة : وقرأت في كتاب للهند أنه أهدي لملك ثياب وحلى، فدعا بامرأتين له، وخيّر أحظاهما عنده بين اللباس والحلى. وكان وزيره حاضرا فنظرت المرأة كالمشيرة له، فغمزها باللباس تغضينا «1» بعينه، فلحظه الملك. فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة وصار اللباس للأخرى. فأقام الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقرّ في نفس الملك، وليظن أنها عادة وخلقة. اختيار السلطان لأهل عمله لابن هبيرة يوصي مسلم بن سعيد حين وجهه إلى خراسان : لما وجّه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان قال له: أوصيك بثلاثة: حاجبك، فإنه وجهك الذي به تلقى الناس: إن أحسن فأنت المحسن، وإن أساء فأنت المسيء؛ وصاحب شرطتك، فإنه سوطك وسيفك: حيث وضعتهما فأنت وضعتهما؛ وعمّال القدر «2» قال: وما عمال القدر؟ قال: أن تختار من كل مورة «3» رجالا لعملك، فإن أصابوا فهو الذي أردت، وإن أخطئوا فهم المخطئون وأنت المصيب. اختيار ابن أرطاة بين إياس والقاسم : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجوشنيّ فولّ القضاء أنفذهما؛ فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الرجل، سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة: الحسن وابن سيرين- وكان القاسم يأتي

بين عدي وإياس في القراء

الحسن وابن سيرين وكان إياس لا يأتيهما- فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به. فقال القاسم: لا تسأل عني ولا عنه؛ فو الله الذي لا إله إلا هو إنّ إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء؛ فإن كنت كاذبا فما ينبغي أن توليني، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي. فقال له إياس: إنك جئت برجل فوقفته على شفير «1» جهنم فنجّى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال له عدي: أما إذ فهمتها فأنت لها. فاستقضاه. بين عدي وإياس في القراء : وقال عدي بن أرطاة لإياس بن معاوية: دلّني على قوم من القرّاء أولّهم. فقال له: القرّاء ضربان: فضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك. وضرب يعملون للدنيا. فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها؟ ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولّهم. أبو قلابة والقضاء : أيوب السّختياني، قال: طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب إلى الشام فأقام حينا ثم رجع. قال أيوب: فقلت له: لو أنك وليت القضاء وعدلت كان لك أجران. قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر فكم عسى أن يسبح. تولية عبد الملك الشعبي على قضاء البصرة : وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: دلّوني على رجل أستعمله. فقال له روح ابن زنباع: أدلك يا أمير المؤمنين على رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتكم، ليس بالملحف طلبا، ولا بالممعن هربا: عامر الشّعبي؛ فولاه قضاء البصرة. عمر بن عبد العزيز يسأل أبا مجلز عمّن يوليه خراسان : وسأل عمر بن عبد العزيز أبا مجلر «2» عن رجل يولّيه خراسان. فقال له: ما

عمر ورجل طلب عملا

تقول في فلان؟ قال: مصنوع له وليس بصاحبها. قال: ففلان؟ قال: سريع الغضب بعيد الرضا، يسأل الكثير ويمنع القليل، يحدس أخاه وينافس أباه ويحقر مولاه. قال: ففلان؟ قال: يكافىء الأكفاء ويعادي الأعداء ويفعل ما يشاء. قال: ما في واحد من هؤلاء خير. عمر ورجل طلب عملا : وأراد عمر بن الخطاب أن يستعمل رجلا، فبدر الرجل يطلب منه العمل فقال عمر: والله لقد أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه. وطلب رجل من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستعمله. فقال: «إنا لا نستعمل على عملنا من يريده» . وطلب العباس عم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النبي ولاية. فقال: «يا عم، نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها» . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لخالد بن الوليد: فرّ من الشرف يتبعك الشرف؛ واحرص على الموت توهب لك الحياة. وتقول النصارى: لا يختار للجثلقة «1» إلا زاهدا فيها غير طالب لها. توليه ابن هبيرة لإياس : وقال إياس بن معاوية: أرسل إليّ ابن هبيرة فأتيته، فساكتني فسكتّ، فلما أطلت قال: هيه. قلت: سل عما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: أتفرض الفرائض؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العرب شيئا؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العجم شيئا؟ قلت: أنا بها أعرف. قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي. قلت: إن فيّ خلالا «2» ثلاثا لا أصلح معها للعمل. قال: ما هي؟ قلت: أنا دميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عيّ «3» . قال: أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس

توليه ابن الخطاب للمغيرة مكان ابن أبي وقاص على الكوفة

بك. وأما العيّ فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدّة فإن السوط يقوّمك. [قم قد ولّيتك] قال: فولّاني وأعطاني مائة درهم، فهي أوّل مال تموّلته. وقال الأصمعي: ولي سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد وهشام. وأراد عمر بن عبد العزيز مكحولا على القضاء فأبى عليه. قال له: وما يمنعك قال مكحول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقضي بين الناس إلا ذو شرف في قومه، وأنا مولى» . توليه ابن الخطاب للمغيرة مكان ابن أبي وقاص على الكوفة : ولما قدم رجال الكوفة على عمر بن الخطاب يشكون سعد بن أبي وقّاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة، وإن وليت عليهم التقيّ ضعّفوه، وإن وليت عليهم القويّ فجّروه «1» ؟ فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن التقيّ الضعيف له تقواه وعليك ضعفه، والقويّ الفاجر لك قوّته وعليه فجوره. قال: صدقت، فأنت القويّ الفاجر فاخرج إليهم. فلم يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية، حتى مات المغيرة «2» . حسن السياسة وإقامة المملكة للحجاج يصف سيرته للوليد : كتب الوليد ن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته، فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيّد المطاع في قومه، ووليت المجرّب «3» الحازم في أمره، وقلّدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكل خصم من

لأردشير يوصي ابنه

نفسي قسما أعطيه حظّا من لطيف عنايتي ونظري؛ وصرفت السيف إلى النّطف «1» المسيء، والثواب إلى المحسن البريء؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب. لأردشير يوصي ابنه : وقال أردشير لابنه: يا بني، إنّ الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن صاحبه فالملك أسّ والعدل حارس، وما لم يكن أسّ فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع. يا بنيّ اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرّك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول «2» . للحكماء في واجب السلطان : وقالت الحكماء: مما يجب على السلطان العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضميره لإقامة أمر دينه؛ فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان. ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب الأمور مراتبها وإنزالها منازلها. وينبغي لمن كان سلطانا أن يقيم على نفسه حجة الرعية. ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان. وليكن حكمة على غيره بمثل حكمه على نفسه؛ فإنما يعرف حقوق الأشياء من عرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها. ولا يكون أحد سلطانا حتى يكون قبل ذلك رعيّة. وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلكم يترشح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب. لبعض الملوك يصف سياسه : ووصف بعض الملوك سياسته فقال: لم أهزل في وعد ولا وعيد، ولا أمر ولا نهي

لأعرابي في وصف أمير

ولا عاقبت للغضب. واستكفيت «1» ، وأثبت «2» على الغناء لا للهوى. وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت «3» ، وودّا لم تشبه جرأة. وعممت بالقوت، ومنعت الفضول. لأعرابي في وصف أمير : وذكر أعرابي أميرا فقال: كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه «4» ؛ فهو غائب عنهم شاهد معهم؛ فالمحسن راج والمسيء خائف. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين في غير ضعف، القويّ في غير عنف. بين الوليد بن عبد الملك وأبيه في السياسة : وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت، ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودّتها واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع «5» . لأرسطو طاليس يوصي الإسكندر : وكتب أرسطو طاليس إلى الإسكندر: أملك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإنّ طلبك ذلك منها بإحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك «6» . واعلم أنك إنما تملك الأبدان فاجمع لها القلوب بالمحبة؛ واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل؛ فاجهد ألّا تقول تسلم من أن تفعل. وقال أردشير لأصحابه: إني إنما أملك الأجساد لا النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.

لمعاوية في سياسته

وكان عمرو بن العاص يقول في معاوية: اتقوا أدم «1» قريش وابن كريمهما، من يضحك في الغضب، ولا ينام إلا على الرضى، ويتناول ما فوقه من تحته «2» . لمعاوية في سياسته : وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. لعمرو بن العاص في معاوية وسياسته : وقال عمرو بن العاص: رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفّين خرج في عدّة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب عسكره فجعل يلحظ ميمنته فيرى الخلل، فيبدر إليه من يسدّه. ثم يفعل ذلك بميسرته، فتغنيه اللحظة عن الإشارة. فدخله زهو مما رأى، فقال: يا بن العاص، كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحدا أوتي له من طاعة رعيّته ما أوتي لك من هؤلاء. فقال: أفتدري متى يفسد هذا وفي كم ينتقض جميعه؟ قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: أي والله وفي بعض يوم. قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطو على الهوى لا على الغناء: فسد جميع ما ترى. لابن عباس يوصي الحسن : وكتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه: أن شمّر للحرب «3» ، وجاهد عدوّك، واشتر من الظّنين «4» دينه بما لا يثلم «5»

للحكماء في السياسة

دينك، وولّ أهل البيوتات تستصلح به عشائرهم. للحكماء في السياسة : وقالت الحكماء: أسوس الناس لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها، وقلوبها بخواطرها. وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة. لأبرويز يوصي ابنه شيرويه : وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسّعن على جندك سعة يستغنون بها عنك ولا تضيّقنّ عليهم ضيقا يضجون به منك؛ ولكن أعطهم عطاء قصدا؛ وامنعهم منعا جميلا، وابسط لهم في الرجاء، ولا تبسط لهم في العطاء. بين المنصور وقواده : ونحو هذا قول المنصور لبعض قوّاده. صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك. فقال له أبو العباس الطّوسيّ: يا أمير المؤمنين، أما تخشى إن أجعته أن يلوّح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك. لأبرويز ينصح ابنه شيرويه : وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: اعلم أنّ كلمة منك تسفك دماء وأخرى تحقن دماء، وأنّ سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وأنّ نفاذ أمرك مع ظهور كلامك. فاحترس في غضبك من قولك أن يخطىء. ومن لونك أن يتغيّر، ومن جسدك أن يخفّ؛ فإن الملوك تعاقب حزما وتعفو حلما. واعلم أنك تجلّ عن الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدّر لسخطك من العقاب كما تقدر لرضاك من الثواب «1» .

من خطبة لسعيد ابن سويد

من خطبة لسعيد ابن سويد : وخطب سعيد بن سويد بمحص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنّ للإسلام حائطا منيعا، وبابا وثيقا. فحائط الإسلام الحق وبابه العدل، ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السلطان، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذ بالعدل. لابن الحكم في الحاقد على السلطان : وقال عبد الله بن الحكم إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم؛ فينبغي للسلطان أن يحترس منهما. لأبرويز يوصي ابنه شيرويه : وفي التاج: كتب أبرويز لابنه شيرويه يوصيه: ليكن من تختاره لولايتك امرءا كان في ضعة فرفعته، أو ذا شرف كان مهملا فاصطنعته. ولا تجعله امرءا أصبته بقعوبة فاتضع لها، ولا امرءا اطاعك بعد ما أذللته. ولا أحدا ممن يقع بقلبك أن إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته؛ وإياك أن تستعمله ضرعا غمرا «1» كثيرا اعجابه بنفسه، قليلا تجربته في غيره. ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السنّ من جسمه. بسط المعدلة وردّ المظالم إنصاف المأمون أمة من ابنه : الشّيباني قال: حدّثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد قال: إني لواقف على رأس المأمون يوما وقد جلس للمظالم، فكان آخر من

الحكم على هشام في خصومة بينه وبين إبراهيم بن محمد

تقدم إليه- وقد همّ بالقيام- امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة، فوقفت بين يديه فقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى ابن أكثم، فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك. فقالت: يا خير منتصف يهدى له الرّشد ... ويا إماما به قد أشرق البلد تشكو إليك عميد القوم أرملة ... عدّي عليها فلم يترك لها سبد «1» وابتزّ منّي ضياعي بعد منعتها ... ظلما وفرّق مني الأهل والولد «2» فأطرق المأمون حينا، ثم رفع رأسه إليها وهو يقول: في دون ما قلت زال الصّبر والجلد ... عني وأقرح منّي القلب والكبد «3» هذا أذان صلاة العصر فانصر في ... وأحضري الخصم في اليوم الّذي أعد والمجلس السّبت إن يقض الجلوس لنا ... ننصفك منه وإلّا المجلس الأحد قال: فلما كان يوم الأحد جلس، فكان أول من تقدّم إليه تلك المرأة، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام، أين الخصم؟ فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين. وأومأت إلى العباس ابنه. فقال: يا أحمد بن أبي خالد، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم. فجعل كلامها يعلو كلام العباس، فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك. فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها وأخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها «4» ويحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة. الحكم على هشام في خصومة بينه وبين إبراهيم بن محمد : العتبي قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم بن محمد ابن

الحجاج وسليك ابن سلكة

طلحة وصاحب حرس هشام، حتى قعدا بين يديه، فقال: إن أمير المؤمنين جرّاني «1» في خصومة بينه وبين إبراهيم. فقال القاضي: شاهديك على الجراية. قال أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل، وليس بيني وبينه إلا هذه السّترة؟ قال: بلى، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام الحرسيّ فدخل إلى هشام فأخبره، فلم نلبث أن قعقعت الأبواب «2» وخرج الحرسي فقال: هذا أمير المؤمنين. وخرج هشام، فلما نظر إليه القاضي قام، فأشار إليه وبسط له مصلى، فقعد عليه وإبراهيم بين يديه، وكنا حيث نسمع بعض كلامهم ويخفى عنّا بعضه. قال: فتكلما وأحضرا البيّنة. فقضى القاضي على هشام. فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق «3» ، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك. فقال له هشام: لقد هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك. قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القرابة واجب الحق. فقال هشام: استرها عليّ! قال: لا ستر الله عليّ إذا ذنبي يوم القيامة إن سترتها. قال: فإني معطيك عليها مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتها عليه حياته ثمنا لما أخذت منه، وأذعتها بعد مماته تزيينا له. الحجاج وسليك ابن سلكة : قال: وورد على الحجاج بن يوسف سليك بن سلكة «4» فقال: أصلح الله الأمير، أرعني سمعك «5» ، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك «6» ؛ فإن سمعت خطأ أو زلال دونك والعقوبة. قال: قل. فقال: عصى عاص من عرض العشيرة؛ فخلّق على اسمي «7» وهدم منزلي، وحرمت عطائي. قال: هيهات! أو ما سمعت قول الشاعر:

لعمر بن عبد العزيز يوصي عاملا

جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب ولربّ مأخوذ بذنب عشيره ... ونجا المقارف صاحب الذّنب قال: أصلح الله الأمير، إني سمعت الله عز وجل قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ «1» . فقال الحجاج: عليّ بيزيد بن أبي مسلم. فمثل بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر. وقال معاوية: إني لأستحي أن أظلم من لا يجد عليّ ناصرا إلا الله. لعمر بن عبد العزيز يوصي عاملا : وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته. فكتب إليه: حصّنها بالعدل ونقّ طرقها من الظلم. للمهدي يوصي ابن أبي الجهم : وقال المهدي للربيع بن أبي الجهم- وهو والي أرض فارس: يا ربيع، آثر الحق، والزم القصد، وابسط العدل، وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه «2» ، وأجورهم من ظلم الناس لغيره. بين ابن عامر وابن أصبغ : وقال ابن أبي الزناد: عن هشام بن عروة قال: استعمل ابن عامر عمرو بن أصبغ على الأهواز، فلما عزله قال له: ما جئت به؟ قال له ما معي إلا مائة درهم وأثواب.

صلاح الرعية بصلاح الإمام

قال: كيف ذلك؟ قال: أرسلتني إلى بلد أهله رجلان: رجل مسلم له ما لي وعليه ما عليّ، ورجل له ذمة الله ورسوله، فو الله ما دريت أين أضع يدي. قال: فأعطاه عشرين ألفا. وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الظلم «1» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» . صلاح الرعية بصلاح الإمام قال الحكماء: الناس تبع لإمامهم في الخير والشر. وقال أبو حازم الأعرج: الإمام سوق، فما نفق عنده جلب إليه. عمر بن الخطاب وتاج كسرى وسواريه : ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه. قال: إن الذي أدّى هذا لأمين. قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله، يؤذّون إليك ما أدّيت إلى الله تعالى، فإن رتعت رتعوا «2» . ومن أمثالهم في هذا قولهم: إذا صلحت العين صلحت سواقيها. الأصمعي قال: يقال: صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والفقهاء. بين مروان ووكيله : اطلع مروان بن الحكم على ضيعة له بالغوطة، فأنكر منها شيئا، فقال لوكيله: ويحك! إني لأظنك تخونني. قال: أتظن ذلك ولا تستيقنه. قال: وتفعله؟ قال: نعم والله، إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون الله؛ فلعن الله شر الثلاثة.

قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه

قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه للحكماء في الملك والوزراء : قالت الحكماء: لا ينفع الملك إلا بوزرائه وأعوانه ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودّة والنصيحة، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا مع الرأي والعفاف. ثم على الملوك بعد ألّا يتركوا محسنا ولا مسيئا مّا دون جزاء؛ فإنهم إذا تركوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وبطل العمل. للأحنف في فساد البطانة : وقال الأحنف بن قيس: من فسدت بطانته «1» كان كمن غصّ بالماء، ومن غص بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه «2» . وقال العباس بن الأحنف: قلبي إلى ما ضرّني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوّي بين أضلاعي وقال آخر: كنت من كربتي أفرّ إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار لعدي بن زيد : وأول من سبق إلى هذا المعنى عديّ بن زيد في قوله للنعمان بن المنذر: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «3» وقال آخر: إلى الماء يسعى من يغصّ بريقه ... فقل أين يسعى من يغصّ بماء

لابن العاص في العدل

لابن العاص في العدل : وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. وقالوا: إنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه. قالوا: ليس شيء أضر بالسلطان من صاحب يحسن القول ولا يحسن الفعل ولا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع حسن النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة. قالوا: إن السلطان إذا كان صالحا ووزراؤه وزراء سوء امتنع خيره من الناس ولم يستطع أحد أن ينتفع منه بمنفعة. وشبهوا ذلك بالماء الصافي يكون فيه التمساح، فلا يستطيع أحد أن يدخله وإن كان محتاجا إليه. صفة الإمام العادل كتاب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز في وصف الإمام العادل : كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل فكتب إليه الحسن رحمه الله: اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كلّ مائل «1» ، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف «2» . والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنّها من أذى الحرّ والقرّ «3» . والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالأب الحاني على

ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالأمام الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها ووضعته كرها، وربّته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصيّ اليتامى، وخازن المساكين، يربّي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالقلب بين الجوارح: تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملّكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيّده واستحفظه ماله وعياله، فبدّد المال، وشرّد العيال، فأفقر أهله وفرّق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتصّ لهم؟ واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه؛ فتزوّد له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحبّاؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا. فتزوّد له ما يصحبك يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ «1» . واذكر يا أمير المؤمنين إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ «2» فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «3» . فالآن يا أمير المؤمنين، وأنت في مهل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا

هيبة الإمام في تواضعه

تسلّط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلّا «1» ولا ذمّة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك. ولا يغرّنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك. ولا تنظرنّ إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله تعالى في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ «2» . إني يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النّهى من قبلي، فلم آلك «3» شفقة ونصحا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. هيبة الإمام في تواضعه لابن السماك : قال ابن السماء لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك! وقال عبد الملك بن مروان: أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوّة. النجاشي وقد ولد له ولد : ذكر عن النجاشي أمير الحبشة أنه أصبح يوما جالسا على الأرض والتاج على رأسه، فأعظم ذلك أساقفته؛ فقال لهم: إني وجدت فيما أنزل الله تعالى على المسيح عليه السلام، يقول له: إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع إليّ أتممتها عليه، وإني ولد لي الليلة غلام، فتواضعت لذلك شكرا لله تعالى.

لبعض الشعراء في التواضع

لبعض الشعراء في التواضع : وقال ابن قتيبة: لم يقل بيت أبدع من قول الشاعر لبعض خلفاء بني أمية: يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلّا حين يبتسم «1» وأحسن منه عندي قول الآخر: فتى زاده عزّ المهابة ذلّة ... فكلّ عزيز عنده متواضع وقال أبو العتاهية: يا من تشرّف بالدّنيا وزينتها ... ليس التّشرّف رفع الطّين بالطين «2» إذا أردت شريف النّاس كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين ذاك الّذي عظمت والله نعمته ... وذاك يصلح للدّنيا وللدّين وقال الحسن بن هانيء في هيبة السلطان مع محبة الرعية: إمام عليه هيبة ومحبة ... ألا بأبي ذاك الحبيب المحبّب وقال آخر في الهيبة وإن لم تكن في طريق السلطان: بنفسي من لو مرّ برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله ومن هابني في كلّ شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله ولابن هرمة في المنصور: له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل «3» كريم له وجهان وجه لدى الرضى ... أسيل ووجه في الكريهة باسل «4» فأم الذي آمنت آمنة الرّدي ... وأم الذي أو عدت بالثّكل ثاكل وليس بمعطي العفو من غير قدرة ... ويعفو إذا ما مكّنته المقاتل وقال آخر في الهيبة: أهاشم يا فتى دين ودنيا ... ومن هو في الّلباب من اللباب «5»

أهابك أن أبوح بذات نفسي ... وتركي للعتاب من العتاب وقال أشجع بن عمرو في هيبة السلطان: منعت مهابتك النّفوس حديثها ... بالشّيء تكرهه وإن لم تعلم ومن الولاة مفخّم لا يتّقى ... والسّيف تقطر شفرتاه من الدّم وقال أيضا لهرون الرشيد: وعلى عدوّك يا بن عمّ محمّد ... رصدان: ضوء الصّبح والإضلام فإذا تنبّه رعته، وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام «1» وقال الحسن بن هانيء في الهيبة فأفرط: ملك تصوّر في القلوب مثاله ... فكأنّه لم يخل منه مكان ما تنطوي عنه القلوب بفجرة ... إلّا يكلّمه بها الّلحظان «2» حتى الّذي في الرّحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان فمجاز هذا البيت في إفراطه أن الرجل إذا خاف شيئا أو أحبّه أحبه بسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه ودمه وجميع أعضائه، فالنّطف التي في الأصلاب داخلة في هذه الجملة. قال الشاعر: ألا ترثي لمكتئب ... يحبّك لحمه ودمه وقال المكفوف في آل محمد: أحبّكم حبّا على الله أجره ... تضمّنه الأحشاء واللحم والدم ومثل هذا قول الحسن بن هانيء: وأخفت أهل الشرك حتى إنّه ... لتخافك النّطف التي لم تخلق

شعر للمؤلف في الهيبة

فإذا خافه أهل الشرك خافته النطف التي في أصلابهم، على المجاز الذي ذكرناه. ومجاز آخر: أنّ النطف التي أخذ الله ميثاقها يجوز أن يضاف إليها ما هي لا بد فاعلة من قبل أن تفعله، كما جاء في الأثر: إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته فقال: هؤلاء أهل الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء أهل النار وبعمل أهل النار يعملون. شعر للمؤلف في الهيبة : وها أنا أقول في الهيبة: يا من يجرّد من بصيرته ... تحت الحوادث صارم العزم رعت العدوّ فما مثلت له ... إلا تفزّع منك في الحلم أضحى لك التّدبير مطّردا ... مثل اطّراد الفعل للإسم رفع الحسود إليك ناظره ... فرآك مطّلعا مع النّجم للأخطل في معاوية : أبو حاتم سهل بن محمد قال: أنشدني العتبي للأخطل في معاوية: تسمو العيون إلى إمام عادل ... معطى المهابة نافع ضرّار وترى عليه إذا العيون لمحنه ... سيما الحليم وهيبة الجبار حسن السيرة والرفق بالرعية مما جاء في الكتاب والسنة في معنى هذا العنوان : قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فيما أوصاه به من الرفق بالرعية: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «1» .

مشورة سالم وابن كعب على عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أعطي حظّه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير كله» . مشورة سالم وابن كعب على عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة : ولما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب. فقال لهما: أشيرا عليّ. فقال له سالم: اجعل الناس أبا وأخا وابنا، فبرّ أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك، واعلم أنك أول خليفة يموت. بين عمر بن عبد العزيز وابنه في الرفق : وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت، مالك لا تنفذ في الأمور، فو الله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. قال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة. من عمر إلى ابن أرطاة في الرفق : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة: أما بعد، فإن أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك، واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعية عندك. مما وصى المنصور به ابنه : وقال المنصور لولده عبد الله المهدي: لا تبرم «1» أمرا حتى تفكر فيه؛ فإن فكرة العاقل مرآته تريه حسناته وسيآته؛ واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا تصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.

وصية خالد القسري لبلال

وصية خالد القسري لبلال : وقال خالد بن عبد الله القسريّ لبلال بن أبي بردة: لا يحملنّك فضل المقدرة على شدّة السطوة، ولا تطلب من رعيّتك إلا ما تبذله لها؛ ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «1» . وقال أبو عبد الله كاتب المهديّ: ما أحوج ذا القدرة والسلطان إلى قرين «2» يحجزه، وحياء يكفّه، وعقل يعقله «3» ، وإلى تجربة طويلة، وعين حفيظة، وأعراق تسري إليه، وأخلاق تسهّل الأمور عليه؛ وإلى جليس شفيق، وصاحب رقيق، وإلى عين تبصر العواقب، وقلب يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم الكبر لم يسلم من فلتات اللسان، ولم يتعاظم ذنبا وإن عظم، ولا ثناء وإن سمح «4» . وكتب أردشير إلى رعيّته: من أردشير المؤيد ملك الملوك ووارث العظماء، إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين، والأساورة الذين هم حفظة البيضة «5» ، والكتّاب الذين هم زينة المملكة، وذوي الحرث الذين هم عماد البلاد: السلام عليكم، فإنا بمحمد الله إليكم سالمون؛ فقد وضعنا عن رعيّتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموضوعة عليها «6» ، ونحن مع ذلك كاتبون إليكم بوصية فاحفظوها: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو، ولا تحتكروا فيشملكم القحط؛ وتزوّجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب، ولا تعدّوا هذه الدنيا شيئا؛ فإنها لا تبقي على أحد، ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها. وصية مروان ابن الحكم لعبد العزيز ابنه حين ولاه مصر : ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على

من معاوية إلى زياد في رجل فر إليه

مصر، وقال له حين ودّعه: أرسل حكيما ولا توصه. أي بنيّ، انظر إلى عمّالك، فإن كان لهم عندك حقّ غدوة فلا تؤخرهم إلى عشية، وإن كان لهم عشية فلا تؤخرهم إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدّقوك في الحق. واستشر جلساءك وأهل العلم؛ فإن لم يستبن لك فاكتب إليّ يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى. وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب «1» ، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفىء الجمرة، فإن أول من جعل السجن كان حليما ذا أناة «2» . ثم انظر إلى ذوي الحسب والدين والمروءة فليكونوا أصحابك وجلساءك؛ ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم، على غير استرسال ولا انقباض، أقول هذا وأستخلف الله عليك. من معاوية إلى زياد في رجل فر إليه : قال أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مجالد عن الشعبي، قال: قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في شيء من السياسة إلا مرة واحدة، استعملت رجلا فكسر خراجه، فخشي أن أعاقبه ففرّ إليه واستجار به فأمنه؛ فكتبت إليه: إن هذا أدب سوّأ من قبلي. فكتب إليّ: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلن جميعا فتمرح الناس في المعصية، ولا نستبد جميعا فنحمل الناس على المهالك. ولكن تكون أنت للشدة والغلظة وأكون أنا للرأفة والرحمة. ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جدّه هزله: وغلب رأيه هواه، وجعل له الفكر صاحبا يحسّن له العواقب، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن سخطه ولا غضبه عن كيده.

وصية عبد الملك لولي عهده الوليد

وصية عبد الملك لولي عهده الوليد : وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد وكان ولي عهده: يا بنيّ، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه إلا حرفان: حزم وتوان. لبعضهم في اليسير من الزلل : وقالوا: ينبغي للعاقل ألّا يستصغر شيئا من الخطأ والزلل، فانه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع في الكبير؛ فقد رأينا الملك يؤتى من العدوّ المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الدواء اليسير، ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار. في الذم يكون من الرعية : وقالوا: لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لأحد ثلاثة: كريم قصّر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغنا، أو لئيم بلغ به ما لا يستحق فأورثه ذلك بطرا «1» ، أو رجل منع حظّه من الإنصاف فشكا تفريطا. من كلام للهند في الملوك : وفي كتاب الهند: خير الملوك من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيف حولها النسور. وقيل لملك سلب ملكه: ما الذي سلبك ملكك؟ قال: دفع شغل اليوم إلى غد، والتماس عدّة بتضييع عدد، واستكفاء كلّ مخدوع عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ قدرا لا يستحقه، وأثيب ثوابا لا يستوجبه. لابن أبي طالب في الفرص : وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمرّ مرّ السحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين.

شي عن عمر ولعائشة فيه

شي عن عمر ولعائشة فيه : وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحزم الخلفاء، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر تقول: كان والله أحوزيّا «1» نسيج وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها «2» . وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحدا هو أحزم من عمر: كان والله له فضل يمنعه أن يخدع، وعقل يمنعه أن يخدع. وقال عمر: لست بخبّ والخبّ لا يخدعني «3» . عمر وعامل البحرين : ومر عمر ببنيان يبنى، بآجرّ وجصّ، فقال: لمن هذا؟ قيل: لعاملك على البحرين. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها «4» ، فأرسل إليه فشاطره ماله. عمرو ابن أبي وقاص : وكان سعد بن وقاص يقال له المستجاب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا دعوة سعد» . فلما شاطره عمر ماله، قال له سعد: لقد هممت. قال له عمر: بأن تدعو عليّ. قال: نعم. قال إذا لا تجدني بدعاء ربي شقيا. ابن أبي وقاص وشاعر هجاه : وهجا رجل من الشعراء سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، فقال: ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وسعد بباب القادسيّة معصم «5» فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهنّ أيّم «6» فقال سعد: اللهم اكفني يده ولسانه. فقطعت يده وبكم لسانه.

عمرو أبو موسى الأشعري وأبو هريرة والحارث

عمرو أبو موسى الأشعري وأبو هريرة والحارث : ولما عزل عمر أبا موسى الأشعريّ عن البصرة وشاطره ماله وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله، وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله، دعا أبا موسى فقال له: ما جاريتان بلغني أنهما عندك، إحداهما تدعى عقيلة والأخرى من بنات الملوك؟ قال: أما عقيلة فجارية بيني وبين الناس، وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء. قال: فما جفنتان تعملان عندك؟ قال: رزقي شاة في كل يوم، فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية. قال: فما مكيالان بلغني أنهما عندك؟ قال: أمّا أحدهما فأوفّي أهلي به وديني، وأمّا الآخر فيتعامل الناس به. قال: ادفع لنا عقيلة، والله إنك لمؤمن لا تغلّ أو فاجر مبلّ «1» ؛ ارجع إلى عملك عاقصا بقرنك مكتسعا بذنبك «2» ؛ والله إن بلغني عنك أمر لم أعدك. ثم دعا أبا هريرة فقال له: هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار؟ قال: كانت لنا أفراس تناتجت. وعطايا تلاحقت. قال قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأدّه. قال: ليس لك ذلك. قال: بلى والله وأوجع ظهرك! ثم قام إليه بالدّرّة فضربه حتى أدماه، ثم قال: إيت بها. قال: احتسبتها عند الله. قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا، أجئت من أقصى حجر بالبحرين يجبي «3» الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم أبي هريرة. وفي حديث أبي هريرة قال: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدوّ الله وعدوّ كتابه، سرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا عدوّ الله ولا عدوّ كتابه، ولكني عدوّ من عاداهما، وما سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشر آلاف؟ قلت:

بين عمر بن الخطاب وابن العاص

خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني، فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت لا. قال: قد عمل من هو خير منك يوسف صلوات الله عليه. قلت: يوسف نبيّ وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي، ويضرب ظهري، وينزع مالي. قال: ثم دعا عمر الحارث بن وهب، فقال: ما قلاص وأعبد بعتها بمائتي دينار؟ قال: خرجت بنفقة معي فتجرت فيها. فقال: أما والله ما بعثناكم لتتّجروا في أموال المسلمين، أدّها. فقال: أما والله لا عملت عملا بعدها! قال: انتظر حتى أستعملك! بين عمر بن الخطاب وابن العاص : وكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص. وكان عامله على مصر: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد. فإنه بلغني أنه فشت لك فاشية «1» من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك. فاكتب إليّ من أين أصل هذا المال ولا تكتمه. فكتب إليه: من عمرو بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك لا مال لي. وإني أعلم أمير المؤمنين أني بأرض السّعر فيه رخيص، وأني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة. والله لو رأيت خيانتك حلالا ما خنتك؛ فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحسابا هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها. ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له [وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني] «2» فأنّى كان ذلك ولم يفتح قفلك ولم نشركك في عملك؟

وأبو سفيان في مال وأدهم

فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر ونسقك الكلام في غير مرجع، وما يغني عنك أن تزكّي نفسك. وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك؛ فإنكم أيها الرّهط الأمراء جلستم على عيران المال، لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهّدون لأنفسكم. أما إنكم تجمعون العار وتورّثون النار. والسلام. فلما قدم عليه محمد بن مسلمة صنع له عمرو طعاما كثيرا. فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئا. فقال له عمرو: أتحرّمون طعامنا؟ فقال: لو قدّمت إليّ طعام الضيف أكلته، ولكنك قدّمت إليّ طعاما هو تقدمة شر. والله لا أشرب عندك ماء. فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه. فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك الأخرى! فغضب عمرو بن العاص فقال: يا محمد بن مسلمة، قبح الله زمانا عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها، وما منهما إلا في نمرة «1» لا تبلغ رسغيه؛ والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزوّرا «2» بالذهب. قال له محمد: اسكت، والله إن عمر لخير منك، وأما أبوك وأبوه ففي النار، والله لولا الزمان الذي سبقك به لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها «3» ويسوءك بكؤها «4» . فقال عمرو: هي عندك بأمانة الله. فلم يخبر بها عمر. وأبو سفيان في مال وأدهم : ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه قال: بعث معاوية إلى عمر بن الخطاب وهو على الشام بمال وأدهم، وكتب إلى أبيه أبي سفيان أن يدفع ذلك إلى عمر- يعني بالأدهم القيد- وكتب إلى عمر يقول: إني وجدت في حصون الروم جماعة من أسارى

عمر وأبو سفيان في مال حاول إخفاءه

المسلمين مقيدين بقيود حديد- أنفذت منها هذا ليراه أمير المؤمنين- وكانت العرب قبل ذلك تقيد بالقيد. قال جرير: ... أو لجدل الأداهم «1» . فخرج الرسول حتى قدم على أبي سفيان بالمال والأدهم. قال: فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إلى عمر واحتبس المال لنفسه. فلما قرأ عمر الكتاب، قال: فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كان علينا دين ومعونة، ولنا في بيت المال حق، فإذا أخرجت لنا شيئا قاصصتنا به. فقال عمر: اطرحوه في الأدهم حتى يأتي بالمال. قال: فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال. فأمر عمر بإطلاقه من الأدهم. قال: فلما قدم الرسول على معاوية قال له: رأيت أمير المؤمنين أعجب بالأدهم؟ قال: نعم، وطرح فيه أباك. قال: ولم؟ قال: جاءه بالأدهم وحبس المال؛ قال: إي والله، والخطّاب لو كان لطرحه فيه! عمر وأبو سفيان في مال حاول إخفاءه : زار أبو سفيان معاوية بالشام، فلما رجع من عنده دخل على عمر فقال: أجزنا أبا سفيان. قال: ما أصبنا شيئا فنجيزك به. فأخذ عمر خاتمة فبعث به إلى هند، وقال للرسول: قال لها: يقول لك أبو سفيان: انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما. فما لبث عمر أن أتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم، فطرحهما عمر في بيت المال. فلما ولي عثمان ردّهما عليه. فقال أبو سفيان: ما كنت لآخذ مالا عابه عليّ عمر. عمر وعتبة في مال وجده معه : ولما ولّى عمر بن الخطاب عتبة بن أبي سفيان الطائف وصدقاتها ثم عزله، تلقّاه في بعض الطريق، فوجد معه ثلاثين ألفا، فقال: أنى لك هذا؟ قال: والله ما هو لك

عمر وأبو سفيان في رجل دعا بدعاء الجاهلية

ولا للمسلمين، ولكنه مال خرجت به لضيعة أشتريها. فقال عمر: عاملنا وجدنا معه مالا، ما سبيله إلا بيت المال. ورفعه؛ فلما ولي عثمان قال لعتبة: هل لك في هذا المال، فإني لم أر لأخذ ابن الخطاب فيه وجها؟ قال: والله إن بنا إليه لحاجة، ولكن لا تردّ علي من قبلك فيردّ عليك من بعدك. عمر وأبو سفيان في رجل دعا بدعاء الجاهلية : القحذمي «1» قال: ضرب عمر رجلا بالدرّة، فنادى: يا لقصيّ! فقال أبو سفيان: يا بن أخي، لو قبل اليوم تنادي قصيّا لأتتك منها الغطاريف «2» . فقال له عمر: اسكت لا أبالك. قال أبو سفيان: ها، ووضع سبّابته على فيه. كتاب يزيد إلى مروان يأمره بالبيعة : خليفة بن خياط قال: كتب يزيد بن الوليد المعروف بالناقص- وإنما قيل له الناقص لفرط كماله- إلى مروان بن محمد- وبلغه عنه تلكؤ في بيعته-: أما بعد، فإني أراك تقدّم رجلا وتؤخر أخرى. فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فأتته بيعته. أبو غسان وأهل مرو حين منعوا المال : ولما منع أهل مرو أبا غسان الماء وزوجّته «3» إلى الصحارى، كتب إليهم أبو غسان: إلى بني الأستاه من أهل مرو؛ ليمسيني الماء أو لتصبّحنكم الخيل. فما أمسى حتى أتاه الماء. فقال: الصدق ينبيء عنك لا الوعيد. كتاب ابن طاهر إلى الحسن التغلبي : وكتب عبد الله بن طاهر الخراسانيّ إلى الحسن بن عمر التغلبيّ: أما بعد، فقد بلغني ما كان من قطع الفسقة الطريق ما بلغ، فلا الطريق تحمي، ولا اللصوص

كتاب الحجاج إلى قتيبة في أمر وكيع

تكفي، ولا الرعية ترضي، وتطمع بعد هذا في الزيادة! إنك لمفسح الأمل. وايم الله لتكفيني من قبلك أو لأوجّهن إليك رجالا لا تعرف مرّة من جهم ولا عديّ من رهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كتاب الحجاج إلى قتيبة في أمر وكيع : وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم واليه بخراسان: أما بعد، فإن وكيع ابن حسان كان بالبصرة منه ما كان، ثم صار لصا بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابي هذا: فاهدم بناءه، واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله. وولى الضّبيّ عمّ مسعود بن الخطاب. كتاب الحجاج إلى قوم يفسدون في الأرض : وبلغ الحجاج أن قوما من الأعراب يفسدون الطريق، فكتب إليهم: أما بعد، فإنكم قد استخفّتكم الفتنة، فلا عن حق تقاتلون. ولا عن منكر تنهون، وإني أهم أن ترد عليكم مني خيل تنسف الطارف والتالد «1» ، وتدع النساء أيامى والأبناء يتامى والديار خرابا! فلما أتاهم كتابه كفّوا عن الطريق. التعرّض للسلطان والردّ عليه قالت الحكماء: من تعرّض للسلطان أراده، ومن تطامن «2» له تخطاه. وشبهوه في ذلك بالريح العاصفة التي لا تضر بما لان لها من الشجر ومال معها من الحشيش. وما استهدف لها من الدوح العظام قصفته. قال الشاعر: إنّ الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرّتم «3» وقال حبيب بن أوس، وهو أحسن ما قيل في السلطان:

بين معاوية وأبي الجهم

هو السّيل إن واجهته انقدت طوعه ... وتقتاده من جانبيه فيتبع وقال آخر: هو السّيف إن لا ينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان بين معاوية وأبي الجهم : وقال معاوية لأبي الجهم العدويّ: أنا أكبر أم أنت؟ فقال: لقد أكلت في عرس أمّك يا أمير المؤمنين. قال: عند أيّ أزواجها؟ قال: عند حفص بن المغيرة. قال: يا أبا الجهم، إيّاك والسلطان، فإنه يغضب غضب الصبيّ ويأخذ أخذ الأسد. وأبو الجهم هو القائل في معاوية: ونغضبه لنخبر حالته ... فنخبر منهما كرما ولينا نميل على جوانبه كأنّا ... نميل إذا نميل على أبينا معاوية وعقيبة الأسدي : وقدم عقيبة الأسدي على معاوية ودفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات: معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد «1» أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد أتطمع بالخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود فهبنا أمة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد فدعا به معاوية فقال: ما جرّأك عليّ؟ قال: نصحتك إذا غشوك؛ وصدقتك إذ كذبوك. فقال: ما أظنك إلا صادقا، وقضى حوائجه. ومن حديث زياد عن مالك بن أنس قال: خطب أبو جعفر المنصور، فحمد الله وأنثى عليه ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله. فقال إليه رجل من عرض الناس فقال:

الرشيد ومعترض عليه في خطبته

أذكرك الله الذي ذكّرتنا به يا أمير المؤمنين. فأجابه أبو جعفر بلا فكرة ولا رويّة: سمعا وطاعة لمن ذكّر بالله، وأعوذ بالله أن اذكّر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم ل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ «1» . وأما أنت، فو الله ما الله أردت بها، ولكن ليقال: قال فعوقب فصبر! وأهون بها لو كانت، وأنا أحذّركم أيها الناس أختها؛ فإن الموعظة علينا نزلت، ومنا أخذت. ثم رجع إلى موضعه من الخطبة. الرشيد ومعترض عليه في خطبته : وقام رجل إلى هارون الرشيد وهو يخطب بمكة، فقال: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «2» فأمر به فضرب مائة سوط، فكان يئنّ الليل كله ويقول: الموت! الموت. فأخبر هارون أنه رجل صالح، فأرسل إليه فاستحلّه، فأحلّه. الوليد ومعترض عليه في خطبته : المدائني قال: جلس الوليد بن عبد الملك على المنبر يوم الجمعة حتى اصفرّت الشمس، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن الوقت لا ينتظرك، وإنّ الرب لا يعذرك. قال: صدقت، ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك. من ها هنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه؟ مخاطر بين معاوية وزياد : الرياشيّ عن الأصمعي قال: خاطر رجل رجلا أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمّك هند! ففعل ذلك. فلما انفتل معاوية عن صلاته قال: يا بن أخي، إن أبا سفيان كان إلى ذلك منها أميل؛ فخذ ما جعلوا لك. فأخذه.

بين معاوية وخريم

ثم خاطر أيضا أن يقوم إلى زياد وهو في الخطبة فيقول له: أيها الأمير، من أبوك؟ ففعل. فقال له زياد: هذا يخبرك- وأشار إلى صاحب الشّرطة- فقدّمه فضرب عنقه. فلما بلغ ذلك معاوية قال: ما قتله غيري، ولو أدبته على الأولى ما عاد إلى الثانية. وخاطر رجل أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول: أيها الأمير، أمك؟ ففعل. فقال له: النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب فبيعت فبعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان للعاص بن وائل، فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه. بين معاوية وخريم : دخل خريم الناعم على معاوية بن أبي سفيان: فنظر معاوية إلى ساقيه فقال: أيّ ساقين! لو أنهما على جارية! فقال له خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين! قال: واحدة بأخرى والبادىء أظلم. تحلّم السلطان على أهل الدين والفضل إذا اجترءوا عليه أبو جعفر مع مالك وابن طاوس : زياد عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إليّ وإلى ابن طاوس؛ فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضّدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة «1» بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا. فأطرق عنا طويلا، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال له: حدّثني عن أبيك. قال: نعم، سمعت ابي يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أشد الناس عذابا

أبو هريرة ومروان حين أبطأ بالجمعة

يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله» . فأمسك ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا بن طاوس قال: نعم يا أمير المؤمنين، [إنّ] الله تعالي يقول أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1» قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، ثم قال: يا بن طاوس ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه؛ فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله. أبو هريرة ومروان حين أبطأ بالجمعة : أبو بكر بن أبي شيبة قال: قام أبو هريرة إلى مروان بن الحكم وقد أبطأ بالجمعة فقال له: أتظل عند ابنة فلان تروّحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحرّ؟ لقد هممت أن أفعل وأفعل، ثم قال: اسمعوا من أميركم. بين أبي جعفر وابن أبي ذئب : فرج بن سلام عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: حدّثني رجل من أهل المدينة كان ينزل بشقّ بني زريق، قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدّث قال: سمعت أبا جعفر بالمدينة وهو ينظر فيما بين رجل من قريش وأهل بيت من المهاجرين بالمدينة ليسوا من

المأمون والحارث بن مسكين

قريش؛ فقالوا لأبي جعفر: اجعل بيننا وبينه ابن أبي ذئب. فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال: أشرار من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد. وكان عامله على المدينة. قال: ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: يأخذ بالإحنة «1» ويقضي بالهوى. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشّر، قال: ما تقول فيّ؟ قال: أعفني. قال: لا بدّ أن تقول. قال: لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسويّة. قال: فتغير وجه أبي جعفر. فقال ابراهيم بن يحي بن محمد بن علي صاحب الموصل: طهّرني بدمه يا أمير المؤمنين. قال: اقعد يا بنيّ، فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور. قال: ثم تدارك ابن أبي ذئب الكلام فقال: يا أمير المؤمنين، دعنا مما نحن فيه؛ بلغني أنّ لك ابنا صالحا بالعراق، يعني المهدي قال: أما إنك قلت ذلك، إنه الصّوام القوّام البعيد ما بين الطرفين «2» قال: ثم قام ابن أبي ذئب فخرج، فقال أبو جعفر: أما والله ما هو بمستوثق العقل، ولقد قال بذات نفسه. قال الاصمعي: ابن أبي ذئب، من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم. المأمون والحارث بن مسكين : قال: ودخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد، وذكر قوله فلم يعجب المأمون. فقال: لقد تيّست فيها وتيّس مالك. قال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين من التّيسين أتيس؛ فتغيّر وجه المأمون. وقام الحارث بن مسكين فخرج وتندّم على ما كان من قوله، فلم يستقرّ في منزله حتى أتاه رسول المأمون، فأيقن بالشر ولبس ثياب أكفانه؛ ثم أقبل حتى دخل عليه، فقرّبه المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه فقال له: يا هذا، إن الله قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شرّ مني، فقال

المنصور وأبو سفيان الثوري

لنبيه موسى صلّى الله عليه وسلّم إذ أرسله إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «1» قال: يا أمير المؤمنين، أبوء «2» بالذنب، وأستغفر الرب. قال: عفا الله عنك، انصرف إذا شئت. المنصور وأبو سفيان الثوري : وأرسل أبو جعفر إلى سفيان الثّوريّ، فلما دخل عليه قال: عظني ابا عبد الله. قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟ فما وجد له المنصور جوابا. أبو النضر وعامل للخليفة : ودخل أبو النضر سالم مولي عمر بن عبد الله على عامل للخليفة، فقال له أبا النضر، إنّا تأتينا كتب من عند الخليفة فيها وفيها، ولا نجد بداّ من إنفاذها، فما ترى؟ قال له أبو النضر؛ قد أتاك كتاب من الله تعالى قبل كتاب الخليفة؛ فأيّهما اتبعت كنت من أهله. ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشّعبيّ. أنّ زيادا كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاريّ، وكان على الصائفة «3» : إن أمير المؤمنين معاوية كتب إليّ يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء، فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة [واقسم ما سوى ذلك] فكتب إليه: «إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين. والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقا «4» على عبد فاتقى الله لجعل له منها مخرجا» ثم نادى في الناس فقسّم فيهم ما اجتمع له من الفيء. ابن هبيرة والحسن البصري والشعبي : ومثله قول الحسن حين أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها، فإن أنفذنها

معاوية والأحنف في استخلاف يزيد

وافقت سخط الله، وإن لم أنفذها خشيت على دمي؟ فقال له الحسن: هذا عندك، الشعبيّ فقيه الحجاز. فسأله فرقّق له الشعبيّ وقال له: قارب وسدّد، فإنما أنت عبد مأمور، ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا بن هبيرة، إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا بن هبيرة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه، وما خالف كتاب الله فلا تنفذه؛ فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه. فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن وقال: هذا الشيخ صدقني وربّ الكعبة. وأمر للحسن بأربعة آلاف، وللشعبي بألفين؛ فقال الشعبي: رققنا فرقق لنا. فأما الحسن فأرسل إلى المساكين، فلما اجتمعوا فرّقها، وأما الشعبي فإنه قبلها وشكر عليها. معاوية والأحنف في استخلاف يزيد : ونظير هذا: قول الأحنف بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد. فسكت عنه، فقال: مالك لا تقول؟ فقال: إن صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله، فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله! فقال له: صدقت. كتاب أبي الدرداء إلى معاوية : وكتب أبو الدرداء إلى معاوية: أما بعد. فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس. كتاب عائشة إلى معاوية : وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: أما بعد فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده من الناس ذامّا له. والسلام.

هشام وناصح نصحه بأربع

هشام وناصح نصحه بأربع : أبو الحسن المدائني قال: خرج الزّهري يوما من عند هشام بأربع، قيل له: وما هن؟ قال: دخل رجل على هشام فقال: يا أمير المؤمين، احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك. فقال: هاتهن. فقال: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. قال: هذه واحدة فهات الثانية. قال لا يغرّنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا. قال: هات الثالثة. قال: واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب. قال: هات الرابعة. قال: واعلم أن الأمور بغتات فكن على حذر. قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم! فالتفت إلى المغيرة فقال له: هذا رجل فاستوص به خيرا. عبد الملك والحارث في ابن الزبير : وقال عبد الملك بن مروان للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: ما كان يقول الكذّاب في كذا وكذا؟ - يعني ابن الزبير-؛ فقال: ما كان كذابا. فقال له يحيى بن الحكم: من أمّك يا حار؟ قال: هي التي تعلم. قال له عبد الملك: اسكت فهي أنجب من أمّك. الوليد ابن عبد الملك والزهري : دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك، فقال له: ما حديث يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال يحدّثوننا أن الله إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبىّ خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟ قال بل نبيّ خليفة. قال: فإن الله يقول لنبيه داود: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ

بين ابن يسار وعبد الملك

بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ «1» فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبيّ خليفة؛ فما ظنك بخليفة غير نبيّ؟ قال: إن الناس ليغروننا عن ديننا. بين ابن يسار وعبد الملك : الأصمعي عن إسحاق بن يحيى عن عطاء بن يسار قال: قلت للوليد بن عبد الملك: قال عمر بن الخطاب: «وددت أني خرجت من هذا الأمر كفافا «2» لا عليّ ولا لي» . فقال: كذبت. فقلت: أو كذّبت! فما أفلّت منه إلا بجريعة الذّقن «3» . المشورة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ماندم من استشار، ولا شقي من استخار» . من كلام الله تعالى : وقد أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي، فقال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ؛ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ «4» . عثمان وثقيف لما همت بالارتداد : ولما همّت ثقيف بالارتداد بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم استشاروا عثمان بن أبي العاصي، وكان مطاعا فيهم؛ فقال لهم لا تكونوا آخر العرب إسلاما وأولهم ارتدادا؛ فنفعهم الله برأيه. لبعض الحكماء فيما ينفع ويضر : وسئل بعض الحكماء: أيّ الأمور أشدّ تأييدا للفتى وأيها أشد إضرارا به؟ فقال: أشدها تأييدا له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبّت.

بين حكيم وحكيم

وأشدها إضرارا به ثلاثة أشياء: الاستبداد، والتهاون، والعجلة. بين حكيم وحكيم : وأشار حكيم على حكيم برأي فقبله منه. فقال له: لقد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمرّه، وسهله بوعره، ويحرّك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره، وقد وعيت النصح وقبلته؛ إذ كان مصدره من عند من لا يشكّ في مودّته وصفاء غيبه ونصح جيبه. وما زلت بحمد الله إلى الخير طريقا واضحا، ومنارا بيّنا. للراسبي في الرأي الفطير : وكان عبد الله بن وهب الراسبيّ يقول: إياكم والرأي الفطير. «1» وكان يستعيذ بالله من الرأي الدّبريّ «2» الخمير. لعلي في رأي الشيخ : وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ أحسن من مشهد الغلام. لابن هبيرة يوصي ابنه : وأوصى ابن هبيرة ولده فقال: لا تكن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير. ولا تشيرنّ على مستبد [ولا على وغد ولا على مسكون ولا على لجوج، وخف الله في موافقة هوى المستشير] «3» ، فإن التماس موافقته لؤم، والاستماع منه خيانة.

لعامر بن الظرب

لعامر بن الظرب : وكان عامر بن الظرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأي يغبّ حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير. يريد الأناة في الرأي والتثبّت فيه. ومن أمثالهم في هذا قولهم: لا رأي لمن لا يطاع. للمهلب في الرأي : وكان المهلّب يقول: إن من البليّة أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره. لعبسّي في الحزم : العتبي قال: قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم؟ قال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره، فكأنّنا ألف حازم. قال الشاعر: الرأي كالليل مسودّ جوانبه ... والليل لا ينجلي إلّا بإصباح فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزود ضوء مصباح عبد الله بن عبد الأعلى بعد سخط الخليفة عليه : العتبي قال: أخبرني من رأى عبد الله بن عبد الأعلى وهو أول داخل على الخليفة وآخر خارج من عنده. قال: ثم رأيته وإنه ليتّقي كما يتّقي البعير الأجرب، فقال لي: يا أخا العراق، اتّهمنا القوم في سريرتنا، ولم يقبلوا منا علانيتنا، ومن ورائهم وورائنا حكم عدل. لسبيع في أهل اليمامة : ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل، قول سبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع

خالد بهم: يا بني حنيفة، بعدا لكم كما بعدت عاد وثمود. «1» أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأنّي أسمع جرسه وأبصر غيبه، ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة. وإنّي لمّا رأيتكم تتهمون النّصيح وتسفّهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم الله التوبة ولا أخذكم على غرّة، «2» ولقد أمهلكم حتى ملّ الواعظ ووهن الموعوظ، وكنتم كأنما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق، ومن نصيحتي الندامة؛ وأصبح في يدي من هلاككم البكاء، ومن ذلّكم الجزع. وأصبح ما فات غير مردود، وما بقي غير مأمون. وقال القطاميّ في هذا المعنى: ومعصية الشّفيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جرّ غاويهم سراعا تراهم يغمزون من استركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا «3» وكان يقال: لا تستشر معلما ولا حائكا ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء. وأنشد في المعلمين: وكيف يرجّى العقل والرأي عند من ... يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل وكان يقال: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها. وكان يقال: لا رأي لحاقن ولا حازق: وهو الذي ضغطه الخف. ولا الحاقب وهو الذي يجد رراّ في بطنه. وينشد في الرأي بعد فوته: وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

شعر للمؤلف

شعر للمؤلف : ومن قولنا في هذا المعنى: فلئن سمعت نصيحتي وعصّيتها ... ما كنت أول ناصح معصيّ وقال حبيب في بني تغلب عند إيقاع مالك بن طوق بهم: لم يألكم مالك صفحا ومغفرة ... لو كان ينفخ قين الحيّ في فحم «1» حفظ الأسرار قالت الحكماء: صدرك أوسع لسرك من صدر غيرك. وقالوا: سرّك من دمك. يعنون أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: ولا تفش سرّك إلّا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا وإنّي رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا «2» وقالت الحكماء: ما كنت كاتمه من عدوّك فلا تطلع عليه صديقك. وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سراّ فأفشاه فلمته؛ لأني كنت أضيق صدرا منه حين استودعته إياه حين أفشاه. وقال الشاعر: إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق لبعض الأعراب : قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر.

ملك من ملوك العجم استشار وزيريه

وقيل لآخر: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما قلبي له إلا قبر. وقال المأمون: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملوك، وإفشاء السر، والتعرّض للحرّم. وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسرّ إليّ حديثا، أفلا أحدثك به؟ قال لا، يا بني، إنه من كتم سره كان الخيار له، [ومن أفشاه كان الخيار عليه «1» ] فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا. ملك من ملوك العجم استشار وزيريه : وفي التاجر أنّ بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحد هما: لا ينبغي للملك أن يستشير منّا أحدا إلا خاليا به؛ فإنه أموت للسر، وأحزم للرأي، وأجدر بالسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض؛ «2» فإن إفشاء السرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاءه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة؛ لأن الواحد رهن بما أفشي إليه، والثاني مطلق عنه ذلك الرهن. والثالث علاوة فيه. فإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهره رغبة ورهبة، وإن كان عند اثنين دخلت على الملك الشبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض. فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئا بخيانة مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجة معه. لعمر بن ابي ربيعة في السر : ومن أحسن ما قالت الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة: فقالت وأرخت جانب الستر: إنما ... معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي فقلت لها: ما بي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي

الإذن

وقال أبو محجن الثقفي: لا تسألي الناس عن مالي وكثرته ... وسائلي الناس عن بأسي وعن خلقي قد أطعن الطّعنة النّجلاء عن عرض ... وأكتم السّرّ فيه ضربة العنق «1» وقال الحطيئة يهجو: أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدّثينا الإذن بين زياد وحاجبه : قال زياد لحاجبه عجلان: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأسنان، ثم على الآداب. قال: فمن تؤخّر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء. لسعيد بن عتبة في بعده عن الآذن : وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانبا؛ فقيل له: إنك لتتباعد من الآذن جهدك؛ قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب. ثم قال «2» : وإنّ مسيري في البلاد ومنزلي ... هو المنزل الأقصى إذا لم أقرّب ولست وإن أدنيت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبّب وقد عدّه قوم تجارة رابح ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي وقال آخر: رأيت أناسا يسرعون تبادرا ... إذا فتح البواب بابك إصبعا ونحن جلوس ساكنون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا «3»

بين معاوية وابن الأشعث في الدخول على الملوك

بين معاوية وابن الأشعث في الدخول على الملوك : ووقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف، ثم أذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله. فلما رآه معاوية غمّه ذلك وأحنقه، فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وإنا كما نلي أموركم نلي ادابكم، ولا يزيد متزيّد في خطوه إلا لنقص يجده من نفسه. وقال همام الرقاشي «1» : أبلغ أبا مسمع عنّي مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام قدّمت قبلي رجالا ما يكون لهم ... في الحقّ أن يلجوا الأبواب قدّامى لو عدّ قبر وقبر كنت أقربهم ... قربى وأبعدهم من منزل الذّام حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت ... بباب قصرك أدلوها بأقوام «2» لمعاوية في آذنه : قيل لمعاوية: إن آذنك يقدم معارفه في الإذن على وجوه الناس. قال: وما عليه؟ إنّ المعرفة لتنفع في الكلب العقور والجمل الصّئول «3» ؛ فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين؟ للحكماء في الوصول إلى المراد : وقالت الحكماء: لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ إلا وصل إلى حاجته. وقالت الحكماء: لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ إلا وصل إلى حاجته. وقالوا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.

بين رجل وروح

وقال الشاعر «1» : كم من فتى قصّرت في الرزق خطوته ... أصبته بسهام الرزق قد فلجا إنّ الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كلّ ما ارتتجا «2» لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا «3» بين رجل وروح : ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا في الشمس عند باب المنصور؛ فقال له: لقد طال وقوفك في الشمس. فقال: ذلك ليطول جلوسي في الظل. بين رجل والحسن بن عبد الحميد : ونظر آخر إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان، فقال: أمثلك يرضى بهذا! فقال: أهين لهن نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النّفس الذي لا يهينها من كلام للهند : وفي كتاب للهند: إن السلطان لا يقرّب الناس لقرب آبائهم ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينظر ما عند كل رجل منهم، فيقرّب البعيد لنفعه، ويبعد القريب لضرّه. وشبّهوا ذلك بالجرذ الذي هو في البيت مجاور، فمن أجل ضرّه نفي، والبازي الذي هو وحشيّ، فمن أجل نفعه اقتني. بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ومستأذن : استأذن رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان وقل له يقول: السلام عليكم، أأدخل» ؟

الحجاب

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الأولى إذن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة، إما أن يأذنوا وإما أن يرجع. الحجاب زياد وحاجبه : قال زياد لحاجبه: يا عجلان، إني وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح، لا تحجبه عني فلا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه، فشر ما جاء به، ولو كان خيرا، ما جاء به تلك الساعة؛ ورسول الثغر «1» فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة، فأدخله عليّ وإن كنت في لحافي، وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد. ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان وقد اشتغل ببعض مصالح المسلمين فحجبه؛ فقال له رجل وأراد أن يغريه: يا أبا سفيان ما كنت أرى أن تقف بباب مضريّ فيحجبك، فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني. أبو الدرداء بباب معاوية : استأذن أبو الدرداء على معاوية فحجبه؛ فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جانبه بابا مفتوحا، إن دعا أجيب وإن سأل أعطي. قال محمود الوراق: شاد الملوك قصورهم فتحصّنوا ... من كلّ طالب حاجة أو راغب غالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا في قبح وجه الحاجب «2»

بين سعيد بن مسلم وأبي هفان في الحجاب

فإذا تلطّف للدّخول عليهم ... راج تلقّوه بوعد كاذب فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضراعة طالبا من طالب بين سعيد بن مسلم وأبي هفان في الحجاب : سعيد بن مسلم، قال: كنت واليا بإرمينية، فغبر «1» أبو هفان أياما ببابي. فلما وصل إليّ مثل قائما بين السماطين وقال: والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سفّ التراب يقيم من أود «2» أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثارا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي. أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة. إنه والله لا يثنيني عنك إلا ما يصرفك عني، ولأن أكون مقلا مقرّبا أحبّ إليّ من أن أكون مكثرا مبعدا؛ والله ما نسأل عملا لا نضبطه، ولا مالا إلا ونحن أكثر منه؛ وهذا الأمر الذي قد صار إليك وفي يديك قد كان في يدي غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرا فخير إن شرا فشر. فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الجانب وتسهيل الحجاب، فإن حبّ عباد الله موصول بحب الله، وبغضهم موصول ببغضه، لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوجّ عن سبيله. بين أبي مسهر وابن عبد كان : أبو مسهر قال: أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان فحجبني، فكتبت إليه: إنّي أتيتك للتّسليم أمس فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب وقد علمت بأني لم أردّ ولا ... والله ما ردّ إلا العلم والأدب فأجابني ابن عبد كان، فقال: لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب «3» «ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنّ السماء ترجّي حين تحتجب»

ابن منصور ورجل من خاصته حجب عنه

ابن منصور ورجل من خاصته حجب عنه : وقف بباب محمد بن منصور رجل من خاصته فحجب عنه؛ فكتب إليه: على أي باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشميين فطلب الإذن، فقيل له: تكون لك عودة، فقال: لئن عدت بعد اليوم إنّي لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم متى يظفر الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم؟ ونظير هذا المعنى للعتابي حيث يقول: قد أتيناك للسّلام مرارا ... غير من منّا بذاك المزار فإذا أنت في استتارك بالّلي ... ل على مثل حالنا بالنهار أبو دلف ورجل حجب عنه : وقف رجل بباب أبي دلف، فقام به حينا لا يصل إليه، فتلطّف في رقعة وأوصلها إليه، وكتب فيها: إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم؟ فأجابه: إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تعلّل بالحجاب وأبواب الملوك محجّبات ... فلا تستعظمن حجّاب بابي وقال حبيب الطائي في الحّجاب: سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى، حتى يلين قليلا فما خاب من لم يأته متعمّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا ولا جعلت أرزاقنا بيد أمريء ... حمى بابه من أن ينال دخولا إذا لم نجد للإذن عندك موضعا ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا

وأنشد أبو بكر العطار: ما لك قد حلت عن وفائك واستبدلت يا عمرو شيمة كدره لستم ترجّون للحساب ولا ... يوم تكون السماء منفطره «1» قد كان وجهي لديك معرفة ... فاليوم أضحى بابا من النكره وقال غيره: أتيتك للتسليم؛ لا أنني امرؤ ... أردت بإتيانيك أسباب نائلك فألفيت بوابا ببابك مغرما ... بهدم الذي وطدته من فضائلك «2» وقد قال قوم: حاجب المرء عامل ... على عرضه؛ فاحذر خيانة عاملك وقال الحسن بن هانيء: أيها الراكب المغذّ إلى الفض ... ل ترفّق فدون فضل حجاب «3» ونعم هبك قد وصلت إلى الفض ... ل فهل في يديك إلا التراب! وقال آخر- وهو محمود البغدادي: حجابك من مهابته عسير ... وخيرك في اليدين غدا يسيرا خرجت كما دخلت إليك إلّا ... ترابا صار في خفّي كثيرا وقال العتابي: حجابك ليس يشبهه حجاب ... وخيرك دون مطلبه السّحاب ونومك نوم من ورد المنايا ... فليس له إلى الدنيا إياب وقال غيره: أنا بالباب واقف منذ أصبح ... ت على السّرج ممسكا بعناني وبعين البواب كلّ الذي بي ... ويراني كأنه لا يراني

بين أبي بشير وبعض كتاب العسكر

وقال غيره: إذا ما أتيناه في حاجة ... رفعنا الرقاع له بالقصب له حاجب دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب «1» بين أبي بشير وبعض كتاب العسكر : قال أبو بشير «2» : حجبني بعض كتاب العسكر، فكتبت إليه: إن من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب، وأنا أرفعك عن هذه المنزلة، وأرغب بك عن هذه الخليقة. وكل من قام في منزلك، عظم قدره أو صغر. وحاول حجاب الخليفة، أمكنه: فتأمّل هذه الحال وانظر إليها بعين الفهم ترها في أقبح صورة وأدنى منزلة. لابن عبد ربه: وقد قلت في ذلك: إذا كنت تأتي المرء تعظم حقّه ... ويجهل منك الحقّ فالهجر أوسع وفي النّاس أبدال وفي الهجر راحة ... وفي النّاس عمّن لا يواتيك مقنع وإنّ امرءا يرضى الهوان لنفسه ... حريّ بجدع الأنف والأنف أشنع «3» وقال آخر: يا أبا موسى وأنت فتى ... ماجد حلو ضرائبه «4» كن على منهاج معرفة ... إنّ وجه المرء حاجبه فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه

وأنشد حسين الجمل، وبكر إلى باب سليمان بن وهب فحجبه الحاجب وأدخل ابن سعوة وحمدويه: ولعمري لئن حجبنا عن الشّي ... خ فلا عن وجه هناك وجيه لا ولا عن طعامه التافه النّز ... ر الذي حوله لطام بنيه «1» بل حجبنا به عن الخسف والمس- خ وذاك التّبريق والتّمويه فجزى الله حاجبا لك فظّا ... كل خير عنّا إذا يجزيه إنّ ذبحي نذالة قد تأتّي ... من صباحي بقبح تلك الوجوه وقال أحمد بن محمد البغدادي في الحسن بن وهب الكاتب: ومستنب عن الحسن بن وهب ... وعمّا فيه من كرم وخير «2» أتاني كي أخبّره بعلمي ... فقلت له سقطت على خبير هو الرّجل المهذّب غير أنيّ ... أراه كثير إرخاء السّتور وأكثر ما يغنّيه فتاه ... حسين حين يخلو بالسّرور «ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور» «3» ومن قولنا في هذا المعنى: ما بال بابك محروسا ببوّاب ... يحميه من طارق يأتي ومنتاب «4» لا يحتجب وجهك الممقوت عن أحد ... فالمقت يحجبه من غير حجّاب «5» فاعزل عن الباب من قد ظلّ يحجبه ... فإنّ وجهك طلّسم على الباب «6» وقف حبيب الطائي بباب مالك بن طوق فحجب عنه؛ فكتب إليه يقول: قل لابن طوق رحى سعد إذا خبطت ... نوائب الدّهر أعلاها وأسفلها «7»

باب الوفاء والغدر

أصبحت حاتمها جودا، وأحنفها ... حلما، وكيّسها علما، ودغفلها «1» مالي أرى القبة البيضاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها أظنّها جنّة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها باب الوفاء والغدر بين مروان وعبد الحميد الكاتب : قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت إلى أن تصير مع عدّوي وتظهر الغدر بي؛ فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى حسن الظنّ بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلا لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد مماتي. فقال عبد الحميد: إن الذي أمرت به أنفع الأشياء لك وأقبحها بي، وما عندي غير الصبر معك حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك. وأنشأ يقول: أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره عبد الملك بعد قتله ابن سعيد : أبو الحسن المدائني قال: لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بعد ما صالحه وكتب له أمانا وأشهد شهودا. قال عبد الملك بن مروان لرجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر: ما رأيك في الذي كان مني؟ قال: أمر قد فات دركه «2» ! قال: لتقولنّ! قال حزم لو قتلته وحييت. قال: أو لست بحيّ؟ فقال: ليس بحيّ من أوقف نفسه موقفا لا يوثق له بعهد ولا بعقد. قال عبد الملك: كلام لو سبق سماعه فعلي لأمسكت.

أبو جعفر وابن هبيرة

أبو جعفر وابن هبيرة : المدائني قال: لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة واختلف فيه الشهود أربعين يوما «1» ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور، فقال: إن دولتكم هذه جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها وجنّبوهم مرارتها، لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلت منتظرا لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبينه، فنظر إلى وجهه وباسطه بالقول حتى اطمأنّ قلبه. فلما خرج قال أبو جعفر لأصحابه: عجبا من كل من يأمرني بقتل مثل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدرا. أبو جعفر وسلم في قتل أبي مسلم : وقال أبو جعفر لسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، قال: حسبك الله أبا أمية. قال أبو عمرو بن العلاء: كانت بنو سعد بن تميم أغدر العرب، وكانوا يسمون الغدر في الجاهلية كيسان، فقال فيهم الشاعر: إذا كنت في سعد وخالك منهم ... غريبا، فلا يغررك خالك من سعد إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد الولاية والعزل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة؛ فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» . لابن شعبة في حب الولاية وكراهيتها : وقال المغيرة بن شعبة: أحب الإمارة لثلاث وأهجرها لثلاث: أحبها لرفع

بين ابن شبرمة وأبيه في موكب طارق

الأولياء، ووضع الأعداء واستر خاص الأشياء. وأكرهها لروعة البريد، وموت العزل «1» ، وشماتة العدوّ. بين ابن شبرمة وأبيه في موكب طارق : وقال ولد ابن شبرمة القاضي: كنت جالسا مع أبي قبل أن يلي القضاء. فمرّ به طارق بن أبي زياد في موكب نبيل، وهو والي البصرة، فلما رآه أبي تنفس الصعداء وقال: أراها وإن كانت تحبّ كأنها ... سحائب صيف عن قريب تقشّع «2» ثم قال: اللهم لي ديني ولهم دنياهم: فلما ابتلى بالقضاء قلت له: يا أبت، أتذكر يوم طارق؟ قال: يا بنيّ، إنهم يجدون خلفا من أبيك، وإن أباك لا يجد خلفا منهم: إن أباك حط في أهوائهم، وأكل من حلوائهم! لابن الحسن في رجل غيرته الولاية : قيل لعبد الله بن الحسن: إنّ فلانا غيّرته الولاية. قال: من ولي ولاية يراها أكبر منه تغيّر لها، ومن ولي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها. بين عمر والمغيرة حين عزله : ولما عزل عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة. دعوة ابن عمر على زياد : وكتب زياد إلى معاوية: قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة- يعرّض له

بين ابن الخطاب وأبي هريرة

بالحجاز- فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم اكفنا شمال زياد: فخرجت في شماله قرحة فقتلته. بين ابن الخطاب وأبي هريرة : ولقي عمر بن الخطاب أبا هريرة، فقال له: ألا تعمل؟ قال: لا أريد العمل. قال: قد طلب العمل من هو خير منك يوسف عليه الصلاة والسلام، قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «1» . خالد القسري وتوليته بلالا : المدائني قال: كان بلال بن أبي بردة ملازما لباب خالد بن عبد الله القسريّ، فكان لا يركب خالد إلا رآه في موكبه، فبرم به «2» ، فقال الرجل من الشرط: إيت ذلك الرجل صاحب العمامة السوداء فقل له: يقول لك الأمير: مالزومك بابي وموكبي؟ لا أوّليك ولاية أبدا. فأتاه الرسول فأبلغه. فقال له بلال: هل أنت مبلغ عني الأمير كما بلغتني عنه؟ قال: نعم. قال: قل له: والله لئن وليتني لا عزلتني. فأبلغه ذلك. فقال خالد: ماله قاتله الله! إنه ليعد من نفسه بكفاية. فدعاه فولّاه. بين عمر وطالب عمل : وأراد عمر بن الخطاب أن يستعمل رجلا، فبادر الرجل فطلب منه العمل، فقال له عمر: والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه. بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والعباس : وطلب العباس عم النبي صلّى الله عليه وسلّم من النبي ولاية، فقال له: «يا عم، نفس تحييها، خير من ولاية لا تحصيها» .

بين النبي صلى الله عليه وسلم ورجل طلب عملا

بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجل طلب عملا : وطلب رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عملا، فقال له: «إنا لا نستعين على عملنا بمن يريده» . وتقول النصارى: لا نختار للجثلقة إلا زاهدا فيها غير طالب لها. لزياد في أغبط الناس عيشا : وقال زياد لأصحابه: من أغبط الناس عيشا؟ قالوا: الأمير وأصحابه! قال: كلا، إنّ لأعواد المنبر لهيبة، ولقرع لجام البريد لفزعة؛ ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يجري عليه كراؤها «1» ، وزوجة قد وافقته في كفاف من عيشه، لا يعرفنا ولا نعرفه؛ فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه. بين معاوية والمغيرة حين كبر : وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف أن يستبدل به: أما بعد، فقد كبرت سنّي، ورقّ عظمي، واقترب أجلي، وسفّهني سفهاء قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله موفّق. فكتب إليه معاوية: أمّا ما ذكرت من كبر سنّك، فأنت أكلت شبابك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان؛ وأما ما ذكرت من سفهاء قريش، فحلماؤها أحلّوك ذلك المحل؛ وأما ما ذكرت من العمل، ف «ضحّ رويدا يدرك الهيجا حمل» «2» وهذا مثل، وقع وقع تفسيره في كتاب الأمثال. فلما انتهى الكتاب إلى المغيرة كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له فخرج

باب من أحكام القضاة

وخرجنا معه، فلما دخل عليه قال له: يا مغيرة، كبرت سنك ورقّ عظمك ولم يبق منك شيء، ولا أراني إلا مستبدلا بك. قال المحدّث عنه: فانصرف إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه، فأخبرنا بما كان من أمره. قلنا له: فما تريد أن تصنع؟ قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ الأنفس ليغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه! فإني قد كنت دعوت أهل العراق إلى بيعة يزيد. فقال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك ورم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا نرّكض على النّجب «1» ، فالتفت فقال: والله لقد وضعت رجله في ركاب طويل ألقى عليه أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. باب من أحكام القضاة قال عمر بن عبد العزيز: إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل: علم بما كان قبله، ونزاهة عن الطمع، وحلم عن الخصم، واقتداء بالأئمة، ومشاورة أهل العلم والرأي. وقال عمر بن عبد العزيز: إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه؛ فلعله قد فقئت عيناه جميعا. كتاب عمر بن الخطاب إلى معاوية في القضاء : وكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية في القضاء كتابا يقول فيه: إذا تقدّم إليك الخصمان فعليك بالبيّنة العادلة أو اليمين القاطعة، وإدناء الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه؛ وتعاهد الغريب! فإنك إن لم تتعاهده سقط حقّه ورجع إلى أهله؛ وإنما ضيّع حقّه، من لم يرفق به: وآس بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يتبين لك فصل القضاء.

كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء

العتبي قال: تنازع إبراهيم بن المهديّ هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي دواد القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السّواد؛ فزرى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي أحمد بن أبي دواد، فأحفظه ذلك «1» ، فقال: يا إبراهيم، إذا نازعت أحدا في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتا، ولا أشرت إليه بيد، وليكن قصدك أمما، وطريقك نهجا، وريحك ساكنة؛ ووفّ مجالس الحكومة حقوقها مع التوقير والتعظيم والتوجيه إلى الواجب؛ فإن ذلك اشبه بك، وأشكل لمذهبك في محتدك «2» وعظم خطرك؛ ولا تعجل؛ فربّ عجلة تهب ريثا. والله يعصمك من الزلل، وخطل القول والعمل «3» ، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل، إن ربك حكيم عليم. قال إبراهيم: أصلحك الله، أمرت بسداد، وحضضت على رشاد. ولست بعائد إلى ما يثلم مروءتي عندك «4» ، ويسقطني من عينك، ويخرجني عن مقادر الواجب إلى الاعتذار؛ فها أنذار معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقرّ بذنبه، باخع «5» بجرمه وتلك عادة عندنا منك، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد وهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع! فليت ذلك يقوم بأرش «6» الجناية؛ ولن يتلف مال أفاد موعظة، وبالله التوفيق. كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء : وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، رواها ابن عيينة: أما بعد فإنّ القضاء فريضة محكمة، وسنة متّبعة؛ فافهم إذا أدلى إليك الخصم؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك ووجهك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك «7» ولا يخاف ضعيف من جورك. البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر

وله أيضا يوصيه

والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا. ولا يمنعك قضاء قضيت به بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه؛ فإن الحق قديم والرجوع إليه خير من التمادي على الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم. واعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أحبّها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق؛ واجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقه وإلا وجّهت عليه القضاء؛ فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر. والمسلمون عدول «1» بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حدّ، أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو قرابة أو نسب؛ فإنّ الله تولّى منكم السرائر، ودرأ «2» عنكم بالبينات والأيمان؛ ثم إياك والتأذّي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن بها الذخر، فإنه من تخلص نبته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره. وله أيضا يوصيه : وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد؛ فإنّ للناس نفرة عن سلطانهم؛ فاحذر أن تدركني وإيّاك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متّبعة، ودنيا مؤثرة. أقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعة من النهار وأخف الفسّاق واجعلهم يدا يدا ورجلا رجلا، وإذا كانت بين القبائل نائرة «3» فنادوا يا لفلان! فإنما تلك نجوى من الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا «4» إلى أمر الله وتكون دعواتهم إلى الله والإسلام واستدم النعمة بالشكر، والطاعة بالتألّف، والمقدرة بالعفو والنّصرة بالتواضع والمحبة للناس. وبلغني أن ضبّة تنادى: يا لضبّة. والله ما علمت أن ضبة ساق الله بها خيرا قط ولا صرف بها شرّا. فإذا جاءك كتابي

ابن الخطاب وابن العاص والغزو في البحر

هذا فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا، وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم: وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وباشر أمورهم، وافتح بابك لهم؛ فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملا وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها؛ فإيّاك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة: همّها في السّمن والسّمن حتفها. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من يشقى به الناس. والسلام. ابن الخطاب وابن العاص والغزو في البحر : أراد عمر بن الخطاب أن يغزو قوما في البحر، فكتب إليه عمرو بن العاص وهو عامله على مصر: يا أمير المؤمنين، إنّ البحر خلق عظيم، يركبه خلق صغير، دود على عود. فقال عمر: لا يسألني الله عن أحد أحمله فيه. للشعبي قال: كنت جالسا عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاء شديدا، فقلت: أصلحك الله، ما أراها إلا مظلومة. قال: وما علمك؟ قلت: لبكائها. قال: لا تفعل؛ فإن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون، وهم له ظالمون. الحسن ورجل رد إياس شهادته : وكان الحسن بن أبي الحسن، لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم إلا أن يجرّحه المشهود عليه؛ فأقبل إليه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنّ إياسا ردّ شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا وائلة، لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم: له مالنا وعليه ما علينا؟ فقال: يا أبا سعيد، إن الله يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ «1» وهذا لا يرضى.

من عدل شريح القاضي

من عدل شريح القاضي : ودخل الأشعث بن قيس على شريح القاضي في مجلس الحكومة، فقال: مرحبا وأهلا بشيخنا وسيدنا، وأجلسه معه. فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث. فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلّم صاحبك. قال بل أكلّمه من مجلسي. فقال له: لتقومنّ أو لآمرنّ من يقيمك. فقال له الأشعث: لشدّ ما ارتفعت؟ قال: فهل رأيت ذلك ضرّك؟ قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك. إياس ورده لشهادة ابن أبي سود وأقبل وكيع بن أبي سود صاحب خراسان ليشهد عند إياس بشهادة، فقال: مرحبا وأهلا بأبي مطرّف وأجلسه معه، ثم قال له ما جاء بك؟ قال لأشهد لفلان. فقال: مالك وللشهادة! إنما يشهد الموالي والتجار والسّوقة. قال صدقت، وانصرف من عنده فقيل له: خدعك، إنه لا يقبل شهادتك. قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب. عدي بن أرطاة وشريح : دخل عديّ بن أرطأة على شريح فقال: أين أنت أصلحك الله؟ قال: بينك وبين الجدار. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: نائي المحلّ سحيق الدار. قال: قد تزوجت عندكم. قال: بالرفاء والبنين. قال: وولد لي غلام. قال: ليهنك الفارس. قال: وأوردت أن أرحّلها. قال: الرجل أحقّ بأهله. قال: وشرطت لها دارها، قال: الشرط أملك. قال: فاحكم الآن بيننا. قال: قد فعلت. قال: على من قضيت؟ قال: على ابن أمك. قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك؛ يريد إقراره على نفسه.

شريح ورجل يخاصم في سنور

شريح ورجل يخاصم في سنور : سفيان الثوري قال: جاء رجل يخاصم إلى شريح في سنّور، قال: بيّنتك. قال: ما أجد بينة في سنور ولدت عندنا. قال شريح: فاذهبوا بها إلى أمها فأرسلوها، فإن استقرت واستمرت ودرّت فهي سنورك، وإن هي اقشعرت وازبأرّت «1» فليست بسنورك. سفيان الثوري قال: جاء رجل إلى شريح فقال: ما تقول في شاة تأكل الدّبى «2» ؟ فقال: لبن طيّب وعلّف مجّان. لشريح وقد سئل حكما : وقيل لشريح: أيهما أطيب الجوز ينق أو اللّازينق؟ قال: لست أحكم على غائب. الشعبي في الفصل بين رجل وامرأته : ودخل رجل على الشّعبي في مجلس القضاء ومعه امرأة، وهي من أجمل النساء فاختصما إليه؛ فأدلت المرأة بحجتها وقرّبت بينّتها. فقال للزوج: هل عندك من مدفع؟ فأنشأ يقول: فتن الشّعبيّ لمّا ... رفع الطّرف إليها فتنته بدلال ... وبخطّي حاجبيها قال للجلواز قرّبها ... وأحضر شاهديها «3» فقضى جورا على الخصم ... ولم يقض عليها قال الشعبي: فدخلت على عبد الملك بن مروان، فلما نظر إليّ تبسم وقال: فتن الشّعبيّ لما ... رفع الطّرف إليها

ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات؟ قلت: أوجعته ضربا يا أمير المؤمنين؛ بما انتهك من حرمتي في مجلس الحكومة وبما افتري به عليّ! قال: أحسنت. تم الجزء الثاني من كتاب اللؤلؤة في السلطان. ولله المنة يتلوه إن شاء الله تعالى «كتاب الفريدة في الحروب» وهو الجزء الثالث من قسمة خمسة وعشرين من قسمة للمؤلف والحمد لله أولا وآخرا. وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها

كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها فرش كتاب الحروب قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه : قد مضى قولنا في السلطان وتعظيمه وما على الرعية من لزوم طاعته وإدامة نصحيته، وما على السلطان من العدل في رعيته والرفق بأهل مملكته. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الحروب ومدار أمرها، وقود الجيوش وتدبيرها، وما على المدبّر لها من أعمال الخدمة، وانتهاز الفرصة، والتماس الغرّة، وإذكاء العيون، وإفشاء الطلائع، واجتناب المضايق، والتحفظ في البيات. هذا بعد معرفة أحكامها، وإحكام معرفته، وطول تجربته لها، ولمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش، وعلمه أن لا درع كالصبر، ولا حصن كاليقين. ثم نذكر كرم الإقدام ومحمود عاقبته، ولؤم الفرار ومذموم مغبّته، والله المعين. صفة الحروب الحرب: رحى، ثفالها «1» الصبر؛ وقطبها المكر، ومدارها الاجتهاد، وثقافها الأناة «2» ، وزمامها الحذر. ولكل شيء من هذه ثمرة: فثمرة المكر الظفر، وثمرة الصبر التأييد، وثمرة الاجتهاد التوفيق، وثمرة الأناة اليمن، وثمرة الحذر السلامة؛ ولكل

من حكمة لسليمان

مقام مقال، ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال «1» ، والرأي فيها أبلغ من القتال. قال عمر بن الخطاب لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب. قال: مرّة المّذاق، إذا كشفت عن ساق؛ من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف، ثم أنشأ يقول: الحرب أوّل ما تكون فتيّة ... تسهى بزينتها لكلّ جهول حتى إذا حميت وشبّ ضرامها ... عادت عجوزا غير ذات خليل «2» شمطاء جزّت رأسها وتنكّرت ... مكروهة للشّمّ والتقبيل «3» وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب. فقال: أوّلها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى. وقال الكميت: والناس في الحرب شتّى وهي مقبلة ... ويستوون إذا ما أدبر القبل كلّ بأمسيّها طبّ مولّية ... والعالمون بذي غدويّها قلل «4» وقال نصر بن سيار صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدأ أمرها: أرى خلل الرّماد وميض نار ... ويوشك أن يكون له ضرام فإنّ النّار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أولها الكلام من حكمة لسليمان : وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: الشر حلو أوله، مرّ آخره. للعرب : والعرب تقول: الحرب غشوم؛ لأنها تنال غير الجاني.

للنابغة الجعدي ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم

وقال حبيب «1» : والحرب تركب رأسها في مشهد ... عدل السّفيه به بألف حليم في ساعة لو أنّ لقمانا بها ... وهو الحيكم لكان غير حكيم وقال أكثم بن صيفيّ حكيم العرب: لا حلم لمن لا سفيه له. ونحو هذا هول الأحنف بن قيس: ما قلّ سفهاء قوم قطّ إلا ذلّوا. وقال: لأن يطيعني سفهاء قومي أحبّ إليّ من أن يطيعني حلماؤهم. وقال: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار. للنابغة الجعدي ودعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم : وقال النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا وأنشد هذا الشعر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما انتهى إلى هذا البيت. قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يفضض الله فاك. فعاش ثلاثين ومائة سنة لم تسقط له ثنيّة. وقال النابغة الذّبياني يصف الحرب: تبدو كواكبه والشمس طالعة ... لا النّور نور ولا الإظلام إظلام يريد بقوله: «تبدو كواكبه والشمس طالعة، شدة الهول والكرب، كما تقول العامة: أريته النجوم وسط النهار. قال الفرزدق: أريك نجوم الليل والشمس حيّة وقال طرفة بن العبد: وتريك النّجم يجري بالظّهر

لابن عبد ربه

وإليه ذهب جرير في قوله: والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يقول: إن الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل، لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس. لابن عبد ربه : ومن قولنا في صفة الحرب: ومغبرّ السماء إذا تجلّى ... يغادر أرضه كالأرجوان كأنّ نهاره ظلماء ليل ... كواكبه من السّمر اللّدان «1» سموت له سموّ النّقع فيه ... بكلّ مدلّق سلب السّنان «2» وكل مشطّب المتنين صاف ... كلون الملح منصلت يمان «3» وفي صفة المعترك: ومعترك تهزّ به المنايا ... ذكور الهند في أيدي ذكور «4» لوامع يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرف البصير وخافقة الذّوائب قد أنافت ... على حمراء ذات شبا طرير «5» يحوّم حولها عقبان موت ... تخطّفت القلوب من الصّدّور بيوم راح في سربال ليل ... فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو في قتام ... رنوّ البكر من بين السّتور «6» فكم قصّرت من عمر طويل ... به، وأطلت من عمر قصير

العمل في الحروب

العمل في الحروب قيل لأكثم بن صيفيّ: صف لنا العمل في الحرب. قال أقلّوا الخلاف على أمراتكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل؛ فتثبّتوا؛ فإن أحزم الفريقين الرّكين. وربّ عجلة تعقب ريثا. وادّرعوا الّليل فإنه أخفى للويل، وتحفّظوا من البيات. وقال شبيب الحروريّ: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع. وكان إذا أمسى يقول لأصحابه: أتاكم المدد. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل، وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور «1» ، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء. وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الحيات «2» . لابن أبي طالب في العواقب : وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب لم يشجع. وقال النعمان بن مقرّن لأصحابه عند لقاء العدوّ: إني هازّ لكم الراية، فليصلح كلّ رجل منكم من شأنه وليشدّ على نفسه وفرسه؛ ثم إني هازّها لكم الثانية. فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوّه ومكان فرصته؛ ثم إني هازّها لكم الثالثة وحامل، فاحملوا على اسم الله.

لعمر بن الخطاب في ابن مقرن

لعمر بن الخطاب في ابن مقرن : وللنعمان بن مقرّن هذا؛ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ تكاملت [الخيل] وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها: لأقلّدنّ أعنّتها رجلا يكون غدا لأول أسنّة يلقاها، فقلدها النعمان بن مقرن. لعلي في الفرصه : وقال علي رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمرّ مرّ السحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين. وقال بعض الحكماء: انتهز الفرصة فإنها خلسة: وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه؛ وإياك والعجز فإنه أذلّ مركب، والشفيع المهين فإنه أضعف وسيلة. لابن مسلم في ابن أبي سود وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك، فقيل له: ما يهمّك منهم؟ وجّه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيهم. فقال: لا، إن وكيعا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم. فيجد عدوّه غرّة منه «1» . لبعض الملوك في الحزم : وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو «2» عدن الريف وإعدادا العيون «3» على الرّصد، وإعطاء المبلّغين على الصدق، ومعاقبة المتوصّلين بالكذب، وألّا تخرج هاربا إلى قتال؛ ولا تضيّق أمانا على مستأمن، ولا تشدهنّك «4» الغنيمة عن المحاذرة.

للعجم في أشد الأمور تدريبا

للعجم في أشد الأمور تدريبا : وفي بعض كتب العجم: إن حكيما سئل عن أشد الأمور تدريبا للجنود وشحذا لها. فقال: تعوّد القتال، وكثرة الظّفر، وأن يكون لها موادّ من ورائها. بين معاوية وعمرو بن العاص : وقال عمرو بن العاص لمعاوية: والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان؟ فقال معاوية: شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... وإن لم تكن لي فرصة فجبان وقال الأحنف بن قيس: إن رأيت الشر يتركك إن تركته، فاتركه. قال هدبة العذري: ولا أتّمنى الشرّ والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب «1» ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب الصبر والإقدام في الحرب جمع الله تبارك وتعالى تدبير الحرب في آيتين من كتابه فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ «2» . للعرب في الشجاعة : وتقول العرب: الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبرا أكثر ممن يقتل مقبلا.

لأبي بكر يوصي خالدا

لأبي بكر يوصي خالدا : ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة. للعرب : والعرب تقول: الشجاع موقّى والجبان ملقّى. وقال أعرابي: الله مخلف ما أتلف الناس. والدهر متلف ما جمعوا، وكم من منية علّتها طلب الحياة، وحياة سببها التعرّض للموت. لخالد في الصبر : وكان خالد بن الوليد يسير في صفوف يذمّر «1» الناس ويقول: يا أهل الإسلام: إن الصبر عز، وإن الفشل عجز، وإن مع الصبر النصر. وكتب أنو شروان إلى مرازبته: عليكم بأهل السخاء والشجاعة؛ فإنهم أهل حسن الظنّ بالله. وقالت الحكماء: استقبال الموت خير من استدباره. وقال حسان بن ثابت: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما «2» وقال العلوي في هذا المعنى: محرّمة أكفال خيلي على القنا ... ودامية لبّاتها ونحورها حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندقّ منها في الصدور صدورها «3»

عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب

وكانوا يتمادحون بالموت قعصا «1» ويتهاجمون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه. وأول من قال ذلك النبيّ عليه الصلاة والسلام. عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب : وخطب عبد الله بن الزّبير الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه، فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا ولكن قعصا بأطراف الرماح وموتا تحت ظلال السيوف؛ وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفا منه. وقال السموأل بن عادياء: وما مات منّا سيّد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل «2» تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا ... وليس على غير السّيوف تسيل «3» وقال آخر: وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرّها فنذوقها وقال الشّنفري: فلا تدفنوني، إنّ دفني محرّم ... عليكم ولكن خامري أمّ عامر إذا حملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري هنا لك لا أبغي حياة تسرّني ... سجيس الّليالي مبسلا بالجزائر «4» قوله «خامري أم عامر» : هي الضبع. يعني: إذا قتلتموني فلا تدفنوني ولكن ألقوني إلى التي يقال لها: خامري أمّ عامر، وهي الضبع. وهذا اللفظ بعيد من المعنى.

لعلي بن أبي طالب

لعلي بن أبي طالب : وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- وقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشيّ في ازار ورداء؟ فقال: أبالموت تخوّفوني؟ فو الله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط عليّ. وقال لابنه الحسن عليهما السلام: لا تدعونّ أحدا إلى المبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: بقية السيف أنمى عددا، وأطيب ولدا. يريد أن السيف إذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونما ولدهم. ومما يستدل به على صدق قوله: ما عمل السيف في آل الزبير وآل أبي طالب وما أكثر من عددهم. وقال أبو دلف العجليّ: سيفي بليلي قبسي ... وفي نهاري أنسي «1» إنّي فتى عوّدني ... مهري ركوب الغلس يحمدني سيفني كما ... يحمد كرّي فرسي وقال محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان: لست لريحان ولا راح ... ولا على الجار بنفّاح «2» فإن أردت الآن لي موقفا ... فبين أسياف وأرماح ترى فتى تحت ظلال القنا ... يقبض أرواحا بأرواح وقال أشهب بن رميلة: أسود شرى لاقت أسود خفيّة ... تلاقوا على جرد بماء الأساود «3»

للمهلب في أعجب ما رأى في حرب الأزارقة

للمهلب في أعجب ما رأى في حرب الأزارقة : وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة؟ قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف فيقول: وسائلة بالغيب عنّي ولو درت ... مقارعتي الأبطال طال نحيبها إذا ما التقينا كنت أوّل فارس ... يجود بنفس أثقلتها ذنوبها ثم يحمل فلا يقوم له شيء إلا أقعده، فإذا كان من الغد عاد لمثل ذلك. بين هشام وأخيه مسلمة في الذعر : وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: يا أبا سعد، هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدوّ؟ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبّه على حيلة، ولم يغشني ذعر قطّ سلبني رأيي. قال هشام: صدقت هذه والله البسالة. وقيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق «1» ؟ قال: كنّا مائة لم نكثر فنتكل، ولم نقلّ فنذلّ. ما كان يتمثل به ابن المهلب : وكان يزيد بن المهلّب يتمثل كثيرا في الحرب بقول حصين بن الحمام: تأخّرت أستقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما وقالت الخنساء: نهين النّفّوس وبذل النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها وقيل لعبّاد بن الحصين، وكان من أشدّ أهل البصر: في أيّ عدّة كنت تريد أن تلقى عدوّك؟ قال: في أجل مستأخر. وكان مما يتمثل به معاوية رضي الله تعالى عنه يوم صفّين:

لابن أبي طالب في صفين

أبت لي شيمتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثّمن الرّبيح وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلّما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أوّ تستريحي «1» لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح ونظير هذا قول قطريّ بن الفجاءة: [اقول لها وقد طارت شعاعا] «2» ... من الأبطال ويحك لا تراعي فإنّك لو سألت حياة يوم ... سوى الأجل الذي لك لم تطاعي لابن أبي طالب في صفين : وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفّين حتى يقف بين الصفّين ويقول: أيّ يومي من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجى الحذر ومثله قول جرير: قل للجبان إذا تأخّر سرجه ... هل أنت من شرك المنيّة ناج «3» وهذا البيت في شعره الذي أوله: هاج الفراق لقلبك المهتاج ومدح فيه الحجاج، فلما أنشده: قل للجبان إذا تأخّر سرجه

عاصم بن الحدثان والفرزدق

قال له: جرّأت عليّ الناس يا بن اللّخناء! قال: والله ما ألقيت لها بالا أيها الأمير إلا وقتي هذا. عاصم بن الحدثان والفرزدق : وكان عاصم بن الحدثان عالما ذكيّا، وكان رأس الخوارج بالبصرة، وربما جاء الرسول منهم من الجزيرة يسأله عن الأمر يختصمون فيه، فمرّ به الفرزدق، فقال لابنه: أنشد أبا فراس، فأنشده: وهم إذا كسروا الجفون أكارم ... صبر وحين تحلّل الأزرار «1» يغشون حومات المنون وإنّها ... في الله عند نفوسهم لصغار يمشون بالخطّيّ لا يثنيهم ... والقوم إن ركبوا الرماح تجار «2» فقال له الفرزدق: ويحك! اكتم هذا لا يسمعه النساجون فيخرجوا علينا بحفوفهم «3» فقال أبوه: هو شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين. ونظير هذا مما يشجّع الجبان قول عنترة الفوارس: بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل «4» فأجبتها: إنّ المنيّة منهل ... لا بدّ أن أسقي بكأس المنهل فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أنّي امرؤ سأموت إن لم أقتل «5» ومن أحسن ما قالوه في الصبر، قول نهشل بن حريّ بن ضمرة النهشليّ: ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم تكن نار وقوف على جمر «6» صبرنا له حتى يبوخ، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصّبر «7»

وأحسن من هذا عندي قول حبيب: فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت إخمصك الحشر تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر وأحسن من هذا قوله: يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا وقوله في المعنى: قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم ... لم يحسبوا أنّ المنيّة تخلق انظر بحيث ترى السّيوف لوامعا ... أبدا وفوق رءوسهم تتألّق وقال الجحّاف بن حكيم: شهدن مع النبيّ مسوّمات ... حنينا وهي دامية الحوامي «1» ووقعة راهط شهدت وحلّت ... سنابكهنّ بالبلد الحرام تعرّض للطّعان إذا التقينا ... خدودا لا تعرّض للّطام أخذه من قولهم: ضربة بسيف في عزّ، خير من لطمة في ذلّ. ومن أحسن ما وصفت به رجال الحرب قول الشاعر «2» : رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان «3» تلاقوا رجالا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت في فنا الميدان إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة أرض أو لأيّ مكان ونظير هذا قول الآخر: قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه ربّ صواهل وقيان «4»

وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدّوا شعاع الشمس بالفرسان لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلّب العلّات بالعيدان «1» بل يسفرون وجوههم فترى لها ... عند السّؤال كأحسن الألوان ومن أحسن المحدّثين تشبيها في الحرب، مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد: تلقي المنيّة في أمثال عدّتها ... كالسّيل يقذف جلمودا بجلمود تجود بالنفس إذ ضنّ الجواد بها ... والجود بالنّفس أقصى غاية الجود وقوله أيضا: موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنّه أجل، يسعى إلى أمل «2» ينال بالرّفق ما تعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل وقال أبو العتاهية: كأنّك عند الكرّ في الحرب إنّما ... تفرّ عن السّلم الذي من ورائكا كأنّ المنايا ليس تجري لدى الوغى ... إذا التقت الأبطال إلّا برأيكا فما آفة الآجال غيرك في الوغى ... وما آفة الأموال غير حبائكا «3» وقال زيد الخيل: وقد علمت سلامة أنّ سيفي ... كريه كلّما دعيت نزال أحادثه بصقل كلّ يوم ... وأعجمه بهامات الرجال وقال أبو محلّم السعديّ: تقول وصكّت وجهها بيمينها ... أبعلي هذا بالرّحى المتقاعس «4»

فقلت لها لا تعجلي وتبيّني ... بلائي إذا التفّت عليّ الفوارس ألست أردّ القرن يركب ردعه ... وفيه سنان ذو غرارين نائس «1» إذا هاب أقوام تقحّمت غمرة ... يهاب حميّاه الألدّ المداعس «2» لعمر أبيك الخير إنّي لخادم ... لضيفي وإنّي إن ركبت لفارس وقال آخر يمدح المهلّب بالصبر: وإذا جددت فكلّ شيء نافع ... وإذا حددت فكلّ شيء ضائر «3» وإذا أتاك مهلّبيّ في الوغى ... في كفّه سيف فنعم الناصر ومن قولنا في القائد أبي العباس في الحرب: نفسي فداؤك والأبطال واقفة ... والموت يقسم في أرواحها النّقما شاركت صرف المنايا في نفوسهم ... حتى تحكّمت فيها مثل ما احتكما لو تستطيع العلا جاءتك خاضعة ... حتى تقبّل منك الكفّ والقدما ومن قولنا في وصف الحرب: سيوف يقيل الموت تحت ظباتها ... لها في الكلى طعم وبين الكلي شرب «4» إذا اصطفّت الرايات حمرا متونها ... ذوائبها تهفو فيهفو لها القلب ولم تنطق الأبطال إلّا بفعلها ... فألسنها عجم وأفعالها عرب إذا ما التقوا في مأزق وتعانقوا ... فلقياهم طعن وتعنيقهم ضرب ومن قولنا في رجال الحرب وأنّ الوغى قد أخذت منهم ومن أجسامهم فهي مثل السيوف في رقّتها وصلابتها: سيف تقلّد مثله ... عطف القضيت على القضيب

هذا تجزّ به الرّقا ... ب وذا تجرّ به الخطوب ومن قولنا أيضا: تراه في الوغى سيفا صقيلا ... يقلّب صفحتي سيف صقيل ومن قولنا أيضا: سيف عليه نجاد سيف مثله ... في حدّه للمفسدين صلاح ومن قولنا أيضا في الحرب وذكر القائد: مقيلك تحت أظلال العوالي ... وبيتك فوق صهوات الجياد تبختر في قميص من دلاص ... وترفل في رداء من نجاد «1» كأنّك للحروب رضيع ثدي ... غذتك بكلّ داهية نآد «2» فكم هذا التّمني للمنايا ... وكم هذا التّجلّد للجلاد لئن عرف الجهاد بكلّ عام ... فإنّك طول دهرك في جهاد وإنّك حين أبت بكلّ سعد ... كمثل الرّوح آب إلى الفؤاد رأينا السّيف مرتديا بسيف ... وعاينّا الجواد على الجواد وقد وصفنا الحرب بتشبيه عجيب لم يتقدّم عليه، ومعنى بديع لا نظير له، فمن ذلك قولنا: وجيش كظهر اليمّ تنفحه الصّبا ... يعبّ عبابا من قنا وقنابل «3» فتنزل أولاه وليس بنازل ... وترحل أخراه وليس براحل ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كئوس دماء من كلى ومفاصل يديرونها راحا من الرّوح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل «4»

وتسمعهم أمّ المنيّة وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل «1» ومن قولنا في هذا المعنى: سيف من الحتف تردّى به ... يوم الوغى سيف من الحزم مواصلا أعداءه عن قلى ... لا صلة القربى ولا الرّحم «2» وصل يحنّ الإلف من بغضه ... شوقا إلى الهجران والصّرم حتى إذا نادمهم سيفه ... بكلّ كأس مرّة الطّعم ترى حميّاها بها ماتهم ... تغور بين الجلد والعظم «3» على أهازيج ظبا بينها ... ما شئت من حذف ومن خرم «4» طاعوا له من بعد عصيانهم ... وطاعة الأعداء عن رغم وكم أعدّوا واستعدّوا له ... هيهات ليس الخضم كالقضم «5» ومن قولنا في شبهه: كم ألحم السّيف في أبناء ملحمة ... ما منهم فوق متن الأرض ديّار «6» وأورد النّار من أرواح مارقة ... كادت تميّز من غيظ لها النّار «7» كأنّما صال في ثنيي مفاضته ... مستأسد حنق الأحشاء هدّار «8» لما رأى الفتنة العمياء قد رحبت ... منها على النّاس آفاق وأقطار وأطبقت ظلم من فوقها ظلم ... ما يستضاء بها نور ولا نار قاد الجياد إلى الأعداء سارية ... قباّ طواها كطيّ العصب إضمار «9»

ملمومة تتبارى في ململمة ... كأنّها لاعتدال الخلق أفهار «1» تزورّ عند احتماس الطّعن أعينها ... وهنّ من فرجات النّقع نظاّر «2» تفوت بالثّأر أقواما وتدركه ... من آخرين إذ لم يدرك الثّار فانساب ناصر دين الله يقدمهمّ ... وحوله من جنود الله أنصار كتائب تتبارى حول رايته ... وجحفل كسواد الليل جرّار قوم لهم في مكرّ اللّيل غمغمة ... تحت العجاج وإقبال وإدبار «3» يستقبلون كراديسا مكردسة ... كما تدافع بالتّيّار تيّار «4» من كلّ أروع لا يرعى لهاجسة ... كأنّه مخدر في الخيل هصّار «5» في قسطل من عجاج الحرب مدّ له ... بين السماء وبين الأرض أستار فكم بساحتهم من شلو مطّرح ... كأنه فوق ظهر الأرض إجّار «6» كأنّما رأسه أفلاق حنظلة ... وساعداه إلى الزّندين جمّار «7» وكم على النّهر أوصالا مفرّقة ... تقّسمتها المنايا فهي أشطار قد فلّقت بصفيح الهند هامهم ... فهنّ بين حوامي الخيل أعشار» ومن قولنا في الحروب: وحومة عادرت فرسانها ... في مبرك للحرب جعجاع «9» مستلحم بالموت مستشعر ... مفرّق للشّمل جمّاع

وبلدة صحصحت منها الرّبا ... لفيلق كالسّيل دفّاع «1» كأنّما باضتّ نعام الفلا ... منهم بهام فوق أدراع تراهم عند احتماس الوغى ... كأنّهم جنّ بأجراع «2» بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدبّ النّمل في القاع يرتدّ طرف العين من حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع ومن قولنا في الحروب: وربّ ملتفّة العوالي ... يلتمع الموت في ذراها «3» إذا توطّت حزون أرض ... طحطحت الشّمّ من رباها «4» يقودها منه ليث غاب ... إذا رأى فرصة قضاها تمضي بآرائه سيوف ... يستبق الموت في ظباها «5» بيض تحلّ القلوب سودا ... إذا انتضى عزمه انتضاها «6» تتبعه الطّير في الأعادي ... تجني كلا العشب من كلاها «7» أقدم إذا كاع كلّ ليث ... عن حومة الموت إذا رآها «8» فأقحم الخيل في غمار ... تفغر بالموت لهوتاها «9» عنت له أوجه المنايا ... فعافها القوم واشتهاها

فرسان العرب في الجاهلية والإسلام

فرسان العرب في الجاهلية والإسلام ابن مكدم وقول حسان فيه : كان فارس العرب في الجاهلية ربيعة بن مكدّم. من بني فراس بن غنم بن مالك ابن كنانة، وكان يعقر على قبره في الجاهلية. ولم يعقر على قبر أحد غيره. وقال حسان بن ثابت وقد مرّ على قبره: نفرت قلوصي من حجارة حرّة ... بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنّه ... شرّيب خمر مسعر لحروب لولا السّفار وطول قفر مهمه ... لتركتها تحبو على عرقوب «1» فراس بن غنم وكلمة لعلي فيهم : وكان بنو فراس بن غنم بن كنانة أنجد العرب. كان الرجل منهم يعدل عشرة من غيرهم. وفيهم يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لأهل الكوفة: من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب، أبدلكم الله بي من هو شرّ لكم، وأبدلني بكم من هو خير منكم. وددت والله أنّ لي بجميعكم- وأنتم مائة ألف- ثلاثمائة من بني فراس بن غنم. ومن فرسان العرب في الجاهلية عنترة الفوارس، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، والأحيمر السعدي، وعامر بن الطّفيل، وعمرو بن عبد ودّ، وعمرو بن معد يكرب. وفي الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والزبير، وطلحة، ورجال الأنصار: عبد الله بن خازم السّلمي، وعباد بن الحصين، وعمير بن الحباب، وقطريّ بن الفجاءة، والحريش بن هلال السعدي، وشبيب الحروريّ.

للعرب في بعض فرسانهم

للعرب في بعض فرسانهم : وقالوا: ما استحيا شجاع قطّ أن يفرّ من عبد الله بن خازم وقطريّ بن الفجاءة، صاحب الأزارقة. وقالوا: ذهب حاتم بالسخاء، والأحنف بالحلم، وخريم بالنعمة، وعمير بن الحباب بالشدّة. ابن خازم مع ابن زياد في جرذ : وبينا عبد الله بن خازم عند عبيد الله بن زياد إذ دخل عليه بجرذ أبيض، فعجب منه عبيد الله، وقال: هل رأيت يا أبا صالح أعجب من هذا؟ ونظر إليه، فإذا عبد الله قد تضاءل حتى صار كأنه فرخ، واصفرّ كأنه جرادة ذكر فقال عبيد الله: أبو صالح يعصى الرحمن، ويتهاون بالسلطان، ويقبض على الثعبان، ويمشي إلى الليث، ويلقى الرماح بنحره، وقد اعتراه من جرذ ما ترون، أشهد أن الله على كل شيء قدير. وكان شبيب الحروريّ: يصيح في جنبات الجيش فلا يلوي أحد على أحد. وفيه يقول الشاعر: إنّ صاح يوما حسبت الصّخر منحدرا ... والريح عاصفة والموج يلتطم ولما قتل أمر الحجاج بشق صدره. فإذا له فؤاد مثل فؤاد الجمل. فكانوا إذا ضربوا به الأرض ينزو كما تنزو المثانة المنفوخة «1» . لابن عباس في الأنصار : ورجال الأنصار أشجع الناس؛ قال عبد الله بن عباس: ما استلّت السيوف، ولا زحفت الزحوف، ولا أقيمت الصفوف، حتى أسلم ابنا قيلة: يعني الأوس والخزرج، وهما الأنصار من بني عمرو بن عامر من الأزد.

أبو براء لما أسن

أبو براء لما أسن : العتبي: لما أسنّ أبو براء عامر بن مالك وضعّفه بنو أخيه وخرّفوه. ولم يكن له ولد يحميه، أنشأ يقول: دفعتكم عنيّ وما دفع راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل يضعّفني حلمي وكثرة جهلكم ... عليّ وأنّي لا أصول بجاهل «1» لعلي في همدان : وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ رأى همدان وغناءها في الحرب يوم صفين: ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنّى فتحة الباب «2» كالهندوانيّ لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجّاب «3» وقال ابن برّاقة الهمداني: كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... مراغمة ما دام للسيف قائم «4» متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما ... وأنفا حمياّ تجتنبك المظالم وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم وقال تأبط شرا: قليل التّشكّي للمهمّ يصيبه ... كثير النوى شتّ الهوى والمسالك يبيت بموماة ويضحى بغيرها ... جحيشا ويعروري ظور المهالك «5» إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل ... له كاليء من قلب شيحان فاتك «6»

بين ابن الزبير والأشتر

ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلّة من حدّ أخلق باتك «1» إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك وقال أبو سعيد المخزومي- وكان شجاعا: وما يريد بنو الأغبار من رجل ... بالجمر مكتحل بالنبل مشتمل «2» لا يشرب الماء إلّا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل «3» ونظير هذا قول بشّار العقيلي: فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم «4» بين ابن الزبير والأشتر : وقال عبد الله بن الزّبير: التقيت بالأشتر النخعي يوم الجمل، فما ضربته ضربة حتى ضربني خمسا أو ستا، ثم أخذ برجلي فألقاني في الخندق، وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما اجتمع منك عضو إلى آخر. جائزة عائشة لمن بشرها بنجاة ابن الزبير : وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة الذي بشّرها بحياة ابن الزّبير إذ التقى مع الأشتر عشرة آلاف. لمنعم في أخيه : وذكر متمّم بن نويرة أخاه مالكا وجلده، فقال: كان يخرج في الليلة الصّنّبر «5» ، عليه الشملة الفلوت، بين المزادتين على الجمل الثّفال «6» ، ومعتقل الرّمح الخطيّ. قالوا: وأبيك إن هذا لهو الجلد.

من عمر إلى ابن مقرن في الصائفة

من عمر إلى ابن مقرن في الصائفة : وكتب عمر بن الخطاب إلى النعمام بن مقرّن وهو على الصائفة: أن استعين في حربك بعمرو بن معد يكرب، وطليحة الأزري، ولا تولّهما من الأمر شيئا؛ فإن كل صانع أعلم بصناعته. وقال عمرو بن معد يكرب يصف صبره وجلده في الحرب: أعاذل عدّتي بزّي ورمحي ... وكلّ مقلّص سلس القياد «1» أعاذل إنما أفنى شبابي ... إجابتي الصّريخ إلى المنادي «2» مع الأبطال حتى سلّ جسمي ... وأقر عاتقي حمل النّجاد ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زاديّ ومن عجب عجبت له حديث ... بديع ليس من بدع السّداد تمنّى أن يلاقيني أبيّ ... وددت وأينما منّي ودادي تمنّاني وسابغتي قميصي ... كأنّ قتيرها حدق الجراد «3» وسيف لابن ذي كنعان عندي ... تخيّر نصله من عهد عاد فلو لاقيتني للقيت ليثا ... هصورا ذا ظبا وشبا حداد «4» ولا ستيقنت أنّ الموت حقّ ... وصرّح شحم قلبك عن سواد أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد ومن قوله في قيس بن مكشوح المرادي: تمنّاني على فرس ... عليه جالس أسده عليّ مفاضة كالنّهي ... أخلص ماءه جدده «5» فلو لاقيتني للقي ... ت ليثا فوقه لبده

المكيدة في الحرب

سبنتي ضيغما هصرا ... صلخدا ناشزا كتده «1» يسامي القرن إن فرن ... تيمّمه فيعتضده «2» فيأخذه فيرديه ... فيخفضه فيقتصده» فيدمغه فيحطمه ... فيخصمه فيزدرده المكيدة في الحرب قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الحرب خدعة. وقال المهلّب لبنيه: عليكم بالمكيدة في الحرب فإنها أبلغ من النجدة. وكان المهلّب يقول: أناة في عواقبها فوت، خير من عجلة في عواقبها درك «4» . وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمرا قط بحزم فلمت نفسي فيه وإن كانت العاقبة عليّ، ولا أخذت أمرا قطّ وضيّعت الحزم فيه إلا لمت نفسي عليه وإن كانت لي العاقبة. وسئل بعض أهل التمرس بالحرب: أيّ المكايد فيها أحزم؟ قال: إذكاء العيون «5» ، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار؛ وإظهار السرور، وإماتة الفرق «6» ، والاحتراس من البطانة «7» من غير إقصاء لمن يستنصح، ولا استناد لمن يستغشّ، وإشغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره. وفي كتاب للهند: الحازم يحذر عدوّه على كل حال: يحذر المواثبة إن قرب، والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولّى. بين المأمون والفضل بن سهل في رأي فات الأمين : قال المأمون للفضل بن سهل: قد كان لأخي رأي لو عمل به لظفر. فقال له

لبعض أهل التمرس

الفضل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال لو كتب إلى أهل خراسان وطبرستان والري ودنياوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة، لم نخل نحن من إحدى خصلتين: إما رددنا فعله ولم نلتفت إليه فعصانا أهل هذه البلدان وفسدت نياتهم فانقطعوا عن معاونتنا. وإما قبلناه وأمضيناه فلا نجد ما نعطي منه من معنا، وتفرّق جندنا ووهى أمرنا. فقال الفضل: الحمد لله الذي ستر هذا الرأي عنه وعن أصحابه. وكتب الحجاج إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة، فكتب إليه: إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره. لبعض أهل التمرس : وكان بعض أهل التمرس يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم، والجبناء من أولى الحزم؛ فإن الجبان لا يألو «1» برأيه ما يقي مهجكم، والشجاع لا يعدو ما يشدّ نصرتكم؛ ثم خلّصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرّة الجبان «2» ، وتهوّر الشجعان، فتكون أنفذ من السهم الزالج «3» ، والحسام الوالج «4» . بين الاسكندر ومؤدبه في مدينة فتحها : وكان الإسكندر لا يدخل مدينة إلا هدمها وقتل أهلها، حتى مرّ بمدينة كان مؤدّبه فيها؛ فخرج إليه، فألطفه الإسكندر وأعظمه. فقال له: أصلح الله الملك، إن أحقّ من زيّن لك أمرك، وأعانك على كل ما هويت لأنا، وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك، فأحب أن تشفّعني فيهم، وألّا تخالفني في كل ما سألتك لهم. فأعطاه من العهود والمواثيق على ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه. فلما توثّق منه قال: فإن حاجتي إليك أن تهدمها وتقتل أهلها. قال: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من مخالفتك. فقال له: ارحل عنا.

سعيد بن العاص وحصن فتحه

سعيد بن العاص وحصن فتحه : قيل: صالح سعيد بن العاص حصنا من حصون فارس على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، فقتلهم كلهم إلا رجلا واحدا. عمرو بن العاص وعلم قيسارية : ابن الكلبي قال: لما فتح عمرو بن العاص قيساريّة سار حتى نزل غزّة، فبعث إليه علجها «1» : أن ابعث إليّ رجلا من أصحابك أكلّمه. ففكّر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري. قال: فخرج حتى دخل على العلج فكلمه فسمع كلاما لم يسمع قطّ مثله. فقال العلج: حدّثني: هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال لا تسأل عن هذا، إني هيّن عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرّضوني لما عرّضوني له، ولا يدرون ما تصنع بي. قال: فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده فمرّ برجل من نصاري غسّان فعرفه؛ فقال: يا عمرو قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده، فرجع. فقال له الملك: ما ردّك إلينا؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت. أعجل بهم. وبعث إلى البواب أن خلّ سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت، حتى إذا أمن قال: لا عدت لمثلها أبدا. فلما صالحه عمرو ودخل عليه العلج قال له: أنت هو؟ قال: نعم، على ما كان من غدرك. عمر والهرمزان : وقال: ولما أتي بالهرمزان أسيرا إلى عمر بن الخطاب قيل له: يا أمير المؤمنين، هذا زعيم العجم وصاحب رستم «2» فقال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحا لك في

معن ونفر من الأسرى

عاجلك وآجلك. قال: يا أمير المؤمنين، إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام. فدعا له عمر بالسيف. فلما همّ بقتله قال: يا أمير المؤمنين، شربة من ماء أفضل من قتلي على ظمأ. فأمر له بشربة من ماء. فلما أخذها قال: أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم. فرمى بها وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج. قال: صدقت، لك التوقف عنك والنظر في أمرك؛ ارفعا عنه السيف. فلما رفع عنه. قال: الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وما جاء به حق من عنده. قال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟ قال كرهت أن تظن أني أسلمت جزعا من السيف وإيثارا لدينه بالرهبة. فقال عمر: إن لأهل فارس عقولا بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك. ثم أمر به أن يبرّ ويكرم، فكان عمر يشاوره في توجيه العساكر والجيوش لأهل فارس. معن ونفر من الأسرى : وهذا نظير فعل الأسير الذي أتى به معن بن زائدة في جملة الأسرى. فأمر بقتلهم، فقال له: أتقتل الأسرى عطاشا يا معن فأمر بهم فسقوا، فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلى سبيلهم. ملك من ملوك العجم : وذكروا: أن ملكا من ملوك العجم كان معروفا ببعد الغور «1» ويقظة الفطنة وحسن السياسة، وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يظهر محاربته، فيكشف عن ثلاث خصال من حاله؛ فكان يقول لعيونه: انظروا، هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها أم يخدعه عنها المنهي ذلك إليه؟ وانظروا إلى الغنى في أي صنف هو من رعيته، أفيمن اشتدّ أنفه وقلّ شرههه، أم فيمن قلّ أنفه واشتدّ شرهه؟ وانظروا في أي صنف من رعيته

وقيعة ملك الهياطلة بيزدجرد

القوّام بأمره؟ أفيمن نظر ليومه وغده، أم من شغله يومه عن غده؟ فإن قيل له: لا يخدع عن أخباره؛ والغنى فيمن قلّ شرهه واشتد انفه، والقوّام بأمره من نظر ليومه وغده، قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضدّ ذلك قال: نار كانة تنتظر موقدا، وأضغان مزملة «1» تنتظر مخرجا، اقصدوا له، فلا حين أحين من سلامة مع تضييع، ولا عدوّ أعدى من أمن أدّى إلى اغترار. وقيعة ملك الهياطلة بيزدجرد : كانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ، ثم نزلت بابل، ثم نزل أردشير ابن بابك فارس، فصارت دار مملكتهم، وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بهرام ملك فارس، وكان غزاهم؛ فكاده ملك الهياطلة بأن عمد إلى رجل ممن عرفه بالمكايدة وحسن الإدارة، فأظهر السخط عليه وأوقع به على أعين الناس توقيعا قبيحا ونكّل به تنكيلا شديدا. ثم أرسله وقد واطأه «2» على أمر أبطنه معه وظاهره عليه فخرج حتى أتى فيروز في طريقه، فأظهر النزوع «3» إليه والاستنصار به من عظيم ما ناله. فلما رأى فيروز ما به من التوقيع والنكاية فيه، وثق به واستنام إليه. فقال: أنا أدلك أيها الملك على غرة القوم وعورتهم وأعلمك مكان غفلتهم. فسلك به سبيل مهلكة معطشة؛ ثم خرج إليه ملك الهياطلة فأسره وأكثر أصحابه، فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من معه، وأعطاهم موثقا لا يغزوهم أبدا، ونصب لهم حجرا جعله حدا بينه وبينهم، وحلف لهم ألّا يجاوزه هو ولا جنوده، وأشهد الله عليه وعلى من حضر من قرابته وأساورته؛ فمنّوا عليه وأطلقوه ومن معه. فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة مما أصابه، فعاد إلى غزوهم ناكثا لعهده غادرا بذمته، إلا أنه تلطف في ذلك بحيلة ظنّها مجزئة في أيمانه، فجعل الحجر الذي نصبه لهم على فيل في مقدّمة عسكره، وتأوّل في ذلك أنه لا يجاوزه فلما صار إليهم ناشدوه

للنبي صلى الله عليه وسلم

الله وذكّروه الأيمان به، وما جعل على نفسه من عهده وذمته، فأبى إلا لجاجا «1» ونكثا. فواقعوه فظفروا به فقتلوه وقتلوا حماته واستباحوا عسكره. للنبي صلّى الله عليه وسلّم : أسامة بن زيد الّليثي قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا غزا أخذ طريقا وهو يريد أخرى، ويقول: الحرب خدعة» . مالك الخثعمي وتسميته بالثعلب : زياد عن مالك بن أنس قال: كان مالك بن عبد الله الخثعميّ، وهو على الصائفة. يقوم في الناس كلما أراد أن يرحل؛ فيحمد الله تعالى ويثني عليه ثم يقول. إني دارب «2» بالغداة إن شاء الله تعالى درب كذا. فتتفرق الجواسيس عنه بذلك؛ فإذا أصبح الناس سلك بهم طريقا أخرى. فكانت تسميه الروم: الثعلب. وصايا أمراء الجيوش كتب عمر بن عبد العزيز إلى الجراح: إنه بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا بعث جيشا أو سريّة قال: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا. فإذا بعثت جيشا أو سرية فمرهم بذلك. وكان عمر بن الخطاب يقول عند عقد الألوية: بسم الله وبالله وعلى عون الله. امضوا بتأييد الله. وما النصر إلا من عند الله ولزوم الحقّ والصبر. فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثّلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا،

أبو بكر يوصي يزيد بن أبي سفيان

وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شنّ الغارات. أبو بكر يوصي يزيد بن أبي سفيان : ولما وجّه أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيّعه راجلا. فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خطاي «1» هذه في سبيل الله. ثم قال: إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما حبسوا أنفسهم له- يعني الرهبان- وستجد قوما فحصوا «2» عن أوساط رؤسهم الشّعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال له: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثّل، ولا تقتل هرما ولا امرأة ولا وليدا، ولا تقرن شاة ولا بعيرا إلا ما أكلتم، ولا تحرقنّ نخلا، ولا تخرّبن عامرا، ولا تغلّ ولا تبخس. أبو بكر يوصي خالد بن الوليد : وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد بن الوليد، حين وجهه لقتال أهل الردّة: سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدوّ فكن بعيدا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح، فإنّ بعضه ليس منه؛ واحترس من البيات، فإنّ في العرب غرّة «3» ؛ وأقلل من الكلام، فإنما لك ما وعي عنك؛ واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. من خالد إلى مرازبة فارس : كتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس مع ابن نفيلة الغساني: الحمد لله الذي فضّ حزمتكم «4» ، وفرّق جمعكم، وأوهن بأسكم، وسلب ملككم، وأذلّ عزكم؛ فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إليّ بالرّهن، واعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا

من عمر إلى ابن أبي وقاص

والله الذي لا إله إلا هو، لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا. من عمر إلى ابن أبي وقاص : كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما- ومن معه من الأجناد: أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصي منكم من عدوّكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإذا استوينا «1» في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله؛ ولا تقولوا إن عدوّنا شر منا فلن يسلّط علينا وإن أسأنا؛ فربّ قوم سلّط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفّار المجوس فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا «2» . واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفّق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشّمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوّهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع «3» . وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة، حتى تكون لهم راحة يجمّون «4» فيها أنفسهم، ويرمّون «5» أسلحتهم وأمتعتهم. ونحّ منازلهم عن قرى أهل

عبد الملك يوصي أميره إلى أرض الروم

الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه. ولا يرزأ أحدا من أهلها شيئا: فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولّوهم خيرا، ولا تستبصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإنّ الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه، والغاشّ عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم. فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم. وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخيّر لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوّا كان أول ما تلقاهم القوة من أصحابك، وتخيّر لهم سوابق الخيل؛ فإن لقوا عدوّ كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك. واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدا بهوى، فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت «1» به أهل خاصتك. ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوّف فيه غلبة أو ضيعة ونكاية «2» ؛ فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوّتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوّك كصنعه بك، ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتحفّظ من البيات «3» جهدك. ولا تؤت بأسير له عهد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدوّ الله وعدوك. والله ولي أمرك ومن معك، ووليّ النصر لكم على عدوّكم، والله المستعان. عبد الملك يوصي أميره إلى أرض الروم : وأوصى عبد الملك بن مروان أميرا سيره إلى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس «4» الذي إن وجد ربحا تجر وإلا تحفّظ برأس المال.

زياد يوصي قواده

ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة. وكن من احتيالك على عدوّك أشدّ حذرا من احتيال عدوّك عليك. زياد يوصي قواده : وكان زياد يقول لقواده: تجنّبوا اثنين لا تقاتلوا فيهما العدو: الشتاء، وبطون الأودية. بين الوليد وعباد في زياد : وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشا في الشتاء، فغنموا وسلموا. فقال لعبّاد: يا أبا حرب، أين رأي زياد من رأينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد أخطأت، وليس كل عورة تصاب. معاوية وقد أراد استعمال ابن خالد ثم الغامدي : العتبي قال: جاشت الرّوم وغزت المسلمين برا وبحرا، فاستعمل معاوية على الصائفة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فلما كتب له عهده قال: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: أتخذه إماما لا أعصيه. قال: أردد عليّ عهدي. ثم بعث إلى سفيان ابن عوف الغامديّ فكتب له عهده، ثم قال له: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: أتخذه إماما أمام الحزم، فإن خالفه خالفته. فقال معاوية: هذا الذي لا يكفكف من عجلة، ولا يدفع في ظهره من خور «1» ، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثفال «2» . دريد وابن عوف النصري : وقال دريد بن الصمّة لمالك بن عوف النّصري، قائد هوازن، يوم حنين: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهيق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس

لقتيبة ينصح أصحابه

أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنقض به» ، وقال: راعي ضأن الله! وهل يردّ المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك؛ ويحك! إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن «2» إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنّع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصّبّاء «3» على متون الخيل؛ فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا والله لا أفعل ذلك؛ إنك قد كبرت وذهل عقلك. قال دريد: هذا يوم أشهده ولم يفتني. ثم أنشأ يقول: يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع «4» أقود وطفاء الزّمع ... كأنّها شاة صدع «5» لقتيبة ينصح أصحابه : وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: إذا غزوتم، فأطيلوا الأظفار، وقصّروا الشعور، والحظوا الناس شزرا «6» ، وكلّموهم رمزا، واطعنوهم وخزا «7» . لأبي مسلم ينصح قواده : وكان أبو مسلم يقول لقواده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.

المنصور وعيسى ابن موسى

وكان سعيد بن زيد يقول لبنيه: قصّروا الأعنّة، واشحذوا الأسنة، تأكلوا القريب، ويرهبكم البعيد. المنصور وعيسى ابن موسى : وقال عيسى بن موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة عبد الله بن الحسن، جعل يوصيني ويكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى متى توصيني؟ إنّي أنا ذاك الحسام الهندي ... أكلت جفني وفريت غمدي «1» فكلّ ما تطلب عندي عندي المحاماة عن العشيرة ومنع المستجير لجعيل يصف لعبد الملك قومه : قال عبد الملك بن مروان لجعيل بن علقمة الثعلبي: ما مبلغ عزّكم؟ قال: لم يطمع فينا ولم يؤمن منّا. قال: فما مبلغ حفظكم؟ قال: يدفع الرجل منّا عمن استجار به غير قومه كدفاعه عن نفسه. قال عبد الملك: مثلك من يصف قومه. لابن مطاع : وقال عبد الملك بن مروان لابن مطاع العنزي: أخبرني عن مالك بن مسمع قال له: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه في أي شيء غضب. قال عبد الملك: هذا والله السّودد. قال: ولم يل قطّ مالك بن مسمع ولا أسماء بن خارجة شيئا للسلطان. للعرب في الدفاع عن الجار : وكانت العرب تمتدح بالذّبّ «2» عن الجار، فيقولون: فلان منيع الجار حامي

معاوية وهانيء في مال اختانه ابن شهاب

الذمار «1» . نعم، حتى كان فيهم من يحمي الجراد إذا نزل في جواره، فسمّي مجير الجراد. وقال مروان بن أبي حفصة يمدح معن بن زائدة ويصف مفاخر بني شيبان ومنعهم لمن استجار بهم: هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا هم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل «2» وقال آخر: هم يمنعون الجار حتّى كأنّه ... كثيبة زور بين خافيتي نسر «3» معاوية وهانيء في مال اختانه ابن شهاب : وذكر أن معاوية ولّى كثير بن شهاب المذحجيّ خراسان، فاختان مالا كثيرا. ثم هرب فاستتر عند هانيء بن عروة المرادي. فبلغ ذلك معاوية فهدر دم هانيء. فخرج هانيء إلى معاوية، فكان في جواره. ثم حضر مجلسه وهو لا يعرفه. فلما نهض الناس ثبت مكانه، فسأله معاوية عن أمره، فقال: أنا هانيء بن عروة، فقال: إنّ هذا اليوم ليس باليوم الذي يقول فيه أبوك: أرجّل جمّتي وأجرّ ذيلي ... وتحمل شكّتي أفق كميت «4» وأمشي في سراة بني غطيف ... إذا ما ساءني أمر أبيت «5» قال: أنا والله يا أمير المؤمنين اليوم أعزّ مني ذلك اليوم. قال: بم ذلك؟ قال: بالإسلام. قال: أين كثير بن شهاب؟ قال: عندي وعندك يا أمير المؤمنين. قال: انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضا وسوّغه بعضا، وقد أمّنّاه ووهبناه لك.

مقتل محمد ابن أبي بكر

مقتل محمد ابن أبي بكر : الشيباني قال: لما نزل محمد بن أبي بكر مصر وصيّر إليه معاوية معاوية بن حديج الكندي. تفرّق عن محمد من كان معه، فتغيّب فدلّ عليه، فأخذه فضرب عنقه وبعث برأسه إلى معاوية. فكان أول رأس طيف به في الإسلام. وكان محمد بن جعفر بن أبي طالب معه، فاستجار بأخواله من خثعم فغيّبوه؛ وكان سيّد خثعم يومئذ رجلا في ظهره بزخ «1» من كسر أصابه، فكان إذا مشى ظنّ الجاهل أنه يتبختر في مشيته، فذكر لمعاوية أنه عنده، فقال له: أسلم إلينا هذا الرجل. فقال: ابن أختنا لجأ إلينا لنحقن دمه، فدعه عنك يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أدعه حتى تأتيني به. قال: لا والله لا آتيك به. قال: كذبت، والله لتأتينّي به، إنك ما علمت لأوره «2» . قال: أجل، إني لأوره حين أقاتلك على ابن عمك لتحقن دمه، وأقدّم ابن عمي دونه تسفك دمه. فسكت عنه معاوية وخلّى بينه وبينه. المهدي ومعن في رجل أهدر دمه : الشيباني قال: قال سعيد بن سلم: أهدر المهدي دم رجل من أهل الكوفة فأقام الرجل حينا متواريا، ثم إنه ظهر بمدينة السلام، فكان ظاهرا كغائب، خائفا مترقبا. فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأهوى إلى مجامع ثوبه وقال هذا بغية أمير المؤمنين. فأمكن الرجل من قياده ونظر إلى الموت أمامه. فبينا هو على تلك الحالة إذ سمع وقع الحوافر من وراء ظهره، فالتفت فإذا معن بن زائدة، فقال: يا أبا الوليد، أجرني أجارك الله. فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك؟ قال: بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وأعطى لمن دلّ عليه مائة ألف. فقال: يا غلام، انزل عن دابتك واحمل أخانا. فصاح الرجل: يا معشر الناس، يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين. قال له معن: اذهب فأخبره أنه عندي. فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب، فدخل إلى المهدي فأخبره، فأمر بحبس

الجبن والفرار

الرجل ووجّه إلى معن من يحضر به، فأتته رسل أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه وقرّبت إليه دابته، فدعا أهل بيته ومواليه فقال: لا يخلصنّ «1» إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف. ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي، فلم يردّ عليه، فقال: يا معن، أتجير عليّ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضا! واشتدّ غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين، قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفا، ولي أيام كثيرة قد تقدّم فيها بلائي وحسن غنائي، فما رأيتموني أهلا أن تهبوا لي رجلا واحدا استجار بي؟ فأطرق المهدي طويلا ثم رفع رأسه وقد سرّي عنه «2» ، فقال: قد أجرنا من أجرت. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله- فيكون قد أحياه وأغناه- فعل. قال: قد أمرنا له بخمسة آلاف. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم؛ فأجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له بمائة ألف. قال: فتعجّلها يا أمير المؤمنين بأفضل الدعاء. ثم انصرف ولحقه المال؛ فدعا الرجل فقال له: خذ صلتك والحق بأهلك، وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى. الجبن والفرار لعمرو بن معديكرب في الفزعات : قال عمرو بن معديكرب: الفزعات ثلاث: فمن كانت فزعته في رجليه فذلك الذي لا تقلّه رجلاه، ومن كانت فزعته في رأسه فذلك الذي يفرّ عن أبويه، ومن كانت فزعته في قلبه فذلك الذي يقاتل. وقال الأحنف: أسرع الناس إلى الفتنة، أقلهم حياء من الفرار. وقالت عائشة أم المؤمنين: إنّ لله خلقا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها؛ فأفّ للجبناء! وقال الشاعر:

للفرار السلمي في الفرار

يفرّ جبان القوم عن أمّ نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه ويرزق معروف الجواد عدوّه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه «1» وقال خالد بن الوليد عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية؛ ثم هأنذا أموت حتف نفسي كما يموت العير «2» ؛ فلا نامت أعين الجبناء. للفرار السلمي في الفرار : ومن أشعار الفرّارين الذين حسّنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن، قول الفرّار السلمي «3» : وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست أملت بها يدي «4» وتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند «5» هل ينفعنّي أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالها: لا تبعد للحارث بن هشام في الفرار : وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: ما اعتذر أحد من الفرّارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول: الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد وعلمت أنّي إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّي مشهدي فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مرصد «6» وهذا الذي سمعه صاحب رتبيل فقال: يا معشر العرب، حسّنتم كلّ شيء فحسن حتى الفرار.

وبعد هذا يأتي قول حسان في ذلك. وأسلم الحارث يوم فتح مكة وحسن إسلامه، وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله، فاتبعه أهل مكة يبكون، فرقّ وبكى وقال: أما لو كنا نستبدل دارا بدارنا، أو جارا بجارنا، ما رأينا بكم بدلا؛ ولكنها النّقلة إلى الله فلم يزل هناك مجاهدا حتى مات. وقال آخر: قامت تشجّعني هند وقد علمت ... أنّ الشّجاعة مقرون بها العطب لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب للحرب قوم أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا القتل يعجبني منها ولا السّلب وقال محمود الوراق: أيها الفارس المشيخ المغير ... إنّ قلبي من السلاح يطير «1» ليس لي قوّة على رهج الخي ... ل إذا ثوّر الغبار مثير «2» واستدارت رحى الحروب بقوم ... فقتيل وهارب وأسير «3» حيث لا ينطق الجبان من الذّعر ... ويعلو الصّياح والتّكبير أنا في مثل ذا وهذا بليد ... ولبيب في غيره نحرير «4» وقال أيمن بن خريم: إنّ للفتنة ميطا بيّنا ... فرويد الميط منها يعتدل «5» فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل إنما يوقدها جهّالها ... حطب النّار فدعها تشتعل

لصاحب كليلة ودمنة

لصاحب كليلة ودمنة : ومما يحتج به الفارّون: ما قاله صاحب كليلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه؛ لأن النفقة «1» فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال. أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في شعره حيث يقول: كم بين قوم إنّما نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا ومن الفرّارين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فرّ من الأزارقة وكان في عشرة آلاف، وكان قد بعث إليه المهلّب: يا بن أخي، خندق على نفسك وعلى أصحابك، فإني عالم بأمر الخوارج، ولا تغترّ. فبعث إليه: أنا أعلم بهم منك، وهم أهون عليّ من ضرطة الجمل فبيّته قطريّ صاحب الأزارقة فقتل من أصحابه خمسمائة، وفرّ لا يلوي على أحد. فقال فيه الشاعر: تركت ولداننا تدمى نحورهم ... وجئت منهزما يا ضرطة الجمل ومن الفرارين أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد؛ فرّ يوم مرداء هجر من أبي فديك، فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام، فجلس يوما بالبصرة فقال: سرت على فرسي «المهرجان» من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام. فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير، فلو ركبت «النّيروز» لسرت إليها في يوم واحد. فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلّمونه، ولا ما يلقونه من القول، أيهنّئونه أم يعزّونه؛ حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف «2» الناس له، وقالوا: ما عسى أن يقال للمنهزم؟ فسلم ثم قال: مرحبا بالصابر المخذول، الذي خذله قومه. الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا فقد تعرّضت للشهادة جهدك، ولكن علم الله حاجة أهل الإسلام إليك، فأبقاك لهم بخذلان من معك لك. فقال أمية بن عبد الله: ما وجدت أحدا أخبرني عن نفسي غيرك. وفيه يقول الشاعر:

الحجاج وخيل لأمية

إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد النّاب عند الثّرائد «1» الحجاج وخيل لأمية : أتى الحجاج بدواب من دواب أمية قد وسم على أفخاذها: «عدّة» فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك: «للفرار» . وقال أبو دلامة: كنت مع مروان» أيام الضحاك الحروري، فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فقتله، ثم ثان، ثم ثالث. فانقبض الناس عنه، وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم «3» ، فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف؟ قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت عليّ الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه. فإذا عليه فرو قد بلّه المطر فارمعلّ «4» ، ثم أصابته الشمس فاقفعلّ «5» ، وله عينان تتقدان كأنّهما جمرتان؛ فلما رآني فهم الذي أخرجني، فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول: وخارج أخرجه حبّ الطّمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع من كان ينوي أهله فلا رجع فلما رأيته قنّعت رأسي ووليت هاربا ومروان يقول: من هذا الفاضح؟ لا يفوتكم! فدخلت في غمار الناس. لأعرابي في الغزو : وقيل لأعرابي: ألا تغزو العدوّ؟ قال: وكيف يكونون لي عدوّا وما أعرفهم ولا يعرفونني؟

لحسان يعير الحارث بن هشام

وقيل للآخر: ألا تغزو العدوّ؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أخبّ «1» إليه ركضا! لحسان يعير الحارث بن هشام : ومما قيل في الفرّارين الجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعيّر الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقد تقدم ذكر ذلك: إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام «2» ملأت به الفرجين فامتدّت به ... وثوى أحبّته بشرّ مقام وقال بعض العراقيين في رجل أكول جبان: إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثّرائد وقال فيه: ضعيف القلب رعديد ... عظيم الخلق والمنظر «3» رأى في النوم عصفورا ... فوارى نفسه أشهر وقال آخر: لو جرت خيل نكوصا ... لجرت خيل ذفافه «4» هي لا خيل رجاء ... لا ولا خيل مخافه وقال آخر: خرجنا نريد مغارا لنا ... وفينا زياد أبو صعصعه فستّة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعه

ولم يقل أحد في وصف الجبن والفرار مثل قول الطرمّاح في بني تميم: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت ولو أنّ برغوثا على ظهر قملة ... رأته تميم يوم زحف لولّت ولو جمعت يوما تميم جموعها ... على ذرّة معقولة لا شملّت «1» وليس يعاب الشجاع والبهمة البطل بالفرّة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة؛ كما قال زفر بن الحارث وفرّ يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال: أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيّامي وحسن بلائيا «2» ولم تر مني زلّة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيّ ورائيا وفرّ عمرو بن معديكرب من عباس بن مرداس وأسر أخته ريحانة: وفيها يقول عمرو: أمن ريحانة الدّاعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع وفرّ عن بني عبس وفيهم زهير بن جذيمة العبسي وولده شأس بن زهير وقيس بن زهير! فقال فيهم: أجاعلة أمّ الثوير خزاية ... عليّ فراري إذ لقيت بني عبس «3» لقيت أبا شأس وشأسا ومالكا ... وقيسا فجاشت من لقائهم نفسي «4» لقونا فضمّوا جانبينا بصادق ... من الطعن مثل النار في الحطب اليبس ولما دخلنا تحت فيء رماحهم ... خبطت بكفّي أطلب الأرض بالّلمس «5» وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس وقال أيضا:

بين ابن زياد وابن زرعة

ولقد أجمع رجليّ بها ... حذر الموت وإنّي لفرور ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس من الموت هرير «1» كلّ ما ذلك منّي خلق ... وبكلّ أنا في الرّوع جدير وابن صبح سادرا يودعني ... ماله في الناس ما عثت مجير «2» وقال الحارث لامرأته، وذلك أنها نظرت إليه وهو يحدّ حربة يوم فتح مكة فقالت له: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. فقالت: ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم! ثم أنشأ يقول: إن يقبلوا اليوم فما بي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه «3» وذو غرارين سريع السّله فلما لقيهم خالد يوم الخندمة «4» انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال: إنك لو شاهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه وأبو يزيد قائم كالموتمه ... ولحقتنا بالسيوف المسلمه «5» يفلقن كلّ ساعد وجمجمه ... ضربا فلا تسمع إلّا غمغمه «6» لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه «7» بين ابن زياد وابن زرعة : وكان أسلم بن زرعة وجّهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين، وأبو بلال في أربعين رجلا: فشدّوا عليه شدّة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه، فلما

دخل على ابن زياد عنّفه في ذلك وقال: ويلك! أتمضي في ألفين وتنهزم عن أربعين؟ فخرج عنه وهو يقول: لأن يذمّني ابن زياد حيّا خير من أن يمدحني وأنا ميت- وفي رواية أخرى: أن يشتمني الأمير وأنا حيّ أحبّ إليّ من أن يدعو لي وأنا ميت. فقال شاعر الخوارج. أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ويهزمهم بآسك أربعونا كذبتم، ليس ذلكم كذاكم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا ومثل ذلك قول عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي، وكان فرّ يوم الحرّة من جيش مسلم بن عقبة، فلما كان أيام حصار الحجاج بمكة لعبد الله بن الزّبير جعل يقاتل أهل الشام ويقول: أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والشيخ لا يفر إلا مرّه فاليوم أجزي فرّة بكرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه فلم يزل يقاتل حتى قتل. وأحسن ما قيل في الفرار كله ما قاله قيس بن الحطيم: إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب «1» وفرّ عتيبة بن الحارث بن هشام يوم ثبرة عن ابنه حزرة وقال: يا حسرتي لقد لقيت حسره ... يا لتميم غشيتني عبره نعم الفتى غادرته بثبره ... نجّيت نفسي وتركت حزره هل يترك الحرّ الكريم بكره «2»

للفرزدق في خالد ابن أسيد

وفرّ أبو خراش الهذلي من فائد وأصحابه، ورصدوه بعرفات فقال: وفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وقلت وقد جاوزت أصحاب فائد ... أأعجزت أولى الخيل أم أنا أحلم فلولا ادّراك الشرّ قامت حليلتي ... تخيّر من خطّابها وهي أيّم «1» ولولا ادّراك الشرّ أتلفت مهجتي ... وكان خراش يوم ذلك ييتم وفرّ خبيب بن عوف يوم مرداء هجر من أبي فديك، فقال: بذلت لهم يا قوم حولي وقوّتي ... ونصحي وما ضمّت يداي من التبر فلما تناهى الأمر بي من عدوكم ... إلى مهجتي ولّيت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحفل ملامة عاجز ... يقيم لأطراف الرّدينية السّمر فلو كان لي روحان عرّضت واحدا ... لكلّ ردينيّ وأبيض ذي أثر «2» رجع بنا القول إلى الفرّارين والجبناء وما قيل فيهم. للفرزدق في خالد ابن أسيد : فرّ خالد بن عبد الله بن أسيد عن مصعب بن الزبير يوم الجفرة بالبصرة، فقال فيه الفرزدق: وكلّ بني السّوداء قد فرّ فرّة ... فلم يبق إلّا فرّة في است خالد فضحتم أمير المؤمنين وأنتم ... تمرّون سودانا غلاظ السّواعد وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع: تقدّم. فأنشأ يقول: وقالوا تقدّم، قلت لست بفاعل ... أخاف على فخّارتي أن تحطّما فلو كان لي رأسان أتلفت واحدا ... ولكنّه رأس إذا راح أعقما فلو كان مبتاعا لدى السوق مثله ... فعلت ولم أحفل بأن أتقدّما فأوتم أولادا وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما

بين هند وابن زنباع

بين هند وابن زنباع : وقالت هند بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع: كيف سودك قومك وأنت جبان غيور؟ قال: أما الجبن، فإن لي نفسا واحدة فأنا أحوطها، وأما الغيرة فما أحق بها من كانت له امرأة حمقاء مثلك، مخافة أن تأتيه بولد من غيره فترمي به في حجره. وقال كعب بن زهير: بخلا علينا وجبنا من عدؤكم ... لبئست الخلّتان البخل والجبن فضائل الخيل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في صفة الخيل: «أعرافها أدفاؤها «1» ، وأذنابها مذابّها «2» والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بإناث الخيل فإنّ بطونها كنز؛ وظهورها حرز، وأصحابها معانون عليها» . وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني أريد أن أشتري فرسا أعدّه في سبيل الله. فقال له: اشتره أدهم أو كميتا أقرح أرثم، أو محجلا مطلق اليمين «3» ، فإنها ميامين الخيل. وقيل لبعض الحكماء: أي الأموال أشرف؟ قال: فرس تتبعها فرس في بطنها فرس.

صفة جياد الخيل

صفة جياد الخيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستحب من الخيل الشقر. وقال: «لو جمعت خيل العرب في صعيد واحد ما سبقها إلا أشقر» . وسأله رجل: أيّ المال خير؟ قال: سكة مأبورة، ومهرة مأمورة «1» . وكان عليه الصلاة والسلام يكره الشّكال «2» في الخيل. لبعضهم : وقالوا: إنما سميت خيلا لاختيالها. ووصف أعرابيّ فرسا فقال: إذا تركته نعس، وإذا حرّكته طار. وأرسل مسلم بن عمرو لابن عم له بالشام يشتري له خيلا، فقال له: لا علم لي بالخيل. فقال: ألست صاحب قنص؟ قال: بلى. قال: فانظر، كل شيء تستحسنه في الكلب فاطلبه في الفرس. فأتي بخيل لم يكن في العرب مثلها. وقال بعض الضّبّيّن في وصف فرس: متقاذف عبل الشّوى شنج النّسا ... سبّاق أندية الجياد عميثل «3» وإذا تعلّل بالسّياط جيادها ... أعطاك نائله ولم يتعلّل بين المهدي وابن دراج في أفضل الخيل : سأل المهدي مطر بن درّاج عن أي الخيل أفضل؟ قال: الذي إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر «4» ، وإذا استعرضته قلت زافر «5» . قال: فأيّ هذه

بين معاوية وصعصعة

أفضل؟ قال: الذي طرفه إمامه، وسوطه عنانه. وقال آخر: الذي إذا مشى ردى «1» ، وإذا عدا دحا «2» ، وإذا استقبل أقعى، وإذا استدبر جبّى «3» ، وإذا استعرض استوى. بين معاوية وصعصعة : وسأل معاوية بن أبي سفيان صعصعة بن صوحان: أي الخليل أفضل؟ قال: الطويل الثلاث، القصير الثلاث، العريض الثلاث، الصافي الثلاث. قال: فسّر لنا. قال: أما الطويل الثلاث، فالأذن والعنق والحزام؛ وأما القصير الثلاث، فالصّلب والعسيب والقضيب؛ وأما العريض الثلاث، فالجبهة والمنخر والورك؛ وأما الصافي الثلاث، فالأديم والعين والحافر. بين عمر بن الخطاب وعمرو بن معديكرب في عراب الخيل : وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معديكرب: كيف معرفتك بعراب الخيل؟ قال: معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده. فأمر بأفراس فعرضت عليه، فقال: قدّموا إليها الماء في التّراس «4» ، فما شرب ولم يكتف «5» فهو من العراب، وما ثنى سنبكه «6» فليس منها. قلت: إنما المحفوظ أن عمر شك في العتاق والهجن، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فأخبره، فدعا سلمان بطست من ماء فوضع بالأرض، ثم قدّم إليه الخيل فرسا فرسا، فما ثنى سنبكه وشرب هجنه، وما شرب ولم يثن عرّبه.

لأبي عبيدة في عتاقه الفرس

وقال حسان بن ثابت يصف طول عنق الفرس: بكلّ كميت جوزه نصف خلقه ... أقبّ طوال مشرف في الحوارك «1» وقال زهير: وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله «2» وقال آخر: له ساقا ظليم خا ... ضب فوجيء بالرّعب «3» حديد الطّرف والمنك ... ب والعرقوب والقلب وقال آخر «4» : هريت قصير عذار الّلجام ... أسيل طويل عذار الرسن «5» لم يرد بقوله «قصير عذار اللجام» قصر خدّه، وإنما أراد طويل شق الفم؛ وأراد بطول عذار الرسن، طول الخدّ. وقال آخر: بكلّ هريت نقيّ الأديم ... طويل الحزام قصير الّلبب «6» لأبي عبيدة في عتاقه الفرس : وقال أبو عبيدة: يستدلّ على عتاقة الفرس جحافله وأرنبته، وسعة منخريه، وعرى نواهقه «7» ، ودقّة حقويه وما ظهر من أعالي أذنيه، ورقة سالفتيه وأديمه، ولين

شعره. وأبين من ذلك كله لين شكير «1» ناصيته وعرفه. وكانوا يقولون: إذا اشتد نفسه، ورحب متنفّسه، وطال عنقه، واشتد حقوه، وانهرت شدقه، وعظمت فخذاه، وانشبخت «2» أنساؤه، وعظمت فصوصه، وصلبت حوافره ووقحت: ألحق بجياد الخيل. قيل لرجل من بني أسد: أتعرف الفرس الكريم من المقرف «3» ؟ قال نعم: أما الكريم فالجواد الجيد، الذي نهز نهز العير «4» ، وأنّف تأنيف السّير، الذي إذا عدا اسلهب «5» ، وإذا قيّد اجلعبّ «6» ، وإذا انتصب اتلأبّ «7» . وأما المقرف فإنه الذّلول الحجبة، الضخم الأرنبة، الغليظ الرقبة، الكثير الجلبة، الذي إذا أرسلته قال أمسكني، وإذا أمسكته قال أرسلني. وكان محمد بن السائب الكلبي يحدث أنّ الصّافنات «8» الجياد المعروضة على سليمان ابن داود عليهما السلام كانت ألف فرس ورثها عن أبيه، فلما عرضت عليه ألهته عن صلاة العصر حتى توارث الشمس بالحجاب، فعرقبها إلا أفراسا لم تعرض عليه، فوفد أقوام من الأزد، وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من حوائجهم، قالوا: يا نبيّ الله، إنّ أرضنا شاسعة فزوّدنا زادا يبلّغنا. فأعطاهم فرسا من تلك الخيل، وقال: إذا نزلتم منزلا فاحملوا عليه غلاما واحتطبوا؛ فإنكم لا تورون ناركم حتى يأتيكم بطعامكم. فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلا إلا ركبه أحدهم للقنص فلا يفلته شيء وقعت عينه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا إلى بلادهم فقالوا: «ما فرسنا إلا زاد الراكب، فسموه زاد الراكب، فأصل فحول العرب من نتاجه.

ويقال إن «أعوج» كان منها، وكان فحلا لهلال بن عامر أنتجته أمه ببعض بيوت الحيّ، فنظروا إلى طرف يضع جحفلته على كاذتها- على الفخذ مما يلي الحياء- فقالوا: أدركوا ذلك الفرس لا ينزو على فرسكم، لعظم، «أعوج» وطول قوائمه فقاموا إليه فوجدوا المهر، فسموه أعوج. وأخبرنا فرج بن سلام عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: أغير على أهل النسار «1» وأعوج موثق بثمامة، «2» فجال صاحبه في متنه ثم زجره فاقتلع الثمامة، فخرجت تحف في متنه كالخدروف «3» وراءه، فعدا بياض يومه وأمسى يتعشى من جميم قباء «4» . وقال الشاعر في وصف فرس: وأحمر كالدّيباج أمّا سماؤه ... فريّا، وأمّا أرضه فمحول قوله: سماؤه: أعلاه. وأرضه: أسفله، يريد قوائمه. وللطائي نظير هذا حيث يقول: مبتلّ متن وصهوتين إلى ... حوافر صلبة له ملس فهو لدى الرّوع والجلائب ذو ... أعلى مندّى وأسفل يبس أو أدهم فيه كمتة أمم ... كأنّه قطعة من الغلس «5» صهصلق في الصّهيل، تحسبه ... أشرج حلقومه على جرس وقال حبيب أيضا يصف فرسا أهداه إليه الحسن بن وهب الكاتب. ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق «6» بجوافز حفر وصلب صلّب ... وأشاعر شعر وحلق أحلق «7»

لبعض الشعراء في أبي دلف

وبشعلة تبدو كأنّ حلولها ... في صهوتيه بدوّ شيب المفرق ذو أولق تحت العجاج وإنّما ... من صحّة إفراط ذاك الأولق «1» تغرى العيون به ويفلق شاعر ... في نعته عفوا وليس بمفلق بمصعّد من نعته ومصوّب ... ومجمّع من حسنه ومفرّق قد سالت الأوضاح سيل قرارة ... فيه فمفترق عليه وملتقي «2» صافي الأديم كأنّما ألبسته ... من سندس ثوبا ومن إستبرق مسودّ شطر مثل ما اسودّ الدّجى ... مبيضّ شطر كالبيضاض المهرق «3» فكأن فارسه يصرّف إذ بدا ... في متنه ابنا للصّباح الأبلق إمليسة إمليدة لو علّقت ... في صهوتيه العين لم تتعلّق «4» يرقى وما هو بالسّليم ويغتدي ... دون السلاح سلاح أروع مملق «5» لبعض الشعراء في أبي دلف : وقال أبو سويد: شهد أبو دلف وقعة البذّ «6» وتحته فرس أدهم وعليه نضح الدم، فاستوقفه رجل من الشعراء وأنشد: كم ذا تجرّعه المنون ويسلم ... لو يستطيع شكا إليك الأدهم في كلّ منبت شعرة من جلده ... نمق ينمّقه الحسام المخذم «7» وكأنّما عقد النّجوم بطرفه ... وكأنه بعرى المجرّة ملجم «8» وكأنّه بين البوارق لقوة ... شقراء كاسرة طوت ما تطعم «9» ما تدرك الأرواح أدنى سيره ... لا بل يفوت الرّيح فهو مقدّم

لابن عبد ربه في وصف الفرس

رجعته أطراف الأسنة أشقرا ... واللون أدهم حين ضرّجه الدّم قال: فأمر له بعشرة آلاف. لابن عبد ربه في وصف الفرس : ومن قولنا في وصف الفرس: ومقربة يشقرّ في النّقع كمتها ... ويخضرّ حينا كلما بلّها الرّشّح «1» تطير بلا ريش إلى كلّ صيحة ... وتسبح في البرّ الذي ما به سبح وقال عديّ بن الرّقاع: يخرجن من فرجات النّقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام وطلب البحتري الشاعر من سعيد بن حميد بن عبد الحميد الكاتب فرسا ووصف له أنواعا من الخيل في شعره فقال: لأكلّفنّ العيس أبعد همّة ... يجري إليها خائف أو مرتجي وإلى سراة بني حميد إنهم ... أمسوا كواكب أشرقت في مذحج والبيت لولا أنّ فيه فضيلة ... تعلو البيوت بفضلها لم يحجج فأعن على غزو العدوّ بمنطو ... أحشاؤه طيّ الرّداء المدرج إمّا بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجّج متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرّج «2» أو أدهم صافي الأديم كأنّه ... تحت الكميّ مظهّر بيرندج «3» ضرم يهيج السّوط من شؤبوبه ... هيج الجنائب من حريق العرفج «4» خفّت مواقع وطئه فلو انه ... يجري برملة عالج لم يرهج «5»

لامريء القيس

أو أشهب يقق يضيء وراءه ... متن كمتن اللّجة المترجرج «1» تخفى الحجول ولو بلغن لبانه ... في أبيض متألق كالدّملج «2» أوفى بعرف أسود متفرّد ... فيما يليه وحافر فيروزجي أو أبلق ملأ العيون إذا بدا ... من كلّ لون معجب بنموذج جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عنقا بأحسن حلّة لم تنسج «3» وعريض أعلى المتن لو علّيته ... بالزئبق المنهال لم يتدحرج خاضت قوائمه الوثيق بناؤها ... أمواج تحنيت بهنّ مدرّج «4» ولأنت أبعد في السّماحة همة ... من أن تضنّ بملجم أو مسرج لامريء القيس : وأول من شبّه الخيل بالظباء والسّرحان والنعامة، وتبعه الشعراء وحذوا حذوه وعلى مثاله- امرؤ القيس بن حجر: له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل «5» كأنّ على المتنين منه إذا انتحى ... مداك عروس أو صلاية حنظل «6» مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل درير كخذروف الوليد أمرّه ... تتابع كفّيه بخيط موصّل «7» كميت يزلّ اللبد عن حال متنه ... كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل «8»

بين عبد الملك بن مروان وأصحابه

فأخذت الشعراء هذا التشبيه من امريء القيس فحذوا عليه، فقال طفيل الخيل: إنّي وإن قالّ مالي لا يفارقني ... مثل النّعامة في أوصالها طول تقريبها المرطى والجوز معتدل ... كأنّه سبد بالماء مغسول «1» أو ساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الرّوع مبذول «2» بين عبد الملك بن مروان وأصحابه : وقال عبد الملك بن مروان لأصحابه: أي المناديل أفضل؟ فقال بعضهم: مناديل مصر التي كأنها غرقئ «3» البيض. وقال بعضهم: مناديل اليمن التي كأنها أنوار الربيع. فقال: ما صنعتم شيئا، أفضل المناديل مناديل عبدة بن الطّبيب حيث يقول: لمّا نزلنا ضربنا ظلّ أخبية ... وفار باللحم للقوم المراجيل وردا وأشقر لم ينهئه طابخه ... ما قارب النّضج منها فهو مأكول «4» وقد وثبنا على عوج مسوّمة ... أعرافهنّ لأيدينا مناديل «5» سوابق الخيل قال الأصمعي: ما سبق في الرهان فرس أهضم قطّ. وأنشد لأبي النّجم: منتفج الجوف عريض كلكله «6» لأبي النجم في فرس هشام : قال: وكان هشام بن عبد الملك رجلا مسبّقا لا يكاد يسبق، فسبقت له فرس أنثى وصلّت أختها، ففرح لذلك فرحا شديدا، وقال: عليّ بالشعراء. قال أبو النجم:

بين الرشيد والأصمعي في فرس سابق

فدعينا فقيل لنا: قولوا في هذا الفرس وأختها. فسأل أصحاب النشيد النّظرة حتى يقولوا. فقلت له: هل لك في رجل ينقدك إذا استنسئوك «1» ؟ قال: هات. فقلت من ساعتي: أشاع للغرّاء فينا ذكرها ... قوائم عوج أطعن أمرها وما نسينا بالطريق مهرها ... حين نقيس قدره وقدرها وصبره إذا عدا وصبرها ... والماء يعلو نحره ونحرها ملمومة شدّ المليك أسرها ... أسفلها وبطنها وظهرها «2» قد كاد هاديها يكون شطرها ... لا تأخذ الحلبة إلا سؤرها «3» قال أبو النجم: فأمر لي بجائزة وانصرفت. بين الرشيد والأصمعي في فرس سابق : أبو القاسم جعفر بن أحمد بن محمد، وأبو الحسن علي بن جعفر البصري، قالا: حدثنا أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي: أن هارون الرشيد ركب في سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود الحلبة. قال الأصمعي: فدخلت الميدان لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين؛ والحلبة يومئذ أفراس للرشيد ولولديه الأمين والمأمون، ولسليمان بن أبي جعفر المنصور ولعيسى بن أبي جعفر فجاء فرس أدهم يقال له الربيذ لهرون الرشيد سابقا؛ فابتهج لذلك ابتهاجا علم ذلك في وجهه، وقال عليّ بالأصمعي. فنوديت له من كل جانب، فأقبلت سريعا حتى مثلت بين يديه، فقال: يا أصمعي، خذ بناصية الربيذ ثم صفه من قونسه إلى سنبكه؛ فإنه يقال إن فيه عشرين اسما من أسماء الطير. قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ وأنشدك شعرا جامعا لها من قول أبي حزرة. قال: فأنشدنا لله أبوك. قال: فأنشدته: وأقبّ كالسّرحان تمّ له ... ما بين هامته إلى النّسر الأقب: اللاحق المخطف البطن، وذلك يكون من خلقة وربما حدث من هزال أو

بعد قود؛ والأنثى قبّاء، والجمع قبّ، والمصدر القبب. والسّرحان: الذئب، شبهه في ضموره وعدوه به، وجمعه سراحين: وقد قالوا: سراح. والهامة: أعلى الرأس، وهي أم الدماغ، وهي من أسماء الطير. والنسر: هو ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه كأنه النّوى والحصى، وهو من أسماء الطير، وجمعه نسور. رحبت نعامته ووفّر فرخه ... وتمكن الصّردان في النحر رحبت: اتسعت. ونعامته: جلدة رأسه التي تغطي الدماغ، وهي من أسماء الطير. وقوله «ووفّر فرخه» الفرخ: هو الدماغ، وهو من أسماء الطيور، ووفّر أي تمّم؛ يقال: وفّرت الشيء ووفرته، بالتخفيف، موفور. والصردان: عرقان في أصل اللسان، ويقال إنهما عرقان أخضران مكتنفان باطن اللسان، منهما الرّيق ونفس الرئة؛ وهما من أسماء الطير. وفي الظهر صرد أيضا، وهو بياض يكون في موضع السرج من أثر الدّبّر؛ يقال: فرس صرد إذا كان ذلك به. والنحر: موضع القلادة من الصدر، وهو البرك. وأناف بالعصفور من سعف ... هام أشمّ موثّق الجذر أناف: أشرف. والعصفور: أصل منبت الناصية. والعصفور أيضا: عظم ناتيء في كل جبين. والعصفور: من الغرر أيضا، وهي التي سالت ودّقت ولم تجاوز إلى العينين ولم تستدر كالقرحة؛ وهو من أسماء الطير. والسّعف، يقال: فرس بيّن السّعف، وهو الذي سالت ناصيته. وهام: أي سائل منتشر. وأشمّ: مرتفع؛ والشّمم في الأنف: ارتفاع قصبته. ويروى: هاد أشم. يريد عنقا مرتفعا، وجمعه هواد. وقوله: موثّق، أي شديد قويّ. والجذر: الأصل من كل شيء. قال الأصمعي وغيره: هو بالفتح. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو بالكسر. وازدان بالدّيكين صلصله ... ونبت دجاجته عن الصّدر ازدان: افتعل، من قولك زان يزين، وكان الأصل: ازتان، فقلبت التاء دالا لقرب مخرجها من مخرج الزاي، وكذلك ازداد، من زاد يزيد. والديكان: واحد هما ديك، وهو العظم الناتيء خلف الأذن، وهو الذي يقال له الخششاء والخشّاء. والصلصل: بياض في طرف الناصية: ويقال: هو أصل الناصية: والدجاجة: اللحم

الذي على زوره بين يديه؛ والديك والصلصل والدجاجة: من أسماء الطير. والناهضان أمرّ جلزهما ... فكأنما عثما على كسر الناهضان: واحدهما ناهض، وهو لحم المنكبين؛ ويقال: هو اللحم الذي يلي العضدين من أعلاهما؛ والجمع نواهض؛ ويقال في الجمع: أنهض، على غير قياس. والناهض: فرخ القطا، وهو من أسماء الطير. وقوله: أمرّ جلزهما: أي فتل وأحكم؛ يقال أمررت الحبل فهو ممرّ، أي فتلته؛ والجلز: الشدّ. وقوله: فكأنما عثما على كسر أي كأنهما كسرا ثم جبرا؛ يقال: عثمت يده. والعثم: الجبر على عقدة وعوج؛ وعثمان: فعلان منه. مسحنفر الجنبين ملتئم ... ما بين شيمته إلى الغرّ مسحنفر الجنبين: أي منتفخهما. ملتئم: أي معتدل. وشيمته: نحره والشيمة أيضا: من قولك: فرس أشيم: بيّن الشّيمة، وهي بياض فيه؛ ويقال: أن تكون شامة أو شام في جسده. والغرّ في الطير الذي يسمى الرخمة، وهي عضلة الساق. وصفت سماناه وحافره ... وأديمه ومنابت الشّعر السّماني: طائر، وهو موضع من الفرس لا أحفظه، إلا أن يكون أراد السّمامة، وهي دائرة تكون في سالفة الفرس، وهو عنقه. والسّمامة من الطير أيضا. والأديم: الجلد. وسما الغراب لموقعيه معا ... فأبين بينهما على قدر سما الغراب: أي ارتفع. والغراب: رأس الورك. ويقال للصّلوين: الغرابان، وهما مكتنفا عجب الذنب. ويقال: هما أعالي الوركين. والموقعان منه: في أعالي الخاصرتين. فأبين: أي فرّق بينهما. على قدر، أي على استواء واعتدال. واكتنّ دون قبيحه خطّافه ... ونأت سمامته عن الصّقر اكتنّ، أي استتر. والقبيح: ملتقى الساقين، ويقال إنه مركّب الذراعين في العضدين. والخطّاف: من أسماء الطير، وهو حيث أدركت عقب الفارس إذا حرّك

رجليه، ويقال لهذين الموضعين من الفرس: المركلان. ونأت. أي بعدت، والسّمامة: دائرة تكون في عنق الفرس، وقد ذكرناها، وهي من أسماء الطير. والصقر: أحسبها دائرة في الرأس، وما وقفت عليها، وهي من أسماء الطير. وتقدّمت عنه القطاة له ... فنأت بموقعها عن الحرّ القطاة: مقعد الرّدف، وهي من أسماء الطير؛ والحرّ: من الطير، يقال: إنه ذكر الحمام. وهي من الفرس: سواد يكون في ظاهر أذنبه. وسما على نقويه دون حداته ... خربان بينهما مدى الشّبر النّقوان: واحد هما نقو، والجمع أنقاء. وهو عظم ذو مخ، وإنما عنى ها هنا عظام الوركين؛ لأن الخرب هو الذي تراه مثل المدهن في ورك الفرس. وهو من الطير: ذكر الحبارى. والحدأة: من الطير: وأصله الهمز ولكنه خفّف، وهي سالفة الفرس، وجمعها حداء، على وزن فعال، كما تقول: عظاءة وعظاء؛ ويقال: عظاية. وإذا فتحت الفاء قلت حدأة، وهو الفأس ذات الرأسين، وجمعها حدأ، مثل نواة ونوى، وقطاة وقطا. يدع الرّضيم إذا جرى فلقا ... بتوائم كمواسم سمر الرّضيم: الحجارة. والفلق: المكسورة فلقا. بتوائم: جمع توأم، وقد قالوا: تؤام، على وزن فعال، جمع توأم؛ وهي على غير قياس. يقول: هي مثنى مثنى، يعني حوافره. والمواسم: جمع ميسم الحديد، أي إنها كمواسم الحديد في صلابتها. وقوله سمر: أي لون الحافر، وهو أصلب الحوافر. ركّبن في محض الشّوى سبط ... كفت الوثوب مشدّد الأسر الشوى ها هنا: القوائم، والواحدة شواة؛ ويقال: فرس محض الشوى، إذا كانت قوائمه معصوبة. سبط: سهل. كفت الوثوب. أي مجتمع، من قولك: كفتّ الشيء، إذا جمعته وتمّمته. مشدّد الأسر: أي الخلق. قال الأصمعي: فأمر لي بألف درهم.

لأبي العتاهية في المشمر فرس الرشيد

لأبي العتاهية في المشمر فرس الرشيد : وسبق يوما فرس للرشيد، يسمى المشمّر. وكان أجراه مع أفراس للفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد البرمكي. فقال أبو العتاهية: جاء المسمّر والأفراس يقدمها ... هونا على سرعة منها وما انتهرا «1» وخلّف الريح حسرى وهي تتبعه ... ومرّ يختطف الأبصار والنظرا لأبي النجم في الحلبة : وقال أبو النجم في شعر يصف الفرس، وهو أجود شعر يصف الحلبة: ثمّ سمعنا برهان نأمله ... قيد له من كلّ أفق جحفله فقلت للسّائس قده أعجله ... واغد لعنّا في الرّهان نرسله «2» نعلو به الحزن ولا نسهّله ... إذا علا الأخشب صاح جندله «3» ترنّم النّوّح يبكي مثكله ... كأنّ في الصّوت الذي يفصّله زمّار دفّ يتغنى جلجله ... حتى وزدنا المصر يطوى قنبله «4» طيّ التّجار العصب إذ تنخّله ... وقد رأينا فعلهم فنفعله «5» نطويه والطّيّ الرقيق يجدله ... نضمّر الشّحم ولسنا نهزله حتى إذا الليل تولّى أثجله ... واتّبع الأيدي منه أرجله «6» قمنا على هول شديد وجله ... نمدّ حبلا فوق خطّ نعدله «7» نقول قدّم ذا وهذا أدخله ... وقام مشقوق القميص يعجله فوق الخماسيّ قليلا يفضله ... أدرك عقلا والرّهان عمله «8»

حتى إذا أدرك خيلا مرسله ... ثار عجاج مستطير قسطله «1» تنفش منه الخيل ما لا تغزله ... مراّ يغطّيها ومراّ تنعله مرّ القطا انصبّ عليه أجدله ... وهو رخيّ البال سام وهله «2» قدّمه مثلا لمن يمتثله ... تطيره الجنّ وحينا ترجله تسبح أخراه ويطفو أوله ... ترى الغلام ساجيا ما يركله «3» يعطيه ما شاء وليس يسأله ... كأنّه من زبد يسربله في كرسف النّدّاف لولا بلله ... تخال مسكا عله معلله «4» ثم تناولنا الغلام تنزله ... عن مفرع الكتفين حلو عطله «5» منتفج الجوف عريض كلكله ... فوافت الخيل ونحن نشكله «6» والجنّ عكّاف به تقبّله وقال آخر في فرس أبي الأعور السّلمي: مرّ كلمع البرق سام ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره فما يمسّ الأرض منه حافره قول هذا أشبه من قول أبي النجم: لأنه يقول: تسبح أخراه ويطفو أوّله وقال الأصمعي: إذا كان الفرس كما قال أبو النجم فحمار الكسّاح «7» أسرع منه. لأن اضطراب مؤخره قبيح. وقال الأصمعي: كان أبو النجم وصّافا للخيل إلا أنه غلط في هذا البيت، وقد غلط رؤبة أيضا في الفرس فقال يصف قوائمه: يهوين شتّى ويقعن وفقا «8»

ولما أنشده مسلم بن قتيبة، قال له: أخطأت في هذا يا أبا الجحاف، جعلته مقيّدا. قال: قرّبني من ذنب البعير. وأنشد الأصمعي: قد أطرق الحيّ على سابح ... أسطع مثل الصّدع الأجرد لمّا أتيت الحيّ في متنه ... كأنّ عرجونا بمثنى يدي «1» أقبل يختال على شأوه ... يضرب في الأقرب والأبعد كأنّه سكران أو عابس ... أو ابن ربّ حدث المولد وقال غيره: أما إذا استقبلته فكأنه ... جذع سما فوق النّخيل مشذّب وإذا اعترضت له استوت أقطاره ... وكأنّه، مستدبرا، متصوّب وقال ابن المعتز: وقد يحضر الهيجاء في شنج النّسا ... تكامل في أسنانه فهو قارح «2» له عنق يغتال طول عنانه ... وصدر إذا أعطيته الجري سابح إذا مال عن أعطافه قلت شارب ... عناه بتصريف المدامة طافح وقال أيضا: ولقد وطئت الغيث يحملني ... طرف كلون الصّبح حين وقد يمشي ويعرض في العنان كما ... صدف المعشّق بالدلال وصد «3» طارت به رجل مرصّعة ... رجّامة لحصى الطريق ويد «4» فكأنه موج يسيل إذا ... أطلقته وإذا حبست جمد

الحلبة والرهان

الحلبة والرهان والحلبة: مجمع الخيل، ويقال: مجتمع الخيل، ويقال: مجتمع الناس للرهان؛ وهو من قولك: حلب بنو فلان على بني فلان وأحلبوا: إذا اجتمعوا. ويقال منه: حلب الحالب اللبن في القدح: أي جمعه فيه. والمقوس: الحبل الذي يمدّ في صدور الخيل عند الإرسال للسياق. والمنصبة: الخيل حين تنصب للإرسال. وأصل الرهان من الرهن، لأن الرجل يراهن صاحبه في المسابقة، يضع هذا رهنا وهذا رهنا، فأيهما سبق فرسه أخذ رهنه ورهن صاحبه. والرهان، مصدر راهنته مراهنة ورهانا، كما تقول: قاتلته مقاتلة وقتالا. وهذا كان من أمر الجاهلية، وهو القمار المنهيّ عنه. فإن كان الرهن من أحد هما بشيء مسمّى على أنه إن سبق لم يكن له شيء، وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن، فهذا حلال؛ لأن الرهن إنما هو من أحد هما دون الآخر؛ وكذلك إن جعل كل واحد منهما رهنا وأدخلا بينهما محلّلا، وهو فرس ثالث يكون مع الأولين، ويسمى أيضا الدّخيل ولا يجعل لصاحب الثالث شيء، ثم يرسلون الأفراس الثلاثة، فإن سبق أحد الأوّلين أخذ رهنه ورهن صاحبه فكان له طيبا، وإن سبق الدخيل أخذ الرهنين جميعا، وإن سبق هو لم يكن عليه شيء. ولا يكون الدخيل إلا رائعا جوادا، لا يأمنان أن يسبقهما؛ وإلا فهذا قمار، لأنهما كأنهما لم يدخلا بينهما محلّلا. قال الأصمعي: السابق من الخيل: الأول، والمصلّي: الثاني الذي يتلوه. قال: وإنما قيل له مصلّ، لأنه يكون عند صلوي السابق، وهما جانبا ذنبه عن يمينه وشماله؛ ثم الثالث والرابع لا اسم لواحد منهما إلى العاشر، فإنه يسمّى سكيتا. قال أبو عبيدة: لم نسمع في سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه اسما لشيء منها إلا الثاني والعاشر؛ فإن الثاني اسمه المصلّي، والعاشر السّكيت؛ وما سوى ذينك يقال له الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، ثم السّكيت ويقال السّكّيت، بالتشديد والتخفيف، فما جاء بعد ذلك لم يعتدّ به. والفسكل- بالكسر- الذي يجيء آخر

وصف السلاح

الخيل، والعامة تسميه الفسكل- بالضم. وقال أبو عبيدة: القاشور، الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل، وهو الفسكل، وإنما قيل للسّكيت؛ سكيت لأنه آخر العدد الذي يقف العادّ عليه. والسّكت: الوقوف، هكذا كانوا يقولون، فأما اليوم فقد غيّروا. وكان من شأنهم أن يمسحوا على وجه السابق. قال جرير: إذا شئتم أن تمسحوا وجه سابق ... جواد، فمدّوا في الرّهان عنانيا ومن قولنا في هذا المعنى: وإذا جياد الخيل ما طلها المدى ... وتقطّعت في شأوها المبهور «1» خلّوا عناني في الرّهان ومسّحوا ... منّي بغرّة أبلق مشهور «2» وصف السلاح درع عليّ : كانت درع عليّ صدرا لا ظهر لها، فقيل له في ذلك؛ فقال: إذا استمكن عدوّي من ظهري فلا يبق. ورؤي الجراح بن عبد الله قد ظاهر بين درعين، فقيل له في ذلك؛ فقال: لست أقي بدني وإنما أقي صبري «3» . واشترى زيد بن حاتم أدراعا وقال: إني لست أشتري أدراعا وإنما أشتري أعمارا. وقال حبيب بن المهلّب لبنيه: لا يقعدنّ أحدكم في السوق، فإن كنتم لا بدّ فاعلين، فإلى زراد، أو سرّاج، أو ورّاق.

بين عمر بن الخطاب وعمرو بن معد يكرب في الصمصامة

بين عمر بن الخطاب وعمرو بن معد يكرب في الصمصامة : العتبي قال: بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معد يكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصّمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك، فرّد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث بالساعد الذي يضرب به. وسأله عمر بن الخطاب يوما عن السلاح، فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: ما تقول في التّرس؟ قال: هو المجنّ الدائر، وعليه تدور الدوائر. قال: فما تقول في الرّمح؟ قال: أخوك وربما خانك فانقصف. قال: فالنّبل؟ قال: منايا تخطي وتصيب. قال: فما تقول في الدّرع؟ قال: مثقلة للراجل، متعبة للفارس، وإنها لحصن حصين. قال: فما تقول في السيف؟ قال: هناك لا أمّ لك يا أمير المؤمنين، فضربه عمر بالدّرة وقال: بل لا أمّ لك. قال: الحمى أضرعتني لك «1» . لابن يامين في الصمصامة : الهيثم بن عدي قال: وصف سيف عمرو بن معد يكرب الذي يقال له الصّمصامة لموسى الهادي، فدعا به فوضع بين يديه مجرّدا، ثم قال لحاجبه: إيذن للشعراء. فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا فيه، فبدرهم ابن يامين «2» فقال: حاز صمصامة الزّبيديّ عمرو ... من جميع الأنام موسى الأمين سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون أخضر المتن بين حدّيه نور ... من فرند تمتدّ فيه العيون أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم ساطت به الذّعاف القيون «3» فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين

الزبير بن العوام وسيف

فكأنّ الفرند والرّونق الجا ... ري في صفحتيه ماء معين وكأن المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون «1» نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي ... جاء يسطو به ونعم القرين ما يبالي من انتضاه لحرب ... أشمال سطت به أم يمين فأمر له ببدرة وخرجوا. الزبير بن العوام وسيف : وضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة فقطّه إلى القربوس؛ فقالوا: ما أجود سيفك! فغضب- يريد أن العمل ليده لا لسيفه- وقال: متى تلقني يعدو ببزّي مقلّص ... كميت بهيم أو أغرّ محجّل «2» تلاق امرء إن تلقه فبسيفه ... تعلّمك الأيام ما كنت تجهل وقال أبو الشّيص: ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفّين من قنّا ونصّال «3» في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال «4» لأبي الأغر يوصي ابنه : وبلغ أبا الأغر التميميّ أنّ أصحابه بالبادية قد وقع بينهم شر، فوجّه إليهم ابنه الأغرّ وقال: يا بنيّ، كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فإنه ظلّ الموت، واتق الرّمح فإنه رشاء المنيّة «5» ، ولا تقرب السهام فإنها رسل لا تؤامر مرسلها. قال: فماذا أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر: جلاميد يملأن الأكفّ كأنّها ... رءوس رجال حلّقت بالمواسم

وذكر أعرابيّ قوما تحاربوا فقال: أقبلت الفحول، تمشي مشي الوعول، فلما تصافحوا بالسيوف، فغرت «1» المنايا أفواهها. وقال آخر يذكر قوما أسروا: استنزلوهم عن الجياد بليّنة الخرصان «2» ، ونزعوهم نزع الدّلاء بالأشطان «3» . وقال أعرابي في آخرين ابتغوا قوما أغاروا عليهم، فقال: احتثّوا كل جماليّة عيرانة «4» ، كيما يخصفون أخفاف المطيّ بحوافر الخيل، حتى أدركوهم بعد ثالثة، فجعلوا المرّان أرشية المنايا فاستقوا بها أرواحهم. ومن أحسن ما قيل في السيف قول حبيب: ونبّهن مثل السيف لو لم تسلّه ... يدان لسلّته ظباه من الغمد وقال في صفة الرماح: مثقّفات سلبن الروم زرقتها ... والعرب ألوانها والعاشق القضفا «5» ومن الإفراط القبيح قول النابغة في وصف السيف: يقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه ... ويوقد في الصّفّاح نار الحباحب «6» فذكر أنه يقدّ الدرع المضاعف نسجه، والفارس، والفرس، ويقع بها في الأرض فيقدح النار من الحجارة. وأقبح منه في الإفراط قول الآخر: تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والقيدين والهادي «7»

لابن عبد ربه

وقد جمع العلويّ وصف الخيل والسلاح كله فأحسن وجوّد حيث يقول: بحسبي من مالي من الخيل أعيط ... سليم الشّظى عاري النّواهق أمعط «1» وأبيض من ماء الحديد مهنّد ... وأسمر عسّال الكعوب عنطنط «2» وبيضاء كالضّحضاح زغف مفاضة ... يكفّتها عنّي نجاد مخطّط «3» ومعطوفة الأطراف كبداء سمحة ... منفّجة الأعضاد صفراء شوحط «4» فيا ليت مالي غير ما قد جمعته ... على لجّة تيّارها يتغطغط «5» ويا ليتني أمسي على الدّهر ليلة ... وليس على نفسي أمير مسلّط لابن عبد ربه : ومن قولنا في وصف الرمح والسيف: بكلّ ردينيّ كأنّ سنانه ... شهاب بدا في ظلمة اللّيل ساطع تقاصرت الآجال في طول متنه ... وعادت به الآمال وهي فجائع وساءت ظنون الحرب في حسن ظنّه ... فهنّ ظبات للقلوب قوارع «6» وذي شطب تقضي المنايا بحكمه ... وليس لما تقضي المنيّة دافع فرند إذا ما اعتنّ للعين راكد ... وبرق إذا ما اهتز بالكفّ لامع يسلّل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع إذا ما التقت أمثاله في وقيعة ... هنالك ظنّ النفس بالنفس واقع ومن قولنا في وصف السيف:

النزع بالقوس

بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدب النّمل بالقاع يرتدّ طرف العين من حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع وقال إسحاق بن خلف البهراني في صفة السيف: ألقى بجانب خصره ... أمضي من الأجل المتاح وكأنما ذرّ الهبا ... عليه أنفاس الرّياح «1» ومن جيد صفات السيف قول الغنوي: حسام غداة الرّوع ماض كأنّه ... من الله في قبض النفوس رسول كأنّ على إفرنده موج لجّة ... تقاصر في ضحضاحه وتطول كأنّ جيوش الذّرّ كسّرن فوقه ... قرون جراد بينهن ذحول «2» النزع بالقوس إبراهيم الشيباني قال: كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل لسلطان أنه يعرض له ضيعة بواسط في مغرم لزمه للخليفة؛ فحمل وكيلا له على بغل وأترع «3» له خرجا بدنانير، وقال له: اذهب إلى واسط فاشتر لي هذه الضيعة المعروضة، فإن كفاك ما في هذا الخرج وإلا فاكتب إلى أمدّك بالمال. فخرج، فلما أصحر عن البيوت، لحق به أعرابي راكب على حمار معه قوس وكنانة؛ فقال له: إلى أين تتوجه؟ فقال: إلى واسط. قال: فهل لك في الصّحبة؟ قال: نعم. فسارا حتى فوّزا، فعنت لهما ظباء، فقال له الأعرابي: أيّ هذه الظباء أحبّ إليك: المتقدم منها أم المتأخر فأزكّيه «4» لك؟ قال له: المتقدم. فرماه فخرمه بالسهم، فاشتويا وأكلا، فاغتبط الرجل بصحبة الأعرابي، ثم عنّ له زفّة قطا، فقال: أيها تريد فأصرعها لك؟

بين لص ورام

فأشار إلى واحدة منها فرماها فأقصدها، ثم اشتويا وأكلا، فلما انقضى طعامهما فوّق له الأعرابي سهما ثم قال له: أين تريد أن أصيبك؟ فقال له: اتق الله واحفظ زمام الصحبة. قال: لابد منه! قال له: اتق الله ربك واستبقني، ودونك البغل والخرج فإنه مترع مالا. قال: فاخلع ثيابك. فانسلخ من ثيابه ثوبا ثوبا حتى بقي مجرّدا. قال له: اخلع أمواقك «1» . وكان لابسا خفّين طائفيّين، فقال له: اتق الله فيّ ودع لي الخفين أتبلّغ بهما من الحرّ، فإن الرّمضاء تحرق قدميّ. قال: لا بدّ منه. قال فدونك الخف فاخلعه. فلما تناول الخفّ، ذكر الرجل خنجرا كان معه في الخف، فاستخرجه ثم ضرب به صدره فشقه إلى عانته، وقال له: الاستقصاء فرقة. فذهبت مثلا. وكان هذا الأعرابي من رماة الحدق «2» . بين لص ورام : وحدّث العتبي عن بعض أشياخه قال: كنت عند المهاجر بن عبد الله والى اليمامة، فأتي بأعرابي كان معروفا بالسرق فقال له: أخبرني عن بعض عجائبك. قال: عجائبي كثيرة، ومن أعجبها أنه كان لي بعير لا يسبق، وكانت لي خيل لا تلحق، فكنت أخرج فلا أرجع خائبا، فخرجت يوما فاحترشت «3» ضبّا، فعلّقته على قتبي، ثم مررت بخباء ليس فيه إلا عجوز ليس معها غيرها، فقلت: يجب أن يكون لهذه رائحة من غنم وإبل. فلما أمسيت إذا بإبل مائة، وإذا شيخ عظيم البطن، شثن الكفين «4» ، ومعه عبد أسود، فلما رآني رحب بي، ثم قام إلى ناقة فاحتلبها، وناولني العلبة. فشربت ما يشرب الرجل، فتناول الباقي فضرب به جبهته، ثم احتلب تسع أينق فشرب ألبانهن، ثم نحر حوارا «5» فطبخه، فأكلت شيئا، وأكل الجميع حتى ألقى عظامه بيضا، وجثا على كومة من البطحاء وتوسدها ثم غط غطيط البكر. فقلت:

للنبي صلى الله عليه وسلم في الرمي

هذه والله الغنيمة، ثم قمت إلى فحل إبله فخطمته «1» : ثم قرنته ببعيري وصحت به، فاتّبعني الفحل واتّبعته الأبل إربابا به في قطار «2» ، فصارت خلفي كأنها حبل ممدود؛ فمضيت أبادر ثنيّة بيني وبينها مسيرة ليلة للمسرع، ولم أزل أضرب بعيري، مرة بيدي، ومرة برجلي، حتى طلع الفجر؛ فأبصرت الثنية، وإذا عليها سواد، فلما دنوت منه إذا الشيخ قاعد وقوسه في حجره! فقال: أضيفنا؟ قلت: نعم! قال: أتسخو نفسك عن هذه الإبل؟ قلت: لا. فأخرج سهمّا كأنه لسان كلب، ثم قال: انظره بين أذني الضبّ المعلّق في القتب. ثم رماه فصدع عظمه عن دماغه، فقال لي: ما تقول؟ قلت: أنا على رأيي الأول. قال: انظر هذا السهم الثاني في فقرة ظهره الوسطى، ثم رمى به فكأنما قدّره بيده ثم وضعه بأصبعه، ثم قال: رأيك؟ فقلت: إني أحب أن أستثبت. قال: انظر هذا السهم الثالث في عكوة ذنبه، والرابع والله في بطنك. ثم رماه فلم يخطيء العكوة؛ قلت: أنزل آمنا؟ قال: نعم. فدفعت إليه خطام فحله وقلت: هذه إبلك لم تذهب منها وبرة. وأنا أنظر متى يرميني بسهم يقصد به قلبي؛ فلما تباعدت قال: أقبل! فأقبلت والله فرقا من شره لا طمعا في خيره. فقال: ما أحسبك تجشمت الليلة ما تجشمت إلا من حاجة! قلت نعم. قال: فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض لطيّتك. قال: قلت: أما والله لا أمضي حتى أخبرك عن نفسك؛ فلا والله ما رأيت أعرابيا قط أشدّ ضرسا، ولا أعدى رجلا، ولا أرمى يدا، ولا أكرم عفوا، ولا أسخى نفسا، منك. فصرف وجهه عني حياء وقال: خذ الإبل برمتها مباركا لك فيها. للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الرمي : وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اركبوا وارموا؛ وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا» . وقال: «كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث: تأديبه فرسه ورميه عن كبد قوسه، وملاعبته امرأته؛ فإنه حق. إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد عامله المحتسب،

النبي صلى الله عليه وسلم ورماة من أسلم

والقويّ به في سبيل الله، أي والرامي به في سبيل الله» . وروي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو قائم على المنبر: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ «1» . ألا إنّ القوة الرمي. ألا إنّ القوة الرمي. ألا إنّ القوة الرمي. وكان أرمى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن أبي وقاص؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا له فقال: اللهم سدّد رميته، وأجب دعوته. فكان لا يردّ له دعاء، ولا يخيب له سهم. النبي صلّى الله عليه وسلّم ورماة من أسلم : وذكر أسامة بن زيد: أنّ شيوخا من أسلم حدّثوه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءهم وهم يرمون ببطحان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ارموا يا بني إسمعيل، فقد كان أبوكم راميا، وأنا مع ابن الأدرع. فتعدّى القوم فقالوا: يا رسول الله، من كنت معه فقد نضل «2» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرموا وأنا معكم كلكم. فانتضلوا ذلك اليوم ثم رجعوا بالسواء؛ ليس لأحد على أحد منهم فضل. لعمر بن الخطاب : وقال عمر: ائتزروا وارتدوا، وانتعلوا واحتفوا، وارموا الأغراض، والقوا الرّكب، وانزوا على الخيل نزوا «3» ، وعليكم بالمعدّيّة- أو قال: بالعربية- ودعوا التنعّم وزيّ العجم. وقال أيضا: لن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم. يعني نزوتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسيّ.

لرجل من البادية يذمر قومه

لرجل من البادية يذمر قومه : وجنى قوم من أهل اليمامة «1» جناية، فأرسل السلطان إليهم جندا من محاربة بن زياد. فقام رجل من أهل البادية يذمّر أصحابه فقال: يا معشر العرب، ويا بني المحصنات، قاتلوا عن أحسابكم وأنسابكم؛ فو الله لئن ظهر هؤلاء عليكم لا يدعون بها لبنة حمراء ولا نخلة خضراء إلا وضعوها بالأرض، ولا عتراكم من نشّاب معهم في جعاب كأنها أيور الفيلة ينزعون في قسّي كأنها الغبط «2» ، تئطّ «3» إحداهن أطيط الزّرنوق «4» ، يمعط «5» أحدهم فيها حتى يتفرّق شعر إبطيه، ثم يرسل نشّابة كأنها رشاء منقطع، فما بين أحدكم وبين أن تنفضخ عينه أو ينصدع قلبه منزلة. فخلع قلوبهم فطاروا رعبا. مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان هذا ما تراجع فيه المهديّ ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان، أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت، فحملتهم الدالة وما تقدّم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتووا بما عليهم من الخراج. وحمل المهديّ ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم «6» ، واغتفر زلّتهم، واحتمل دالّتهم؛ تطوّلا بالفضل، واتساعا بالعفو، وأخذا بالحجة، ورفقا بالسياسة؛ ولذلك لم يزل مذ حمّله الله أعباء الخلافة، وقلّده أمور

الرعية، رفيقا بمدار سلطانه، بصيرا بأهل زمانه، باسطا للمعدلة في رعّيته؛ تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه؛ فإذا وقعت الأقضية اللازمة، والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة «1» ؛ أثرة للحق، وقياما بالعدل، وأخذا بالحزم. فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه، والثقة بعفوه، أن كسروا الخراج، وطردوا العمال، وسألوا ما ليس لهم من الحقّ؛ ثم خلطوا احتجاجا باعتذار، وخصومة بإقرار، وتنصّلا باعتلال. فلما انتهى ذلك إلى المهدي، خرج إلى مجلس خلّائه، وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه، فأعلمهم الحال، واستنحصهم للرعية؛ ثم أمر الموالي بالابتداء؛ وقال للعباس بن محمد: أي عم، تعقّب قولنا، وكن حكما بيننا. وارسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي. وأمر محمد ابن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب. فقال سلّام صاحب دار المظالم: أيها المهدى، إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة، استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها وذهبت بهم، وعرفوا بها وعرفت بهم؛ ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية وطلبت معونتنا عليها: أقوام من أبناء الحرب، وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهزاهز «2» ، وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشحتهم سجالها، وفيّأتهم ظلالها، وعضّتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها «3» ؛ فلو عجمت ما قبلهم، وكشفت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيّد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوّي قلبك. فأما نحن معاشر عمّا لك، وأصحاب دو اوينك، فحسن بنا وكثير منّا أن نقوم بثقل ما حمّلتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك. فأجابه المهدي: إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حال تدبير يبطل الآخر الأوّل؛ ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.

قال: نعم أيها المهدي، أنت متسع الرأي، وثيق العقدة قوي المنّة «1» ، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الرّويّة، مؤيّد البديهة، موفّق العزيمة، معان بالظفر، مهديّ إلى الخير؛ إن هممت ففي عزمك مواقع الظنّ، وإن أجمعت صدع فعلك ملتبس الشك، فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك، وقل ينطق الله بالحق لسانك، فإن جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ. فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يهلك عليهما رأي، ولا يتفيّل «2» معهما حزم؛ فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم؛ فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك. قال الربيع: أيها المهدي، إنّ تصاريف وجوه الرأي كثيرة، وإن الإشارة ببعض معاريض القول «3» يسيرة؛ ولكنّ خراسان أرض بعيدة المسافة، متراخية الشّقة، متفاوتة السّبل، فإذا ارتأيت من محكم التّدبير، ومبرم التقدير، ولباب الصواب. رأيا قد أحكمه نظرك، وقلّبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب لحجة طاعن، ولا دونه متعلق لخصومة عائب، ثم خبّت «4» البرد به، وانطوت الرسل عليه. كان بالحرى ألّا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ما ينقضه؛ فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصادر أمورهم؛ فتحدث رأيا غيره، وتبتدع تدبيرا سواه، وقد انفرجت الحلق «5» ، وتحلّلت العقد، واسترخى الحقاب «6» ، وامتد الزمان. ثم لعلّما موقع الآخرة كمصدر الأولى. ولكن الرأي لك أيها المهدي وفّقك الله، أن تصرف إجالة النظر، وتقليب الفكر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين

فاضل، وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفا بهوى في سواك، ولا متهما في أثرة عليك، ولا ظنينا على دخلة مكروهة، ولا منسوبا إلى بدعة محذورة، فيقدح في ملكك، ويربّض الأمور لغيرك، ثم تسند إليه أمورهم، وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم، وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي، عند استحالة الأمور واستدارة الأحوال التي ينقص أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها، فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويت المكيدة، ونفذ العمل، وأحد النظر إن شاء الله. قال الفضل بن العباس: أيها المهدي، إن وليّ الأمور، وسائس الحروب، ربما نحّى جنوده، وفرّق أمواله، في غير ما ضيق أمر حزبه. ولا ضغطة حال اضطرّته، فيقعد عند الحاجة إليها ويعد التفرقة لها عديما منها، فاقدا لها، لا يثق بقوة، ولا يصول بعدّة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله، أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار وتغرير القتال. ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون، والإعطاء لما يسألون، فيفسد عليك أدبهم، وتجرّيء من رعيتك غيرهم؛ ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين، وخاتلهم بالرفق «1» ، وأبرق لهم بالقول، وأرعد نحوهم بالفعل، وابعث البعوث، وجند الجنود وكتّب الكتائب، واعقد الألوية، وانصب الرايات، وأظهر أنك موجّه إليهم الجيوش مع أحنق «2» قوادك عليهم، وأسوئهم أثرا فيهم، ثم ادسس الرسل، وابثث الكتب، وضع بعضهم على طمع من وعدك، وبعضا على خوف من وعيدك، وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، واغرس أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البغضة، ويدخل كلّا من كلّ الحذر والهيبة؛ فإن مرام الظفر بالغيلة، والقتال بالحيلة، والمناصبة بالكتب، والمكايدة بالرسل، والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب، القوي الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبنيّ على الّلين، الذي

يستميل القلوب، ويسترقّ العقول، ويسبي الآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المواتاة «1» - أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح: كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيّته بالحيل، ويفرّق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكم عملا وألطف نظرا وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال، والتغرير والخطار. وليعلم المهدي- وفقه الله- أنه إن وجه لقتالهم رجلا، لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج على حال شديدة، وتقدم على أسفار ضيقة، وأهوال متفرّقة، وقواد غششة «2» ، إن ائتمنهم استنفدوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له. قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره، وبرق ضوؤه، وتمثل صوابه للعيون، وتجسد حقه في القلوب، ولكن فوق كلّ ذي علم عليم. ثم نظر إلى ابنه عليّ فقال: ما تقول؟ قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يدا، ولم ينصبوا من دونك أحدا يكدح في تغيير ملكك، ويربّض «3» الأمور لفساد دولتك؛ ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال أدل؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه: ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكما، طلبوا حقا، وسألوا إنصافا؛ فإن أجبت إلى دعوتهم، ونفست عنهم قبل أن تتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب، وأطفأت نائرة الحرب «4» ، ووفّرت خزائن المال، وطرحت تغرير «5» القتال؛ وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجيّة حلمك، وإسجاح خليقتك «6» ، ومعدلة نظرك؛ فأمنت أن تنسب إلى ضعفة، وأن يكون ذلك لهم فيما بقي دربة. وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا،

اعتدلت بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته: مقرّين بمملكته، مذعنين لطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديّته، فيملّكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الجدل معهم، ثم يجازيهم السوء في جد المقارعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي- وفقه الله- الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب منهم، وأضعاف ما يدّعي قبلهم؛ ولو نالها فحملت إليه، أو وضعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان مما إليه ينسب وبه يعرف، من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرّة عينه ونهمة نفسه فيه. فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمّالنا وتحامل ولاتنا، فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف «1» ، وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة؛ فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم؛ وعظة لسواهم. فيعلم المهدي أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد، مقرّنين في الأصفاد، ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه، ولإقالة عثرتهم صفحه، واستبقاهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوّه، لما كان بدعا من رأيه، ولا مستنكرا من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا، وأشدّها وقعا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو، ولا يتكاءده «2» صفح، وإن عظم الذنب وجلّ الخطب. فالرأي للمهدي- وفقه الله تعالى- أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم، برّا بهم، وتوسّعا لهم، فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه، الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول. وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، ونعرّضوا له من معاصيه، وانطووا فيه عن إجابته؛ ومثله في قلة ما غيّر ذلك من رأيه فيهم، أو نقل من حاله لهم، أو تغيّر من نعمته بهم- كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما خبل عارض «3» ، ولهو حادث، فنهض

إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه؛ فلم يزدد أخوه إلا رقّة له، ولطفا به، واحتيالا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفا عليه، وبرّا به، ومرحمة له. فقال المهدي: أما عليّ فقد نوى اللّيان، وفضّ القلوب عن أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. ثم قال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه. فقال موسى: أيها المهدي، لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم. والحال من القوم تنادي بمضمرة شرّ، وخفيّة حقد، قد جعلوا المعاذير عليها سترا، واتخذوا العلل من دونها حجابا، رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير، والأمور بالتطويل، فيكسروا حيل المهدي فيهم، ويثنوا جنوده عنهم، حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادّتهم، وتستفحل حربهم، وتستمرّ الأمور بهم؛ والمهديّ من قوتهم في حال غرة «1» ! ولباس أمنة، قد فتر «2» لها، وأنس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت له قلوبهم، وبردت عليه جلودهم، من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع، عن داعية ضلال أو شيطان فساد، لرهبوا عواقب أحوال الولاة، وغبّ سكون الأمور. فليشدد المهدي- وفقه الله- أزره لهم، ويكتّب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشدّ ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة لفسادهم، وقوة على معصيتهم، وداعية إلى عودتهم، وسببا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود الذين إن أقرّهم على تلك العادة، وأجراهم على ذلك الأدب لم يبرح في فتق حادث، وخلاف حاضر، لا يصلح عليه دين، ولا تسقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدّربة، لم يصل إلى ذلك بالعقوبة المفرطة، والمئونة الشديدة. والرأي للمهدي- وفقه الله- ألّا يقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف. ويستحرّ «3» بهم القتل، ويحدق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويطبق عليهم الذل.

فإن فعل المهديّ بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم، وهزيمة لكل بادرة شرّ منهم. واحتمال المهدي مؤونة غزوتهم هذه يضع عنه غزوات كثيرة، ونفقات عظيمة. قال المهدي: قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل. فقال العباس بن محمد: أيها المهدي، أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدّوا أمورا قصّر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها. وأما الفضل فأشار بالأموال ألا تنفق، والجنود ألا تفرّق، وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا، ولا يبذل لهم ما سألوا، وجاء بأمر بين ذلك، استصغارا لأمرهم واستهانة بحربهم، وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها. وأما عليّ فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرّد الوالي لمن غمط «1» أمره وسفه حقّه، اللين بحتا، والخير محضا، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه، ولا بشر يحيشهم «2» إلى خيره؛ فقد ملّكهم الخلع لعذرهم «3» ووسّع لهم الفرجة لثنى أعناقهم، فإن أجابوا دعوته، وقبلوا لينه من غير ما خوف اضطرهم، ولا شدة حال أخرجتهم، لم يزل ذلك يهيج عزة في نفوسهم، ونزوة في رءوسهم، يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم؛ ويصرفون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته، ويسرعوا لإجابته بالّلين المحض والخير الصّراح، فذلك ما عليه الظنّ بهم، والرأي فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم؛ لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر، ولا تدركه الفكر، ولا تعلمه نفس؛ ثم دعا الناس إليها ورغّبهم فيها؛ فلولا أنه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة، لما أجابوا ولا قبلوا. وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدّة لا لين فيها، وأن يرموا بشرّ لا خير معه.

وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته، الخوف مفردا والشرّ مجردا، ليس معهما طمع يكسرهم، ولا لين يثنيهم، امتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحميّة من الشدة، والأنفة من الذلّة، والامتعاض «1» من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت؛ وإما أن ينقادوا بالكره، ويذعنوا بالقهر، على بغضة لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتعقب الشقاق، فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشدّ مما كان. وقال: في قول الفضل أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان. قد اجتمع رأيه، وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش، إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل. قال المهدي: ذلك رأي. قال هارون: خلطت الشدة أيها المهدي باللين، فصارت الشدة أمرّ فطام لما تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب؛ ولكن أرى غير ذلك. قال المهدي: لقد قلت قولا بديعا، وخالفت به أهل بيتك جميعا، والمرء متّهم بما قال، وظنين بما ادّعى، حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرج عما قلت. قال هارون: أيها المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم، فكان باطن ما يسرّون على ظاهر ما يعلنون؛ وربما افترقت الحالان، وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسرّ بمدخولة لا تعلن؛ والطبيب الرفيق بطبّه، البصير بأمره، العالم بمقدّم يده، وموضع ميسمه «2» ، لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء؛ فالرأي للمهدي- وفقه الله- أن يفرّ «3» باطن أمرهم فرّ المسنّة، ويمخض ظاهر حالهم

محض السّقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تهتك حجب غيوبهم، وتكشف أغطية أمورهم؛ فإن انفرجت الحال له وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه، وانقاد الرجال إليه، وامتدت الأعناق نحوه، بدين يعتقدونه. وإثم يستحلّونه، عصبهم بشدّة «1» . لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها، وإن انفرجت الغيوب، واهتصرت السّتور، ورفعت الحجب، والحال فيهم مريعة «2» ، والأمور بهم معتدلة، عن أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظلامات يّدعونها، وحقوق يسألونها، بماتّة سابقتهم، ودالّة مناصحتهم. فالرأي للمهدي- وفقه الله- أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويشعب «3» من أمرهم ما صدعوا، ويرتق من فتقهم ما فتقوا؛ ويولّي عليهم من أحبّوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم؛ فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي الحدب، الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوالّ رعيته، حتى يبرىء المريضة من داء علتها، ويرد الضالّة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة لهم ذالّة محمولة، وماتّة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله. فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التوعّر بهم «4» ، ولا المكافأة بإساءتهم؛ لأن مبادرة حسم الأمور ضيعفة قبل أن تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي وأصحّ في التدبير، من التأخير لها والتهاون بها، حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها. قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا، حتى خرج خروج القدح مما قال، وانسلّ انسلال السيف فيما ادعى، فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنّى بعده هارون، ولكن من لأعنّة الخيل، وسياسة الحرب، وقيادة الناس، إن أمعن بهم اللجاج، وأفرطت بهم الدالّة؟ «5»

قال صالح: لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك، وبعض لحظات نظرك؛ وليس ينفضّ عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم، ذو دين فاضل ورأي كامل، وتدبير قويّ، تقلده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت بحمد الله ميمون النقيبة، مبارك العزيمة، مخبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم؛ فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد تولّيه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب، وجمع لك منه ما تريد. قال المهدي: إني لأرجو ذلك. لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه. ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم. قال محمد بن الليث: أهل خراسان- أيها المهدي- قوم ذو وعزة ومنعة، وشياطين خدعة زرع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأنفة عليهم ظاهرة، فالرّويّة عنهم عازبة «1» ، والعجلة فيهم حاضرة، تسبق سيولهم مطرّهم، وسيوفهم عذلهم، لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يلجمون إلا بشدّة ولا يفطمون إلا بالقهر؛ وإن ولّى المهدي عليهم وضيعالم تنقد له العظماء، وإن ولّى أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء. وإن أخّر المهديّ أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه، أو بني عمه أو بني أبيه، ناصحا يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم «2» ، بلا أنفة تلزمهم، ولا حميّة تدخلهم، ولا عصبية تنفّرهم، تنفست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم، فدخل بذلك من الفساد الكبر والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جدّ ولا يستصلحه وإن جهد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير. وليس المهدي- وفقه الله- فاطما عاداتهم ولا قارعا صفاتهم «3» بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك،

ويد ممثّلة لعينك، وصخرة لا تزعزع، وبهمة لا ينثني «1» ، وبازل لا يفزعه صوت الجلجل «2» ، نقيّ العرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمّته، فجعل الغرض الأقصى لعينه نصبا، والغرض الأدنى لقدمه موطئا، فليس يغفل عملا، ولا يتعدّى أملا وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك رجل قد غذّي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك ونشأ على قويم أدبك؛ فإن قلدته أمرهم، وحمّلته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم: كان قفلا فتحه أمرك، وبابا أغلقه نهيك، فجعل العدل عليه وعليهم أميرا، والإنصاف بينه وبينهم حاكما. وإذا حكم النصفة وسلك المعدلة فأعطاهم مالهم وأخذ منهم ما عليهم، غرس لك في الذي بين صدورهم، وأسكن لك في السّويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق، باسقة الفروع، متمثّلة في حواشي عوامّهم، متمكنّة من قلوب خواصهم، فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه، ولا يلزمهم حق إلا أدّوه، وهذا أحد هما. والآخر عود من غيضتك، ونبعة «3» من أرومتك، فتيّ السنّ، كهل الحلم، راجح العقل، محمود الصّرامة، مأمون الخلاف، يجرّد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون، وهو فلان أيها المهدي، فسلّطه- أعزك الله- عليهم، ووجّهه بالجيوش إليهم، ولا تمنعك ضراعة سنّه «4» وحداثة مولده؛ فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة؛ وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصّكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس، كفراخ عتاق الطير «5» المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب؛ فالحلم والعلم والعزم والحزم

والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مستحكم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة. قال معاوية بن عبد الله: أفتاء «1» أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر، وأهل خراسان في حال عزّ على ما وصف. ولكن إن ولّى المهديّ عليهم رجلا ليس بقديم الذّكر في الجنود، ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء، دخل من ذلك أمران عظيمان، وخطران مهولان: أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترءون بها عليه في النّهوض به والمقارعة له والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره، والتكشّف لحاله، والعلم بطباعه. والأمر الآخر أن الجنود التي يقول، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة، ولم يعرفوه بالصّوت والهيبة؛ انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم. وربما وقع البوار قبل الاختبار. وبباب المهدي- وفقه الله- رجل مهيب نبيه حيك صيّت «2» ، له نسب زاك وصوت عال، قد قاد الجيوش، وساس الحروب، وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة «3» ، ووثقوا به كل الثّقة، فلو ولّاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم. قال المهدي: جانبت قصد الرّميّة، وأبيت إلا عصبية، إذ رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا، ولكن أين تركتم ولي العهد؟ قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جدّه، ونسيج وحده، ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله عز وجل قد حجب عن خلقه، وستر من دون عباده، علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري به المقادير، من حوادث الأمور وريب المنون، المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك؛ فكرهنا

شسوعه «1» عن محلة الملك، ودار السلطان، ومقرّ الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقرّ الجنود، وموضع الوجوه، ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبا لمدار الملك، ومصيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثوّار الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، وأبناء المروق؛ وقلنا: إن وجّه المهدي وليّ عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره، إلا أن ينهض إليهم بنفسه؛ وهذا خطر عظيم، وهول شديد؛ وإن تنفّست الأيام بمقامه، واستدامت الحال بأيامه، حتى يقع عرض لا يستغني فيه، أو يحدث أمر لابد فيه منه، صار ما بعده مما هو أعظم هولا وأجل خطرا. له تبعا وبه متّصلا. قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه؛ وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت. نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب، وتتابعت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره «2» عندنا، فبه ندبّر، وعلى الله نتوكل: إنه لا بدّ لوليّ عهدي- ووليّ عهدي عقبي بعدي- أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجّه نحوها بالجنود. أما الأول فإنه يقدّم إليهم رسله، ويعمل فيهم حيله، ثم يخرج نشطا إليهم، حنقا عليهم، يريد ألّا يدع أحدا من إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، إلا توطّأه بحرّ القتل، وألبسه قناع القهر، وطوّقه طوق الذّل. ولا أحدا من الذين عملوا في قصّ جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونصرة ولاة الحق، إلا أجرى عليهم ديم فضله، وجداول بذله، فإذا خرج مزمعا به مجمعا عليه؛ لم يسر إلا قليلا حتى يأتيه أن قد عملت حيله؛ وكدحت كتبه؛ ونفذت مكايده؛ فهدأت نافرة القلوب، ووقعت طائرة الأهواء «3» ، واجتمع عليه المختلفون بالرضا؛ فيميل نظرا لهم وبرّا بهم وتعطّفا عليهم، إلى عدوّ قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حجّاجهم بيت الله

الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال. وأما الآخر فإنه يوجه إليهم من يعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفرق بقرانها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة، وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت «1» بطاعتها، وألقت بأزمتها، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظلّ كرامته، وخصّها بعظيم حبائه، ثم عمّ الجماعة بالمعدلة؛ وتعطّف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين: ناحية يغلب عليهم الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته، وتبطيء عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث، وأبطأ من يوجّه، فيضطمر عليها موجده، «2» ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يجدها بحقّ يلزمهم؛ وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحرّفيهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبّع، حتى يخرب البلاد، ويؤتم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أمانا، ولا يقبل لهم عهدا، ولا يجعل لهم ذمة؛ لأنهم أول من فتح باب الفرقة، وتدرّع جلباب الفتنة، وربض «3» في شقّ العصا. ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوّادهم، ويطلب هرّابهم في لجج البحار، وقلل الجبال، وخمر الأودية، وبطون الأرض، تقتيلا وتغليلا وتنكيلا؛ حتى يدع الدّيار خرابا، والنّساء أيامى. وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحّح منه غير ما قلنا تفسيرا. وأما موسى ولي عهدي، فهذا أوان توجّهه إلى خراسان، وحلوله بجرجان؛ وما قضى الله له من الشخوص «4» إليها والمقام فيها، خير للمسلمين مغبّة، وله بإذن الله عاقبة، من المقام بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا،

فيتصاغر عظيم فضله، ويتذأب «1» مشرق نوره، ويتقلل كثير ما هو كائن منه فمن يصحبه من الوزراء ومن يختار له من الناس؟ قال محمد بن الليث: أيها المهدي، إن وليّ عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علما قد تثنّت نحوه أعناقها، ومدّت سمته أبصارها، وقد كان لقرب داره منك، ومحلّ جواره لك، عطل الحال، غفل الأمر، واسع العذر، فأما إذا انفرد بنفسه، وخلا بنظره، وصار إلى تدبيره، فإن من شأن العامة وأمراء الأمة أن تتفقد مخارج رأيه، وتستنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله، في برّه ومرحمته، وإقساطه ومعدلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه، ثم يكون ما سيق إليهم أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدّها استمالة لرأيهم، وعطفا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي- وفقه الله- ناظرا له فيما يقوّي عمد مملكته، ويسدّد أركان ولايته، ويستجمع رضا أمته، بأمر هو أزين لحاله، وأظهر لجماله، وأفضل مغبّة لأمره، وأجلّ موقعا في قلوب رعيته، وأحمد حالا في نفوس أهل ملّته. ولا أوقع مع ذلك باستجماع الأهواء له؛ وأبلغ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمة تظهر من فعله، ومعدلة تنتشر عن أثره، ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهديّ- وفقه الله- من خيار أهل كل بلدة، وفقهاء أهل كلّ مصر. أقواما تسكن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا، ثم تسهّل لهم عمارة سبل الإحسان؛ وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه. قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى؛ فقال: أي بنيّ، إنك قد أصبحت لسمت عيون العامة نصبا «2» ، ولمثنى أعطاف الرعية غاية، فحسنتك شاملة، وإساءتك نامية، وأمرك ظاهر. فعليك بتقوى الله وطاعته، فاحتمل سخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما؛ فإن الله عزّ وجلّ كافيك من أسخطه عليك إيثارك رضاه؛ وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان عترة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا

لنصرة حقه، يجدّد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذهم لأولياء دينه أنصارا، وعلى إقامة عدله أعوانا، يسدّون الخلل، ويقيمون الميل، ويدفعون عن الأرض الفساد؛ وإنّ أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونصرف نزول العظائم بمناصحتهم، وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم. فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها «1» ، وحتوف الأعداء إذا أبرزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها؛ قد مضت لهم وقائع صادقات؛ ومواطن صالحات، أخمدت نيران الفتن، وقصمت دواعي البدع، وأذلّت رقاب الجبّارين، ولم ينفكّوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظلّ دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعزّ الله بها ذلّتهم، ورفع بها ضعتهم، وجعلهم بها أربابا في أقطار الأرضين، وملوكا على رقاب العالمين، بعد لباس الذّل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء، ومحالفة الأسى، وجهد البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك. ثم اعرف لهم حقّ طاعتهم، ووسيلة دالّتهم، وماتة «2» سابقتهم، وحرمة مناصحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم. أي بنيّ؛ ثم عليك العامة. فاستدع رضاها بالعدل عليها. واستجلب مودّتها بالإنصاف لها، وتحسّن بذلك لربك، وتزيّن به في عين رعيّتك، واجعل عمال القدر، وولاة الحجج، مقدّمة بين يدي عملك، ونصفة منك لرعيتك؛ وذلك أن تأمر قاضي كل بلد، وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا لأنفسهم رجلا تولّيه أمرهم، وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم، فإن أحسن حمدت، وإن أساء عذرت. هؤلاء عمال القدر؛ وولاة الحجج. فلا يضيعنّ عليك ما في ذلك- إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع- من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، إطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور، ولا ينفكنّ في ظل كرامتك نازلا، وبعرا «3» حبلك متعلّقا،

باب في مداراة العدو

رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح. والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام، وتصريف الرأي، وأنحاء الأدب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب، وتصاريف الخطوب، يضع آدابا نافعة، وآثارا باقية، من تجميل محاسنك، وتحسين أمرك، وتحلية ذكرك. فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك. فرجل أصبته كذلك فهو يأوى إلى محلّتي، ويرعى في خضرة جناني؛ ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار. أقواما يكونون جيرانك وسمارك، وأهل مشاورتك فيما تورد، وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله، أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديا ينطق بالخير لسانك. وكتب في شهر ربيع الآخرة سنة سبعين ومائة ببغداد «1» . باب في مداراة العدوّ في كتاب للهند: أن العدو الشديد الذي لا تقوى له لا تردّ بأسه عنك بمثل الخشوع والخضوع له، كما أنّ الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه معها. وقالوا: ازفن «2» للقرد في دولته. أخذه الشاعر فقال: لا تعبدن صنما في فاقة نزلت ... وازفن بلا حرج للقرد في زمنه وقال أحمد بن يوسف الكاتب: إذا لم تقدر أن تعضّ يد عدوّك فقبّلها.

التحفظ من العدو وإن أبدى لك المودة

وقال سابق البلويّ: وداهن إذا ما خفت يوما مسلّطا ... عليك، ولن يحتال من لا يداهن «1» وقالت الحكماء: رأس العقل مغافصة «2» الفرصة عند إمكانها. والانصراف عما لا سبيل إليه. وقال الشاعر: بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون التحفظ من العدوّ وإن أبدى لك المودّة قالت الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه، وكن أشدّ ما تكون حذرا منه ألطف ما يكون مداخلة لك؛ فإنما السلامة من العدوّ بتباعدك منه، وانقباضك عنه. وعند الأنس إليه والثقة [به] تمكّنه من مقاتلك. قالوا: لا تطمئنّ إلى العدو وإن أبدى لك المقاربة، وإن بسط لك وجهه وخفض «3» لك جناحه؛ فإنه يتربّص بك الدوائر، ويضمر لك الغوائل ولا يرتجي صلاحا إلا في فسادك، ولا رفعة إلا بسقوط جاهك. للاخطل يحذر بني أمية : كما قال الأخطل: بني أميّة إني ناصح لكم ... فلا يبيتنّ فيكم آمنا زفر «4» وأتخذوه عدوّا إنّ شاهده ... وما تغيّب من أخلاقه دعر «5»

بين معاوية وابن الزبير

إنّ الضّغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر «1» وفي كتاب الهند: الحازم يحذر عدوّه على كل حال: يحذر المواثبة إن قرب والمعاودة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولّى، والكرّة إن فرّ. وأوصى بعض الحكماء ملكا فقال: لا يكوننّ العدوّ الذي كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته، فإنه ربما تخوّف الرجل السّمّ الذي هو أقتل الأشياء، وقتله الماء الذي هو محيي الأشياء؛ وربما تخوّف أن تقتله الملوك التي تملكه، ثم تقتله العبيد التي يملكها. ولم يقل أحد في العدوّ المندمل «2» على العداوة مثل قول الأخطل: إنّ الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر وقد أشار الحسن بن هانيء إلى هذا المعنى فأجاده حيث يقول: وابن عمّ لا يكاشفنا ... قد لبسناه على غمره «3» كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النار في حجره «4» وشبهوا العدوّ إذا كان هذا فعله بالحية المطرقة. قال ابن أخت تأبّط شرّا: مطرق يرشح موتا كما ... أطرق أفعى ينفث السّم صلّ» بين معاوية وابن الزبير : وقال عبد الله بن الزّبير لمعاوية- ويقال معاوية قالها لعبد الله بن الزبير-: مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول الشجر. وفي كتاب الهند: إذا أحدث لك العدوّ صداقة لعلة ألجأته إليك، فمع ذهاب

باب من أخبار الأزارقة

العلّة رجوع العداوة، كالماء تسخّنه فإذا أمسكت عنه عاد إلى أصله باردا والشجرة المرّة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مرّا. وقال دريد: وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النّظر المريض من الصحيح وقال زهير: وما يك في صديق أو عدوّ ... تخبّرك العيون عن القلوب وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره حتى يرى في عدوه ما يسرّه. باب من أخبار الأزارقة كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل عليّ رضي الله عنه، حوثرة الأقطع؛ فإنه خرج إلى النّخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج، ومعاوية بالكوفة، وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة؛ ثم خرج الحسن يريد المدينة؛ فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه، يسأله أن يكون المتولّي لمحاربتهم. فقال الحسن عليه السلام: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، وما أحسب ذلك يسعني؛ فكيف أن أقاتل قوما أنت أولى بالقتال منهم؟ فلما رجع الجواب إليه وجّه إليهم جيشا أكثره من أهل الكوفة، ثم قال لأبي حوثرة. تقدّم فاكفني أمر ابنك. فسار إليه أبوه، فدعاه إلى الرجوع، فأبى، فداوره فصمّم. فقال له: أي بنيّ، أجيئك بابنك لعلّك تراه فتحنّ إليه! فقال له: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلّب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني. فرجع إلى معاوية فأخبره، فقال: يا أبا حوثرة، جار هذا جدا. فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله! أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدّوا سلطانه. واليوم تقاتلون معه لتشدّوا سلطانه؟ ثم جعل يشدّ عليهم ويقول: احمل على هذي الجموع حوثرة ... فعن قريب ستنال المغفرة

مرداس ومقتله

فحمل عليه رجل من طيء فقتله، فرأي أثر السجود قد لوّح جبهته، فندم على قتله: مرداس ومقتله : وكان مرداس أبو بلال قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنكر التحكيم، وشهد النّهروان ونجا فيمن نجا. فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى شدّة الطلب للشّراة «1» ، عزم على الخروج، فقال لأصحابه: إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل مفارقين للفضل. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإنّ تجريد السيف وإخافة السبيل لشديد؛ ولكنا ننتبذ «2» عنهم ولا نجرّد سيفنا ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا، منهم: حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصّريمي، فأرادوا أن يولّوا أمرهم حريثا فأبى، فولوا أمرهم مرداسا، فلما مضى بأصحابه لقيهم عبد الله بن رباح الأنصاري، وكان له صديقا؛ فقال له: يا بن أخي، أين تريد؟ فقال: أريد أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. قال له: أعلم أحد بكم؟ قال: لا. قال: فارجع. قال: أو تخاف عليّ مكروها؟ قال: نعم، وأن يؤتى بك. قال: فلا تخف. فإني لا أجرد سيفا ولا أخيف أحدا ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك؛ فمرّ به مال يحمل إلى ابن زياد وقد بلغ أصحابه الأربعين، فحطّ ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقي، وقال: قولوا لصاحبكم إنما أخذنا أعطياتنا. فقال له أصحابه: لماذا تترك الباقي؟ قال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة، فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة. فوجّه إليهم ابن زياد أسلم بن زرعة الكلابيّ في ألفين، فلما وصل إليهم، قال له مرداس: اتق الله يا أسلم، فإنا لا نريد قتالا ولا نروّع أحدا؛ وإنما هربنا من الظّلم،

ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. قال: لابد من ردّكم إلى ابن زياد. قال: وإن أراد قتلنا؟ قال: وإن أراد قتلكم. قال: فتشرك في دمائنا؟ قال: نعم. فشدّوا عليه شدّة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه. ثم وجه إليهم ابن زياد عبّادا، فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلّي [وتصلوا] «1» . فوادعوهم؛ فلما دخلوا في الصلاة شدّوا عليهم فقتلوهم، وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد. فقال عمران بن حطّان يرثي أبا بلال: يا عين بكّي لمرداس ومصرعه ... يا ربّ مرادس اجعلني كمرداس أبقيتني هائما أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس «2» أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إمّا شربت بكأس دار أوّلها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكلّ من لم يذقها شارب عجلا ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس وليس في الفرق كلها وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج، ولا أكثر اجتهادا، ولا أوطن «3» أنفسا على الموت؛ منهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول: عجلت إليك ربّ لترضى. ولما مالت الخوارج إلى أصبهان حاصرت بها عتّاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم وكان مع عتّاب بن ورقاء رجل يقال له: شريح. ويكنى أبا هريرة، فكان يخرج إليهم في يوم فيناديهم: يا بن أبي الماحوز والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار «4» شدّ أبي هريرة الهرّار ... يعروكم بالليل والنّهار وهو من الرّحمن في جوار

فتعاظمهم ذلك. فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنّت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا تواقفوا ينادونهم: ما فعل الهرار؟ فيقولون: ما به من بأس. حتى أبلّ «1» من علّته، فخرج إليهم فقال؛ يا أعداء الله! أترون بي بأسا؟ فصاحوا: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية. فلما طال الحصار على عتّاب، قال لأصحابه: ما تنتظرون؟ إنكم والله ما تؤتون من قلّة؛ وإنكم فرسان عشائركم؛ ولقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم؛ وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائرهم فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه! فقاتلوا القوم وبكم قوة، من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح صلى بهم الصبح، ثم خرج إلى الخوارج وهم غارّون، وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين! ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي. قال: فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم. فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله، فقتلوا أميرهم الزبير بن عليّ، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتّاب بن ورقاء. وخرج قريب بن مرة الأزدي وزحّاف الطائي، وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد فاعترضا الناس، فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد بالسيف، فناداه الناس من بعض البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا حروريّة نحن الشّرط. فوقف فقتلوه. وبلغ أبا بلال خبرهما، وكان على دين الخوارج إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس، فقال: قريب، لا قرّبه الله من الخير، وزخّاف، لا عفا الله عنه، فلقد ركباها عشواء مظلمة «2» .

زياد والخوارج

ثم جعلا لا يمرّان بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها، حتى مرّا ببني عليّ بن سود، من الأزد، وكانوا رماة، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رميا شديدا، فصاحوا: يا بني عليّ، البقيا، لا رماء بيننا. فقال رجل منهم: لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة في غلس الظلام فهربت عنهم الخوارج؛ فاشتقّوا مقبرة بني يشكو حتى خرجوا إلى مزينة، واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم. زياد والخوارج : ثم عاد الناس إلى زياد، فقال: ألا ينهى كلّ قوم سفهاءهم؟ فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فبهم أوثقوه وأتوا به زيادا، منهم من يحبسه ومنهم من يقتله. ولزياد أخرى في الخوارج: أنه أتي بامرأة منهم، فقتلها ثم عرّاها، فلم تخرج النساء إلا بعد زياد، وكنّ إذا أرغمن على الخروج قلن: لولا التّعرية لسارعنا. ومن مشاهير فرسان الخوارج: عمرو القنا، من بني سعد بن زيد مناة؛ وعبيدة بن هلال، من بني يشكر بن بكر بن وائل، وهو الذي طعن صاحب المهلّب في فخذه؛ فشكّها مع السرج؛ وهما اللذان يقول فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلّب، وكان قال له مولاه خلاج: وددت أنّا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرّهم فأستلب منه جاريتين، إحداهما لك والأخرى لي: أخلاج إنك لن تعانق طفلة ... شرقا بها الجاديّ كالتّمثال «1» حتى تعانق في الكتيبة معلما ... عمرو القنا وعبيدة بن هلال «2» وترى المقعطر في الكتيبة مقدما ... في عصبة قسطوا مع الضّلّال «3»

للمهلب في نفر من الخوارج

والمقعطر: من مشاهير فرسانهم، وقطريّ، أنجدهم قاطبة؛ وصالح بن مخراق، من بهمهم، وكذلك سعد الطلائع. للمهلب في نفر من الخوارج : ولما اختلف أمر الخوارج وانحاز قطريّ فيمن معه وبقي عبد ربّه، قال المهلّب لأصحابه: إن الله تعالى قد أراحكم من أقران أربعة: قطريّ بن الفجاءة، وصالح بن مخراق، وعبيدة بن هلال، وسعد الطلائع؛ وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار «1» من خشار الشيطان. تعطش الخوارج إلى القتال : وكانت الخوارج تقاتل على السوط يؤخذ منها والعلق الخسيس «2» أشدّ قتال، وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل من مراد من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يرتجز: الّليل ليل فيه ويل ويل ... وسال بالقوم الشّراة السّيل إن جاز للأعداء فينا قول وتفرقت مقالة الخوارج على أربعة أضرب: فقال نافع بن الأزرق: باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعليّ وطلحة والزبير، واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضّبعيّ: إن أعداءنا كأعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يحلّ لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقام المسلمون بين المشركين. وأقول: إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز، لأنهم منافقون يظهرون الإسلام وإن حكمهم عند الله حكم المشركين. وقال عبد الله بن إباض: لا نقول فيمن خالفنا إنه مشرك، لأن معهم التوحيد

والإقرار بالكتاب والرسول، وإنما هم كفّار للنّعم، ومواريثهم ومناكحهم والإقامة معهم: حلّ، ودعوة الإسلام تجمعهم. وقالت الصّفريّة بقول عبد الله بن إباض، ورأت القعود، حتى صار عامتهم قعدا، وإنما سمّوا صفرية لاصفرار وجوههم، وقيل: لأنهم أصحاب ابن الصّفّار.

كتاب الزبرجدة في الاجواد والأصفاد

كتاب الزبرجدة في الاجواد والأصفاد فرش كتاب الزبرجدة قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، تغمده الله برحمته: قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال، وتقدّم الرجال، على منازلهم من الصبر والجلد، والعدّة والعدد. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد، إذ كان أشرف ملابس الدنيا وأزين حللها وأجلبها لحمد، وأدفعها لذمّ، وأسترها لعيب: كرم طبيعة يتحلى بها السمح السريّ، والجواد السخي. ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسمّى بها، فهو الكريم عز وجل. ومن كان كريما من خلقه، فقد تسمّى باسمه، واحتذى على صفته. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وفي الحديث المأثور: «الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» . وقال الحسن والحسين عليهما السلام لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. قال: بأبي وأمي أنتما، إنّ الله قد عوّدني أن يتفضّل عليّ، وعوّدته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني. وقال المأمون لمحمد بن عبّاد المهلّبي: أنت متلاف «1» ! قال: منع الجود سوء ظّن

مدح الكرم وذم البخل

بالمعبود. يقول الله عز وجل: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «1» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا» . مدح الكرم وذمّ البخل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اصطناع المعروف يقي مصارع السوء» . وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق ويبغض سفسافها «2» » . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لقوم من العرب: «من سيّدكم؟ قالوا الجدّ بن قيس على بخل فيه. فقال صلّى الله عليه وسلّم: وأي داء أدوأ من البخل» . وقال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «3» . وقال أكثم بن صيفيّ حكيم العرب: ذلّلوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلّموها المكارم، ولا تقيموا على خلق تذمّونه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتحلّوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل فتتعجلوا الفقر. أخذه الشاعر فقال: أمن خوف فقر تعجّلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغنيّ ... وما كنت تعدو الذي تصنع سخى وبخيل : وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوّفه الفقر. فردّ عليه: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً

من خطبة لخالد القسري

مِنْهُ وَفَضْلًا «1» وإني أكره أن أترك أمرا قد وقع، لأمر لعله لا يقع. من خطبة لخالد القسري : وكان خالد بن عبد الله القسري يقول على المنبر: أيها الناس، عليكم بالمعروف؛ فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه؛ وما ضعفت الناس عن أدائه قوي الله على جزائه. أخذه من قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس «2» وأخذه الحطيئة من بعض الكتب القديمة: يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام: من يفعل الخير يجده عندي، لا يذهب العرف بيني وبين عبدي. من خطبة لسعيد بن العاص : وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا فلينفق منه سرّا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به؛ فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين: إمّا لمصلح فلا يقل عليه شيء، وإما لمفسد فلا يبقى له شيء. أخذخ الشاعر فقال: أسعد بمالك في الحياة فإنّما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد فإذا جمعت لمفسد لم يغنه ... وأخو الصلاح قليله يتزيّد قال أبو ذر: إن لك في مالك شريكين: الحدثان «3» والوارث: فإن استطعت ألّا تكون أبخس الشركاء حظاّ فافعل. وقال بزرجمهر الفارسي: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها، فإنها لا تفنى؛ وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى.

لكسرى في الأسخياء

أخذ الشاعر هذا المعنى فقال: لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التّبذير والسّرف وإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف لكسرى في الأسخياء : وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن الظنّ بالله تعالى، ولو أنّ أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بخلهم ومذمّة الناس لهم وإطباق «1» القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنهم بربّهم في الخلف، لكان عظيما وأخذ هذا المعنى محمود الورّاق فقال: من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظنّ المرء بالله بين موسى والهادي وابن يزيد : محمد بن يزيد بن عمرة بن عبد العزيز قال: خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان، فقال لي: إمّا أن تحملني وإما أن أحملك. ففهمت ما أراد، فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري. أوصيكم بالله أوّل وهلة ... وأحسابكم، والبرّ بالله أوّل وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم ... وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا وإن أنتم أعوزتم فتعفّفوا ... وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا فأمر لي بعشرين ألفا. وقال عبد الله بن عباس: سادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء. قال أبو مسلم الخولاني: ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه، وما كلّ من قدر على المعروف كانت له نيّة؛ فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة. وأنشد:

لأبي عقيل في مروان

إنّ المكارم كلّها حسن ... والبذل أحسن ذلك الحسن كم عارف بي لست أعرفه ... ومخبّر عنّي ولم يرني يأتيهم خبري وإن بعدت ... داري وبوعد عنهم وطني إني لحرّ المال ممتهن ... ولحرّ عرضي غير ممتهن «1» وقال خالد بن عبد الله القسري: من أصابه غبار مركبي فقد وجب عليّ شكره. وقال عمرو بن العاص: والله لرجل ذكرني، ينام على شقّة ثمرة وعلى شقة أخرى، يراني موضعا لحاجته، لأوجب عليّ حقا إذا سألنيها مني إذا قضيتها له. وقال عبد العزيز بن مروان: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده، فيده عندي أعظم من يدي عنده. وأنشد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا طارقات الهمّ ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الّليل والّليل عاكر «2» وباكرني في حاجة لم يكن لها ... سواي ولا من نكبة الدّهر ناصر فرجت بمالي همّه عن خناقه ... وزاوله الهمّ الطّروق المساور وكان له فضل عليّ بظنّه ... بي الخير إنّي للّذي ظنّ شاكر لأبي عقيل في مروان : وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة أشدّ من حاجة صاحب الحاجة. وقال زياد: كفى بالبخل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قطّ، وكفى بالجود مجدا أن اسمه لم يقع في ذم قط. وقال آخر:

الترغيب في حسن الثناء واصطناع المعروف

ألا تراني وقد قطّعتني عذلا ... ماذا من الفضل بين البخل والجود إلّا يكن ورق يوما أراح به ... للخابطين فإني ليّن العود لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إمّا نوالا وإما حسن مردود قوله «إلا يكن ورق» يريد المال، وضربه مثلا. ويقال: أتى فلان فلانا يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائبة، فجعل طالب الرزق مثل الخابط. قال أسماء بن خارجة: ما أحب أن أردّ أحدا في حاجة طلبها، لأنه لا يخلو أن يكون كريما فأصون له عرضه، أو لئيما فأصون عرضي منه. وقال أرسطا طاليس: من انتجعك «1» من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك. الترغيب في حسن الثناء واصطناع المعروف قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربّه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء» . من عمر إلى أبي موسى : وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أنّ مالك عند الله مثل ما للناس عندك. وقيل لبعض الحكماء: ما أفادك الدهر؟ قال: العلم به. قيل: فما أحد الأشياء؟ قال: أن تبقي للإنسان أحدوثة حسنة. وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «2» إنه أراد حسن الثناء من بعده.

لابن عبد ربه

وقال أكثم بن صيفي: إنما أنتم أخبار فطيّبوا أخباركم. أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فقال: وما ابن آدم إلّا ذكر صالحة ... أو ذكر سيئة يسرى بها الكلم أما سمعت بدهر باد، أمّته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم «1» وقال أبو بكر محمد بن دريد: وإنّما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى وقالوا: الأيام مزارع، فما زرعت فيها حصدته. لابن عبد ربه : ومن قولنا في هذا المعنى وغيره من مكارم الأخلاق: يا من تجلّد للزّما ... ن أما زمانك منك أجلد سلّط نهاك على هوا ... ك وعدّ يومك ليس من غد إن الحياة مزارع ... فازرع بها ما شئت تحصد والناس لا يبقى سوى ... آثارهم والعين تفقد أو ما سمعت بمن مضى ... هذا يذمّ وذاك يحمد المال إن أصلحته ... يصلح وإن أفسدت يفّسد وقال الأحنف بن قيس: ما ادّخرت الآباء للأبناء، ولا أبقت الموتى للأحياء، شيئا أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب. وقالوا: تربيب المعروف أولى من اصطناعه؛ لأنّ اصطناعه نافلة، «2» وتربيبه فريضة. وقالوا: أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظّمه بالتّصغير له.

عروة بن أدية في صلبه

وقالت الحكماء: من تمام كرم المنعم التغافل عن حجته، والاقرار بالفضيلة لشاكر نعمته. وقالوا: للمعروف خصال ثلاث: تعجيله وتيسيره وستره، فمن أخلّ بواحدة منها فقد بخس «1» المعروف حقه وسقط عنه الشكر. وقيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك؟ قال: من كانت له عندي يد صالحة. قيل: فإن لم تكن له؟ قال: فمن كانت لي عنده يد صالحة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه، فإن لم يقم بتلك المؤونة عرّض النعمة للزوال» . عروة بن أدية في صلبه : أبو اليقظان قال: أخذ عبيد الله بن زياد عروة بن أديّة أخا أبي بلال، وقطع يده ورجله، وصلبه على باب داره؛ فقال لأهله وهو مصلوب: انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم، فإنهم أضيافكم. ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال: لأن أقضي حاجة لأخ لي، أحبّ إليّ من عبادة سنة. بين السندي وكوفي ذي مروءة : وقال إبراهيم بن السّندي: قالت لرجل من أهل الكوفة، من وجوه أهلها، كان لا يجف لبده «2» ، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضّعفاء وكان رجلا مفوّها؛ فقلت له: أخبرني عن الحالة التي خفّفت عنك النّصب «3» وهوّنت عليك التعب في القيام بحوائج الناس، ما هي؟ قال قد والله

لجعفر بن محمد

سمعت تغريد الطير بالأسحار، في فروع الأشجار، وسمعت خفق أوتار العيدان، وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قط، طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ المنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر. قال إبراهيم: فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرما. لجعفر بن محمد : إسماعيل بن مسرور عن جعفر بن محمد «1» قال: إن الله خلق خلقا من رحمته برحمته لرحمته، وهم الذين يقضون الحوائج للناس، فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن. الجود مع الإقلال قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن الأنصار: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل العطية ما كان من معسر إلى معسر» . وقال عليه الصلاة والسلام: «أفضل العطية جهد المقلّ» . وقالت الحكماء: القليل من القليل أحمد من الكثير إلى الكثير. أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في أبيات كتب بها إلى الحسن بن وهب الكاتب وأهدى إليه قلما: قد بعثنا إليك أكرمك الله ب ... يء فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندى كفّك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل «3» واستجز قلّة الهديّة منّي ... إنّ جهد المقلّ غير قليل

لأبي هريرة في جعفر بن أبي طالب

وقالوا: جهد المقلّ أفضل من غني المكثر. وقال صريع الغواني: ليس السّماح لمكثر في قومه ... لكن لمقتر قومه المتحّمد لأبي هريرة في جعفر بن أبي طالب : وقال أبو هريرة: ما وددت أن أحدا ولدتني أمّه إلا أم جعفر بن أبي طالب؛ تبعته ذات يوم وأنا جائع، فلما بلغ الباب التفت فرآني، فقال لي: ادخل، فدخلت؛ ففكّر حينا فما وجد في بيته شيئا إلا نحيا «1» كان فيه سمن مرّة، فأنزله من رف لهم، فشقّه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والزيت، وهو يقول: ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلّا بما تجد وقيل بعض الحكماء: من أجود الناس؟ قال: من جاد من قلّة، وصان وجه السائل عن المذلّة. وقال حماد عجرد: أورق بخير تؤمّل للجزيل فما ... ترجى الثّمار إذا لم يورق العود إنّ الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياّ وهو مجهود بثّ النّوال ولا تمنعك قلّته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود «2» وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود وقال حاتم: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحلّ جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنّما وجه الكريم خصيب

العطية قبل السؤال

وقال عبد الملك بن مروان: ما كنت أحب أنّ أحدا ولدني من العرب إلا عروة بن الورد لقوله: أتهزأ مني سمنت وأن ترى ... بجسمي مسّ الجوع والجوع جاهد لأني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد أقسّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد «1» ومن أحسن ما قيل في الجود مع الإقلال قول صريع: فلو لم يكن في كفّه غير روحه ... لجاد بها فليتّق الله سائله ومن أفرط ما قيل في الجود قول بكر بن النطّاح: أقول لمرتاد النّدى عند مالك ... تمسّكّ بجدوى مالك وصلاته «2» فتى جعل الدّنيا وقاء لعرضه ... فأسدى بها المعروف قبل عداته «3» فلو خذلت أمواله جود كفّه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته وإن لم يجز في العمر قسم لمالك ... وجاز له أعطاه من حسناته وجاد بها من غير كفر بربّه ... وأشركه في صومه وصلاته وقال آخر في هذا المعنى وأحسن: ملأت يدي من الدنيا مرارا ... وما طمع العواذل في اقتصادي ولا وجبت عليّ زكاة مال ... وهل تجب الزّكاة على الجواد العطية قبل السؤال قال سعيد بن العاص: قبح الله المعروف إن لم يكن ابتداء من غير مسألة، فالمعروف عوض من مسألة الرجل إذا بذل وجهه، فقلبه خائف، وفرائصه ترعد، وجبينه يرشح؛ لا يدري أيرجع بنجح الطلب، أم بسوء المنقلب، قد انتقع «4» لونه،

بين ابن أبي سبرة وأبي الأسود

وذهب دم وجهه. اللهم فإن كانت الدنيا لها عندي حظّ فلا تجعل لي حظا في الآخرة. وقال أكثم بن صيفي: كل سؤال وإن قلّ أكثر من كل نوال وإن جلّ. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: من كانت له إليّ منكم حاجة فليرفعها في كتاب، لأصون وجوهكم عن المسألة. حبيب قال: عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الرّاغبين بمائها «1» وقال حبيب أيضا: ذلّ السّؤال شجا في الحلق معترض ... من دونه شرق من خلفه جرض «2» ما ماء كفّك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أفنيته عوض إنّي بأيسر ما أدنيت منبسط ... كما بأكثر ما أقصيت منقبض وقالوا: من بذل إليك وجهه فقد وفّاك عن نعمتك. وقالوا: أكمل الخصال ثلاث: وقار بلا مهابة، وسماح بلا طلب مكافأة، وحلم بغير ذلّ. وقالوا: السخي من كان مسرورا ببذله، متبرعا بعطائه، لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله، ولا طلب مكافأة فيسقط شكره، ولا يكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر: لا يريد نفعها ولكن نفع نفسه. بين ابن أبي سبرة وأبي الأسود : نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع، فقال له: ما أصبرك على هذا القميص؟ فقال له: ربّ مملوك لا يستطاع فراقه. فبعث إليه

بين معاوية وابن صوحان في الجود

بتخت من ثياب. فقال أبو الأسود: كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وإنّ أحقّ الناس إن كنت شاكرا ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر بين معاوية وابن صوحان في الجود : وسأل معاوية صعصعة بن صوحان: ما الجود؟ فقال: التبرّع بالمال، والعطّية قبل السؤال. لابن عبد ربه : ومن قولنا في هذا المعنى: كريم على العلّات جزل عطاؤه ... ينيل وإن لم يعتمد لنوال «1» وما الجود من يعطي إذا ما سألته ... ولكنّ من يعطي بغير سؤال وقال بشّار العقيلي: مالكيّ ينشقّ عن وجهه الجد ... ب كما انشقت الدّجى عن ضياء فثجوج السماء فيض يديه ... لقريب ونازح الدار ناء «2» ليس يعطيك للرّجاء وللخو ... ف ولكن يلذّ طعم العطاء لا ولا أن يقال شيمته الجو ... د ولكن طبائع الآباء وقال آخر: إن بين السّؤال والإعتذار ... خطّة صعبة على الأحرار وقال حبيب: لئن جحدتك ما أوليت من نعم ... إني لفي اللؤم أمضى منك في الكرم

استنجاح الحوائج

أنسى ابتسامك والألوان كاسفة ... تبسّم الصّبح في داج من الظّلم «1» رددت رونق وجهي في صحيفته ... ردّ الصّقال بهاء الصّارم الخذم «2» وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي! استنجاح الحوائج عادتهم في ذلك : كانوا يستفتحون حوائجهم بركعتين يقولون فيهما: اللهم بك أستنجح، وباسمك أستفتح، وبمحمد نبيّك إليك أتوجه، اللهم ذلّ لي صعوبته، وسهّل لي حزونته، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عنّي من الشر أكثر مما أخاف. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «استعينوا على حوائجكم بالكتمان لها، فإنّ كل ذي نعمة محسود» . وقال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها من غير أهلها، فإنّ الحوائج تطلب بالرجاء، وتدرك بالقضاء. وقال: مفتاح نجح الحاجة الصبر على طول المدة. ومغلاقها اعتراض الكسل دونها. قال الشاعر: إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وقلّ من جدّ في أمر يحاوله ... واستصحب الصّبر إلا فاز بالظّفر ومن أمثال العرب في هذا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له. أخذ الشاعر هذا المعنى فقال: إن الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا «3»

لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا تضايق أمر أن ترى فرجا أخلق بذي الصّبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا «1» وقال خالد بن صفوان: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشدّ من المصيبة سوء الخلف منها. وقالوا: صاحب الحاجة مبهوت، وطلب الحوائج كلّها تعزير «2» . وقالت: الحكماء: لا تطلب حاجتك من كذّاب؛ فإنه يقرّ بها بالقول ويبعدها بالفعل؛ ولا من أحمق، يريد نفعك فيضرّك؛ ولا من رجل له أكلة من جهة رجل، فإنه لا يؤثر حاجتك على أكلته. وقال دعبل بن علي الخزاعي: جئتك مسترفدا بلا سبب ... إليك إلّا بحرمة الأدب «3» فاقض ذمامي فإنني رجل ... غير ملحّ عليك في الطّلب وقال شبيب بن شيبة: إني لأعرف أمرا لا يتلاقى به اثنان إلا وجب النّجح بينهما. قيل له: وما ذاك؟ قال: العقل؛ فإن العاقل لا يسأل ما لا يمكن، ولا يردّ عما يمكن. وقال الشاعر: أتيتك لا أدلي بقربى ولا يد ... إليك سوى أنّي بجودك واثق فإن تولني عرفا أكن لك شاكرا ... وإن قلت لي عذرا أقل أنت صادق «4» وقال الحسن بن هانيء: فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإنّي عاذر وشكور

بين ابن واسع وأمير

وقال آخر: لعمرك ما أخلقت وجها بذلته ... إليك ولا عرضته للمعاير فتى وفّرت أيدي المكارم عرضه ... عليه وخلّت ماله غير وافر بين ابن واسع وأمير : ودخل محمد بن واسع على بعض الأمراء فقال: أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنا كريمين، وإن شئت لم تقضها وكنّا لئيمين. أراد: إن قضيتها كنت أنت كريما بقضائها وكنت أنا كريما بسؤالك إباها؛ لأني وضعت الطّلبة في موضعها؛ فإن لم تقضها كنت أنت لئيما بمنعك وكنت أنا لئيما بسوء اختياري لك. وسرق حبيب هذا المعنى فقال: عيّاش إنك للّئيم وإنّني ... مذ صرت موضع مطلبي للئيم عبد الله بن طاهر وسوار القاضي : ودخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فقال: أصلح الله الأمير: لنا حاجة والعذر فيها مقدّم ... خفيف معنّاها مضاعفة الأجر «1» فإن تقضها فالحمد لله وحده ... وإن عاق مقدور ففي أوسع العذر «2» قال له: ما حاجتك أبا عبد الله؟ قال: كتاب لي: إن رأى الأمير أكرمه الله- أن ينفذه في خاصته، كتب إلى موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي. قال: أو غير ذلك أبا عبد الله؟ نعجّلها لك من مالك، وإذا وددت كنت مخيّرا بين أن تأخذ أو تردّ. فأنشد سوار يقول: فبابك أيمن أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره وكفّك حين ترى المجتدي ... ن أندى من الّليلة الماطره

أبو حازم الأعرج وسلطان في حاجة

وكلبك آنس بالمعتفين ... من الأمّ بابنتها الزّائره «1» أبو حازم الأعرج وسلطان في حاجة : ودخل أبو حازم الأعرج على بعض أهل السلطان فقال: أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن يأذن الله في قضائها قضيتها وحمدناك، وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها وعذرناك. وفي بعض الحديث: «اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه» . أخذه الطائي فنظمه في شعره فقال: قد تأوّلت فيك قول رسول الله ... إذ قال مفصحا إفصاحا إن طلبتم حوائجا عند قوم ... فتنقّوا لها الوجوه الصّباحا فلعمري لقد تنقّيت وجها ... ما به خاب من أراد النّجاحا بين المنصور وطالب حاجة : قال المنصور لرجل دخل عليه: سل حاجتك فإنك لست تقدر على هذا المقام في كل حين. قال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين، ما أستقصر عمرك ولا أخاف بخلك، وإنّ عطاءك لشرف، وإن سؤالك لزين، وما بامريء بذل إليك وجهه نقص ولا شين «2» . فوصله وأحسن إليه. استنجاز المواعد كلمات في معنى هذا العنوان : من أمثالهم في هذا: أنجز حرّ ما وعد. وقالوا: وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف. وقال الزّهري: حقيق على من أورق بوعد أن يثمر بفعل.

لجبار في عامر ابن الطفيل

وقال المغيرة: من أخر حاجة فقد ضمنها. وقال الموبذان الفارسي: الوعد السحابة، والإنجاز المطر. وقال غيره: المواعيد رءوس الحوائج والإنجاز أبدانها. وقال عبد الله بن عمر: خلف الوعد ثلث النفاق، وصدق الوعد ثلث الإيمان، وما ظنّك بشيء جعله الله مدحة في كتابه، وفخرا لأنبيائه، فقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «1» . لجبار في عامر ابن الطفيل : وذكر جبار بن سلمى عامر بن الطّفيل فقال: كان والله إذا وعد الخير وفى، وإذا وعد الشر أخلف. وهو القائل: ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي ... ويأمن منّي سطوة المتهدّد «2» وإني وإن أوعدته أو وعدته ... ليكذب إيعادي ويصدق موعدي وقال ابن أبي حازم: إذا قلت في شيء «نعم» فأتمّه ... فإنّ «نعم» دين على الحرّ واجب وإلا فقل «لا» تسترح وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب ولو لم يكن في خلف الوعد إلا قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «3» لكفى. وقال عمر بن الحارث: كانوا يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ويفعلون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون، فزعم أنهم ضنّوا بالكذب فضلا عن الصدق.

بين عبد الملك وابن أم الحكم

وفي هذا المعنى يقول الحسن بن هانىء: قال لي ترضى بوعد كاذب؟ ... قلت إن لم يك شحم فنفش «1» ومثله قول عباس بن الأحنف، ويقال إنها لمسلم بن الوليد صريع الغواني: ما ضرّ من شغل الفؤاد ببخله ... لو كان علّلني بوعد كاذب «2» صبرا عليك فما أرى لي حيلة ... إلّا التّمسّك بالرجاء الخائب سأموت من كمد وتبقى حاجتي ... فيما لديك ومالها من طالب بين عبد الملك وابن أم الحكم : قال عبد الرحمن بن أم الحكم لعبد الملك بن مروان في مواعيد وعدها إياه فمطله «3» بها: نحن إلى الفعل أحوج منا إلى القول، وأنت بالإنجاز أولى منك من المطل، واعلم أنك لا تستحق الشكر إلا بإنجازك الوعد واستتمامك المعروف. بين عيسى بن موسى وابن معن : القاسم بن معن المسعودي قال: قلت لعيسى بن موسى: أيها الأمير، ما انتفعت بك منذ عرفتك، ولا أوصلت لي خيرا منذ صحبتك. قال: ألم أكلّم لك أمير المؤمنين في كذا وأسأله لك كذا؟ قال: قلت: بلى، فهل استنجزت ما وعدت، واستتممت ما بدأت؟ قال: حال من دون ذلك أمور قاطعة، وأحوال عاذرة. قلت: أيها الأمير، فما زدت على أن نبّهت العجز من رقدته، وأثرت الحزن من ربضته، إنّ الوعد إذا لم يشفعه إنجاز يحقّقه، كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه. وقال عبد الصمد بن الفضل الرقاشي لخالد بن ديسم عامل الرّي: أخالد إن الريّ قد أجحفت بنا ... وضاق علينا رحبها ومعاشها وقد أطمعتنا منك يوما سحابة ... أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها

بين بشار وسلم

فلا غيمها يصحو فييئس طامعا ... ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها بين بشار وسلم : وقال سعيد بن سلم: وعد أبي بشارا العقيلي حين مدحه بالقصيدة التي يقول فيها: صدّت بخدّ وجلت عن خدّ ... ثم انثنت كالنّفس المرتدّ «1» فكتب إليه بشار بالغد: ما زال ما منّيتني من همّي ... الوعد فأرح من غمّي إن لم ترد مدحي فراقب ذمّي فقال له أبي: يا أبا معاذ، هلا استنجزت الحاجة بدون الوعيد! فإذا لم تفعل فتربّص ثلاثا وثلاثا؛ فإني والله ما رضيت بالوعد حتى سمعت الأبرش الكلبي يقول لهشام: يا أمير المؤمنين؛ لا تصنع إليّ معروفا حتى تعدني؛ فإنه لم يأتني منك سيب «2» على غير وعد إلا هان عليّ قدره وقلّ مني شكره. فقال له هشام: لئن قلت ذلك لقد قاله سيد أهلك أبو مسلم الخولاني: «إن أوقع المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد معروف منتظر، بوعد لا يكدّره المطل» . يحيى بن خالد وقضاء الحوائج : وكان يحيى بن خالد بن برمك لا يقضي حاجة إلا بوعد، ويقول: من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما. وقالوا: الخلف ألأم من البخل لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذمّ اللؤم وحده، ومن وعد وأخلف لزمه ثلاث مذمّات: ذمّ اللؤم، وذمّ الخلف، وذمّ الكذب. وقال زياد الأعجم: لله درّك من فتى ... لو كنت تفعل ما تقول

ابن دأب عند المهدي

لا خير في كذب الجوا ... د وحبّذا صدق البخيل استبطأ حبيب الطائي الحسن بن وهب في عدة وعدها إياه، فكتب إليه أبياتا يستعجله بها؛ فبعث إليه بألف درهم وكتب إليه: أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... قلّا ولو أخّرته لم يقلل فخذ القليل وكن كمن لم يسأل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل ابن دأب عند المهدي : وقال عبد الملك بن مالك الخزاعي: دخلت على أمير المؤمنين المهدي وعنده ابن دأب وهو ينشد قول الشماخ: وأشعث قد قدّ السّفار قميصه ... يجرّ شواء بالعصا غير منضج «1» دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلّج» فتى يمريء الشّيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكميّ المدجّج «3» فتى ليس بالرّاضي بأدني معيشة ... ولا في بيوت الحيّ بالمتولّج فرفع المهديّ رأسه إليّ وقال: هذه صفتك أبا العباس. فقلت: بك نلتها يا أمير المؤمنين. قال: فأنشدني. فأنشدته قول المسموءل: إذا المرء لم يدنس من الّلؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها ... فليس إلى حسّن الثّناء سبيل «4» إذا المرء أعيته المروءة يافعا ... فمطلبها كهلا عليه ثقيل «5» تعيّرنا أنا قليل عدادنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل ونحن أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول «6»

للمهلب يوصي بنيه

يقترب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منّا سيّد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل «1» تسيل على حدّ السّيوف نفوسنا ... وليست على غير السّيوف تسيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل «2» وأسيافنا في كلّ شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول «3» فقال: أحسنت، اجلس، بهذا بلغتم، سل حاجتك. قلت: يا أمير المؤمنين، تكتب لي العطاء ثلاثين رجلا من أهلي. قال: نعم، عليّ إذا وعدت، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك متمكّن من القدرة وليس دونك حاجز عن الفعل؛ فما معنى العدة؟ فنظر إلى ابن دأب يريد منه كلاما في فضل الموعد، فقال ابن دأب: حلاوة الفعل بوعد ينجز ... لا خير في العرف كنهب ينهز «4» فضحك المهدي وقال: الفعل أحسن ما يكو ... ن إذا تقدّمه ضمان للمهلب يوصي بنيه : وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بنيّ، إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلّما فكفى بذلك تقاضيا. وقال الشاعر: أروح بتسليمي عليك وأغتدي ... وحسبك بالتّسليم منّي تقاضيا وقال آخر:

عبد الله بن طاهر ودعبل

كفاك مخبرا وجهي بشاني ... وحسبك أن أراك وأن تراني وما ظنّي بمن يعنيه أمري ... ويعلم حاجتي ويرى مكاني وكتب العتابي إلى بعض أهل السلطان: أما بعد؛ فإن سحاب وعدك قد أبرقت، فليكن وبلها سالما من علل المطل. والسلام. وكتب الجاحظ إلى رجل وعده: أما بعد فإن شجرة وعدك قد أورقت فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل «1» . والسلام. عبد الله بن طاهر ودعبل : وعد عبد الله بن طاهر دعبلا بغلام، فلما طال عليه تصدّى له يوما وقد ركب إلى باب الخاصّة، فلما رآه قال: أسأت الاقتضاء، وجهلت المأخذ، ولم تحسن النظر، ونحن أولى بالفضل؛ فلك الغلام والدابة متى ننزل إن شاء الله تعالى. فأخذ بعنانه دعبل وأنشده: يا جواد الّلسان من غير فعل ... ليت في راحتيك جود الّلسان عين مهران قد لطمت مرارا ... فاتّق ذا الجلال في مهران عرت عينا فدع لمهران عينا ... لا تدعه يطوف في العميان قال: فنزل له عن دابته، وأمر له بالغلام. أبان وخلف ابن خليفة : وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد جارية، فوعده بها وأبطأت عليه، فكتب إليه: أرى حاجتي عند الأمير كأنّها ... تهمّ زمانا عنده بمقام وأحصر من إذ كاره إن لقيته ... وصدق الحياء ملجم بلجام أراها إذا كان النهار نسيئة ... وبالّليل تقضى عند كلّ منام «2»

لابن عبد ربه

فياربّ أخرجها فإنك مخرج ... من الميت حيّا مفصحا بكلام فتعلم ما شكري إذا ما قضيتها ... وكيف صلاتي عندها وصيامي وكتب أبو العتاهية إلى رجل وعده بعدة ومطله بها. لا جعل الله لي إليك ولا ... عندك ما عشت حاجة أبدا ما جئت في حاجة أسرّ بها ... إلا تثاقلت ثمّ قلت غدا وكتب دعبل إلى رجل وعده وعدا وأخلفه: أحسبت أرض الله ضيّقة ... عني فأرض الله لم تضق وجعلتني فقعا بقرقرة ... فوطئتني وطئا على حنق «1» فإذا سألتك حاجة أبدا ... فاضرب بها قفلا على غلق وأعدّ لي غلّا وجامعة ... فاجمع يديّ بها إلى عنقي «2» ما أطول الدّنيا وأوسعها ... وأدلّني بمسالك الطّرق لابن عبد ربه : ومن قولنا في رجل كتب إليّ بعدة في صحيفة ومطلني بها: صحيفة طابعها الّلوم ... عنوانها بالجهل مختوم يهدى لها والخلف في طيّها ... والمطل والتّسويف والّلوم من وجهه نحس ومن قربه ... رجس ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن بتّ ضيفا له ... فخبزه في الجوف هاضوم «3» تكلمه الألحاظ من رقّة ... فهو بلحظ العين مكلوم «4» لا تأتدم شيئا على أكله ... فإنه بالجوع مأدوم «5»

لطيف الاستمناح

وقلت فيه: صحيفة كتبت ليت بها وعسى ... عنوانها راحة الرّاجي إذا يئسا وعد له هاجس في القلب قد برمت ... أحشاء صدري به من طول ماهجسا «1» براعة غرّني منها وميض سني ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا «2» فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا «3» كأنما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا وقلت فيه: رجاء دون أقربه السّحاب ... ووعد مثل ما لمع السراب وتسويف يكلّ الصّبر عنه ... ومطل ما يقوم له حساب «4» وأيام خلت من كلّ خير ... ودنيا قد توزّعها الكلاب لطيف الاستمناح قالت الحكماء: لطيف الاستمناح سبب النجاح، والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال، وانقبضت وامتنعت بجفاء «5» السائل؛ كما قال الشاعر: وجفوتني فقطعت عنك فوائدي ... كالدّرّ يقطعه جفاء الحالب وقال العتابي: إن طلبت حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه، وإياك والإلحاح عليه؛ فإنّ إلحاحك يكلم «6» عرضك ويريق ماء وجهك، فلا تأخذ منه عوّضا لما يأخذ منك؛ ولعلّ الإلحاح يجمع عليك إخلاق ماء الوجه، وحرمان النجاح؛ فإنه ربما ملّ المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب.

بين مروان ابن أبي حفصة وابن يزيد

وقال الحسن بن هانيء: تأنّ مواعيد الكرام فربّما ... حملت من الإلحاح سمحا على بخل وقال آخر: إن كنت طالب حاجة فتجمّل ... فيها بأحسن ما طلبت وأجمل إنّ الكريم أخا المروءة والنّهى ... من ليس في حاجاته بمثقّل بين مروان ابن أبي حفصة وابن يزيد : وقال مروان بن أبي حفصة: لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي فأخذت بعنان دابّته وقلت له: إني قلت فيك ثلاثة أبيات أريد بكل بيت منها مائة ألف. قال: هات لله أبوك، فأنشأت أقول: يا أكرم الناس من عجم ومن عرب ... بعد الخليفة يا ضرغامة العرب «1» أفنيت مالك تعطيه وتنهبه ... يا آفة الفضة البيضاء والذهب إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقا ... لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب عبد الملك ونفر من بني أمية : المدائني قال: قدم قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن ممن تعرف، وحقّنا ما لا ينكر، وجئناك من بعيد، ونمتّ «2» بقريب، ومهما تعطنا فنحن أهله. الرشيد وعبد الملك بن صالح : دحل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال: أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة؟ قال: بل بالقرابة والخاصة. قال: يداك يا أمير المؤمنين أطلق من لساني بالمسألة، فأعطاه وأجزل له.

الحجاج والشعبي

ودخل أبو الرّيان على عبد الملك بن مروان، وكان عنده أثيرا، فرآه خائرا «1» ، فقال: يا أبا الريان، مالك خائرا؟ قال: أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين! قال: كيف ذلك؟ قال: نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر. قال عبد الملك: ما أحسن ما استمنحت واعتررت «2» يا أبا الريّان. أعطوه كذا وكذا. الحجاج والشعبي : العتّابي قال: كتب الشّعبي إلى الحجاج يسأله حاجة، فاعتلّ عليه «3» ، فكتب إليه الشّعبي: والله لا عذرتك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين. فقضى حاجته. وكان جدّ الحجاج لأمه عروة بن مسعود الثقفي. معاوية وابن زرارة : العتبي قال: قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية فقال: إني لم أزل أهزّ ذوائب الرّحال إليك، فلم أجد معوّلا إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأسم «4» المجاهل بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، والمجتهد يعذر، وإذا بلغتك فقطني «5» . فقال: احطط عن راحلتك. يزيد بن المهلب وكريز : ودخل كريز بن زفر بن الحارث على يزيد بن المهلب فقال: أصلح الله الأمير، أنت أعظم من أن يستعان بك ويستعان عليك، ولست تفعل من الخير شيئا إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه، ولا العجب أن تفعل، ولكن العجب ألا تفعل. قال: سل حاجتك. قال: حملت عن عشيرتي عشر ديات. قال: قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها.

حاتم الطائي وسائل حاجة

حاتم الطائي وسائل حاجة : العتبي عن أبيه قال: أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال: إنها وقعت بيني وبين قوم ديات، فاحتملتها في مالي وأملي، فعدمت مالي وكنت أملي، فإن تحملها عني فربّ همّ قد فرجته، وغمّ كفيته، ودين قضيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمّ يومك، ولم أيأس من غدك. فحملها عنه. خالد القسري وسائل : المدائني قال: سأل رجل خالدا القسري حاجة، فاعتل عليه، فقال له: لقد سألت الأمير من غير حاجة. قال: وما دعاك إلى ذلك؟ قال: رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء؛ فأردت أن أتعلّق منك بحبل مودة. فوصله وحباه وأدنى مكانه. المنصور والهجري : الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجريّ على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي «1» ، وأنتم أهل البيت بركة، فلو أذنت لي فقبّلت رأسك لعل الله يشدّد لي منه! قال: اختر منها أو من الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين. أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألّا تبقى حاكّة في فمي. فضحك المنصور وأمر له بجائزة. أبو دلف وجار له : وذكروا أن جارا لأبي دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح، حتى احتاج إلى بيع داره، فساوموه بها، فسألهم ألفي دينار؛ فقالوا له: إنّ دارك تساوي خمسمائة. قال: وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة! فبلغ أبا دلف؛ فأمر بقضاء دينه وقال له: لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا.

قيس بن سعد وامرأة

قيس بن سعد وامرأة : ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان. قال: ما أحسن هذه الكناية! املأوا لها بيتها خبزا ولحما وسمنا. المنصور وأزهر السمان : إبراهيم بن أحمد عن الشّيباني قال: كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستترا، فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدّث، فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر، فرحّب به وقرّبه، وقال له: ما حاجتك يا أزهر؟ قال: داري متهدمة، وعليّ أربعة آلاف درهم، وأريد لو أن ابني محمدا بنى بعياله «1» . فوصله باثنى عشر ألفا، وقال: قد قضينا حاجتك يا أزهر؛ فلا تأتنا طالبا. فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه، فلما رآه أبو جعفر قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: جئتك مسلما. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالبا. قال: ما جئت إلا مسلّما. قال: قد أمرنا لك باثنى عشر ألفا، واذهب فلا تأتنا طالبا ولا مسلّما. فأخذها ومضى؛ فلما كان بعد سنة أتاه، فقال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: أتيت عائدا، قال: إنه يقع في خلدي أنك جئت طالبا. قال: ما جئت إلا عائدا. قال: قد أمرنا لك باثنى عشر ألفا، واذهب فلا تأتنا طالبا ولا مسلما ولا عائدا. فأخذها وانصرف؛ فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين، جئت لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال: إنه دعاء غير مستجاب، وذلك أني قد دعوت الله به ألا أراك فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثنى عشر ألفا وتعال متى شئت، فقد أعيتني فيك الحيلة. ابن المهلب وأعرابي : أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له. إني مدحتك فاستمع. قال: على رسلك «2» ! ثم دخل بيته وتقلّد سيفه وخرج، فقال: قل، فإن أحسنت حكّمناك، وإن

الرشيد وإسحاق الموصلي

أسأت قتلناك! فأنشأ يقول: أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المخشيّ والبؤس والفقر فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان إذ شددت به أزري» له حكم لقمان وصورة يوسف ... وحكم سليمان وعدل أبي بكر فتى تفرق الأموال من جود كفّه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر «2» فقال: قد حكمناك؛ فإن شئت على قدرك، وإن شئت على قدري. قال: بل على قدري. فأعطاه خمسين ألفا، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير؟ قال: لم يك في ماله ما يفي بقدره! قال له داود: أنت في هذه أشعر منك في شعرك. وأمر له بمثل ما أعطاه. الرشيد وإسحاق الموصلي : الأصمعي قال: كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده: وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل فعالي فعال المكثرين تجمّلا ... ومالي كما قد تعلمين قليل فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل فقال له الرشيد: لله درّ أبيات تأتينا بها! ما أحسن أصولها وأبين فصولها، وأقلّ فضولها! يا غلام أعطه عشرين ألفا. قال: والله لا أخذت منها درهما واحدا! قال: ولم؟ قال: لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري! قال: أعطوه أربعين ألفا. قال الأصمعي: فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني.

معاوية وزيد ابن منية

معاوية وزيد ابن منية : العتبي عن أبيه قال: قدم زيد بن منية من البصرة على معاوية، وهو أخو يعلي بن منية صاحب الجمل، جمل عائشة رضي الله عنها، ومتولي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة؛ وكانت ابنة يعلي عند عتبة بن أبي سفيان؛ فلما دخل على معاوية شكا دينه، فقال: يا كعب، أعطه ثلاثين ألفا. فلما ولّى قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفا أخرى، ثم قال له: الحق بصهرك- يعني عتبة- فقدم عليه مصر. فقال: إني سرت إليك شهرين، أخوض فيهما المتالف «1» ، ألبس أردية الليل مرّة، وأخوض في لجج السراب أخرى، موقرا «2» من حسن الظن بك، وهاربا من دهر قطم «3» ، ومن دين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين. فقال عتبة: إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا ثم استردّ ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منّا ما لا ضيعة معه، وأنا رافع يدي ويدك بيد الله، فأعطاه ستين ألفا كما أعطاه معاوية. ابن سويد وأبو ساسان : إبراهيم الشيباني قال: قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف: أعدم أبي إعدامة بالبصرة وأنفض «4» ، فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلا. فبينا هو يشكو تعزّر الأشياء عليه، إذ عدا غلامه على كسوته وبغلته فذهب بهما، فأتى أبا ساسان حضين ابن المنذر الرقاشي فشكا إليه حاله، فقال له: والله يا بن أخي، ما عمّك ممن يحمل محاملك، ولعلّي أن أحتال لك. فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها، ثم قال: امض بنا. فأتى باب والى خراسان، فدخل وتركني بالباب، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أي عليّ بن سويد؟ فدخلت إلى الوالي، فإذا حضين على فراش إلى جانبه، فسلمت على الوالي فردّ عليّ، ثم أقبل عليه حضين فقال: أصلح الله الأمير، هذا علي

المهدي وأبو دلامة

ابن سويد بن منجوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها، وأكثر الناس مالا حاضرا بالبصرة وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالا، وقد تجمّل بي إلى الأمير في حاجة. قال: هي مقضية. قال: فإنه يسألك أن تمدّ يدك في ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت. قال: لا والله لا أفعل ذلك به، نحن أولى بزيادته. قال: فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها، فهو يسألك أن تحمّله حوائجك بالبصرة. قال: إن كانت حاجة فهو فيها ثقة، ولكن أسألك أن تكلّمه في قبول معونة منا؛ فإنا نحب أي يرى على مثله من أثرنا. فأقبل عليّ فقال: يا أبا الحسن، عزمت عليك ألّا تردّ على عمّك شيئا أكرمك به. فسكت. قال: فدعا لي بمال ودوابّ وكسا ورقيق، فلما خرجت قلت: أبا ساسان، لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط. قال: اذهب إليك يا بن أخي، فعمّك أعلم بالناس منك؛ إن الناس إن علموا لك غرارة «1» من مال حثوا «2» لك أخرى وإن يعلموك فقيرا تعدّوا عليك مع فقرك. المهدي وأبو دلامة : إبراهيم الشيباني قال: ولد لأبي دلامة ابنة ليلا، فأوقد السّراج وجعل يخيط خريطة من شقق، فلما أصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه، وكان لا يحجب عليه، فأنشده: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عبّاس ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس قال له المهدي: أحسنت والله أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ قال: ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين. قال: فهل قلت فيها شعرا؟ قال: نعم قلت: فما ولدتك مريم أمّ عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم ولكن قد تضمّك أمّ سوء ... إلى لبّاتها وأب لئيم «3»

قال فضحك المهدي وقال: فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة؟ قال: تملأ هذه يا أمير المؤمنين. وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه. فقال المهدي: وما عسى أن تحمل هذه؟ قال: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير. فأمر أن تملأ مالا، فلما نشرت أخذت عليهم صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم. وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجا «1» ، فأخذ به وهو سكران، فأتي به إلى المهدي؛ فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يحبس في بيت الدّجاج؛ فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدّجاج، صاح: يا صاحب البيت! فاستجاب له السجان، قال: مالك يا عدوّ الله؟ قال: ويلك! من أدخلني مع الدّجاج؟ قال: أعمالك الخبيثة! أتي بك أمير المؤمنين وأنت سكران، فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدّجاج. قال له: ويلك! أو تقدر على أن توقد لي سراجا وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي «2» هذا. فأتاه بدواة وورق؛ فكتب أبو دلامة إلى المهديّ: أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج تهشّ لها النفوس وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزّجاج وقد طبخت بنار الله حتّى ... لقد صارت من النّطف النّضاج «3» أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي أقاد إلى السجون بغير ذنب ... كأنّي بعض عمّال الخراج ولو معهم حبست لهان وجدي ... ولكنّي حبست مع الدّجاج دجاجات يطيف بهنّ ديك ... ينادي بالصّياح إذا يناجي وقد كانت تخبّرني ذنوبي ... بأنّي من عذابك غير ناجي على أنيّ وإن لاقيت شراّ ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجي ثم قال أوصلها إلى أمير المؤمنين. فأوصلها إليه السجّان، فلما قرأها أمر بإطلاقه

بين أبي دلامة وعيسى بن موسى

وأدخله عليه، فقال له: أين بت الليلة أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج يا أمير المؤمنين. قال: فما كنت تصنع؟ قال: كنت أقاقي معهن حتى أصبحت. فضحك المهدي وأمر له بصلة جزيلة، وخلع عليه كسوة شريفة. بين أبي دلامة وعيسى بن موسى : وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات: إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرّحيم فأمّا بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم لزوم ما علمت لباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرّقيم «1» له مئة عليّ ونصف أخرى ... ونصف النصف في صكّ قديم دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم أتوني بالعشيرة يسألوني ... ولم أك في العشيرة باللئيم قال: فبعث إليه بمائة ألف درهم. أبو دلف وأبو دلامة : ولقي أبو دلامة أبو دلف في مصاد له وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه وأنشده: إني حلفت لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلينّ علي النبيّ محمّد ... ولتملأنّ دراهما حجري «2» فقال: أمّا الصلاة على النبيّ فنعم، صلّى الله عليه وسلّم. وأما الدراهم، فلمّا نرجع إن شاء الله تعالى. قال: له: جعلت فداك. لا تفرق بينهما. فاستلفها له وصبّت في حجره حتى أثقلته.

أبو دلامة والمهدي

أبو دلامة والمهدي : ودخل أبو دلامة على المهدي، فأنشده أبياتا أعجب بها، فقال له: سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت. فقال: كلب يا أمير المؤمنين أصطاد به. قال: قد أمرنا لك بكلب، وهاهنا بلغت همتك، وإلى هاهنا انتهت أمنيتك؟ قال: لا تعجل عليّ يا أمير المؤمنين، فإنه بقي علي. قال: وما بقي عليك؟ قال: غلام يقود الكلب. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وخادم يطبخ الصّيد. قال: وخادم يطبخ الصيد. قال: ودار نسكنها. قال: ودار تسكنها. قال: وجارية نأوي اليها. قال: وجارية تأوي إليها. قال: قد بقي الآن المعاش. قال: قد أقطعناك ألفي جريب «1» عامرة وألفي جريب غامرة. قال: وما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: التي لا تعمر. قال: أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفا من فيافي بني أسد. قال: قد جعلتها كلّها لك عامرة. قال: فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده؟ قال: أما هذه فدعها. قال: ما منعتني شيئا أيسر على أمّ ولدي فقدا منه. أبو دلامة والمنصور : ودخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور يوما وعليه قلنسوة طويلة، وكان قد أخذ أصحابه بلباسها وأخذهم بلبس دراريع، عليها مكتوب بين كتفي الرجل: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» وأمرهم بتعليق السيوف على أوساطهم. فدخل عليه أبو دلامة في ذلك الزّيّ، فقال له: كيف أصبحت أبا دلامة؟ قال: بشرّ حال يا أمير المؤمنين. قال: كيف ذلك؟ ويلك. قال: وما ظنّك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه على استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره؟ قال: فضحك أبو جعفر وأمر بتغيير ذلك، وأمر لأبي دلامة بصلة.

هو والمنصور أيضا

هو والمنصور أيضا : وأوصل أبو دلامة إلى العبّاس بن منصور رقعة فيها هذه الأبيات: قف بالديار وأيّ الدهر لم تقف ... على منازل بين السّهل والنجف وما وقوفك في أطلال منزلة ... لولا الذي استحدثت في قلبك الكلف «1» إن كنت أصبحت مشغوفا بجارية ... فلا وربّك لا يشفيك من شغف ولا يزيدك إلّا العلّ من أسف ... فهل لقلبك من صبر على الأسف «2» هذي مقالة شيخ من بني أسد ... يهدي السّلام إلى العبّاس في الصّحف تخطّها من جواري المصر كاتبة ... قد طالما ضربت في اللام والألف وطالما اختلفت صيفا وشاتية ... إلى معلّمها بالّلوح والكتف حتى إذا ما استوى الثّديان وامتلأت ... منها وخيفت على الإسراف والقرف «3» صينت ثلاث سنين ما ترى أحدا ... كما تصان ببحر درّة الصّدف بينا الفتى يتمشّى نحو مسجده ... مبادرا لصلاة الصّبح بالسّدف «4» حانت له نظرة منها فأبصرها ... مطلّة بين سجفيها من الغرف فخرّ في التّرب ما يدري غداتئذ ... أخرّ منكشفا أو غير منكشف وجاءه القوم أفواجا بمائهم ... لينضحوا الرجل المغشىّ بالنّطف «5» فوسوسوا بقران في مسامعه ... خوفا من الجنّ والإنسان لم يخف ... ... شيئا، ولكنه من حبّ جارية ... أمسى وأصبح من موت على شرف قالوا لك الخير ما أبصرت قلت لهم ... جنّيّة أقصدتني من بني خلف أبصرت جارية محجوبة لهم ... تطلّعت من أعالي القصر ذي الشّرف فقلت: أيّكم والله يأجره ... يعير قوّته منّي إلى ضعفي فقام شيخ بهيّ من تجارهم ... قد طالما خدع الأقوام بالحلف

جعفر بن يحيى وعبد الملك بن صالح

فابتاعها لي بألفي أحمر فغدا ... بها إليّ فألقاها على كتفي فبتّ ألثمها طورا وتلثمني ... طورا ونفعل بعض الشيء في الّلحف بتنا كذلك حتى جاء صاحبها ... يبغي الدنانير بالميزان ذي الكفف «1» وذاك حقّ علي «زند» وكيف به ... والحقّ في طرف والعين في طرف «2» وبين ذاك شهود لم أبال بهم ... أكنت معترفا أم غير معترف فإن تصلني قضيت القوم حقّهم ... وإن تقل لا فحقّ القوم في تلف فلما قرأ العباس الأبيات أعجب بها واستظرفها وقضى عنه ثمن الجارية. واسم أبي دلامة زند. جعفر بن يحيى وعبد الملك بن صالح : إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى يوما: إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلوا وأفرّ من أشغال الناس وأتروّح، فهل أنت مساعدي قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد الناس بمساعدتك وآنس بمخالاتك «3» . قال: بكّر إليّ بكور الغراب. قال فأتيت عند الفجر الثاني، فوجدت الشمعة بين يديه، وهو قاعد ينتظرني للميعاد. قال فصيلنا ثم أفضنا في الحديث حتى جاء وقت الحجامة فأتى بحجّام فحجّمنا في ساعة واحدة، ثم قدّم إلينا طعام فطعمنا، فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة، وضمّخنا بالخلوق «4» ، وظللنا بأسرّ يوم مرّ بنا، ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب، فقال: إذا جاء عبد الملك القهرماني فأذن له. فنسي الحاجب. وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي على جلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذن له الحاجب. فما راعنا إلا طلعة عبد الملك. فتغير لذلك جعفر بن يحيى وتنغّص عليه ما كان فيه. فلما نظر عبد الملك إليه على تلك الحالة، دعا غلامه فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته،

ذو حاجة على باب ملك من الأكاسرة

ثم جاء ووقف على باب المجلس، وقال: اصنعوا بي ما صنعتم بأنفسكم. قال: فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة، ودعا بالطعام فطعم. ثم جاء بالشراب فشرب ثلاثا، ثم قال: ليخفّف عنيّ فإنه شيء ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك، قد نفصّلت عنيّ فإنه شيء ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر وفرح. وكان الرشيد قد عتب على عبد الملك بن صالح ووجد «1» عليه، فقال له جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك، قد تفضّلت وتطوّلت وأسعدت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي، أو تحيط بها نعمتي، فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب عليّ فسله الرضا عني. قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين. ثم قال: عليّ أربعة آلاف دينار. قال: حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين. أحبّ اليك. قال: وابني إبراهيم أحب أن أشدّ ظهره بصهر من أولاد أمير المؤمنين. قال. قد زوّجه أمير المؤمنين عائشة. قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: قد ولّاه أمير المؤمنين مصر. قال: وانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدامه على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين. فلما كان من الغد وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر، فلم نلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك؛ وكتب سجلّ إبراهيم على مصر.. وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفه، نزل ونزلنا بنزوله؛ فالتفت إلينا، فقال: تعلقت قلوبكم بأوّل أمر عبد الملك فأحببتم معرفة آخره، وإني لما دخلت على أمير المؤمنين مثلت بين يديه وابتدأت القصة من أولها؛ فجعل يقول: أحسن والله، فما صنعت؟ فأخبرته بما سأل وبما أجبته به، فجعل يقول في ذلك: أحسنت: أحسنت! وخرج إبراهيم واليا على مصر. ذو حاجة على باب ملك من الأكاسرة : وقدم رجل على ملك من ملوك الأكاسرة، فمكث ببابه حينا لا يصل إليه، فتلطف في رقعة أوصلها إليه، وفيها أربعة أسطر:

يحيى بن خالد وشاعر

في السطر الأول: الضّر والأمل أقدماني عليك. والسطر الثاني: الفقر لا يكون معه صبر على المطالبة. والسطر الثالث: الانصراف بلا فائدة فتنة وشماتة للعدوّ. والسطر الرابع: فإما نعم مثمرة، وإما لا مريحة. فلما قرأها وقّع تحت كل سطر منها بألف مثقال وأمر له بها. يحيى بن خالد وشاعر : وقد دخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن يرمك فأنشده: سألت النّدى هل أنت حرّ؟ فقال لا ... ولكنّني عبد ليحيي بن خالد فقلت شراء قال لا بل وراثة ... توارثني عن والد بعد والد فأمر له بعشرة آلاف. خالد القسري وأعرابي : ودخل أعرابيّ على خالد بن عبد الله القسريّ فأنشده: أخالد إني لم أزرك لخلّة ... سوى أنني عاف وأنت جواد «1» أخالد بين الحمد والأجر حاجتي ... فأيّهما تأتي فأنت عماد فأمر له بخمسة آلاف درهم. العباس القائد وابن عبد ربه : ومن قولنا في هذا المعنى- ودخلت على أبي العبّاس القائد فأنشدته: الله جرّد للنّدى والباس ... سيفا فقلّده أبا العبّاس ملك إذا استقبلت غرّة وجهه ... قبض الرّجاء إليك روح الياس

المتوكل وعبد الله ابن يحيى

وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبّة تجري من الأنفاس وإذا أحبّ الله يوما عبده ... ألقى عليه محبّة للناس ثم سألته حاجة فيها بعض الغلظ، فتلكأ عليّ. فأخذت سحاية «1» من بين يديه فوقّعت فيها على البديهة: ما ضرّ عندك حاجتي ما ضرّها ... عذرا إذا أعطيت نفسك قدرها انظر إلى عرض البلاد وطولها ... أو لست أكرم أهلها وأبرّها حاشى لجودك أن يوعّر حاجتي ... ثقتي بجودك سهّلت لي وعرها لا يجتني حلو المحامد ماجد ... حتى يذوق من المطالب مرّها فقضى الحاجة وسارع إليها. المتوكل وعبد الله ابن يحيى : وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يتعرّف خبره، فكتب إليه: عليل من مكانين ... من الإفلاس والدّين ففي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين فبعث إليه بألف دينار. الفضل بن يحيى ومستمنح : عبد الله بن منصور قال: كنت يوما في مجلس الفضل بن يحيى، فأتاه الحاجب فقال: إن بالباب رجلا قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يدا يمتّ بها فقال: أدخله. فدخل رجل جميل الوجه رثّ الهيئة، فسلّم فأحسن. فأومأ إليه بالجلوس فجلس؛ فلما علم أنه قد انطلق وأمكنه الكلام، قال له: ما حاجتك؟ قال له: قد

من حبيب إلى ابن أبي دواد

أعربت بها رثاثة هيئتي، وضعف طاقتي! قال: أجل، فما الذي تمتّ به؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك. قال: أمّا الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أنها لما وضعتني قيل إنه ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمّي الفضل؛ فسّمتني فضيلا، إعظاما لا سمك أن تلحقني بك. فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون. قال: صدقت، هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما فعلت أمّك؟ قال: توفيت رحمها الله، قال: فما منعك عن اللّحوق بنا فيما مضى؟ قال: لم أرض نفسي للقائك، لأنها كانت في عامّية وحداثة تقعدني عن لقاء الملوك. قال: يا غلام أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفا، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له. فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله. من حبيب إلى ابن أبي دواد : وكتب حبيب بن أوس الطائي إلى أحمد بن أبي دواد: اعلم وأنت المرء غير معلّم ... وافهم جعلت فداك غير مفهّم أنّ اصطناع العرف ما لم توله ... مستكملا كالثّوب ما لم يعلم «1» والشّكر ما لم يستثر بصنيعة ... كالخطّ تقرؤه وليس بمعجم «2» وتفنّني في القول إكثار وقد ... أسرجت في كرم الفعال فألجم وقال دعبل بن علي الخزاعي في طاهر بن الحسين صاحب خراسان: أيا ذا اليمنين والدّعوتين ... ومن عنده العرف والنّائل أترضى لمثلي أنّي مقيم ... ببابك مطّرح خامل رضيت من الودّ والعائدات ... ومن كلّ ما امّل الآمل بتسليمة بين خمس وستّ ... إذا ضمّك المجلس الحافل وما كنت أرضى بذا من سواك ... أيرضى بذا رجل عاقل

بين زياد وضبي

وإن ناب شغل ففي دون ما ... تدبّره شغل شاغل عليك السلام فإني امرؤ ... إذا ضاق بي بلد راحل بين زياد وضبيّ : الأصمعي قال: نظر زياد إلى رجل من ضبّة يأكل أكلا قبيحا، وهو أقبح الناس وجها، فقال: يا أخا ضبّة، كم عيالك؟ قال: سبع بنات أنا أجمل منهن وجها، وهنّ آكل مني. فضحك زياد وقال: لله درك! ما ألطف سؤالك! افرضوا له ولكل واحدة منهن مائة وخادما، وعجّلوا له ولهن بأرزاقهن. فخرج الضّبي وهو يقول: إذا كنت مرتاد السماحة والنّدى ... فناد زيادا أو أخا لزياد يجبك امرؤ يعطي على الحمد ماله ... إذا ضنّ بالمعروف كلّ جواد وما لي لا أثني عليك وإنّما ... طريفي من معروفكم وتلادي «1» ووقف دعبل ببعض أمراء الرقّة، فلما مثل بين يديه قال: أصلح الله الأمير، إني لا أقول كما قال صاحب معن: بأيّ الخلّتين عليك أثني ... فإني عند منصرفي مسؤل أبالحسنى وليس لها ضياء ... عليّ فمن يصدّق ما أقول أم الأخرى ولست لها بأهل ... وأنت لكلّ مكرمة فعول ولكني أقول: ماذا أقول إذا أتيت معاشري ... صفرا يداي من الجواد المجزل إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... ضنّ الأمير بماله لم يجمل ولأنت أعلم بالمكارم والعلا ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل فاختر لنفسك ما أقول، فإننّي ... لا بدّ مخبرهم وإن لم أسأل قال له: قاتلك الله! وأمر له بعشرة آلاف درهم. بشر بن مروان وابن عبدل : العتبي قال: دخل ابن عبدل على عبد الملك بن مبشر بن مروان لما ولي الكوفة،

علي الأرميني والبطين

فقعد بين السماطين «1» ثم قال: أيها الأمير، إني رأيت رؤيا فأذن لي في قصصها. فقال: قل. فقال: أغفيت قبل الصّبح نوم مسهّد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها فرأيت أنك رعتني بوليدة ... مفلوجة حسن عليّ قيامها» وببدرة حملت إليّ وبغلة ... شهباء ناجية يصرّ لجامها «3» قال له عبد الملك بن بشر بن مروان: كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة، فإنها دهماء فارهة «4» . قال: امرأتي طالق ثلاثا إن كنت رأيتها إلّا دهماء، إلّا أني غلطت. علي الأرميني والبطين : الشيباني عن البطين الشاعر قال: قدمت على علي بن يحيى الأرمينيّ فكتبت إليه: رأيت في النّوم أنّي راكب فرسا ... ولي وصيف وفي كفي دنانير فقال قوم لهم حذق ومعرفة ... رأيت خيرا وللأحلام تعبير رؤياك فسّر غدا عند الأمير تجد ... تعبير ذاك وفي الفأل التّباشير فجئت مستبشرا مستشعرا فرحا ... وعند مثلك لي بالفعل تيسير قال: فوقّع لي في أسفل كتابي: أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ «5» ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في أبياتي ورأيته في منامي. وقال بشار العقيلي: حتى متى ليت شعري يا بن يقطين ... أثني عليك بما لا منك توليني أما علمت جزاك الله صالحة ... عني وزادك خيرا يا بن يقطين أنّي أريدك للدّنيا وزينتها ... ولا أريدك يوم الدّين للدّين

الأخذ من الأمراء

وقال آخر في مثل هذا المعنى: يا بن العلاء ويا بن القرم مرداس ... إني لأطريك في أهلي وجلّاسي «1» أثني عليك ولي حال تكذّبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس حتى إذا قيل: ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حالي عندها راسي «2» الأخذ من الأمراء لعثمان في جائزة السلطان : حدّثنا جعفر بن محمد، عن يزيد بن سمعان، عن عبد الله بن ثور، عن عبد الحميد ابن وهب، عن أبي الخلال، قال: سألت عثمان بن عفّان عن جائزة السلطان، فقال: لحم طريّ ذكي. عكرمة والجائزة : جعفر بن محمد، عن يحيى بن محمد العامريّ، عن المعتمر، عن عمران بن حدير، قال: انطلقت أنا ورجل إلى عكرمة، فرأى الرجل عليه عمامة متخرّقة، فقال الرجل: عندنا عمائم، ألا نبعث إليك بعمامة منها؟ قال عكرمة: إنا لا نقبل من الناس شيئا، إنما نقبل من الأمراء. الحسن البصري وخميصته : وقال هشام بن حسان: رأيت على الحسن البصري خميصة «3» لها أعلام يصلّي فيها، أهداها إليه مسلمة بن عبد الملك. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبس خفّين أسودين أهداهما إليه النجاشي صاحب الحبشة. وقال نافع: كان عبد الله بن عمر يقبل هدايا أهل الفتنة، مثل المختار وغيره. ودخل مالك بن أنس على هارون الرشيد فشكا إليه دينا لزمه فأمر له بألف دينار

عين. فلما وضع يديه للقيام، قال: يا أمير المؤمنين، وزوّجت ابني محمدا فصار عليّ فيه ألف دينار. قال: ولابنه محمد ألف دينار. قال: فلقد مات مالك وتركها لوارثه في مزود. وقال الأصمعي: حدّثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: كان الربيع بن خثيم في ألف ومائة من العطاء فكلم فيه أبي معاوية فألحقه بألفين؛ فلما حضر العطاء نودي الربيع بن خثيم، فقيل له: في ألفين. فقعد، فنظروا فوجدوا على اسمه مكتوبا: كلّم فيه يحيى بن طلحة أمير المؤمنين فألحقه بألفين. وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق، كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة كسوة. قال: إن كنت غنيا قبلتها منك، وإن كنت فقيرا لم أقبلها منك. قال: فإني غني. قال: وكم مالك؟ قال: ألفا دينار. قال: فأنت تودّ أنها أربعة آلاف؟ قال: نعم. قال: فأنت فقير، لا أقبلها منك. وأمر إبراهيم بن الأغلب المعروف بزيادة الله، بمال يقسم على الفقهاء، فكان منهم من قبل ومنهم من لم يقبل، فكان أسد بن الفرات فيمن قبل، فجعل زيادة الله يغمص «1» على كل من قبل منهم، فبلغ ذلك أسد بن الفرات، فقال: لا عليه، إنما أخذنا بعض حقوقنا والله سائله عما بقى! وقد فخرت العرب بأخذ جوائز الملوك وكان من أشرف ما يتموّلونه، فقال ذو الرمة: وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت ولا كسب مأثم ولكن عطاء الله من كلّ رحلة ... إلى كلّ محجوب السّرادق خضرم «2» وقال آخر يهجو مروان بن أبي حفصة ويعيبه بأخذه من العامة ويفخر بأنه لا يأخذ إلا من الملوك، فقال:

تفضيل بعض الناس على بعض في العطاء

عطايا أمير المؤمنين، ولم تكن ... مقصّمة من هؤلاء وأولئكا وما نلت حتّى شبت إلا عطيّة ... تقوم بها مصرورة في ردائكا تفضيل بعض الناس على بعض في العطاء ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقراء فقال: إن سعيد بن خذيم منهم. فأعطاه ألف دينار، وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا أعطيت فأغن» . وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد من العرب فأعطاهم وفضل رجلا منهم؛ فقيل له في ذلك، فقال: كل القوم عيال عليه. الرسول صلّى الله عليه وسلّم والعباس بن مرداس : وأعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين المؤلّفة قلوبهم، فأعطى الأقرع بن حابس التميمي. وعيينة بن حصن الفزاري، مائة من الإبل، وأعطى العبّاس بن مرداس السّلمي خمسين؛ فشق ذلك عليه، فقال أبياتا. فأتاه بها وأنشده إياها وهي: أيذهب نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع ولا كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت غير امريء منهم ... ومن تضع اليوم لم يرفع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال: اقطع عني لسان العباس. فأعطاه حتى أرضاه. الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصفوان بن أمية : وقال صفوان بن أمية: لقد غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما خلق الله خلقا أبغض إليّ منه فما زال يعطيني حتى ما خلق الله خلقا أحبّ إليّ منه. وكان صفوان بن أمية من المؤلّفة قلوبهم.

شكر النعمة

شكر النعمة سليمان التّميميّ قال: إن الله أنعم على عباده بقدر قدرته، وكلّفهم من الشكر بقدر طاقتهم. وقالوا: مكتوب في التوراة: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك. وقالوا: كفر النعمة يوجب زوالها، وشكرها يوجب المزيد فيها. وقالوا: من حمدك فقد وفّاك حقّ نعمتك. وجاء في الحديث: «من نشر معروفا فقد شكره، ومن ستره فقد كفره» . وقال عبد الله بن عباس: لو أن فرعون مصر أسدى إليّ يدا صالحة لشكرته عليها. وقالوا: إذا قصرت يداك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر. وقالوا: ما نحل الله تعالى عباده شيئا أقلّ من الشكر، واعتبر ذلك بقول الله عز وجل: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1» . الواقدي ويحيى البرمكي في قوم جاءوا يشكرونه : محمد بن صالح الواقدي قال: دخلت على يحيى بن خالد البرمكي، فقلت: إن ها هنا قوما جاءوا يشكرون لك معروفا. فقال: يا محمد، هؤلاء يشكرون معروفا، فكيف لنا بشكر شكرهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم في شكر النعمة وكفرها : وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أنعم الله على عبده نعمة فرأى عليه أثرها إلا كتب: حبيب الله شاركا لأنعمه. وما أنعم الله على عبده نعمة فلم ير أثرها عليه إلا كتب: بغيض الله كافرا لأنعمه.

بين عدي بن أرطاة وعمر بن عبد العزيز

بين عدي بن أرطاة وعمر بن عبد العزيز : وكتب عديّ بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: إني بأرض كثرت فيها النّعم، وقد خفت على من قبلي من المسلمين قلّة الشكر والضعف عنه فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى لم ينعم على قوم نعمة فحمدوه عليها إلا كان ما أعطوه أكثر مما أخذوا. واعتبر ذلك لقول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ «1» . فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان. بين النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة في أبيات لابن جناب : وسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة رضي الله عنها تنشد أبيات زهير بن جناب: إرفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جنى «2» يجزيك أو يثنى عليك فإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدق يا عائشة، لا شكر الله من لا يشكر الناس. الخشني قال: أنشدني الرياشي: إذا أنا لم أشكر على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما «3» ففيم عرفت الخير والشّرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما وأنشدني في الشكر: سأشكر عمرا ما تراخت منيّتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّت «4»

قلة الكرام في كثرة اللئام

قلة الكرام في كثرة اللئام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. وقالت الحكماء: الكرام في اللئام كالغرة في الفرس. وقال الشاعر: تفاخرني بكثرتها قريط ... وقلّ والد الحجل الصقور فإن أك في شراركم قليلا ... فإنّي في خباركم كثير بغاث الطّير أكثرها فراخا ... وأم الصّقر مقلات نزور «1» وقال السموأل: تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل وقال حبيب: ولقد نكون ولا كريم نناله ... حتى نخوض إليه ألف لئيم وقال ابن أبي حازم: وقالوا: لو مدحت فتى كريما ... فقلت وكيف لي بفتى كريم بلوت ومرّ بي خمسون حولا ... وحسبك بالمجرّب من عليم فلا أحد يعدّ ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم «2» وقال دعبل: ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهم ... والله يعلم أنّي لم أقل فندا «3» إني لأغلق عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن ما أرى أحدا

لكسرى في الشح

وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول حبيب الطائي: إنّ الجياد كثير في البلاد وإن ... قلّوا، كما غيرهم قلّ وإن كثروا لا يدهمنّك من دهمائهم عجب ... فإنّ جلّهم أو كلهم بقر وكلّما أضحت الأخطار بينهم ... هلكى تبيّن من أضحى له خطر لو لم تصادف شيات البهم أكثر ما ... في الخيل لم تحمد الأوضاح والغرر «1» لكسرى في الشح : الأصمعي قال: قال كسرى. أي شيء أضرّ؟ فأجمعوا على الفقر. فقال كسرى: الشحّ أضرّ منه، لأن الفقير يجد الفرجة فيتسع. من جاد أولا وضنّ آخرا نزل أعرابيّ برجل من أهل البصرة، فأكرمه وأحسن إليه ثم أمسك، فقال الأعرابي: تسرّى فلما جاذب المرء نفسه ... رأى أنّه لا يستقيم له السّرو «2» وكان يزيد بن منصور يجري لبشّار العقيلي وظيفة في كل شهر، ثم قطعها عنه؛ فقال: أبا خالد ما زلت سابح غمرة ... صغيرا فلما شبت خيّمت بالشّاطي «3» جريت زمانا سابقا ثم لم تزل ... تأخّر حتى جئت تقطو مع القاطي «4» كسنّور عبد الله بيع بدرهم ... صغيرا، فلما شبّ بيع بقيراط

من ضن أولا ثم جاد آخرا

وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني لمحمد بن منصور بن زياد: أبا حسن قد كنت قدّمت نعمة ... وألحقت شكرا ثم أمسكت وانيا «1» فلا ضير لم تلحقك مني ملامة ... أسأت بنا عودا وأحسنت باديا فأقسم لا أجزيك بالسّوء مثله ... كفى بالذي جازيتني لك جازيا وقال سليمان الأعمى، وهو أخو صريع الغواني، في سليمان بن علي: يا سوءة يكبر الشيطان إن ذكرت ... منها العجائب جاءت من سليمانا لا تعجبنّ بخير زلّ عن يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا من ضن أولا ثم جاد آخرا قدم الحارث بن خالد المخزوميّ على عبد الملك فلم يصله، فرجع وقال فيه: صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطّعت نفسي ألومها حبست عليك النّفس حتّى كأنّما ... بكفّيك يجري بؤسها ونعيمها فبلغ قوله عبد الملك، فأرسل إليه فردّه وقال: أرأيت عليك غضاضة «2» من مقامك ببابي؟ قال: لا، ولكني اشتقت إلى أهلي ووطني، ووجدت فضلا من القول فقلت، وعليّ دين لزمني. قال: وكم دينك؟ قال ثلاثون ألفا. قال: فقضاء دينك أحبّ إليك أم ولاية مكة؟ قال: بل ولاية مكة. فولاه إياها. وقدم الحطيئة المدينة فوقف إلى عتيبة بن النهاس العجليّ، فقال: أعطني. فقال: مالك عندي حقّ فأعطيكه، وما في مالي فضل عن عيالي فأعود به عليك. فخرج عنه مغضبا، وعرّفه به جلساؤه، فأمر بردّه، ثم قال له: يا هذا، إنك وقفت إلينا فلم تستأنس ولم تسلّم، وكتمتنا نفسك، كأنك الحطيئة؟ قال: هو ذلك. قال: اجلس فلك عندنا كلّ ما تحب، فجلس فقال له: من أشعر الناس؟ قال الذي يقول:

من مدح أميرا فخيبه

ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشّتم يشتم «1» يعني زهيرا. قال: ثم من؟ قال: الذي يقول: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب يعني عبيدا. قال: ثم من؟ قال: أنا ... فقال لوكيله: خذ بيد هذا فامض به إلى السوق، فلا يشيرون إلى شيء إلا اشتريته له. فمضى معه إلى السوق، فعرض عليه الخزّ والقز، فلم يلتفت إلى شيء منه. وأشار إلى الأكسية والكرابيس الغلاظ والأقبية، فاشترى له منها حاجته؛ ثم قال: أمسك. قال: فإنه قد أمرني أن أبسط يدي بالنفقة. قال: لا حاجة لي أن يكون له على قومي يد أعظم من هذه. ثم أنشأ يقول: سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيّان لا ذمّ عليك ولا حمد وأنت امرؤ لا الجود منك سجيّة ... فتعطي وقد يعدي على النائل الوجد «2» من مدح أميرا فخيبه قال سعيد بن سلم: مدحني أعرابيّ فأبلغ، فقال: ألا قل لساري الّليل لا تخش ضلّة ... سعيد بن سلم نور كلّ بلاد لنا سيّد أربى على كلّ سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد قال: فتأخّرت عنه قليلا، فهجاني فأبلغ، فقال: لكلّ أخي مدح ثواب علمته ... وليس لمدح الباهلّي ثواب مدحت سعيدا والمديح مهزّة «3» ... فكان كصفوان عليه تراب ومدح الحسن بن رجاء أبا دلف فلم يعطه شيئا؛ فقال:

لابن عبد ربه

أبا دلف ما أكذب الناس كلّهم ... سواي فإنّي في مديحك أكذب وقال آخر في مثل هذا المعنى: إنّي مدحتك كاذبا فأثبتني ... لمّا مدحتك ما يثاب الكاذب وقال آخر في مثل هذا المعنى: لئن أخطأت في مدحك ما أخطأت في منعي لقد أحللت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع ومدح حبيب الطائي عيّاش بن لهيعة، وقدم عليه مصر واستسلفه مائتي مثقال، فشاور فيها زوجته، فقالت له: هو شاعر، يمدحك اليوم ويهجوك غدا؛ فاعتلّ عليه واعتذر إليه ولم يقض حاجته، فقال فيه: عيّاش، إنّك للئيم وإنّني ... مذ صرت موضع مطلبي للئيم ثم هجاه حتى مات، وهجاه بعد موته فقال فيه: لا سقيت أطلالك الدّاثرة ... ولا انقضت عثرتك العاثره يا أسد الموت تخلّصته ... من بين فكّي أسد القاصره «1» لابن عبد ربه : ومن قولنا في هذا المعنى- وسألت بعض موالي السلطان إطلاق محبوس فتلكأ فيه، فقلت: حاشا لمثلك أن يفكّ أسيرا ... أو أن يكون من الزّمان مجيرا ليست قوافي الشّعر فيك مدارعا ... سودا وضلّت أوجها وصدورا هلّا عطفت برحمة لما دعت ... ويلا عليك مدائحي وثبورا «2» لو أنّ لؤمك عاد جودا عشره ... ما كان عندك حاتم مذكورا

ربيعة الرقي ويزيد بن حاتم

ربيعة الرقي ويزيد بن حاتم : قال: ومدح ربيعة الرقي يزيد بن حاتم الأزدي، وهو والي مصر، فاستبطأه ربيعة، فشخص عنه من مصر وقال: أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفّي حنين من نوال ابن حاتم «1» فبلغ قوله يزيد بن حاتم، فأرسل في طلبه فردّ إليه. فلما دخل عليه قال له: أنت القائل: أراني ولا كفران لله راجعا قال: نعم. قال: فهل قلت غير هذا؟ قال: لا والله. قال: لترجعن بخفّي حنين مملوءة مالا فأمر بخلع نعليه وملئت له مالا؛ فقال فيه لما عزل عن مصر وولي يزيد بن أسيد السّلمي مكانه: بكى أهل مصر بالدّموع السّواجم ... غداة غدا منها الأغرّ ابن حاتم «2» وفيها يقول: لشتّان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيدين سليم والأغرّ ابن حاتم فهمّ الفتى الأزديّ إنفاق ماله ... وهمّ الفتى القيسي جمع الدّراهم فلا يحسب التّمتام أنّي هجوته ... ولكنّني فضّلت أهل المكارم «3» أجواد أهل الجاهلية الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المرّي، وكعب بن مامة الإيادي.

شيء عن حاتم

شيء عن حاتم : ولكن المضروب به المثل حاتم وحده، وهو القائل لغلامه يسار، وكان إذا اشتدّ البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد نارا في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضلّ الطريق ليلا فيصمد نحوه، فقال في ذلك: أوقد فإنّ الّليل ليل قرّ ... والريح يا موقد ريح صرّ «1» علّ يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حرّ وقالوا: لم يكن حاتم ممسكا شيئا ما عدا فرسه وسلاحه، فإنه كان لا يجود بهما. ومرّ حاتم في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث بحاتم ولم يحضره فكاكه، فاشتراه من العنزيّين وأطلقه وأقام مكانه في القيد حتى أدّى فداءه. وقالت نوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض واغبرّ أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير» ، وضنت المراضع على أولادها فما تبضّ «3» بقطرة، وحلقت «4» السنة المال وأيقنّا بالهلاك. فو الله إنا لفي ليلة صنّبر «5» بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا: عبد الله وعديّ وسفّانة: فقام حاتم إلى الصّبيّين وقمت أنا إلى الصّبية، فو الله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلني بالحديث. فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تهوّرت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد، فقال: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معوّلا إلا عليك يا أبا عديّ، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم: فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة؛ كأنها نعامة حولها رئالها؛ فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخرّ، ثم كشطه عن جلده، ودفع المدية إلى المرأة فقال لها: شأنك؛ فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يمشي في الحى

يأتيهم بيتا بيتا فيقول: هبّوا أيها القوم، عليكم بالنار. فاجتمعوا والتفع في ثوبه ناحية ينظر إلينا، فلا والله إن ذاق منه مزعة وإنه لأحوج إليه منّا؛ فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلّا عظم وحافر. فأنشأ حاتم يقول: مهلا نوار أقلّي الّلوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي الأنس والخبلا «1» يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إنّ الجواد يرى في ماله سبلا ورئي حاتم يوما يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدلّ عليه أضيافه وهو يقول: أقول لابني وقد سطت يديه ... بكلبة لا يزال يجلدها «2» أوصيك خيرا بها فإن لها ... عندي يدا لا أزال أحمدها تدل ضيفي عليّ في غلس اللي ... ل إذا النار نام موقدها ذكرت طيء عند عديّ بن حاتم أن رجلا يعرف بأبي الخيبريّ مر بقبر حاتم فنزل به وجعل ينادي: أبا عدي: أقر أضيافك. قال: فيقال له: مهلا ما تكلم من رمّة بالية؟ فقال: إن طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه، كالمستهزيء فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: واراحلتاه: فقال له أصحابه: ما شأنك؟ قال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها. فتأملوا راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا: قد والله أقراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عديّ ابن حاتم ومعه جمل قد قرنه ببعيره، فقال إن حاتما جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك، وقال أبياتا ردّدها عليّ حتى حفظتها، وهي: أبا الخيبريّ وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتّامها فماذا أردت إلى رمّة ... بداوية صخب هامها «3»

أتبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وأنعامها وإنّا لنطعم أضيافنا ... من الكوم بالسيف نعتامها «1» وأمرني بدفع راحلة عوض راحلتك، فخذها؛ فأخذها. ولحاتم بن عبد الله أيضا: أماويّ قد طال التجنّب والهجر ... وقد عذرتنا في طلابكم العذر أماويّ إنّ المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذّكر أماويّ إمّا مانع فمبيّن ... وإما عطاء لا ينهنهه الزّجر أماويّ إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوما حلّ في مالي النّزر «2» أماويّ ما يغنى الثّراء عن الفتى ... اذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر أماويّ إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لديّ ولا خمر تري أنّ ما أنفقت لم يك ضرّني ... وأنّ يدي مما بخلت به صفر إذا أنا دلاني الذين يلونني ... بمظلمة زلج جوانبها غبر «3» وراحوا سراعا ينفضون أكفّهم ... يقولون قد أدمى أضافرنا الحفر أماويّ إنّ المال مال بذلته ... فأوّله شكر وآخره ذكر وقد يعلم الأقوام لو أنّ حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر فإنّي وجدّي ربّ واحد أمّه ... أجرت فلا قتل عليه ولا أسر ولا أظلم ابن العمّ إن كان إخوتي ... شهودا وقد أودى بإخوته الدّهر غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى ... وكلّا سقاناه بكاسيهما الدهر فما زادنا بأوا على ذي قرابة ... غنانا، ولا أزرى بأحلامنا الفقر «4» وأما هرم بن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه: متى تلاق على علاته هرما ... تلق السّماحة في خلق وفي خلق

وكان سنان أبو هرم سيد غطفان، وماتت أمه وهي حامل به، وقالت: إذا أنا مت فشقّوا بطني فإن سيد غطفان فيه. فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منها سنانا. وفي بني سنان يقول زهير: قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأوّلهم أو مجدهم، قعدوا جنّ إذا فزعوا إنس إذا أمنوا ... مرزّءون بهاليل إذا قصدوا «1» محسّدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا وقال زهير في هرم بن سنان: وأبيض فيّاض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغبّ نوائله «2» تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطه الذي أنت سائله أخو ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله أخذ الحسن بن هانيء هذا المعنى فقال: فتى لا تغول الخمر شحمة ماله ... ولكن أياد عوّدّ وبوادي وقال زهير في هرم بن سنان وأهل بيته: إليك أعملتها فتلا مرافقها ... شهرين يجهض من أرحامها العلق «3» حتى دفعن إلى حلو شمائله ... كالغيث ينبث في آثاره الورق من أهل بيت يرى ذو العرش فضلهم ... يبنى لهم في جنان الخلد مرتفق المطعمون إذا ما أزمة أزمت ... والطّيّبون ثيابا كلّما عرقوا كأنّ آخرهم في الجود أوّلهم ... إنّ الشّمائل والأخلاق تتّفق إن قامروا قمروا أو فاخروا فخروا ... أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا «4»

أجواد أهل الإسلام

تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا ... كما تنوفس عند الباعة الورق «1» وقال فيهم أيضا: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل على مكثريهم حقّ من يعتفيهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل فما كان من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء أبائهم قبل وهل ينبت الخطّيّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلّا في منابتها النخل «2» وأما كعب بن مامة الإياديّ فلم يأت عنه إلا ما ذكر من إيثاره رفيقه النّمريّ بالماء حتى مات عطشا ونجا النّمريّ، وهذا أكثر من كل ما أثنى لغيره. وله يقول حبيب: يجود بالنّفس إن ضنّ البخيل بها ... والجود بالنّفس أقصى غاية الجود وله ولحاتم الطائي يقول: كعب وحاتم اللذان تقسّما ... خطط العلا من طارف وتليد هذا الذي خلف السحاب ومات ذا ... في الجدّ ميتة خضرم صنديد «3» إلّا يكن فيها الشّهيد فقومه ... لا يسمحون به بألف شهيد أجواد أهل الإسلام وأما أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلا في عصر واحد، لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم. فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص. وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم: عبد الله بن عامر بن كريز، وعبيد الله

فمن جود عبيد الله بن عباس

ابن أبي بكرة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومسلم بن زياد، وعبيد الله بن معمر القرشي ثم التيمي. وطلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وله يقول الشاعر يرثيه، ومات بسجستان وهو وال عليها. نضّر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطّلحات وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد، وهم: عتّاب بن ورقاء الرّياحي وأسماء ابن خارجة الفزاريّ. وعكرمة بن ربعي الفيّاض. فمن جود عبيد الله بن عباس أنه أول من فطّر جيرانه. وأول من وضع الموائد على الطرق، وأول من حيّا على طعامه، وأول من أنهبه، وفيه يقول شاعر المدينة: وفي السّنة الشهباء أطعمت حامضا ... وحلوا ولحما تامكا وممزّعا «1» وأنت ربيع لليتامى وعصمة ... إذا المحل من جوّ السّماء تطلّعا أبوك أبو الفضل الذي كان رحمة ... وغوثا ونورا للخلائق أجمعا ومن جوده أنه أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال: يا بن عباس إن لي عندك يدا وقد احتجت إليها. فصعّد فيه بصره وصوبّه «2» ، فلم يعرفه، ثم قال له: ما يدك عندنا؟ قال: رأيتك واقفا بزمزم وغلامك يمتج «3» لك من مائها والشمس قد صهرتك، فظلّلتك بطرف كسائي حتى شربت. قال: إني لأذكر ذلك وإنه يتردّد بين خاطري وفكري. ثم قال لقيّمه: ما عندك؟ قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم. قال: ادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا. فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه، فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ثم شفع بك وبأبيك.

ومن جوده أيضا: أنّ معاوية حبس عن الحسين بن عليّ صلاته حتى ضاقت عليه حاله، فقيل [له] : لو وجّهت إلى ابن عمك عبيد الله، فإنه قد قدم بنحو من ألف ألف درهم. فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله؟ فو الله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر. ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم. فلما قرأ عبيد الله كتابه، وكان من أرقّ الناس قلبا وألينهم عطفا. انهملت عيناه ثم قال: ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك «1» من الإثم حين أصبحت ليّن المهاد رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال. ثم قال لقهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضّة وذهب وثوب ودابة، وأخبره أني شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر. فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر يقيم حالك! فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال: إنا لله! حملت «2» والله على ابن عمي وما حسبته يتسع لنا بهذا كله. فأخذ الشطر من ماله. وهو أول من فعل ذلك في الإسلام. ومن جوده أن معاوية بن أبي سفيان أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النّيروز حللا كثيرة ومسكا وآنية من ذهب وفضة، ووجّهها مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها، فقال: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم والله، إنّ في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام. فضحك عبيد الله وقال: فشأنك بها فهي لك. قال: جعلت فداك، أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد عليّ. قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن، فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلا. فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه- يعني معاوية- فظنّ عبيد الله أنها مكيدة منه، قال: دع عنك هذا الكلام، فإنا قوم نفي بما وعدنا ولا ننقص ما أكدنا.

جود عبد الله بن جعفر

ومن جوده أيضا أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له: تصدّق، فإني نبّئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلا ألف درهم واعتذر إليه! فقال له: وأين أنا من عبيد الله؟ قال أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال؟ قال: فيهما. قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت حسيبا. فأعطاه ألفي درهم واعتذر له من ضيق الحال: فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس. فأعطاه ألفا أخرى. فقال السائل: هذه هزة كريم حسيب، والله لقد نقرت «1» حبة قلبي فأفرغتها في قلبك، فما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي. ومن جوده أيضا: أنه جاءه رجل من الأنصار فقال: يا بن عم رسول الله، إنه ولد لي في هذه الليلة مولود، وإني سمّيته باسمك تبرّكا مني به، وإن أمه ماتت. فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة. ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته. ثم قال للأنصاري. عد إلينا بعد أيام، فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلّة. قال الأنصاري: لو سبقت حاتما بيوم واحد ما ذكرته العرب أبدا، ولكنه سبقك فصرت له تاليا، وأنا أشهد أنّ عفوك أكثر من مجهوده، وطلّ كرمك أكثر من وابله. جود عبد الله بن جعفر ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن أبي عمّار دخل على نخّاس يعرض قيانا له؛ فعلق واحدة منهن، فشهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه، فكان جوابه أن قال: يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار الّلوم أم وقعا

جود سعيد بن العاص

فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر، فلم يكن له هم غيره، فحج فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيّمة جواريه أن تزيّنها وتحلّيها ففعلت؛ وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه، فقال: مالي لا أرى ابن أبي عمار زارنا؟ فأخبر الشيخ، فأتاه مسلّما. فلما أراد أن ينهض استجلسه، ثم قال: ما فعل حبّ فلانة؟ قال: في اللحم والدم والمخ والعصب. قال: أتعرفها لو رأيتها؟ قال: لو أدخلت الجنة لم أنكرها. فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه، وقال له: إنما اشتريتها لك، وو الله ما دنوت منها، فشأنك بها مباركا لك فيها. فلما ولى قال: يا غلام، احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها. قال: فبكى عبد الرحمن فرحا وقال: يأهل البيت، لقد خصّكم الله بشرف ما خصّ به أحدا قبلكم من صلب آدم، فتهنئكم هذه النعمة، وبورك لكم فيها. ومن جوده أيضا أنه أعطى امرأة سألته مالا عظيما، فقيل له: إنها لا تعرفك وكان يرضيها اليسير. قال: إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي. جود سعيد بن العاص ومن جود سعيد بن العاص أنه مرض وهو بالشام، فعاده معاوية ومعه شر حبيل بن السّمط، ومسلم بن عقبة المرّي، ويزيد بن شجرة الرّهاوي. فلما نظر سعيد معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاما لمعاوية، فقال له معاوية: أقسمت عليك أبا عثمان ألا تتحرّك، فقد ضعفت بالعلة. فسقط؛ فتبادر معاوية: نحوه حتى حنا عليه، وأخذ بيده فأقعده على فراشه وقعد معه، وجعل يسائله عن علّته ومنامه وغذائه، ويصف له ما ينبغي أن يتوقّاه، وأطال القعود معه؛ فلما خرج التفت إلى شرحبيل بن السّمط، ويزيد ابن شجرة، فقال: هل رأيتما خللا في مال أبي عثمان؟ فقالا: ما رأينا شيئا ننكره. فقال لمسلم بن عقبة: ما تقول؟ قال: رأيت. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت على حشمه ومواليه ثيابا وسخة، ورأيت صحن داره غير مكنوس، ورأيت التجّار يخاصمون

قهرمانه. قال: صدقت، كل ذلك قد رأيته. فوجه إليه مع مسلم بثلاثمائة ألف، فسبق رسول يبشّره بها ويخبره بما كان. فغضب سعيد وقال للرسول: إن صاحبك ظن أنه أحسن فأساء، وتأوّل فأخطأ؛ فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرة حركته اتسخ ثوبه، وأما كنس الدار فليست أخلاقنا أخلاق من جعل داره مرآته وتزيّنه لبسه، ومعروفه عطره، ثم لا يبالي بمن مات هزلا من ذي لحمة أو حرمة. وأما منازعة التجار قهرماني فمن كثرة حوائجه وبيعه وشرائه؛ لم يجد بدّا من أن يكون ظالما أو مظلوما. وأما المال الذي أمر به أمير المؤمنين فوصلته كل ذي رحم قاطعة وهنأته كرامته المنعم بها عليه، وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمائة ألف، ولشر حبيل بن السّمط بمثلها، وليزيد بن شجرة بمثلها، وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معوّلنا. فركب مسلم بن عقبة إلى معاوية فأعلمه، فقال: صدق ابن عمي فيما قال، وأحطأت فيما انتهيت إليه، فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك، فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها، كما أنه من فعل خيرا كوفيء عليه. ومن جوده أيضا أن معاوية كان يداول بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة، فكان مروان يقارضه «1» ، فلما دخل على معاوية قال له: كيف تركت أبا عبد الملك؟ يعني مروان. قال: تركته منفّذا لأمرك، مصلحا لعملك. قال معاوية: إنه كصاحب الخبزة: كفي إنضاجها فأكلها! قال: كلا يا أمير المؤمنين؛ إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا، ولا يحصدون إلا ما زرعوا. قال: فما الذي باعد بينك وبينه؟ قال خفته على شرفي وخافني على مثله. قال: فأي شيء كان له عندك؟ قال: أسوؤه حاضرا وأسرّه غائبا. قال: يا أبا عثمان، تركتنا في هذه الحروب. قال: حملت الثقل وكفيت الحزم. قال: فما أبطأ بك؟ قال غناؤك عني أبطأني عنك، وكنت قريبا لو دعوت لأجبناك، ولو أمرت لأطعناك. قال: ذلك ظنّنا بك. فأقبل معاوية على أهل الشام فقال يأهل الشام، هؤلاء قومي وهذا كلامهم. ثم قال: أخبرني عن مالك،

جود عبيد الله بن أبي بكرة

فقد نبّئت أنك تتحرّى فيه. قال: يا أمير المؤمنين، لنا مال يخرج لنا منه فضل، فإذا كان ما خرج قليلا أنفقناه على قلّته، وإن كان كثيرا فكذلك، غير أنا لا ندّخر منه شيئا عن معسر ولا طالب ولا مستحمل، ولا نستأثر منه بفلذة لحم ولا مزعة «1» شحم. قال: فكم يدوم لك هذا؟ قال: من السّنة نصفها. قال: فما تصنع في باقيها؟ قال: نجد من يسلفنا ويسارع إلى معاملتنا. قال: ما أحد أحوج إلى أن يصلح من شأنه منك. قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين، ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذه الحال. فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم، وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروأتك. فقال سعيد: بل أشترى بها حمدا وذكرا باقيا. أطعم بها الجائع، وأزوج بها الأيّم، وأفكّ بها العاني «2» ، وأواسي بها الصديق، ما وأصلح بها حال الجار فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم. فقال معاوية: ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود، وحسبك أن الله تبارك وتعالى جعل الجود أحد صفاته. ومن جوده أيضا ما حكاه الأصمعي، قال: كان سعيد بن العاص يسمر معه سماره إلى أن ينقضي حين من الليل، فانصرف عنه القوم ليلة ورجل قاعد لم يقم، فأمر سعيد بإطفاء الشمعة وقال: حاجتك يافتى؟ فذكر أنّ عليه دينا أربعة آلاف درهم. فأمر له بها، وكان إطفاؤه للشمعة أكثر من عطائه. جود عبيد الله بن أبي بكرة ومن جود عبيد الله بن أبي بكرة أنه أدلى إليه رجل بحرمة، فأمر له بمائة ألف درهم، فقال: أصلحك الله، ما وصلني أحد بمثلها قط، ولقد قطعت لساني عن شكر غيرك، وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك، ولولا أنت لم تبق لها بهجة إلا أظلمت، ولا نور إلا انطمس.

جود عبد الله بن معمر القرشي التيمي

جود عبد الله بن معمر القرشي التيمي ومن جود عبيد الله بن معمر القرشي، أن رجلا أتاه من أهل البصرة كانت له جارية نفيسة قد أدّبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع ذلك، ثم إنّ الدهر قعد بسيّدها ومال عليه. وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه، فقالت لسيّدها: إني أريد أن أذكر لك شيئا أستحي منه، إذ فيه جفاء مني، غير أنه يسهّل ذلك عليّ ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك، وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال، وهذا عبيد الله بن معمر قدم البصرة، وقد علمت شرفه وفضله وسعة كفّه وجود نفسه، فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية، رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقيلك الله به وينهضك إن شاء الله. قال: فبكى وجدا عليها وجزعا لفراقها منه، ثم قال لها: لولا أنك نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبدا. ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله فقال: أعزك الله، هذه ارية ربّيتها ورضيت بها لك، فاقبلها مني هدية. فقال: مثلي لا يستهدي من مثلك؛ فهل لك في بيعها فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى؟ قال: الذي تراه. قال: يقنعك مني عشر بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم؟ قال: والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت، ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور. فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه، وقال للجارية: ادخلي الحجاب. فقال سيدها: أعزك الله! لو أذنت لي في وداعها! قال: نعم. فوقفت وقام، وقال لها وعيناه تدمعان: أبوح بحزن من فراقك موجع ... أقاسي به ليلا يطيل تفكّري ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرّقنا شيء سوى الموت فاعذري عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر قال عبيد الله بن معمر: قد شئت ذلك، فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال. فذهب بجاريته وماله فعاد غنيّا.

الطبقة الثانية من الأجواد

فهؤلاء أجواد الإسلام المشهورون في الجود المنسوبون إليه، وهم أحد عشر رجلا كما ذكرنا وسمّينا، وبعدهم طبقة أخرى من الأجواد، قد شهروا بالجود وعرفوا بالكرم، وحمدت أفعالهم، وسنذكر ما أمكننا ذكره منها إن شاء الله تعالى. الطبقة الثانية من الأجواد فمنهم الحكم بن حنطب قيل لنصيب بن رباح: خرف شعرك أبا محجن! قال لا، ولكن خرف الكرم؛ لقد رأيتني ومدحت الحكم بن حنطب، فأعطاني ألف دينار ومائة ناقة وأربعمائة شاة. وسأل أعرابي الحكم بن حنطب، فأعطاه خمسمائة دينار، فبكى الأعرابي، فقال: ما يبكيك يا أعرابي؟ لعلك استقللت ما أعطيناك! قال: لا والله، ولكني أبكي لما تأكل الأرض منك، ثم أنشأ يقول: وكأنّ آدم حين حان وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء «1» ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... فكفيت آدم علية الأبناء «2» العتبي قال: أخبرني رجل من أهل منبج، قال: قدم علينا الحكم بن حنطب وهو مملق «3» فأغنانا! قال له: كيف أغناكم وهو مملق؟ قال: علّمنا المكارم، فعاد غنيّنا على فقيرنا. ومنهم معن بن زائدة وكان يقال فيه: حدّث عن البحر ولا حرج، وحدّث عن معن ولا حرج. وأتاه رجل يسأله أن يحمله، فقال: يا غلام، أعطه فرسا وبرذونا وبغلا وعيرا وبعيرا وجارية. وقال: لو عرفت مركوبا غير هؤلاء لأعطيتك.

ومنهم يزيد بن المهلب

العتبي قال: لما قدم معن بن زائدة البصرة واجتمع إليه الناس، أتاه مروان بن أبي حفصة فأخذ بعضادتي «1» الباب، فأنشده شعره الذي قاله فيه: فما أحجم الأعداء عنك بقيّة ... عليك، ولكن لم يروا فيك مطمعا له راحتان الحتف والجود فيهما ... أبى الله إلّا أن يضرّ وينفعها ومنهم يزيد بن المهلب وكان هشام بن حسّان إذا ذكره قال: والله إن كانت السفن لتجري في جوده. وقيل ليزيد بن المهّلب: مالك لا تبني دارا؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس. ولما أتى يزيد بن عبد الملك برأس يزيد بن المهلب، نال منه بعض جلسائه فقال له: مه «2» ! إن يزيد بن المهلّب طلب جسيما وركب عظيما ومات كريما. ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلّب في الحبس فأنشده: صحّ في قيدك السماحة والمج ... د وفكّ العناة والإفضال قال: أتمدحني وأنا في هذه الحال؟ قال. أصبتك رخيصا فاشتريتك. فأمر له بعشرة آلاف. وقال سليمان بن عبد الملك لموسى بن نصير: اغرم» ديتك خمسين مرة. قال: ليس عندي ما أغرم. قال: والله لتغرمن ديتك مائة مرة. قال يزيد بن المهلّب: أنا أغرمها عنه يا أمير المؤمنين. قال: اغرم. فغرمها عنه مائة ألف. العتبي قال: أخبرني عوانة قال: استعمل الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيّان المرّي على المدينة وأمره بالغلظة على أهل الظّنة؛ فلما استخلف سليمان أخذه بألفي ألف درهم؛ فاجتمعت القيسية في ذلك فتحمّلوا شطرها وضاقوا ذرعا بالشطر الثاني.

ووافق ذلك استعمال سليمان يزيد بن المهلب على العراق. فقال عمر بن هبيرة: عليكم بيزيد بن المهلّب، فما لها أحد غيره! فتحملوا إلى يزيد وفيهم عمر بن هبيرة، والقعقاع بن حبيب، والهذيل بن زفر بن الحارث، وانتهوا إلى رواق يزيد. قال يحيى ابن أقتل- وكان حاجبا ليزيد بن المهلب وكان رجلا من الأزد- فاستأذنت لهم فخرج يزيد إلى الرواق فقرّب ورحّب، ثم دعا بالغداء، فأتوا بطعام ما أنكروا منه أكثر مما عرفوا، فلما تغدّوا تكلم عثمان بن حيّان وكان لسنا مفوّها، وقال: زادك الله في توفيقك أيها الأمير، إن الوليد بن عبد الملك وجهني إلى المدينة عاملا عليها، وأمرني بالغلظة على أهل الظنّة والأخذ عليهم؛ وإن سليمان أغرمني غرما، والله ما يسعه مالي ولا تحمله طاقتي؛ فأتيناك لتحمل من هذا المال ما خفّ عليك، وما بقي والله ثقيل عليّ. ثم تكلم كل منهم بما حضره، وقد اختصرنا كلامهم. فقال يزيد بن المهلب: مرحبا بكم وأهلا، إن خير المال ما قضي فيه الحقوق وحملت به المغارم، وإنما لي من المال ما فضل عن إخواني، وايم الله لو علمت أن أحدا أملأ بحاجتكم مني لهديتكم إليه فاحتكموا وأكثروا. فقال عثمان بن حيان: النصف أصلح الله الأمير. قال: نعم وكرامة، اغدوا علي مالكم فخذوه. فشكروا له وقاموا فخرجوا. فلما صاروا على باب السرادق قال عمر بن هبيرة: قبّح الله رأيكم، والله ما يبالي يزيد أنصفها تحمّل أم كلّها. فمن لكم بالنصف الباقي؟ قال القوم: هذا والله الرأي! وسمع يزيد مناجاتهم، فقال لحاجبه: انظر يا يحيى إن كان بقي على القوم شيء فليرجعوا، فرجعوا إليه وقالوا: أقلنا «1» قال: قد فعلت. قالوا: فإن رأيت أن تحملها كلّها فأنت أهلها، وإن أبيت فما لها أحد غيرك، قال: قد فعلت. وغدا يزيد بن المهلب إلى سليمان فقال: يا أمير المؤمنين، أتاني عثمان بن حيّان وأصحابه. قال: أمسك في المال؟ قال: نعم. قال سليمان: والله لآخذنّه منهم. قال

يزيد: إني قد حملته. قال: فأدّه: قال يزيد والله ما حملته إلا لأؤدّيه ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه الحمالة وإن عظم خطبها، فحمدها والله أعظم منها، ويدي مبسوطة بيدك، فابسطها لسؤالها. ثم غدا يزيد بالمال على الخزّان فدفعه إليهم فدخلوا على سليمان فأخبروه بقبض المال، فقال: وفت يمين سليمان احملوا إلى أبي خالد ماله. فقال عدي بن الرقاع العاملي: ولله عينا من رأى كحمالة ... تحمّلها كبش العراق يزيد الأصمعي قال: قدم على يزيد بن المهلّب قوم من قضاعة من بني ضبّة، فقال رجل منهم: والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الّذي نتطلب؟ ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتنا التي عوّدتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب؟ فأمر له بألف دينار؛ فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال: مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأنّ بابك مجمع الأسواق أرجوك أم خافوك أم شاموا النّدى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق إنّي رأيتك للمكارم عاشقا ... والمكرمات قليلة العشّاق فأمر له بعشرة آلاف درهم. ومر يزيد بن المهلّب في طريق البصرة بأعرابيّة، فأهدت إليه عنزا، فقبلها وقال لابنه معاوية: ما عندك من نفقة؟ قال: ثمانمائة درهم. قال: ادفعها إليها! قال إنها لا تعرفك ويرضيها اليسير قال: إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي، وإن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير.

ومنهم يزيد بن حاتم

ومنهم يزيد بن حاتم وكتب إليه رجل من العلماء يستوصله، فبعث إليه ثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: «أما بعد، فقد بعثت إليك بثلاثين ألفا، لا أكثّرها امتنانا، ولا أقلّلها تجبّرا، ولا أستثيبك عليها ثناء، ولا أقطع لك بها رجاء، والسلام» . وكان ربيعة الرّقي قد قدم مصر فأتى يزيد بن حاتم الوردي فلم يعطه شيئا، فشغل عنه ببعض الأمر، فخرج وهو يقول: أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم فسأل عنه يزيد، فأخبر أنه قد خرج وقال كذا، وأنشد البيت؛ فأرسل في طلبه فأتي به، فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت: فقال شغلنا عنك! ثم أمر بخفّيه فخلعتا من رجليه وملئتا مالا، وقال: ارجع بهما بدلا من خفّي حنين! فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن حاتم: بكى أهل مصر بالدّموع السّواجم ... غداة غدا منها الأغرّ ابن حاتم وفيها يقول: لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى ... يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم فهمّ الفتى الأزديّ إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدّراهم فلا يحسب التّمتام أنّي هجوته ... ولكنّني فضّلت أهل المكارم وخرج إليه رجل من الشعراء يمدحه، فلما بلغ مصر وجده قد مات؛ فقال فيه: لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي ... وأخلفني منها الذي كنت آمل فما كلّ ما يخشى الفتى بمصيبه ... ولا كلّ ما يرجو الفتى هو نائل وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل

ومنهم أبو دلف

ومنهم أبو دلف واسمه القاسم بن إسماعيل، وفيه يقول عليّ بن جبلة: إنما الدنيا أبو دلف ... بين مبداه ومحتضره «1» فإذا ولّي أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره وقال فيه رجل من شعراء الكوفة: الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على العباد، على كفي أبي دلف بارى الرياح فأعطى وهي جارية ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف «2» ما خطّ «لا» كاتباه في صحيفته ... يوما كما خطّ «لا» في سائر الصحف فأعطاه ثلاثين ألفا. ومدحه آخر فقال فيه: يشبهه الرّعد إذا الرعد رجف ... كأنه البرق إذا البرق خطف كأنه الموت إذا الموت أزف ... تحمله إلى الوغى الخيل القطف «3» إن سار سار المجد أو حلّ وقف ... انظر بعينيك إلى أسنى الشّرف هل ناله بقدرة أو بكلف ... خلق من الناس سوى أبي دلف فأعطاه خمسين ألفا. ومن أخبار معن بن زائدة شيء عنه: قال شراحيل بن معن بن زائدة: حج هارون الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي، وكنت كثيرا ما أسايره، إذ عرض له أعرابيّ من بني أسد فأنشده شعرا مدحه فيه

ومنهم خالد بن عبد الله القسري

وأفرط، فقال له هارون: ألم أنهك عن مثل هذا في مدحك يا أخا بني أسد؟ إذا قلت فينا فقل كقول القائل في أب هذا: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل «1» هم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل «2» بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا ومنهم خالد بن عبد الله القسري وهو الذي يقول فيه الشاعر: ... إلى خالد حتى أنخن بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمّل بينا خالد بن عبد الله القسري جالس في مظلة له، إذ نظر إلى أعرابي يخب «3» به بعيره مقبلا نحوه؛ فقال لحاجبه. إذا قدم فلا تحجبه. فلما قدم أدخله عليه، فسلّم وقال: أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا أناخ دهر ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا «4» فقال خالد: أرسلوك وانتظروا؟ والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرّهم. وأمر له بجائزة عظيمة وكسوة شريفة. ومنهم عديّ بن حاتم دخل عليه ابن دارة فقال: إني مدحتك. قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حسبه، فإني أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألف شاة، وألف درهم، وثلاثة

أصفاد الملوك على المدح

أعبد، وثلاث إماء، وفرسي هذا حبس في سبيل الله، فامدحني على حسب ما أخبرتك. فقال: تجن قلوصي في معدّ، وإنّما ... تلاقي الرّبيع في ديار بني ثعل وأبقى الليالي من عديّ بن حاتم ... حساما كنصل السيف سلّ من الخلل «1» أبوك جواد لا يشقّ غباره ... وأنت جواد لست تعذر بالعلل فإن تفعلوا شرّا فمثلكم اتّقي ... وإن خيرا فمثلكم فعل قال له عدي: أمسك؛ لا يبلغ مالي أكثر من هذا. أصفاد الملوك على المدح سعيد بن مسلم الباهلي قال: قدم على الرشيد أعرابي من باهلة وعليه جبة حبرة، ورداء يمان قد شدّه على وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على فوديه وأرخى لها عذبة «2» من خلفه، فمثل بين يدي الرشيد، فقال سعيد: يا أعرابي، خذ في شرف أمير المؤمنين. فاندفع في شعره. فقال الرشيد: يا أعرابي، أسمعك مستحسنا وأنكرك متّهما؛ فقل لنا بيتين في هذين- يعني محمدا الأمين وعبد الله المأمون ابنيه، وهما عن حفافيه، فقال: يا أمير المؤمنين، حملتني على الوعر القردد «3» ورجعتني عن السّهل الجدد «4» ، روعة الخلافة، وبهر الدرجة، ونفور القوافي على البديهة؛ فأرودني «5» تتألف لي نوافر ويسكن روعي. قال: قد فعلت، وجعلت اعتذارك بدلا من امتحانك. قال: يا أمير المؤمنين، نفّست الخناق، وسهلت ميدان السباق؛ فأنشأ يقول:

المهدي ومروان ابن أبي حفصة

بنيت لعبد الله ثمّ محمد ... ذرا قبة الإسلام فاخضرّ عودها هما طنباها، بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها «1» فقال الرشيد: وأنت يا أعرابي، بارك الله فيك! فسل ولا تكن مسألتك دون إحسانك. قال الهنيدة «2» يا أمير المؤمنين. فأمر له بمائة ناقة وسبع خلع. المهدي ومروان ابن أبي حفصة : وقال مروان بن أبي حفصة: دخلت على المهديّ فاستنشدني، فأنشدته الشعر الذي أقول فيه: طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تنشر بالخباء دلالها قادت فؤادك فاستقاد ومثلها ... قاد القلوب إلى الصّبا فأمالها حتى انتهيت إلى قولي: شهدت من الأنفال آخر آية «3» ... بتراثهم فرجوتهم إبطالها هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أو تسترون هلالها أو تجحدون مقالة عن ربّكم ... جبريل بلّغها النبيّ فقالها قال: وأنشدته أيضا شعري الذي أقول فيه: يا بن الذي ورث النبيّ محمدا ... دون الأقارب من ذوي الأرحام الوحي بين بني البنات وبينكم ... قطع الخصام فلات حين خصام ما للنساء مع الرّجال فريضة ... نزلت بذلك سورة الأنعام أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام

عبد الملك وأعشى ربيعة

ألغى سهامهم الكتاب فحاولوا ... أن يشرعوا فيها بغير سهام ظفرت بنو ساقي الحجيج بحقّهم ... وغررتم بتوهّم الأحلام قال مروان بن أبي حفصة: فلما أنشدت المهديّ الشعرين قال: وجب حقّك على هؤلاء- وعنده جماعة من أهل بيته- قد أمرت لك بثلاثين ألفا، وفرضت على موسى خمسة آلاف، وعلى هارون مثلها، وعلى عليّ أربعة آلاف، وعلى العبّاس كذا، وعلى فلان كذا فحسبت سبعين ألفا. قال: فأمر بالثلاثين ألفا فأتى بها، ثم قال: اغد على هؤلاء وخذ ما فرضت لك. فأتيت موسى فأمر لي بخمسة آلاف، وأتيت هارون فأمر لي بمثلها، وأتيت عليا، قال: قصّر بي دون إخوتي فلن أقصّر بنفسي. فأمر لي بخمسة آلاف فأخذت من الباقين سبعين ألفا. عبد الملك وأعشى ربيعة : ودخل أعشى ربيعة على عبد الملك بن مروان، وعن يمينه الوليد وعن يساره سليمان؛ فقال له عبد الملك: ماذا بقي يا أبا المغيرة؟ قال: مضى ما مضى وبقي ما بقي. وأنشأ يقول: وما أنا في حقّي ولا في خصومتي ... بمهتضم حقّي ولا قارع سني «1» ولا مسلم مولاي من سوء ما جنى ... ولا خائف مولاي من سوء ما أجني وفضلي في الأقوام والشّعر أنني ... أقول الذي أعني وأعرف ما أعني وأنّ فؤادي بين جنبيّ عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني وإني وإن فضّلت مروان وابنه ... على الناس، قد فضّلت خير أب وابن فضحك عبد الملك وقال للوليد وسليمان: أتلوماني على هذا؟ وأمر له بعشرة آلاف.

عبد الرحمن بن الحكم والفرزدق

عبد الرحمن بن الحكم والفرزدق : العتبي قال: دخل الفرزدق على عبد الرحمن الثقفي بن أم الحكم، فقال له عبد الرحمن: أبا فراس، دعني من شعرك الذي لا يأتي آخره حتى ينسى أوله، وقل فيّ بيتين يعلقان «1» أفواه الرواة، وأعطيكها عطية لم يعطها أحد قبلي فغدا عليه وهو يقول: وأنت ابن بطحاوي قريش فإن تشأ ... فكن من ثقيف سيل ذي حدب غمر «2» وأنت ابن فرع ماجد لعقيلة ... تلقّت له الشمس المضيئة بالبدر قال: أحسنت، وأمر له بعشرة آلاف. الفضل بن يحيى وفتى من التجار : أبو سويد قال: أخبرني الكوفي قال: اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة فقطع به وأخذ جميع ما كان معه، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال: سأرسل بيتا ليس في الشّعر مثله ... يقطّع أعناق البيوت الشّوارد أقام النّدى والبأس في كلّ منزل ... أقام به الفضل بن يحيى بن خالد قال فأمر له بمائة ألف درهم. زبيدة وابن أبي حفصة في أبيات مدح بها الأمين : العتبي: قال أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتا ورفعها إلى زبيدة ابنة جعفر يمتدح ابنها محمدا، وفيها يقول: لله درّك يا عقيلة جعفر ... ماذا ولدت من العلا والسّؤدد «3»

الحسن بن سهل وعلي بن جبلة

إنّ الخلافة قد تبيّن نورها ... للناظرين على جبين محمد فأمرت أن يملأ فمه درّا. الحسن بن سهل وعلي بن جبلة : وقال الحسن بن رجاء الكاتب: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل، والمأمون هناك بانيا على خديجة بنت الحسن بن سهل، والمعروفة ببوران، ونحن إذ ذاك نجري على نيّف وسبعين ألف فلاح. وكان الحسن بن سهل مع المأمون يتصبّح؛ فكان الحسن يجلس للناس إلى وقت انتباهه، فلما قدم علي بن جبلة نزل بي، فقلت له: قد قوي شغل الأمير. قال: إذا لا أضيع معك! قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه؛ فقال: ألا ترى ما نحن فيه؟ قلت: لست بمشغول عن الأمر له. فقال: يعطى عشرة آلاف إلى أن نتفرّغ له. فأعلمت علي بن جبلة؛ فقال في كلمة له: أعطيتني يا وليّ الحقّ مبتدئا ... عطيّة كافأت حمدي ولم ترني ما شمت برقك حتى نلت ريّقه ... كأنّما كنت بالجدوى تبادرني «1» ابن طوق ورجل عرض له : عرض رجل لابن طوق وقد خرج متنزها في الرحبة فناوله رقعة فيها جميع حاجته؛ فأخذها فإذا فيها: جعلتك دنياي فان أنت جدت لي ... بخير وإلا فالسّلام على الدّنيا فقال: والله لأصدقنّ ظنك. فاعطاه حتى أغناه. عبد الله بن طاهر ودعبل بن علي : عرض دعبل بن علي الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني وهو راكب في حرّاقة له في دجلة، فأشار إليه برقعة، فأمر بأخذها، فإذا فيها:

عجبت لحرّاقة بن الحس ... ين كيف تسير ولا تغرق وبحران من تحتها واحد ... وآخر من فوقها مطبق وأعجب من ذاك عيدانها ... إذا مسّها كيف لا تورق فأمر له بخمسة آلاف درهم وجارية وفرس. وخرج عبد الله بن طاهر فتلقاه دعبل برقعة فيها: طلعت قناتك بالسّعادة فوقها ... معقودة بلواء ملك مقبل «1» تهتزّ فوق طريدتين كأنّما ... تهفو يقصّ لها جناحا أجدل «2» ربح البخيل على احتيال عرضه ... بندى يديك ووجهك المتهلّل لو كان يعلم أنّ نيلك عاجل ... ما فاض منه جدول في جدول فأمر له بخمسة آلاف. ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر فأنشده: إذا قيل: أيّ فتى تعلمون ... أهشّ إلى البأس والنائل وأضرب للهام يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل؟ أشار إليك جميع الأنام ... إشارة غرقى إلى ساحل فأمر له بخمسة آلاف درهم. أحمد بن مطير قال: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتا كنت مدحت بها بعض الولاة، وهي: له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم فيقطر يوم الجود من كفّه النّدى ... ويقطر يوم البؤس من كفّه الدّم فلو أنّ يوم البؤس لم يثن كفّه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم ولو أنّ يوم الجود فرّغ كفّه ... لبذل النّدى ما كان بالأرض معدم

أبو جعفر وحماد عجرد

فقال لي عبد الله: كم أعطاك؟ قلت: خمسة آلاف. قال: فقبلتها؟ قلت: نعم. قال لي: أخطأت؛ ما ثمن هذه إلا مائة ألف. أبو جعفر وحماد عجرد : ودخل حماد عجرد على أبي جعفر بعد موت أبي العبّاس أخيه فأنشده: أبوك بعد أبي العبّاس إذ بانا ... يا أكرم الناس أعراقا وعيدانا لو مجّ عود على قوم عصارته ... لمجّ عودك فينا المسك والبانا «1» فأمر له بخمسة آلاف درهم. سعيد بن خالد وموسى شهوات : القحذمي قال: جاء موسى شهوات إلى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فقال: إن هنا جارية تعشّقتها، وأبوا أن ينقصوني عن مائتي دينار. فقال: بورك فيه فذهب إلى سعيد بن خالد بن أسيد، وأمّه عائشة بنت طلحة الطلحات فدعا بمطرف «2» خزّ فبسطه وعقد في كل ركن من أركانه مائة دينار، وقال لموسى. خذ المطرف بما فيه. فأخذه، ثم غدا عليه فأنشده: أبا خالد أعني سعيد بن خالد ... أخا العرف، لا أعني ابن بنت سعيد ولكنّني أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد عميد النّدى ما عاش يرضى به النّدى ... فإن مات لم يرض النّدى بعميد دعوه دعوه إنّكم قد رقدتم ... وما هو عن أحسابكم برقود للزبيري في آل مروان : العتبي قال: سمعت عمي ينشد لأبي العباس الزبيرى: وكلّ خليفة ووليّ عهد ... لكم يا آل مروان الفداء إمارتكم شفاء حيث كانت ... وبعض امارة الأقوام ذاء

أبو مسلم ورؤبة

فأنتم تحسنون إذا ملكتم ... وبعض القوم إن ملكوا أساءوا أأجعلكم وغيركم سواء ... وبينكم وبينهم الهواء هم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأيديهم وأرجلهم سماء فقلت له: كم أعطى عليها؟ قال: عشرين ألفا. أبو مسلم ورؤبة : الأصمعي قال: حدثني رؤبة قال: دخلت على أبي مسلم صاحب الدعوة، فلما أبصرني نادى: يا رؤبة. فأجبته: لبّيك إذ دعوتني لبّيكا ... أحمد ربّا ساقني إليكا الحمد والنّعمة في يديكا قال: بل في يدي الله تعالى. قلت له: وأنت إذا أنعمت أجدت. ثم قلت: يأذن لي أمير المؤمنين في الإنشاد؟ قال: نعم؛ فأنشدته: ما زال يأتي الملك في أقطاره ... وعن يمينه وعن يساره مشمّرا لا يصطلي بناره ... حتى أقرّ الملك في قراره فقال: يا رؤبة، إنك أتيتنا وقد شفّ المال واستنفده الإنفاق، وقد أمرنا لك بجائزة، وهي تافهة يسيرة، ومنك العود وعلينا المعوّل، والدهر أطرق مستتبّ «1» ، فلا تجعل بيننا وبينك الأسدّة «2» . قال رؤبة: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أكثر من الذي أفادني من ماله. ودخل نصيب بن رباح على هشام فأنشده: إذا استبق الناس العلا سبقتهم ... يمينك عفوا ثمّ صلّت شمالكا فقال هشام: بلغت غاية المدح فسلني. فقال: يا أمير المؤمنين، يداك بالعطيّة أطلق

عبد الله بن جعفر ونصيب

من لساني بالمسألة. قال: لا بد أن تفعل. قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فكسّدها، فلو أنفقها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها. قال: فأقطعها أرضا، وأمر لها بحلي وكسوة. فنفقت السوداء. عبد الله بن جعفر ونصيب : الرياشي عن الأصمعي قال: مدح نصيب بن رباح عبد الله بن جعفر فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة ورواحل موقرة «1» برّا وتمرا؛ فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ قال: أما لئن كان عبدا إن شعره فيّ لحرّ؛ ولئن كان أسود إنّ ثناءه لأبيض، وإنما أخذ مالا يفنى وثيابا تبلى ورواحل تنضى «2» ، وأعطى مديحا يروى وثناء يبقى. هشام وأبو النجم : وذكروا عن أبي النجم العجلي أنه أنشد هشاما شعره الذي يقول فيه: الحمد لله الوهوب المجزل وهو من أجود شعره، حتى انتهى إلى قوله: والشمس في الجوّ كعين الأحول وكان هشام أحول، فأغضبه ذلك، فأمر به فطرد. فأمّل أبو النجم رجعته، فكان يأوي إلى المسجد، فأرق هشام ذات ليلة فقال لحاجبه: أبغني رجلا عربيا فصيحا يحدّثني وينشدني. فطلب له ما سأل، فوجد أبا النجم، فأتى به، فلما دخل عليه قال: أين تكون منذ أقصيناك؟ قال: حيث ألفاني رسولك. قال: فمن كان أبا النجم مثواك؟ قال: رجلين، أتغدّى عند أحد هما وأتعشّى عند الآخر. قال: فما لك من الولد؟ قال: ابنتان، قال أزوجتهما؟ قال: زوّجت إحدا هما. قال: فبم أوصيتها ليلة أهديتها؟ قال: قلت لها:

مروان بن محمد وطريح وذو الرمة

سبّي الحماة وابهتي عليها ... وأن أبت فازدلفي إليها «1» ثم اقرعي بالعود مرفقيها ... وجدّدي الخلف به عليها لا تخبري الدهر بذاك ابنيها فقال: فهل أوصيتها بعد هذا؟ قال: نعم. أوصيت من برّة قلبا برّا ... بالكلب خيرا والحماة شرّا لا تسأمي خنقا لها وجرّا ... والحيّ عمّيهم بشرّ طرّا وإن كسوك ذهبا ودرّا ... حتى يروا حلو الحياة مرّا قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا ولدي كولده. قال: فما حال الأخرى؟ قال هي ظلامة التي أقول فيها: كأنّ ظلامة أخت شيبان ... يتيمة ووالداها حيّان الرّأس قمل كلّه وصئبان ... وليس في الرجلين إلّا خيطان فهي التي يذعر منها الشّيطان قال هشام لحاجبه: ما فعلت بالدنانير التي أمرتك بقبضها؟ قال: هي عندي، وهي خمسمائة دينار. قال له: ادفعها لأبي النّجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين. مروان بن محمد وطريح وذو الرمة : أبو عبيدة قال: حدّثني يونس بن حبيب قال: لما استخلف مروان بن محمد دخل عليه الشعراء يهنئونه بالخلافة، فتقدّم إليه طريح بن إسماعيل الثقفي، خال الوليد بن يزيد، فقال: الحمد لله الذي أنعم بك على الإسلام إماما، وجعلك لأحكام دينه قواما، ولأمة محمد المصطفى جنّة «2» ونظاما. ثم أنشده شعره الذي يقول فيه: تسوء عداك في سداد ونعمة ... خلافتنا تسعين عاما وأشهرا

المنصور وابن هرمة

فقال مروان: كم الأشهر؟ قال: وفاء المائة يا أمير المؤمنين، تبلغ فيها أعلى درجة وأسعد عاقبة في النصرة والتمكين. فأمر له بمائة ألف درهم. ثم تقدّم إليه ذو الرّمة متحانيا كبرة، قد انحلّت عمامته منحدرة عن وجهه، فوقف يسوّيها، فقيل له: تقدّم. قال: إني أجلّ أمير المؤمنين أن أخطب بشرفه مادحا بلوثة عمامتي. فقال مروان: ما أملت أنه أبقت لنا منك ميّ ولا صيدح» في كلامك إمتاعا. قال: بلى والله يا أمير المؤمنين؛ أرد منه قراحا، والأحسن امتداحا، ثم تقدّم فأنشد شعرا يقول فيه: فقلت لها سيري، أمامك سيّد ... تفرّع من مروان أو من محمّد فقال له: ما فعلت مي؟ فقال: طويت غدائرها ببرد بلى ... ومحا التّراب محاسن الخدّ فالتفت مروان إلى العباس بن الوليد، فقال: أما ترى القوافي تنثال انثيالا؟ يعطى بكل من سمّى من آبائي ألف دينار. قال ذو الرمة: لو علمت لبلغت به عبد شمس. المنصور وابن هرمة : الربيع حاجب المنصور قال: قلت يوما للمنصور: إن الشعراء ببابك وهم كثيرون، طالت أيامهم ونفدت نفقاتهم. فقال: اخرج إليهم فاقرأ عليهم السلام، وقل لهم من مدحني منكم فلا يصفني بالأسد، فإنما هو كلب من الكلاب؛ ولا بالحيّة، فإنما هي دويّبة منتنة تأكل التراب؛ ولا بالجبل، فإنما هو حجر أصم؛ ولا بالبحر، فإنما هو غطامط لجب «2» ؛ ومن ليس في شعره هذا فليدخل؛ ومن كان في شعره فلينصرف. فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة، فإنه قال له. أنا له يا ربيع، فأدخلني. فأدخله، فلما مثل بين يديه، قال المنصور: يا ربيع، قد علمت أنه لا

جعفر وابن الجهم

يجيبك أحد غيره؛ هات يا بن هرمة. فأنشده قصيدته التي يقول فيها: له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرّها فيها عذاب ونائل لهم طينة بيضاء من آل هاشم ... إذا اسودّ من كوم التراب القبائل إذا ما أبى شيئا مضى كالذي أبى ... وإن قال إنّي فاعل فهو فاعل فقال: حسبك! ها هنا بلغت، هذا عين الشعر، قد أمرت لك بخمسة آلاف درهم. فقمت إليه وقبلت رأسه وأطرافه ثم خرجت، فلما كدت أن أخفى على عينيه سمعته يقول: يا إبراهيم! فأقبلت إليه فزعا، فقلت: لبيك فداك أبي وأمي. قال: احتفظ بها فليس لك عندنا غيرها! فقلت: بأبي وأمي أنت، أحفظها حتى أوافيك بها على الصراط بخاتم الجهبذ «1» . جعفر وابن الجهم : علي بن الحسين قال؛ أنشد عليّ بن الجهم جعفرا المتوكل شعره الذي أوله: هي النفس ما حمّلتها تتحمّل وكان في يد المتوكل جوهرتان، فأعطاه التي في يمينه؛ فأطرق متفكّرا في شيء يقوله ليأخذ التي في يساره، فقال: مالك مفكرا؟ إنما تفكر فيما تأخذ به الأخرى! خذها لا بورك لك فيها! فأنشأ يقول: بسرّ من را إمام عدل ... تعرف من بحره البحار يرجى ويخشى لكلّ أمر ... كأنّه جنّة ونار الملك فيه وفي بنيه ... ما اختلف الليل والنهار يداه في الجود ضرّتان ... عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيئا ... إلا أتت مثله اليسار وقال آخر في الهول:

إذا سألت النّدى عن كلّ مكرمة ... لم تلف نسبتها إلّا إلى الهول لو زاحم الشمس ألفى الشمس مظلمة ... لو زاحم الصّمّ ألجاها إلى الميل «1» أمضى من الدهر إن نابته نائبة ... وعند أعدائه أمضى من السّيل ودخل شاعر من أهل الريّ. يقال له أبو يزيد، على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان، فأنشده: اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... من شادمهر ودع غمدان لليمن «2» فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن عليّ وابن ذي يزن فأمر له بعشرة آلاف درهم. ودخلت ليلى الأخيليّة على الحجّاج فأنشدته: إذا ورد الحجّاج أرضا مريضة ... تتّبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هزّ القناة سقاها «3» فقال لها: لا تقولي غلام، ولكن قولي: همام. ثم قال: أي النساء أحبّ إليك أنزلك عندها؟ قالت: ومن نساؤك أيها الأمير؟ قال: أم الجلاس بنت سعيد بن العاص الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت المهلب بن أبي صفرة العتكيّة. قالت: القيسية أحبّ إليّ. فلما كان من الغد دخلت عليه. قال: يا غلام، أعطها خمسمائة. قالت: أيها الأمير، أحسبها أدما «4» . قال قائل: إنما أمر لك بشاء. قالت: الأمير أكرم من ذلك. فجعلها إبلا على استحياء، وإنما كان أمر لها بشاء أوّلا.

كتاب الجمانة في الوفود

كتاب الجمانة في الوفود فرش الكتاب الوفود قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربّه: قد مضى قولنا في الأجواد والأصفاد «1» على مراتبهم ومنازلهم، وما جروا عليه، وما ندبوا إليه من الأخلاق الجميلة، والأفعال الجزيلة. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الخلفاء والملوك؛ فإنها مقامات فضل، ومشاهد حفل؛ يتخيّر لها الكلام، وتستهذب الألفاظ، وتستجزل المعاني. ولا بد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوّته ينزعون «2» ، وعن رأيه يصدرون؛ فهو واحد يعدل قبيلة، ولسان يعرب عن ألسنة، وما ظنّك بوافد قوم يتكلّم بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أو خليفته، أو بين يدي ملك جبار في رغبة أو رهبة، فهو يوطد لقومه مرّة ويتحفّظ من أمامه أخرى. أتراه مدّخرا نتيجة من نتائج الحكمة، أو مستبقيا غريبة من غرائب الفطنة؛ أم تظن القوم قدّموه لفضل هذه الخطة إلا وهو عندهم في غاية الحذلقة «3» والّلسن، ومجمع الشعر والخطابة. ألا ترى أنّ قيس بن عاصم المنقريّ لمّا وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم بسط له رداءه وقال: هذا سيد الوبر. ولما توفي قيس بن عاصم قال فيه الشاعر «4» : عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما

وفود العرب على كسرى

تحيّة من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما «1» وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما وفود العرب على كسرى ابن الفطامي عن الكلبيّ قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم. فافتخر النعمان بالعرب وفضّلهم على جميع الأمم، لا يستثنى فارس ولا غيرها، فقال كسرى وأخذته عزة الملك: يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حال من يقدم عليّ من وفود الأمم، فوجدت الروم لها حظّ في اجتماع ألفتها، وعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها: وأنّ لها دينا يبيّن حلالها وحرامها ويردّ سفيهها ويقيم جاهلها. ورأيت الهند نحوا من ذلك في حكمتها وطبّها، مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها، وطيّب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها. وكذلك الصين في اجتماعها. وكثرة صناعات أيديها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وفروسيّتها وهمتها، وأنّ لها ملكا يجمعها. والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش، وقلّة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضمّ قواصيهم وتدبّر أمرهم. ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة، مع أن مما يدل على مهانتها وذلّها وصغر همتها، ومحلّتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها، ومشاربها ولهوها ولذّاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفا عدّها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة؛ تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التّنوخيّة التي

أسس جدّي اجتماعها، وشدّ مملكتها، ومنعها من عدوّها؛ فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإنّ لها مع ذلك آثارا ولبوسا، وقرى وحصونا، وأمورا تشبه بعض أمور الناس- يعني اليمن- ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلّة والقلّة والفاقة والبؤس، حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس. قال النعمان: أصلح الله الملك، حقّ لأمة الملك منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها. إلا أنّ عندي جوابا في كل ما نطق به الملك، في غير ردّ عليه، ولا تكذيب له، فإن أمّنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: قل فأنت آمن. قال النعمان: أمّا أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل، لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها، وبسطة محلّها، وبحبوحة عزّها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأيّ أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزّها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها: فأما عزّها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوّخوا البلاد، ووطّدوا الملك، وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجنّتهم «1» السيوف، وعدّتهم الصبر. إذ غيرها من الأمم إنما عزّها الحجارة والطين وجزائر البحور. وأما حسن وجوهها وألوانها فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند، والصين المنحفة، والترك المشوّهة، والروم المقشّرة.

وأما أنسابها وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أوّلها، حتى إنّ أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمّي آباءه أبا فأبا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه: ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤها، فإنّ أدناهم رجلا الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه «1» في حموله وشبعه وريّه، فيطرقه الطارق «2» الذي يكتفي بالفلذة «3» ويجتزيء بالشّربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر. وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفهم بالأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعفّ النساء، ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع «4» ، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد قفر. وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسّكون به، حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرا حرما، وبلدا محرما، وبيتا محجوجا ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغبته منه، فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى. وأما وفاؤها، فإنّ أحدهم يلحظ اللحظة ويوميء الإيماءة فهي ولث «5» وعقدة لا يحلّها إلا خروج نفسه، وإنّ أحدهم ليرفع عودا من الأرض فيكون رهنا بدينه فلا

يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلا استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما خفر من جواره؛ وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيها الملك: يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج. أما قولك: إنّ أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له، فعمدوا إلى أجلّها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحوما، وأطيبها لحوما، وأرقّها ألبانا، وأقلها غائلة، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من الّلحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم؛ فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفا وتخوّفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمّتهم: وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطف «1» بالعسف. وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جدّ الملك وليّها الذي أتاه عند غلبة الحبش له على ملك متّسق؛ وأمر مجتمع؛ فأتاه مسلوبا طريدا مستصرخا، وقد تقاصر عن إيوائه، وصغر في عينه ما شيّد من بنائه. ولولا ما وتر «2» به من يليه من العرب لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار. قال: فعجب كسرى لما أجابه النعمان به؛ وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة

في أهل إقليمك ولما هو أفضل. ثم كساه من كسوته، وسرّحه إلى موضعه من الحيرة. فلمّا قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفيّ وحاجب بن زرارة التميميّين، وإلى الحارث ابن عباد وقيس بن مسعود البكريّين، وإلى خالد بن جعفر، وعلقمة بن معد يكرب الزّبيدي، والحرث بن ظالم المرّي؛ فلما قدموا عليه في الخورنق، قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوّفت أن يكون لها غور، وأن يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولا «1» كبعض طماطمته «2» في تأديتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله. فاقتصّ عليهم مقالات كسرى وما ردّ عليه؛ فقالوا: أيها الملك، وفّقك الله، ما أحسن ما رددت، وأبلغ ما حججته به؛ فمرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت. قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوّف من ناحيتكم، وليس شيء أحبّ إليّ مما سدّد الله به أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزّكم؛ والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أنّ العرب الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أنّ العرب على غير ما ظن أو حدّثته نفسه؛ ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان، كثير الأعوان مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا «3» له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك، تظهر به وثاقة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظمة أخطاركم؛ وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، لسنيّ حاله، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها؛ فإنما دعاني إلى التّقدمة بينكم علمي بميل كل رجل منكم على التقدم قبل صاحبه؛ فلا يكوننّ ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعنا؛ فإنه ملك مترف، وقادر مسلّط.

ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائق حلل الملوك، كل رجل منهم حلّة، وعمّمه عمامة، وختّمه بياقوتة؛ وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة، وكتب معهم كتابا: أما بعد، فإن الملك ألقى إليّ من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم بما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما يليها بفضل قوّتها، تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزّز بها ذو والحزم والقوة والتدبير والمكيدة. وقد أوفدت أيها الملك رهطا من العرب؛ لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم؛ فليسمع الملك، وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم. فخرج القوم في أهبهتم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان، فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسا يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مرازبته «1» ووجوه أهل مملكته، فحضروا وجلسوا على كراسيّ عن يمينه وشماله؛ ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وضعهم النعمان بها في كتابه؛ وأقام التّرجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام. فقام أكثم بن صيفيّ فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمّها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشرّ لجاجة «2» ، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء. آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان كالغاصّ بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها. شر الملوك من

خافه البريء. المرء يعجز لا المحالة. أفضل الأولاد البررة. وخير الأعوان من لم يراء «1» بالنصيحة. أحقّ الجنود بالنصر من حسنت سريرته. يكفيك من الزاد ما بلّغك المحلّ. حسبك من شرّ سماعة. الصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شّدد نفر، ومن تراخى تألف. فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه. قال أكثم: الصدق ينبيء عنك لا الوعيد. قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى. قال أكثم: ربّ قول أنفذ من صول. ثم قام حاجب بن زرارة التميمي، فقال ورى زندك، وعلت يدك، وهيب سلطانك. إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرّتها «2» ، ومنعت درّتها «3» ؛ وهي لك وامقة «4» ما تألفتها، مسترسلة ما لا ينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة. نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك؛ ذمّتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة؛ إن نؤب لك حامدين خيرا فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذمّ دونها. قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها. قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها. قال كسرى: وذلك.

ثم قام الحارث بن عباد البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظّها، وعلوّ ثنائها. من طال رشاؤه كثر متحه «1» ، ومن ذهب ماله قلّ منحه. تناقل الأقاويل يعرّف اللّب؛ وهذا مقام سيوجف «2» بما ينطق فيه الرّكّب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب؛ ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمّة، وجيوشنا فخمة، إن استنجدتنا فغير ربض «3» ، وإن استطرقتنا فغير جهض» ، وإن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكّر لدهر، رماحنا طوال، وأعمارنا قصار. قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة والله ضعيفة. قال الحارث: أيها الملك، وأنى يكون لضعيف عزّة، أو لصغير مرّة؟ قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرّرا بنفسه على الموت، فهي منية استقبلها، وحياة استدبرها؛ والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدما، وأحبسها وهي تصرّف بهم، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحى، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصّر عن خوض خضاخضها «5» ، حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دما، وأترك حماتها جزر السباع وكلّ نسر قشعم «6» . ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟

قالوا: فعاله أنطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدا أحشد، ولا شهودا أوفد. ثم قام عمرو بن الشريد السّلمي فقال: أيها الملك نعم بالك، ودام في السرور حالك؛ إنّ عاقبة الكلام متدبّرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير ثقلة، وفي قليل بلغة، وفي الملوك سورة العزّ «1» ، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل، لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرّض لرفدك. إنّ في أموالنا مرتقدا، وعلى عزنا معتمدا؛ إن أورينا نارا أثقبنا، وإن أود «2» دهر بنا اعتدلنا، إلا أنّا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون، حتى يحمد الصّدر، ويستطاب الخبر. قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمّك. قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيسر إفراطي مخبرا، ولم يلم من عزفت «3» نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ. قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به. اجلس. ثم قام خالد بن جعفر الكلابيّ فقال: أحضر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا؛ إنّ لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعيّ المنطق أشدّ من عيّ السكوت، وعثار القول أنكى من عثار الوعث «4» ، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوى، وغصة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أنني له مطيق أحبّ إليّ من تكلّفي ما أتخوّف ويتخوفّ مني. وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان. أنفسنا بالطاعة لك باخعة «5» ، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة.

قال له كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل. ثم قام علقمة بن علاثة العامريّ فقال: أنهحت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد: إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج؛ وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه. إنّا وإن كانت المحبّة أحضرتنا، والوفادة قرّبنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب «1» عنك، بل لو قست كلّ رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا، لوجدت له في آبائه دنيا أندادا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسودد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمى حماه، ويروى نداماه، ويذود أعداه؛ لا تخمد ناره، ولا يحترز منه جاره. أيها الملك، من يبل العرب يعرف فضلهم؛ فاصطنع العرب، فإنها الجبال الرواسي عزّا، والبحور الزواخر طميّا «2» ، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا؛ فإن تعرف لهم فضلهم يعزوّك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك. قال كسرى- وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه: حسبك، أبلغت وأحسنت. ثم قام قيس بن الشّيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنّبك المصائب، ووقاك مكروه الشّصائب «3» ؛ ما أحقّنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدا في قلبك؛ لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنّا في المنطق غير محجمين، وفي اليأس غير مقصرين؛ إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين. قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين. وهو يعرّض به في تركه الوفاء بضمانه السّواد «4» .

قال قيس: أيا الملك، ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر «1» أخفر بذمته. قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة. قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما خفر من ذمتي، أحقّ بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك، وانتهك من حرمتك. قال كسرى: ذلك، لأن من ائتمن الخانة، واستنجد الأثمة، ناله من الخطأ ما نالني، وليس كلّ الناس سواء؛ كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفى، ويعد فينجز؟ قال: وما أحقّه بذلك وما رأيته إلا لي. قال كسرى: القوم يزل فأفضلها أشدّها. ثم قام عامر بن الطّفيل العامريّ فقال: كثر فنون المنطق، وليس القول أعمى من حندس «2» الظّلماء، وإنما الفخر في الفعال، والعزّ في النجدة؛ والسّودد مطاوعة القدرة. وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا؛ وبالحري «3» إن أدالت الأيام، وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أمورا لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر. قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ قال: مالي علم بأكثر مما خبّرني به مخبر.

قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطّفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن. قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء ما أنت صانع؟ قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عيث «1» ولكن مطاوعة العيث. ثم قام عمرو بن معد يكرب الزّبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النّجعة الارتياد، وغفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقّف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ «2» طاعتنا بلفظك، واكتظم «3» بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك «4» يسلس لك قيادنا، فإنّا أناس لم يوقس «5» صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضما، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضما. ثم قام الحارث بن ظالم المرّي فقال: إنّ من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق «6» ، ومن خطل الرأي خفة الملك المسلّط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن ائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل. قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم. قال: إن في أسماء آبائك لدليلا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر.

وفود حاجب بن زرارة على كسرى

قال الحارث: إنّ في الحق مغضبة، والسّرو التغافل «1» ، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة، فلتشبه أفعالك مجلسك. قال كسرى: هذا فتى القوم. ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنّن فيه متكلّموكم ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقّف أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم، لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به. وإني لأكره أن أجبّه «2» وفودي أو أحنق صدورهم، والذي أحبّ هو إصلاح مدبركم، وتألف شواذّكم، والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم؛ وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب. وصفحت عما كان فيه من خلل؛ فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامّة. وفود حاجب بن زرارة على كسرى العتبي عن أبيه: أن حاجب بن زرارة وفد على كسرى لما منع تميما من ريف العراق، فاستأذن عليه، فأوصل إليه فقال: أسيّد العرب أنت؟ قال: لا. قال: فسيّد مضر؟ قال: لا. قال: فسيّد بني أبيك أنت؟ قال: لا. ثم أذن له فدخل عليه. قال: من أنت؟ قال: سيد العرب! قال: أليس قد أوصلت إليك: أسيّد العرب أنت؟ فقلت: لا، حتى اقتصرت بك على بني أبيك، فقلت: لا؟ قال له: أيها الملك، لم أكن كذلك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد العرب. قال كسرى: زه «3» ! املئوا فاه درّا. ثم قال: إنكم معشر العرب غدر، فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد، وأغرتم على العباد، وأذيتموني. قال حاجب: فإني ضامن للملك ألّا يفعلوا.

وفود أبي سفيان إلى كسرى

قال: فمن لي بأن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك من حوله وقالوا: لهذه العصا يفي! قال كسرى: ما كان ليسلمها لشيء أبدا. فقبصها منه، وأذن لهم أن يدخلوا الريف. ومات حاجب بن زرارة، فارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه؛ فقال له: ما أنت الذي رهنتها! قال: أجل. قال: فما فعل؟ قال. هلك، وهو أبي، وقد وفى له قومه ووفى هو للملك. فردّها عليه وكساه حلة. فلما وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عطارد بن حاجب، وهو رئيس تميم، وأسلم على يديه، أهداها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم يقبلها؛ فباعها من رجل من اليهود بأربعة آلاف درهم. ثم إن مضر أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، هلك قومك وأكلتهم الضّبع. يريدون الجوع- والعرب يسمّون السّنة الضّبع والذئب. قال جرير: من ساقه السنة الحصّاء والذّيب «1» فدعا لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأحيوا، وقد كان دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف. وفود أبي سفيان إلى كسرى الأصمعي قال: حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المرّي، قال: قال أبو سفيان: أهديت لكسرى خيلا وأدما، فقبل الخيل وردّ الأدم، وأدخلت عليه فكأنّ وجهه وجهان من عظمه، فألقى إليّ مخدّة كانت عنده، فقلت: واجوعاه! أهذه حظّى من كسري بن هرمز؟ قال: فخرجت من عنده، فما أمرّ على أحد من حشمه إلا أعظمها، حتى دفعت إلى خازن له: فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب. قال الأصمعي؛ فحدثت بهذا الحديث النّوشجان الفارسي، فقال: كانت وظيفة المخدّة ألفا، إلا أن الخازن اقتطع منها مائتين.

وفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر

وفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر قال: وفد حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر، قال: فلقيت رجلا ببعض الطريق، فقال لي: أين تريد؟ قلت: هذا الملك. قال: فإنك إذا جئته متروك شهرا، ثم تترك شهرا آخر، ثم عسى أن يأذن لك؛ فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيرا، وإن رأيت أبا أمامة النابغة فاظعن «1» ؛ فإنه لا شيء لك! قال: فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت مالا كثيرا ونادمته فبينما أنا معه إذا رجل يرتجز حول القبة ويقول: أنام أم يسمع ربّ القبّه ... يا أوهب الناس لعنس صلبه «2» ضرّابة بالمشفر الأذبّه ... ذات هيات في يديها جذبه «3» فقال النعمان: أبو أمامة، ائذنوا له فدخل فحيّاه وشرب معه، ووردت النّعم السود. ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود غيره ولا يفتحل أحد فحلا أسود. فاستأذنه النابغة في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قصيدته التي يقول فيها: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب فأمر له بمائة ناقة من الإبل السّود برعاتها؛ فما حسدت أحدا قط حسدي له في شعره وجزيل عطائه. وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد قتله الحبشة نعيم بن حمّاد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثّوري، قال: قال ابن عباس: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه،

فأتاه وفد قريش، فيهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وأسد بن عبد العزّى، وعبد الله بن جدعان، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غمدان، وله يقول أبو الصلت، والد أمية ابن أبي الصلت: لم يدرك الثأر أمثال ابن ذي يزن ... لجّج في البحر للأعداء أحوالا «1» أتى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده القول الذي قالا «2» ثم انثنى نحو كسرى بعد تاسعة ... من السّنين لقد أبعدت إيغالا حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... إنك عمري لقد أسرعت إرقالا «3» من مثل كسرى وبهرام الجنود له ... ومثل وهرز يوم الجيش إذ جالا لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا صيدا جحاجحة، بيضا خصارمة ... أسدا تربّب في الغابات أشبالا «4» أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... غادرت أوجههم في الأرض أفلالا» اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا ثم اطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا «6» تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «7» فطلبوا الإذن عليه، فأذن لهم، فدخلوا، فوجدوه متضمّخا بالعنبر، يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، وسيفه بين يديه، والملوك عن يمينه وشماله، وأبناء الملوك والمقاول. فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام، فقال له: قل. فقال: إنّ الله تعالى أيها

الملك أحلّك محلا رفيعا صعبا منيعا، باذخا «1» شامخا؛ وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعزّت جرثومته «2» ، ونبل أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن؛ فأنت أبيت الّلعن رأس العرب، وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه. نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمّته وسدنة «3» بيته، أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة. قال: من أنت أيها المتكلم. قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأدناه وقرّبه؛ ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا «4» ، يعطي عطاء جزلا. فذهبت مثلا. وكان أول ما تكلم به قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم فأهل الشرف والنباهة أنتم، ولكم القربى ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم. قال: ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجريت عليهم الأنزال. فأقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف. ثم انتبه إليهم انتباهة، فدعا بعبد المطلب من بينهم، فخلا به وأدنى مجلسه، وقال: يا عبد المطلب، إني مفوّض إليك من سرّ علمي أمرا غيرك كان لم أبح له به، ولكنّني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه؛ فليكن مصونا حتى يأذن الله فيه؛ فإنّ الله بالغ أمره: إني أجد في العلم المخزون؛ والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خبرا

عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس كافة، ولرهطك عامة، ولنفسك خاصة. قال عبد المطلب: مثلك أيها الملك من برّ وسرّ وبشّر، ما هو؟ فداك أهل الوبر، زمرا بعد زمر. قال ابن ذي يزن: إذا ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أبيت اللعن، لقد أبت بخير ما آب به أحد؛ فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سرورا. قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جدّه وعمه؛ قد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منّا أنصارا، يعزّ بهم أولياءه، ويذلّ بهم أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض «1» ؛ يخمد النّيران، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل؛ وأمره حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. فقال عبد المطلب: طال عمرك، ودام ملكك، وعلا جدّك، وعز فخرك؛ فهل الملك يسرّني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟ فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الطّنب، والعلامات والنّصب، إنك يا عبد المطلب، لجدّه من غير كذب. فخرّ عبد المطلب ساجدا. قال ابن ذي يزن: ارفع رأسك؛ ثلج صدرك، وعلا أمرك؛ فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟ قال عبد المطلب: أيها الملك، كان لي ابن كنت له محبا، وعليه حدبا مشفقا،

وفود عبد المسيح على سطيح

فزوجته كريمة من كرائم قومه، يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة، فيه كلّ ما ذكرت من علامة؛ مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمّه. قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم سبيلا، اطو ما ذكرت لك، دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النّفاسة، من أن تكون لكم الرّياسة، فيبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم. ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره؛ فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته؛ ولولا أني أتوقّى عليه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنّه أمره، وأوطأت أقدام العرب عقبه؛ ولكني صارف إليك ذلك عن غير تقصير مني بمن معك. ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد، وعشر إماء سود، وخمسة أرطال فضة، وحلّتين من حلل اليمن، وكرش «1» مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره. فما حال الحول حنى مات ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب بن هشام يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره العقبي. فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين. وفود عبد المسيح على سطيح جرير بن حازم عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما كان ليلة ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ارتجّ إيوان كسرى، فسقطت منه أربع عشرة شرفة؛ فعظم ذلك على أهل مملكته،

فما كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السّماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبريّة أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية؛ وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة. فلما تواترت الكتب أبرز سريره وظهر لأهل مملكته، فأخبرهم الخبر؛ فقال الموبذان «1» : أيها الملك، إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني. قال له: وما رأيت؟ قال: رأيت إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد اقتحمت دجلة، وانتشرت في بلادنا. قال: رأيت عظيما، فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، أرسل إلى عاملك بالحيرة، يوجّه إليك رجلا من علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحدثان. فبعث إليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني: فلما قدم عليه أخبره كسري الخبر. فقال له: أيها الملك. والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ولكن جهّزني إلى خال لي بالشام، يقال له سطيح، قال: جهّزوه. فلما قدم على سطيح وجده قد احتضر؛ فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يردّ عليه، فقال عبد المسيح: أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... يا فاصل الخطّة أعيت من ومن «2» أتاك شيخ الحيّ من آل سنن ... أبيض فضفاض الرّداء والبدن رسول قيل العجم يهوي للوثن ... لا يرهب الوعد ولا ريب الزّمن «3» فرفع إليه رأسه، وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح؛ بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموابذان؛ رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا. قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد يا عبد المسيح، إذا ظهرت التّلاوة، وفاض وادي السّماوة، وغاضت بحيرة ساوة وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما، ولا الشام

وفود همدان على النبي صلى الله عليه وسلم

لسطيح شاما. يملك منهم ملوك وملكات، عدد سقوط الشّرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قال: إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإنّ ذا الدّهر أطوار دهارير «1» منهم بنو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور فربّما أصبحوا منهم بمنزلة ... يهاب صولهم الأسد المهاصير «2» حثّوا المطيّ وجدّوا في رحالهم ... فما يقوم لهم سرح ولا كور «3» والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشرّ محذور «4» ثم أتى كسرى فأخبره، فغمه ذلك. ثم تعزّى فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يدور الزمان. فهلكوا كلهم في أربعين سنة. وفود همدان على النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم مالك بن نمط في وفد همدان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلقوه مقبلا من تبوك، فقال مالك بن نمط: يا رسول الله نصيّة «5» من همدان، من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف ويام وشاكر، عهدهم لا ينقض، عن سنّة ماحل «6» ولا سوداء عنقفير «7» ، ما أقامت لعلع، وما جرى اليعفور بصلّع «8» .

وفود النخع على النبي صلى الله عليه وسلم

فكتب إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا كتاب من محمد رسول الله إلى مخلاف خارف، وأهل جناب الهضب، وجفاف الرمل، مع وفدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثّلب «1» والناب والفصيل والفارض الداجن والكبش الحوري؛ وعليهم الصّالغ «2» والقارح. وفود النخع على النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبو عمرو النّخعي على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني رأيت في طريقي هذه رؤيا، رأيت أتانا تركتها في الحيّ ولدت جديا أسفع أحوى «3» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لك من أمة تركتها مصرّة «4» حملا؟ قال: نعم، تركت أمة لي أظنها قد حملت؟ قال: فقد ولدت غلاما وهو ابنك. قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: ادن منّي. فدنا منه؛ فقال: هل بك برص تكتمه؟ قال نعم، والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به. قال: فهو ذلك. قال: ورأيت النّعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان. قال: ذلك ملك العرب عاد إلى أفضل زيّه وبهجته. قال: ورأيت عجوزا شمطاء تخرج من الأرض قال: تلك بقيّه الدنيا. قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى! بصير وأعمى! أطعموني! آكلكم آكلكم! أهلككم ومالكم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تلك فتنة في آخر الزمان. قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال: يقتل الناس إمامهم ثم

وفود كلب على النبي صلى الله عليه وسلم

يشتجرون «1» اشتجار أطباق الرأس- وخالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصابعه- يحسب المسيء أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء. وفود كلب على النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم قطن بن حارثة العليمي في وفد كلب على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر كلاما، فكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا نسخته: هذا كتاب من محمد رسول الله لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره «2» الإسلام من غيرها، مع قطن بن حارثة العليمي، بإقامة الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لحقها، في شدة عقدها، ووفاء عهدها، بمحضر شهود من المسلمين: سعد بن عبادة، وعبد الله ابن أنيس، ودحية بن خليفة الكلبي، عليهم في الهمولة الراعية البساط الظّؤار «3» ، في كلّ خمسين ناقة غير ذات عوار «4» ، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفي الشّويّ الوريّ «5» مسنّة حامل أو حائل، وفيما سفى الجدول من العين المعين العشر من ثمرها مما أخرجت أرصها، وفي العذى «6» شطره بقيمة الأمين، فلا تزاد عليهم وظيفة ولا يفرّق. يشهد الله تعالى على ذلك ورسوله. وكتب ثابت بن قيس بن شمّاس. وفود ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفدت ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتب لهم كتابا حين أسلموا: أن لهم ذمة الله، وأن واديهم حرام، عضاهه «7» وصيده وظلم فيه، وأن ما كان لهم من دين إلى أجل فبلغ

وفود مذحج على النبي صلى الله عليه وسلم

أجله فإنه لياط «1» مبرّأ من الله ورسوله، وأن ما كان لهم من دين ومن رهن وراء عكاظ، فإنه يقضى إلى رأسه ويلاط بعكاظ ولا يؤخّر. وفود مذحج على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفد ظبيان بن حدّاد في سراة مذحج على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعد السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثناء على الله عزّ وجل بما هو أهله. الحمد لله الذي صدع الأرض بالنبات، وفتق السماء بالرّجع» . ثم قال: نحن قوم من سراة مذحج من يحابر بن مالك. ثم قال: فتوقّلت «3» بنا القلاص؛ من أعالى الحوف ورءوس الهضاب، ترفعها عرر «4» الرّبا وتخفضها بطنان الرقاق، وتلحقها دياجي الدّجى. ثم قال: وسروات الطائف كانت لبني مهلائيل بن قينان: غرسوا وديانه وذلّلوا خشانه، ورعوا قربانه. ثم ذكر نوحا حين خرج من السفينة بمن معه، قال فكان أكثر بنيه بناتا. وأسرعهم نباتا، عاد وثمود، فرماهم الله بالدّمالق «5» ، وأهلكهم بالصواعق. ثم قال: وكانت بنو هانيء من ثمود تسكن الطائف، وهم الذين خطّوا مشاربها، وأتّوا جداولها، وأحيوا غراسها، ورفعوا عريشها. ثم قال: وإن حمير ملكوا معاقل الأرض وقرارها، وكهول الناس وأغمارها، ورءوس الملوك وغرارها، فكان لهم البيضاء والسوداء، وفارس الحمراء، والجزية الصفراء؛ فبطروا النّعم، واستحقوا النّقم، فضرب الله بعضهم ببعض. ثم قال: وإن قبائل من الأزد نزلوا على عهد عمرو بن عامر، ففتحوا فيها الشرائع، وبنوا فيها المصانع، واتخذوا الدسائع «6» ؛ ثم ترامت مذحج بأسنّتها، وتنزّت بأعنّتها: فغلب العزيز أذلها، وقتل

وفود لقيط بن عامر بن المنتفق على النبي صلى الله عليه وسلم

الكثير أقلّها. ثم قال: وكان بنو عمرو بن جذيمة يخبطون عضيدها «1» ، ويأكلون حصيدها، ويرشّحون خضيدها «2» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. إنّ نعيم الدنيا أقلّ وأصغر عند الله من خرء بعيضة، ولو عدلت عند الله جناح ذباب لم يكن لكافر منها خلاق، ولا لمسلم منها لحاق. وفود لقيط بن عامر بن المنتفق على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفد لقيط بن عامر بن المنتفق على النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق. قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا المدينة لانسلاخ رجب، فأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا، فقال: أيها الناس، ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، لتسمعوا الآن، ألا فهل من امريء قد بعثه قومه؟ - فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ألا، ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضالّ، ألا وإني مسئول هل بلّغت، ألا اسمعوا ألا اجلسوا. فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره، قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعمر الله وهزّ رأسه، وعلم أني أبتغي سقطه؛ فقال: ضنّ ربّك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله- وأشار بيده- قلت: وما هي؟ قال: علم المنيّة، قد علم متى منيّة أحدكم ولا تعلمونه؛ وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا، ولا تعلمه، وعلم المنيّ حين يكون في الرّحم، قد علمه ولا

تعلمونه؛ وعلم الغيث، يشرف عليكم آزلين مسنتين «1» فيظلّ يضحك، قد علم أن عونكم قريب. قال لقيط: قالت: لن نعدم من رب يضحك خيرا. وعلم يوم الساعة. قلت: يا رسول الله، إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلني. قال: سل عما شئت. قال: قلت: يا رسول الله، علّمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم؛ فإنا من قبيل لا يصدّقون تصديقنا أحدا؛ من مذحج التي تدنو إلينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تلبثون ما لبثتم، ثم يتوفّى نبيّكم ثم تلبثون حتى تبعث الصيحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين عند ربك؛ فيصبح ربّك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد، فيرسل ربّك السماء بهضب «2» من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل، ولا مدفن ميّت، إلا شقّت القبر عنه حتى تخلقه من قبل رأسه فيستوي جالسا، ثم يقول ربك: مهيم «3» - لما كان فيه- فيقول: يا رب، أمس! اليوم! والعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله. فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال: أنبئك بمثل ذلك في إلّ «4» الله، أشرفت على الأرض وهي مدرة «5» يابسة فقلت: لا تحيا هذه أبدا، ثم ارسل ربّك عليها السماء فلم تلبث إلا أياما حتى أشرفت

عليها وهي شربة واحدة «1» ، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء- قال ابن إسحاق: الأصواء أعلام القبور- ومن مصارعكم، فتنظرون إليه وينظر إليكم. قال: قلت: يا رسول الله، وكيف، نحن ملء الأرض وهو شخص واحد ننظر إليه وينظر إلينا؟ قال: أنبئك بمثل ذلك في إلّ الله: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وتروه من أن تروهما ويرياكم، لا تضارون في رؤيتهما. قال: قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا يخفي عليه منكم خافية، فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء، فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطيء وجه أحدكم منها قطرة. فأما المسلم فتدع وجهه مثل الرّيطة «2» البيضاء، وأما الكافر فتخطمه «3» بمثل الحمم «4» الأسود. ثم ينصرف نبيّكم ويتفرق على أثره الصالحون. قال: فتسلكون جسرا من النار، فيطأ أحدكم الجمر يقول: حس! يقول ربك: أو إنّه؟ فتطّلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله، فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وضع عليها قدح يطهره من الطّوف «5» والبول والأذى، وتحبس الشمس والقمر ولا ترون منهما واحدا. قال: قلت: يا رسول الله، فبم نبصر يومئذ؟

قال: بمثل بصرك ساعتك هذه؛ وذلك قبل طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال. قال: قلت: يا رسول الله، فبم نجزى من سيّئاتنا وحسناتنا؟ قال: الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، إلا أن يعفو. قال: قلت: يا رسول الله، فلما الجنة وما النار؟ قال: لعمر إلهك إنّ للنار لسبعة أبواب، ما منها بابان إلّا يسير الراكب بينهما سبعين عاما. وإن للجنة لثمانية أبواب، ما منها بابان إلّا يسير الراكب بينهما سبعين عاما. قال: قلت: يا رسول الله، فعلام نطّلع من الجنة؟ قال: على أنها من عسل مصفّى، وأنهار من كأس ما بها من صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون، وخير من مثله معه، وأزواج مطهّرة. قال: قلت: يا رسول الله، أو لنا فيها أزواج؟ أو منهن صالحات؟ قال: الصالحات للصالحين، تلذّون بهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذذن بكم، غير أن لا توالد. قال لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه، فلم يجبه النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال: قلت: يا رسول الله، علام أبايعك؟ قال: فبسط إليّ يده وقال: على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشّرك «1» ، وألّا تشرك بالله إلها غيره. قال: فقلت: وإنّ لنا ما بين المشرق والمغرب؟. فقبض صلّى الله عليه وسلّم يده وظن أني مشترط شيئا لا يعطينيه. قال: قلت نحلّ منها حيث شئنا، ولا يجزي عن امرىء إلا نفسه؟ فبسط إليّ يده

وفود قيلة على النبي صلى الله عليه وسلم

وقال: ذلك لك: حلّ حيث شئت، ولا يجزي عنك إلا نفسك. قال: فانصرفنا عنه. وفود قيلة على النبي صلّى الله عليه وسلّم خرجت قيلة بنت مخرمة التميمية تبغي الصّحبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمّ بناتها، وهو أثوب بن أزهر، قد انتزع منها بناتها، فبكت جويرية منهن حديباء قد أخذتها الفرصة «1» ، عليها سبيّج من صوف، فرحمتها فذهبت بها. فبينما هما ترتكان «2» الجمل إذ انتفخت منه الأرنب؛ فقالت الحديباء: الفصية. والله لا يزال كعبك أعلى من كعب أثوب. ثم سنح الثعلب، فسمّته اسما غير الثعلب نسيه ناقل الحديث. ثم قالت فيه مثل ما قالت في الأرنب، فبينما هما ترتكان الجمل إذ برك الجمل وأخذته رعدة. فقالت الحديباء: أخذتك والأمانة إخذة أثوب. قالت قيلة: فقلت لها: فما أصنع، ويحك! قالت: قلّبي ثيابك ظهورها لبطونها، وادّحرجي ظهرك لبطنك، وقلّبي أحلاس «3» جملك. ثم خلعت سبيّجها فقلبته، ثم ادحرجت ظهرها لبطنها، فلما فعلت ما أمرتني به انتفض الجمل، ثم قام فنأج «4» وبال، فقالت: أعيدي عليه أداتك. ففعلت، ثم خرجنا نرتك، فإذا أثوب يسعى وراءنا بالسيف صلتا، فوألنا إلى حواء ضخم فداراه، حتى ألقى الجمل إلى رواقه الأوسط، وكان جملا ذلولا، واقتحمت داخله وأدركني بالسيف، فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه؛ ثم قال: ألقي إليّ ابنة أخي يادفار «5» . فألقيتها إليه. فجعلها على منكبه وذهب بها. وكنت أعلم به من أهل البيت، وخرجت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فينما أنا عندها تحسب أني نائمة، إذ جاء زوجها من السامر، فقال لها: وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحب صدق. قالت أختي: من هو؟

قال: حريث بن حسّان الشّيباني، وافد بكر بن وائل عاويا ذا صياح. فقالت أختي: الويل لي، لا تخبرها فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها أحد من قومها. قال: لا ذكرته. قالت: وسمعت ما قالا: فغدون إلى جملي فشددت عليه، ثم نشدت عنه فوجدته غير بعيد. فسألته الصّحبة فقال: نعم وكرامة، وركابه مناخة عنده. قالت: فسرت معه صاحب صدق؛ حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة: قد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل؛ فصففت مع الرجال؛ وأنا امرأة قريبة عهد بجاهلية؛ فقال الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: لا بل امرأة. فقال: إنك كدت تفتنيني، فصلّي في النساء وراءك. فإذا صفّ من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته إذ دخلت؛ فكنت فيهن؛ حتى إذا طلعت الشمس دنوت؛ فجعلت إذا رأيت رجلا ذا رواء وذا قشر «1» طمح إليه بصري لأرى رسول الله فوق الناس، حتى جاء رجل؛ فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله. وعليه تعني النبي صلّى الله عليه وسلّم- أسمال ملّيتين، كانتا مزعفرتين وقد نفضتا؛ ومعه عسيّب نخلة مقشوّ «2» غير خوصتين من أعلاه: وهو قاعد القرفصاء. فلما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متخشّعا في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال جليسه: يا رسول الله، أرعدت المسكينة. فقال رسول الله، ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره: يا مسكينة، عليك السكينة. قالت: فلما قالها صلّى الله عليه وسلّم أذهب الله ما كان دخل في قلبي من الرعب. وتقدّم صاحبي أول رجل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين تميم كتابا بالدّهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز.

قال: يا غلام، اكتب له بالدّهناء. قالت: فلما رأيته أمر بأن يكتب له؛ شخص بي. وهي وطني وداري؛ فقلت: يا رسول الله؛ إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك؛ إنما هذه الدهناء مقيّد الجمل ومرعى الغنم؛ ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك. فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر. ويتعاونان على الفتّان «1» . فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه، قال كنت أنا وأنت كما قال في المثل: حتفها تحمل ضأن بأظلافها! فقلت: أما والله ما علمت إن كنت لدليلا في الظلماء، جوادا لدى الرّحل، عفيفا عن الرفيقة حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن لا تلمني أن أسأل حظي إذ سألت حظّك. قال: وأيّ حظ لك في الدهناء لا أبالك. قلت مقّيد جملي تريده لجمل امرأتك! فقال: لا جرم إني أشهد رسول الله أني لك أخ ما حييت؛ إذ أثنيت عليّ عنده. فقلت: أمّا إذ بدأتها فلن أضيعها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة، وينتصر من وراء الحجزة. فبكيت ثم قلت: فقد والله ولدته يا رسول الله حراما، فقاتل معك يوم الرّبذة، ثم ذهب يمتري من خيبر، فأصابته حمّاها فمات فقال: لو لم تكوني مسكينة لجررناك على وجهك. أيغلب أحيدكم على أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، فإذا حال بينه وبينه من هو أولى به استرجع ثم قال: ربّ آسني لما أمضيت، وأعنّي على ما أبقيت. فو الذي نفس محمد بيده إنّ أحدكم ليبكي فيستعبر له صويحبه؛ فيا عباد الله لا تعذّبوا إخوانكم ثم كتب لها في قطعة أدم أحمر: لقيلة والنسوة من بنات قيلة يظلمن حقّا، ولا يكرهن على منكح، وكل مؤمن مسلم لهن نصير أحسنّ ولا تسئن.

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكيدر دومة

كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأكيدر دومة من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأكيدر دومة، حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها: إن لنا الضاحية من الضّحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسّلاح والحافر والحصن، ولكم الضّامنة من النخل والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم «1» ، ولا يحظر عليكم النبات. تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين. كتابه صلّى الله عليه وسلّم لوائل بن حجر الحضرمي من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة «2» والارواع المشابيب «3» من أهل حضر موت بإقامة الصلاة، وايتاء الزكاة: في التيعة «4» شاة، لا مقوّرة الألياط ولا ضناك، وانطوا الشّبجة «5» والتيمة لصاحبها، وفي السيّوب الخمس؛ لا خلاط، ولا وراط،

حديث جرير بن عبد الله البجلي

ولا شناق، ولا شغار «1» ، ومن أجبى فقد أربى «2» ، وكل مسكر حرام. حديث جرير بن عبد الله البجلي قدم جرير بن عبد الله البجليّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فسأله عن منزله ببيشة، فقال سهل ودكداك «3» ، وسلم وأراك، وحمّض وعلاك، إلى نخلة ونخلة، ماؤها ينبوع، وجنابها مريع، وشتاؤها ربيع. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ خير الماء الشّبم «4» ، وخير المال الغنم، وخير المرعى الأراك، والسلّم إذا أخلف كان لجينا، وإذا أسقط كان درينا «5» ، وإذا أكل كان لبينا. وفي كلامه عليه السلام: إن الله خلق الأرض السّفلى من الزبد الجفاء والماء والكباء. حديث عياش بن أبي ربيعة بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيّاش بن أبي ربيعة إلى بني عبد كلال وقال له: خذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم، فهم قائلون لك اقرأ. فاقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ «6» . فإذا فرغت منها فقل: آمن محمد وأنا أول المؤمنين. فلن تأتيك حجة إلا وقد دحضت ولا كتاب زخرف إلا وذهب

حديث راشد بن عبد ربه السلمي

نوره ومحّ «1» لونه، وهم قارئون، فإذا رطنوا فقد ترجموا. فقل: حسن، آمنت بالله وما أنزل من كتاب الله. فإذا أسلموا فسلهم فضبهم الثلاثة التي إذا تخصّروا بها سجد لهم، وهي الأثل قضيب ملمع ببياض، وقضيب ذو عجر كأنه من خيزران، والأسود البهيم، كأنه من ساسم «2» . ثم اخرج بها فحرّقها في سوقهم. حديث راشد بن عبد ربه السلمي عبد الله بن الحكم الواسطيّ عن بعض أشياخ أهل الشام، قال: قال استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب على نجران، فولّاه الصلاة والحرب، ووجّه راشد بن عبد ربه أميرا على القضاء والمظالم. قال راشد بن عبد ربه: ضحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه ما نفته تماضر وحكّمه شيب القذال عن الصبا ... وللشّيب عن بعض الغواية زاجر فأقصر جهلي اليوم وارتدّ باطلي ... عن الجهل لما ابيض منّي الغدائر على أنه قد هاجه بعد صحوة ... بمعرض ذي الآجام عيس بواكر ولما دنت من جانب الغوط أخصبت ... وحلّت ولا قاها سليم وعامر وخبّرها الرّكبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «3» وفود نابغة بني جعدة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفد أبو ليلى نابغة بني جعدة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنشده شعره الذي يقول فيه: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

وفود طهفة بن أبي زهير النهدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى أين أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن شاء الله. فلما انتهى إلى قوله: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يفضض الله فاك! فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنفضّ له سنّ، وبقي حتى وفد على عبد الله بن الزبير في أيامه بمكة وامتدحه، فقال له: يا أبا ليلى، إنّ أدنى وسائلك عندنا الشعر، لك في مال الله حقّان: حق برؤيتك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحقّ بشركتك أهل الإسلام في فيئهم. ثم أحسن صلته وأجازه. وفود طهفة بن أبي زهير النهدي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدمت وفود العرب على النبي صلّى الله عليه وسلّم، قام طهفة ابن أبي زهير، فقال: يا رسول الله، أتيناك من غوري تهامة بإكوار الميس «1» ، ترمى بنا العيس، نستحلب الصبيّر، ونستخلب الخبير؛ ونستعضد البرير، ونستخيل الرّهام «2» ، ونستخيل الجهام «3» ، من أرض غائلة النّطاء، «4» ، غليظة الوطاء، قد نشف المدهن «5» ويبس الجعثن «6» ، وسقط الأملوج «7» ، ومات العسلوج «8» ؛ وهلك الهديّ، ومات الودي «9» ، برئنا يا رسول الله من الوثن والعنن «10» ، وما يحدث الزمن؛ لنا دعوة السلام، وشريعة الإسلام، ما طمى

وفود جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه

البحر، وقام تعار؛ ولنا نعم همّل أغفال، ما تبضّ ببلال؛ ووقير «1» كثير الرّسل، قليل الرّسل، أصابتها سنيّة حمراء مؤزلة «2» . ليس بها علل ولا نهل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها «3» ، وابعث راعيها في الدّثر «4» ، بيانع الثمر، وافجر له الثّمد «5» ، وبارك له في المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا. لكم يا بني نهد، ودائع الشّرك، ووضائع الملك، لا تلطط «6» في الزكاة، ولا تلحد في الحياة، ولا تثاقل عن الصلاة. وكتب معه كتابا إلى بني نهد: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض «7» والفريش، وذو العنّان الرّكوب والفلو الضبيس «8» ، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس درّكم، ما لم تضمروا الإمآق «9» ، وتأكلوا الرّباق «10» . من أقر بما في هذا الكتاب فله من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى عليه فعليه الرّبوة. وفود جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه العجلي قال: حدّثني أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عمرو بن الأجدع الكوفي؟؟؟ قال: حدّثني إبراهيم بن عليّ مولى بني هاشم، قال: حدّثنا ثقات شيوخنا أن؟؟؟ بن

الأيهم بن أبي شمر الغسّاني لما أراد أن يسلم كتب إلى عمر بن الخطاب من الشام يعلمه بذلك ويستأذنه في القدوم عليه. فسرّ بذلك عمر والمسلمون، فكتب إليه أن اقدم ولك مالنا وعليك ما علينا، فخرج جبلة في خمسمائة فارس من عكّ وجفنة، فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس يومئذ جبلة تاجه وفيه قرط مارية، وهي جدّته فلم يبق يومئذ بالمدينة أحدّ إلا خرج ينظر اليه، حتى النساء والصبيان، وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه، حتى حضر الموسم من عامه ذلك مع عمر ابن الخطاب؛ فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطيء على إزاره رجل من بني فزارة فحلّه، فالتفت إليه جبلة مغضبا. فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب. فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت أنفه؟ فقال: إنّه وطيء إزاري فحلّه، ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه. فقال له عمر: أمّا أنت فقد أقررت. إمّا أن ترضيه وإلا أقدته «1» منك قال: أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال: يا جبلة، إنه قد جمعك وإيّاه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا [بالتّقى] بالعافية. قال: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك ذلك. قال: إذن أتنصّر. قال: إن تنصّرت ضربت عنقك. قال: واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة فكادت تكون فتنة، فقال جبلة: أخّرني إلى غد يا أمير المؤمنين. قال: ذلك لك. فلما كان جنح الليل خرج جبلة وأصحابه، فلم يئن «2» حتى دخل القسطنطينية على هرقل، فتنصّر وأقام عنده، وأعظم هرقل قدوم جبلة، وسر بذلك وأقطعه الأموال والأرضين والرّباع. ثم بعث عمر بن الخطاب رسولا إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فأجابه إلى المصالحة على غير الإسلام، فلما أراد أن يكتب جواب عمر قال للرسول: ألقيت ابن عمك هذا

الذي ببلدنا- يعني جبلة- الذي أتانا راغبا في ديننا؟ قال: ما لقيته. قال: القه، ثم ائتني أعطك جواب كتابك. وذهب الرسول إلى باب جبلة، فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثرة الجمع مثل ما على باب هرقل. قال الرسول: فلم أزل أتلطف في الإذن حتى أذن لي، فدخلت عليه، فرأيت رجلا أصهب اللحية ذا سبال؛ وكان عهدي به أسمر أسود اللحية والرأس. فنظرت إليه فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب «1» فذرّها في لحيته حتى عاد أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من ذهب، فلما عرفني رفعني معه في السرير، فجعل يسائلني عن المسلمين، فذكرت خيرا، وقلت: قد أضعفوا أضعافا على ما تعرف. فقال: كيف تركت عمر بن الخطاب؟ قلت: بخير. فرأيت الغم قد تبيّن فيه لما ذكرت له من سلامة عمر. قال: فانحدرت عن السرير. فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ قلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا. قال: نعم، صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نقّ قلبك من الدّنس ولا تبال علام قعدت. فلما سمعته يقول: صلّى الله عليه وسلّم طمعت فيه، فقلت له: ويحك يا جبلة! ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضله؟ قال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم، قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعلت: ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف، ثم رجع إلى الإسلام وقبل ذلك منه وخلّفته بالمدينة مسلما. قال: ذرني من هذا؛ إن كنت تضمن لي أن يزوّجني عمر ابنته ويولّيني الأمر بعده رجعت إلى الإسلام. قلت: ضمنت لك التزويج ولم أضمن لك الإمرة. قال: فأومأ إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعا، فإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت، ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضة، وقال لي:

كل، فقبضت يدي. وقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة. فقال نعم صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نقّ قلبك وكل فيما أحببت. قال: فأكل في الذهب والفضة وأكلت في الخليج «1» ؛ فلما رفع الطعام جيء بطساس الفضة وأباريق الذهب، وأومأ إلى خادم بين يديه، فمرّ مسرعا، فسمعت حسّا، فالتفتّ، فإذا خدم معهنّ الكراسي مرصّعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم سمعت حسّا، فإذا عشر جوار قد أقبلن مطمومات الشعر «2» متكسرات في الحلى عليهن ثياب الديباج، فلم أر وجوها قط أحسن منهن، فأقعدهنّ على الكراسيّ عن يمينه؛ ثم سمعت حسّا، فإذا عشر جوار أخرى، فأجلسهن على الكراسيّ عن يساره؛ ثم سمعت حسّا، فإذا جارية كأنها الشمس حسنا؛ وعلى رأسها تاج، على ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها اليمنى جام «3» فيها مسك وعنبر، وفي يدها اليسرى جامة فيها ماء ورد، فأومأت إلى الطائر أو قال: فصفرت بالطائر، فوقع في جام ماء الورد فاضطرب فيه، ثم أومأت إليه أو قال: فصفرت به، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة؛ فلم يزل يرفرف حتى نفض ما في ريشه عليه. وضحك جبلة من شدّة السرور حتى بدت أنيابه؛ ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال: بالله أطربنني؛ فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن: لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأوّل يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل «4» أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل بيض الوجوه أعفّة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل قال: فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا. قال:

قائله حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فقال: بالله أبكيننا. فاندفعن يتغنين ويخفقن بعيدانهن ويقلن: لمن الدار أقفرت بمعان ... بين أعلى اليرموك فالخمان «1» ذاك مغنى لآل جفنة في الدّه ... ر محلا لحادث الأزمان قد أراني هناك دهرا مكينا ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني ودنا الفصح فالولائد ينظم ... ن سراعا أكلّة المرجان لم يعلّلن بالمغافر والصّم ... غ ولا نقف حنظل الشّريان «2» قال: فبكى حتى جعلت الدموع تسيل على لحيته؛ ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا أدري. قال: حسان بن ثابت. ثم أنشأ يقول: تنصّرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنّفني منها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر ثم سألني عن حسان: أحيّ هو؟ قلت: نعم، تركته حيّا. فأمر لي بكسوة ومال ونوق موقرة براّ. ثم قال لي: إن وجدته حيّا فادفع إليه الهدية واقرئه سلامي، وإن وجدته ميتا فادفعها إلى أهله وانحر الجمال على قبره. فلما قدمت على عمر أخبرته خبر جبلة وما دعوته إليه من الإسلام والشرط الذي شرطه وأني ضمنت له التزويج ولم أضمن له الإمرة، فقال: هلا ضمنت له الإمرة؛ فإذا أفاء الله به إلى الإسلام قضى عليه بحكمه عز وجل.

وفود الأحنف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه

ثم ذكرت له الهدية التي أهداها إلى حسّان بن ثابت، فبعث إليه وقد كفّ بصره، فأتي به وقائد يقوده، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد رياح آل جفنة عندك! قال: نعم. هذا رجل أقبل من عنده. قال: هات يا بن أخي إنه كريم من كرام مدحتهم في الجاهلية فحلف ألّا بلقى أحدا يعرفني إلا أهدى إليّ معه شيئا. فدفعت إليه الهدية. المال والثياب، وأخبرته بما كان أمر به في الإبل إن وجد ميتا. فقال: وددت أني كنت ميتا فنحرت على قبري. قال الزبير: وانصرف حسان وهو يقول: إنّ ابن جفنة من بقيّة معشر ... لم تغذهم آباؤهم باللوم لم ينسني بالشّام إذ هو ربّها ... ملكا ولا متنصرا بالرّوم يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطيّة المذموم فقال له رجل كان في مجلس عمر: أتذكر ملوكا كفرة أبادهم الله وأفناهم؟ قال: ممن الرجل؟ قال: مزني. قال: أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لطوّقتك طوق الحمامة. قال: ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة ما اشترط به. قلما قدمت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته، فعلمت أن الشقاء غلب عليه في أمّ الكتاب. وفود الأحنف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدائني قال: قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أهل البصرة وأهل الكوفة، فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كلّ واحد منهم، وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتك وفود أهل العراق، وإنّ

إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية، والملوك الجبابرة، ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصفر «1» ، فهم من المياه العذبة والجنان المخصبة في مثل حولاء السّلى وحدقة البعير «2» ، تأتيهم ثمارهم غضّة لم تتغيّر؛ وإنا نزلنا أرضا نشاشة طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج، جانب منها منابت القصب، وجانب سبخة نشّاشة لا يجف ترابها، ولا ينبت مرعاها، تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف منّا يستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنّق «3» ولدها ترنيق العنز، تخاف عليه العدوّ والسبع، فإلا ترفع خسيستنا. وتنعش ركيستنا «4» ، وتجبر فاقتنا، وتزيد في عيالنا عيالا، وفي رجالنا رجالا، وتصفّر درهمنا، وتكبّر قفيزنا، وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا. قال عمر: هذا والله السيد! هذا والله السيد! قال الأحنف: فما زلت أسمعها بعدها. فأراد زيد بن جبلة أن يضع منه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس هناك، وأمّه باهليّة. قال عمر: هو خير منك إن كان صادقا. يريد: إن كانت له نيّة. فقال الأحنف: أنا ابن الباهليّة أرضعتني ... بثدي لا أجدّ ولا وخيم «5» أغضّ على القذى أجفان عيني ... إذا شرّ السّفيه إلى الحليم «6» قال فرجع الوفد واحتبس الأحنف عنده حولا وأشهرا، ثم قال: إن رسول الله

وفود الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه

صلّى الله عليه وسلّم حذّرنا كل منافق صنع اللسان، وإني خفتك فاحتبستك، فلم يبلغني عنك إلا خير؛ رأيت لك جولا «1» ومعقولا؛ فارجع إلى منزلك واتق الله ربك. وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يحتفر لهم نهرا. وفود الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه العتبي عن أبيه قال: وفد الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأراد أن يقرع بينهما في الرياسة، فلما اجتمعت بنو تميم، قال الأحنف: ثوى قدح عن قومه طالما ثوى ... فلمّا أتاهم قال قوموا تناجزوا فقال عمرو بن الأهتم: إنا كنّا وأنتم في دار جاهليّة فكان الفضل فيها لمن جهل، فسفكنا دماءكم، وسبينا نساءكم، وإنّا اليوم في دار الإسلام والفضل فيها لمن حلم؛ فغفر الله لنا ولك. قال: فغلب يومئذ عمرو بن الأهتم على الأحنف ووقعت القرعة لآل الأهتم فقال عمرو بن الأهتم: لمّا دعتني للرّياسة منقر ... لدى مجلس أضحى به النّجم باديا شددت لها أزري وقد كنت قبلها ... لأمثالها ممّا أشدّ إزاريا وعمرو بن الأهتم: هو الذي تكلم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسأله عن الزبرقان، فقال عمرو: مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: والله يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر مما قال، ولكن حسدني. قال: أما والله يا رسول الله، إنه لزمر «2» المروءة، ضيّق العطن «3» ؛ أحمق الوالد

وفود عمرو بن معديكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ أوفده سعد

لئيم الخال؛ والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى؛ رضيت عن بن عمي فقلت أحسن ما علمت ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما علمت ولم أكذب. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من البيان لسحرا. وفود عمرو بن معديكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ أوفده سعد لما فتحت القادسيّة على يدي سعد بن أبي وقّاص، أبلى فيها عمرو بن معديكرب بلاء حسنا، فأوفده سعد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب إليه معه بالفتح وأثنى في الكتاب على عمرو؛ فلما قدم على عمر بن الخطاب سأله عن سعد، فقال: أعرابي في نمرته «1» ، أسد في تأمورته «2» ، نبطي في جبايته، يقسم بالسويّة، ويعدل في القضية وينفل «3» في السريّة؛ وينقل إلينا حقنا نقل الذّرة. فقال عمر: لشدّ ما تقارضتما الثناء. وكان عمر قد كتب إلى سعد يوم القادسيّة أن يعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن؛ فقال سعد لعمرو بن معديكرب ما معك من القرآن؟ قال: ما معي شيء. قال: إن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن. فقال عمرو: إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير نعطي السّويّة من طعن له نفذ ... ولا سويّة إذ تعطى الدنانير قال: فكتب سعد بأبياته إلى عمر، فكتب إليه أن يعطى على مقاماته في الحرب.

وفود أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه

وفود أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفد أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بعد إيقاع خالد وقتله مسليمة الكذاب، فقال لهم أبو بكر: ما كان يقول صاحبكم؟ قالوا: أعفنا يا خليفة رسول الله. قال: لا بد أن تقولوا. قالوا: كان يقول: يا ضفدع كم تنقّين. لا الشراب تمنعين، ولا الماء تكدّرين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فقال لهم أبو بكر: ويحكم! ما خرج هذا من إلّ ولا بر، فأين ذهب بكم؟ قال أبو عبيد؛ الإل: الله تعالى. والبر الرجل الصالح. وفود عمرو بن معديكرب على مجاشع بن مسعود وفد عمرو بن معديكرب الزّبيدي على مجاشع بن مسعود السّلمي- وكانت بين عمرو وبين سليم حروب في الجاهلية- فقدم عليه البصرة يسأله الصلة، فقال له: اذكر حاجتك. فقال له: حاجتي صلة مثلي. فأعطاه عشرة آلاف درهم، وفرسا من بنات الغبراء، وسيفا جرازا «1» ، ودرعا حصينة، وغلاما خبازا؛ فلما خرج من عنده. قال له أهل المجلس: كيف وجدت صاحبك؟ قال لله بنو سليم! ما أشد في الهيجاء لقاءها، وأكرم في الّلأواء «2» عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها. والله يا بني سليم، لقد قاتلناكم في الجاهلية فما أجبنّاكم، ولقد هاجيناكم فما أفحمناكم، ولقد سألناكم فما أبخلناكم: فلله مسئولا نوالا ونائلا ... وصاحب هيج يوم هيج مجاشع

وفود الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه

وفود الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه أبو بكر بن أبي شيبة قال: وفد الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية بعد عام الجماعة، فقال له معاوية: والله لا حبونّك بجائزة ما أجزت بها أحدا قبلك ولا أجيز بها أحدا بعدك. فأمر له بمائة ألف. وفي بعض الحديث إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على ابنته فاطمة، فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها، فقال لها: إن الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين. وفود زيد بن منية على معاوية رحمه الله العتبي قال: قدم زيد بن منية على معاوية من البصرة- وهو أخو يعلى ابن منية صاحب جمل عائشة، ومتولي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة. وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوّج ابنة يعلي بن منية- فلما دخل على معاوية شكا إليه دينا لزمه. فقال: يا كعب، أعطه ثلاثين ألفا. فلما ولّى قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفا أخرى. ثم قال له الحق بصهرك- يعني عتبة- فقدم عليه مصر، فقال: إنّي سرت إليك شهرين، أخوض فيهما المتالف، ألبس أردية الليل مرّة، وأخوض في لجج السراب أخرى، موقرا من حسن الظن بك، وهاربا من دهر قطم، ودين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين، فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معوّلا. فقال عتبة: مرحبا بك وأهلا؛ إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا، ثم استردّ ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منّا ما لا ضيعة معه، وأنا واضع يدي ويدك بيد الله فأعطاه ستين ألفا، كما أعطاه معاوية رحمه الله.

وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية رحمه الله

وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية رحمه الله العتبي عن أبيه قال: وفد عبد العزيز بن زرارة على معاوية وهو سيّد أهل الكوفة. فلما أذن له وقف بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، لم أزل أهز ذوائب الرّحال إليك؛ إذ لم أجد معوّلا إلا عليك، امتطى الليل بعد النهار، وأسم المجاهل بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، والمجتهد يعذر، وإذ بلغتك فقطني. فقال معاوية: احطط عن راحلتك رحلها. وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة، فهلك هناك؛ فكتب به يزيد بن معاوية إلى معاوية، فقال لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب. قال زرارة: يا أمير المؤمنين، هو ابني أو ابنك. قال: بل ابنك. قال: للموت ما تلد الوالدة. أخذه سابق البربري فقال: وللموت تغذو الولدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن وقال آخر: للموت يولد منّا كلّ مولود ... لا شيء يبقى ولا يفنى بموجود وفود عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية المدائني قال: قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية، فقال له: كم كان عطاؤك؟ فقال له: ألف ألف. قال: قد أضعفناها لك. قال: فداك أبي وأمي وما قلتها لأحد قبلك! قال: أضعفناها لك ثانية. فقيل ليزيد: أتعطي رجلا واحدا أربعة آلاف ألف؟ فقال: ويحكم، إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده فيها إلّا عارية. فلما كان في السنة الثانية قدم عبد الله بن جعفر، وقدم مولى له يقال له نافع،

وفود عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان

كانت له منزلة من يزيد بن معاوية. قال نافع: فلما قدمنا عليه أمر لعبد الله بن جعفر بألف ألف، وقضى عنه ألف ألف، ثم نظر إليّ فتبسم، فقلت: هذه لتلك الليلة. وكنت سامرته ليلة في خلافة معاوية وأسمعته فيها، فذكرته بها وقدمت عليه هدايا من مصر كثيرة، فأمر بها لعبد الله بن جعفر؛ وكانت له مائة ناقة، فقلت لابن جعفر: لو سألته منها شيئا نحتلبه في طريقنا؟ ففعل، فأمر بصرفها كلها إليه. فلما أراد الوداع أرسل إليّ فدخلت عليه، فقال: ويلك! إنما أخّرتك لأتفرغ إليك، هات قول جميل. خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي قال؛ فأسمعته، فقال: أحسنت والله؛ هات حاجتك! فما سألته شيئا إلا أعطانيه، فقال: إن يصلح الله هذا الأمر من قبل ابن الزبير تلقنا بالمدينة؛ فإن هذا لا يحسن إلا هناك. فمنع والله من ذلك شؤم ابن الزبير. وفود عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان قال بديح: وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، وكان زوّج ابنته أم كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية، وحملها إليه إلى العراق، فمكثت عنده ثمانية أشهر. قال بديح: فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان، خرجنا معه حتى دخلنا دمشق، فإنا لنحطّ رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس، فقلنا: جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله. فاستقبله ابن جعفر بالترحيب، فقال له: لكن أنت لا مرحبا بك ولا أهلا! فقال: مهلا يا بن أخي، فلست أهلا لهذه المقالة منك. قال: بلى، ولشرّ منها، قال: وفيم ذلك؟ قال: إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة بني عبد مناف، ففرشتها عبد ثقيف يتفخّذها. قال: وفي هذا عتب عليّ يا بن أخي؟ قال: وما أكثر من هذا؟ قال: والله إنّ أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك؛ إن كان من

البلكم من الولاة ليصلون رحمي، ويعرفون حقي، وإنك وأباك منعتماني ما عند كما حتى ركبني من الدّين ما والله لو أن عبدا مجدّعا حبشيّا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوّجتها؛ فإنما فديت بها رقبتي من النار. قال: فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه، ومضى حتى دخل على عبد الملك- وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه- فلما رآه عبد الملك قال: مالك أبا العباس؟ قال: إنك سلّطت عبد ثقيف وملّكته ورفعته حتى تفخّذ نساء عبد مناف، وأدركته الغيرة. فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يعزم عليه ألّا يضع كتابه من يده حتى يطلّقها ... فما قطع الحجّاج عنها رزقا ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا. قال: وما زال واصلا لعبد الله بن جعفر حتى هلك. قال بديح: فما كان يأتي علينا هلال إلا وعندنا غير مقبلة من الحجاج، عليها لطف وكسوة وميرة، حتى لحق عبد الله بن جعفر بالله. ثم استأذن ابن جعفر على عبد الملك، فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثم أخذ بيده فأجلسه معه على سريره، ثم سأله فألطف المسألة، حتى سألة عن مطعمه ومشربه. فلما انقضت مسألته، قال له يحيى بن الحكم: أمن خبثة كان وجهك يا أبا جعفر؟ قال: وما خبثة؟ قال: أرضك التي جئت منها. قال: سبحان الله، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسميها طيبة وتسميها خبثة؟ لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين. فلما خرج من عنده هيّأ له ابن جعفر هدايا وألطافا. فقلت لبديح: ما قيمة ذلك؟ قال: قيمته مائة ألف. من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز. قال: فبعثني بها، فدخلت عليه وليس عنده أحد. فجعلت أعرض عليه شيئا شيئا. قال: فما رأيت مثل إعظامه لكل ما عرضت عليه من ذلك، وجعل يقول كلما أريته شيئا: عافى الله أبا جعفر! وما رأيت كاليوم، وما نريد أن يتكلف لنا شيئا من هذا، وإن كنا لمتذمّمين محتشمين. قال: فخرجت من عنده وأذن لأصحابه. والله لبينا أنا عند بن جعفر أحدّثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدى

إليه، إذا بفارس قد أقبل علينا، فقال أبا جعفر، إن أمير المؤمنين يقرأ السلام عليك، ويقول لك: جمعت له وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم وحبست عنا فلانة، فابعث بها إلينا- وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدّثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها عندهم، فقال له يحيى بن الحكم: وماذا أهدى إليك ابن جعفر؟ جمع لك وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم وحبس عنك فلانة. قال: ويلك، وما فلانة هذه؟ قال: ما لم يسمع واد أحد بمثلها قطّ جمالا وكمالا وخلقا وأدبا، لو أراد كرامتك بعث بها إليك. قال: وأين تراها. وأين تكون؟ قال: هي والله معه، وهي نفسه التي بين جنبيه- فلما قال الرسول ما قال، وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر، إذا سمع ما يكره تصامّ، فأقبل عليه فقال: ما يقول يا بديح؟ قال: قلت: فإنّ أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول: إنه جاءني بريد من ثغر كذا يقول: إن الله نصر المسلمين وأعزهم. قال: اقرأ أمير المؤمنين السلام، وقل له: أعز الله نصرك، وكبت عدوك. فقال الرسول: يا أبا جعفر، إني لست أقول هذا. وأعاد مقالته الأولى. فسألني فصرفته إلى وجه آخر. فأقبل عليّ الرسول، فقال: يا ماصّ ... أبرسل أمير المؤمنين تهكّم، وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب؟ أما والله لأطلّنّ دمك. فانصرف، وأقبل عليّ بن جعفر فقال: من ترى صاحبنا؟ قال: صاحبك بالأمس. قال: أظنه! فما الرأي عندك؟ قلت: يا أبا جعفر، قد تكلّفت له ما تكلفت، فإن منعتها إياه جعلتها سببا لمنعك، ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه. قال: ادعها لي فلما أقبلت. رحّب بها ثم أجلسها إلى جنبه، ثم قال: أما والله ما كنت أظن أن يفرق بيني وبينك إلا الموت. قالت: وما ذاك؟ قال: إنه حدث أمر، وليس والله كائنا فيه إلا ما أحببت، جاء الدهر فيه بما جاء. قالت: وما هو؟ قال: إن أمير المؤمنين بعث يطلبك. فإن تهوى فذاك، وإلا والله لم يكن أبدا. قالت: ما شيء لك فيه هوى ولا أظنّ فيه فرجا عنك إلا فديته بنفسي، وأرسلت عينها بالبكاء. فقال لها: أما إذا فعلت فلا ترينّ مكروها: فمسحت عينيها، وأشار إليّ فقال: ويحك يا بديح استحثها قبل أن تتقدّم إليّ من القوم بادرة. قال: ودعا بأربع

وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة دينار، ودعا مولاة له كانت تلي طيبه، فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيبا، ثم قال: عجّلها ويلك. فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب؛ وإذا الفارس قد بلّغ عني، فما تركني الحجّاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظّى، فقال لي يا ماصّ، وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إيذن لي أتكلم. قال: وما تقول يا كذا وكذا؟ قلت: إيذن لي جعلني الله فداك أتكلم. قال: تكلم. قلت: يا أمير المؤمنين، أنا أصغر شأنا، وأقل خطرا من أن يبلغ كلامي من أمير المؤمنين ما أرى، وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين، نعم، قد قلت ما بلغك، وقد يعلم أمير المؤمنين إنّما نعيش في كنف هذا الشيخ، وأنّ الله لم يزل إليه محسنا، فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قطّ مثله، إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه، فأجبت بما بلغك لأسهّل الأمر عليه؛ ثم سألني فأخبرته واستشارني فأشرت عليه، وها هي ذه قد جئتك بها. قال: أدخلها ويلك! قال: فأدخلتها عليه وعنده مسلمة ابنه، غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضرّ شاربه. فلما جلست وكلّمها أعجب بكلامها، فقال: لله أبوك، أمسكك لنفسي أحبّ إليك أم أهبك لهذا الغلام، فإنه ابن أمير المؤمنين، قالت: يا أمير المؤمنين، لست لك بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجها. قال: فقام من مكانه ما راجعها، فدخل، وأقبل عليها مسلمة فقال: يا لكاع «1» ، أعلى أمير المؤمنين تختارين؟ قالت: يا عدوّ نفسه إنما تلومني أن اخترتك؟ لعمر الله لقد قال رأي من اختارتك. قال: فضيّقت والله مجلسه. واطّلع علينا عبد الملك قد ادهن بدهن وارى الشيب، وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب، بيده مخصرة «2» يخطر بها، فجلس مجلسه على سريره، ثم قال: إيها، لله أبوك، أمسكك لنفسي أحبّ لك أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت: ومن أنت أصلحك الله؟ قال لها الخصيّ: هذا أمير المؤمنين! قالت: لست مختارة على أمير المؤمنين أحدا. قال: فأين

وفود الشعبي على عبد الملك بن مروان

قولك آنفا؟ قالت: رأيت شيخا كبيرا، وأرى أمير المؤمنين أشبّ الناس وأجملهم، ولست مختارة عليه أحدا، قال: دونكها يا مسيلمة قال بديح، فنشرت عليه الكسوة والدنانير التي معي، وأريته الجواري والطّيب. قال: عافى الله ابن جعفر! أخشي ألا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة؟ فقلت: بلى، ولكنه أحبّ أن يكون معها ما تكتفي به حتى تستأنس. قال: فقبضها مسلمة، فلم تلبث عنده إلا يسيرا حتى هلكت. قال بديح: فو الله الذي ذهب بنفس مسلمة، ما جلست معه مجلسا ولا وقفت موقفا أنازعه فيه الحديث، إلا قال: ابغني مثل فلانة. فأقول: ابغني مثل ابن جعفر. قال: فقلت لبديح: ويلك! فما أجازه به؟ قال: قال حين دفع إليه حاجته ودينه: لأجيزنك جائزة لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها. فأمر له بمائة ألف. وايم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف. وفود الشعبي على عبد الملك بن مروان كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أن ابعث إليّ رجلا يصلح للدين والدنيا، أتخذه سميرا وجليسا وخليّا. فقال الحجاج: ما ماله إلا عامر الشّعبي. وبعث به إليه؛ فلما دخل عليه وجده قد كبا مهتما، فقال: ما بال أمير المؤمنين؟ قال ذكرت قول زهير «1» : كأنّي وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عني عذار لجامي رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برامي فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ... ولكنّني أرمى بغير سهام على الراحتين تارة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي «2» قال له الشّعبي: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة، وقد بلغ سبعين حجة:

وفود الحجاج بابراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان

كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا خليفة الله ماذا تأمرنّ بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر ما زلت بعدك في همّ يؤرّقني ... قد طال في الحيّ إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا باد على حضر إنّا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر نال الخلافة إذ كانت له قدرا ... كما أتى ربّه موسى على قدر هذى الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذّكر فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية. فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنها لأحبّ مال إليّ كسبته. ثم خرج، فقالوا له: ما وراءك؟ قال ما يسوءكم! خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزّه ... وقد كان شيطاني من الجنّ راقيا وفود الحجاج بابراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان عمران بن عبد العزيز قال: لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير، استخلص إبراهيم بن محمد بن طلحة فقرّبه وعظّم منزلته. فلم تزل تلك حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان، فخرج معه معادلا، لا يقصّر له في برّ ولا إعظام، حتى حضر به عبد الملك. فلما دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال له: قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له بها نظيرا في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم، ووجوب الحق، وعظم قدر الأبوّة، وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة، وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة، وقد

أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك، وتعرف له ما عرّفتك. فقال: أذكرتنا رحما قريبة وحقا واجبا، يا غلام، إيذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة. فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه، ثم قال له: يا بن طلحة، إنّ أبا محمد ذكّرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة، وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة، فلا تدعنّ حاجة في خاصة نفسك وعامّتك إلا ذكرتها. فقال: يا أمير المؤمنين، إن أول الحوائج، وأحقّ ما قدّم بين يدي الأمور، ما كان لله فيه رضا، ولحق نبيه صلّى الله عليه وسلّم أداء، ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وعندي نصيحة لا أجد بداّ من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خال، فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي. قال: دون أبي محمد؟ قال: نعم، دون أبي محمد؟ قال عبد الملك للحجاج: قم. فلما خطرف «1» السّتر أقبل عليّ فقال: يا بن طلحة، قل نصيحتك. فقال: تالله يا أمير المؤمنين، لقد عمدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبعده من الحق وقربه من الباطل، فوليته الحرمين، وهما ما هما، وبهما ما بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي الأخيار، يطؤهم بطغام «2» أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل، ويسومهم الخسف، ويحكم فيهم بغير السّنة بعد الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حرمهم؛ ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله زاهق، وفيما بينك وبين نبيك غدا إذا جاثاك «3» للخصومة بين يدي الله في أمته. أما والله لا تنجو هنالك إلا بحجة. فاربع «4» على نفسك أودع. فقال له عبد الملك: كذبت ومنت «5» وظنّ بك الحجاج ما لم يجده فيك؛ وقد يظنّ الخير بغير أهله؛ قم فأنت الكاذب المائن. قال: فقمت وما أعرف طريقا. فلما خطرفت الستر لحقني لاحق فقال: احبسوا هذا، وقال للحجاج: ادخل. فدخل، فمكث مليّا من النهار لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج

وفود رسول المهلب على الحجاج بقتل الأزارقة

الآذن فقال: ادخل يا بن طلحة. فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وهو خارج وأنا داخل؛ فاعتنقني وقبّل ما بين يعينيّ، وقال: أمّا إذا جزى الله المتواخيين خيرا بفضل تواصلهما، فجزاك الله عني أفضل الجزاء؛ فو الله لئن سلمت لك لأرفعنّ ناظرك، ولأعلينّ كعبك، ولأتبعنّ الرجال غبار قدميك. قال: فقلت: يهزأ بي وحقّ الكعبة!. فلما وصلت إلى عبد الملك، أدناني حتى أدناني عن مجلسي الأول؛ ثم قال: يا بن طلحة، لعلّ أحدا شاركك في نصيحتك هذه! قلت: والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحدا أنصع عندي يدا ولا أعظم معروفا من الحجّاج. ولو كنت محابيا أحدا لغرض دنيا لحابيته. ولكني آثرت الله ورسوله، وآثرتك والمؤمنين عليه. قال: قد علمت أنك لم ترد الدنيا، ولو أردتها لكانت لك في الحّجاج، ولكن أردت الله والدار الآخرة. وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالا لهما؛ وولّيته العراقين وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى ولايته عليهما استزادة له، لألزمه بذلك من حقّك ما يؤدّي إليك عني اجر نصيحتك. فاخرج معه فإنك غير ذامّ لصحبته فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه. وفود رسول المهلب على الحجاج بقتل الأزارقة أبو الحسن المدائني قال: لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطريّ بن الفجاءة صاحب الأزارقة، بعث إلى مالك بن بشير فقال له: إني موفدك إلى الحجاج فسر فإنما هو رجل مثلك. وبعث إليه بجائزة، فردّها وقال: إنما الجائزة بعد الاستحقاق. وتوجّه. فلما دخل على الحجّاج، قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير. قال: ملك وبشارة. كيف تركت المهلّب؟ قال: أدرك ما أمّل وأمّن من خاف. قال: كيف هو بجنده؟ قال: والد رؤوف: قال: فكيف جنده له؟ قال: أولاد بررة. قال: كيف رضاهم

وفود جرير على عبد الملك بن مروان

عنه؟ قال: وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل. قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوّكم؟ قال: نلقاهم بحدنا فنطمع فيهم، ويلقونا بحدّهم فيطمعون فينا. قال: كذلك الحدّ إذا لقي الحدّ. قال: فما حال قطريّ؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه. قال: فما منعكم من اتّباعه؟ قال: رأينا المقام من ورائه خيرا من اتّباعه. قال: فأخبرني عن ولد المهلب. قال: أعباء القتال بالليل، حماة السّرح بالنهار. قال: أيّهم أفضل؟ قال: ذلك إلى أبيهم. قال: لتقولن. قال: هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها. قال: أقسمت عليك هل روّأت «1» في هذا الكلام؟ قال: ما أطلع الله على غيبه أحدا. فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله الكلام المطبوع لا الكلام المصنوع. وفود جرير على عبد الملك بن مروان لما مدح جرير بن الخطفي الحجّاج بن يوسف بشعره الذي يقول فيه: من سدّ مطّلع النّفاق عليكم ... أم من يصول كصولة الحجّاج وبشعره الذي يقول فيه: أم من يغار على النّساء حفيظة ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج «2» وقوله: دعا الحجّاج مثل دعاء نوح ... فأسمع ذا المعارج فاستجابا قال له الحجاج: إن الطاقة تعجز عن المكافأة، ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فسر إليه بكتابي هذا فسار إليه؛ ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له، فقال: أتصحو أم فؤادك غير صاحي

وفود جرير عن أهل الحجاز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

قال له عبد الملك: بل فؤادك. فلما انتهى إلى قوله: تعزّت أمّ حزرة ثم قالت: ... رأيت الواردين ذوي امتياج «1» ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح سأشكر إن رددت إليّ ريشي ... وأثبتّ القوادم في جناحي «2» ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ارتاح عبد الملك، وكان متكئا فاستوى جالسا، وقال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت! ثم قال له: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة؟؟؟ نعم كلب؟ قال: إذا لم تروها يا أمير المؤمنين فلا أرواها الله. فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب. كلها سود الحدقة. فقال: يا أمير المؤمنين، إنها أبّاق «3» ونحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته، فلو أمرت بالرّعاء. فأمر له بثمانية من الرعاء، وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده، فقال له جرير: والمحلب يا أمير المؤمنين، وأشار إلى صحفة منها؛ فنبذها إليه بالقضيب، قال: خذها لا نفعتك! ففي ذلك يقول جرير. أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف «4» وفود جرير عن أهل الحجاز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، عن أهل الحجاز، فاستأذنه في الشعر، فقال: مالي وللشعر يا جرير؟ إني لفي شغل عنه! قال يا أمير المؤمنين، إنها رسالة عن أهل الحجاز. قال: فهاتها إذا. فقال:

وفود دكين الراجز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

كم من ضرير أمير المؤمنين لدى ... أهل الحجاز دهاه البؤس والضرر أصابت السّنة الشّهباء ما ملكت ... يمينه فحناه الجهد والكبر «1» ومن قطيع الحشا عاشت مخبّأة ... ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر لما اجتلتها صروف الدهر كارهة ... قامت تنادي بأعلى الصوت: يا عمر! وفود دكين الراجز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال دكين بن رجاء الفقيمي الراجز: مدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعابا، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنتشر عليّ، ولم تطب نفسي ببيعها، فقدمت علينا رفقة من مصر، فسألتهم الصّحبة، فقالوا: إن خرجت الليلة. فقلت: إني لم أودّع الأمير ولابدّ وداعه. قالوا: فإن الأمير لا يحجب عن طارق ليل. فاستأذنت عليه، فأذن لي وعنده شيخان لا أعرفهما. فقال لي: يا دكين، إن لي نفسا توّاقة، فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا فيه فبعين ما أرينّك. قلت له: أشهد لي بذلك أيها الأمير. قال: إني أشهد الله. قلت: ومن خلقه! قال: هذين الشيخين. قلت لأحدهما: من أنت يرحمك الله أعرفك؟ قال: سالم بن عبد الله. فقلت: لقد استسمنت الشاهد. وقلت للآخر: من أنت يرحمك الله؟ قال: أبو يحيى مولى الأمير. وكان مزاحم يكنى أبا يحيى. قال دكين: فخرجت بهن إلى بلدي، فرمى الله في أذنابهنّ بالبركة، حتى اتخذت منهنّ الضياع والرّباع والغلمان. فإني لبصحراء فلج «2» ، إذا بريد يركض إلى الشام، فقلت له: هل من مغرّبة خبر؟ قال: مات سليمان بن عبد الملك. قلت: فمن القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز. قال: فأنخت قلوصي فألقيت عليها أداتي وتوجهت عنده؛ فلقيت جريرا في الطريق

وفود كثير والأحوص ونصيب على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

جائيا من عنده، فقلت: من أين أبا حزرة؟ قال: من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء قلت: فما ترى فإني خرجت إليه؟ قال: عوّل عليه في مال ابن السبيل كما فعلت. فانطلقت فوجدته قاعدا على كرسيّ في عرصة «1» داره، قد أحاط الناس به فلم أجد إليه سبيلا للوصول، فناديت بأعلى صوتي: يا عمر الخيرات والمكارم ... وعمر الدّسائع العظائم «2» إني امرؤ من قطن بن دارم ... أطلب حاجي من أخي مكارم إذ ننتجي والليل غير نائم ... في ظلمة الليل وليلي عاتم عند أبي يحيى وعند سالم فقام أبو يحيى ففرّج لي، وقال: يا أمير المؤمنين، إن لهذا البدويّ عندي شهادة عليك. قال: أعرفها، ادّن مني يا دكين، أنا كما ذكرت لك أن لي نفسا توّاقة، وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا، فلما أدركتها وجدتها تتوق إلى الآخرة؛ والله ما رزأت من أمور الناس شيئا فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما. فأمر لي بألف درهم. فو الله ما رأيت ألفا كانت أعظم بركة منها. وفود كثير والأحوص ونصيب على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حماد الراوية قال: قال لي كثير عزّة: ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر؟ قلت: نعم. قال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم، ونحن لا نشك أن سيشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة «3» ، لقينا مسلمة بن عبد الملك، وهو يومئذ

فتى العرب، فسلّمنا فردّ، ثم قال: ما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟ قلنا: ما توضّح إلينا خبر حتى انتهينا إليك. ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا. فقال: إن يك ذو دين بني مروان قد وليّ وخشيتم حرمانه، فإن ذا دنيانا قد بقي، ولكم عندي ما تحبون، وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله. فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرام منزول عليه؛ فأقمناه عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره، فلا يؤذن لنا؛ إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته، كان ذلك رأيا. ففعلت، فكان مما حفظت من كلامه: «لكل سفر زاد لا محالة، فتزوّدوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعدّ الله له من ثوابه أو عقابه، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم في كلام كثير لا أحفظه، ثم قال: «أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق» ! ثم بكى حتى ظننت أنه قاض نحبه، وارتجّ المسجد وما حوله بالبكاء، وانصرفت إلى صاحبيّ فقلت لهما: خذا في شرج «1» من الشّعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه؛ فإن الرجل آخريّ وليس بدنيوي. إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة بعد ما أذن للعامة. فلما دخلت سلّمت ثم قلت: يا أمير المؤمنين، طال الثّواء وقلّت الفائدة، وتحدّث بجفائك إيانا وفود العرب. قال: يا كثيّر، إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ «2» أفي واحد من هؤلاء أنت؟ قلت: بلى، ابن سبيل منقطع به، وأنا صاحبك. قال: ألست صاحب أبي سعيد؟ قلت: بلى، قال: ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعا به. قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الإنشاد؟ قال: نعم، ولا تقل ولا تقل إلا حقا. فقلت: وليت فلم تشتم علياّ ولم تخف ... برياّ ولم تقبل إشارة مجرم

وصدّقت بالفعل المقال مع الذي ... أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ... من الأود الباقي ثقاف المقوّم «1» وقد لبست لبس الهلوك ثيابها ... تراءى لك الدنيا بكفّ ومعصم «2» وتومض أحيانا بعين مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظّم فأعرضت عنها مشمئزا كأنّما ... سقتك مدوفا من سمام وعلقم «3» وقد كنت من أجبالها في ممنّع ... ومن بحرها في مزيد الموج مفعم وما زلت تواقا إلى كلّ غاية ... بلغت بها أعلى البناء المقوّم فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن ... لطالب دنيا بعده من تقدّم تركت الذي يفنى وإن كان مونقا ... وآثرت ما يبقى برأي مصمّم وأضررت بالفاني وشمّرت للذي ... أمامك في يوم من الشرّ مظلم ومالك إذا كنت الخليفة مانع ... سوى الله من مال رغيب ولادم سما لك همّ في الفؤاد مؤرّق ... بلغت به أعلى المعالي بسلّم فما بين شرق الأرض والغرب كلّها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول أمير المؤمنين ظلمتني ... بأخذ لدينار ولا أخذ درهم ولا بسط كفّ لامريء غير مجرم ... ولا السّفك منه ظالما ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسّموا ... لك الشّطر من أعمارهم غير ندّم فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال: فأقبل عليّ وقال: إنك مسئول عما قلت. ثم تقدّم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد، فقال: قل، ولا تقل إلا حقّا. فقال: وما الشّعر إلا حكمة من مؤلّف ... بمنطق حقّ أو بمنطق باطل فلا تقبلن إلّا الذي وافق الرّضا ... ولا ترجعنّا ءالنّساء الأرامل رأيناك لم تعدل عن الحقّ ممنة ... ولا شأمة فعل الظّلوم المخاتل «4»

وفود الشعراء على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

ولكن أخذت الحقّ جهدك كلّه ... تقدّ مثال الصالحين الأوائل فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ... ومن ذا يردّ الحقّ من قول قائل ومن ذا يردّ السّهم بعد مضائه ... على فوقه إذ عار من نزع نابل «1» ولولا الذي قد عوّدتنا خلائف ... غطاريف كانوا كالّليوث البواسل لما وخدت شهرا برحلي شملّته ... تقدّ متان البيد بين الرّواحل «2» ولكن رجونا منك مثل الذي به ... حبينا زمانا من ذويك الأوائل فإن لم يكن للشّعر عندك موضع ... وإن كان مثل الدّرّ في نظر قائل وكان مصيبا صادقا لا يعيبه ... سوى أنه يبنى بناء المنازل فإنّ لنا قربى ومحض مودّة ... وميراث آباء مشوا بالمناصل فذادوا عدوّ السلم عن عقر دارهم ... وأرسوا عمود الدين بعد التّمايل وقبلك ما أعطى الهنيدة جلّة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل «3» رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضّحى والأصائل فقال: إنك مسئول عما قلت. ثم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد؛ فلم يأذن له، وأمره بالغزو إلى دابق. فخرج إليها وهو محموم. وأمر لي بثلاثمائة، وللأحوص بمثلها، ولنصيب بمائة وخمسين. وفود الشعراء على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن الكلبي: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله؛ فأقاموا ببابه أياما لا يأذن لهم بالدخول، حتى قدم عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز، وعليه عمامة قد أرخى طرفيها، وكانت له منه مكانة، فقال جرير:

يأيها الرّجل المرخي عمامته ... هذا زمانك إنّي قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدي الباب كالمصفود في قرن «1» وحش المكانة من أهلي ومن ولدي ... نائي المحلّة عن داري وعن وطني قال: نعم أبا حزرة ونعمى عين. فلما دخل على عمر قال: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك؛ وأقوالهم باقية؛ وسنانهم مسنونة. قال: يا عون، مالي وللشعراء؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد مدح وأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم. قال: ومن مدحه؟ قال: عباس بن مرداس؛ فكساه حلّة قطع بها لسانه. قال: وتروي قوله؟ قلت: نعم: رأيتك يا خير البريّة كلّها ... نشرت كتابا جاء بالحقّ معلما ونوّرت بالبرهان أمرا مدمّسا ... وأطفأت بالبرهان نارا مضرّما «2» فمن مبلغ عنيّ النبيّ محمدا ... كلّ امريء يجزي بما قد تكلما تعالى علواّ فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما قال: صدقت؛ فمن بالباب منهم؟ قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة. قال: لا قرّب الله قرابته، ولا حيّا وجهه! أليس هو القائل؟ ألا ليت أنّي يوم حانت منيّتي ... شممت الذي ما بين عينيك والفم وليت طهوري كان ريقك كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم «3» ويا ليت سلّمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنّم فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا، ويعمل عملا صالحا. والله لا دخل عليّ أبدا فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جميل بن معمر العذري. قال: هو الذي يقول: ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت ... يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها

فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوّى عليها صفيحها أظلّ نهاري لا أراها ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها اعزب به؛ فو الله لا دخل عليّ أبدا. فمن غير من ذكرت؟ قلت: كثير عزة. قال: هو الذي يقول: رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خرّوا لعزّة. راكعين سجودّا اعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأحوص الأنصاري. قال: أبعده الله ومحقه، أليس هو القائل وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جارية هرب بها منه: الله بيني وبين سيدها ... يفرّ عني بها وأتّبع اعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: همام بن غالب الفرزدق. قال: أليس هو القائل يفخر بالزنا: هما دلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسره فلما استوت رجلاي في الارض قالتا ... أحيّ يرجّى أم قتيل نحاذره وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت ... مغلّقة دوني عليها دساكره «1» فقلت ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا ... وولّيت في أعقاب ليل أبادره اعزب به. فو الله لا دخل عليّ أبدا، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأخطل التغلبي. قال: أليس هو القائل: فلست بصائم عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بزاجر عنسا بكورا ... إلى بطحاء مكّة للنّجاح ولست بقائم كالعير يدعو ... قبيل الصبح جيّ على الفلاح ولكني سأشربها شمولا ... وأسجد عند منبلج الصباح

اعزب به. فو الله لا وطيء لي بساطا أبدا وهو كافر؛ فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جرير بن الخطفي. قال: أليس هو القائل: لولا مراقبة اليعون أريننا ... مقل المها وسوالف الآرام «1» هل ينهينك أن قتلن مرقّشا ... أو ما فعلن بعروة بن حزام ذمّ المنازل بعد منزلة الّلوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزّيارة فارجعي بسلام فإن كان ولا بد فهذا. فأذن له؛ فخرجت إليه فقلت: ادخل أبا حزرة. فدخل وهو يقول: إنّ الذي بعث النبيّ محمدا ... جعل الخلافة في إمام عادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى ارعوى وأقام ميل المائل والله أنزل في القران فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل إني لأرجو منك خيرا عاجلا ... والنّفس مولعة بحبّ العاجل فلما مثل بين يديه قال: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا. فأنشأ يقول: كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر ممن يعدّك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العيشّ لم ينهض ولم يطر يدعوك دعوة ملهوف كأنّ به ... خبلا من الجنّ أو مساّ من النّشر «2» خليفة الله ماذا تأمرنّ بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر ما زلت بعدك في هم يؤرّقني ... قد طال في الحيّ إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا باد على حضر إنّا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر نال الخلافة إذ كانت له قدرا ... كما أتى ربّه موسى على قدر هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذّكر

وفود نابغة بني جعدة على ابن الزبير رحمه الله تعالى

فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أمر عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية. فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنها لأحبّ مال إليّ كسبته. ثم خرج، فقالوا له: ما وراءك؟ قال ما يسوءكم! خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع. الشعراء، وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزّه ... وقد كان شيطاني من الجنّ راقيا «1» وفود نابغة بني جعدة على ابن الزبير رحمه الله تعالى الزبير بن بكار قاضي الحرمين، قال: أقحمت السّنة نابغة بني جعدة، فوفد إلى ابن الزّبير، فدخل عليه في المسجد الحرام، ثم أنشده: حكيت لنا الصّدّيق لمّا وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم وسوّيت بين الناس في الحقّ فاستووا ... فعاد صباحا حالك الّلون مظلم أتاك أبو ليلى يجوب به الدّجى ... دجى الليل جوّاب الفلاة عثمثم «2» لتجبر منه جانبا زعزعت به ... صروف الليالي والزّمان المصمّم فقال له ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى، فالشعر أدنى وسائلك عندنا؛ أما صفوة أموالنا فلآل الزبير، وأما عفوته «3» فإن بني أسد وتيما تشغلها عنك، ولكن لك في مال الله سهمان: سهم برؤيتك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسهم بشركتك المسلمين في فيئهم. ثم أخذ بيده ودخل به دار النّعم، فأعطاه قلائص سبعا، وجملا رحيلا، وأوقر «4» له

وفود أهل الكوفة على ابن الزبير رحمه الله تعالى

الركاب برّا وتمرا وثيابا. فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحبّ صرفا. فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى! لقد بلغ به الجهد. قال النابغة: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما ولّيت قريش فعدلت، واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فرّاط القاصفين. قال الزبير بن بكار: الفارط: الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرّشاء والدّلاء والقاصف: الذي يتقدم لشراء الطعام. وفود أهل الكوفة على ابن الزبير رحمه الله تعالى قال: لما قتل مصعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد، خرج حاجّا فقدم على أخيه عبد الله بن الزّبير بمكة ومعه وجوه أهل العراق، فقال له: يا أمير المؤمنين جئتك بوجوه أهل العراق، لم أدع لهم بها نظيرا، لتعطيهم من هذا المال. قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله. والله لا فعلت. فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم، قال لهم: يا أهل الكوفة، وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم، بل لكل عشرة رجلا. قال عبيد الله بن ظبيان: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذكرت؟ قال: وما ذلك؟ قال: فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام كما قال أعشى بكر من وائل: علّقتها عرضا وعلّقت رجلا ... غيري وعلّق أخرى غيرها الرّجل «1» أحببناك نحن، وأحببت أنت أهل الشام، وأحبّ أهل الشام عبد الملك. ثم النصرف القوم من عنده خائبين. فكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير.

وفود رؤبة على أبي مسلم

وفود رؤبة على أبي مسلم الأصمعي قال: حدّثنا رؤبة قال: قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة، فأنشدته، فناداني: يا رؤبة، فنوديت له من كل مكان: يا رؤبة! فأجبت: لبّيك إذ دعوتني لبّيكا ... أحمد ربّا ساقني إليكا الحمد والنّعمة في يديكا قال: بل في يدي الله عز وجل. قلت: وأنت لما أنعمت حمدت. ثم استأذنت في الإنشاد فأذن لي، فأنشدته: ما زال يأتي الملك من أقطاره ... وعن يمينه وعن يساره مشمّرا لا يصطلي بناره ... حتى أقرّ الملك في قراره فقال: إنك أتيتنا وقد شفّ «1» المال واستنفضه الإنفاق، وقد امرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة، ومنك العود وعلينا المعوّل، والدهر أطرق مستتبّ «2» ، فلا تلق بجنبيك الأسدّة «3» . قال: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أحبّ إليّ من الذي أفادني من ماله. وفود العتابي على المأمون الشّيباني قال: كان كلثوم العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون، فلما خرج إلى خراسان شيّعه إلى قومس حتى وقف على سنداد كسرى، فلما حاول وداعه قال له المأمون: لا تدع زيارتنا إن كان لنا من هذا الأمر شيء. فلما أفضت الخلافة إلى المأمون وفد إليه العتابي زائرا، فحجب عنه، فتعرّض ليحيى بن أكثم فقال: أيها القاضي، إن رأيت أن تذكّر بي أمير المؤمنين. فقال له يحيى: ما أنا بالحاجب. قال

وفود أبي عثمان المازني على الواثق

له: قد علمت، ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان. فدخل على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أجرني من العتابي ولسانه فلم يأذن له وشغل عنه، فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى. كتب إليه: ما على ذا كنا افترقنا بسندا ... د ولا هكذا رأينا الإخاء لم أكن أحسب الخلافة يزدا ... د بها ذو الصفاء إلا صفاء تضرب الناس بالمثقّفة السّم ... ر على غدرهم وتنسى الوفاء فلما قرأ أبياته دعا به، فلما دنا منه سلّم بالخلافة ووقف بين يديه، فقال: يا عتابي، بلغتنا وفاتك فغمّتنا، ثم انتهت إلينا وفادتك فسرّتنا. فقال: يا أمير المؤمنين، لو قسم هذا البرّ على أهل منى وعرفات لوسعهم؛ فإنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك! قال: سل حاجتك. قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة فأحسن جائزته. وانصرف. وفود أبي عثمان المازني على الواثق أبو عثمان بكر بن محمد قال: وفدت على الواثق، فلما دخلت وسلمت قال: هل خلّيت وراءك أحدا يهمك أمره؟ قلت أخيّة لي ربّيتها فكأنها بنتي. قال: ليت شعري. ما قالت حين فارقتها؟ قال: أنشدتني قول الأعشى: تقول ابنتي يوم جدّ الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم أبانا، فلا رمت من عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم «1» أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منّا الرّحم «2» قال: ليت شعري، ما قلت لها؟ قال: أنشدتها يا أمير المؤمنين قول جرير: ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح

الوافدات على معاوية وفود سودة ابنة عمارة على معاوية

قال: أتاك النجاح. وأمر له بعشرة آلاف درهم. ثم قال: حدّثني حديثا ترويه عن أبي مهديّة مستظرفا. قلت: يا أمير المؤمنين، حدّثني الأصمعي قال: قال لي أبو مهدية: بلغني أن الأعراب والأعزاب سواء في الهجاء. قلت: نعم. قال: فاقرأ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ولا تقرأ: الأعراب، ولا يغرّنك العزب وإن صام وصلى! فضحك الواثق حتى شغر برجله «1» ، وقال: لقد لقي أبو مهدية من العزبة شرا. وأمر لي بخمسمائة دينار. الوافدات على معاوية وفود سودة ابنة عمارة على معاوية عامر الشعبي قال: وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان، فاستأذنت عليه فأذن لها، فلما دخلت عليه سلّمت عليه، فقال لها: كيف أنت يا بنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال لها: أنت القائلة لأخيك: شمّر كفعل أبيك يا بن عمارة ... يوم الطّعان وملتقى الأقران وانصر عليّا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان إنّ الإمام أخا النبيّ محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان فقد الجيوش وسر أمام لوائه ... قدما بأبيض صارم وسنان قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب؛ فدع عنك تذكار ما قد نسي. قال: هيهات، ليس مثل مقام أخيك ينسى. قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان أخي خفيّ المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار وبالله أسأل يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: قد فعلت، فقولي حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين، إنك للناس سيد، ولأمورهم مقلّد، والله سائلك

عما افترض عليك من حقّنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزّك، ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السّنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة؛ هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة، فإما عزلته فشكرناك، وإما لا فعرفناك! فقال معاوية: إياي تهدّدين بقومك؟ والله لقد هممت أن أردّك إليه على قتب «1» أشرس فينفّذ حكمه فيك. فسكتت، ثم قالت: صلّى الإله على روح تضمّنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا قد حالف الحقّ لا يبغي به ثمنا ... فصار بالحقّ والإيمان مقرونا قال: ومن ذلك؟ قالت: علّي بن أبي طالب رحمه الله تعالى. قال: ما أرى عليك منه أثرا! قالت: بلى، أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغثّ «2» والسمين، فوجدته قائما يصلي، فانفتل من الصلاة ثم قال برأفة وتعطّف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل. فبكى، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقّك. ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* ... قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ... وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «3» . إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك. والسلام. فعزله يا أمير المؤمنين. ما خزمه بخزام «4» ، ولا ختمه بختام. فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها. فقالت: ألي خاصّة أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذا الفحشاء واللؤم، إن لم

وفود بكارة الهلالية على معاوية

يكن عدلا شاملا، وإلا يسعني ما يسع قومي. قال: هيهات! لمّظكم «1» ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئا ما تفطمون، وغركم قوله: فلو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام وقوله: ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنّى فتحة الباب «2» كالهندوانيّ لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجّاب «3» اكتبوا لها بحاجتها. وفود بكارة الهلالية على معاوية محمد بن عبد الله الخزاعي عن الشّعبي قال: استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، وهو يومئذ بالمدينة، فدخلت عليه، وكانت امرأة قد أسنّت وعشى «4» بصرها وضعفت قوتها، ترعش بين خادمين لها؛ فسلّمت وجلست. فردّ عليها معاوية السلام، وقال: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال: غيّرك الدهر! قالت. كذلك هو ذو غير، من عاش كبر ومن مات قبر. قال عمرو ابن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين: يا زيد دونك فاستشر «5» من دارنا ... سيفا حساما في التّراب دفينا قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا قال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين: أترى ابن هند للخلافة مالكا ... هيهات ذاك وإن أراد بعيد

وفود الزرقاء على معاوية

منّتك نفسك في الخلاء ضلالة ... أغراك عمرو للشّقا وسعيد قال سعيد بن العاصي: هي والله القائلة: قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى ... فوق المنابر من أميّة خاطبا فالله أخّر مدّتي فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا في كلّ يوم للزمان خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائبا ثم سكتوا. فقالت: يا معاوية، كلامك أعشى بصري وقصّر حجّتي، أنا والله قائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر. فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برّك. اذكري حاجتك قالت: أمّا الآن فلا. وفود الزرقاء على معاوية عبيد الله بن عمرو الغسّاني عن الشّعبي قال: حدّثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا: بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد، إذ ذكروا الزرقاء ابنة عدي بن غالب بن قيس الهمدانية، وكانت شهدت مع قومها صفّين، فقال: أيّكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال: فأشيروا عليّ في أمرها. فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها. قال: بئس الرأي أشرتم به عليّ؛ أيحسن بمثلي أن يتحدّث عنه أنه قتل امرأة بعد ما ظفر بها. فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محارمها وعدّة من فرسان قومها، وأن يمهّد لها وطاء لينا، ويسترها بستر خصيف «1» ، ويوسّع لها في النفقة؛ فأرسل إليها عامله فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إليّ فإني لا آتيه، وإن كان حتم فالطاعة أولى. فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به.

فلما دخلت على معاوية قال: مرحبا وأهلا، قدمت خير مقدم قدمه وافد! كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة. قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت أو طفلا ممهدا. قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم. قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفّين يوم صفين تحضّين على القتال وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها معاوية: صدقت، أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: أيها الناس، ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشّتكم «1» جلابيب الظّلم، وجارت بكم عن قصد المحجّة، فيالها فتنة عمياء، صمّاء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص، فكأن قد اندمل شعب الشّتات «2» ، والتأمت كلمة العدل، ودمغ الحقّ باطله؛ فلا يجهلنّ أحد فيقول: كيف العدل وأنّى؟ ليقض الله أمرا كان مفعولا. ألا وإنّ خضاب النساء الحنّاء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده: والصبر خير في الأمور عواقبا

وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية رحمه الله

إيها في الحرب قدما غير ناكصين «1» ولا متشاكسين. ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه. قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك؛ فمثلك بشّر بخير وسرّ جليسه. قال أو يسرّك ذلك؟ قالت: نعم والله، لقد سررت بالخبر فأنّي لي بتصديق الفعل. فضحك معاوية وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته. اذكري حاجتك. قالت يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألّا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا، ومثلك أعطى عن غير مسألة، وجاد عن غير طلبة. قال: صدقت! وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسا. وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية رحمه الله سعيد بن حذافة قال: حبس مروان بن الحكم هو والي المدينة غلاما من بني ليث في جناية جناها، فأتته جدة الغلام أمّ أبيه، وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية، فكلّمته في الغلام فأغلظ لها مروان. فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه فانتسبت فعرفها، فقال لها: مرحبا يا بنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتميننا وتحضّين علينا عدوّنا؟ قالت: إن لبنى عبد مناف أخلاقا طاهرة وأعلاما ظاهرة وأحلاما وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينتقمون بعد عفو، وإن أولى الناس بالتباع ما سنّ آباؤهم لأنت. قال: صدقت! نحن كذلك، فكيف قولك: عزب الرّقاد فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد يا آل مذحج لا مقام فشمّروا ... إنّ العدوّ لآل أحمد يقصد

هذا عليّ كالهلال تحفّه ... وسط السّماء من الكواكب أسعد خير الخلائق وابن عمّ محمّد ... إن يهدكم بالنّور منه تهتدوا ما زال مذ شهد الحروب مظفّرا ... والنّصر فوق لوائه ما يفقد قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفا بعده فقال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة: إمّا هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحقّ تعرف هاديا مهديّا- فاذهب عليك صلاة ربّك ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريّا قد كنت بعد محمّد خلفا كما ... أوصى إليك بنا فكنت وفيّا فاليوم لا خلف يؤمّل بعده ... هيهات نأمل بعده إنسيّا قالت: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق؛ ولئن تحقق فيك ما ظننّا فحظك الأوفر. والله ورّثك الشّنآن «1» في قلوب المسلمين إلّا هؤلاء. فأدحض «2» مقالتهم، وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا، ومن المؤمنين حبا. قال: وإنك لتقولين ذلك؟ قالت سبحان الله! والله ما مثلك مدح بباطل. ولا اعتذر إليه بكذب؛ وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا. كان والله عليّ أحبّ إلينا منك، وأنت أحبّ إلينا من غيرك. قال: ممن؟ قالت: من مروان بن الحكم وسعيد ابن العاص. قال: وبم استحققت ذلك عندك؟ قالت: بسعة حلمك وكريم عفوك. قال: فإنهما يطمعان في ذلك. قالت: هما والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله. قال: والله لقد قاربت، فما حاجتك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إن مروان تبنّك «3» بالمدينة تبنّك من لا يريد منها البراح، لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنّة، يتتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين، حبس ابن ابني، فأتيته، فقال كيت وكيت فألقمته أخشن من الحجر،

وفود عكرشة بنت الأطرش على معاوية رحمه الله تعالى

وألعقته أمرّ من الصّاب ثم رجعت إلى نفسي باللائمة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه؟ فأتيتك يا أمير المؤمنين، لتكون في أمري ناظرا، وعليه معديا. قال: صدقت! لا أسألك عن ذنبه والقيام بحجته. اكتبوا لها باطلاقه. قالت: يا أمير المؤمنين؛ وأنّى لي بالرجعة وقد نفد زادي، وكلّت راحلتي؟ فأمر لها براحلة وخمسة آلاف درهم. وفود عكرشة بنت الأطرش على معاوية رحمه الله تعالى أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال: دخلت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة على معاوية متوكّئة على عكاز لها، فسلّمت عليه بالخلافة ثم جلست؛ فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إذ لا عليّ حيّ قال: ألست المقلّدة حمائل السيوف بصفّين، وأنت واقفة بين الصّفين تقولين: أيها الناس، عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إن الجنة لا يرحل عنها من أوطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها؛ فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم مستظهرين بالصبر على طلب حقهم؛ إن معاوية دلف «1» إليكم بعجم العرب غلف «2» القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة؛ دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبّوه، فالله الله عباد الله في دين الله؛ إياكم والتواكل، فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفيء نور الحق هذه بدر الصغرى، والعقبة الأخرى. يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدا ولقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع «3» صقع البقر، وتروث روث العتاق.

قصة درامية الحجونية مع معاوية رحمه الله تعالى

فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك العسكران يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة. فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ «1» وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته، قال: صدقت، فاذكري حاجتك. قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتردّ على فقرائنا؛ وإنّا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير؛ ولا ينعش لنا فقير؛ فإن كان ذلك عن رأيك فمثلك تنبّه من الغفلة وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك فما مثلك استعان بالخونة ولا استعمل الظّلمة. قال معاوية: يا هذه، إنه ينوبنا من أمور رعيّتنا أمور تنبثق، وبحور تنفهق «2» . قالت: يا سبحان الله. والله ما فرض الله لنا حقا فجعل فيه ضررا على غيرنا، وهو علام الغيوب. قال معاوية: يا أهل العراق، نبّهكم عليّ بن أبي طالب فلم تطاقوا! ثم أمر بردّ صدقاتهم فيهم وإنصافهم. قصة درامية الحجونية مع معاوية رحمه الله تعالى سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال: حج معاوية، فسأله عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون، يقال له دارمية الحجونية؛ وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها؛ فبعث إليها فجيء بها؛ فقال: ما حالك يا بنة حام؟ فقالت: لست لحام إن عبتني؛ أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقت. أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: بعثت إليك لأسألك: علام أحببت علياّ وأبغضتني؛ وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفني. قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببت عليّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسويّة؛ وأبغضتك على قتال

من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بحق. وواليت عليّا على ما عقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الولاء، وحبّه المساكين. وإعظامه لأهل الدين. وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى. قال: فلذلك انتفح بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك «1» ، قالت: يا هذا، بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي. قال معاوية: يا هذه اربعي «2» ، فإنا لم نقل إلا خيرا؛ إنه إذا انتفخ بطن المرأة تمّ خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروّى رضيعها. وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها. فرجعت وسكنت. قال لها: ويا هذه، هل رأيت عليا؟ قالت: إي والله. قال: فيكيف رأيته؟ قال: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطّست. قال: صدقت! فهل لك من حاجة؟ قالت: أو تفعل إذا سألتك؟ قال: نعم. قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها. قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أغذو بألبانها الصّغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر. قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أحلّ عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: ماء ولا كصدّاء «3» ، ومرعى ولا كالسّعدان «4» ، وفتى ولا كمالك، يا سبحان الله، أو دونه؟ فأنشأ معاوية يقول: إذا لم أعد بالحلم منّي عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمّل للحلم خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم- ثم قال: أما والله لو كان عليّ حيا ما أعطاك منها شيئا. قالت: لا والله، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.

وفود أم الخير بنت حريش على معاوية

وفود أم الخير بنت حريش على معاوية عبيد الله بن عمر الغساني عن الشعبي، قال: كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أمّ الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بالخير خيرا وبالشر شراّ بقولها فيه، فلما ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه؛ فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة، ولا معتّلة بكذب، ولقد كنت أحبّ لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيّعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير، إن أمير المؤمنين كتب إليّ أنه مجازيني بالخير خيرا وبالشر شرا؛ فمالي عندك؟ قالت: يا هذا لا يطمعنك برّك بي أن أسرك بباطل. ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق. فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية. فأنزلها مع الحرم؛ ثم أدخلها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه؛ فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال لها: وعليك السلام يا أم الخير، بحقّ ما دعوتني بهذا الاسم. قالت: يا أمير المؤمنين، مه، فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه، ولكلّ أجل كتاب. قال: صدقت! فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية حتى صرت إليك؛ فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق. قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم. قالت: يا أمير المؤمنين، يعيذك الله من دحض المقال وما تردي عاقبته. قال: ليس هذا أردنا. أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن زوّرته «1» قبل، ولا روّيته بعد؛ وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة؛ فإن أحببت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت. فالتفت معاوية إلى جلسائه فقال: أبكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين. قال: هات. قال: كأني بها وعليها برد زبيديّ كثيف بين النسيج، وهي على جمل أرمك «2» وقد أحيط حولها، وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته «3» ، تقول:

يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم، إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم! إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عماء مدلهمة: فأين تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين، أو فرارا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «1» . ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرعبة، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب، فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله. هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل والرضيّ التقيّ، والصديق الأكبر؛ إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية وثب بها واثب حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد شمس. ثم قالت: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ «2» . صبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم؛ فكأني بكم غدا ولقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة، فرّت من قسورة «3» ، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحنّ نادمين، حتى تحلّ بهم الندامة فيطلبون الإقالة، ولات حين مناص. إنه من ضلّ والله عن الحق وقع في الباطل. ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها فالله الله أيها الناس، قبل أن تبطل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان؛ فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصهره وأبي سبطيه، خلق من طينته، وتقرّع من نبعته «4» ، وخصّه بسرّه، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين؛ ها هو ذا مفلق الهام، ومكسّر الأصنام؛ صلى

والناس مشركون، وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر، وفرّق به جمع هوازن؛ فيالها من وقائع زرعت في قلوب نفاقا، وردّة وشقاقا، وزادت المؤمنين إيمانا، وقد اجتهدت في القول؛ وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله. فقال معاوية: يا أم الخير، ما أردت بهذا الكلام الا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوءني أن يجري قتلي علي يدي من يسعدني الله بشقائه. قال:: هيهات يا كثيرة الفضول. ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟ قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان، استخلفه الناس وهم به راضون، وقتلوه وهم له كارهون. قال معاوية: يا أم الخير؛ هذا أصلك الذي تبنين «1» . قالت: لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدا؛ ما أردت بعثمان نقصا، ولكن كان سابقا إلى الخير، وإنه لرفيع الدرجة غدا. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحواريّه، وقد شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، وقد كان سبّاقا إلى كل مكرمة في الإسلام، وأنا أسألك بحق الله يا معاوية، فإنّ قريشا تحدّثت أنك أحلمها: أن تسعني بفضل حلمك، وأن تعفيني من هذه المسائل، وتسألني عما شئت من غيرها. قال نعم ونعمة عين، قد أعفيتك منها. ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردّها مكرمة.

وفود أروى بنت عبد المطلب علي معاوية رحمه الله

وفود أروى بنت عبد المطلب علي معاوية رحمه الله العباس بن بكار قال: حدّثني عبد الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي، أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة؛ فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا عمة، فكيف كنت بعدنا؟ فقالت: يا بن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتعس الله منكم الجدود «1» ، وأضرع «2» منكم الخدود، وردّ الحقّ إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا صلّى الله عليه وسلّم هو المنصور، فولّيتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر؛ فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة وغايتكم النار. فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة، وأقصري عن قولك مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له وأنت يا بن النباغة «3» تتكلم! وأمك كانت أشهر امرأة تغنى بمكة، وآخذهن لأجرة! اربع على طلعك، واعن بشأن نفسك؛ فو الله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها؛ ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش، [كلهم يزعم أنه أبوك] فسئلت أمك عنهم، فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به.

فقال مروان: كفى أيتها العجوز، وأقصدي لما جئت له. فقالت: وأنت أيضا يا بن الزرقاء تتكلم! ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرّأ عليّ هؤلاء غيرك، وإن أمك القائلة في قتل حمزة: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان لي عن عتبة من صبر ... فشكر وحشيّ على دهري حتى ترمّ أعظمي في قبري «1» فأجابتها بنت عمي وهي تقول: خزيت في بدر وبعد بدر ... يا بنة جبّار عظيم الكفر فقال: معاوية عفا الله عما سلف يا عمة! هات حاجتك. قالت: مالي إليك حاجة، وخرجت عنه. تم الجزء الأوّل بعون الله وتوفيقه ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني وأوّله: «كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك»

الجزء الثانى

الجزء الثانى كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك فرش كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربّه: قد مضى قولنا في الوفود والوافدات، ومقاماتهم بين يدي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين يدي الخلفاء والملوك. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده في مخاطبة الملوك، والتزلّف إليهم بسحر البيان، الذي يمازج الرّوح لطافة، ويجري مع النفس رقّة. والكلام الرقيق مصايد القلوب، وإن منه لما يستعطف المستشيط «1» غيظا، والمندمل حقدا، حتى يطفىء جمرة غيظه، ويسل «2» دفائن حقده. وإن منه لما يستميل قلب اللئيم، ويأخذ بسمع الكريم وبصره. وقد جعله الله تعالى بينه وبين خلقه وسيلة نافعة. وشافعا مقبولا؛ قال تبارك وتعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «3» . وسنذكر في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى من تخلّص من أنشوطة الهلاك، وتفلّت من حبائل المنيّة، بحسن التنصّل، ولطيف التّوصّل، ولين الجواب، ورقيق الاستعتاب؛ حتى عادت سيئاته حسنات، وعيض بالثواب بدلا من العقاب وحفظ هذا الباب أوجب على الإنسان من حفظ عرضه، وألزم له من قوام بدنه.

البيان

البيان كنه البيان: كلّ شيء كشف لك قناع المعنى الخفي حتى يتأدّى إلى الفهم ويتقبّله العقل، فذلك البيان الذي ذكره الله في كتابه، ومنّ به على عباده؛ فقال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ «1» . وسئل النبي صلّى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال «في اللسان» . يريد البيان. وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من البيان لسحرا» . وقالت العرب: أنفذ من الرّميّة كلمة فصيحة. وقال الراجز: لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مرّا ومرّا شاعرا «2» وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح؛ والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم. وقالوا: البيان بصر والعيّ عمى، كما أنّ العلم بصر والجهل عمى؛ والبيان من نتاج العلم. والعيّ من نتاج الجهل. وقالوا: ليس لمنقوص البيان بهاء. ولو حكّ بيافوخه «3» عنان السماء. وقال صاحب المنطق: حدّ الإنسان: الحيّ الناطق المبين. وقال: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم. تبجيل الملوك وتعظيمهم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» .

ابن صبيح والفضل بن يحى في علته

وقالت العلماء: لا يؤمّ ذو سلطان في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه. وقال زياد بن أبيه: لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. وقال يحيى بن خالد بن برمك: مساءلة الملوك عن حالها من سجيّة النّوكى «1» ؛ فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير؟ فقل: صبّح الله الأمير بالنعمة والكرامة. وإذا كان عليلا فأردت أن تسأله عن حاله، فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة؛ فإن الملوك لا تسأل ولا تشمّت ولا تكيّف. وأنشد: إن الملوك لا يخاطبونا ... ولا إذا ملّوا يعاتبونا وفي المقال لا ينازعونا ... وفي العطاس لا يشمّتونا وفي الخطاب لا يكيّفونا ... يثنى عليهم ويبجّلونا فافهم وصاتي لا تكن مجنونا ابن صبيح والفضل بن يحى في علته : اعتلّ الفضل بن يحيى، فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائدا لم يزد على السلام عليه والدّعاء له، ويخفّف في الجلوس، ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه. وكان غيره يطيل الجلوس. فلما أفاق من علّته قال: ما عادني في علّتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح. بين معاوية وأصحابه : وقال أصحاب معاوية له: إنّا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك، فنريد أن تجعل لنا علامة نعرف بها ذلك فقال: علامة ذلك أن أقول: إذا شئتم وقيل ذلك ليزيد، فقال: إذا قلت: على بركة الله. وقيل ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال: إذا وضعت الخيزرانة في يدي.

في خدمة الملوك

في خدمة الملوك : ومن تمام خدمة الملوك أن يقرّب الخادم إليه نعليه ولا يدعه يمشي إليهما، ويجعل النعل اليمنى مقابلة الرجل اليمنى، واليسرى مقابلة اليسرى، وإذا رأى متّكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه قبل أن يؤمر؛ فلا ينتظر في ذلك أمره؛ ويتفقّد الدواة قبل أن يأمره، وينفض عنها الغبار إذا قرّبها إليه. وإن رأى بين يديه قرطاسا قد تباعد عنه قرّبه ووضعه بين يديه على كسره. الحجاج والشعبي: ودخل الشعبي على الحجاج، فقال له: كم عطاءك؟ قال: ألفين. قال: ويحك! كم عطاؤك؟ قال: ألفان. قال: فلم لحنت فيما لا يلحن فيه مثلك؟ قال: لحن الأمير فلحنت، وأعرب الأمير فأعربت؛ ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه، فأكون كالمقرّع «1» له بلحنه، والمستطيل عليه بفضل القول قبله! فأعجبه ذلك منه ووهبه مالا. قبلة اليد عبد الرحمن بن أبي ليلى عند عبد الله بن عمر، قال: كنا نقبّل يد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن حديث وكيع بن سفيان، قال: قبّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب. ومن حديث الشّعبي قال: لقي النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبّل ما بين عينيه. قال إياس بن دغفل: رأيت أبا نضرة يقبّل خدّ الحسين. الشيباني عن أبي الحسن عن مصعب قال: رأيت رجلا دخل على عليّ بن الحسين في المسجد فقبّل يده ووضعها على عينيه؛ فلم ينهه.

بين المنصور وأبي بكر الهجري:

العتبي قال: دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقبّل يده، وقال: يدك يا أمير المؤمنين أحقّ يد بالتقبيل، لعلوّها في المكارم، وطهرها من المآثم؛ وأنك تقلّ التّثريب «1» ، وتصفح عن الذنوب؛ فمن أراد بك سوءا جعله الله حصيد سيفك، وطريد خوفك. بين المنصور وأبي بكر الهجري: الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجريّ على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، نغض «2» فمي، وأنتم أهل البيت بركة، فلو أذنت فقبلت رأسك، لعل الله يمسك عليّ ما بقي من أسناني. قال: اختر بينها وبين الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين، أيسر عليّ من ذهاب الجائزة ألّا تبقى في فمي حاكّة. فضحك المنصور وأمر له بجائزة. بين سليمان وجعفر بن يحيى: ودخل جعفر بن يحيى في زيّ العامة وكتمان النباهة على سليمان صاحب بيت الحكمة، ومعه ثمامة بن أشرس، فقال ثمامة: هذا أبو الفضل. فنهض إليه سليمان فقبّل يده وقال له: بأبي أنت، ما دعاك إلى أن تحمّل عبدك هذه المنّة التي لا أقوم بشكرها، ولا أقدر أن أكافيء عليها. عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت: الشّعبي قال: ركب زيد بن ثابت، فأخذ عبد الله بن عبّاس بركابه، فقال له: لا تفعل يا بن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. قال له زيد: أرني يدك. فأخرج إليه يده، فأخذها وقبّلها، وقال: هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نفعل بأهل بيت نبيّنا.

أنواع القبل:

أنواع القبل: وقالوا قبلة الإمام في اليد، وقبلة الأب في الرأس، وقبلة الأخ في الخدّ، وقبلة الأخت في الصدر، وقبلة الزوجة في الفم. من كره من الملوك تقبيل اليد هشام ورجل قبل يده: العتبي قال: دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبّل يده، فقال أفّ له، إن العرب قبّلت الأيدي إلا هلوعا «1» ، ولا فعلته العجم إلا خضوعا. واستأذن رجل المأمون في تقبيل يده، فقال له: إنّ قبلة اليد من المسلم ذلّة، ومن الذّمّيّ خديعة؛ ولا حاجة بك أن تذلّ، ولا بنا أن نخدع. بين المهدي وأبي دلامة في مثله: واستأذن أبو دلامة الشاعر المهديّ في تقبيل يده، فقال: أمّا هذه فدعها قال: ما منعت عيالي شيئا أيسر فقدا عليهم من هذه. حسن التوقيع في مخاطبة الملوك قال هارون الرشيد لمعن بن زائدة: كيف زمانك يا معن؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنت الزمان؛ فإن صلحت صلح الزمان، وإن فسدت فسد الزمان. بين الرشيد وابن سلم في مثله: وهذا نظير قول سعيد بن سلم، وقد قال له أمير المؤمنين الرشيد: من بيت قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير المؤمنين، بنو فزارة. قال: فمن بيتهم في الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين، الشريف من شرّفتموه. قال: صدقت! أنت وقومك.

ودخل معن بن زائدة على أبي جعفر، فقال له كبرت يا معن. قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين. قال: وإنك لجلد! قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. قال: وإنّ فيك لبقيّة. قال هي لك يا أمير المؤمنين. قال: أي الدولتين أحب إليك أو أبغض، أدولتنا أم دولة بني أمية؟ قال: ذلك إليك يا أمير المؤمنين، إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحبّ إليّ، وإن زاد برهم على برك كانت دولتهم أحبّ إليّ. قال: صدقت. قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح، أهذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين ولي به. قال: كيف ماؤه؟ قال: أطيب ماء. قال: فكيف هواؤه؟ قال: أصحّ هواء. قال أبو جعفر المنصور لجرير بن يزيد: إني أردتك لأمر. قال: يا أمير المؤمنين قد أعدّ الله لك مني قلبا معقودا بطاعتك، ورأيا موصولا بنصيحتك، وسيفا مشهورا على عدوّك؛ فإذا شئت فقل. وقال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي ابنك عبد الله. قال: يا أمير المؤمنين إن مدحته عبته، وإن ذممته اغتبته، ولكنه قدح «1» في كفّ مثقّف ليوم نضال في خدمة أمير المؤمنين. وأمر بعض الخلفاء رجلا بأمر؛ فقال: أنا أطوع لك من الرّداء، وأذلّ لك من الحذاء. وقال آخر: أنا أطوع لك من يدك، وأذلّ لك من نعلك. وهذا قاله الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات. وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «2» . قال: حسبك أبا أمية. وقال المأمون ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة! قال: بلى، ولكنّ منابرهم الجذوع.

الرشيد وابن صالح:

وقال المنصور لإسحاق بن مسلم: أفرطت في وفائك لبني أمية. قال: يا أمير المؤمنين، إنه من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى. الرشيد وابن صالح: وقال هارون لعبد الملك بن صالح: صف لي منبج. قال: رقيقة الهواء، لينة الوطاء. قال: فصف لي منزلك بها. قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها. قال: ولم وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أتأسّى به، وأقفو أثره، وأحذو مثاله. المأمون وغلام في الديوان: ودخل المأمون يوما بيت الديوان، فرأى غلاما جميلا على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: أنا الناشيء في دولتك، والمتقلّب في نعمتك، والمؤمّل لخدمتك، الحسن بن رجاء. قال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول؛ ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته. المتوكل وابن الجهم في رأس إسحاق بن اسماعيل: علي بن يحيى قال: إني عند المتوكل حين دخل عليه الرسول برأس إسحاق بن إسماعيل، فقام علي بن الجهم يخطر «1» بين يدي المتوكل ويقول: أهلا وسهلا بك من رسول ... جئت بما يشفي من الغليل برأس إسحق بن إسماعيل فقال المتوكل: قوموا التقطوا هذا الجوهر لئلا يضيع. ودخل عقّال بن شبّة على أبي عبيد الله كاتب المهدي، فقال: يا بن عقّال، لم أرك منذ اليوم! قال: والله إني لألقاك بشوق، وأغيب عنك بتوق «2» .

مدح الملوك والتزلف إليهم

وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح- وكان أسود-: يا نصيب هل لك فيما يثمر المحادثة؟ يريد المنادمة. فقال: أصلح الله الامير، اللون مرمّد، والشعر مفلفل، ولم أقعد إليك بكريم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني؛ فإن رأيت ألّا تفرق بينهما فافعل. ولما ودّع المأمون الحسن بن سهل عند مخرجه من مدينة السلام، قال له: يا أبا محمد، ألك حاجة تعهد إليّ فيها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تحفظ عليّ من قلبك ما لا أستعين على حفظه إلا بك. وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة للمأمون: لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين من قصده إليّ بحديثه، وإشارته إليّ بطرفه، لكان ذلك من أعظم ما توجبه النّعمة، وتفرضه الصنيعة. قال المأمون: ذلك والله لأن الأمير يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت، وحسن الفهم إذا حدّثت، ما لا يجده عند غيرك. مدح الملوك والتزلف إليهم في سير العجم أن أردشير بن يزدجرد لما استوثق له أمره، جمع الناس فخطبهم خطبة حضّهم فيها على الألفة والطاعة، وحذّرهم المعصية ومفارقة الجماعة، وصنّف لهم الناس أربعة أصناف، فخروا له سجّدا، وتكلم متكلّمهم، فقال: لا زلت أيها الملك محبوّا من الله بعز النصر، ودرك الأمل «1» ، ودوام العافية، وتمام النّعمة، وحسن المزيد؛ ولا زلت تتابع لديك المكرمات، وتشفع إليك الذّمامات، حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها، ولا تنقطع زهرتها، في دار القرار التي أعدّها الله لنظرائك من أهل الزّلفى عنده، والحظوة لديه، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر، زائدين زيادة البحور والأنهار، حتى تستوى أقطار الأرض كلها في علوّك عليها، ونفاذ أمرك فيها؛ فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمّنا عموم ضياء الصبح،

المأمون ومادح له عند دخوله بغداد:

ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم: فأصبحت قد جمع الله بك الأيادي بعد افتراقها، وألف بين القلوب بعد تباغضها، وأذهب عنا الإحن والحسائك «1» بعد توقّد نيرانها، بفضلك الذي لا يدرك بوصف، ولا يحدّ بنعت. فقال أردشير: طوبي للممدوح إذا كان للمدح مستحقّا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلا. دخل حسّان بن ثابت على الحارث الجفنيّ فقال: أنعم صباحا أيها الملك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك ووالدي ووالدتي فداؤك. أنّى يناوئك المنذر «2» ؟ فو الله لقذالك أحسن من وجهه، ولأمّك أحسن من أبيه، ولظلّك خير من شخصه، ولصمتك أبلغ من كلامه، ولشمالك خير من يمينه. ثم أنشأ يقول: ونبّئت أنّ أبا منذر ... يساميك للحدث الأكبر قذالك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر ويسرى يديك إذا أعسرت كيمنى يديه فلا تمتر «3» ودخل خالد بن عبد الله القسريّ على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، فقال: يا أمير المؤمنين، من تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها، ومن تكون شرّفته فأنت قد شرفتها، وأنت كما قال الشاعر: وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّرّ حسن وجهك زينا فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أعطي صاحبكم مقولا ولم يعط معقولا. المأمون ومادح له عند دخوله بغداد: ذكر ابن أبي طاهر قال: دخل المأمون بغداد، فتلقاه وجوه أهلها، فقال له رجل

بين خالد القسري وبعضهم في مثله:

منهم: يا أمير المؤمنين، بارك الله لك في مقدمك، وزاد في نعمتك، وشكرك عن رعيّتك، تقدّمت من قبلك، وأتبعت من بعدك، وآيست أن يعاين مثلك أما فيما مضى فلا نعرفه، وأما فيما بقى فلا نرجوه؛ فنحن جميعا ندعو لك، ونثني عليك. خصب لنا جنابك، وعذب شرابك. وحسنت نظرتك، وكرمت مقدرتك. جبرت الفقير «1» ، وفككت الأسير، فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الأول: ما زلت في البذل للنوال وإطلاق لعان بجرمه علق «2» حتى تمنى البراء أنهم ... عندك أسرى في القيد والحلق بين خالد القسري وبعضهم في مثله: ودخل رجل على خالد بن عبد الله القسري فقال: أيها الأمير، إنك لتبذل ما جلّ، وتجبر ما اعتلّ، وتكثر ما قل، ففضلك بديع، ورأيك جميع. وقال رجل للحسن بن سهل: لقد صرت لا أستكثر كثيرك ولا أستقلّ قليلك! قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك أكثر من كثيرك، وأنّ قليلك أكثر من قليل غيرك. وقال خالد بن صفوان لوال دخل عليه: قدمت فأعطيت كلّا بقسطه من نظرك ومجلسك، وصلاتك وعداتك، حتى كأنك من كل أحد، أو كأنك لست من أحد! وقال الرشيد لبعض الشعراء: هل أحدثت فينا شيئا؟ قال: يا أمير المؤمنين، المديح كله دون قدرك، والشعر فيك فوق قدري، ولكني أستحسن قول العتّابي: ماذا عسى مادح يثني عليك وقد ... ناداك في الوحي تقديس وتطهير فتّ الممادح إلا أنّ ألسننا ... مستنطقات بما تخفي الضّمايير لابن صفوان في مدح رجل: مدح خالد بن صفوان رجلا فقال: قريع المنطق، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان،

الرشيد وسهل بن هارون:

قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثير الطّلاوة، صموتا قئولا، يهنأ الجرب، ويداوي الدّبر «1» ، ويقلّ المحزّ، ويطبّق المفصل. لم يكن بالزّمر «2» في مروءته، ولا بالهذر «3» في منطقه، متبوعا غير تابع. كأنه علم في رأسه نار «4» الرشيد وسهل بن هارون: دخل سهل بن هارون على الرشيد، فوجده يضاحك ابنه المأمون، فقال: اللهم زده من الخيرات، وابسط له في البركات، حتى يكون كلّ يوم من أيامه موفيا على أمسه، مقصّرا عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسنه وأجوده، ومن الحديث أصحّه وأبلغه، ومن البيان أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه؟ قال سهل: يا أمير المؤمنين، ما ظننت أحدا تقدّمني سبقني إلى هذا المعنى. فقال: بل أعشى همدان حيث يقول: وجدتك أمس خير بني لؤيّ ... وأنت اليوم خير منك أمس وأنت غدا تزيد الخير ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس المأمون وسهل ابن هارون: وكان المأمون قد استثقل سهل بن هارون، فدخل عليه يوما والناس عنده على منازلهم، فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب، فلما فرغ أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع فقال: مالكم تسمعون ولا تعون، وتفهمون ولا تعجبون، وتعجبون ولا تصفون؟ أما والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم كعجمهم، وعجمهم كعرب بني تميم؛ ولكن كيف يشعر بالدواء من لا يعرف الداء؟ قال: فرجع له المأمون إلى رأيه الأول.

الحجاج وزياد العتكي:

الحجاج وزياد العتكي: وكان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكيّ، فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك بن مروان، قال زياد: يا أمير المؤمنين، إنّ الحجاج سيفك الذي لا ينبو «1» ، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم. فلم يكن بعد ذلك عند الحجاج أحد أخفّ ولا أحبّ إليه منه. لابن شيبة في صالح بن المنصور: حدّث الشّيباني قال: أقام المنصور صالحا ابنه فتكلم في أمر فأحسن؛ فقال شبيب ابن شيبة: تالله ما رأيت كاليوم أبين بيانا، ولا أعرب لسانا، ولا أربط جأشا، ولا أبلّ ريقا، ولا أحسن طريقا. وحق لمن كان المنصور أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير: هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا «2» أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا لابن شيبة في الخلافة: وخرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة يوما، فقيل له: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجيا، والخارج راضيا. لبعض الخلفاء في ابن شيبة: وقيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعدّ له، فلو أمرته يصعد المنبر فجأة لافتضح. قال: فأمر رسولا فأخذ بيده فصعده المنبر: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة: فمنها الأسد الخادر «3» ، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر

بين عبد الملك وذي حاجة:

فأشبه منه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه. ثم نزل. بين عبد الملك وذي حاجة: قال عبد الملك بن مروان لرجل دخل عليه: تكلم بحاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، بهر «1» الدرجة وهيبة الخلافة يمنعاني من ذلك. قال: فعلى رسلك، فإنا لا نحبّ مدح المشاهدة، ولا تزكية اللقاء. قال: يا أمير المؤمنين، لست أمدحك، ولكن أحمد الله على النعمة فيك. قال: حسبك فقد أبلغت. ودخل رجل على المنصور، فقال له: تكلّم بحاجتك. فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين. قال: تكلّم بحاجتك، فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين. قال والله يا أمير المؤمنين، ما أستقصر أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك؛ وإنّ عطاءك لشرف، وإن سؤالك لزين، وما لامريء بذل وجهه إليك نقص ولا شين. قال: فأحسن جائزته وأكرمه. بين المأمون والعماني: حدّث إبراهيم بن السّندي قال: دخل العمانيّ على المأمون، وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج، فقال له: إيّاك أن تنشدني إلّا وعليك عمامة عظيمة الكور «2» وخفان رائقان. قال: فغدا عليه في زي الأعراب فأنشده، ثم دنا فقبّل يده وقال: قد والله يا أمير المؤمنين أنشدت يزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ورأيت وجوههما، وقبّلت أيديهما، وأخذت جوائزهما؛ وأنشدت مروان وقبّلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المنصور ورأيت وجهه وقبّلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المهديّ ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته، إلى كثير من أشباه الخلفاء، وكبراء الأمراء والسادة الرؤساء، فلا والله يا أمير المؤمنين ما رأيت فيهم أبهى منظرا، ولا أحسن وجها، ولا

عمر بن عبد العزيز ووفد العراق ومحمد القرظي:

أنعم كفّا، ولا أندى راحة «1» منك يا أمير المؤمنين. قال: فأعظم له الجائزة على شعره، وأضعف له على كلامه وأقبل عليه بوجهه وبشره، فبسطه حتى تمنى جميع من حضره أنهم قاموا مقامه. عمر بن عبد العزيز ووفد العراق ومحمد القرظي: حدّث العتبي عن سفيان بن عيينة قال: قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق، فنظر إلى شاب منهم يتحوّش «2» للكلام، فقال: أكبروا أكبروا. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس بالسنّ، ولو كان الأمر كله بالسنّ لكان في المسلمين من هو أسنّ منك. فقال عمر: صدقت رحمك الله، تكلم. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّا لم نأتك رغبة ولا رهبة؛ أما الرغبة فقد دخلت علينا منازلنا وقدمت علينا بلادنا؛ وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك من جورك. قال: فما أنتم؟ قال: وفد الشكر. قال: فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل، فقال: يا أمير المؤمنين؛ لا يغلبنّ جهل القوم بك معرفتك بنفسك؛ فإن ناسا خدعهم الثناء وغرّهم شكر الناس فهلكوا، وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم. فألقى عمر رأسه على صدره. التنصل والاعتذار قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من لم يقبل من متنصّل «3» عذرا، صادقا كان أو كاذبا، لم يرد عليّ الحوض» . وقال: «المعترف بالذنب كمن لا ذنب له. وقال: الاعتراف يهدم الاقتراف» «4» . وقال الشاعر: إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا ... إليك فلم تغفر له فلك الذّنب

واعتذر رجل إلى إبراهيم بن المهدي. فقال: عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب. واعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى، فقال: قد أغناك الله بالعذر عن الاعتذار، وأغنانا بحسن النية عن سوء الظن. وقال إبراهيم الموصلي: سمعت جعفر بن يحيى يعتذر إلى رجل من تأخر حاجة ضمنها له، وهو يقول: أحتجّ إليك بغالب القضاء، وأعتذر إليك بصادق النّيّة. وقال رجل لبعض الملوك: أنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك في جرمه، ولا يلتمس رضاك إلا من جهة عفوك، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالزّلّة. وقال الحسن بن وهب: ما أحسن العفو من القادر ... لا سيّما عن غير ذي ناصر إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فما له غيرك من غافر أعوذ بالود الذي بيننا ... أن يفسد الأوّل بالآخر وكتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أبا جعفر، ما أحسن العفو كلّه ... ولا سيّما عن قائل ليس لي عذر وقال آخر: اقبل معاذير من يأتيك معتذرا ... إن برّ عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من أرضاك ظاهره ... وقد أجلّك من يعصيك مستترا خير الخليطين من أغضى لصاحبه ... ولو أراد انتصارا منه لانتصرا «1» وقالت الحكماء: ليس من العدل سرعة العذل «2» . وقال الأحنف بن قيس: ربّ ملوم لا ذنب له.

بين عبد الملك وابن شهاب الزهري:

وقال آخر: لعلّ له عذرا وأنت تلوم وقال حبيب: البرّ بي منك وطّي العذر عندك لي ... فيما أتاك فلم تقبل ولم تلم وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم وقال آخر: إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكلّ امريء لا يقبل العذر مذنب ومن قولنا في هذا المعنى: عذيري من طول البكا لوعة الأسى ... وليس لمن لا يقبل العذر من عذر وقال آخر: فهبني مسيئا كالّذي قلت ظالما ... فعفو جميل كي يكون لك الفضل فإن لم أكن للعفو عندك للّذي ... أتيت بهه أهلا فأنت له أهل ومن الناس من لا يرى الاعتذار، ويقول: إياك وما يعتذر منه. وقالوا: ما اعتذر مذنب إلا ازداد ذنبا. وقال الشاعر محمود الوراق: إذا كان وجه العذر ليس ببيّن ... فإنّ اطّراح العذر خير من العذر بين عبد الملك وابن شهاب الزهري: قال ابن شهاب الزهري: دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فرآني أحدثهم سنا؛ فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له. فقال: لقد كان أبوك وعمك نعّاقين «1» في فتنة ابن الأشعث. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ مثلك إذا عفا لم

بين محمد بن سليمان وابن السماك:

يعدّد، وإذا صفح لم يثرّب. فأعجبه ذلك، وقال: أين نشأت؟ قلت: بالمدينة. قال: عند من طلبت؟ قلت: سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وقبيصة بن ذؤيب. قال: فأين أنت من عروة بن الزبير، فإنه بحر لا تكدّره الدّلاء. فلما انصرفت من عنده لم أبارح عروة بن الزبير حتى مات. بين محمد بن سليمان وابن السماك: ودخل ابن السماك على محمد بن سليمان بن علي، فرآه معرضا عنه، فقال: مالي أرى الأمير كالعاتب عليّ؟ قال: ذلك لشيء بلغني عنك كرهته. قال: إذا لا أبالي. قال: ولم؟ قال: لأنه إذا كان ذنبا غفرته، وإن كان باطلا لم تقبله. بين المنصور وجرير بن عبد الله: دخل جرير بن عبد الله على أبي جعفر المنصور، وكان واجدا عليه، فقال له: تكلم بحجّتك. فقال: لو كان لي ذنب تكلّمت بعذري، ولكن عفو أمير المؤمنين أحبّ إليّ من براءتي. الهادي ومذنب: وأتي موسى الهادي برجل، فجعل يقرعه بذنوبه. فقال: يا أمير المؤمنين، إن اعتذاري مما تقرّعني به ردّ عليك، وإقراري به يلزمني ذنبا لم أجنه، ولكن أقول: فإن كنت ترجو في العقوبة راحة ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر بين المأمون وابن الفارسي: سعي بعبد الملك بن الفارسي إلى المأمون، فقال له المأمون: إن العدل من عدّله أبو العباس، وقد كان وصفك بما وصف به، ثم أتتني الأخبار بخلاف ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي بلغك عني تحميل عليّ، ولو كان كذلك لقلت: نعم، كما بلغك. فأخذت بحظّي من الله في الصدق، واتكلت على فضل أمير المؤمنين في سعة عفوه. قال: صدقت.

المأمون وابن يوسف في حكاية ضده:

المأمون وابن يوسف في حكاية ضده: محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء، قال: كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولى صدقات البصرة، فجار فيها وظلم، فكثر الشاكي له والداعي عليه، ووافى باب أمير المؤمنين زهاء خمسين رجلا من جلة البصريين: فعزله المأمون، وجلس لهم مجلسا خاصا وأقام أحمد بن يوسف لمناظرتهم، فكان مما حفظ من كلامه أن قال: يا أمير المؤمنين، لو أن أحدا ممن ولي الصدقات سلم من الناس لسلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ «1» . فأعجب المأمون جوابه. واستجزل مقاله، وخلّى سبيله، محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال: قال لي أبو عبد الله أحمد بن أبي داود: دخلت على الواثق، فقال لي: ما زال قوم في ثلبك ونقصك! فقلت: يا أمير المؤمنين، لكلّ امريء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم، والله وليّ جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ذل من كنت ناصره، ولا ضاع من كنت حافظه، فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت أبا عبد الله. وسعى إليّ بعيب عزّة معشر ... جعل الإله خدودهنّ نعالها قال أبو العيناء: قلت لأحمد بن أبي داود: إن قوما تظافروا عليّ! قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «2» قلت: إنهم عدد وأنا واحد! قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً «3» قلت: إن للقوم مكرا! قال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «4» . قال أبو العيناء: فحدّثت بهذا الحديث أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي داود إلا أنّ القرآن أنزل عليه.

بين قتيبة بن مسلم ونهار بن توسعة:

بين قتيبة بن مسلم ونهار بن توسعة: قال: وهجا نهار بن توسعة قتيبة بن مسلم، وكان ولي خراسان بعد يزيد بن المهلّب، فقال: كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكلّ باب من الخيرات مفتوح فبدّلت بعده قردا نطوف به ... كأنما وجهه بالخلّ منضوح «1» فطلبه فهرب منه، ثم دخل عليه بكتاب أمّه؛ فقال: ويحك! بأي وجه تلقاني؟ قال: بالوجه الذي ألقى به ربّي، وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك. فقرّبه ووصله وأحسن إليه. المنصور وابن فضالة: وأقبل المنصور يوما راكبا والفرج بن فضالة جالس عند باب الذّهب، فقام الناس إليه ولم يقم. فاستشاط المنصور غيظا وغضبا، ودعا به فقال: ما منعك من القيام مع الناس حين رأيتني؟ قال: خفت أن يسألني الله تعالى: لم فعلت؟ ويسألك عنه: لم رضيت؟ وقد كرهه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسكن غضبه وقرّبه وقضى حوائجه. المأمون وابن أكثم: يحيى بن أكثم، قال: إني عند المأمون يوما، حتى أتي برجل ترعد فرائصه «2» ، فلما مثل بين يديه قال له المأمون: كفرت نعمتي ولم تشكر معروفي! قال: يا أمير المؤمنين، وأين يقع شكري في جنب ما أنعم الله بك عليّ؟ فنظر إليّ وقال متمثّلا: فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لكثرة مال أو علوّ مكان لما ندب الله العباد لشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثّقلان «3»

الاستعطاف والاعتراف

ثم التفت إلى الرجل فقال له: هلّا قلت كما قال أصرم بن حميد: رشحت حمدي حتى إنّني رجل ... كلّي بكلّ ثناء فيك مشتغل خوّلت شكري ما خوّلت من نعم ... فخرّ شكري لما خوّلتني خول «1» الاستعطاف والاعتراف بين المهدي وابن داود: لما سخط المهدي على يعقوب بن داود، قال له: يا يعقوب، قال: لبيك يا أمير المؤمنين تلبية مكروب لموجدتك. قال: ألم أرفع من قدرك إذ كنت وضيعا، وأبعد من ذكرك إذ كنت خاملا، وألبسك من نعمتي ما لم أجد لك بها يدين من الشكر؛ فكيف رأيت الله أظهر عليك وردّ إليك منك؟ قال: إن كان ذلك بعلمك يا أمير المؤمنين فتصديق معترف منيب، وإن كان مما استخرجته دفائن الباغين فعائد بفضلك. فقال: والله لولا الحنث «2» في دمك بما تقدّم لك، لألبستك منه قميصا لا تشدّ عليه زرّا. ثم أمر به إلى الحبس، فتولّى وهو يقول: الوفاء يا أمير المؤمنين كرم، والمودّة رحم، وأنت بهما جدير. أخذت الشعراء معنى قوله «ألبستك منه قميصا لا يشدّ عليه زرّا» فقال معلّى الطائي: طوّقته بحسام طوق داهية ... ما يستطيع عليه شدّ أزرار وقال حبيب: طوّقته بالحسام طوق ردي ... أغناه عن مسّ طوقه بيده وقال: طوّقته بالحسام منصلتا ... آخر طوق يكون في عنقه

ليزيد بن مزيد أمام الرشيد:

ليزيد بن مزيد أمام الرشيد: ولما رضي الرشيد عن يزيد بن مزيد أذن له بالدخول عليه فلما مثل بين يديه قال: الحمد لله الذي سهّل لي سبيل الكرامة بلقائك، وردّ عليّ النعمة بوجه الرضا منك؛ وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المحسنين المرغبين «1» وفي حال رضاك جزاء المنعمين المتطولّين؛ فقد جعلك الله وله الحمد تثبت تحرّجا عند الغضب، وتمتنّ تطوّلا «2» بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع تفضلا بالعفو. المأمون وإبراهيم بن المهدي: لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، وهو الذي يقال له ابن شكلة، أمر بإدخاله عليه. فلما مثل بين يديه قال: وليّ الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، [والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الاعتذار في الأمل هجمت به الأناة على التلف] «3» ؛ وقد جعل الله كلّ ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقّك. قال المأمون: إني شاورت أبا إسحاق والعبّاس في قتلك، فأشارا عليّ به. قال: أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك ولما جرت عليه عادة السياسة، فقد فعلا؛ ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عوّدك الله. ثم استعبر باكيا. قال له المأمون: ما يبكيك. قال: جذلا، إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته. ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنه وإن كان جرمي يبلغ سفك دمي، فحلم أمير المؤمنين وتفضّله يبلغاني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحرمة الأب بعد الأب.

المأمون وإسحاق بن العباس:

قال المأمون: لو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن زلّتك، لبلّغك إليه حسن توصلك ولطف تنصّلك. فكان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحق والعباس ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما. المأمون وإسحاق بن العباس: وقال المأمون لإسحاق بن العباس: لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهلّب وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره. قال: يا أمير المؤمنين، والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك، ولرحمي أمسّ من أرحامهم، وقد قال كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «1» وأنت يا أمير المؤمنين أحقّ وارث لهذه المنة وممتثل بها. قال: هيهات. تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك. قال: يا أمير المؤمنين، فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الزّلة من الكافر، هذا كتاب الله بيني وبينك. يقول الله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «2» فهي للناس يا أمير المؤمنين سنّة دخل فيها المسلم والكافر، والشريف والمشروف. قال: صدقت. اجلس. وريت بك زنادي «3» ، فلا قدح ناري من الغابرين «4» من أهلك أمثالك.

عبد الملك وابن عتبة وخالد بن يزيد:

العتبي عن أبيه قال: قبض مروان بن محمد بن معاوية بن عمر بن عتبة ما له بالفرسان «1» فقال: إني قد وجدت قطيعة عمك لأبيك «إني أقطعتك بستاني» . والبستان لا يكون إلا عامرا، وأنا مسلم إليك الغامر «2» وقابض منك العامر. فقال: يا أمير المؤمنين، إن سلفك الصالح لو شهدوا مجلسنا هذا كانوا شهودا على ما ادعيته، وشفعاء فيما طلبته، يسألونك بإحسانك إليّ مكافأة إحسان سلفي إليهم فشفع فينا الأموات، وأحفظ منا القرابات، واجعل مجلسك هذا مجلسا يلزم من بعدنا شكره. قال: لا والله، إلا أن أجعلها طعمة مني لك، لا قطيعة من عمك لأبيك. قال: قد قبلت ذلك. ففعل. عبد الملك وابن عتبة وخالد بن يزيد: العتبي قال: أمر عبد الملك بن مروان بقطع أرزاق آل أبي سفيان وجوائزهم لموجدة وجدها على خالد بن يزيد بن معاوية. فدخل عليه عمرو بن عتبة. فقال: يا أمير المؤمنين. إن أدنى حقّك متعب. وبعضه فادح لنا، ولنا مع حقك علينا حق عليك، بإكرام سلفنا لسلفك. فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليهم، وضعنا بحيث وضعتنا الرّحم منك. قال عبد الملك: إنما يستحق عطيتي من استعطاها، فأما من ظن أنه يكتفي بنفسه فسنكله إلى نفسه. ثم أمر له بعطيّة. وبلغ ذلك خالدا فقال: أبالحرمان يهدّدني؟ يد الله فوق يده باسطة، وعطاء الله دونه مبذول. فأما عمرو فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ لها. سليمان بن علي وابن عتبة إمام المسودة: العتبي قال: حدثنا طارق بن المبارك، عن عمرو بن عتبة، قال: جاءت دولة

الرشيد وعبد الملك بن صالح:

المسوّدة وأنا حديث السنّ كثير العيال متفرّق المال، فجعلت لا أنزل قبيلة من قبائل العرب إلا شهرت فيها. فلما رأيت أمري لا يكتتم، أتيت سليمان بن علي فاستأذنت عليه قرب المغرب، فأذن لي وهو لا يعرفني؛ فلما صرت إليه قلت: أصلحك الله! لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك؛ فإما قبلتني غانما، وإما رددتني سالما. قال: ومن أنت؟ فانتسبت له؛ فعرفني. وقال: مرحبا، اقعد فتكلم غانما سالما. قلت: أصلحك الله! إن الحرم التي أنت أقرب الناس إليهن معنا، وأولى الناس بهن بعدنا، قد خفن بخوفنا، ومن خاف خيف عليه. قال: فاعتمد سليمان على يديه وسالت دموعه على خديه، ثم قال: يا ابن أخي، يحقن الله دمك، ويستر حرمك، ويسلم مالك إن شاء الله؛ ولو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت. فلم أزل في جوار سليمان آمنا. وكتب سليمان إلى أبي العباس أمير المؤمنين: أما بعد. يا أمير المؤمنين، فإنا إنما حاربنا بني أمية على عقوقهم ولم نحاربهم على أرحامهم، وقد دفت إليّ منهم دافّة «1» لم يشهروا سلاحا، ولم يكثروا جمعا، وقد أحسن الله إليك فأحسن. فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لهم أمانا ويأمر بإنفاذه إليّ فليفعل. فكتب لهم كتابا منشورا وأنفذه إلى سليمان بن علي، في كل من لجأ إليه من بني أمية، فكان يسميه أبو مسلم: كهف الأبّاق «2» . الرشيد وعبد الملك بن صالح: دخل عبد الملك بن صالح يوما على الرشيد، فلم يلبث في مجلسه أن التفت الرشيد فقال متمثّلا: أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد

الرشيد وعبد الملك بن صالح:

ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع «1» ، وعارضها قد لمع «2» ، وكأني بالوعيد قد وقع، فأقلع عن براجم «3» بلا معاصم، وجماجم بلا غلاصم «4» ، فمهلا مهلا؛ فبي والله يسهل لكم الوعر، ويصفو لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور مقاليد أزمّتها، فالتدارك التدارك قبل حلول داهية، خبوط باليد لبوط بالرّجل. قال عبد الملك: أفذّا «5» ما تكلمت أم توءما يا أمير المؤمنين؟ قال: بل فذّا. قال: اتق الله في ذي رحمك وفي رعيتّك التي استرعاك الله، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب؛ فقد محضت لك النصيحة وأديت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم «6» ، وتركت عدوّك سبيلا تتعاوره «7» الأقدام، فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته؛ إنّ الكتاب لنميمة واش وبغي باغ؛ ينهش اللحم، ويلغ «8» في الدم، فكم ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق فرّجته، وكنت كما قال الشاعر أخو بني كلاب: ومقام ضيّق فرّجته ... بلساني ومقامي وجدل لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل فرضي عنه ورحّب به، وقال وريت بك زنادي. الرشيد وعبد الملك بن صالح: والتفت الرشيد يوما إلى عبد الملك بن صالح فقال: أكفرا بالنعمة، وغدرا بالإمام؟

لعبد الملك بن صالح بعد خروجه من السجن:

قال: لقد بؤت إذا بأعباء الندم، وسعيت في استجلاب النّقم؛ وما ذلك يا أمير المؤمنين، إلا بغي باغ نافسني فيك بقديم الولاية، وحقّ القرابة، يا أمير المؤمنين، إنك خليفة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم في أمته، وأمينه على رعيته، لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة؛ ولها عليك التثبّت في حادثها، والعدل في حكمها. فقال له هارون: تضع لي من لسانك، وترفع عليّ من جنانك بحيث يحفظ الله لي عليك! هذا قمامة كاتبك يخبرني بفعلك. فقال عبد الملك: أحقا يا قمامة؟ قال: نعم لقد أردت ختل «1» أمير المؤمنين والغدر به. فقال عبد الملك: كيف لا يكذب عليّ من خلفي من بهتني «2» في وجهي؟ قال الرشيد: هذا ابنك شاهد عليك. قال: يا أمير المؤمنين، هو بين مأمور أو عاق؛ فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقّا فما أخاف من عقوقه أكثر. وقال له الرشيد يوما وكان معتلا عليه: أتبقّون بالرّقّة؟ قال: نعم، ونبرغث! قال: يا بن الفاعلة! ما حملك على أن سألتك عن مسألة فرددت عليّ في مسألتين؟ وأمر به إلى الحبس؛ فلم يزل في حبسه حتى أطلقه الأمين. لعبد الملك بن صالح بعد خروجه من السجن: إبراهيم بن السّندي قال: سمعت عبد الملك بن صالح يقول بعد إخراج المخلوع له من الحبس، وذكر الرشيد وفعله به، فقال: والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنّيته، ولا نصبت له ولا أردته، ولو أردته لكان إليّ أسرع من الماء إلى الحدور «3» ، ومن النار إلى يبس العرفج «4» ؛ وإني لمأخوذ بما لم أجن، ومسئول عما لم أعرف، ولكن حين رآني للملك قمينا «5» ، وللخلافة خطيرا، ورأى لي يدا تنالها إذا مدّت،

ابن مسلم حين بلغه غضب الخليفة على رجاء:

وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لخصالها، وتستحقها بفعالها- وإن كنت لم أجن تلك الخصال، ولم أصطنع تلك الفعال، ولم أترشّح لها في السر، ولا أشرت إليها في الجهر- ورآها تحنّ إليّ حنين الوالدة الوالهة، وتميل ميل الهلوك؛ وخاف أن ترغب إلى خير مرغب، وتنزع إلى أخصب منزع، عاقبني عقاب من سهر في طلبها، وجهد في التماسها، فإن كان إنما حسبني أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحطّ نفسي عنه؛ وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا أن أخرج له من حدّ العلم والحلم والحزم؛ فكما لا يستطيع المضياع أن يكون مصلحا، كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلا. وسواء عليه أعاقبني على علمي وحلمي، أم عاقبني على نسبي وسني، وسواء عليه عاقبني على جمالي أو عاقبني على محبة الناس لي. ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير. ابن مسلم حين بلغه غضب الخليفة على رجاء: إبراهيم بن السّندي قال: كنت أساير سعد بن سلم، حتى قيل له: إن أمير المؤمنين قد غضب على رجاء بن أبي الضحّاك وأمر بأخذ ماله، فارتاع بذلك وجزع، فقيل له: ما يروعك منه؟ فو الله ما جعل الله بينكما نسبا ولا سببا. فقال: بلى، النّعمة نسب بين أهلها، والطاعة سبب مؤكّد بين الأولياء. وبعث بعض الملوك إلى رجل وجد عليه: فقال لما مثل بين يديه: أيها الأمير، إن الغضب شيطان فاستعذ بالله منه؛ وإنما خلق العفو للمذنب، والتجاوز للمسيء، فلا تضق عما وسع الرعيّة من حلمك وعفوك. فعفا عنه وأطلق سبيله. ولما اتهم قتيبة بن مسلم أبا مجلز على بعض الأمر، قال: أصلح الله الأمير، وأستغفر الرب، أسأل العافية! قال: قد عفونا عنك. وأرسل بعض الملوك في رجل أراد عقوبته، فلما مثل بين يديه قال: أسألك بالذي

المأمون وهاشمي أذنب:

أنت بين يديه أذلّ مني بين يديك؛ وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر من برئى أحبّ إليه من سقمي، وبراءتي أحبّ إليه من جرمي. وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إن القدرة تذهب الحفيظة؛ وأنت تجلّ عن العقوبة ونحن مقرّون بالذنب؛ فإن تعف عنّي فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبني فأهل ذلك أنا. وأمر معاوية بن أبي سفيان بعقوبة روح بن زنباع، فقال له: أنشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تضع مني خسيسة أنت رفعتها، أو تنقض منّي مريرة أنت أبرمتها «1» ، أو تشمت بي عدوّا أنت وقمته «2» ، إلّا أتى حلمك وصفحك على خطئي وجهلي. فقال معاوية: خلّيا عنه، إذا أراد الله أمرا يسّره. وجد عبد الملك بن مروان على رجل فجفاه واطّرحه، ثم دعا به ليسأله عن شيء، فرآه شاحبا ناحلا؛ فقال له: مذ متى اعتللت؟ فقال: ما مسّني سقم ولكنّني ... جفوت نفسي إذ جفاني الأمير وآليت ألا أرضى عنها حتى يرضى عني أمير المؤمنين. فأعاده إلى نفسه. وقعد الحسن بن سهل لنعيم بن حازم، فأقبل إليه حافيا حاسرا وهو يقول: ذنبي أعظم من السماء، ذنبي أعظم من الأرض. فقال له الحسن: على رسلك أيها الرجل، لا بأس عليك، قد تقدمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وليس للذنب بينهما موضع، ولئن وجد موضعا فما ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو. المأمون وهاشمي أذنب: أذنب رجل من بني هاشم ذنبا إلى المأمون، فعاتبه فيه. فقال: يا أمير المؤمنين، من حمل مثل دالّتي، ولبس ثوب حرمتي، ومتّ «3» بمثل قرابتي، اغتفر له فوق زلّتي.

المنصور ويزيد ابن هبيرة:

قال: صدقت يا بن عمي. وصفح عنه. واعتذر رجل إلى المأمون من ذنب فقال له: إني وإن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن فضلك محيط بها. وكرمك موقوف عليها. أخذه صريع الغواني فقال: إن كان ذنبي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا. المنصور ويزيد ابن هبيرة: ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أبي جعف المنصور بعد ما كتب أمانه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ إمارتكم بكر ودولتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنّبوهم مرارتها، تخفّ على قلوبهم طاعتكم، وتسرع إلى أنفسهم محبّتكم، وما زلت مستبطئا لهذه الدعوة. فلما قام قال أبو جعفر: عجبا من كل من يأمر بقتل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدرا. المنصور بعد هزيمة عبد الله بن علي: الهيثم بن عدي قال: لما انهزم عبد الله بن علي من الشام، قدم على المنصور وفد منهم، فتكلموا عنده، ثم قام الحارث فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة، وإنما نحن وفد توبة، ابتلينا بفتنة استخفّت كريمنا، واستفزّت حليمنا، ونحن بما قدّمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون. فإن تعاقبنا فقد أجرمنا وإن تعف عنا فطالما أحسنت إلى من أساء منا. فقال المنصور للحرسيّ: هذا خطيبهم! وأمر بردّ ضياعه عليه بالغوطة. لتميم بن جميل بين يدي المعتصم: قال أحمد بن أبي دواد: ما رأينا رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله، إلا تميم بن جميل؛ فإنه كان تغلّب على شاطيء الفرات؛ وأوفى

به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه، دعا بالنّطع والسيف، فأحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليها ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره. فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فأدل بها. فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الالسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب، وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك، وأشبههما بخلائقك. ثم أنشأ يقول: أرى الموت بين السّيف والنطع كامنا ... يلاحظني من حيثما أتلفّت وأكبر ظنّي أنّك اليوم قاتلي ... وأيّ امريء ممّا قضى الله يفلت ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت «1» يعزّ على الأوس بن تغلب موقف ... يسلّ عليّ السيف فيه وأسكت وما جزعي من أن أموت وإنّني ... لأعلم أنّ الموت شيء موقّت ولكنّ خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الرّدى عنهم وإن متّ موّتوا فكم قائل لا يبعد الله روحه ... وآخر جذلان يسرّ ويشمت قال: فتبسم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب، فقد غفرت لك الصبوة «2» ، وتركتك للصبّية.

المهدي وأبو عبيد الله بعد قتل ابنه:

المهدي وأبو عبيد الله بعد قتل ابنه: وحكي أن أمير المؤمنين المهدي قال لأبي عبيد الله لما قتل ابنه: إنه لو كان في صالح خدمتك وما تعرّفناه من طاعتك، وفاء يجب به الصفح عن ولدك، ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك به إلى غيره؛ ولكنه نكص «1» على عقبيه وكفر بربّه. قال أبو عبيد الله: رضانا عن أنفسنا وسخطنا عليها موصول برضاك وسخطك، ونحن خدم نعمتك، تثيبنا على الإحسان فنشكر، وتعاقبنا على الإساءة فنصبر. المنصور وجعفر ابن محمد: أبو الحسن المدائني قال: لما حج المنصور مرّ بالمدينة، فقال للربيع الحاجب: عليّ بجعفر بن محمد، قتلني الله إن لم أقتله. فمطل «2» به، ثم ألحّ عليه فحضر، فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه، همس جعفر بشفتيه، ثم تقرّب وسلّم، فقال: لا سلّم الله عليك يا عدوّ الله، تعمل عليّ الغوائل في ملكي؟ قتلني الله إن لم أقتلك. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ سليمان صلّى الله على محمد وعليه، أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر؛ وأنت على إرث منهم، وأحقّ من تأسّى بهم. فنكس أبو جعفر رأسه مليا. وجعفر واقف، ثم رفع رأسه فقال: إليّ أبا عبد الله، فأنت القريب القرابة، وذو الرّحم الواشجة «3» السليم الناحية، القليل الغائلة «4» . ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله. ثم قال: يا ربيع، عجّل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه. قال الربيع: فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت بثوبه، فقال: ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا. فقلت: لا عليك! هذه منّي لا منه. فقال: هذه أيسر، سل حاجتك. فقلت له: إني منذ ثلاث أدفع عنك وأداري عليك، ورأيتك إذ دخلت همست

سليمان بن عبد الملك ويزيد بن راشد:

بشفتيك، ثم رأيت الأمر انجلى عنك، وأنا خادم سلطان ولا غنى لي عنه، فأحبّ منك أن تعلّمنيه. قال: نعم، قلت: «اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بحفظك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمتها عليّ قلّ لك عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بليّة ابتليت بها قللّ عندها صبري فلم تخذلني، بك أدرأ «1» في نحره، وأستعيذ بخيرك من شرّه، فإنك على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم» . سليمان بن عبد الملك ويزيد بن راشد: المدائني قال: لما قام يزيد بن راشد خطيبا، وكان فيمن دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك والبيعة لعبد العزيز بن الوليد. فنذر سليمان قطع لسانه. فلما أفضت الخلافة إليه، دخل عليه يزيد بن راشد، فجلس على طرف البساط مفكرا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، كن كنبيّ الله صلّى الله عليه وسلم: ابتلي فصبر، وأعطي فشكر، وقدر فغفر، قال: ومن أنت؟ قال: يزيد بن راشد. فعفا عنه. الرشيد ورجل حبسه: حبس الرشيد رجلا، فلما طال حبسه كتب إليه: إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي مثله، والأمد قريب والحكم لله، فأطلقه. أسد القسري ودهقان يعذب: ومر أسد بن عبد الله القسريّ وهو والي خراسان، بدار من دور الاستخراج، ودهقان «2» يعذّب في حبسه، وحول أسد مساكين يستجدونه. فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم. فقال الدهقان: يا أسد، إن كنت تعطي من يرحم فارحم من يظلم فإن السموات تنفرج لدعوة المظلوم. يا أسد، أحذر من ليس له ناصر إلا الله، واتق من

المأمون ورجل من خاصته:

لا جنّة «1» له إلا الابتهال إلى الله. إن الظلم مصرعه وخيم، فلا يغترّ بإبطاء الغياث من ناصر متى شاء أن يجيب أجاب، وقد أملى لقوم ليزدادوا إثما. فأمر أسد بالكفّ عنه. المأمون ورجل من خاصته: عتب المأمون على رجل من خاصّته، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قديم الحرمة، وحديث التّوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة. فقال: صدقت. ورضي عنه. ملك من ملوك فارس وصاحب مطبخه: وكان ملك من ملوك فارس عظيم المملكة شديد النّقمة، وكان له صاحب مطبخ، فلما قرّب إليه طعامه صاحب المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه، فزوى لها الملك وجهه؛ وعلم صاحب المطبخ أنه قاتله، فكفأ الصحفة على يديه. فقال الملك: عليّ به، فلما أتاه قال له: قد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك، فما عذرك في الثانية؟ قال: استحييت للملك أن يقتل مثلي في سني وقديم حرمتي في نقطة، فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلي، فقال له الملك: لئن كان لطف الاعتذار ينجيك من القتل ما هو بمنجيك من العقوبة، اجلدوه مائة جلدة وخلّوه. المأمون ومحمد بن عبد الملك: الشيباني قال: دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم، فقال: يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد الملك بين يديك، ربيب دولتك، وسليل نعمتك؛ وغصن من أغصان دوحتك؛ أتأذن في الكلام؟ قال: نعم قال: نستمنح الله حياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك؛ ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا. هذا مقام العائذ بفضلك، الهارب إلى كنفك وظلّك، الفقير إلى رحمتك وعدلك. ثم تكلم في حاجته، فقضاها.

عبيد بن أيوب والحجاج:

عبيد بن أيوب والحجاج: وقال عبيد بن أيوب، وكان يطلبه الحجاج لجناية جناها، فهرب منه وكتب إليه: أذقني طعم النوم أو سل حقيقة ... علي فإن قامت ففصّل بنانيا «1» خلعت فؤادي فاستطار فأصبحت ... ترامى به البيد القفار تراميا «2» ولم يقل أحد في هذا المعنى أحسن من قول النابغة الذبياني للنّعمان بن المنذر: أتاني أبيت اللّعن أنك لمتني ... وتلك التي تستكّ منها المسامع فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة ... من الرّقش من أنيابها السّمّ ناقع «3» أكلّفتني ذنب امريء وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع «4» فإنّك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع وقال فيه أيضا: ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذّب؟ «5» فإن أك مظلوما فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتب فمثلك يعتب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلّغت عنّي جناية ... لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب «6» فإنّك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب وقال ابن الطّثرية: فهنّي امرءا إمّا بريئا علمته ... وإما مسيئا تاب منه وأعتبا

لابن الزيات يستعطف المتوكل:

وكنت كذي داء تبغّى لدائه ... طبيبا فلمّا لم يجده تطبّبا وقال الممزّق العبدي لعمرو بن هند: تروح وتغدو ما يحلّ وضينها ... إليك ابن ماء المزن وابن محرّق «1» أحقا أبيت الّلعن إنّ ابن مزننا ... على غير إجرام بريقي مشرّقي فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ... ومهما تضع من باطل لا يلحّق وتمثل بهذه الأبيات عثمان بن عفان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار. لابن الزيات يستعطف المتوكل: وكتب محمد بن عبد الملك الزيات، لما أحسّ بالموت وهو في حبس المتوكل، برقعة إلى المتوكل، فيها: هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنّه ما تريك العين في النّوم لا تعجلن رويدا إنّما دول ... دنيا تنقّل من قوم إلى قوم إنّ المنايا وإنّ أصبحت ذا فرح ... تحوم حولك حوما أيّما حوم فلما وصلت إلى المتوكل وقرأها أمر بإطلاقه، فوجدوه ميتا. وقال عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة للمنصور، وقد أراد عقوبة رجل: يا أمير المؤمنين، إن الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضّل قد جاوز حدّ المنصف، ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضي لنفسه أوكس «2» النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجات. أبو مسلم وبعض قواده: جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وقائد من قواده يقال لهم شهرام، كلام، فقال

المأمون وأبو دلف وقد رضي عنه:

له قائده كلمة فيها بعض الغلظ، ثم ندم على ما كان منه، فجعل يتضرع ويتنصّل إليه. فقال له أبو مسلم: لا عليك، لسان سبق، ووهم أخطأ، إنما الغضب شيطان، وإنما جرّأتك عليّ لطول احتمالي عنك، فإن كنت للذنب متعمّدا ففقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوبا فإن العذر يسعك، وقد عفونا على كل حال. فقال: أصلح الله الأمير، إنّ عفو مثلك لا يكون غرورا. قال: أجل. قال: فإنّ عظم الذنب لا يدع قلبي يسكن. وألح في الاعتذار. فقال له أبو مسلم: عجبا لك! إنك أسأت فأحسنت، فلما أحسنت أسيء. المأمون وأبو دلف وقد رضي عنه: دخل أبو دلف على المأمون، وقد كان عتب عليه ثم أقاله، فقال له وقد خلا مجلسه؛ قل أبا دلف، وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين. ليالي تدني منك بالبشر مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر فمن لي بالعين التي كنت مرّة ... إليّ بها في سالف الدهر تنظر قال المأمون: لك بها رجوعك الى المناصحة، وإقبالك على الطاعة. ثم عاد له إلى ما كان عليه. بين المأمون وأبي دلف: وقال له المأمون يوما: أنت الذي تقول: إنّي امرؤ كسرويّ الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا ما أراك قدّمت لحقّ طاعة، ولا قضيت واجب حرمة! قال له يا أمير المؤمنين إنما هي نعمتك ونحن فيها خدمك، وما هراقة دمي في طاعتك إلا بعض ما يجب لك. ودخل أبو دلف على المأمون. فقال: أنت الذي يقول فيك ابن جبلة: إنّما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره

المنصور ومعن بن زائدة:

فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور، وكذب شاعر، وملق مستجد «1» ؛ ولكني الذي يقول فيه أبن أخيه: ذريني أجوب الأرض في طلب الغنى ... فما الكرخ بالدنيا ولا الناس قاسم الكرخ: منزل أبي دلف. وكان اسمه قاسم بن عبد الله. المنصور ومعن بن زائدة: وقال المنصور لمعن بن زائدة: ما أظنّ ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقا؟ قال: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: بلغني عنك أنك أعطيت شاعرا لبيت قاله ألف دينار. وأنشده البيت، وهو: معن بن زائدة الذي زيدت به ... فجرا إلى فجر بنو شيبان قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد أعطيته ألف دينار، ولكن على قوله: ما زلت يوم الهاشميّة معلما ... بالسيف دون خليفة الرحمن فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كلّ مهنّد وسنان قال: فاستحيا المنصور وجعل ينكت «2» بالمخصرة، ثم رفع رأسه وقال: اجلس أبا الوليد. عبد الملك وأعرابي سرق: أتي عبد الملك بن مروان بأعرابيّ سرق، فأمر بقطع يده، فأنشأ يقول: يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكانا يشينها ولا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها فأبى إلا قطعه؛ فقالت أمه: يا أمير المؤمنين، واحدي وكاسبي. قال: بئس

تذكير الملوك بذمام متقدم

الكاسب كان لك، وهذا حدّ من حدود الله. قالت: يا أمير المؤمنين، اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها! فعفا عنه. تذكير الملوك بذمام متقدم المأمون وابن أشرس: قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة: كان لي أملان: أمل لك وأمل بك، فأمّا أملي لك فقد بلغته، وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه. قال: يكون أفضل ما رجوت وأمّلت. فجعله من سمّاره وخاصّته. يزيد بن عبد الملك والأبرش: الأصمعي قال: لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك، خرّ أصحابه سجودا، إلا الأبرش الكلبي. فقال له: يا أبرش، ما منعك أن تسجد كما سجدوا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لأنك ذهبت عنا وتركتنا: قال: فإن ذهبت بك معي؟ قال: أو تفعل يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: فالآن طاب السجود، ثم سجد. أبو جعفر ورجل من إخوانه يهنئه بالخلافة: ولما صارت الخلافة إلى ابي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه: إنّا بطانتك الألى ... كنا نكابد ما تكابد ونرى فنعرف بالعدا ... وة والعباد لمن تباعد ونبيت من شفق علي ... ك ربيئة والليل هاجد «1» هذا أوان وفاء ما ... سبقت به منك المواعد

لحبيب:

لحبيب: فوقّع أبو جعفر على كل بيت منها: صدقت صدقت. ثم دعا به وألحقه في خاصته. وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى: وإنّ أولى الموالي أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في الموطن الخشن حسن التخلص من السلطان العباس بن سهل وعثمان بن حيان: أبو الحسن المدائني قال: كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير، فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان، ولّى عثمان بن حيّان المرّي وأمره بالغلظة على أهل الظنّة «1» . فعرض يوما بذكر الفتنة وأهلها، فقال له قائل: هذا العباس بن سهل على ما فيه، كان مع الزبير وعمل له. فقال عثمان بن حيّان: ويلي! والله لأقتلنّه. قال العبّاس: فبلغني ذلك، فتغيّبت حتى أضرّ بي التغيّب، فأتيت ناسا من جلسائه فقلت لهم: مالي أخاف وقد أمّنني عبد الملك بن مروان؟ فقالوا: والله ما يذكرك إلا تغيّظ عليك، وقلّما كلّم على طعامه في ذنب إلا انبسط، فلو تنكّرت وحضرت عشاءه وكلمته. قال: ففعلت، وقلت على طعامه، وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم: «والله لكأني أنظر إلى جفنة حيّان بن معبد، والناس يتكاوسون «2» عليها، وهو يطوف في حاشيته يتفقّد مصالحها، يسحب أردية الخزّ، حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه «3» ، ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة ما يستقلّون بها إلا بمشقّة وعناء، وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنّحون عنه، فيأتي الحاضر من أهله، والطاريء من أشراف

بين المختار وسراقة:

قومه، وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام، وما هو إلا الفخر بالدنوّ من مائدته والمشاركة ليده. قال: هيه! أنت رأيت ذلك؟ قلت: أجل والله. قال لي: من أنت؟ قلت: وأنا آمن؟ قال: نعم. قلت: العباس بن سهل بن سعد الأنصاري. قال: مرحبا وأهلا، أهل الشرف والحق. قال: فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده. فقيل له بعد ذلك: أنت رأيت حيّان بن معبد يسحب أردية الخز ويتكاوس الناس على مائدته؟ فقال: والله لقد رأيته ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانيّة، فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه. بين المختار وسراقة: أبو حاتم قال: حدثنا أبو عبيدة قال: أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيرا يوم جبّالة السّبيع، فقدّم في الأسرى إلى المختار؛ فقال سراقة: امنن عليّ اليوم يا خير معدّ ... وخير من لبّى وصلّى وسجد فعفا عنه المختار وخلّى سبيله. ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيرا. فقال له: ألم أعف عنك ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيرا. فقال له: ألم أعف عنك وأمن عليك؟ أما والله لأقتلنّك. قال: لا والله لا تفعل إن شاء الله. قال: ولم؟ قال: لأنّ أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجرا حجرا وأنا معك، ثم أنشده: ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا ... حملنا حملة كانت علينا خرجنا لا نرى الضّعفاء منّا ... وكان خروجنا بطرا وحينا «1» تراهم في مصفّهم قليلا ... وهم مثل الدّبى لما التقينا «2»

معن بن زائدة وبعض الأسرى:

فأسجح إذ قدرت فلو قدرنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا «1» تقبّل توبة منّي فإني ... سأشكر إن جعلت النّقد دينا قال: فخلىّ سبيله. ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة، فأخذ أسيرا وأتي به المختار، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدوّ الله. هذه ثالثة. فقال سراقة: أمّا والله ما هؤلاء الذين أخذوني! فأين هم ... لا أراهم؟ إنا لما التقينا رأينا قوما عليهم ثياب بيض، وتحتهم خيل بلق «2» تطير بين السماء والأرض. فقال المختار خلوا سبيله ليخبر الناس. ثم دعا لقتاله فقال: ألا من مبلغ المختار عنّي ... بأنّ البلق دهم مصمتات «3» أرى عينيّ ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالتّرّهات «4» كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتى الممات معن بن زائدة وبعض الأسرى: كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى، فقام إليه أصغر القوم فقال له: يا معن، أتقتل الأسرى عطاشا؟ فأمر لهم بالماء؛ فلما سقوا قال: يا معن: أتقتل ضيفانك؟ فأمر معن بإطلاقهم. عمر بن الخطاب والهرمزان: لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيرا، دعاه إلى الإسلام، فأبى عليه. فأمر

الحجاج وبعض من أسر مع ابن الأشعث:

بقتله، فلما عرض عليه السيف قال: لو أمرت لي يا أمير المؤمنين بشربة من ماء، فهو خير من قتلي على الظمأ. فأمر له بها؛ فلما صار الإناء بيده قال: أنا آمن حتى أشرب؟ قال: نعم. فألقى الإناء من يده وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج. قال: لك التوقّف حتى أنظر في أمرك، ارفعا عنه السيف. فلما رفع عنه قال: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله. فقال له عمر: ويحك! أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟ قال: خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال إن إسلامي إنما كان جزعا من الموت. فقال عمر: إن لفارس حلوما بها استحقّت ما كانت فيه من الملك. ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه. الحجاج وبعض من أسر مع ابن الأشعث: لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث، أمر بقتلهم؛ فقال رجل أصلح الله الأمير، إن لي حرمة. قال: وما هي؟ قال: ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك، فعرضت دونهما؛ فقلت: لا والله ما في نسبه مطعن، فقولوا فيه ودعوا نسبه. قال ومن يعلم ما ذكرت؟ [قال] فالتفتّ إلى أقرب الأسرى إليّ فقلت: هذا يعلمه. قال له الحجاج: ما تقول فيما يقول؟ قال: صدق- أصلح الله الأمير- وبرّ. قال: خليا عن هذا لنصرته، وعن هذا لحفظ شهادته. روح بن حاتم وبعض المتلصصين: عمرو بن بحر الجاحظ قال: أتي روح بن حاتم برجل كان متلصّصا في طريق الرّقاق، فأمر بقتله؛ فقال: أصلح الله الأمير، لي عندك يد بيضاء. قال: وما هي؟ قال: إنك جئت يوما إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل، فلم يتحفّز لك أحد فقمت من مكاني حتى جلست فيه، ولولا محض كرمك، وشرف قدرك. ونباهة أوّليّتك، ما ذكّرتك هذه عند مثل هذا. قال ابن حاتم: صدق، وأمر بإطلاقه وولاه تلك الناحية وضمّنه إياها.

معاوية وأسير من أهل العراق:

ولما ظفر المأمون بأبي دلف، وكان يقطع في الجبال، أمر بضرب عنقه؛ فقال: يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين. قال: افعل. فركع وحبّر أبياتا، ثم وقف بين يديه فقال: بع بي النّاس فإنّي ... خلف ممّن تبيع واتّخذني لك درعا ... قلصت عنه الدّرّوع «1» وارم بي كلّ عدوّ ... فأنا السّهم السّريع فأطلقه وولّاه تلك الناحية، فأصلحها. معاوية وأسير من أهل العراق: أتي معاوية يوم صفّين بأسير من أهل العراق، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك! قال: لا تقل ذلك يا معاوية، فإنها مصيبة! قال: وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام! فقال الأسير: اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا لأنك ترضى بقتلي: وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا؛ فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله. قال له: ويحك! لقد سببت فأبلغت، ودعوت فأحسنت؛ خلّيا عنه. مصعب بن الزبير ورجل من أصحاب المختار: أمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن تضرب عنقه، فقال أيها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطرافك وأقول: أي ربّ، سل هذا فيم قتلني؟ قال: أطلقوه. قال: اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض. قال: أعطوه مائة ألف. قال

عبد الملك ورجل أمر بقتله:

الأسير: بأبي أنت وأمي، أشهد أن لقيس الرّقيات منها خمسين ألفا. قال: ولم؟ قال: لقوله فيك: إنّما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظّلماء ملكه ملك رحمة ليس فيه ... جبروت يخشى ولا كبرياء يتّقي الله في الأمور وقد أف ... صلح من همه الاتّقاء فضحك مصعب وقال: أرى فيك موضعا للصنيعة. وأمر بلزومه وأحسن إليه؛ فلم يزل معه حتى قتل. عبد الملك ورجل أمر بقتله: أمر عبد الملك بقتل رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أعزّ ما تكون أحوج ما تكون إلى الله. فعفا عنه. الحجاج وأسرى من الخوارج: أتي الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم فقدم فيهم شاب فقال: والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو. فقال: أفّ لهذه الجيف. ما كان فيهم من يقول مثل هذا؟ وأمسك عن القتل. وأتي الحجاج بأسرى، فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السّنّة خيرا؛ فإن الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «1» . فهذا قول الله في كتابه. وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق؟ وأمسك عمن بقي.

الحجاج وحرورية:

الحجاج وحرورية: الهيثم بن عدي قال: أتي الحجاج بحروريّة، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه؟ قالوا: اقتلها. أصلح الله الأمير، ونكّل بها غيرها! فتبسّمت الحرورية. فقال لها: لم تبسّمت؟ فقالت: لقد كان وزراء أخيك فرعون خير من وزرائك يا حجاج: استشارهم في قتل موسى فقالوا: أرجه وأخاه، وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي، فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها. قال معاوية ليونس الثقفي: اتق الله؛ لأطيرنّك طيرة بطيئا وقوعها، قال: أليس بي وبك المرجع إلى الله؟ قال: نعم. قال: فأستغفر الله. ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيريا، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردّك على عقبيك؟ قال: ومن ردّ إليك يا أمير المؤمنين فقد ردّ على عقبيه، فسكت عبد الملك وعلم أنه أخطأ. دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك؛ فقال له سليمان: على امريء أمّرك وجرّأك وسلّطك على الأمة لعنة الله، أتظن الحجاج استقرّ في قعر جهنم أم هو يهوي فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النار حيث شئت. قال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد: ما تقول فيّ وفي الحسين؟ قال: أعفني عافاك الله. قال: لا بدّ أن تقول. قال: يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له، ويجيء أبوك فيشفع لك. قال: قد علمت غشّك وخبثك، لئن فارقتني يوما لأضعنّ أكثرك شعرا بالأرض. الحجاج وابن يعمر في الحسين: الأصمعي قال: بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول إنّ

الحجاج وابن أبي ليلى:

الحسين بن علي ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن رسول الله؟ لتأتينّي بالمخرج مما قلت أو لأضربنّ عنقك! فقال له ابن يعمر: وإن جئت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال: اقرأ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى «1» فمن أبعد «2» : عيسى من إبراهيم، أو الحسين من محمد صلّى الله عليه وسلم؟ وإنما هو ابن بنته، فقال له الحجاج: والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلده، فلم يزل بها قاضيا حتى مات. الحجاج وابن أبي ليلى: أبو بكر ابن شيبة بإسناده قال: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال لجلسائه: إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسبّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان فهذا عندكم، يعني عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسبّ أمير المؤمنين، إنه ليحجزني عن ذلك ثلاث آيات في كتاب الله: قال الله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «3» فكان عثمان منهم. ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «4» فكان أبي منهم. ثم قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «5» فكنت أنا منهم. فقال: صدقت.

الحجاج وعاصم بن أبي وائل:

الحجاج وعاصم بن أبي وائل: أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال: بعث إليّ الحجاج فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل إليّ الأمير حتى عرف اسمي! قال: متى هبطت هذا البلد؟ قلت: حين هبط أهله. قال: ما تقرأ من القرآن؟ قلت: أقرأ منه ما إذا تبعته كفاني. قال: إني أريد أن أستعين بك في عملي. قلت: إن تستعين بي تستعن بكبير أخرق «1» ، ضعيف يخاف أعوان السوء؛ وإن تدعني فهو أحبّ إليّ، وإن تقحمني أتقحّم. قال: إن لم أجد غيرك أقحمتك، وإن وجدت غيرك لم أقحمك. قلت؛ وأخرى أكرم الله الأمير: إني ما علمت الناس هابوا أميرا قط هيبتهم لك والله إني لأتعارّ «2» من الليل فما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح؛ هذا ولست لك على عمل. قال: هيه! كيف قلت؟ فأعدت عليه؛ فقال: إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقا هو أجرأ على دم مني، انصرف. قال: فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر؛ فقال: أرشدوا الشيخ. الحجاج وأسرى الجماجم: لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم، أتي فيهم بعامر الشّعبي، ومطرّف بن عبد الله الشّخّير وسعيد بن جبير، وكان الشعبي ومطرّف يريان التّقيّة، وكان سعيد بن جبير لا يراها، وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم، أن يعرضهم على السيف. فمن أقرّ منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلّي سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه. فقال الحجاج للشعبي: وأنت ممن ألّب علينا مع ابن الأشعث؟ اشهد على نفسك بالكفر. فقال: أصلح الله الأمير، نبا «3» بنا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا «4» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال: لله أبوك! لقد صدقت: ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلّوا سبيل الشيخ.

سليمان بن عبد الملك وابن الرقاع:

ثم قال للمطرّف: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين لجدير بالكفر. فخلّى سبيله. ثم قال لسعيد بن جبير: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت منذ آمنت بالله. فضرب عنقه. ثم استعرض الأسرى، فمن أقرّ بالكفر خلّى سبيله، ومن أبى قتله، حتى أتي بشيخ وشاب، فقال للشاب: أكافر أنت؟ قال: نعم، قال: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر. فقال له الشيخ: أعن نفسي تخادعني يا حجاج؟ والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته. فضحك الحجاج وخلّى سبيله. فلما مات الحجاج وقام سليمان، قال الفرزدق: لئن نفّر الحجّاج آل معتّب ... لقوا دولة كان العدوّ يدالها لقد أصبح الأحياء منهم أذلة ... وموتاهم في النّار كلحا سبالها «1» وكانوا يرون الدائرات بغيرهم ... فصار عليهم بالعذاب انفتالها ألكني إلى من كان بالصّين أو رمى ... به الهند ألواح عليها جلالها «2» هلمّ إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقدمات عن أهل العراق خبالها «3» سليمان بن عبد الملك وابن الرقاع: لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن: اجمع يدي عديّ بن الرقاع إلى عنقه، وابعث به إليّ على قتب بلا وطاء، ووكّل به من ينخس به ففعل ذلك. فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقى بين يده إلقاء لا روح فيه، فتركه حتى ارتدّ إليه روحه، ثم قال له: أنت أهل لما نزل بك. ألست القائل في الوليد:

شريك والربيع بين يدي المهدي:

معاذ ربّي أن نبقى ونفقده ... وأن نكون لراع بعده تبعا قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هكذا قلت، وإنما قلت: معاذ ربّي أن نبقى ونفقدهم ... وأن نكون لراع بعدهم تبعا فنظر إليه سليمان واستضحك، فأمر له بصلة وخلّى سبيله. شريك والربيع بين يدي المهدي: العتبي قال: كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي، معارضة؛ فكان الربيع يحمل عليه المهديّ فلا يلتفت إليه، حتى رأى المهديّ في منامه شريكا القاضي مصروفا وجهه عنه، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقصّ عليه رؤياه. فقال: يا أمير المؤمنين، إن شريكا مخالف لك وإنه فاطميّ محض. قال المهدي: عليّ به؛ فلما دخل عليه قال له: يا شريك، بلغني أنك فاطميّ. قال له شريك: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي، إلا أن تعني فاطمة بنت كسري. قال: ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وسلم. قال: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال: معاذ الله! قال: فماذا تقول فيمن يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله. قال: فالعن هذا- يعني الربيع- فإنه يلعنها، فعليه لعنة الله. قال الربيع: لا والله يا أمير المؤمنين، ما ألعنها. قال له شريك: يا ماجن، فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيّد المرسلين في مجالس الرجال؟ قال المهدي: دعني من هذا، فإني رأيتك في منامي كأنّ وجهك مصروف عنّي وقفاك إليّ، وما ذلك إلا بخلافك عليّ، ورأيت في منامني كأني أقتل زنديقا. قال شريك: إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصّدّيق صلوات الله على محمد وعليه، وإن الدماء لا تستحل بالأحلام، وإنّ علامة الزندقة بيّنة. قال: وما هي؟ قال: شرب الخمر، والرّشا في الحكم، ومهر البغيّ. قال: صدقت والله أبا عبد الله! أنت والله خير من الذي حملني عليك. ودخل شريك القاضي على المهديّ، فقال له الربيع: خنت مال الله ومال أمير المؤمنين. قال: لو كان ذلك لأتاك سهمك.

الحجاج وجامع المحاربي:

الحجاج وجامع المحاربي: العتبي قال: دخل جامع المحاربي على الحجاج- وكان جامع شيخا صالحا خطيبا لبيبا جريئا على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك- فجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم. فقال له جامع: أما إنه لو أحبّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نفسك؛ فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: ما أرى أن أردّ بني الّلكيعة «1» إلى طاعتي إلا بالسيف. قال: أيها الأمير، إنّ السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار. قال الحجاج: الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله. فغضب وقال: يا هناه «2» ، إنك من محارب. فقال جامع: وللحرب سمّينا وكنّا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا فقال الحجاج: والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك. قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله. قال: أجل، وسكن. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع، فمرّ بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق، فأبصر كبكبة «3» فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق. وتميم العراق، وأزد العراق؛ فلما رأوه اشرأبّوا «4» إليه وقالوا له: ما عندك دفع الله عنك؟ قال: ويحكم! عمّوه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التعادي ما عاداكم؛ فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم. أيها التميمي، هو أعدي لك من الأزديّ، أيها القيسيّ هو أعدى لك من التّغلبيّ. وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم. وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، واستجار بزفر بن الحارث فأجاره.

الرشيد ومسلم بن الوليد وابن أبي شيخ:

الرشيد ومسلم بن الوليد وابن أبي شيخ: العتبي قال كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم. وكان مسلم بن الوليد، صريع الغواني، قد رمي عنده بالتّشيّع، فأمر بطلبه، فهرب منه، ثم أمر بطلب أنس بن شيخ كاتب البرامكة فهرب منه، ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد فلما أتي بهما قيل له: يا أمير المؤمنين، قد أتي بالرجلين. قال: أيّ الرجلين؟ قيل: أنس بن أبي شيخ، ومسلم بن الوليد. فقال: الحمد لله الذي أظفرني بهما! يا غلام. أحضرهما. فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم وقد تغيّر لونه؛ فرقّ له وقال: إيه يا مسلم، أنت القائل: أنس الهوى ببني عليّ والحشا ... وأراه يطمح عن بني العباس قال: بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين: أنس الهوى ببني العمومة في الحشا ... مستوحشا من سائر الإيناس وإذا تكاملت الفضائل كنتم ... أولى بذلك يا بني العباس قال: فعجب هارون من سرعة بديهته، وقال له بعض جلسائه: استبقه يا أمير المؤمنين فإنه من أشعر الناس، وامتحنه فسترى منه عجبا. فقال له: قل شيئا في أنس. فقال: يا أمير المؤمنين، أفرخ روعي «1» ، أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك، فإني لم أدخل على خليفة قط. ثم أنشأ يقول: تلمّظ السيف من شوق إلى أنس ... فالموت يلحظ والأقدار تنتظر «2» فليس يبلغ منه ما يؤمّله ... حتى يؤامر فيه رأيك القدر أمضى من الموت يعفو عند قدرته ... وليس للموت عفو حين يقتدر قال: فأجلسه هارون وراء ظهره، لئلا يرى ما همّ به، حتى إذا فرغ من قتل أنس قال له: أنشدني أشعر شعر لك. فكلما فرغ من قصيدة قال له زد؛ حتى قال له

بين كسري ويوشت بعد مقتل الفلهذ:

أنشدني التي تقول فيها «الوحل» فإني رويتها وأنا صغير. فأنشده شعره الذي أوله: أديرا عليّ الرّاح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي «1» حتى انهى إلى قوله: إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشّت به مشي المقيّد في الوحل فضحك هارون وقال: ويحك يا مسلم! أما رضيت أن قيدته حتى يمشي في الوحل! ثم أمر له بجائزة وخلّى سبيله. بين كسري ويوشت بعد مقتل الفلهذ: قال كسري ليوشت المغني- وقد قتل الفلهذ تلميذه-: كنت أستريح منك إليه ومنه إليك، فأذهب حسدك ونغل «2» صدرك شطر تمتّعي، وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة. فقال: أيها الملك، إذا كنت أنا قد أذهبت شطر تمتّعك وأذهبت أنت الشطر الآخر، أليس جنايتك على نفسك مثل جنايتي عليك؟ قال كسري: دعوه؛ فما دلّه على هذا الكلام إلا ما جعل له من طول المدة. الرشيد ويعقوب ابن صالح: يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: دخلت يوما على الرشيد أمير المؤمنين وهو متغيّظ متّربّد «3» ، فندمت على دخولي عليه، وقد كنت أفهم غضبه في وجهه، فسلّمت فلم يردّ؛ فقلت: داهية نآد «4» . ثم أومأ إليّ فجلست. فالتفت إليّ وقال: لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فلقد نطق بالحكمة حيث يقول: يا أيّها الزّاجري عن شيمتي سفها ... عمدا عصيت مقام الزاجر النّاهي

توسط مسلمة بين هشام والكميت:

أقصر فإنك من قوم أرومتهم ... في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي يزين الشّعر أفواها إذا نطقت ... بالشّعر يوما وقد يزري بأفواه قد يرزق المرء لا من فضل حيلته ... ويصرف الرّزق عن ذي الحيلة الدّاهي لقد عجبت لقوم لا أصول لهم ... أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباه ما نالني من غنى يوما ولا عدم ... إلّا وقولي عليه «الحمد لله» فقلت: يا أمير المؤمنين، ومن ذا الذي بلغت عليه المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه؟ قال: لعله من بني أبيك وأمك. توسط مسلمة بين هشام والكميت: كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرّض ببني أمية، فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة، لا يستقرّ به القرار من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام حاجة في كلّ يوم يقضيها له ولا يردّه فيها. فلما خرج مسلمة بن عبد الملك يوما إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلّمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أما بعد: قف بالدّيار وقوف زائر ... وتأنّ إنّك غير صاغر حتى انتهى إلى قوله: يا مسلم بن أبي الولي ... د لميّت إن شئت ناشر «1» علقت حبالي من حبا ... لك ذمّة الجار المجاور فالآن صرت إلى أمّي ... ة والأمور إلى المصاير والآن كنت به المصي ... ب كمهتد بالأمس حائر فقال مسلمة: سبحان الله! من هذا الهندكيّ الجلحاب «2» ، الذي أقبل من

أخريات الناس فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت ابن زيد. فأعجب به لفصاحته وبلاغته. فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول عيبته. فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه؛ فضمن له مسلمة أمانه، وتوجه به حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه. فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الحمد لله- قال هشام: نعم، الحمد لله، يا هذا- قال الكميت: مبتديء الحمد ومبتدعه، الذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته؛ أحمده حمد من علم يقينا، وأبصر مستبينا؛ وأشهد له بما شهد به لنفسه قائما بالقسط، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده العربيّ، ورسوله الأميّ، أرسله والناس في هبوات «1» حيرة، ومدلهمّات ظلمة، عند استمرار أبهة الضلال، فبلّغ عن الله ما أمر به، ونصح لامته، وجاهد في سبيله، وعبد ربّه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم. «ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة، وحرت في سكرة، ادلأمّ «2» بي خطرها، وأهاب بي داعيها، وأجابني غاويها؛ فاقطوطيت «3» إلى الضلالة، وتسكّعت في الظّلمة والجهالة، حائرا عن الحق، قائلا بغير صدق. فهذا مقام العائذ، ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد قول العمى، ثم يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقلتم عثرته، ومجترم عفوتم عن جرمه. فقال له هشام وأيقن أنه الكميت: ويحك! من سنّ لك الغواية وأهاب بك في العماية؟ قال: «الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزما. وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحابا متفرّقا، فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم، وهدر

خلاص ابن هبيرة من خالد القسري:

رعده، وتلألأ برقه؛ فنزل الأرض فرويت واخضلّت واخضرت وأسقيت، فروي ظمآتها، وامتلأ عطشانها. فكذلك نعدّك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس «1» فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب، إذا احمرّت الحدق، وعضّت المغافر بالهام «2» . عزّ بأسك، واستربط جأشك، مسعار هتّاف، وكافّ بصير بالأعداء، مغري الخيل بالنّكراء، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب، وحلم مصيب. فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء، وتمّم عليه النعماء. ودفع به الأعداء. فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة. خلاص ابن هبيرة من خالد القسري: العتبي قال: لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق، أتي به مغلولا مقيّدا في مدرعة. فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض، فقال: أيها الأمير، إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها على من قبلك، فأنشدك الله أن تستنّ فيّ بسنّة يستنّ بها فيك من بعدك، فأمر به إلى الحبس. فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سردابا حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلا وقد أعدّت له أفراس يداولها، حتى، أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه مسلمة من هشام بن عبد الملك، فوهبه إياه. فلما قدم خالد بن عبد الله القسريّ على هشام، وجد عنده ابن هبيرة، فقال له: إباق العبد أبقت «3» . قال له: حين نمت نومة الأمة. فقلل الفرزدق في ذلك: لمّا رأيت الأرض قد سدّ ظهرها ... فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا

لخصي مسلمة عن خلاص ابن هبيرة:

دعوت الّذي ناداه يونس بعدما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة ... وما سار سار مثلها حين أدلجا «1» خرجت ولم تمنن عليك شفاعة ... سوى حثّك التّقريب من آل أعجوجا ودخل الناس على ابن هبيرة بعد ما أمّنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه، فقال متمثلا: من يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما ثم قال لهم: ما كان قولكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي؟ ومثل هذا قول القطامي: والنّاس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي ولأمّ المخطيء الهبل «2» لخصي مسلمة عن خلاص ابن هبيرة: عبد الله بن سوّار قال: قال لي الربيع الحاجب: أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة؟ قلت: نعم. قال: فأرسل لخصيّ كان لمسلمة يقوم على وضوئه فجاءه. فقال: حدّثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة. قال: كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضّأ ويتنفّل حتى يصبح، فدخل على أمير المؤمنين؛ فإني لأصبّ الماء على يديه من آخر الليل وهو يتوضأ؛ إذ صاح صائح من وراء الرّواق: أنا بالله وبالأمير. فقال مسلمة: صوت ابن هبيرة! اخرج إليه. فخرجت إليه ورجعت فأخبرته. فقال: أدخله. فدخل فإذا رجل يميد نعاسا، فقال: أنا بالله وبالأمير. قال: أنا بالله وأنت بالله. ثم قال: أنا بالله وبالأمير. قال: أنا بالله وأنت بالله. حتى قالها ثلاثا ثم قال: أنا بالله. فسكت عنه ثم قال لي: انطلق به فوضّئه وليصلّ، ثم اعرض عليه أحبّ الطعام إليه فأته به، وافرش له في تلك الصّفّة- لصفّة بين يدي بيوت النساء- ولا توقظه حتى يقوم متى قام. فانطلقت به فتوضأ وصلّى، وعرضت عليه الطعام فقال: شربة

فضيلة العفو الترغيب

سويق «1» ، فشرب. وفرشت له فنام. وجئت إلى مسلمة فأعلمته. فغدا إلى هشام فجلس عنده، حتى إذا حان قيامه قال: يا أمير المؤمنين، لي حاجة. قال: قضيت، إلا أن تكون في ابن هبيرة. قال: رضيت يا أمير المؤمنين. ثم قام منصرفا؛ حتى إذا كاد أن يخرج من الإيوان. رجع فقال: يا أمير المؤمنين ما عوّدتني أن تستثني في حاجة من حوائجي؛ وإني أكره أن يتحدّث الناس أنك أحدثت عليّ الاستثناء. قال: لا أستثني عليك. قال: فهو ابن هبيرة فعفا عنه. فضيلة العفو الترغيب المأمون وصاحب وضوئه: كان للمأمون خادم، وهو صاحب وضوئه. فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده، فاغتاظ المأمون عليه. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «2» . قال: قد كظمت غيظي عنك. قال: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ «3» . قال: قد عفوت عنك. قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «4» . قال: اذهب فأنت حر. ابن حيوة وعمر ابن عبد العزيز في رجل عوقب: أمر عمر بن عبد العزيز بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة يا أمير المؤمنين، إن الله قد فعل ما تحبّ من الظّفر؛ فافعل ما يحبّه من العفو. عبد الله بن علي وعبد الله بن حسن في قتل بني أمية: الأصمعي قال: عزم عبد الله بن عليّ على قتل بني أمية بالحجاز. فقال له عبد الله ابن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم: إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك؟ فاعف يعف الله عنك.

ابن خريم والمهدي:

ابن خريم والمهدي: دخل ابن خريم على المهدي، وقد عتب على بعض أهل الشام وأراد أن يغزيهم جيشا، فقال يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو عن الذنب، والتجاوز عن المسيء، فلأن تطيعك العرب طاعة محبّة، خير لك من أن تطيعك طاعة خوف. المهدي وابن السّماك في رجل أمر بضرب عنقه: أمر المهدي بضرب عنق رجل، فقام إليه ابن السماك فقال: إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق. قال: فما يجب عليه؟ قال: تعفو عنه، فإن كان من أجر كان لك دوني، وإن كان من وزر كان عليّ دونك. فخلّى سبيله. الشعبي وابن هبيرة في محبوسين: كلّم الشعبيّ ابن هبيرة في قوم حبسهم فقال: إن كنت حبستهم بباطل فالحقّ يطلقهم، وإن كنت حبستهم بحقّ فالعفو يسعهم. أبو سفيان وحيّان من قريش بينهما دماء: العتبي قال: وقعت دماء بين حيّين من قريش، فأقبل أبو سفيان؛ فما بقي أحد واضع رأيه إلا رفعه. فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟ قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟ قال: نعم، العفو. فتهادن القوم واصطلحوا. وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب: ما ظلم أحد ظلمك، ولا نصر نصرك؛ فهل لك في الثالثة نقلها؟ قال: وما هي؟ قال: ولا عفا عفوك.

أبو جعفر وابن فضالة في رجل معاقب:

أبو جعفر وابن فضالة في رجل معاقب: وقال المبارك بن فضالة: كنت عند أبي جعفر جالسا في السّماط، إذ أمر برجل أن يقتل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة مناد بين يدي الله: ألا من كانت له عند الله يد فليتقدّم فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب. فأمر بإطلاقه. وقال الأحنف بن قيس: أحقّ الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب. وتقول العرب في أمثالها: ملكت فأسجح. وارحم ترحم. وكما تدين تدان. ومن بر يوما برّ به. بعد الهمة وشرف النفس دخل نافع بن جبير بن مطعم على الوليد، وعليه كساء غليظ، وخفّان جاسيان «1» ، فسلّم وجلس، فلم يعرفه الوليد؛ فقال لخادم بين يديه: سلّ هذا الشيخ من هو. فسأله، فقال له: اعزب «2» . فعاد إلى الوليد فأخبره. فقال: عد إليه واسأله، فعاد اليه، فقال له مثل ذلك. فضحك الوليد وقال له: من أنت؟ قال: نافع بن جبير ابن مطعم. وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله: ألا أوصي بك الأمير زيادا؟ قال: يا أبت، إذا لم يكن للحيّ إلا وصية المّيت فالحيّ هو الميّت. وقال معاوية لعمرو بن سعيد: الى من أوصي بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إليّ ولم يوص بي! قال وبم أوصى إليك؟ قال: ألّا يفقد إخوانه منه إلا وجهه. وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما في كنانني سهم أنا به أوثق مني بك. قال: وإني لفي كنانتك: أما والله لئن كنت فيها قائما لأطولنّها ولئن كنت فيها قاعدا لأخرقنّها. قال: كثّر الله مثلك في العشيرة. قال: لقد سألت الله شططا.

من همة ابن علفة:

وقال يزيد بن المهلّب: ما رأيت أشرف نفسا من الفرزدق، هجاني ملكا ومدحني سوقة. وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتّاب بن ورقاء الرّياحي وهو والي خراسان، فأعطاه عشرين ألفا؛ فقال له: والله ما أحسنت فأحمدك، ولا أسأت فألومك؛ وإنك لأقرب البعداء، وأحبّ البغضاء. وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل: والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان، إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخرّ لله ساجدا ألّا أكون قد ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد. من همة ابن علفة: ومن أشرف الناس همة عقيل بن علّفة المرّيّ؛ وكان أعرابيا يسكن البادية وكان يصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له جنّبني هجناء «1» ولدك. عمر بن عبد العزيز وعقيل بن علفة: وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة. قبح الله شبها غلب عليك من بني مرة. فبلغ ذلك عقيل بن علّفة، فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام: بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة، فقلت: قبح الله شبها غلب عليك من بني مرة! وأنا أقول: قبح الله ألأم الطّرفين، ثم انصرف. فقال عمر بن عبد العزيز: من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف؟ فقال له رجل من بني مرة: والله يا أمير المؤمنين ما شتمك، وما شتم إلا نفسه، نحن والله ألأم الطرفين.

من غيرة عقيل:

من غيرة عقيل: أبو حاتم السّجستاني عن محمد بن العتبي بن عبد الله، قال: سمعت أبي يحدّث عن أبي عمرو المرّي، قال: بنو عقيل بن علّفة بن مرة بن غطفان يتنقّلون وينتجعون الغيث فسمع عقيل بن علّفة بنتا له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها! فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول: فرقت إنّي رجل فروق ... لضحكة آخرها شهيق وقال عقيل: إني وإن سيق إليّ المهر ... ألف وعبدان وذود عشر «1» أحبّ أصهاري إليّ القبر وقال الأصمعي: كان عقيل بن علّفة المريّ رجلا غيورا؛ وكان يصهر إليه الخلفاء، وإذا خرج يمتار «2» خرج بابنته الجرباء معه، قال: فنزلوا ديرا من ديرة الشام، يقال له دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل: قضت وطرا من دير سعد وطالما ... على عرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابنه: يا عملس أجز. فقال: فأصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم «3» ثم قال لابنته: يا جرباء أجيزي. فقالت: كأنّ الكرى أسقاهم صرخدية ... عقارا تمشّى في المطا والقوائم «4» قال: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ فأخذ السيف وهوى نحوها؛ فاستعانت بأخيها عملس، فحال بينه وبينها، قال: فأراد أن يضربه، قال: فرماه [عملس]

الأوس والخزرج:

بسهم فاختلّ «1» فخذيه فبرك، ومضوا وتركوه، حتى إذا بلغوا أدنى ماء للأعراب، قالوا لهم: إنا أسقطنا جزورا فأدركوها وخذوا معكم الماء. ففعلوا، فإذا عقيل بارك وهو يقول: إنّ بنّي زمّلوني بالدّم ... شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم والشنشنة الطبيعة. وأخزم فحل معروف. وهذا مثل للعرب. الأوس والخزرج: ومن أعزّ الناس نفسا وأشرفهم همما: الأنصار، وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة، لم يؤدّوا إتاوة قطّ في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبّع يدعوهم إلى طاعته ويتوعّدهم إن لم يفعلوا؛ فكتبوا إليه: العبد تبّع كم يروم قتالنا ... ومكانه بالمنزل المتذلّل إنّا أناس لا ينام بأرضنا ... عض الرسول ببظر أمّ المرسل فغزاهم تبّع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهارا ويخرجون إليه القرى ليلا، فتذمّم من قتالهم ورحل عنهم. ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت؟ وتجهّم له كأنه لا يعرفه. فقال له الفرزدق: وما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، وأسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب. قال: والله لتبيننّ ما قلت أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك. قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها، وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول

بردا محرق وعامر بن أحيمر:

الله صلّى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وقال: هذا سيّد الوبر. وأما أحلم العرب فعتّاب بن ورقاء الرّياحي. وأما أفرس العرب فالحريش بن هلال السّعديّ، وأما أشعر العرب فهأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين. فاغتّم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره، وقال ارجع على عقبيك، فما لك عندنا شيء من خير. فرجع الفرزدق وقال: أتيناك لا من حاجة عرضت لنا ... إليك، ولا من قلّة في مجاشع وقال الفرزدق في الفخر: بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقا حواشيها رقاقا نعالها «1» يجرّون هدّاب اليمان كأنّهم ... سيوف جلا الأطباعّ عنها صقالها «2» وقال الأحوص في الفخر؛ وهو أفخر بيت قالته العرب: ما من مصيبة نكبة أرمى بها ... إلا تشرّفني وترفع شاني وإذا سألت عن الكرام وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكلّ مكان بردا محرق وعامر بن أحيمر: وقال أبو عبيدة: اجتمعت وفود العرب عند النّعمان بن المنذر، فأخرج إليهم بردى محرق. وقال: ليقم أعزّ العرب قبيلة فليلبسهما. فقام عامر بن أحيمر السّعدي فأتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ فقال له النعمان: بم أنت أعزّ العرب؟ فقال: العز والعدد من العرب في معدّ، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة؛ فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني. فسكت الناس. ثم قال النعمان: هذه حالك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ قال: أنا أبو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة؛ وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وضع

بيت سعد مناة وشعر أوس فيهم:

قدمه في الأرض ثم قال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد. فذهب بالبردين. ففيه يقول الفرزدق: فما ثمّ في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما سيل لم يتبهدل لهم وهب النّعمان بردي محرّق ... بمجد معدّ والعديد المحصّل بيت سعد مناة وشعر أوس فيهم: وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة، كانت الإفاضة في الجاهلية. ومنهم بنو صفوان الذين يقول فيهم أوس بن مغراء السّعديّ: ولا يريمون في التّعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا ما تطلع الشمس إلّا عند أوّلنا ... ولا تغيّب إلّا عند أخرانا وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا لهنيدة في الفخر: وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول: من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحلّ لها أن تضع خمارها عندهم، فصرمتي «1» لها: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزّبرقان بن بدر! فسمّيت ذات الخمار. وممن شرفت نفسه وبعدت همته، طاهر بن الحسين الخراساني، وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة، وخاف المأمون أن يغدر به، امتنع عليه بخراسان ولم يظهر خلعه. وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمدا، لأنه كان مولى خزاعة، ويقال إنه خزاعي:

أيسومني المأمون خطّة عاجز ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد! يوفي على رأس الخلائق مثل ما ... توفي الجبال على رءوس الفدفد «1» إنّي من القوم الذين هم هم ... قتلوا أخاك وشرّفوك بمقعد رفعوا محلّك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد «2» وقال طاهر بن الحسين: غضبت على الدّنيا فأنهبت ما حوت ... وأعتبتها منّي بإحدى المتالف «3» قتلت أمير المؤمنين وإنّما ... بقيت عناء بعده للخلائف وأصبحت في دار مقيما كما ترى ... كأنّي فيها من ملوك الطوائف وقد بقيت في أمّ رأسي فتكة ... فإمّا لرشد أو لرأي مخالف فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة: عتبت على الدّنيا فلا كنت راضيا ... فلا أعتبت إلّا بإحدى المتالف فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر ... إذا أنت منّا لم تعلّق بكانف «4» فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا ... كثول تهادى الموت عند التزاحف «5» ستلعم ما تجني عليك وما جنت ... يداك فلا تفخر بقتل الخلائف وقد بقيت في أم رأسك فتكة ... سنخرجها منه بأسمر راعف وقال عبد الله بن طاهر: مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول ومدين البيض في تعب ... وغريم البيض ممطول وأخو الوجهين حيث رمى ... بهواه فهو مدخول «6»

أقصري عما طمحت له ... ففراغي عنك مشغول سائلي عمّن تسائلني ... قد يردّ الخير مسئول أنا من تعرف نسبته ... سلفي الغرّ البهاليل «1» سل بهم تنبيك نجدتهم ... مشرفيّات مصاقيل «2» كلّ عضب مشرب علقا ... وغرار الحدّ مفلول «3» مصعب جدّي نقيب بني ... هاشم والأمر مجبول وحسين رأس دعوتهم ... بعده، والحقّ مقبول وأبي من لا كفاء له ... من يسامى مجده قولوا صاحب الرأي الذي حصلت ... رأيه للقوم المحاصيل حلّ منهم بالذّرا شرفا ... دونه عزّ وتبجيل تفصح الأنباء عنه إذا ... أسكت الأنباء مجهول سل به الجبار يوم غدا ... حوله الجرد الأبابيل «4» إذ علت مفرقه يده ... نوطها أبيض مصقول «5» أبطن المخلوع كلكله ... وحواليه المقاويل «6» فثوى والتّرب مصرعه ... غال عنه ملكه غول قاد جيشا نحو بابله ... ضاق عنه العرض والطّول وهبوا لله أنفسهم ... لا معازيل ولا ميل «7» ملك تجتاح صولته ... ونداه الدهر مبذول نزعت منه تمائمه ... وهو مرهوب ومأمول «8» وتره يسعى إليه به ... ودم يجنيه مطلول «9»

فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة، وكان من أصحابه وآثرهم عنده، ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله: من يسامي مجده قولوا فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة: لا يرعك القال والقيل ... كلّ ما بلّغت تضليل ما هوى لي كنت أعرفه ... بهوى غيرك موصول أيخون العهد ذو ثقة ... لا يخون العهد متبول «1» حمّلتني كلّ لائمة ... كلّ ما حمّلت محمول واحكمي ماشئت واحتكمي ... فحرامي لك تحليل أين لي عنك إلى بدل ... لا بديل منك مقبول ما لداري منك مقفرة ... وضميري منك مأهول وبدت يوم الوداع لنا ... غادة كالشمس عطبول «2» تتعاطى شدّ مئزرها ... ونطاق الخصر محلول شملنا إذ ذاك مجتمع ... وجناح البين مشكول «3» ثم ولّت كي تودّعنا ... كحلها بالدمع مغسول أيّها البادي بطيّته ... ما لأغلاطك تحصيل قد تأوّلت على جهة ... ولنا ويحك تأويل إنّ دلّيلاك يوم غدا ... بك في الحين لضلّيل قاتل المخلوع مقتول ... ودم القاتل مطلول قد يخون الرّمح عامله ... وسنان الرّمح مصقول وينال الوتر طالبه ... بعد ما تسلوا المثاكيل «4»

مراسلات الملوك

يا أخا المخلوع طلت يدا ... لم يكن في باعها طول وبنعماه الذي كفرت ... جالت الخيل الأبابيل وبراع غير ذي شفق ... فعلت تلك الأفاعيل يا بن بنت النار موقدها ... ما لحاذيه سراويل من حسين من أبوه ومن ... مصعب غالتهم غول إنّ خير القول أصدقه ... حين تصطتكّ الأقاويل «1» مراسلات الملوك العتبي عن أبيه، قال: أهدي ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة، وأمر أن ينحرها أعزّ قرشيّ؛ فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة، فقالت له: أيها الرجل، لا يشغلنّك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك. فقال لها: يا هذه، دعي زوجك وما يختاره لنفسه! والله ما نحرها غيري إلا نحرته! فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها. بين قيصر ومعاوية: زهير عن أبي الجويرية الجرميّ، قال: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عمن لا قبلة له، وعمّن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء، ونصف شيء، ولا شيء؛ وابعث إليّ في هذه القارورة ببزر كلّ شيء. فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، فقال: أمّا من لا قبلة له فالكعبة. وأما من لا أب له فعيسى. وأما من لا عشيرة له فآدم. وأما من سار به قبره فيونس. وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، فكبش إبراهيم، وناقة ثمود، وحيّة موسى. وأما شيء، فالرجل له عقل يعمل بعقله؛ وأما نصف شيء، فالرجل ليس له

من ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز:

عقل ويعمل برأي ذوي العقول، وأما لا شيء، فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره. وملأ القارورة ماء وقال: هذا بزر كلّ شيء. فبعث به إلى معاوية، فبعث به معاوية إلى قيصر؛ فلما وصل إليه الكتاب والقارورة، قال: ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوّة. من ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز: نعيم بن حماد قال: بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتابا فيه: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك، والذي تحته ابنة ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والألوّة والجوز والكافور، والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلا، إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئا. أما بعد، فإني قد بعثت إليك بهدية، وما هي بهدية ولكنّها تحية؛ قد أحببت أن تبعث إليّ رجلا يعلّمني ويفهمني الإسلام. والسلام. يعني بالهدية: الكتاب. بين ملك الروم والوليد في هدم كنيسة دمشق: الرياشي قال: لما هدم الوليد كنيسة دمشق، كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كان صوابا فقد أخطأ أبوك، وإن كان خطأ فما عذرك. فكتب إليه: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً «1» .

وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة. لأغزينّك جنودا مائة ألف ومائة ألف. فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول. ففعل، فقال عبد الله بن الحسن: «إن لله عزّ وجل لوحا محفوظا يلحظه كل يوم ثلاثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذلّ ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة!» فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم. فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة. بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعيّة، وكلاب سيورية، وثياب من ثياب الهند. فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفّوا صفين ولبسوا الحديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق، وأذن للرّسل فدخلوا عليه، فقال لهم: ما جئتم به؟ قالوا: هذه أشرف كسوة بلدنا. فأمر هارون القطّاع بأن يقطع منها جلالا وبراقع كثيرة لخيله فصلّب الرّسل على وجوههم، وتذمّموا ونكسوا رءوسهم. ثم قال لهم الحاجب: ما عندكم غير هذا؟ قالوا له: هذه سيوف قلعية لا نظير لها. فدعا هارون بالصّمصامة سيف عمرو بن معد يكرب، فقطعت به السيوف بين يديه سيفا سيفا كما يقطّ الفجل، من غير أن تنثني له شفرة، ثم عرض عليهم حدّ السيف فإذا لا فلّ فيه؛ فصلّب القوم على وجوههم. ثم قال لهم: ما عندكم غير هذا؟ قالوا: هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته. فقال لهم هارون: فإن عندي سبعا، فإن عقرته فهي كما ذكرتم. ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم، فلما نظروا إليه هالهم، وقالوا: ليس عندنا مثل هذا السّبع في بلدنا! قال لهم هارون: هذه سباع بلدنا. قالوا فنرسلها عليه. وكانت الأكلب ثلاثة، فأرسلت عليه فمزّقته، فأعجب بها هارون، وقال لهم، تمنّوا في هذه الكلاب ما شئتم

بين المأمون وطاهر بن الحسين:

من طرائف بلدنا. قالوا ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا. قال لهم: هذا مما لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح، ولولا ذلك ما بخلنا به عليكم، ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم. قالوا: ما نتمنى إلا به. قال: لا سبيل إليه. ثم أمر لهم بتحف كثيرة، وأحسن جائزتهم. بين المأمون وطاهر بن الحسين: أبو جعفر البغدادي قال: لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره، أدّب له المأمون وصيفا بأحسن الآداب، وعلّمه فنون العلم، ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق وقد واطأه على أن يسمّه، وأعطاه سمّ ساعة، ووعده على ذلك بأموال كثيرة؛ فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية، قبل الهدية وأمر بإنزال الوصيف في دار، وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النّزالة، وتركه أشهرا. فلما برم «1» الوصيف بمكانه، كتب إليه: يا سيدي، إن كنت تقبلني فاقبلني، وإلا فردّني إلى أمير المؤمنين. فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه. فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه، أمره بالوقوف عند باب المجلس، وقد جلس على لبد أبيض وقرّع رأسه وبين يديه مصحف منشور، وسيف مسلول. فقال: قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك، فإنا لا نقبلك، وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين. وليس عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي. فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها. فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أمره ووصف له الحالة التي رآه فيها، شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه. فلم يعلمه واحد منهم. فقال المأمون: لكني قد فهمت معناه: أما تقريعه رأسه وجلوسه على اللّبد الأبيض، فهو يخبرنا أنه عبد ذليل؛ وأما المصحف المنشور، فإنه يذكّرنا بالعهود التي له علينا؛ وأما السيف

المسلول، فإنه يقول: إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك. أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه. فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين، وقام عبد الله بن طاهر مكانه: فكان أخفّ الناس على المأمون. وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق ابن السّندي من حبسه، وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه؛ فأطلقه له وكتب إليه: أخي أنت ومولاي ... فما ترضاه أرضاه وما تهوى من الأمر ... فإنّي أنا أهواه لك الله على ذاك ... لك الله لك الله

كتاب الياقوتة في العلم والادب

كتاب الياقوتة في العلم والادب فرش كتاب الياقوتة في العلم والأدب قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في مخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنّنوا فيه من بديع حكمهم، والتزلف إليهم بحسن التوصّل ولطيف المعاني، وبارع منطقهم واختلاف مذاهبهم. ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب؛ فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية والطبيعة البهيمية؛ وهما مادّة العقل، وسراج البدن، ونور القلب، وعماد الروح؛ وقد جعل الله بلطيف قدرته وعظيم سلطانه بعض الأشياء عمدا لبعض ومتولدا من بعض. فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس تبعث خواطر الذّكر، وخواطر الذكر تنبّه رويّة الفكر. ورويّة الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل. فكل شيء يقوم في العقل ويمثل في الوهم يكون ذكرا، ثم فكرا، ثم إرادة، ثم عملا. والعقل متقبل للعلم، لا يعمل في غير ذلك شيئا. والعلم علمان: علم حمل، وعلم استعمل؛ فما حمل منه ضرّ، وما استعمل نفع. والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبّل العلوم كالبصر في تقبّل الألوان والسمع في تقبل الأصوات: أنّ العاقل إذا لم يعلّم شيئا كان كمن لا عقل له. والطفل الصغير لو لم تعرّفه أدبا وتلقّنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلّ الدّوابّ فإن زعم زاعم فقال: إنا نجد عاقلا قليل العلم، فهو يستعمل عقله في قلة علمه فيكون أسدّ رأيا وأنبه فطنة وأحسن موارد ومصادر من الكثير العلم مع قلة العقل. فإن حجتنا عليه ما قد ذكرناه

فنون العلم

من حمل العلم واستعماله؛ فقليل العلم يستعمله العقل خير من كثيره يحفظه القلب. قيل للمهلب: بم أدركت ما أدركت؟ قال: بالعلم. قيل له: فإنّ غيرك قد علم أكثر مما علمت ولم يدرك ما أدركت. قال: ذلك علم حمل وهذا علم استعمل. وقد قالت الحكماء: العلم قائد والعقل سائق والنفس ذود؛ فإذا كان قائد بلا سائق هلكت، وإن كان سائق بلا قائد أخذت يمينا وشمالا، وإذا اجتمعا أنابت «1» طوعا أو كرها. فنون العلم قال سهل بن هارون وهو عند المأمون: من أصناف العلم ما لا ينبغي للمسلمين أن ينظروا فيه، وقد يرغب عن بعض العلم كما يرغب عن بعض الحلال. فقال المأمون: قد يسمّي بعض الناس الشيء علما وليس بعلم، فإن كان هذا أردت فوجهه الذي ذكرت. ولو قلت أيضا إن العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا تستقصى أصوله، ولا تنضبط أجزاؤه، صدقت؛ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمّ فالأهم، والأوكد فالأوكد، وبالفرض قبل النّفل «2» ، يكن ذلك عدلا قصدا ومذهبا جميلا. وقد قال بعض الحكماء: لست أطلب العلم طمعا في غايته والوقوف على نهايته، ولكن التماس ما لا يسع جهله. فهذا وجه لما ذكرت. وقال آخرون: علم الملوك النسب والخبر، وعلم أصحاب الحروب درس كتب الأيام والسّير، وعلم التجار الكتاب والحساب. فأما أن يسمّى الشيء علما وينهى عنه

من غير أن يسأل عما هو أنفع منه، فلا. وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه: العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان. وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: من أراد أن يكون عالما فليطلب فنّا واحدا، ومن أراد أن يكون أديبا فليتفنّن في العلوم. وقال أبو يوسف القاضي: ثلاثة لا يسلمون من ثلاثة: من طلب الدّين بالفلسفة لم يسلم من الزّندقة، ومن طلب المال بالكيمياء لم يسلم من الفقر، ومن طلب غرائب الحديث لم يسلم من الكذب. وقال ابن سيرين رحمه الله تعالى: العلم أكثر من أن يحاط به، فخذوا من كل شيء أحسنه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل. وقال الشاعر: وما من كاتب إلّا ستبقى ... كتابته وإن فنيت يداه فلا تكتب بكفّك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه وقال الأصمعي: وصلت بالملح «1» ونلت بالغريب. وقالوا: من أكثر من النحو حمّقه، ومن أكثر من الشعر بذّله «2» ، ومن أكثر من الفقه شرّفه. وقال أبو نواس الحسن بن هانيء: كم من حديث معجب عندي لكا ... لو قد نبذت به إليك لسرّكا ممّا تخيّره الرّواة مهذّب ... كالدّرّ منتظما بنحر فلّكا «3» أتتبّع العلماء أكتب عنهم ... كيما أحدّث من لقيت فيضحكا

الحض على طلب العلم

الحضّ على طلب العلم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل» . وقال عليه الصلاة والسلام: «الناس عالم ومتعلّم، وسائرهم همج» . وعنه صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم. رضا بما يطلب. ولمداد جرت به أقلام العلماء خير من دماء الشهداء في سبيل الله» . وقال داود لابنه سليمان عليهما السلام: لفّ العلم حول عنقك، واكتبه في ألواح قلبك. وقال أيضا: اجعل العلم مالك والأدب حليتك. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قيمة كل إنسان ما يحسن. وقيل لأبي عمرو بن العلاء: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال: إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم. وقال عروة بن الزّبير رحمه الله تعالى لبنيه: يا بنيّ، اطلبوا العلم، فإن تكونوا صغار قوم لا يحتاج إليكم فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين لا يستغنى عنكم. وقال ملك الهند لولده، وكان له أربعون ولدا: يا بنيّ، أكثروا من النظر في الكتب، وازدادوا في كل يوم حرفا؛ فإنّ ثلاثة لا يستوحشون في غربة: الفقيه العالم، والبطل الشجاع، والحلو اللسان الكثير مخارج الرأي. وقال المهلب لبنيه: إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زرّاد أو ورّاق. أراد الزّرّاد للحرب، والورّاق للعلم. وقال الشاعر: نعم الأنيس إذا خلوت كتاب ... تلهو به إن خانك الأحباب لا مفشيا سرّا إذا استودعته ... وتفاد منه حكمة وصواب

وقال آخر: ولكل طالب لذة متنزّه ... وألذّ نزهة عالم في كتبه ومر رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وهو جالس في المقبرة وبيده كتاب، فقال له: ما أجلسك ههنا؟ قال: إنه لا أوعظ من قبر، ولا أمتع من كتاب. وقال رؤبة بن العجّاج: قال لي النّسّابة البكري: يا رؤبة، لعلك من قوم إن سكتّ عنهم لم يسألوني، وإن حدّثتهم لم يفهموني؟ قلت: إني أرجو ألا أكون كذلك. قال: فما آفة العلم ونكده وهجنته؟ قلت: تخبرني! قال: آفته النسيان، ونكده الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله. وقال عبد الله بن عباس رضوان الله عليهما: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا. وقال: ذللت طالبا فعززت مطلوبا. وقال رجل لأبي هريرة: أريد أن أطلب العلم وأخاف أن أضيعه. قال: كفاك بترك طلب العلم إضاعة له. وقال عبد الله بن مسعود: إن الرجل لا يولد عالما، وإنما العلم بالتعلّم. وأخذه الشاعر فقال: تعلّم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل ولآخر: تعلّم فليس المرء يخلق عالما ... وما عالم أمرا كمن هو جاهله ولآخر: ولم أر فرعا طال إلا بأصله ... ولم أر بدء العلم إلّا تعلّما

فضيلة العلم

وقال آخر: العلم يحيى قلوب الميّتين كما ... تحيا البلاد إذا ما مسّها المطر والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلّي سواد الظّلمة القمر وقال بعض الحكماء: اقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى لنفسك، وأخف على قلبك؛ فإنّ نفاذك فيه، على حسب شهوتك له وسهولته عليك. فضيلة العلم لعلي بن أبي طالب: حدثنا أيوب بن سليمان قال: حدثنا عامر بن معاوية عن أحمد بن عمران الأخنس عن الوليد بن صالح الهاشمي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الكوفي، عن أبي مخنف، عن كحيل النّخعي، قال: أخذ بيدي عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فخرج بي إلى ناحية الجبّانة، فلما أصحر «1» تنفّس الصّعداء، ثم قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كلّ ناعق، مع كلّ ريح يميلون، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال: العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، ومنفعة المال تزول بزواله. يا كميل، محبة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل، مات خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ها إن ها هنا لعلما جمّا- وأشار بيده إلى صدره- لو وجدت له حملة، بلى أجد لقنا «2» غير مأمون عليه، يستعمله آلة الدين

للدنيا، ويستظهر بحجج الله على أوليائه، وبنعمه على عباده؛ أو منقادا لحملة الحقّ ولا بصيرة له في أحنائه «1» ، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو منهوما باللذة، سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شبها بهما الأنعام السائمة. كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله إما ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته؛ وكم ذا، وأين؟ أولئك والله الأقلّون عددا؛ والأعظمون عند الله قدرا؛ بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم؛ ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين؛ فاستلانوا ما استخشن المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالرفيق الأعلى. يا كميل، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه. شوقا إليهم. انصرف إذا شئت. قيل للخليل بن أحمد: أيهما أفضل: العلم أو المال؟ قال العلم. قيل له: فما بال العلماء يزدحمون على أبواب الملوك والملوك لا يزدحمون على أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بحقّ الملوك وجهل الملوك بحق العلماء. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «فضل العلم خير من فضل العبادة» . وقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ قليل العمل مع العلم كثير، كما أنّ كثيره مع الجهل قليل» . وقال عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله «2» ، ينفون عنه تحريف القائلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» . وقال الأحنف بن قيس: كاد العلماء أن يكونوا أربابا، وكلّ عز لم يؤكّد بعلم فإلى ذلّ ما يصير.

وقال أبو الأسود الدؤلي: الملوك حكام على الدنيا، والعلماء حكام على الملوك. وقال أبو قلابة: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء: من تركها ضلّ، ومن غابت عنه تحيّر. وقال سفيان بن عيينة: إنما العالم مثل السراج: من جاءه اقتبس «1» من علمه، ولا ينقصه شيئا، كما لا ينقص القابس من نور السراج شيئا. وفي بعض الأحاديث: إن الله لا يقتل نفس التقّي العالم جوعا. وقيل للحسن بن أبي الحسن البصري: بم صارت الحرفة مقرونة مع العلم، والثروة مقرونة مع الجهل؟ فقال: ليس كما قلتم، ولكن طلبتم قليلا في قليل فأعجزكم؛ طلبتم المال وهو قليل، في أهل العلم وهم قليل، ولو نظرتم إلى من احترف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر. وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» ووَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «3» . وقيل: لا تمنعوا العلم أهله فتظلموهم، ولا تعطوه غير أهله فتظلموه. ولبعضهم: من منع الحكمة أربابها ... أصبح في الحكم لهم ظالما وواضع الحكمة في غيرهم ... يكون في الحكم لها غاشما سمعت يوما مثلا سائرا ... وكنت في الشعر له ناظما لا خير في المرء إذا ما غدا ... لا طالبا علما ولا عالما وقيل لبعض العلماء. كيف رأيت العلم؟ قال: إذا اغتممت سلوتي، وإذا سلوت لذتي. وأنشد لسابق البربري: العلم يزن وتشريف لصاحبه ... والجهل والنّوك مقرونان في قرن «4»

ولغيره: وإذا طلبت العلم فاعلم أنّه ... حمل فأبصر أيّ شيء تحمل وإذا علمت بأنّه متفاضل ... فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل الأصمعي قال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل، والخامس نشره. ويقال: العالم والمتعلم شريكان، والباقي همج. وأنشد: لا ينفع العلم قلبا قاسيا أبدا ... ولا يلين لفكّ الماضغ الحجر وقال معاذ بن جبل: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، وبذله لأهله قربة. والعلم منار سبيل أهل الجنة، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدّث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والزّين عند الأخلاء، والسلاح على الأعداء. يرفع الله به قوما فيجعلهم قادة أئمة، تقتفى آثارهم، ويقتدى بفعالهم. والعلم حياة القلب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظّلمة، وقوة الأبدان من الضعف؛ يبلغ بالعبد منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة؛ الفكر فيه يعدل الصيام، ومذاكرته القيام، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام. ولابن طباطبا العلويّ: حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه يلوم على أن رحت في العلم طالبا ... أجّمع من عند الرجال فنونه فأملك أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه «1» ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه

ضبط العلم والتثبت فيه

ضبط العلم والتثبت فيه قيل لمحمد بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما هذا العلم الذي بنت «1» به عن العالم؟ قال: كنت إذا أخذت كتابا جعلته مدرعة. وقيل لرقبة بن مصقلة: ما أكثر شكك! قال: محاماة عن اليقين. وسأل شعبة أيوب السّختياني عن حديث، فقال: أشك فيه: فقال: شكّك أحبّ إليّ من يقيني. وقال أيوب: إنّ من أصحابي من أرتجي بركة دعائه ولا أقبل حديثه. وقالت الحكماء: علّم علمك من يجهل، وتعلّم ممن يعلم، فإذا فعلت ذلك حفظت ما علمت؛ وعلمت ما جهلت. وسأل إبراهيم النّخعي عامرا الشّعبي عن مسألة؛ فقال: لا أدري. فقال: هذا والله العالم؛ سئل عما لا يدري، فقال: لا أدري. وقال مالك بن أنس: إذا ترك العالم «لا أدري» أصيبت مقاتله. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من سئل عما لا يدري، فقال: لا أدري، فقد أحرز نصف العلم. وقالوا: العلم ثلاثة: حديث مسند، وآية محكمة، ولا أدري؛ فجعلوا «لا أدري» من العلم، إذا كان صوابا من القول. وقال الخليل بن أحمد: إنك لا تعرف خطأ معلّمك حتى تجلس عند غيره.. وكان الخليل قد غلبت عليه الإباضيّة «2» حتى جالس أيوب. وقالوا: عواقب المكاره محمودة. وقالوا: الخير كلّه فيما أكرهت النفوس عليه.

انتحال العلم

انتحال العلم قال بعض الحكماء: لا ينبغي لأحد أن ينتحل العلم، فإن الله عز وجل يقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «1» وقال عز وجل: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «2» . وقد ذكر عن موسى بن عمران عليه السلام، أنه لما كلمه الله تعالى تكليما، ودرس التوراة وحفظها، حدثته نفسه أن الله لم يخلق خلقا أعلم منه، فهوّن الله إليه نفسه بالخضر عليه السلام. وقال مقاتل بن سليمان وقد دخلته أبّهة العلم: سلوني عما تحت العرش إلى أسفل من الثرى. فقام إليه رجل من القوم فقال: ما نسألك عما تحت العرش ولا أسفل من الثرى، ولكن نسألك عما كان في الأرض وذكره الله في كتابه: أخبرني عن كلب أهل الكهف، ما كان لونه؟ فأفحمه. وقال قتادة: ما سمعت شيئا قط ولا حفظت شيئا قطّ فنسيته. ثم قال: يا غلام، هات نعلي. فقال: هما في رجليك. ففضحه الله. وأنشد أبو عمرو بن العلاء في هذا المعنى: من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الإمتحان وفي هذا المعنى: من تحلّى بغير ما هو فيه ... شان ما في يديه ما يدّعيه وإذا قلّل الدعاوى لما في ... هـ أضافوا إليه ما ليس فيه ومحلّ الفتى سيظهر للنا ... س وإن كان دائبا يخفيه وبحسب الذي ادّعى ما عداه ... أنّه عالم بما يفتريه

شرائط العلم وما يصلح له

وقال شبيب بن شيبة لفتى من دوس: لا تنازع من فوقك، ولا تقل إلا بعلم، ولا تتعاط ما لم تبل «1» ، ولا يخالف لسانك ما في قلبك، ولا قولك فعلك، ولا تدع الأمر إذا أقبل، ولا تطلبه إذا أدبر. وقال قتادة: حفظت ما لم يحفظ أحد، وأنسيت ما لم ينس أحد: حفظت القرآن في سبعة أشهر، وقبضت على لحيتي وأنا أريد قطع ما تحت يدي فقطعت ما فوقها. ومر الشعبيّ بالسّدّي وهو يفسّر القرآن، فقال: لو كان هذا الساعة نشوان يضرب على استه بالطبل، أما كان أحسن له؟ وقال بعض المنتحلين: يجهّلني قومي وفي عقد مئزري ... تمنّون أمثالا لهم محكم العلم وما عنّ لي من غامض العلم غامض ... مدى الدهر إلا كنت منه على فهم وقال عديّ بن الرّقاع: وعلمت حتى ما أسائل عالما ... عن علم واحدة لكي أزدادها شرائط العلم وما يصلح له وقالوا: لا يكون العالم عالما حتى تكون فيه ثلاث خصال: لا يحتقر من دونه، ولا يحسد من فوقه، ولا يأخذ على العلم ثمنا. وقالوا: رأس العلم الخوف من الله تعالى. وقيل للشعبي: أفتني «2» أيّها العالم! فقال: إنما العالم من اتقى الله. وقال الحسن: يكون الرجل عالما ولا يكون عابدا، ويكون عابدا ولا يكون عاقلا. وكان مسلم بن يسار عالما عابدا عاقلا.

وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء، أفضل من حلم إلى علم. ومن عفو إلى قدرة. وقالوا: من تمام آلة العالم أن يكون شديد الهيبة، رزين المجلس، وقورا صموتا، بطيء الالتفات، قليل الإشارات، ساكن الحركات، لا يصخب ولا يغضب، ولا يبهر «1» في كلامه، ولا يمسح عثنونه «2» عند كلامه في كل حين؛ فإن هذه كلّها من آفات العيّ. وقال الشاعر: مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع ومدح خالد بن صفوان رجلا، فقال: كان بديع المنطق، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثير الطلاوة، صموتا وقورا، يهنأ الجرب، ويداوي الدّبر، ويقلّ الحزّ، ويطبّق المفصل؛ لم يكن بالزمر المروءة، ولا الهذر المنطق، متبوعا غير تابع. كأنّه علم في رأسه نار وقال عبد الله بن المبارك في مالك بن أنس رضي الله عنه: يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... فالسائلون نواكس الأذقان هدي الوقار وعزّ سلطان التّقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان وقال عبد الله بن المبارك فيه أيضا: صموت إذا ما الصمت زيّن أهله ... وفتّاق أبكار الكلام المختّم وعى ما وعى القرآن من كلّ حكمة ... وسيطت له الآداب باللحم والدم «3»

بين عبد الملك ورجل:

بين عبد الملك ورجل: ودخل رجل على عبد الملك بن مروان، وكان لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علما، فقال له: أنّى لك هذا؟ فقال: لم أمنع قطّ يا أمير المؤمنين علما أفيده، ولم أحتقر علما أستفيده، وكنت إذا لقيت الرجل أخذت منه وأعطيته. وقالوا: لو أنّ أهل العلم صانوا علمهم لسادوا أهل الدنيا، لكن وضعوه غير موضعه فقصّر في حقّهم أهل الدنيا. حفظ العلم واستعماله قال عبد الله بن مسعود: تعلّموا، فإذا علمتم فاعملوا. وقال مالك بن دينار: العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلب. كما يزل الماء عن الصّفا «1» . وقالوا: لولا العمل لم يطلب العلم، ولولا العلم لم يطلب العمل. وقال الطائي: ولم يحمدوا من عالم غير عامل ... ولم يحمدوا من عامل غير عالم وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: أيها الناس، تعلموا كتاب الله تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله. وقالوا: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان. وروى زياد عن مالك، قال: كن عالما، أو متعلّما، أو مستمعا؛ وإياك والرابعة فإنها مهلكة؛ ولا تكون عالما حتى تكون عاملا، ولا تكون مؤمنا حتى تكون تقيّا. وقال أبو الحسن: كان وكيع بن الجرّاح يتحفظ كل يوم ثلاثة أحاديث. وكان الشعبي والزهري يقولان: ما سمعنا حديثا قط وسألنا إعادته.

رفع العلم وقولهم فيه

رفع العلم وقولهم فيه قال عبد الله بن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يرفع. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء» . وقال عبد الله بن عباس رضوان الله عليهما، لما ووري زيد بن ثابت في قبره: من سرّه أن يرى كيف يقبض العلم فهكذا يقبض. تحامل الجاهل على العالم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويل لعالم أمر من جاهله» . وقالوا: إذا أردت أن تفحم عالما فأحضره جاهلا. وقالوا: لا تناظر جاهلا ولا لجوجا: فإنه يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلّم بغير شكر. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ارحموا عزيزا ذلّ، ارحموا غنيا افتقر، ارحموا عالما ضاع بين جهّال» . وجاء كيسان إلى الخليل بن أحمد يسأله عن شيء؛ ففكر فيه الخليل ليجيبه، فلما استفتح الكلام قال له: لا أدري ما تقول. فأنشأ الخليل يقول: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا قال حبيب: وعاذل عذلته في عذله ... فظنّ أنّي جاهل من جهله ما غبن المغبون مثل عقله ... من لك يوما بأخيك كلّه «1»

تبجيل العلماء وتعظيمهم

تبجيل العلماء وتعظيمهم زيد بن ثابت وابن عباس: الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت، فأخذ عبد الله بن عباس بركابه؛ فقال: لا تفعل يا بن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. قال زيد: أرني يدك. فلما أخرج يده قبّلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بابن عمّ نبيّنا. وقالوا: خدمة العالم عبادة. وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلّم عليه خاصة وعلى القوم عامّة، وتجلس قدّامه، ولا تشير بيدك، ولا تغمز بعينك؛ ولا تقول: قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلحّ عليه في السؤال؛ فإنما هو بمنزلة النخلة المرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء. وقالوا: إذا جلست إلى العالم فسل تفقها ولا تسل تعنتا «1» . عويص المسائل الأوزاعيّ عن عبد الله بن سعد عن الصّنابحيّ عن معاوية بن أبي سفيان قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الأغلوطات. قال الأوزاعي: يعني صعاب المسائل. وكان ابن سيرين إذا سئل عن مسألة فيها أغلوطة قال للسائل: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس. وسأل عمرو بن قيس مالك بن أنس عن محرم نزع نابي ثعلب، فلم يردّ عليه شيئا.

وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه فقال: ما نقول في رجل أمه عند رجل آخر؟ فقال: يمسك عنها. أراد عمر: أن الرجل يموت وأمه عند رجل آخر، وقول علي «يمسك عنها» يريد: يمسك عن أم الميت حتى تستبريء من طريق الميراث. وسأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة يجدها الإنسان في ثوبه أو في خفه أو في جبهته من حصى المسجد، فقال: ارم بها. قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى تردّ إلى المسجد. فقال: دعها تصيح حتى ينشقّ حلقها. فقال الرجل: سبحان الله! ولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» كيف هذا الاستواء؟ قال: الاستواء معقول. والكيف مجهول؛ ولا أظنك إلا رجل سوء. وروى مالك بن أنس الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، فقال له رجل: فكيف نصنع في المهّراس أبا عبد الله؟ - والمهراس: حوض مكة الذي يتوضأ الناس فيه- فقال: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، ومنا التسليم. أمروا الحديث. وقيل لابن عباس رضي الله عنهما: ما تقول في رجل طلّق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: يكفيه منها كوكب الجوزاء. وسئل عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماء والأرض؟ فقال: أين توجب المكان، وكان الله عز وجل ولا مكان.

التصحيف

التصحيف وذكر الأصمعي رجلا بالتصحيف، فقال: كان يسمع فيعي غير ما يسمع، ويكتب غير ما وعى، ويقرأ في الكتاب غير ما هو فيه. وذكر آخر رجلا بالتصحيف فقال: كان إذا نسخ الكتاب مرتين عاد سريانيّا. طلب العلم لغير الله قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا أعطي الناس العلم ومنعوا العمل وتحابّوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا في الأرحام- لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشرّ الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: العلماء إذا فسدوا» . وقال الفضيل بن عياض: كان العلماء ربيع الناس، إذا رآهم المريض لم يسرّه أن يكون صحيحا، وإذا نظر إليهم الفقير لم يودّ أن يكون غنيا؛ وقد صاروا اليوم فتنة للناس. وقال عيسى بن مريم عليه السلام: سيكون في آخر الزمان علماء يزهّدون في الدنيا ولا يزهدون، ويرغّبون في الآخرة ولا يرغبون؛ ينهون عن إتيان الولاة ولا ينتهون، يقرّبون الأغنياء، ويبعدون الفقراء، ويتبّسطون للكبراء، وينقبضون عن الفقراء: أولئك إخوان الشياطين وأعداء الرحمن. وقال محمد بن واسع: لأن تطلب الدنيا بأقبح مما تطلب به الآخرة، خير من أن تطلبها بأحسن مما تطلب به الآخرة. وقال الحسن: العلم علمان: علم في القلب، فذاك العلم النافع، وعلم في اللسان، فذاك حجة الله على عباده.

باب من أخبار العلماء والأدباء

وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الزبانية «1» لا تخرج إلى فقيه ولا إلى حملة القرآن إلا قالوا لهم: إليكم عنا، دونكم عبدة الأوثان. فيشتكون إلى الله، فيقول: ليس من علم كمن لم يعلم. وقال مالك بن دينار: من طلب العلم لنفسه فالقليل منه يكفيه، ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة. وقال ابن شبرمة: ذهب العلم إلا غبّرات «2» في أدعية سوء. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من طلب العلم لأربع دخل النار: من طلبه ليباهي به العلماء، وليماري «3» به السفهاء، وليستميل به وجوه الناس إليه، أو ليأخذ به من السلطان» . وتكلم مالك بن دينار فأبكى أصحابه، ثم افتقد مصحفه، فنظر إلى أصحابه وكلهم يبكي، فقال: ويحكم! كلكم يبكي. فمن أخذ المصحف!؟. قال أحمد بن أبي الحواريّ: قال لي أبو سليمان في طريق الحج: يا أحمد، إن الله قال لموسى بن عمران: مر ظلمة بني اسرائيل ألا يذكروني، فإني لا أذكر من ذكرني منهم إلا بلعنة حتى يسكت! ويحك يا أحمد! بلغني أنه من حجّ بمال من غير حلّه ثم لبّى قال الله تبارك وتعالى: لا لبّيك ولا سعديك حتى تؤدي ما بيديك، فما يؤمّننا أن يقال لنا ذلك؟ باب من أخبار العلماء والأدباء أملى أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الخشني، أنّ عبد الله بن عباس سئل عن أبي بكر رضي الله عنه، فقال: كان والله خيرا كله مع الحدّة التي كانت فيه. قالوا: فأخبرنا عن عمر رضوان الله عليه. قال: كان والله كالطير الحذر الذي نصب فخ له فهو يخاف أن يقع فيه. قالوا: فأخبرنا عن عثمان رضوان الله عليه. قال: كان والله

للحسن البصري وعلي بن أبي طالب:

صوّاما قوّاما. قالوا: فأخبرنا عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه. قال: كان والله ممن حوى علما وحلما، حسبك من رجل أعزّته سابقته، وقدّمته قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلّما أشرف على شيء إلا ناله. قالوا يقال: إنه كان محدودا. قال: أنتم تقولونه. للحسن البصري وعلي بن أبي طالب: وذكروا أن رجلا أتى الحسن فقال: أبا سعيد، إنهم يزعمون أنك تبغض عليا! فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهما صائبا من مرامي الله على عدوّه، وربّاني هذه الأمة، وذا سابقتها، وذا فضلها، وذا قرابة قريبة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن بالنّئومة «1» عن أمر الله، ولا بالملولة في حق الله، ولا بالسّروفة لمال الله؛ أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، وأعلام بيّنة. ذاك عليّ بن أبي طالب يا لكع. وسل خالد بن صفوان عن الحسن البصري، فقال: كان أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية وآخذ الناس لنفسه بما يأمر به غيره، يا له من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم. واحتاجوا إلى ما في يديه من دينهم. ودخل عروة بن الزبير بستانا لعبد الملك بن مروان، فقال عروة: ما أحسن هذا البستان! فقال له عبد الملك: أنت والله أحسن منه؛ إن هذا يؤتي أكله كلّ عام، وأنت تؤتي أكلك كلّ يوم. وقال محمد بن شهاب الزهري: دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فرآني أحدثهم سنا، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت إليه، فعرفني؛ فقال: لقد كان أبوك وعمك نعاقين في فتنة ابن الزبير! قلت: يا أمير المؤمنين، مثلك إذا عفا لم يعد، وإذا صفح لم يثرّب. قال لي: أين نشأت؟ قلت: بالمدينة، قال: عند من

طلبت؟ قلت: عند ابن يسار، وابن أبي ذؤيب، وسعيد بن المسيّب. قال لي: وأين كنت من عروة بن الزبير، فإنه بحر لا تكدّره الدّلاء. وذكر الصحابة عند الحسن البصري، فقال: رحمهم الله، شهدوا وغبنا، وعلموا وجهلنا؛ فما اجتمعوا عليه اتبعنا، وما اختلفوا فيه وقفنا. وقال جعفر بن سليمان: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما رأيت أحدا أقشف من شعبة، ولا أعبد من سفيان، ولا أحفظ من ابن المبارك. وقال: ما رأيت مثل ثلاثة: عطاء بن أبي رباح بمكة، ومحمد بن سيرين بالعراق، ورجاء بن حيوة بالشام. وقيل لأهل مكة: كيف كان عطاء بن أبي رباح فيكم؟ فقالوا: كان مثل العافية التي لا يعرف فضلها حتى تفقد. وكان عطاء بن أبي رباح أسود أعور أفطس أشلّ أعرج، ثم عمى. وأمّه سوداء تسمّى بركة. وكان الأحنف بن قيس: أعور أعرج ولكنه إذا تكلم جلا عن نفسه. وقال الشعبي: لولا أني زوحمت في الرّحم ما قامت لأحد معي قائمة. وكان توأما. وقيل لطاووس: هذا قتادة يريد أن يأتيك. قال ائن جاء لأقومنّ. قيل: إنه فقيه. قال: إبليس أفقه منه؛ قال؛ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي «1» . وقال الشعبي: القضاة أربعة: عمر، وعلي، وأبو موسى، وعبد الله. وقال الحسن: ثلاثة صحبوا النبي صلّى الله عليه وسلم: الابن والأب والجد؛ عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة، ومعن بن يزيد بن الأخنس السّلمي.

وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فقيها شاعرا، وكان أحد السبعة من فقهاء المدينة. وقال الزهري: كنت إذا لقيت عبيد الله بن عبد الله، فكأنما أفجر به بحرا. وقال عمر بن عبد العزيز: وددت لو أن لي مجلسا من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود لم يفتنى. ولقيه سعيد بن المسيّب فقال له: أنت الفقيه الشاعر؟ قال: لا بد للمصدور «1» أن ينفث. وكتب عبيد الله بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز وبلغه عنه شيء يكرهه: أبا حفص أتاني عنك قول ... قطعت به وضاق به جوابي أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي «2» فإن تك عاتبا نعتب وإلّا ... فما عودي إذا بيراع غاب وقد فارقت أعظم منك رزءا ... وواريت الأحبّة في التّراب وقد عزّوا عليّ وأسلموني ... معا فلبست بعدهم ثيابي وكان خالد بن يزيد بن معاوية أبو هاشم، عالما كثير الدراسة للكتب وربما قال الشعر، ومن قوله: هل أنت منتفع بعل ... مك مرّة والعلم نافع ومن المشير عليك بالرأ ... ي المسدّد أنت سامع الموت حوض لا مجا ... لة فيه كلّ الخلق شارع ومن التّقى فازرع فإن ... ك حاصد ما أنت زارع وقال عمر بن عبد العزيز: ما ولدت أمية مثل خالد بن يزيد، ما استثنى عثمان ولا غيره.

وكان الحسن في جنازة فيها نوائح، ومعه سعيد بن جبير، فهم سعيد بالانصراف، فقال له الحسن: إن كنت كلما رأيت قبيحا تركت له حسنا أسرع ذلك في دينك. وعن عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة عن ابن المبارك، قال: علمني سفيان الثوريّ اختصار الحديث. وقال الأصمعي: حدثنا شعبة قال: دخلت المدينة فإذا لمالك حلقة وإذا نافع قد مات قبل ذلك بسنة، وذلك سنة ثماني عشرة ومائة. وقال أبو الحسن بن محمد: ما خلق الله أحدا كان أعرف بالحديث من يحيى ابن معين؛ كان يؤتي بالأحاديث قد خلطت وقلبت فيقول: هذا الحديث لذا، وذا لهذا. فيكون كما قال. وقال شريك: إني لأسمع الكلمة فيتغير لها لوني. وقال ابن المبارك: كل من ذكر لي عنه وجدته دون ما ذكر، إلا حيوة بن شريح، وأبا عون. وكان حيوة بن شريح يقعد للناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة ألق الشعير للدجاج. فيقوم. وقال أبو الحسن: سمع سليمان التّيمي من سفيان الثوري ثلاثة آلاف حديث. وكان يحيى بن اليمان يذهب بابنه داود كل مذهب، فقال له يوما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم كان عبد الله، ثم كان علقمة، ثم كان إبراهيم، ثم كان منصور، ثم كان سفيان، ثم كان وكيع؛ قم يا داود. يعني أنه أهل للإمامة ومات داود سنة أربع ومائتين. وقال الحسن: حدثني أبي، قال: أمر الحجاج أن لا يؤمّ بالكوفة إلا عربيّ وكان يحيى بن وثّاب يؤمّ قومه بني أسد، وهو مولى لهم؛ فقالوا: اعتزل. فقال: ليس عن

مثلي نهى، أنا لاحق بالعرب. فأبوا؛ فأتى الحجاج فقرأ، فقال: من هذا؟ فقالوا يحيى بن وثاب. قال: ماله؟ قالوا: أمرت أن لا يؤمّ إلا عربيّ، فنحّاه قومه. فقال: ليس عن مثل هذا نهيت، يصلي بهم. قال: فصلّى بهم الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. ثم قال: اطلبوا إماما غيري: إنما أردت أن لا تستذلّوني، فأمّا إذ صار الأمر إليّ فأنا أؤمكم؟ لا ولا كرامة. وقال الحسن: كان يحيى بن اليمان يصلي بقومه، فتعصب عليه قوم منهم، فقالوا: لا تصلّ بنا! لا نرضاك، إن تقدّمت نحّيناك! فجاء بالسيف فسل منه أربع أصابع ثم وضع في المحراب، وقال: لا يدنو مني أحد إلا ملأت السيف منه. فقالوا: بيننا وبينك شريك. فقدّموه إلى شريك فقالوا: إن هذا كان يصلي بنا وكرهناه. فقال لهم شريك: من هو؟ فقالوا: يحيى بن اليمان. فقال: يا أعداء الله! وهل بالكوفة أحد يشبه يحيى! لا يصلّي بكم غيره. فلما حضرته الوفاة قال لابنه داود: يا بنيّ كاد ديني يذهب مع هؤلاء، فإن اضطرّوا إليك بعدي فلا تصلّ بهم. وقال يحيى بن اليمان: تزوجت أمّ داود، وما كان عندي ليلة العرس إلا بطّيخة، أكلت أنا نصفها وهي نصفها، وولّدت داود، فما كان عندنا شيء تلفه فيه، فاشتريت له كساء بحبّتين فلففناه فيه. وقال الحسن بن محمد: كان لعليّ ضفيرتان، ولابن مسعود ضفيرتان. وذكر عبد الملك بن مروان روحا فقال: ما أعطي أحد ما أعطي أبو زرعة: أعطي فقه الحجاز. ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام. وروي أن مالك بن أنس كان يذكر عليا وعثمان وطلعة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر «1» . ذكر هذا محمد بن يزيد في الكامل؛ قال: وأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان

ينكر الحكومة ولا يرى رأيهم، وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترّحم عليه ثلاثا، ولعن قتلته ثلاثا، ثم يذكر عليّا فيقول: لم يزل عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه مظفّرا مؤيّدا بالنّعم حتى حكم. ثم يقول: ولم تحكّم والحق معك! ألا تمضي قدما لا أبالك؟ وهذ الكلمة وإن كان فيها جفاء فإن بعض العرب يأتي بها على معنى المدح فيقول: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وقال أعرابي: ربّ العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فقد بدالكا أنزل علينا الغيث لا أبالكا! وقال ابن أبي الحواريّ: قلت لسفيان: بلغني في قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «1» أنه الذي يلقى الله وليس في قلبه أحد غيره. قال: فبكى وقال: ما سمعت منذ ثلاثين سنة أحسن من هذا. وقال ابن المبارك: كنت مع محمد بن النضر الحارثي في سفينة، فقلت: بأي شيء أستخرج منه الكلام؟ فقلت: ما تقول في الصوم في السفر؟ قال: إنما هي المبادرة يا بن أخي. فجاءني والله بفتيا غير فتيا إبراهيم والشعبي. وقال الفضيل بن عياض: اجتمع محمد بن واسع ومالك بن دينار في مجلس بالبصرة؛ فقال مالك بن دينار: ما هو إلا طاعة الله أو النار. فقال محمد بن واسع لمن كان عنده: كنا نقول: ما هو إلا طاعة الله أو النار. فقال محمد بن واسع لمن كان عنده: كنا نقول: ما هو إلا عفو الله أو النار. قال مالك بن دينار: إنه ليعجبني أن تكون للإنسان معيشة قدر ما يقوته. فقال محمد بن واسع: ما هو إلا كما تقول، ليس يعجبني أن يصبح الرجل وليس له غداء، ويمسى وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله عز وجل.

ابراهيم النخعي وابن جبير:

فقال مالك: ما أحوجني إلى أن يعظني مثلك. وكان يجلس إلى سفيان فتى كثير الفكرة، طويل الإطراق، فأراد سفيان أن يحركه ليسمع كلامه، فقال: يا فتى، إنّ من كان قبلنا مرّوا على خيل عتاق «1» وبقينا على حمير دبرة. قال: يا أبا عبد الله، إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بالقوم. وقال الأصمعي: عن شعبة قال: ما أحدّثكم عن احد ممن تعرفون وممن لا تعرفون إلا وأيوب وينس وابن عون مسليمان خير منهم. قال الأصمعي: وحدّثني سلام بن أبي مطيع قال: أيوب أفقههم، وسليمان التيمي أعبدهم، ويونس أشدّهم زهدا عند الدراهم، وابن عون أضبطهم لنفسه في الكلام. الأصمعي قال: حدثنا نافع بن أبي نعيم عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: ألف عن ألف خير من واحد عن واحد، فلان عن فلان ينتزع السنّة من أيديكم. وكان إبراهيم النّخعي في طريق، فلقيه الأعمش فانصرف معه، فقال له: يا إبراهيم إن الناس إذا رأونا قالوا: أعمش وأعور! قال: وما عليك أن يأثموا ونؤجر؟ قال: وما عليك أن يسلّموا ونسلم. ابراهيم النخعي وابن جبير: وروى سفيان الثوري عن واصل الأحدب، قال: قلت لإبراهيم: إن سعيد بن جبير يقول: كلّ امرأة أتزوّجها طالق، ليس بشيء. فقال له إبراهيم: قل له ينقع استه في الماء البارد. قال: فقلت لسعيد ما أمرني به؛ فقال: قل له: إن مررت بوادي النّوكي فاحلل به. وقال محمد بن مناذر:

قولهم في حملة القرآن

ومن يبغ الوصاة فإنّ عندي ... وصاة للكهول وللشّباب خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث بن داب «1» وقال آخر: أيّها الطالب علما ... إيت حمّاد بن زيد فاقتبس حلما وعلما ... ثم قيّده بقيد «2» وقيل لأبي نواس: قد بعثوا في أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما. قال أما أبو عبيدة فإن مكّنوه من سفره قرأ عليهم أساطير الأولين، وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره. وذكروا عند المنصور محمد بن إسحاق وعيسى بن دأب، فقال: أما ابن إسحاق فأعلم الناس بالسيرة؛ وأما ابن دأب فإذا أخرجته عن داحس والغبراء لم يحسن شيئا. وقال المأمون رحمه الله تعالى: من أراد لهوا بلا حرج، فليسمع كلام الحسن الطالبي. وسئل العتّابي عن الحسن الطالبي، فقال: إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء، ومن الثّمل على الغناء. قولهم في حملة القرآن وقال رجل لإبراهيم النّخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث. قال: ليتك تختمه كل ثلاثين وتدري أيّ شيء تقرأ. للنبي صلى الله عليه وسلم: وقال الحارث الأعور: حدّثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت

رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم؛ هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء «1» ، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق «2» على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه؛ هو الذي من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله؛ هو حبل الله المتين، والذّكر العظيم، والصراط المستقيم» . خذها إليك يا أعور. وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: عجّل عليك الشيب يا رسول الله. قال: شيبتني هود وأخواتها. وقال عبد الله بن مسعود: الحواميم «3» ديباج القرآن. وقال: إذا رتعت رتعت في رياض دمثات «4» أتأنق فيهن. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كانت تنزل علينا الآية في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنحفظ حلالها وحرامها وأمرها وزجرها، قبل أن نحفظها. وقال صلّى الله عليه وسلم: سيكون في أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم «5» ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة، هم شرّ الخلق والخليقة. وقال: إن الزبانية لأسرع إلى فسّاق حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيشكون إلى ربهم فيقول: ليس من علم كمن لا يعلم. وقال الحسن: حملة القرآن ثلاثة نفر: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس، ورجل حفظ حروفه وضيّع حدوده، واستدرّ به الولاة، واستطال به على أهل بلده. وقد كثر هذا الضرب في حملة القرآن لا كثّرهم الله عز وجل. ورجل قرأ القرآن فوضع دواءه على داء قلبه، فسهر ليلته، وهملت عيناه؛

العقل

تسربل الخشوع، وارتدى الوقار، واستشعر الحزن. ووالله لهذا الضرب من حملة القرآن أقلّ من الكبريت الأحمر، بهم يسقي الله الغيث، وينزل النّصر، ويدفع البلاء. العقل قال سحبان وائل: العقل بالتجارب؛ لأن عقل الغريزة سلّم إلى عقل التجربة. ولذلك قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام. وعلى العاقل أن يكون عالما بأهل زمانه، مالكا للسانه، مقبلا على شانه. وقال الحسن البصري: لسان العاقل من وراء قلبه؛ فإذا أراد الكلام تفكّر، فإن كان له قال وإن كان عليه سكت؛ وقلب الأحمق من وراء لسانه، فإذا أراد أن يقول قال، فإن كان له سكت، وإن كان عليه قال. بين سليمان بن عبد الملك ورجل أعجب بكلامه: وقال محمد بن الغاز: دخل رجل على سليمان بن عبد الملك، فتكلم عنده بكلام أعجب سليمان، فأراد أن يختبره لينظر أعقله على قدر كلامه أم لا. فوجده مضعوفا. فقال: فضل العقل على المنطق حكمة، وفضل المنطق على العقل هجنة، وخير الأمور ما صدّق بعضها بعضا؛ وأنشد: وما المرء إلّا الأصغران: لسانه ... ومعقوله، والجسم خلق مصوّر فإن تر منه ما يروق فربّما ... أمرّ مذاق العود والعود أخضر «1» ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول زهير: وكائن ترى من معجب لك صامت ... زيادته أو نقصه في التكلّم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدّم

وقال علي رضي الله عنه: العقل في الدّماغ، والضّحك في الكبد، والرأفة في الطّحال، والصوت في الرئة. وسئل المغيرة بن شعبة عن عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه، فقال: كان والله أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع. وهو القائل: لست بخبّ «1» ، والخبّ لا يخدعني. وقال زياد: ليس العاقل الذي إذا وقع في الأمر احتال له، ولكن العاقل يحتال للأمر حتى لا يقع فيه. وقيل لعمر بن العاص: ما العقل؟ فقال: الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: لقد كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وقالوا: العاقل فطن متغافل. وقال معاوية: العقل مكيال ثلثه فطنة وثلثاه تغافل. وقال المغيرة بن شعبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ عزله عن كتابة أبي موسى، أعن عجز عزلتني أم عن خيانة؟ فقال: لا عن واحدة منهما، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك. وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيء قطّ إلا خرجت منه. فقال معاوية: لكني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه.

وقال الأصمعي: ما سمعت الحسن بن سهل مذ صار في مرتبة الوزارة يتمثل إلا بهذين البيتين: وما بقيت من اللّذّات إلا ... محادثة الرّجال ذوي العقول وقد كانوا إذا ذكروا قليلا ... فقد صاروا أقلّ من القليل وقال محمد بن عبد الله بن طاهر- ويروي لمحمود الوراق-: لعمرك ما بالعقل يكتسب الغنى ... ولا باكتساب المال يكتسب العقل وكم من قليل المال يحمد فضله ... وآخر ذو مال وليس له فضل وما سبقت من جاهل قطّ نعمة ... إلى أحد إلّا أضرّ بها الجهل وذو الّلبّ إن لم يعط أحمدت عقله ... وإن هو أعطى زانه القول والفعل وقال محمد بن مناذر: وترى الناس كثيرا فإذا ... عدّ أهل العقل قلّوا في العدد لا يقلّ المرء في القصد ولا ... يعدم القلّة من لم يقتصد لا تعد شرّا وعد خيرا ولا ... تخلف الوعد وعجّل ما تعد لا تقل شعرا ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعرا فأجد ولآخر: يعرف عقل المرء في أربع ... مشيته أولها والحرك ودور عينيه، وألفاظه ... بعد عليهنّ يدور الفلك وربّما أخلفن إلّا التي ... آخرها منهنّ سمّين لك هذي دليلات على عقله ... والعقل في أركانه كالملك إن صحّ صح المرء من بعده ... ويهلك المرء إذا ما هلك فانظر إلى مخرج تدبيره ... وعقله ليس إلى ما ملك فربما خلّط أهل الحجا ... وقد يكون النّوك في ذي النّسك «1»

هوذة وكسرى:

فإن إمام سال عن فاضل ... فادلل على العاقل لا أمّ لك هوذة وكسرى: وكان هوذة بن علي الحنفيّ يجير لطيمة كسرى في كل عام- واللطيمة عير تحمل الطيب والبزّ- فوفد على كسرى، فسأله عن بنيه، فسمّى له عددا. فقال: أيهم أحبّ إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يرجع، والمريض حتى يفيق «1» . فقال له: ما غذاؤك في بلدك؟ قال: الخبز. فقال كسرى لجلسائه: هذا عقل الخبز. يفضّله على عقول أهل البوادي الذين غذاؤهم اللبن والتمر. وهوذة بن علي الحنفيّ هو الذي يقول فيه أعشى بكر: من ير هوذة يسجد غير متّئب ... إذا تعصّب فوق التاج أو وضعا «2» له أكاليل بالياقوت فصّلها ... صوّاغها لا ترى عيبا ولا طبعا وقال أبو عبيدة عن أبي عمرو: لم يتتوّج معدّيّ قط، وإنما كانت التيجان لليمن. فسألته عن هوذة بن علي الحنفي، فقال: إنما كانت خرزات تنظم له. وقد كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي يدعوه إلى الاسلام كما كتب إلى الملوك. وفي بعض الحديث: إن الله عز وجل لما خلق العقل قال: أقبل! فأقبل، ثم قال له: أدبر! فأدبّر. فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أحبّ إليّ منك، ولا وضعتك إلا في أحبّ الخلق إليّ. ولما خلق الحمق قال له: أقبل. فأدبر. ثم قال له: أدبر. فأقبل. فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أبغض إليّ منك، ولا وضعتك إلا في أبغض الخلق إليّ. وبالعقل أدرك الناس معرفة الله عز وجل؛ ولا يشكّ فيه أحد من أهل العقول؛ يقول الله عز وجل في جميع الأمم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» .

وقال أهل التفسير في قول الله: قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ «1» قالوا: لذي عقل. وقالوا: ظن العاقل كهانة. وقال الحسن البصري: لو كان للناس كلّهم عقول خربت الدنيا. وقال الشاعر: يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب وإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب وقالوا: العاقل بقي ماله بسلطانه، ونفسه بماله، ودينه بنفسه. وقال الأحنف بن قيس: أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل. قال: ولما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام إلى الأرض، أتاه جبريل عليه السلام، فقال له: يا آدم إن الله عز وجل قد حباك بثلاث خصال لتختار منها واحدة وتتخلى عن اثنتين؛ قال: وما هن؛ قال: الحياء والدين والعقل قال آدم: اللهم إني اخترت العقل. فقال جبريل عليه السلام للحياء والدين: ارتفعا؛ قالا: لن نرتفع. قال جبريل عليه السلام: أعصيتما؟ قالا: لا، ولكنا أمرنا ألّا نفارق العقل حيث كان. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تقتدوا بمن ليست له عقدة. قال: وما خلق الله خلقا أحب إليه من العقل. وكان يقال: العقل ضربان: عقل الطبيعة وعقل التجربة، وكلاهما يحتاج إليه ويؤدي إلى المنفعة. وكان يقال: لا يكون أحد أحبّ إليك من وزير صالح وافر العقل كامل الأدب

حنيك السن «1» بصير بالأمور، فإذا ظفرت به فلا تباعده، فإن العاقل ليس بمانعك نصيحته وإن جفت. وكان يقال: غريزة قعل لا يضيع معها عمل. وكان يقال: أجل الأشياء أصلا وأحلاها ثمرة: صالح الأعمال، وحسن الأدب، وعقل مستعمل. وكان يقال: التجارب ليس لها غاية والعاقل منها في الزيادة. ومما يؤكد هذا قول الشاعر: ألم تر أنّ العقل زين لأهله ... وأنّ كمال العقل طول التجارب ومكتوب في الحكمة: إنّ العاقل لا يغترّ بمودّة الكذوب ولا يثق بنصيحته. ويقال: من فاته العقل والفتوّة فرأس ماله الجهل. ويقال: من عيّر الناس الشيء، ورضيه لنفسه فذاك الأحمق نفسه. وكان يقال: العاقل دائم المودّة، والأحمق سريع القطيعة. وكان يقال: صديق كل امريء عقله، وعدوّه جهله. وكان يقال: المعجب لحوح والعاقل منه في مؤونة. وأما العجب فإنه الجهل والكبر. وقيل: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. ويقال: ما شيء بأحسن من عقل زانه حلم، وحلم زانه علم، وعلم زانه صدق، وصدق زانه عمل، وعمل زانه رفق. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ليس العاقل من عرف الخير من

بين صفوان بن أمية وعمر:

الشر، بل العاقل من عرف خير الشّرّين. ويقال: عدوّ عاقل أحبّ إليّ من صديق جاهل. وكان يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم واسترسل إليه «1» ، وإياك وفراقه إذا كان كريما، ولا عليك أن تصحب العاقل وإن كان غير محمود الكرم، لكن احترس من شين أخلاقه وانتفع بعقله؛ ولا تدع مواصلة الكريم وإن لم تحمد عقله، وانتفع بكرمه وانفعه بعقلك، وفرّ الفرار كله من الأحمق اللئيم. وكان يقال: قطيعة الأحمق مثل صلة العاقل. وقال الحسن: ما أودع الله تعالى امرءا عقلا ما إلا استنقذه به يوما ما. وأتى رجل من بني مجاشع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست أفضل قومي؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن كان لك عقل فلك فضل، وإن كان لك تقى فلك دين، وإن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة. بين صفوان بن أمية وعمر: قال: تفاخر صفوان بن أمية مع رجل، فقال صفوان: أنا صفوان بن أمية، بخ بخ «2» . فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ويلك! إن كان لك دين فإنّ لك حسبا، وإن كان لك عقل فإن لك أصلا، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإلا فأنت شرّ من حمار. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه. وقال: وكّل الله عز وجل الحرمان بالعقل، ووكّل الرزق بالجهل؛ ليعتبر العاقل فيعلم أنّ ليس له في الرزق حيلة.

وقال بزرجمهر: لا ينبغي للعاقل أن يزل بلدا ليس فيه خمسة: سلطان قاهر، وقاض عدل، وسوق قائمة، ونهر جار، وطبيب عالم. وقال أيضا: العاقل لا يرجو ما يعنّف برجائه، ولا يسأل ما يخاف منعه، ولا يمتهن ما لا يستعين بالقدرة عليه. سئل أعرابي: أي الأسباب أعون على تذكية العقل، وأيّها أعون على صلاح السيرة؟ فقال: أعونها على تذكية العقل التعلّم، وأعونها على صلاح السيرة القناعة. وسئل عن أجود المواطن أن يختبر فيه العقل؛ فقال: عند التدبير. وسئل: هل يعمل العاقل بغير الصواب؟ فقال: ما كل ما عمل بإذن العقل فهو صواب. وسئل: أيّ الأشياء أدل على عقل العاقل؟ قال: حسن التدبير. وسئل: أيّ منافع العقل أعظم؟ قال: اجتناب الذنوب. وقال بزرجمهر: أفره «1» ما يكون من الدواب لا غنى بها عن السوط، وأعفّ من تكون من النساء لا غنى بها عن الزوج، وأعقل من يكون من الرجال لا غنى به عن مشورة ذوي الألباب. سئل أعرابي عن العقل متى يعرف؟ قال: إذا نهاك عقلك عما لا ينبغي فأنت عاقل. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: العقل نور في القلب نفرّق به بين الحق والباطل، وبالعقل عرف الحلال والحرام، وعرفت شرائع الإسلام ومواقع الأحكام، وجعله الله نورا في قلوب عباده يهديهم إلى هدى، ويصدّهم عن ردى. ومن جلالة قدر العقل أنّ الله تعالى لم يخاطب إلا ذوي العقول. فقال عز وجل:

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «1» . وقال: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا «2» . أي عاقلا. وقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «3» . أي لمن كان له عقل. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: العاقل يحلم عمن ظلم، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق إلى البرّ من فوقه. وإذا رأى باب برّ انتهزه، وإذا عرضت له فتنة اعتصم بالله وتنكّبها «4» . وقال صلّى الله عليه وسلم: قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له. وإذا كان العقل أشرف أعلاق النفس، وكان بقدر تمكّنه فيها يكون سموّها لطلب الفضائل وعلوها لابتغاء المنازل، كانت قيمة كل امريء عقله، وحليته التي يحسن بها في أعين الناظرين فضله. ولعبد الله بن محمد: تأمّل بعينيك هذا الأنام ... وكن بعض من صانه نبله فحلية كلّ فتى فضله ... وقيمة كلّ امرء عقله ولا تتّكل في طلاب العلا ... على نسب ثابت أصله فما من فتى زانه أهله ... بشيء وخالفه فعله ويقال: العقل إدراك الأشياء على حقائقها فمن أدرك شيئا على حقيقته فقد كمل عقله. وقيل: العقل مرآة الرجل. أخذه بعض الشعراء فقال: عقل هذا المرء مرآ ... ة ترى فيها فعاله فإذا كان عليها ... صدأ فهو جهاله

وإذا أخلصه الله صقالا «1» وصفا له ... فهي تعطي كلّ حيّ ناظر فيها مثاله ولآخر: لا تراني أبدا أك ... رم ذا المال لماله لا ولا تزرى بمن يع ... قل عندي سوء حاله إنما أقضي على ذا ... ك وهذا بفعاله أنا كالمرآة ألقى ... كلّ وجه بمثاله كيفما قلّبني الدّه ... ر يجدني من رجاله ولبعضهم: إذا لم يكن للمرء عقل فإنّه ... وإن كان ذا نبل على الناس هيّن وإن كان ذا عقل أجلّ لعقله ... وأفضل عقل عقل من يتديّن وقال آخر: إذا كنت ذا عقل ولم تك ذا غنى ... فأنت كذي رحل وليس له بغل وإن كنت ذا مال ولم تك عاقلا ... فأنت كذي بغل وليس له رحل ويقال: إنّ العقل عين القلب، فإذا لم يكن للمرء عقل كان قلبه أكمه «2» . وقال صالح بن جناح: ألا إنّ عقل المرء عينا فؤاده ... وإن لم يكن عقل فلا يبصر القلب وقال بعض الفلاسفة: الهوى مصاد العقل. ولعبد الله بن محمد: ثلاث من كنّ فيه حوى الفضل وإن كان راغبا عن سواها: صحة العقل، والتمسك بالعدل، وتنزيه نفسه عن هواها. ولمحمد بن الحسين بن دريد: وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا

وقال بعض الحكماء: ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من العقل، وما عصي بشيء أحبّ إليه من السّتر. وقال مسلمة بن عبد الملك: ما قرأت كتابا قط لأحد إلا عرفت عقله منه. وقال يحيى بن خالد: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاب يدل على عقل كاتبه، والرسول يدل على عقل مرسله، والهديّة تدل على عقل مهديها. بين عمر بن عبد العزيز ورجل من أعوانه: واستعمل عمر بن عبد العزيز رجلا، فقيل له: إنه حديث السن ولا نراه يضبط عملك؛ فأخذ العهد منه وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك؛ فقال الفتى: وليس يزيد المرء جهلا ولا عمى ... إذا كان ذا عقل، حداثة سنّه فقال عمر: صدق، وردّ عليه عهده. وقال جثّامة بن قيس يصف عاقلا: بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... تخاطبه من كلّ أمر عواقبه ولغيره في المعنى: بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... يرى بصواب الرأي ما هو واقع وقال شبيب بن شيبة لخالد بن صفوان: إني لأعرف أمرا لا يتلاقى فيه اثنان إلا وجب النّجح بينهما؛ قال له خالد: ما هو؟ قال العقل، فإنّ العاقل لا يسأل إلا ما يجوز، ولا يردّ عما يمكن. فقال له خالد: نعيت اليّ نفسي، إنّا أهل بيت لا يموت منا أحد حتى يرى خلفه. وقال عبد الله بن الحسين لابنه محمد: يا بني، احذر الجاهل وإن كان لك ناصحا كما تحذر العاقل إذا كان لك عدوّا؛ ويوشك الجاهل أن تورّطك مشورته في بعض

اغترارك «1» فيسبق إليك مكر العاقل؛ وإيّاك ومعاداة الرجال، فإنك لا تعدمنّ منها مكر حليم عاقل، أو معاندة جاهل. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: لا مال أعود من عقل، ولا فقر أضرّ من جهل. ويقال: لا مروءة لمن لا عقل له. وقال بعض الحكماء: لو استغنى أحد عن الأدب لاستغنى عنه العاقل، ولا ينتفع بالأدب من لا عقل له، كما لا ينتفع بالرياضة إلا النجيب. وكان يقال: بالعقل تنال لذة الدنيا، لأنّ العاقل لا يسعى إلا في ثلاث: مزيّة لمعاش، أو منفعة لمعاد، أو لذة في غير محرم. ولبعضهم: إذا أحببت أقواما فلاصق ... بأهل العقل منهم والحياء فإنّ العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء «2» لمحمد بن يزيد: وأفضل قسم الله للمرء عقله ... وليس من الخيرات شيء يقاربه إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه يعيش الفتى بالعقل في الناس إنّه ... على العقل يجري علمه وتجاربه ومن كان غلّابا بعقل ونجدة ... فذو الجدّ في أمر المعيشة غالبه فزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محصورا عليه مكاسبه وشين الفتى في الناس قلّة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه «3» ولبعضهم:

الحكمة

العقل يأمر بالعفاف وبالتّقي ... وإليه يأوي الحلم حين يؤول «1» فإن استطعت فخذ بفضلك فضله ... إن العقول يرى لها تفضيل ولبعضهم: إذا جمّع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل «2» ولا خير في عقل إذا لم يكن غنى ... ولا خير في غمد إذا لم يكن نصل وإن كان للإنسان عقل فعقله ... هو النّصل والإنسان من بعده فضل ولبعضهم: يمثل ذو العقل في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعه ... لما كان في نفسه مثّلا «3» رأى الهمّ يفضي إلى آخر ... فصيّر آخره أوّلا وذو الجهل يأمن أيّامه ... وينسى مصارع من قد خلا «4» الحكمة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أخلص عبد العمل لله أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وقال عليه الصلاة والسلام: الحكمة ضالة «5» المؤمن، يأخذها ممن سمعها ولا يبالي من أيّ وعاء خرجت. وقال عليه الصلاة والسلام: لا تضعوا الحكمة عند غير اهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. وقال الحكماء: لا يطلب الرجل حكمة إلا بحكمة عنده.

نوادر من الحكمة

وقالوا: إذا وجدتم الحكمة مطروحة على السكك «1» فخذوها. وفي الحديث: خذوا الحكمة ولو من ألسنة المشركين. وقال زياد: أيها الناس، لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا؛ فإن الشاعر يقول: اعمل بعلمي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري نوادر من الحكمة قيل لقسّ بن ساعدة: ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل نفسه. قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. وقال الحسن: التقدير نصف الكسب، والتّؤدة «2» نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم. وقالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كرضا عن الله، وأحقّ ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل. وقالوا: أفضل البرّ الزحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقوق مكاتمة الأدنين «3» ، ورأس العقل الإصابة بالظن. وقالوا: التفكّر نور والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والعلم حياة، والأول سابق، والآخر لاحق، والسعيد من وعظ بغيره. ابن الظرب وحمة في مجلس ملك حمير: حدّث أبو حاتم قال: حدثني أبو عبيدة قال: حدّثني غير واحد من هوازن من أولى العلم، وبعضهم قد أدرك أبوه الجاهلية- قالوا: اجتمع عمرو بن الظّرب

العدواني، وحممة بن رافع الدّوسي- ويزعم النّسّاب أن ليلى بنت الظّرب أم دوس، وزينب بنت الظرب أمّ ثقيف- عند ملك من ملوك حمير، فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان. فقال عمرو لحممة: أين تحبّ أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرّثية العديم، وعند ذي الخلّة الكريم، والمعسر الغريم، والمستضعف الهضيم. قال: من أحقّ الناس بالمقت «1» ؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصّوّال، والعيّ القوّال. قال: فمن أحقّ الناس بالمنع؟ قال: الحريص الكاند، والمستميد الحاسد، والملحف الواجد «2» . قال: من أجدر الناس بالصنيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وإذا مطل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح. قال: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهره جشع، وباطنه طبع. قال: فمن أحلم الناس؟ قال: من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظّفر: قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من أخذ رقاب الامور بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيّب دبر أذنيه «3» . قال: فمن أخرق الناس؟ قال: من ركب الخطار، واعتسف العثار «4» ، وأسرع في البدار «5» قبل الاقتدار. قال: من أجود الناس؟ قال: من بذل الموجود، ولم يأس على المعهود. قال: من أبلغ الناس؟ قال: من جلّى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبّق المفصل قبل التحريز. قال: من أنعم الناس عيشا؟ قال: من تحلّى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف. قال: فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النّعم، وسخط على القسم، واستشعر النّدم، على فوت ما لم يحتم. قال: من أغنى الناس، قال: من استشعر اليأس، وأظهر التجمّل للناس، واستكثر قليل النعم، ولم يسخط على القسم. قال: فمن أحكم الناس؟ قال: من صمت فادّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر. قال: من أجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنما، والتجاوز مغرما.

لأبي عبيد في تفسير غريب ما سبق:

لأبي عبيد في تفسير غريب ما سبق: وقال أبو عبيدة: الخلّة: الحاجة، والخلّة: الصداقة. والكاند: الذي يكفر النعمة، والكنود: الكفور. والمستعيد: مثل المستمير، وهو المستعطي، ومنه اشتقاق المائدة لأنها تماد. وكنع: تقبّض، يقال منه: تكنّع جلده، إذا تقبّض، يريد أنه ممسك بخيل. والجشع: أسوأ الحرص. والطّبع: الدّنس. والاعتساف: ركوب الطريق على غير هداية، وركوب الأمر على غير معرفة. والمزيز: من قولهم: هذا أمزّ من هذا، أي أفضل منه وأزيد. والمطبّق من السيوف: الذي يصيب المفاصل لا يجاوزها. وقال عمرو بن العاص: ثلاث لا أناة «1» فيهن: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميت، وتزويج الكفء. وقال: ثلاثة لا يندم على ما سلف إليهم: الله عز وجل فيما عمل له، والمولى الشّكور فيما أسدي إليه «2» ، والأرض الكريمة فيما بذر فيها. وقالوا: ثلاثة لا بقاء لها: ظلّ الغمام، وصحبة الأشرار؛ والثناء الكاذب. وقالوا: ثلاثة لا تكون إلا في ثلاثة. الغنى في النفس، والشرف في التواضع، والكرم في التقوى. وقالوا: ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثة: ذو اليأس لا يعرف إلا عند الّلقاء، وذو الأمانة لا يعرف إلا عند الأخذ والعطاء، والإخوان لا يعرفون إلا عند النوائب «3» . وقالوا: من طلب ثلاثة لم يسلم من ثلاثة: من طلب المال بالكيمياء لم يسلم من الإفلاس؛ ومن طلب الدين بالفلسفة لم يسلم من الزندقة، ومن طلب الفقه بغرائب الحديث لم يسلم من الكذب. وقالوا: عليكم بثلاث: جالسوا الكبراء، وخالطوا الحكماء، وسائلوا العلماء. وقالوا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: أخوف ما أخاف عليكم: شحّ مطاع،

وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه. واجتمعت علماء العرب والعجم على أربع كلمات: لا تحمل على ظنّك ما لا تطيق: ولا تعمل عملا لا ينفعك، ولا تغترّ بامرأة، ولا تثق بمال وإن كثر. وقال الرياحيّ في خطبته بالمربد: يا بني رياح، لا تحقروا صغيرا تأخذون عنه، فإني أخذت من الثعلب روغانه «1» ، ومن القرد حكايته، ومن السّنّور ضرعه «2» ، ومن الكلب نصرته، ومن ابن آوى حذره؛ ولقد تعلمت من القمر سير الليل، ومن الشمس ظهور الحين بعد الحين. وقالوا: ابن آدم هو العالم الكبير الذي جمع الله فيه العالم كلّه، فكان فيه بسالة الليث، وصبر الحمار، وحرص الخنزير، وحذر الغرب، وروغان الثعلب، وضرع السّنّور، وحكاية القرد، وجبن الصّفرد «3» . ولما قتل كسري بزرجمهر وجد في منطقته مكتوبا: إذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بالناس عجز، وإذا كان القدر حقّا فالحرص باطل، وإذا كان الموت راصدا فالطمأنينة حمق. وقال أبو عمرو بن العلاء: خذ الخير من أهله. ودع الشر لأهله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تنهكوا وجه الأرض فإن شحمتها في وجهها. وقال: بع الحيوان أحسن ما يكون في عينك. وقال: فرّقوا بين المنايا، واجعلوا من الرأس رأسين، ولا تلبثوا بدار معجزة. وقالوا: إذا قدمت المصيبة تركت التّعزية، وإذا قدم الإخاء سمج الثناء «4» .

البلاغة وصفتها

وفي كتاب للهند: ينبغي للعاقل أن يدع التماس ما لا سبيل إليه، وإلا عدّ جاهلا، كرجل أراد أن يجري السفن في البرّ والعجل في البحر، وذلك ما لا سبيل إليه. وقالوا: إحسان المسيء أن يكفّ عنك أذاه، وإساءة المحسن أن يمنعك جدواه. وقال الحسن البصري: اقدعوا «1» هذه النفوس فإنها طلعة، وحادثوها بالذّكر فإنها سريعة الدّثور؛ فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. يقول: حادثوها بالحكمة كما يحادث السيف بالصّقال، فإنها سريعة الدّثور: يريد الصدأ الذي يعرض للسيف. واقدعوها: من قدعت أنف الجمل، إذا دفعته، فإنها طلعة: يريد متطلّعة إلى الأشياء. قال أردشير بن بابك: إنّ للآذان مجّة وللقلوب مللا؛ ففرّقوا بين الحكمتين يكن ذلك استحماما. البلاغة وصفتها قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة وعدل بك عن النار. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: فما بصّرك مواضع رشدك، وعواقب غيّك. قال: ليس هذا أريد. قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن أن يسمع لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول. قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا معشر النبيين بكاء- أي قليلو الكلام، وهو جمع بكيء. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله- قال السائل: ليس هذا أريد. قال: فكأنك تريد تخيّر الألفاظ في حسن إفهام؟ قال: نعم. قال: إنك إن أردت تقرير حجّة الله في عقول المكلّفين وتخفيف المئونة على المستمعين، وتزيين المعاني في قلوب المستفهمين، بالألفاظ الحسنة، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الناطقة عن الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب.

وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل. وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: إيجاز الكلام، وحذف الفضول، وتقريب البعيد. وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال ألّا يؤتى القائل من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء بيان القائل. وقال معاوية لصحار العبديّ: ما البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تبطيء، وتصيب فلا تخطيء. ثم قال: أقلني «1» يا أمير المؤمنين. قال: قد أقلتك. قال: ألّا تبطيء ولا تخطيء. قال أبو حاتم: استطال الكلام الأول فاستقال وتكلم بأوجز منه. وسمع خالد بن صفوان رجلا يتكلم ويكثر، فقال: اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بخفة اللسان وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى والقصد إلى الحجة فقال له: أبا صفوان، ما من ذنب أعظم من اتفاق الصّنعة. وتكلم ربيعة الرأي يوما فأكثر، وإلى جنبه أعرابيّ، فالتفت إليه فقال: ما تعدّون البلاغة يا أعرابيّ؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب. قال: فما تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم، فكأنما ألقمه حجرا. ومن أمثالهم في البلاغة قولهم: يقل الحزّ ويطبّق المفصل. وذلك أنهم شبهوا البليغ الموجز الذي يقل الكلام ويصيب الفصول والمعاني، بالجزار الرفيق الذي يقلّ حزّ اللحم ويصيب مفاصله. ومثله قولهم: يضع الهناء مواضع النّقب أي لا يتكلم إلا فيما يجب فيه الكلام، مثل الطالي الرفيق الذي يضع الهناء مواضع النّقب. والهناء: القطران. والنّقب: الجرب.

وقولهم: قرطس «1» فلان فأصاب الثغرة، وأصاب عين القرطاس. كل هذا مثل للمصيب في كلامه الموجز في لفظه. قيل للعتابي: ما البلاغة؟ قال: إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق. وقيل لأعرابيّ: من أبلغ الناس؟ قال: أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة. وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: نشر الكلام بمعانيه إذا قصر، وحسن التأليف له إذا طال. وقيل لآخر ما البلاغة؟ فقال: قرع الحجة ودنوّ الحاجة. وقيل لآخر ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل «2» . قيل لغيره: ما البلاغة؟ قال: إقلال في إيجاز، وصواب مع سرعة جواب. قيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام. وقيل لبعضهم: من أبلغ الناس؟ قال: من ترك الفضول واقتصر على الإيجاز. وكان يقال: رسول الرجل مكان رأيه، وكتابه مكان عقله. وقال جعفر بن محمد عليه السلام: سمّي البليغ بليغا لأنه يبلغ حاجته بأهون سعيه. وسئل بعض الحكماء عن البلاغة فقال: من أخذ معاني كثيرة فأدّاها بألفاظ قليلة، وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظا كثيرا، فهو بليغ. وقالوا: البلاغة ما حسن من الشعر المنظوم نثره، ومن الكلام المنثور نظمه. وقالوا: البلاغة ما كان من الكلام حسنا عند استماعه، موجزا عند بديهته. وقيل: البلاغة لمحة دالّة على ما في الضمير. وقال بعضهم: إذا كفاك الايجاز فالإكثار عيّ، وإنما يحسن الإيجاز إذا كان هو البيان. ولبعضهم:

خير الكلام قليل ... على كثير دليل والعيّ معنى قصير ... يحويه لفظ طويل وقال بعض الكتاب: البلاغة معرفة الفصل من الوصل. وأحسن الكلام القصد وإصابة المعنى. قال الشاعر: وإذا نطقت فلا تكن أسرا ... واقصد فخير الناس من قصدا «1» وقال آخر: وما أحد يكون له مقال ... فيسلم من ملام أو أثام «2» وقال: الدهر ينقص تارة ويطول ... والمرء يصمت مرّة ويقول والقول مختلف إذا حصّلته ... بعض يردّ وبعضه مقبول وقال: إذا وضح الصواب فلا تدعه ... فإنّك كلّما ذقت الصوابا ... وجدت له على الّلهوات بردا ... كبرد الماء حين صفا وطابا «3» وقال آخر: ليس شأن البليغ إرساله القو ... ل بطول الإسهاب والإكثار إنما شأنه التلطّف للمعنى بحسن الإيراد والإصدار «4»

وجوه البلاغة

وجوه البلاغة البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدلالة. وكل منها له حظ من البلاغة والبيان، وموضع لا يجوز فيه غيره. ومنه قولهم: لكل مقام مقال؛ ولكل كلام جواب؛ ورب إشارة أبلغ من لفظ. فأما الخط والإشارة فمفهومان عند الخاصة وأكثر العامة؛ وأما الدلالة فكل شيء دلّك على شيء فقد أخبرك به، كما قال الحكيم: أشهد أن السموات والأرض آيات دالّات، وشواهد قائمات، كلّ يؤدّي عنك الحجة، ويشهد لك بالرّبوبية. وقال الآخر: سل الأرض: من غرس أشجارك، وشقّ أنهارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك إخبارا أجابتك اعتبارا «1» . وقال الشاعر: لقد جئت أبغي مجيرا ... فجئت الجبال وجئت البحورا فقال لي البحر إذ جئته ... فكيف يجير ضرير ضريرا وقال آخر: نطقت عينه بما في الضمير وقال نصيب بن رباح: فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «2» يريد: لو سكتوا لأثنت عليك حقائب الإبل التي يحتقبها الرّكب من هباتك وهذا الثناء إنما هو بالدلالة باللفظ. وقال حبيب:

الدار: ناطقة وليست تنطق ... بدثورها أنّ الجديد سيخلق «1» وهذا في قديم الشعر وحديثه وطارف «2» الكلام وتليده أكثر من أن يحيط به وصف أو يأتي من ورائه نعت. وقال رجل للعتّابي: ما البلاغة؟ قال: كل من بلّغك حاجته، وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ. قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: اسمع منّي، وافهم عني؛ أو يمسح عثنونه «3» ، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته من غير موجب، أو يتساعل من غير سعلة أو ينبهر «4» في كلامه. وقال الشاعر: مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع وهذا كله من العيّ. وقال أبرويز لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربع، إن التمس لها خامسة لم توجد، فإن نقصت منها واحدة لم تتمّ؛ وهي: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وإخبارك عن الشيء؛ فإذا طلبت فأسجح «5» ، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحكم، وإذا أخبرت فحقّق، واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول. يريد الكلام الذي تقل حروفه وتكثر معانيه. وقال ربيعة الرأي: إني لأسمع الحديث عطلا فأشنّفه «6» وأقرّطه فيحسن، وما

فصول من البلاغة

زدت فيه شيئا ولا غيّرت له معنى. وقالوا: خير الكلام ما لم يحتج بعده إلى كلام. وقال يحيى: الكلام ذو فنون، وخيره ما وفق له القائل، وانتفع به السامع. وللحسن بن جعفر: عجبت لإدلال العييّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحق أعلما وفي الصمت ستر العييّ وإنّما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما «1» وصف أعرابي بليغا فقال: كأن الألسن ريضت «2» فما تنعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا ببيانه. وصف أبو الوجيه بلاغة رجل فقال: كان والله يشول «3» بلسانه شولان البروق، ويتخلل به تخلل الحيّة. وللعرب من موجز اللفظ ولطيف المعنى فصول عجيبة، وبدائع غريبة. وسنأتي على صدر منها إن شاء الله. فصول من البلاغة قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها، فقال: من كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فلينبذه، ومن كان في فيه فليلفظه، ومن كان في صدره فلينفثه. فعجب الناس من حسن ما فصّل. وقيل لابن السّمّال الأسدي أيام معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف، وظالم لا ينتهي. وقيل لشبيب بن شيبة عند باب الرشيد رحمه الله تعالى: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجيا والخارج راضيا.

وقال حسان بن ثابت في عبد الله بن عباس: إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جذّا ولا هزلا ولقي الحسين بن عليّ رضوان الله عليهما الفرزدق في مسيره إلى العراق؛ فسأله عن الناس؛ فقال: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر في السماء. وقال مجاشع النهشلي: الحق ثقيل؛ فمن بلغه اكتفى، ومن جاوزه اعتدى. وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: كم بين المشرق والمغرب؟ فقال مسيرة يوم الشمس: قيل له: فكم بين السماء والأرض؟ قال: مسيرة ساعة لدعوة مستجابة. وقيل لأعرابي: كم بين موضع كذا إلى موضع كذا؟ قال: بياض يوم وسواد ليلة. وشكا قوم إلى المسيح عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تغفر لكم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قيمة كل إنسان ما يحسن. وقيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل. قيل له: فما أبعد شيء؟ قال: الأمل. قيل له: فما أوحش شيء؟ قال: الميّت. قيل له: فما أنس شيء؟ قال: الصاحب المواتي. مرّ عمرو بن عبيد بسارق يقطع، فقال: سارق السريرة «1» قطع سارق العلانية. وقيل للخليل بن أحمد: مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسنّ: أشحذ ولا أقطع. وقيل لعقيل بن علّفة: مالك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومر خالد بن صفوان برجل صلبه الخليفة، فقال: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية.

النعمان وعدي بن زيد:

ومرّ أعرابيّ برجل صلبه السلطان، فقال: من طلّق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحقّ فالجذع راحلته «1» . النعمان وعدي بن زيد: ومن النطق بالدلالة ما حدّث به العباس بن الفرج الريّاشي قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد العباديّ في ظل شجرة مورقة ليلهو النعمان هناك، فقال له عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: ما تقول: قال: تقول: ربّ شرب قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزّلال ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال فتنغّص على النعمان ما هو فيه. وقال ابن الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد. وقال رجل لخالد بن صفوان: إنك لتكثر. قال: أكثر لضربين: أحدهما فيما لا تغني فيه القلة، والآخر لتمرّس اللسان، فإن حبسه يورث العقلة «2» . وكان خالد بن صفوان يقول: لا تكون بليغا حتى تكلّم أمتك السوداء في الليلة الظلماء في الحاجة المهمّة بما تكلم به في نادي قومك. وإنما اللسان عضو إذا مرّنته مرن، وإذا تركته لكن «3» كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبهه، والرّجل إذا عوّدت المشي مشت. بين نوفل وامرأته: وكان نوفل بن مساحق إذا دخل على امرأته صمت، فإذا خرج عنها تكلم. فقالت له: إذا كنت عندي سكتّ، وإذا كنت عند الناس تنطق! قال: إني أجلّ عن دقيقك وتدقّين عن جليلي.

وذكر شبيب بن شيبة خالد بن صفوان فقال: ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية. وهذا كلام لا يعرف قدره إلا أهل صناعته. ووصف رجل آخر فقال: أتيناه فأخرج لسانه كأنه مخراق لاعب «1» . ودخل معن بن زائدة على المنصور يقارب خطوه، فقال المنصور: لقد كبرت سنك؛ قال: في طاعتك؛ قال: وإنك لجلد؛ قال: على أعدائك؛ قال: أرى فيك بقية؛ قال: هي لك. وكان عبد الله بن العباس بليغا، فقال فيه معاوية: إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعيّ ولم يثن اللسان على هجر «2» يصرّف بالقول اللسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر وتكلم صعصعة بن صوحان عند معاوية فعرق، فقال له معاوية: بهرك القول؟ قال: الجياد نضّاحة «3» بالعرق. وكتب ابن سيابة إلى عمرو بن بانة: إنّ الدهر قد كلح «4» فجرح، وطمح فجمح، وأفسد ما صلح، فإن لم تعن عليه فضح. ومدح رجل من طيء كلام رجل فقال: هذا الكلام يكتفى بأولاه، ويشتفى بأخراه. ووصف أعرابيّ رجلا فقال: إنّ رفدك لنجيح، وإنّ خيرك لصريح، وإنّ منعك لمريح. ودخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام، فقدّم خصما له إلى قاض لعبد الملك، وكان خصمه شيخا كبيرا. فقال له القاضي: أتقدّم شيخا كبيرا؟ فقال له إياس:

كتاب من عمرو بن مسعدة إلى المأمون:

الحق أكبر منه؟ قال له: اسكت؛ قال: فمن ينطق بحجتي؟ قال: ما أظنك تقول حقا حتى تقوم؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره بالخبر. فقال: اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشأم حتى لا يفسد عليّ الناس. ومن الأسجاع قول ابن القرّيّة، وقد دعي لكلام فاحتبس القول عليه، فقال: قد طال السّمر، وسقط القمر، واشتدّ المطر فما انتظر. فأجابه فتى من عبد القيس: قد طال الأرق، وسقط الشفق، فلينطق من نطق. كتاب من عمرو بن مسعدة إلى المأمون: قال أحمد بن يوسف الكاتب: دخلت على المأمون وبيده كتاب لعمرو بن مسعدة، وهو يصعّد في ذراه، ويقوم مرة ويقعد أخرى، ففعل ذلك مرارا، ثم التفت إليّ فقال: أحسبك مفكرا فيما رأيت؟ قلت: نعم، وقى الله عز وجل أمير المؤمنين المكاره، فقال: ليس بمكروه، ولكن قرأت كلاما نظير خبر خبّرني به الرشيد، سمعته يقول: إن البلاغة لتقارب من المعنى البعيد وتباعد من حشو الكلام، ودلالة بالقليل على الكثير. فلم أتوهّم أن هذا الكلام يستتبّ على هذه الصفة حتى قرأت هذا الكتاب، فكان استعطافا على الجند، وهو: «كتابي إلى أمير المؤمنين أيده الله، ومن قبلي من أجناده وقوّاده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم» . فأمر بإعطائهم ثمانية أشهر. ووقع جعفر البرمكي إلى كتّابه: إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات فافعلوا. وأمره هارون الرشيد أن يعزل أخاه الفضل عن الخاتم ويأخذه إليه عزلا لطيفا فكتب إليه: قد رأى أمير المؤمنين أن ينقل خاتم خلافته من يمينك إلى شمالك. فكتب إليه الفضل: ما انتقلت عني نعمة صارت إليك ولا خصّتك دوني. ووقّع جعفر في رقعة رجل تنصّل إليه من ذنب: تقدمت لك طاعة، وظهرت

من بلاغة المأمون:

منك نصيحة، كانت بينهما نبوة «1» ، ولن تغلب سيئة حسنتين. قال الفضل بن يحيى لأبيه: مالنا نسدي إلى الناس المعروف فلا نرى من السرور في وجوههم عند انصرافهم ببّرنا، ما نراه في وجوههم عند انصرافهم ببر غيرنا؟ فقال له يحيى: إن آمال الناس فينا أطول منها في غيرنا، وإنما يسرّ الإنسان بما بلّغه أمله. قيل ليحيى: ما الكرم؟ قال ملك في زي مسكين؛ قيل: فما الفرعنة؟ قال: مسكين في بطش عفريت. قيل: فما الجود؟ قال: عفو بعد قدرة. من بلاغة المأمون: أتي المأمون برجل قد وجب عليه الحدّ، فقال وهو يضرب: قتلتني يا أمير المؤمنين؛ قال الحقّ قتلك: قال: ارحمني.؛ قال: لست أرحم بك ممن أوجب عليك الحد. وسأل المأمون عبد الله بن طاهر في شيء، فأسرع في ذلك؛ فقال له المأمون: فإنّ الله عز وجل قد قطع عذر العجول بما مكنه من التثبّت، وأوجب الحجة على القلق بما بصّره من فضل الأناة. قال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أكتبه؟ قال: نعم، فكتبه. بين المأمون وإبراهيم بن المهدي: قال إبراهيم بن المهدي: قال لي المأمون: أنت الخليفة الأسود؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنت مننت علي بالعفو، وقد قال عبد بني الحسحاس: أشعار عبد بني الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق إن كنت عبدا فنفسي حرّة كرما ... أو أسود الجلد إني أبيض الخلق فقال المأمون: يا عم، خرّجك الهزل إلى الجد، ثم أنشأ يقول:

من بلاغة زبيدة:

ليس يرزي السواد بالرجل الشّهم ولا بالفتى الأديب الأريب إن يكن للسواد منك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي وقال المأمون: استحسن من قول الحكماء: الجود بذل الموجود، والبخل بطر «1» بالمعبود عز وجل. من بلاغة زبيدة: قالت أم جعفر زبيدة بنت جعفر للمأمون حين دخلت عليه بعد قتل ابنها: الحمد لله الذي ادخرك لي لمّا أثكلني ولدي، ما ثكلت ولدا كنت لي عوضا منه. فلما خرجت قال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما ظننت أن نساء جبلن على مثل هذا الصبر. وقال أبو جعفر لعمرو بن عبيد: أعنّي بأصحابك يا أبا عثمان. قال: ارفع علم الحقّ يتبعك أهله. آفات البلاغة لأبي داود الإيادي: قال محمد بن منصور كاتب إبراهيم، وكان شاعرا راويا، وطالبا للنحو علّامة- قال: سمعت أبا داود الإيادي، وجرى شيء من ذكر الخطب وتمييز الكلام، فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق «2» في غير أهل البادية نقص، والنظر في عيوب الناس عيّ، ومسّ اللحية هلك، والخروج مما بني عليه الكلام إسهاب. قال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطّبع، وعمودها الدربة [وجناحاها رواية

للفضل في الإيجاز:

الكلام] «1» ، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونة بعلّة الاستكراه. وأنشدني بيتا في خطباء إياد: يومون باللفظ الخفيّ وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء للفضل في الإيجاز: وقال ابن الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال حذف الفضول، وتقريب البعيد. وتكلم ابن السماك يوما وجارية له تسمع؛ فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده! قال: أردّده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد ملّه من فهمه. باب الحلم ودفع السيئة بالحسنة قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «2» . وقال رجل لعمرو بن العاص: والله لأتفرّغنّ لك. قال: هنا لك وقعت في الشّغل. قال: كأنك تهدّدني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنّ لك عشرا. قال: وأنت والله لئن قلت لي عشرا لم أقل لك واحدة. وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: والله لأسبّنّك سبّا يدخل القبر معك. قال: معك يدخل لا معي. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك اليوم أبو أيوب السختياني حتى رحمناك. قال: إياه فارحموا.

وشتم رجل الشّعبي، فقال له: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك. وشتم رجل أبا ذرّ، فقال: يا هذا، لا تغرق في شتمنا ودع للصّلح موضعا، فإنا لا نكافيء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. ومرّ المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شرّا، فقال خيرا. فقيل له: إنهم يقولون شرّا وتقول لهم خيرا. فقال: كلّ واحد ينفق مما عنده. وقال الشاعر: ثالبني عمرو وثالبته ... فأثّم المثلوب والثّالب «1» قلت له خيرا وقال الخنى ... كلّ على صاحبه كاذب «2» وقال آخر: وذي رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه حين ليس له حلم إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها تلك السّفاهة والإثم «3» فداريته بالحلم والمرء قادر ... على سهمه ما كان في كفّه السهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم: ما تجرّع عبد في الدنيا جرعة أحبّ إلى الله من جرعة غيظ ردّها بحلم، أو جرعة مصيبة ردّها بصبر. وكتب رجل إلى صديق له وبلغه أنه وقع فيه: لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالكا وأنشد طاهر بن عبد العزيز: إذا ما خليلي أسا مرّة ... وقد كان من قبل ذا مجملا «4» تحمّلت ما كان من ذنبه ... فلم يفسد الآخر الأوّلا

صفة الحلم وما يصلح له

صفة الحلم وما يصلح له من حلم الأحنف: قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري؛ رأيته قاعدا بفناء داره، محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أتي برجل مكتوف ورجل مقتول؛ فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك. فو الله ما حلّ حبوته «1» ولا قطع كلامه. ثم التفت إلى ابن أخيه وقال له: يا بن أخي، أثمت بربّك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمّك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بنيّ فوار أخاك، وحلّ كتاف ابن عمك، وسق إلى أمّه مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. ثم أنشأ يقول: إني امرو لا يطّبي حسبي «2» ... دنس يهجّنه ولا أفن «3» من منقر في بيت مكرمة ... والغصن ينبت حوله الغصن خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفّة لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن وقال رجل للأحنف بن قيس: علّمني الحلم يا أبا بحر. قال: هو الذّل يا بن أخي، أفتصبر عليه؟ وقال الأحنف: لست حليما ولكنّي أتحالم. وقيل له: من أحلم: أنت أم معاوية؟ قال: تالله ما رأيت أجهل منكم؛ إنّ معاوية يقدر فيحلم، وأنا أحلم ولا أقدر؛ فكيف أقاس عليه أو أدانيه؟ وقال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ؟ قال: إن شئت أخبرتك بخلّة «4» ، وإن شئت بخلّتين، وإن شئت بثلاث. قال: فما الخلّة؟

قال: كان أقوى الناس على نفسه. قال: فما الخلّتان؟ قال: كان موقّي الشر، ملقّى الخير. قال: فما الثلاث؟ قال: كان لا يجهل، ولا يبغي، ولا يبخل. وقيل لقيس بن عاصم: ما الحلم؟ قال: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك. وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة. وقال لقمان الحكيم: ثلاثة لا تعرفهم إلا في ثلاثة: لا تعرف الحليم إلا عند الغضب. ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا تعرف أخاك إلا إذا احتجت إليه. وقال الشاعر: ليست الأحلام في حين الرضا ... إنما الأحلام في حين الغضب وفي الحديث: «أقرب ما يكون المرء من غضب الله إذا غضب» . وقال الحسن: المؤمن حليم لا يجهل وإن جهل عليه. وتلا قول الله عز وجل: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «1» . وقال معاوية: إني لأستحي من ربي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري. وقال مؤرّق العجلي: ما تكلمت في الغضب بكلمة ندمت عليها في الرضا. وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما غضبي في نعليّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتهما ومضيت. وقالوا: إذا غضب الرجل فليستلق على قفاه، وإذا عيي «2» فليراوح رجليه. وقيل للأحنف: ما الحلم؟ فقال: قول إن لم يكن فعل، وصمت إن ضرّ قول.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من لانت كلمته وجبت محبته. وقال: حلمك على السفيه يكثّر أنصارك عليه. وقال الأحنف: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات. وقال: رب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشدّ منه. وأنشد: رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... كذلك بعض الشّرّ أهون من بعض وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز ما يكره، فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزّني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا. انصرف إذا شئت. وقال الشاعر في هذا المعنى: لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزّوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان كاسفة ... لا ذلّ عجز ولكن ذلّ أحلام «1» ولآخر: إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذلّ ولو شاء لا نتصر «2» ومن أحسن بيت في الحلم قول كعب بن زهير: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل وقال الأحنف: آفة الحلم الذّل. وقال: لا حلم لمن لا سفيه له. وقال: ما قلّ سفهاء قوم إلا ذلوا. وأنشد: لا بد للّسودد من رماح ... ومن رجال مصلتي السّلاح

يدافعون دونه بالرّاح ... ومن سفيه دائم النّباح وقال النابغة الجعديّ: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا «1» ولما أنشد هذين البيتين للنبي صلّى الله عليه وسلم، قال: لا يفضض الله فاك. فعاش مائة وسبعين سنة لم تنقض له ثنيّة. وقالوا: لا يظهر الحلم إلا مع الانتصار، كما لا يظهر العفو إلا مع الاقتدار. وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: كان سنان بن أبي حارثة أحلم من فرخ الطائر. قلت: وما حلم فرخ الطائر؟ قال: إنه يخرج من بيضة في رأس نيق «2» ، ولا يتحوّل حتى يتوفر ريشه ويقوى على الطيران. وللأشنندانيّ: وفي اللين ضعف والشراسة هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر وللفقر خير من غنى في دناءة ... وللموت خير من حياة على صغر «3» وما كلّ حين ينفع الحلم أهله ... ولا كلّ حال يقبح الجهل بالصبر وما بي على من لان لي من فظاظة ... ولكنني فظّ أبيّ على القسر «4» وقال آخر في مدح الحلم: إني أرى الحلم محمودا عواقبه ... والجهل أفنى من الأقوام أقواما ولسابق: ألم تر أن الحلم زين مسوّد ... لصاحبه والجهل للمرء شائن

فكن دافنا للجهل بالحلم تسترح ... من الجهل إنّ الحلم للجهل دافن ولغيره: ألا إنّ حلم المرء أكبر نسبة ... يسامي بها عند الفخار كريم فيا ربّ هب لي منك حلما فإننّي ... أرى الحلم لم يندم عليه حليم وقال بعض الحكماء: ما حلا عندي أفضل من غيظ أتجرّعه. وقال بعضهم: وفي الحلم روع للسفيه عن الأذى ... وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا «1» فتندم إذ لا تنفعنك ندامة ... كما ندم المغبون لما تفرّقا وقال عليّ عليه السلام: أول عوض الحليم عن حلمه أنّ الناس أنصاره على الجاهل. سئل كسرى أنو شروان: ما قدر الحلم؟ فقال: وكيف تعرف قدر ما لم ير كماله أحد. وقال معاوية لخالد بن المعمّر: كيف حبّك لعلي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: أحبه لثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى وفائه إذا وعد. وكان يقال: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظلم والباطل، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا سمعت الكلمة تؤذيك فطأطيء لها حتى تتخطاك. وقال الحسن: إنما يعرف الحلم عند الغضب. فإذا لم تغضب لم تكن حليما. وقال الشاعر:

وليس يتمّ الحلم للمرء راضيا ... إذا هو عند السخط لم يتحلّم كما لا يتمّ الجود للمرء موسرا ... إذا هو عند العسر لم يتجشم «1» وقال بعض الحكماء: إن أفضل واد ترى به الحلم، فإذا لم تكن حليما فتحلّم؛ فقلّما تشبّه رجل بقوم إلا كان منهم. وقال بعضهم: الحلم عدّة على السفيه، لأنك لا تقابل سفيها بالإعراض «2» عنه والاستخفاف بفعله إلا أذللته. ويقال: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم ثم قدر فعفا. وللأحنف، أو غيره: ولربما ضحك الحليم من الأذى ... وفؤاده من حرّه يتأوّه ولربما شكل الحليم لسانه ... حذر الجواب وإنّه لمفوّه «3» وقيل: ما استسبّ اثنان إلا غلب ألأمهما. وقال الأحنف: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال. وقال بعضهم: إياك وعزة الغضب، فإنها تصيّرك إلى ذلّ الاعتذار. وقيل: من حلم ساد، ومن تفهّم ازداد. وقال الأحنف: ما نازعني أحد قطّ إلا أخذت أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت قدره، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضّلت عليه. ولقد أحسن الذي أخذ هذا المعنى فنظمه فقال:

إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن تقارع بالجهل وإن كان مثلي ثم جاء بزلّة ... هويت لصفحي أن يضاف إلى العدل وإن كنت أدنى منه قدرا ومنصبا ... عرفت له حقّ التقدّم والفضل وفي مثله قال بعض الشعراء: سألزم نفسي الصفح عن كلّ مذنب ... وإن كثرت منه إليّ الجرائم وما الناس إلّا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وأتبع فيه الحقّ والحقّ قائم وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... إجابته نفسي وإن لام لائم وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضّلت إن الفضل للحرّ لازم ولأصرم بن قيس، ويقال إنها لعلي عليه السلام: أصمّ عن الكلم المحفظات ... وأحلم والحلم بي أشبه «1» وإنّي لأترك جلّ الكلام ... لئلا أجاب بما أكره إذا ما اجتررت سفاه السفيه ... عليّ فإنّي أنا الأسفه فلا تغترر برواء الرجال ... وما زحزحوا لك أو موّهوا «2» فكم من فتى يعجب الناظرين ... له ألسن وله أوجه ينام إذا حضر المكرمات ... وعند الدناءة يستنبه وللحسن بن رجاء: أحبّ مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أجيب وأن أجابا وأصفح عن سباب الناس حلما ... وشرّ الناس من يهوى السّبابا ومن هاب الرجال تهيّبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا ومن قضت الرجال له حقوقا ... ولم يقض الحقوق فما أصابا

بين علي وكبير من الفرس:

وقال محمد بن علي رضوان الله عنهما: من حلم وقى عرضه، ومن جادت كفّه حسن ثناؤه، ومن أصلح ماله استغنى، ومن احتمل المكروه كثرت محاسنه، ومن صبر حمد أمره، ومن كظم فشا «1» إحسانه، ومن عفا عن الذنوب كثرت أياديه، ومن اتقى الله كفاه ما أهمه. بين علي وكبير من الفرس: وسأل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كبيرا من كبراء الفرس: أي شيء لملوككم كان أحمد عندكم؟ قال: كان لأردشير فضل السبق في المملكة، غير أن أحمدهم سيرة أنو شروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. قال: هما توأمان ينتجهما علو الهمة. ولمحمود بن الحسن الوراق: إنّي وهبت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علم ورأيته أسدى إليّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمي رجعت إساءته عليه وإح ... ساني إليّ مضاعف الغنم وغدوت ذا أجر ومحمدة ... وغدا بكسب الظلم والإثم وكأنّما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم وما زال يظلمني وأرحمه ... حتى رثيت له من الظلم ولمحمد بن زياد يصف حلماء: نخالهم في الناس صمّا عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التهاجر ومرضى إذا لوقوا حياء وعفّة ... وعند الحفاظ كاللّيوث الخوادر «2» كأنّ لهم وصما يخافون عاره ... وما ذاك إلّا لاتّقاء المعاير «3»

باب السودد

وله أيضا: وأرفع نفسي عن نفوس وربّما ... تذلّلت في إكرامها لنفوس وإن رامني يوما خسيس بجهله ... أبى الله أن أرضى بعرض خسيس وقال وهب: مكتوب في الإنجيل: لا ينبغي لإمام أن يكون جائرا ومنه يلتمس العدل، ولا سفيها ومنه يقتبس الحلم. ولبعضهم: وإذا استشارك من تودّ فقل له ... أطع الحليم إذا الحليم نهاكا واعلم بأنك لن تسود ولن ترى ... سبل الرشاد إذا أطعت هواكا وقال آخر: وكن معدنا للحلم واصفح عن الأذى ... فإنّك راء ما علمت وسامع وأحبب إذا أحببت حبّا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع «1» وأبغض إذا أبغضت غير مباين ... فإنك لا تدري متى أنت راجع باب السودد قيل لعدي بن حاتم: ما السّودد؟ قال: السيد: الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، المطّرح لحقده. وقيل لقيس بن عاصم: بم سوّدك قومك؟ قال: بكفّ الأذى، وبذل النّدى، ونصر المولى. وقال رجل للأحنف: بم سوّدك قومك وما أنت بأشرفهم بيتا، ولا أصبحهم وجها، ولا أحسنهم خلقا؟ قال: بخلاف ما فيك يا بن أخي. قال: وما ذاك؟ قال:

أوس وحاتم بين يدي النعمان:

بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل: من سيّد قومك؟ قال: أنا. قال: كذبت لو كنت كذلك لم تقله. أوس وحاتم بين يدي النعمان: وقال ابن الكلبي: قدم أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وحاتم بن عبد الله الطائي، على النعمان بن المنذر، فقال لإياس بن قبيصة الطائي أيهما أفضل؟ قال: أبيت اللعن أيها الملك! إني من أحدهما، ولكن سلهما عن أنفسهما فإنهما يخبرانك. فدخل عليه أوس: فقال: أنت أفضل أم حاتم؟ فقال: أبيت اللعن! إنّ أدنى ولد حاتم أفضل مني، ولو كنت أنا وولدي ومالي لحاتم لأنهبنا في غداة واحدة. ثم دخل عليه حاتم، فقال له: أنت أفضل أم أوس؟ فقال: أبيت اللعن! إنّ أدنى ولد لأوس أفضل مني. فقال النعمان: هذا والله السودد. وأمر لكل منهما بمائة من الإبل. وسأل عبد الملك بن مروان روح بن زنباع عن مالك بن مسمع، فقال: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسأله واحد منهم لم غضبت؟ فقال عبد الملك هذا والله السودد. أبو سفيان وجزائر ملك اليمن: وقال أبو حاتم عن العتبي: أهدى ملك اليمن سبع جزائر إلى مكة، وأوصى أن ينحرها أعزّ قرشيّ بها، فأتت وأبو سفيان عروس بهند. فقال له هند: يا هذا، لا تشغلك النساء عن هذه الأكرومة التي لعلك أن تسبق إليها. فقال لها: يا هذه، ذري زوجك وما اختار لنفسه. فو الله لا نحرها أحد إلا نحرته! فكانت في عقلها «1» حتى خرج إليها بعد السابع فنحرها.

لهند في ابنها معاوية:

لهند في ابنها معاوية: ونظر رجل إلى معاوية وهو غلام صغير، فقال: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فسمعته أمّه هند، فقالت: ثكلته إذا إن لم يسد إلا قومه. وقال الهيثم بن عديّ: كانوا يقولون: إذا كان الصبي سائل الغرّة «1» ، طويل العزلة «2» ، ملتاث الإزرة «3» ، فذلك الذي لا يشك في سودده. ودخل ضمرة بن ضمرة على النّعمان بن المنذر، وكان به دمامة شديدة، فالتفت النّعمان إلى أصحابه وقال: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه. فقال: أيها الملك، إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإن قال قال ببيان، وإن قاتل قاتل بحنان. قال: صدقت! وبحقّ سوّدك قومك. وقيل لعرابة الأوسيّ: بم سوّدك قومك؟ قال: بأربع خلال: أنخدع «4» لهم في مالي، وأذلّ لهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم. وفي عرابة الأوسيّ يقول الشماخ بن ضرار: رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين وقالوا: يسود الرجل بأربعة أشياء: بالعقل، والأدب، والعلم، والمال. وكان سلم بن نوفل سيد بني كنانة، فوثب رجل على ابنه وابن أخيه فجرحهما، فأتي به. فقال له: ما أمّنك من انتقامي؟ قال: فلم سوّدناك إذا، إلا أن تكظم الغيظ وتحلم عن الجاهل. وتحتمل المكروه. فخلّى سبيله. فقال فيه الشاعر: يسوّد أقوام وليسوا بسادة ... بل السيّد الصّنديد سلم بن نوفل

رأي عمرو بن العاص في أخيه هشام:

وقال ابن الكلبي: قال لي خالد العنبري: ما تعدّون السّودد؟ قلت: أمّا في الجاهلية فالرّياسة، وأما في الإسلام فالولاية، وخير من ذا وذلك التقوى. قال: صدقت. كان أبي يقول: لم يدرك الأوّل الشرف إلا بالعقل، ولم يدرك الآخر إلا بما أدرك به الأول. قلت له: صدق أبوك، وإنما ساد الأحنف ابن قيس بحلمه، ومالك بن مسمع بحبّ العشيرة له، وقتيبة بن مسلم بدهائه؛ وساد المهلّب بهذه الخلال كلها. الأصمعي قال: قيل لأعرابي يقال له منتجع بن نبهان: ما السّميدع؟ قال: السيد الموطأ الأكناف. وكان عمر بن الخطاب يفرش له فراش في بيته في وقت خلافته، فلا يجلس عليه أحد إلا العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن حرب. قال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي سفيان: كل الصّيد في جوف الفرا؛ والفرا: الحمار الوحشي، وهو مهموز، وجمعه فراء. ومعناه أنه في الناس مثل الحمار الوحشي في الوحش. رأي عمرو بن العاص في أخيه هشام: ودخل عمرو بن العاص مكة، فرأى قوما من قريش قد تحلّقوا حلقة، فلما رأوه رموا بأبصارهم إليه، فعدل إليهم فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري. قالوا: أجل، كنا نماثل بينك وبين أخيك هشام. أيكما أفضل. فقال عمرو. إن لهشام عليّ أربعة: أمه ابنة هشام بن المغيرة، وأمّي من قد عرفتم. وكان أحبّ الناس إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد. وأسلم قبلي. واستشهد وبقيت. قال قيس بن عاصم لبنيه لما حضرته الوفاة: احفظوا عني، فلا أحد أنصح لكم مني؛ إذا أنا متّ فسوّدوا كباركم ولا تسوّدوا صغاركم فيحقر الناس كباركم. وقال الأحنف بن قيس: السودد مع السواد. وهذا المعنى يحتمل وجهين من التفسير: أحدهما أن يكون أراد بالسواد سواد

لابن عيينة بعد موت نظرائه:

الشعر، يقول: من لم يسد مع الحداثة لم يسد مع الشيخوخة؛ والوجه الآخر أن يكون أراد بالسواد سواد الناس ودهماءهم، يقول: من لم يطر له اسم على ألسنة العامة بالسّودد لم ينفعه ما طار له في الخاصة. وقال أبان بن مسلمة «1» : ولسنا كقوم محدثين سيادة ... يرى مالها ولا تحسّ فعالها مساعيهم مقصورة في بيوتهم ... ومسعاتنا ذبيان طرّا عيالها لابن عيينة بعد موت نظرائه: الهيثم بن عديّ قال: لما انفرد سفيان بن عيينة ومات نظراؤه من العلماء، تكاثر الناس عليه، فأنشد يقول: خلت الدّيار فسدت غير مسوّد ... ومن الشّقاء تفرّدي بالسّودد سودد الرجل بنفسه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من أسرع به عمله لم يبطيء به حسبه، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. وقال قسّ بن ساعدة: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه. وقالوا: إنما الناس بأبدانهم. وقال الشاعر: نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما وقال عبد الله بن معاوية: لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يوما على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وقال قس بن ساعدة: لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي ولا يردّها أحد بعدي: أيّما رجل رمى رجلا بملامة دونها كرم فلا لوم عليه، وأيما رجل ادّعى كرما دونه لؤم فلا كرم له. وقالت عائشة رضي الله عنها: كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه كرم فالكرم أولى به، تريد أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه، وإن كان كريما وآباؤه لئام لم يضره ذلك، وإن كان لئيما وآباؤه كرام لم ينفعه ذلك. وقال عامر بن الطفيل العامريّ: وإنّي وإن كنت ابن سيّد عامر ... وفارسها المشهور في كلّ موكب فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بجدّ ولا أب ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي «1» وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كلّ مذهب. فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه، فقال له: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين، التي بها توصلت إليك. قال: صدقت. فأخذ الشاعر هذا المعنى، فقال: ما لي عقلي وهمّتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي إذا انتمى منتم إلى أحد ... فإنّني منتم إلى أدبي وقال بعض المحدّثين: رأيت رجال بني دالق ... ملوكا بفضل تجاراتهم وبربرنا عند حيطانهم ... يخوضون في ذكر أمواتهم وما الناس إلا بأبدانهم ... وأحسابهم في حرّ أماتهم «2»

المروءة

المروءة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا دين إلا بمروءة. وقال ربيعة الرأي: المروءة ست خصال: ثلاثة في الحضر، وثلاثة في السفر. فأما التي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، ومداعبة الرفيق، وأما التي في الحضر: فتلاوة القرآن، ولزوم المساجد، وعفاف الفرج. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المروءة مروءتان: مروءة ظاهرة، ومروءة باطنة. فالمروءة الظاهرة الرياش «1» ، والمروءة الباطنة العفاف. وقدم وفد على معاوية، فقال لهم: ما تعدّون المروءة؟ قالوا: العفاف وإصلاح المعيشة. قال اسمع يا يزيد. وقيل لأبي هريرة: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وتفقّد الضّيعة. وقيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: العفة والحرفة. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنّا معشر قريش لا نعدّ الحلم والجود سوددا، ونعدّ العفاف وإصلاح المال مروءة. وقال الأحنف: لا مروءة لكذوب، ولا سودد لبخيل، ولا ورع لسيّىء الخلق. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تجاوزوا لذوي المروءات عن عثراتهم» فو الذي نفسي بيده، إنّ أحدهم ليعثر وإن يده لبيد الله. وقال العتبي عن أبيه لا تتمّ مروءة الرجل إلا بخمس: أن يكون عالما صادقا عاقلا ذا بيان مستغنيا عن الناس. وقال الشاعر: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل وقيل لعبد الملك بن مروان: أكان مصعب بن الزّبير يشرب الطّلاء «2» ؟ فقال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه.

طبقات الرجال

وقالوا: من أخذ من الديك ثلاثة أشياء، ومن الغراب ثلاثة أشياء، تمّ بها أدبه ومروءته: من أخذ من الديك سخاءه وشجاعته وغيرته. ومن الغراب بكوره لطلب الرزق وشدّة حذره وستر سفاده «1» . طبقات الرجال قال خالد بن صفوان: الناس ثلاث طبقات: طبقة علماء، وطبقة خطباء، وطبقة أدباء، ورجرجة «2» بين ذلك، يغلون الأسعار، ويضيّقون الأسواق، ويكدرون المياه. وقال الحسن: الرجال ثلاثة: فرجل كالغذاء لا يستغنى عنه، ورجل كالدواء لا يحتاج إليه إلا حينا بعد حين، ورجل كالدّاء لا يحتاج إليه أبدا. وقال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير: الناس ثلاثة: ناس، ونسناس، وناس غمسوا في ماء الناس. وقال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة: فرجل يدري ويدري أنه يدري، فذلك عالم فسلوه؛ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك الناسي فذكّروه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك الجاهل فعلّموه: ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك الأحمق فارفضوه. وقال الشاعر: أليس من البلوى بأنّك جاهل ... وأنّك لا تدري بأنك لا تدري إذا كنت لا تدري ولست كمن درى ... فكيف إذن تدري بأنك لا تدري ولآخر: وما الدّاء إلّا أن تعلّم جاهلا ... ويزعم جهلا أنّه منك أعلم

الغوغاء

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم ربّاني؛ ومتعلّم على سبيل نجاة، ورعاع همج يميلون مع كل ريح. وقالت الحكماء: الإخوان ثلاثة: فأخ يخلص لك ودّه، ويبذل لك رفده ويستفرغ في مهمّك جهده؛ وأخ ذو نيّة، يقتصر بك على حسن نيته دون رفده ومعونته؛ وأخ يتملّق لك بلسانه ويتشاغل عنك بشأنه ويوسعك من كذبه وأيمانه. وقال الشّعبي: مرّ رجل بعبد الله بن مسعود، فقال لأصحابه: هذا لا يعلم، ولا يعلم أنه لا يعلم، ولا يتعلّم ممن يعلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: كن عالما أو متعلّما، ولا تكن الثالثة فتهلك. الغوغاء الغوغاء: الدّبا. وهي صغار الجراد، وشبّه بها سواد الناس. وذكر الغوغاء عند عبد الله بن عباس، فقال: ما اجتمعوا قط إلا ضرّوا، ولا افترقوا إلا نفعوا. قيل له: قد علمنا ما ضرّ اجتماعهم، فما نفع افتراقهم؟ قال: يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى أكياره «1» ، وكل صانع إلى صناعته. ونظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قوم يتبعون رجلا أخذ في ريبة؛ فقال: لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في شر. وقال حبيب بن أوس الطائي: إن شئت أن يسودّ ظنّك كلّه ... فأجله في هذا السّواد الأعظم «2» وقال دعبل: ما أكثر النّاس لا بل ما أقلّهم ... الله يعلم أنّي لم أقل فندا إنّي لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا

الثقلاء

الثقلاء قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت آية في الثقلاء: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ «1» . وقال الشّعبي: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثّقلاء. وقيل لجالينوس: بم صار الرجل الثّقيل أثقل من الحمل الثقيل، فقال: لأنّ الرجل الثقيل إنما ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين فيه القلب بالجوارح. وقال سهل بن هارون، من ثقل عليك بنفسه، وغمّك بسؤاله، فأعره أذنا صمّاء، وعينا عمياء. وكان أبو هريرة إذا استثقل رجلا قال: اللهم اغفر له وأرحنا منه. وكان الأعمش إذا حضر مجلسه ثقيل يقول: فما الفيل تحمله ميّتا ... بأثقل من بعض جلّاسنا وقال أبو حنيفة للأعمش وأتاه عائدا في مرضه: لولا أن أثقل عليك أبا محمد لعدتك والله في كل يوم مرتين. فقال له الأعمش. والله يا بن أخي أنت ثقيل عليّ وأنت في بيتك، فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين. وذكر رجل ثقيلا كان يجلس إليه، فقال: والله إنّي لأبغض شقّي «2» الذي يليه إذا جلس إليّ. ونقش رجل على خاتمه: أبرمت «3» فقم. فكان إذا جلس إليه ثقيل ناوله إياه وقال: اقرأ ما على هذا الخاتم. وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله قال: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ «4» .

وقال بشّار العقيلي في ثقيل يكنى أبا عمران: ربّما يثقل الجليس وإن كا ... ن خفيفا في كفّة الميزان ولقد قلت إذ أظلّ على القو ... م ثقيل يربي على ثهلان «1» كيف لا تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا عمران ولآخر: أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل وثقيل أنت في المنظر إنسا ... ن وفي الميزان فيل وقال الحسن بن هانيء في رجل ثقيل: ثقيل يطالعنا من أمم ... إذا سرّه رغم أنفي ألم «2» أقول له إذ بدا لا بدا ... ولا حملته إلينا قدم فقدت خيالك لا من عمى ... وصوت كلامك لا من صمم وله فيه: وما أظنّ القلاص منجيتي ... منك ولا الفلك أيّها الرجل ولو ركبت البراق أدركني ... منك على نأي دارك الثّقل «3» هل لك فيما ملكته هبة ... تأخذه جملة وترتحل وله فيه: يا من على الجلّاس كالفتق ... كلامك التخديش في الحلق هل لك في مالي وما قد حوت ... يداي من جلّ ومن دقّ تأخذه منّي كذا فدية ... واذهب ففي البعد وفي السّحق وله فيه:

ألا يا جبل المقت الّ ... ذى أرسى فما يبرح لقد أكثرت تفكيري ... فما أدري لما تصلح فما تصلح أن تهجى ... ولا تصلح أن تمدح أهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملا، ثم نزل عليه حتى أبرمه، فقال فيه: يا مبرما أهدى جمل ... خذ وانصرف ألفي جمل قال وما أوقارها؟ قلت زبيب وعسل «1» قال ومن يقودها ... قلت له ألفا رجل قال ومن يسوقها ... قلت له ألفا بطل قال وما لباسهم ... قلت حليّ وحلل قال وما سلاحهم ... قلت سيوف وأسل «2» قال عبيد لي إذن ... قلت نعم ثم خول قال بهذا فاكتبوا ... إذن عليكم لي سجلّ قلت له ألفي سجلّ ... فاضمن لنا أن ترتحل قال وقد أضجرتكم ... قلت أجل ثم أجل قال وقد أبرمتكم ... قلت له الأمر جلل «3» قال وقد أثقلتكم ... قلت له فوق الثّقل قال فإنّي راحل ... قلت العجل ثم العجل يا كوكب الشّؤم ومن ... أربى على نحس زحل يا جبلا من جبل ... في جبل فوق جبل وقال الحمدوني في رجل بغيض مقيت. أبا بن البغيضة وابن البغيض ... ومن هو في البغض لا يلحق

سألتك بالله إلّا صدقت ... وعلمي بأنّك لا تصدق أتبغض نفسك من بغضها ... وإلّا فأنت إذن أحمق وله فيه: في حريم النّاس إذ كن ... ت من النّاس تعدّ ولقد أنبئت إبلي ... س إذا راك يصدّ «1» ولحبيب الطائي في مثله، أي في رجل مقيت: يا من تبرّمت الدّنيا بطلعته ... كما تبرّمت الأجفان بالرّمد يمشي على الأرض مختالا فأحسبه ... لبغض طلعته يمشي على كبدي لو أنّ في الأرض جزءا من سماجته ... لم يقدم الموت إشفاقا على أحد وللحسن بن هانيء في الفضل الرقاشي: رأيت الرّقاشيّ في موضع ... وكان إليّ بغيضا مقيتا فقال اقترح بعض ما تشتهي ... فقلت اقترحت عليك السّكوتا وانشدني الشعبي: إني بليت بمعشر ... نوكى أخفّهم ثقيل بله إذا جالستهم ... صدئت لقربهم العقول لا يفهموني قولهم ... ويدقّ عنهم ما أقول فهم كثير بي كما ... أنّي بقربهم قليل وقال العتبي: كتب الكسائيّ إلى الرقاشيّ: شكوت إلينا مجانينكم ... وأشكو إليك مجانيننا وأنشأت تذكر قذّاركم ... فأنتن وأقذر بمن عندنا فلولا السلامة كنا كهم ... ولولا البلاء لكانوا كنا «2»

التفاؤل بالأسماء

وقال حبيب الطائي: وصاحب لي مللت صحبته ... أفقدني الله شخصه عجلا سرقت سكّينه وخاتمه ... أقطع ما بيننا فما فعلا وقال حبيب: يا من له في وجهه إذ بدا ... كنوز قارون من البغض لو فرّ شيء قطّ من شكله ... فرّ إذن بعضك من بعض كونك في صلب أبينا الذي ... أهبطنا جمعا إلى الأرض وقال أبو حاتم: وأنشدني أبو زيد الأنصاري النحوي صاحب النوادر: وجه يحيى يدعو إلى البصق فيه ... غير أنّي أصون عنه بصاقي قال أبو حاتم: وأنشدني العتبي: له وجه يحلّ البصق فيه ... ويحرم أن يلقّى بالتّحيّه قال: وأنشدني: قميص أبي أميّة، ما علمتم ... وأوسخ منه جلد أبي أميّة التفاؤل بالأسماء سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا أراد أن يستعين به على عمل، عن اسمه واسم أبيه؛ فقال: ظالم بن سراقة. فقال؛ تظلم أنت ويسرق أبوك! ولم يستعن به في شيء. وأقبل رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: ما اسمك؟ فقال: شهاب بن حرقة. قال: ممن؟ قال: من أهل حرّة النار. قال؛ وأين مسكنك؟ قال: بذات لظى. قال: اذهب فإن أهلك قد احترقوا. فكان كما قال عمر رضي الله عنه. ولقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسروق بن الأجدع، فقال له من أنت؟

للنبي صلى الله عليه وسلم في البريد:

قال: مسروق بن الأجدع. قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: الأجدع شيطان. للنبي صلّى الله عليه وسلم في البريد: وروى سفيان عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، قال: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أمرائه: لا تبردوا بريدا إلا حسن الوجه حسن الاسم. الحجاج ورسول المهلب: ولما فرغ المهلّب بن أبي صفرة من حرب الأزارقة. وجّه بالفتح إلى الحجاج رجلا يقال له مالك بن بشير؛ فلما دخل على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير. قال: ملك وبشارة. وقال الشاعر: وإذا تكون كريهة فرّجتها ... أدعو بأسلم مرّة ورباح يريد التطيّر بأسلم ورباح، للسلامة والرّبح. من تفاؤل الرسول صلّى الله عليه وسلم: الرياشي عن الأصمعي قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، نزل على رجل من الأنصار، فصاح الرجل بغلاميه: يا سالم، ويا يسار! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: سلمت لنا الدار في يسر. الرسول صلّى الله عليه وسلم وحزن بن أبي وهب: وقال سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المخزومي: قدم جدّي حزن بن أبي وهب على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقال له: كيف اسمك؟ قال: حزن! قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بل سهل. قال: ما كنت لأدع اسما سمتني به أمي. قال سعيد: فإنا لنجد تلك الحزونة «1» في

العرب والغراب:

أخلاقنا إلى اليوم. العرب والغراب: وإنما تطيّرت العرب من الغراب للغربة، إذ كان اسمه مشتقا منها. وقال أبو الشيص: أشاقك والليل ملقي الجران ... غراب ينوح على غصن بان «1» وفي نعبات الغراب اغتراب ... وفي البان بين بعيد التّداني ولآخر في السّفرجل: أهدي إليه سفرجلا فتطيّرا ... منه فظلّ مفكّرا مستعبرا خوف الفراق لأنّ شطر هجائه ... سفر وحقّ له بأن يتطيّرا ولآخر في السّوسن: يا ذا الذي أهدى لنا السّوسنا ... ما كنت في إهدائه محسنا شطر اسمه سوء فقد سؤتني ... يا ليت أنّي لم أر السّوسنا ولآخر في الأترجّ: أهدى إليه حبيبه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر «2» خاف التّبدّل والتّلوّن إنّها ... لونان باطنها خلاف الظّاهر وقال الطائي في الحمام: هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنهنّ حمام وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة، فلما أراد الخروج سألها أن تعطيه خاتم ذهب في يدها ليذكرها به. قالت: إنه ذهب، وأخاف أن تذهب؛ ولكن [خذ] هذا العود، فعلك أن تعود.

باب الطيرة

باب الطيرة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكاد يسلم منهن أحد: الطّيرة، والظنّ، والحسد. قيل: فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا حسدت فلا تبغ. وقال أبو حاتم: السانح ما ولّاك ميامنه، والبارح ما ولّاك مياسره، والجابه ما استقبلك من تجاهك، والقعيد الذي يأتيك من خلفك. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا عدوى «1» ولا طيرة. وقال: ليس منا من تطيّر. وقال: إذا رأى أحدكم الطيرة فقال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، لم تضرّه. وقد كانت العرب تتطير، ويأتي ذلك في أشعارهم، وقال بعضهم: وما صدقتك الطّير يوم لقيتنا ... وما كان من دلّاك فينا بخابر وقال حسان رضي الله تعالى عنه: يا ليت شعري وليت الطّير تخبرني ... ما كان بين عليّ وابن عفّانا لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا وقال الحسن بن هانيء: قام الأمير بأمر الله في البشر ... واستقبل الملك في مستقبل الثّمر فالطير تخبرنا والطير صادقة ... عن طيب عيش وعن طول من العمر قتيبة وشيء من تطيّره: وقال الشّيباني: لما قدم قتيبة بن مسلم واليا على خراسان، قام خطيبا، فسقطت

اتخاذ الإخوان وما يجب لهم

المخصرة من يده، فتطيّر به أهل خراسان؛ فقال: أيها الناس، ليس كما ظننتم، ولكنه كما قال الشاعر: فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر اتخاذ الإخوان وما يجب لهم روى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنّ داود قال لابنه سليمان- عليهما السلام: يا بنيّ، لا تستقل عدوّا واحدا ولا تستكثر ألف صديق، ولا تستبدل بأخ قديم أخا مستحدثا ما أستقام لك. وفي الحديث المرفوع: المرء كثير بأخيه. وقال شبيب بن شيبة: إخوان الصفا خير من مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدّة في البلاء، ومعونة على الأعداء. وأنشد ابن الأعرابي: لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكنّ إخوان الصّفاء الذّخائر وقال الأحنف بن قيس: خير الإخوان ما إن استغنيت عنه لم يزدك في المودّة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها، وإن كوثرت عضّدك، وإن استرفدت رفدك. وأنشد: أخوك الذي إن تدعه لملمّة ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب ولآخر: أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح وإنّ ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح ومما يجب للصديق على الصديق النصيحة جهده؛ فقد قالوا: صديق الرجل مرآته، تريه حسناته وسيآته.

لبعض الولاة في الأصدقاء:

وقالوا: الصديق من صدقك ودّه، وبذل لك رفده. وقالوا: خير الإخوان من أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك. وقال الشاعر «1» : فإنّ أولي الموالي أن تواليه ... عند السّرور لمن واساك في الحزن إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن ولآخر: الصبر من كرم الطّبيعه ... والمنّ مفسدة الصّنيعه «2» ترك التّعهّد للصّدي ... ق يكون داعية القطيعه أنشد محمد بن يزيد المبرد لعبد الصمد بن المعذّل في الحسن بن إبراهيم: يا من فدت نفسه نفسي ومن جعلت ... له وقاء لما يخشى وأخشاه أبلغ أخاك وإن شطّ المزار به ... أنّي وإن كنت لا ألقاه ألقاه «3» وأنّ طرفي موصول برويته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه الله يعلم أنّي لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه عدّوا فهل حسن لم يحوه حسن ... وهل فتى عدلت جدواه جدواه فالدهر يفنى ولا تفنى مكارمه ... والقطر يحصى ولا تحصى عطاياه لبعض الولاة في الأصدقاء: وقيل لبعض الولاة: كم صديقا لك؟ قال: لا أدري؛ الدنيا مقبلة عليّ والناس كلهم أصدقائي، وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني. ولما صارت الخلافة إلى المنصور كتب إليه رجل من إخوانه كتابا فيه هذه الأبيات:

معاتبة الصديق واستبقاء مودته

إنّا بطانتك الألى ... كنا نكابد ما تكابد ونرى فنعرف بالعدا ... وة والبعاد لمن تباعد ونبيت من شفق علي ... ك ربيئة والليل هاجد «1» فلما وصلت الأبيات إلى أبي جعفر وقع على كل بيت منها: صدقت. ودعا به فألحقه بإخوانه. معاتبة الصديق واستبقاء مودّته قالت الحكماء: مما يجب للصديق على الصديق، الإغضاء عن زلاته، والتجاوز عن سيآته، فإن رجع وأعتب وإلا عاتبته بلا إكثار؛ فإن كثرة العتاب مدرجة للقطيعة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقطع أخاك على ارتياب، ولا تهجره دون استعتاب. وقال أبو الدرداء: من لك بأخيك كلّه؟ وقالوا: أيّ الرجال المهذّب؟ وقال بشّار العقيلي: إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت، وأيّ الناس تصفو مشاربه «2» وقالوا: معاتبة الأخ خير من فقده. وقال الشاعر: إذا ذهب العتاب فليس ودّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب ولمحمد بن أبان:

فضل الصداقة على القرابة

إذا أنا لم أصبر على الذّنب من أخ ... وكنت أجازيه فأين التفاضل إذا ما دهاني مفصل فقطعته ... بقيت ومالي للنهوض مفاصل ولكن أداويه، فإن صحّ سرّني ... وإن هو أعيا كان فيه تحامل وقال الأحنف: من حقّ الصديق أن يتحمل ثلاثا: ظلم الغضب، وظلم الدّالّة «1» ، وظلم الهفوة. لعبد الله بن معاوية: ولست ببادي صاحبي بطيعة ... ولست بمفش سرّه حين يغضب عليك بإخوان الثّقات فإنهم ... قليل فصلهم دون من كنت تصحب وما الخدن إلا من صفا لك ودّه ... ومن هو ذو نصح وأنت مغيّب «2» فضل الصداقة على القرابة قيل لبزرجمهر: من أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال: ما أحب أخي إلا إذا كان لي صديقا. وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودّة، والمودّة لا تحتاج إلى قرابة. وقال عبد الله بن عباس: القرابة تقطع والمعروف يكفر، وما رأيت كتقارب القلوب. وقالوا: إياكم ومن تكرهه قلوبكم، فإن القلوب تحازي القلوب. وقال عبد الله بن طاهر الخراساني: أميل مع الرّفاق على ابن أمّي ... وأحمل للصّديق على الشقيق وإن ألفيتني ملكا مطاعا ... فإنك واجدي عبد الصديق أفرّق بين معروفي ومنّي ... وأجمع بين مالي والحقوق

وقال حبيب الطائي: ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... وبلوت ما وضعوا من الأسباب «1» فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودّة أقرب الأنساب وللمبرّد: ما القرب إلا لمن صحّت مودّته ... ولم يخنك وليس القرب للنسب كم من قريب دويّ الصدر مضطغن ... ومن بعيد سليم غير مقترب وقالت الحكماء: ربّ أخ لك لم تلده أمّك. وقالوا: القريب من قرب نفعه. وقالوا: ربّ بعيد أقرب من قريب. وقال آخر: ربّ غريب ناصح الجيب ... وابن أب متّهم الغيب أخو ثقة يسرّ ببعض شأني ... وإن لم تدنه منّي قرابه أحبّ إليّ من ألفي قريب ... تبيت صدورهم لي مسترابه «2» وقال آخر: فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه فارض من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه وقال: لكل ضيق من الهموم سعه ... والليل والصبح لا بقاء معه لا تحقرنّ الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه

التحبب إلى الناس

وقال ابن هرمة: لله درّك من فتى فجعت به ... يوم البقيع حوادث الأيام هشّ إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدّب الخدّام «1» وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيّهما أخو الأرحام التحبب إلى الناس في الحديث المرفوع: أحبّ الناس إلى الله أكثرهم تحبّبا إلى الناس. وفيه أيضا: إذا أحب الله عبدا حبّبه إلى الناس. ومن قولنا في هذا المعنى: وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبّة تجري مع الأنفاس وإذا أحبّ الله يوما عبده ... ألقى عليه محبّة للناس. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص: إن الله إذا أحب عبدا حبّبه إلى خلقه. فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس. واعلم أنّ مالك عند الله مثل ما للناس عندك. وقال أبو دهمان لسعيد بن مسلم، ووقف إلى بابه فحجبه حينا ثم أذن له، فمثل بين يديه وقال: إن هذا الأمر الذي صار إليك وفي يديك، قد كان في يدي غيرك، فأمسى والله حديثا، إن خيرا فخير وإن شراّ فشرّ. فتحبّب إلى عباد الله بحسن البشر، وتسهيل الحجاب، ولين الجانب؛ فإنّ حبّ عباد الله موصول بحبّ الله، وبغضهم موصول ببغض الله؛ لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوجّ عن سبيله. وقال الجارود: سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل.

صفة المحبة

وقيل لمعاوية: من أحب الناس إليك؟ قال: من كانت له عندي يد صالحة. قيل له: ثم من؟ قال: من كانت لي عنده يد صالحة. وقال محمد بن يزيد النّحويّ: أتيت الخليل، فوجدته جالسا على طنفسة صغيرة، فوسّع لي وكرهت أن أضيّق عليه. فانقبضت، فأخذ بعضدي وقرّبني إلى نفسه، وقال: إنه لا يضيق سمّ الخياط «1» بمتحابّين، ولا تسع الدنيا متباغضين. ومن قولنا في هذا المعنى: صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فربّما ضاقت الدنيا بإثنين صفة المحبة لابن طاهر يصف الحب للمأمون: أبو بكر الورّاق قال: سأل المأمون عبد الله بن طاهر ذا الرياستين عن الحب، ما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إذا تقادحت «2» جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة، انبعثت منها لمحة نور تستضيء بها بواطن الأعضاء، فتتحرّك لإشراقها طبائع الحياة، فيتصوّر من ذلك خلق حاضر للنفس، متصل بخواطرها، يسمى الحب. وسئل حمّاد الراوية عن الحب، ما هو؟ قال: الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر، وأغصانها السهر، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنيّة. وقال معاذ بن سهل: الحب أصعب ما ركب، وأسكر ما شرب، وأفظع ما لقي، وأحلى ما اشتهي، وأوجع ما بطن، وأشهى ما علن. وهو كما قال الشاعر:

مواصلتك لمن كان يواصل أباك

وللحبّ آفات إذا هي صرّحت ... تبدّت علامات لها غرر صفر «1» فباطنه سقم وظاهره جوى ... وأوّله ذكر وآخره فكر «2» وقالوا: لا يكن حبّك كلفا «3» ، ولا بغضك سرفا «4» . وقال بشّار العقيلي: هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدني إليك، فإنّ الحبّ أقصاني وقال غيره: أحبّك حبّا لو تحبّين مثله ... أصابك من وجد عليّ جنون لطيفا مع الأحشاء أمّا نهاره ... فدمع وأما ليله فأنين مواصلتك لمن كان يواصل أباك من حديث ابن أبي شيبة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تقطع من كان يواصل أباك، تطفي بذلك نوره؛ فإن ودّك ودّ أبيك. وقال عبد الله بن مسعود: من برّ الحيّ بالميت ان يصل من كان يصل أباه. وقال أبو بكر: الحب والبغض يتوارثان. ومن أمثالهم في هذا المعنى: لا تقتن من كلب سوء جروا. وقال الشاعر: ترجو الوليد وقد أعياك والده ... وما رجاؤك بعد الوالد الولد! واجتمع عند ملك من ملوك العرب تميم بن مرّ وبكر بن وائل؛ فوقعت بينهما منازعة ومفاخرة، فقالا: أيها الملك، أعطنا سيفين نتجالد بهما بين يديك، حتى تعلم

عداوة تميم وبكر وشعر ابن حلزة:

أيّنا أجلد. فأمر الملك فمنحت لهما سيفان من عودين، فأعطاهما إياهما، فجعلا يضطربان مليّا من النهار؛ فقال بكر بن وائل: لو كان سيفانا حديدا قطّعا قال تميم بن مر: أو نحتا من جندل تصدّعا وحال الملك بينهما، فقال تميم بن مر لبكر بن وائل: أساجلك العداوة ما بقينا فقال له بكر: وإن متنا نورّثها البنينا فيقال إن عداوة بكر وتميم من أجل ذلك إلى اليوم. عداوة تميم وبكر وشعر ابن حلزة: أبو زيد: قال أبو عبيدة. بني دكّان بسجستان، بنته بكر بن وائل، فهدمته تميم؛ ثم بنته تميم فهدمته بكر؛ فتواقعوا في ذلك أربعا وعشرين وقعة، فقال ابن حلّزة اليشكري في ذلك: قرّبي يا خليّ ويحك درعي ... لقحت حربنا وحرب تميم «1» إخوة قرّشوا الذّنوب علينا ... في حديث من دهرهم وقديم «2» طلبوا صلحنا ولات أوان ... إنّ ما يطلبون فوق النّجوم

الحسد

الحسد قال علي رضي الله عنه: لا راحة لحسود، ولا إخاء لملول. ولا محبّ لسّيء الخلق. وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد: نفس دائم، وحزن لازم، وغمّ لا ينفذ. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: كاد الحسد يغلب القدر. وقال معاوية: كلّ الناس أقدر أرضيهم، إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها. وقال الشاعر: كلّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلّا عداوة من عاداك من حسد وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله! قيل له ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. يقول الله في بعض الكتب: الحسود عدوّ نعمتي، متسخّط لقضائي، غير راض بقسمتي. ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي الله به في الأرض؛ فأمّا في السماء فحسد إبليس لآدم، وأمّا في الأرض فحسد قابيل هابيل. وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ «1» . إنه أراد بالذي من الجن إبليس، والذي من الإنس قابيل. وذلك أن إبليس أول من سنّ الكفر، وقابيل أول من سنّ القتل؛ وإنما كان أصل ذلك كله الحسد. ولأبي العتاهية:

قيس بن زهير وغطفان:

يا ربّ إنّ الناس لا ينصفونني ... وكيف ولو أنصفتهم ظلموني وإن كان لي شيء تصدّوا لأخذه ... وإن جئت أبغي سيبهم منعوني «1» وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتموني وإن طرقتني نقمة فرحوا بها ... وإن صحبتني نعمة حسدوني سأمنع قلبي أن يحنّ إليهم ... وأحجب عنهم ناظري وجفوني قيس بن زهير وغطفان: أبو عبيدة معمر بن المثنّى قال: مرّ قيس بن زهير ببلاد غطفان، فرأى ثروة وعددا، فكره ذلك، فقيل له: أيسوءك ما يسرّ الناس؟ قال: إنك لا تدري أنّ مع النعمة والثروة التحاسد والتخاذل، وأن مع القلة التحاشد والتناصر. قال: وكان يقال: ما أثرى قوم قطّ إلا تحاسدوا وتجادلوا. وقال بعض الحكماء: ألزم الناس كآبة أربعة: رجل حديد، ورجل حسود، وخليط الأدباء وهو غير أديب، وحكيم محقّر لدى الأقوام. علي بن بشر المروزي قال: كتب إليّ ابن المبارك هذه الأبيات: كلّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد فإن في القلب منها عقدة عقدت ... وليس يفتحها راق إلى الأبد «2» إلّا الإله فإن يرحم تحلّ به ... وإن أباه فلا ترجوه من أحد سئل بعض الحكماء: أي أعدائك لا تحبّ أن يعود لك صديقا؟ قال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلا زوال نعمتي. وقال سليمان التّيمي: الحسد يضعف اليقين، ويسهر العين، ويكثر الهمّ. الأحنف بن قيس، صلى على حارثة بن قدامة السّعدي، فقال: رحمك الله، كنت

إبليس ونوح:

لا تحسد غنيا، ولا تحقر فقيرا. وكان يقال: لا يوجد الحر حريصا، ولا الكريم حسودا. وقال بعض الحكماء: أجهد البلاء أن تظهر الخلّة، وتطول المدة، وتعجزّ الحيلة، ثم لا تعدم صديقا مولّيا، وابن عم شامتا، وجارا حاسدا، ووليا قد تحوّل عدوا، وزوجة مختلعة «1» ، وجارية مستبيعة «2» ، وعبدا يحقرك وولدا ينتهرك؛ فانظر أين موضع جهدك في الهرب. لرجل من قريش: حسدوا النّعمة لمّا ظهرت ... فرموها بأباطيل الكلم وإذا ما الله أسدى نعمة ... لم يضرها قول أعداء النّعم وقيل: إذا سرّك أن تسلم من الحاسد فعمّ عليه أمرك. وكانت عائشة رضي الله عنها تتمثّل بهذين البيتين: إذا ما الدهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا ولبعضهم: إياك والحسد الذي هو آفة ... فتوقّه وتوقّ غرّة من حسد «3» إنّ الحسود إذا أراك مودّة ... بالقول فهو لك العدوّ المجتهد إبليس ونوح: الليث بن سعد قال: بلغني أن إبليس لقى نوحا صلّى الله عليه وسلم، فقال له إبليس: اتق الحسد والشحّ، فإني حسدت آدم فخرجت من الجنّة، وشحّ آدم على شجرة واحدة

منع منها حتى خرج من الجنة. وقال الحسن: أصول الشر وفروعه ستة: فالأصول الثلاثة: الحسد، والحرص، وحب الدنيا، والفروع كذلك: حب الرياسة، وحب الثناء، وحب الفخر. وقال الحسن: يحسد أحدهم أخاه حتى يقع في سريرته وما يعرف علانيته، ويلومه على ما لا يعلمه منه، ويتعلم منه في الصداقة ما يعيّره به إذا كانت العداوة؛ والله ما أرى هذا بمسلم. ابن أبي الدّنيا قال: بلغني عن عمر بن ذرّ أنه قال: اللهم من أرادنا بشر فاكفناه بأيّ حكميك شئت، إما بتوبة وإما براحة. قال بان عباس: ما حسدت أحدا ما حسدت على هاتين الكلمتين. وقال ابن عباس: لا تحقرنّ كلمة الحكمة أن تسمعها من الفاجر؛ فإنما مثله كما قال الأوّل: ربّ رمية من غير رام. وقال بعض الحكماء: ما أمحق «1» للإيمان ولا أهتك للستر من الحسد، وذلك أنّ الحاسد معاند لحكم الله، باغ على عباده، عات على ربه، يعتدّ نعم الله نقما، ومزيده غيرا، وعدل قضائه حيفا، للناس حال وله حال، ليس يهدأ ليله، ولا ينام جشعه، ولا ينفعه عيشه، محتقر لنعم الله عليه، متسخّط ما جرت به أقداره، لا يبرد غليله، ولا تؤمن غوائله «2» ، إن سالمته وترك «3» ، وإن واصلته قطعك، وإن صرمته «4» سبقك. ذكر حاسد عند بعض الحكماء فقال: يا عجبا لرجل أسلكه الشيطان مهاوي الضلالة، وأورده قحم الهلكة «5» ، فصار لنعم الله تعالى بالمرصاد، إن أنالها من أحبّ

من عباده، أشعر قلبه الأسف على ما لم يقدر له، وأغاره «1» الكلف بما لم يكن ليناله. أنشدني فتى بالرملة: اصبر على حسد الحسود ... فإنّ صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله وقال عبد الملك بن مروان للحجاج: إنه ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فصف لي عيوبك. قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لست أفعل. قال: أنا لحوح، لدود، حقود، حسود. قال: ما في إبليس شرّ من هذا. وقال المنصور لسليمان بن معاوية المهلّبي: ما أسرع حسد الناس إلى قومك! فقال: يا أمير المؤمنين: إنّ العرانين تلقاها محسّدة ... ولا ترى للئام الناس حسّادا «2» وأنشد أبو موسى لنصر بن سيار: إنّي نشأت وحسّادي ذوو عدد ... ياذا المعارج لا تنقص لهم عددا «3» إن تحسدوني على حسن البلاء بهم ... فمثل حسن بلائي جرّ لي حسدا وقال آخر: إن يحسدوني فإنّي غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد وقال آخر: إنّ الغراب وكان يمشي مشية ... فيما مضى من سالف الأحوال حسد القطاة فرام يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العقّال فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك كنّوه أبا مرقال

بصري يحسده قومه:

وقال حبيب الطائي: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود «1» وقال محمد بن مناذر: يا أيّها العائبي وما بي من ... عيب ألا ترعوي وتزدجر هل لك عندي وتر فتطلبه ... أم أنت ممّا أتيت معتذر «2» إن يك قسم الإله فضّلني ... وأنت صلد ما فيك معتصر فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التراب والحجر فما الذي يجتني جليسك أو ... يبدو له منك حين يختبر اقرأ لنا سورة تذكّرنا ... فإنّ خير المواعظ السّور أوصف لنا الحكم في فرائضنا ... ما تستحقّ الانثى أو الذّكر أو ارو فقها تحيا القلوب به ... جاء به عن نبيّنا الأثر أو من أحاديث جاهليّتنا ... فإنها حكمة ومختبر أو ارو عن فارس لنا مثلا ... فإنّ أمثالها لنا عبر فإن تكن قد جهلت ذاك وذا ... ففيك للناظرين معتبر فغنّ صوتا تشجى القلوب به ... وبعض ما قد أتيت يغتفر «3» بصري يحسده قومه: الأصمعي قال: كان رجل من أهل البصرة بذيّا شرّيرا، يؤذي جيرانه ويشتم أعراضهم؛ فأتاه رجل فوعظه فقال له: ما بال جيرانك يشكونك؟ قال: إنهم يحسدونني! قال له: على أيّ شيء يحسدونك؟ قال: على الصّلب! قال: وكيف ذاك؟ قال أقبل معي. فأقبل معه إلى جيرانه، فقعد متحازنا؛ فقالوا: مالك! قال: طرق

محاسدة الأقارب

الليلة كتاب معاوية أن أصلب أنا ومالك بن المنذر، وفلان، وفلان. فذكر رجالا من أشراف أهل البصرة؛ فوثبوا عليه وقالوا: يا عدوّ الله! أنت تصلب مع هؤلاء ولا كرامة لك؟ فالتفت إلى الرجل فقال: أما تراهم قد حسدوني على الصّلب؟ فكيف لو كان خيرا. وقيل لأبي عاصم النبيل: إن يحيى بن سعيد يحسدك وربما قرّضك «1» . فأنشأ يقول: فلست بحيّ ولا ميّت ... إذا لم تعاد ولم تحسد محاسدة الأقارب كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا. وقال أكثم بن صيفي: تباعدوا في الديار تقاربوا في المودّة. وقالوا: أزهد الناس في عالم أهله. فرج بن سلام قال: وقف أمية بن أبي الأسكر على ابن عم له فقال: نشدتك بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من لؤيّ بن غالب فإنك قد جرّبتني فوجدتني ... أعينك في الجلّى وأكفيك جانبي «2» وإن دبّ من قوم إليك عداوة ... عقاربهم دبّت إليهم عقاربي قال: نعم، كذلك أنت. قال: فما بال مئبرك «3» لا يزال إليّ دسيسا؟ قال: لا أعود! قال: قد رضيت وعفا الله عما سلف. وقال يحيى بن سعيد: من أراد أن يبين عمله ويظهر علمه، فليجلس في غير مجلس رهطه.

وقالوا: الأقارب هم العقارب. وقيل لعطاء بن مصعب: كيف غلبت على البرامكة وكان عندهم من هو آدب منك؟ قال: كنت بعيد الدار منهم، غريب الاسم، عظيم الكبر، صغير الجرم، كثير الالتواء، فقرّبني إليهم تباعدي منهم، ورغّبهم فيّ رغبتي عنهم، وليس للقرباء ظرافة الغرباء. وقال رجل لخالد بن صفوان: إني أحبك. قال: وما يمنعك من ذلك ولست لك بجار ولا أخ ولا ابن عم؟ يريد أنّ الحسد موكّل بالأدنى فالأدنى. الشيباني قال: خرج أبو العباس أمير المؤمنين متنزّها بالأنبار، فأمعن في نزهته وانتبذ من أصحابه، فوافى خباء لأعرابي؛ فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة. قال: من أيّ كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة. قال: فأنت إذا من قريش؟ قال: نعم. قال: فمن أيّ قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش. قال: فأنت إذا من ولد عبد المطلب؟ قال: نعم. قال: فمن أي ولد عبد المطلب أنت؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المطلب. قال: فأنت إذا أمير المؤمنين! السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فاستحسن ما رأى منه وأمر له بجائزة. وقال ذو الإصبع العدواني: لي ابن عم على ما كان من خلق ... محاسد لي أقليه ويقليني «1» أزرى بنا أنّنا شالت نعامتنا ... فخالني دونه أو خلته دوني «2» يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني «3» ماذا عليّ وإن كنتم ذوي رحمي ... ألّا أحبّكم إن لم تحبوني لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني

المشاكلة ومعرفة الرجل لصاحبه

وقال آخر: مهلا بني عمّنا، مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا الله يعلم أنّا لا نحبّكم ... ولا نلومكم إن لم تحبّونا وقال آخر: ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... ووصفت ما وصفوا من الأسباب فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودة أقرب الأنساب المشاكلة ومعرفة الرجل لصاحبه قالوا: أقرب القرابة المشاكلة. وقالوا: الصاحب المناسب. وقال حبيب: وقلت أخي، قالوا أخ من قرابة؟ ... فقلت لهم إنّ الشكول أقارب «1» وقال أيضا: ذو الودّ مني وذو القربى بمنزلة ... وإخوتي أسوة عندي وإخواني عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرّقوا في الأرض جيراني وقال أيضا: إن نفترق نسبا يؤلّف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد أو نختلف فالوصل منا ماؤه ... عذب تحدّر من غمام واحد وقال آخر: إنّ النفوس لأجناد مجندة ... بالإذن من ربّنا تجري وتختلف «2» فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف

سليمان عليه السلام وحديث النسر والقصر:

وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأنفس أجناد مجندة، وإنها لتتشامّ في الهوى كما تتشامّ الخيل؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «الصاحب رقعة في الثوب، فلينظر الإنسان بم يرقع ثوبه. وقال عليه الصلاة والسلام: امتحنوا الناس بإخوانهم» . وقال الشاعر: فاعتبروا الأرض بأشباهها ... واعتبروا الصاحب بالصاحب وقالوا: كل إلف إلى إلفه ينزع. وقال الشاعر: والإلف ينزع نحو الآلفين كما ... طير السماء على ألّافها تقع قال امرؤ القيس: أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب وقال آخر: إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي وقال آخر: اصحب ذوي الفضل وأهل الدين ... فالمرء منسوب إلى القرين سليمان عليه السلام وحديث النسر والقصر: أيوب عن سليمان قال: حدثنا أبان بن عيسى عن أبيه عن ابن القاسم، قال: بينما سليمان بن داود عليهما السلام تحمله الريح إذ مر بنسر واقع على قصر، فقال له: كم لك مذ وقعت ها هنا؟ قال: سبعمائة سنة. قال: فمن بنى هذا القصر؟ قال: لا

السعاية والبغي

أدري، هكذا وجدته. ثم نظر فإذا فيه كتاب منقور بأبيات من شعر، وهي «1» : خرجنا من قرى اصطخر ... إلى القصر فقلناه فلا تصحب أخا السّوء ... وإيّاك وإيّاه فكم من جاهل أردى ... حكيما حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ما شاه وفي الناس من الناس ... مقاييس وأشباه وفي العين غنى للع ... ين أن تنطق أفواه السعاية والبغي قال الله تعالى ذكره: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «2» . وقال عز وجل: ... ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «3» . وقال الشاعر: فلا سبق إلى أحد ببغي ... فإنّ البغي مصرعه وخيم وقال العتابي: بغيت فلم تقع إلّا صريعا ... كذاك البغي يصرع كل باغ للمأمون يوصي بعض ولده: وقال المأمون يوما لبعض ولده: إياك أن تصغى لاستماع قول السّعاة، فإنه ما سعى رجل برجل إلا انحط من قدره عندي ما لا يتلافاه أبدا. ووقّع في رقعة ساع: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.

للنبي صلى الله عليه وسلم:

ووقّع في رقعة رجل سعى إليه ببعض عماله: قد سمعنا ما ذكره الله عزّ وجل في كتابه، فانصرف رحمك الله. فكان إذا ذكر عنده السعاة قال: ما ظنّكم بقوم يلعنهم الله على الصدق. وسعى رجل إلى بلاد بن أبي بردة، فقال له: انصرف حتى أكشف عما ذكرت. ثم كشف عن ذلك فإذا هو لغير رشدة؛ فقال: أنا أبو عمرو، ما كذبت ولا كذبت. للنبي صلّى الله عليه وسلم: حدّثني أبي عن جدي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الساعي لغير رشدة» «1» . عبد الملك ورجل سعى إليه: وسأل رجل عبد الملك الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم فقوموا. فلما تهيّأ الرجل للكلام قال له: إياك أن تمدحني؛ فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني، فإنه لا رأي لكذوب؛ أو تسعى إليّ بأحد. وإن شئت أقلتك. قال: أقلني. ودخل رجل على الوليد بن عبد الملك، وهو والي دمشق لأبيه، فقال: للأمير عندي نصيحة. فقال: إن كانت لنا فاذكرها، وإن كانت لغيرنا فلا حاجة لنا فيها. قال: جار لي عصى وفرّ من بعثه «2» . قال: أما أنت فتخبر أنك جار سوء؛ فإن شئت أرسلنا معك، فإن كنت صادقا أقصيناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت تاركناك، قال: تاركني. من سير العجم: وفي سير العجم: أنّ رجلا وشى برجل إلى الإسكندر، فقال: أتحب أن تقبل منه عليك ومنك عليه؟ قال: لا. قال: فكف عن الشرّ يكفّ عنك الشر.

وقال الشاعر: إذا الواشي بغى يوما صديقا ... فلا تدع الصّديق لقول واش وقال ذو الرياستين: قبول النميمة شرّ من النميمة؛ لأن النميمة دلالة والقبول إجازة، وليس من دلّ على شيء كمن قبله وأجازه. ذكر السّعاة عند المأمون فقال: لو لم يكن في عيبهم إلا أنهم أصدق ما يكونون أبغض ما يكونون إلى الله تعالى لكفاهم. وعاتب مصعب بن الزبير الأحنف في شيء، فأنكره، فقال: أخبرني الثقة. قال: كلا، إنّ الثقة لا يبلّغ. وقد جعل الله السامع شريك القائل فقال: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «1» . وقيل: حسبك من شرّ سماعه. وقال الشاعر: لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنّما سبّ الأمير المبلّغ وقال آخر: لا تقبلنّ نميمة بلّغتها ... وتحفّظنّ من الذي أنباكها لا تنقشنّ برجل غيرك شوكة ... فتقي برجلك رجل من قد شاكها «2» إنّ الذي أنباك عنه نميمة ... سيدبّ عنك بمثلها قد حاكها وقال دعبل: وقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج رأوا عورة فاستقبلوها بألبهم ... فلم ينههم حلم ولم يتحرّجوا «3» وكانوا أناسا كنت آمن غيبهم ... فراحوا على ما لا نحبّ فأدلجوا «4»

الغيبة

الغيبة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا قلت في الرجل ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهتّه «1» . ومرّ محمد بن سيرين بقوم، فقال إليه رجل منهم فقال: أبا بكر، إنا قد نلنا منك فحلّلنا فقال: إني لا أحلّ ما حرّم الله عليك، فأما ما كان إليّ فهو لك. وكان رقبة بن مصقلة جالسا مع أصحابه، فذكروا رجلا بشيء، فاطلع ذلك الرجل، فقال له بعض أصحابه: ألا أخبره بما قلنا فيه لئلا تكون غيبة؟ قال: أخبره حتى تكون نميمة. اغتاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم، فقال له قتيبة: أمسك عليك أيها الرجل، فو الله لقد تلمّظت «2» بمضغة طالما لفظها الكرام. محمد بن مسلم الطائفي قال: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال له: بلغني أنك نلت مني. قال: نفسي أعزّ عليّ من ذلك. وقال رجل لبكر بن محمد بن عصمة. بلغني أنك تقع فيّ! قال أنت إذا عليّ أكرم من نفسي. ووقع رجل في طلحة والزبير عند سعد بن أبي وقّاص، فقال له: اسكت، فإنّ الذي بيننا لم يبلغ ديننا. وعاب رجل رجلا عند بعض الأشراف، فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس؛ لأنّ طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها ... أما سمعت قول الشاعر: لا تهتكن من مساوي النّاس ما ستروا ... فيهتك الله سترا من مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا وقال آخر:

النبي صلى الله عليه وسلم وابن الحضرمي:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم إبدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم وقال محمد بن السماك: تجنّب القول في أخيك لخلّتين: أمّا واحدة فلعلك تعيبه بشيء هو فيك، وأما الأخرى فإن يكن الله عافاك مما ابتلاه كان شكرك الله فيه على العافية تعييرا لأخيك على البلاء. وقيل لبعض الحكماء: فلان يعيبك! قال: إنما يقرض الدرهم الوازن. وقيل لبزرجمهر: هل تعلم أحدا لا عيب فيه؟ قال: إن الذي لا عيب فيه لا يموت. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك أيوب السّختياني حتى رحمناك. قال: إياه فارحموا. وقال ابن عباس: اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودع منه ما تحب أن يدع منك. النبي صلّى الله عليه وسلم وابن الحضرمي: وقدم العلاء بن الحضرميّ على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له: هل تروي من الشعر شيئا؟ قال: نعم. قال: فأنشدني. فأنشده: تحبّب ذوي الأضغان تسب نفوسهم ... تحبّبك القربى فقد ترقع النّعل وإن دحسوا بالكره فاعف تكرّما ... وإن غيّبوا عنك الحديث فلا تسل «1» فإنّ الّذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الّذي قالوا وراءك لم يقل فقال النبي عليه السلام: إن من الشعر لحكمة. وقال الحسن البصريّ: لا غيبة في ثلاثة: فاسق مجاهر بالفسق، وإمام جائر وصاحب بدعة لم يدع بدعته.

مداراة أهل الشر

وكتب الكسائيّ إلى الرقاشيّ: تركت المسجد الجام ... ع والتّرك له ريبه فلا نافلة تقضي ... ولا تقضي لمكتوبه وأخبارك تأتينا ... على الأعلام منصوبه فإن زدت من الغيب ... ة زدناك من الغيبه مداراة أهل الشر وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه» . وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا لقيت اللئيم فخالفه، وإذا لقيت الكريم فخالطه» . وقال أبو الدّرداء: إنا لنكشر «1» في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم. وسئل شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان، فقال: ليس له صديق في السرّ ولا عدو في العلانية. وقال الأحنف. ربّ رجل لا تغيب فوائده وإن غاب، وآخر لا يسلم منه جليسه وإن احترس. وقال كثير بن هراسة: إن من الناس ناسا ينقصونك إذا زدتهم، وتهون عندهم إذا خاصصتهم، ليس لرضاهم موضع تعرفه، ولا لسخطهم موضع تحذره. فإذا عرفت أولئك بأعيانهم فابذل لهم موضع المودّة، واحرمهم موضع الخاصة، يكن ما بذلت لهم من المودّة حائلا دون شرّهم، وما حرمتهم من الخاصة قاطعا لحرمتهم. وأنشد العتبي: لي صديق يرى حقوقي عليه ... نافلات وحقّه الدّهر فرضا «2» لو قطعت البلاد طولا إليه ... ثمّ من بعد طولها سرت عرضا لرأى ما فعلت غير كثير ... واشتهى أن يزيد في الأرض أرضا

ذم الزمان

وفي هذه الطبقة من الناس يقول دعبل الخزاعي: اسقهم السّمّ إن ظفرت بهم ... وامزج لهم من لسانك العسلا كتب سهل بن هارون إلى موسى بن عمران في أبي الهذيل العلاف. إنّ الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي فألن له كنفا ليحسن ظنه ... في غير منفعة ولا رفد حتّى إذا طالت شقاوة جدّه ... وعناؤه فاجبهه بالرّدّ وقال صالح بن عبد القدوس: تجنب صديق السّوء واصرم حباله ... وإن لم تجد عنه محيصا فداره «1» ومن يطلب المعروف من غير أهله ... يجده وراء البحر أو في قراره ولله في عرض السّموات جنّة ... ولكنّها محفوفة بالمكاره وقال آخر: بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ليرتع منك في عرض مصون عرض على أبي مسلم صاحب الدعوة فرس جواد، فقال لقوّاده: لماذا يصلح مثل هذا الفرس؟ قالوا: إنا نغزو عليه العدو. قال: لا، ولكن يركبه الرجل فيهرب عليه من جار السّوء. ذمّ الزمان قالت الحكماء: جبل الناس على ذمّ زمانهم وقلة الرضا عن أهل عصرهم. فمنه قولهم: رضا الناس غاية لا تدرك. وقولهم: لا سبيل إلى السلام من ألسنة العامة. وقولهم: الناس يعيّرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر.

لعائشة في لبيد:

وفي الحديث: «لو أن المؤمن كالقدح لقال الناس ليس ولولا ... !» . وقال الشاعر: من لابس الناس لم يسلم من الناس ... وضرّسوه بأنياب وأضراس «1» لعائشة في لبيد: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: رحم الله لبيدا، كان يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت خلف كجلد الأجرب فكيف لو أبصر زماننا هذا؟ قال عروة: ونحن نقول: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت زماننا هذا. وكان بعضهم يقول: ذهب الناس وبقي النسناس «2» ، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ دخل مسلم بن يزيد بن وهب على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: أيّ زمان أدركت أفضل، وأيّ الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا حامدا أو ذامّا، وأما الزمان فيرفع أقواما ويضع أقواما، وكلهم يذمّ زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرّق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم. وقال الشاعر: أيا دهر إن كنت عاديتنا ... فما قد صنعت بنا ما كفاكا جعلت الشّرار علينا خيارا ... وولّيتنا بعد وجه قفاكا وقال آخر: إذا كان الزمان زمان تيم ... وعكل فالسلام على الزمان زمان صار فيه الصدر عجزا ... وصار الزّجّ قدّام السّنان «3»

أبو مياس وقوم يذكرون الزمان:

لعل زماننا سيعود يوما ... كما عاد الزمان على بطان «1» أبو مياس وقوم يذكرون الزمان: أبو جعفر الشيباني قال: أتانا يوما أبو ميّاس الشاعر ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه وما تتذاكرون؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده. قال: كلا، إنما الزمان وعاء، وما ألقي فيه من خير أو شرّ كان على حاله. ثم أنشأ يقول: أرى حللا تصان على أناس ... وأخلاقا تداس فما تصان يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان أنشد فرج بن سلام: هذا الزمان الذي كنّا نحذّره ... فيما يحدّث كعب وابن مسعود إن دام ذا الدهر لم نحزن على أحد ... يموت منّا ولم نفرح بمولود وقال حبيب الطائي: لم أبك في زمن لم أرض خلّته ... إلا بكيت عليه حين ينصرم وقال آخر في طاهر بن الحسين: إذا كانت الدنيا تنال بطاهر ... تجنّبت منها كلّ ما فيه طاهر وأعرضت عنها عفّة وتكرّما ... وأرجأتها حتى تدور الدوائر وقال مؤمن بن سعيد في معقل الضبيّ وابن أخيه عثمان: لقد ذلّت الدنيا وقد ذلّ أهلها ... وقد ملها أهل النّدى والتفضّل إذا كانت الدنيا تميل بخيرها ... إلى مثل عثمان ومثل المحول ففي است امّ دنيانا وفي است امّ خيرها ... وفي است امّ عثمان وفي است امّ معقل وقال محمد بن مناذر:

للجاحظ في ذم الزمان:

يا طالب الأشعار والنحو ... هذا زمان فاسد الحشو نهاره أوحش من ليله ... ونشوه من أخبث النشو فدع طلاب النحو لا تبغه ... ولا تقل شعرا ولا ترو فما يجوز اليوم إلّا امرؤ ... مستحكم العزف أو الشّدو أو طرمذان قوله كاذب ... لا يفعل الخير ولا ينوي «1» ومن قولنا في هذا المعنى: رجاء دون أقربه السّحاب ... ووعد مثل ما لمع السّراب ودهر سادت العبدان فيه ... وعاثت في جوانبه الذّئاب وأيام خلت من كلّ خير ... ودنيا قد توزّعها الكلاب كلاب لو سألتهم ترابا ... لقالوا: عندنا انقطع التّراب تعاقب من أساء القول فيهم ... وإن يحسن فليس له ثواب للجاحظ في ذم الزمان: كتب عمرو بن بحر الجاحظ إلى بعض إخوانه في ذم الزمان: بسم الله الرحمن الرحيم. حفظك الله حفظ من وفّقه للقناعة، واستعمله بالطاعة كتبت إليك وحالي حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقلّ عنده من يثق بوفائه، أو يحمد مغبّة إخائه، لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا، وقدما كان من قدّم الحياء على نفسه، وحكّم الصدق في قوله، وآثر الحقّ في أموره، ونبذ المشتبهات عليه من شئونه. تمت له السلامة، وفاز بوفور حظّ العافية، وحمد مغبّة مكروه العاقبة، فنظرنا إذ حال عندنا حكمه، وتحولت دولته. فوجدنا الحياء متصلا بالحرمان، والصدق آفة على المال، والقصد في الطلب بترك استعمال القحة «2» وإخلاق العرض من طريق التوكل دليلا

على سخافة الرأي؛ إذ صارت الحظوة الباسقة والنّعمة السابغة «1» في لؤم النية، وتناول الرّزق من جهة محاشاة الوقار، وملابسة معرّة العار. ثم نظرنا في تعقّب المتعقّب لقولنا، والكاشر لحجتنا، فأقمنا له علما واضحا، وشاهدا قائما، ومنارا بيّنا؛ إذ وجدنا من فيه السّفوليّة الواضحة، والمثالب الفاضحة، والكذب المبرّح، والخلف المصرّح، والجهالة المفرطة، والركاكة المستخفّة، وضعف اليقين والاستيثاب «2» ، وسرعة الغضب والخفة قد استكمل سروره، واعتدلت أموره، وفاز بالسهم الأغلب، والحظّ الأوفر، والقدر الرفيع، والجواب الطائع، والأمر النافذ، إن زلّ قيل حكم، وإن أخطأ قيل أصاب، وإن هذى في كلامه وهو يقظان قيل رؤيا صادقة في سنة «3» مباركة. فهذه حجتنا- أبقاك الله- على من زعم أن الجهل يخفض، وأن الحمق يضع، وأن النّوك يردي وأن الكذب يضر، وأن الخلف يزري. ثم نظرنا في الوفاء والأمانة، والنّبل والبراعة وحسن المذهب، وكمال المروءة، وسعة الصدر، وقلة الغضب، وكرم الطبيعة، والفائق في سعة علمه، والحاكم على نفسه، والغالب لهواه؛ فوجدنا فلان بن فلان، ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقّه، ولا قام له بوظائف فرضه؛ ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به. فهذا دليل على أن الطّلاح أجدى من الصّلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره «4» ، وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضده؛ ووجدنا العقل يشقى به قرينه، كما أنّ الجهل والحمق يحظى به خدينه ووجدنا الشعر ناطقا على الزمان، ومعربا عن الأيام، حيث يقول: تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولاقهم بالجهل فعل أخي الجهل

فساد الإخوان

وخلّط إذا لاقيت يوما مخلّطا ... يخلّط في قول صحيح وفي هزل «1» فإنّي رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل فبقيت أبقاك الله مثل من أصبح على أوفاز «2» ، ومن النّقلة على جهاز، لا تسوغ له نهمة ولا يطعم عينيه غمضة، في أهاويل يباكره مكروهها وتراوحه عقابيلها «3» فلو أن الدعاء أجيب والتضرّع سمع، لكانت الهدّة العظمى، والرجفة الكبرى؛ فليت الذي يا أخي ما أستبطئه من النفخة، ومن فجأة الصيحة، قضي فحان، وأذن به فكان؛ فو الله ما عذّبت أمة برجفة ولا ريح ولا سخطة، عذاب عيني برؤية المغايظة المضنية، والأخبار المهلكة، كأن الزمان توكل بعذابي، أو انتصب لإيلامي؛ فما عيش من لا يسرّ بأخ شقيق، ولا خدن شفيق، ولا يصطبح في أول نهاره إلا برؤية من تكره رؤيته، ونغمة من تغمّه طلعته فبدّل الله لي- أي أخي- بالمسكن مسكنا، وبالربع ربعا! فقد طالت الغمة، وواطنت الكربة، وادلهمّت الظّلمة، وخمد السراج، وتباطأ الانفراج، السلام. فساد الإخوان قال أبو الدرداء: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا شوكا لا ورق فيه. وقيل لعروة بن الزّبير: ألا تنتقل إلى المدينة؟ قال: ما بقي بالمدينة إلا حاسد على نعمة، أو شامت بمصيبة. الخشني «4» ، قال: أنشدني الرياشي: إذا ذهب التّكرّم والوفاء ... وباد رجاله وبقي الغثاء «5» وأسلمني الزّمان إلى رجال ... كأمثال الذّئاب لها عواء

صديق كلّما استغنيت عنهم ... وأعداء إذا جهد البلاء إذا ما جئتهم يتدافعوني ... كأنّي أجرب آذاه داء أقول ولا ألام على مقال ... على الإخوان كلّهم العفاء «1» وقالت الحكماء: لا شيء أضيع من مودة من لا وفاء له، واصطناع من لا شكر عنده. والكريم يودّ الكريم عن لقية واحدة، واللئيم لا يصل أحدا إلا عن رغبة أو رهبة. وفي كتاب للهند: إن الرجل السّوء لا يتغير عن طبعه، كما أن الشجرة المرّة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مرّا. وسمع رجل أبا العتاهية ينشد: فارم بطرفك حيث شئ ... ت فلا ترى إلّا بخيلا وقال أيضا في هذا المعنى: لله درّ أبيك أيّ زمان ... أصبحت فيه وأيّ أهل زمان كلّ يوازنك المودّة جاهدا ... يعطي ويأخذ منك بالميزان فإذا رأى رجحان حبّة خردل ... مالت مودّته إلى الرّجحان وقال: أرى قوما وجوههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا وإن كانت حوائجنا إليهم ... يقبّح حسن أوجههم علينا فإن منع الأشحّة ما لديهم ... فإنّا سوف نمنع ما لدينا وقال: موالينا إذا احتاجوا إلينا ... وليس لنا احتياج للموالي

للبكري: وخليل لم أخنه ساعة ... في دمي كفّيه ظلما قد غمس كان في سرّي وجهري ثقتي ... لست عنه في مهمّ أحترس ستر البغض بألفاظ الهوى ... وادّعى الودّ بغشّ ودلس «1» إن رآني قال لي خيرا وإن ... غبت عنه قال شرّا ودحس «2» ثم لمّا أمكنته فرصة ... حمل السيف على مجرى النّفس وأراد الرّوح لكن خانه ... قدر أيقظ من كان نعس وأنشد العتبي: إذا كنت تغضب من غير ذنب ... وتعتب من غير جرم عليّا طلبت رضاك فإن عزّني ... عددتك ميتا وإن كنت حيّا فلا تعجبنّ بما في يديك ... فأكثر منه الذي في يديّا وقال ابن أبي حازم: وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد كنّا كساق تسعى بها قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد حتّى إذا دانت الحوادث من ... عظمي وحلّ الزّمان من عقدي «3» ازورّ عنّي وكان ينظر من ... طرفي ويرمي بساعدي ويدي «4» وقال: وخلّ كان يخفض لي جناحا ... أفاد غنى فنابذني جماحا «5» فقلت له ولي نفس عزوف ... إذا حميت تقحّمت الرّماحا «6» سأبدل بالمطامع فيك يأسا ... وباليأس استراح من استراحا

وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: وأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلّا تماديا كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا وقال البحتري: أشرّق أم أغرّب يا سعيد ... وأنقص من ذمامي أو أزيد عدتني عن نصيبين العوادي ... فبختي أبله فيها بليد «1» وخلّفني الزّمان على رجال ... وجوههم وأيديهم حديد لهم حلل حسنّ فهنّ بيض ... وأخلاق سمجن فهنّ سود ألا ليت المقادر لم تقدّر ... ولم تكن العطايا والجدود «2» وقال ابن أبي حازم: وقالوا: لو مدحت فتى كريما ... فقلت وكيف لي بفتى كريم! بلوت ومرّ بي خمسون حولا ... وحسبك بالمجرّب من عليم فلا أحد يعدّ ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم «3» وقال: قد بلوت الناس طرّا ... لم أجد في الناس حرّا صار حلو الناس في العي ... ن إذا ما ذيق مرّا وقال: من سلا عنّي أطلق ... ت حبالي من حباله أو أجدّ الوصل سارعت ... ت بجهدي في فصاله

إنما أحذوا على فع ... ل صديقي بمثاله غير مستجد إذا ازورّ ك ... أنيّ من عياله لن يراني أبدا أع ... ظم ذا مال لماله لا ولا أزرى بمن يع ... قل عندي سوء حاله «1» إنّما أقضي على ذا ... ك وهذا بفعاله كيفما صرّفني الده ... ر فإني من رجاله ومن قولنا في هذا المعنى: أبا صالح جاءت على الناس غفلة ... على غفلة ماتت بكلّ كريم فليت الألى بانوا يفادون بالألى ... أقاموا، فيفدى ظاعن بمقيم «2» ويا ليتها الكبرى فتطوى سماؤنا ... لها وتمدّ الأرض مدّ أديم «3» فما الموت إلا عيش كلّ مبخّل ... وما العيش إلا موت كلّ ذميم وأعذر ما أدمى الجفون من البكا ... كريم رأى الدنيا بكفّ لئيم ومثله في هذا المعنى: أبا صالح، أين الكرام بأسرهم ... أفدني كريما فالكريم رضاء أحقّا يقول الناس في جود حاتم ... وإبن سنان كان فيه سخاء «4» عذيري من خلق تخلّق منهم ... غباء ولؤم فاضح وجفاء حجارة بخل ما تجود وربّما ... تفجّر من صمّ الحجارة ماء ولو أنّ موسى جاء يضرب بالعصا ... لما انبجست من ضربه البخلاء «5» بقاء لئام الناس موت عليهم ... كما أنّ موت الأكرمين بقاء عزيز عليهم أن تجود أكفّهم ... عليهم من الله العزيز عفاء

ومثله قولنا في هذا المعنى: ساق ترنّح يشدو فوقه ساق ... كأنّه لحنين الصوت مشتاق يا ضيعة الشّعر في بله جرامقة ... تشابهت منهم في الّلؤم أخلاق «1» غلّت بأعناقهم أيد مقفّعة ... لا بوركت منهم أيد وأعناق «2» كأنّما بينهم في منع سائلهم ... وحبس نائلهم عهد وميثاق كم سقتهم بأماديحي وقدتهم ... نحو المعالي فما انقادوا ولا انساقوا وإن نبابي في ساحاتهم وطن ... فالأرض واسعة والناس أفراق ما كنت أول ظمآن بمهمهة ... يغرّه من سراب القفر رقراق رزق من الله أرضاهم وأسخطني ... والله للأنوك المعتوه رزّاق يا قابض الكفّ لا زالت مقبّضة ... فما أناملها للناس أرزاق وغب إذا شئت حتى لا ترى أبدا ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق ولا إليك سبيل الجود شارعة ... ولا عليك لنور المجد إشراق «3» لم يكتنفني رجاء لا ولا أمل ... إلا تكنّفه ذلّ وإملاق وقال مؤمّل بن سعيد في هذا المعنى: إنّما أزرى بقدري أنّني ... لست من نابه أهل البلد ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد «4» يتحامون لقائي مثل ما ... يتحامون لقاء الأسد طلعتي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد لو رأوني وسط بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي

باب في الكبر

باب في الكبر قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما قصمته وأهنته» . وقال عليه السلام: «لا يدخل حضرة القدس متكبر» . وقال: «فضل الإزار في النار. معناه: من سحب ذيله في الخيلاء قاده ذلك إلى النار» . ونظر الحسن إلى عبد الله بن الأهتم يخطر «1» في المسجد، فقال: انظروا إلى هذا؛ ليس منه عضو إلا والله عليه نعمة وللشيطان فيه لعنة. وقال سعد بن أبي وقّاص لابنه: يا بنيّ، إياك والكبر، وليكن فيما تستعين به على تركه علمك بالذي منه كنت، والذي إليه تصير. وكيف الكبر مع النطفة التي منها خلقت، والرّحم التي منها قذفت، والغذاء الذي به غذيت. وقال يحيى بن حيّان: الشريف إذا تقوّى تواضع، والوضيع إذا تقوّى تكبّر. وقال بعض الحكماء: كيف يستقر الكبر فيمن خلق من تراب، وطوي على القذر، وجرى مجرى البول! وقال الحسن: عجبا لابن آدم، كيف يتكبّر وفيه تسع سموم كلها يقذر. وذكر الحسن المتكبرين فقال: يلفى أحدهم ينص «2» رقبته نصا، ينفض مذرويه «3» ، ويضرب أصدريه، يملخ في الباطن ملخا «4» ، يقول: ها أنا ذا فاعرفوني! قد عرفناك يا أحمق! مقتك الله ومقتك الصالحون. ووقف عيينة بن حصن بباب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال: استأذنوا لي

للحجاج في أربعة:

على أمير المؤمنين وقولوا: هذا ابن الأخيار بالباب. فأذن له؛ فلما دخل عليه قال له: أنت ابن الأخيار؟ قال: نعم. قال له: بل أنت ابن الأشرار، وأما ابن الأخيار فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقيل لعبيد الله بن ظبيان: كثّر الله في العشيرة أمثالك. فقال: لقد سألتم الله شططا «1» . وقيل لرجل من عبد الدّار عظيم الكبر: ألا تأتي الخليفة. قال: أخشى ألا يحمل الجسر شرفي. وقيل له: ألا تلبس؟ فإنّ البرد شديد. قال: حسبي يدفئني. للحجاج في أربعة: قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق أيها الأمير؟ قال: خير منزل، لو أدركت بها أربعة نفر لتقرّبت إلى الله سبحانه وتعالى بدمائهم. قيل له: ومن هم؟ قال مقاتل بن مسمع، ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قدم البصرة بسط له الناس أرديتهم فمشى عليها. فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون. وعبيد الله بن ظبيان، خطب خطبة أوجز فيها، فناداه الناس من أعراض المسجد: كثّر الله فينا أمثالك. قال: لقد كلّفتم ربّكم شططا. ومعبد بن زرارة، كان ذات يوم جالسا على طريق؛ فمرّت به امرأة فقالت: يا عبد الله، أين الطريق لمكان كذا؟ فقال: لمثلي يقال يا عبد الله؟ ويلك!. وأبو السّمّاك الحنفي، أضلّ ناقته فقال: والله لئن لم يردد عليّ ناقتي لا صلّيت أبدا. وقال ناقل الحديث: ونسي الحجاج نفسه وهو خامس هؤلاء الأربعة، بل هو أشدّهم كبرا، وأعظمهم إلحادا، حين كتب إلى عبد الملك في عطسة عطسها فشمّته «2» أصحابه وردّ عليهم: بلغني ما كان من عطاس أمير المؤمنين وتشميت أصحابه له

وردّه عليهم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما. وكتابه إليه: إنّ خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله إليهم، وكذلك الخلفاء يا أمير المؤمنين أعلى منزلة من المرسلين. العتبي قال: رأيت محرزا مولى باهلة يطوف على بغلة بين الصفا والمروة، ثم رأيته بعد ذلك على جسر بغداد راجلا، فقلت له: أراجل أنت في مثل هذا الموضع؟ قال: نعم، إني ركبت في موضع يمشي الناس فيه، فكان حقيقا على الله أن يرجلني في موضع يركب الناس فيه. وقال بعض الحكماء لابنه: يا بني، عليك بالترحيب والبشر، وإياك والتقطيب والكبر؛ فإن الأحرار أحب إليهم أن يلقوا بما يحبون ويحرموا من أن يلقوا بما يكرهون ويعطوا؛ فانظر إلى خصلة غطت على مثل اللؤوم فالزمها، وانظر إلى خصلة عفّت على مثل الكرم فاجتنبها. ألم تسمع إلى قول حاتم الطائي: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنّما وجه الكريم خصيب وقال محمود الوراق: التّيه مفسدة للدين منقصة ... للعقل مجبلة للذم والسّخط منع العطاء وبسط الوجه أحسن من ... بذل العطاء بوجه غير منبسط وقال أيضا: بشر البخيل يكاد يصلح بخله ... والتّيه مفسدة لكلّ جواد ونقيصة تبقى على أيامه ... ومسبّة في الأهل والأولاد وقال آخر في الكبر: مع الأرض يا ابن الأرض في الطيران ... أتأمل أن ترقى إلى الدّبران «1»

التسامح مع النعمة والتذلل مع المصيبة

فو الله ما أبصرت يوما محلّقا ... ولو حلّ بين الجدي والسرطان «1» حماه مكان البعد من أن تناله ... بسهم من البلوى يد الحدثان «2» التسامح مع النعمة والتذلل مع المصيبة قالوا: من عزّ بإقبال الدهر ذلّ بإدباره. وقالوا: من أبطره الغنى أذلّه الفقر. وقالوا: من ولي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها، ومن ولي ولاية يرى ولايته أكبر من نفسه تغيّر لها. وقال يحيى بن حيّان: الشريف إذا تقوّى تواضع والوضيع إذا تقوّى تكبر. وقال كسرى: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. وكتب على بن الجهم إلى ابن الزيات: أبا جعفر عرّج على خلطائكا ... وأقصر قليلا من مدى غلوائكا فإن كنت قد أوتيت في اليوم رفعة ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ: لقد عجبت منه الّليالي لأنّه ... صبور على عضلاء تلك البلابل «3» إذا نال لم يفرح وليس لنكبة ... ألّمت به بالخاشع المتضائل وقال الحسن بن هانيء: ولقد حزنت فلم أمت حزنا ... ولقد فرحت فلم أمت فرحا وكتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام يسأله عن حاله، فكتب إليه عليّ رضي الله عنه:

باب في التواضع

فإن تسألنّي كيف أنت فإنّني ... جليد على عضّ الزّمان صليب «1» عزيز عليّ أن ترى بي كآبة ... فيفرح واش أو يساء حبيب باب في التواضع قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله» . قالت الحكماء: كلّ نعمة يحسد عليا إلا التواضع. وقال عبد الملك بن مروان، رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوّة» . وقال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك. من تواضع النجاشي: وأصبح النّجاشي يوما جالسا على الأرض والتاج عليه، فأعظمت بطارقته ذلك وسألوه عن السبب الذي أوجبه؛ فقال: وجدت فيما أنزل الله على المسيح: إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع أتممتها عليه. وإنه ولد لي هذه الليلة غلام فتواضعت شكرا لله. عمر وامرأة من قريش: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويده على المعلّى بن الجارود العبدي، فلقيته امرأة من قريش فقالت له: يا عمر، فوقف لها. فقالت: كنا نعرفك مدّة عميرا، ثم صرت من بعد عمير عمر، ثم صرت من بعد عمر أمير المؤمنين. فاتق الله يا بن الخطاب وانظر في أمور الناس، فإنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت. فقال المعلي: إيها يا أمة الله! لقد أبكيت أمير المؤمنين. فقال له عمر: اسكت. أتدري من هذه ويحك؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله

الرفق والأناة

قولها من سمائه، فعمر أحرى أن يسمع قولها ويقتدي به. وقال أبو عبّاد: ما جلس إليّ رجل قط إلّا خيّل إليّ أني سأجلس إليه. وسئل الحسن عن التواضع فقال: هو أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدا إلا رأيت له الفضل عليك. وقال رجل لبكر بن عبد الله: علّمني التواضع. فقال: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، فهو خير مني؛ وإن رأيت أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والعمل السيء، فأنا شرّ منه. وقال أبو العتاهية: يا من تشرّف بالدّنيا وزينتها ... ليس التّشرّف رفع الطين بالطّين إذا أردت شريف النّاس كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين ذاك الذي عظمت في الناس همته ... وذاك يصلح للدنيا وللدّين الرفق والأناة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أوتي حظّه من الرفق فقد أوتي حظّه من خير الدنيا والآخرة» . وقالت الحكماء: يدرك بالرفق ما لا يدرك بالعنف، ألا ترى أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدّته. وقال أشجع بن عمرو السلمي لجعفر بن يحيى بن خالد: ما كان يدرك بالرجال ولا ... بالمال ما أدركت بالرفق وقال النابغة: الرّفق يمن والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا وقالوا: العجل بريد الزّلل. أخذ القطامي التغلبيّ هذا المعنى فقال: قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل

استراحة الرجل بمكنون سره إلى صديقه

وقال عديّ بن زيد: قد يدرك المبطيء من حظّه ... والحين قد يسبق جهد الحريص «1» استراحة الرجل بمكنون سره إلى صديقه تقول العرب: أفضيت إليك بشقوري «2» ، وأطلعتك على عجري وبجري «3» ، ولو كان في جسدي برص ما كتمته. وقال الله تبارك وتعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ «4» . وقالت الحكماء: لكل سرّ مستودع. وقالوا: مكاتمة الأدنين صريح العقوق. وقال الشاعر: وأبثثت عمرا بعض ما في جوانحي ... وجرعته من مرّ ما أتجرّع ولا بدّ من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفس تطلّع «5» وقال حبيب: شكوت وما الشّكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها وأنشد أبو الحسن محمد البصريّ: لعب الهوى بمعالمي ورسومي ... ودفنت حيّا تحت ردم همومي وشكوت همّي حين ضقت ومن شكا ... همّا يضيق به فغير ملوم وقال آخر: إذا لم أطق صبرا رجعت إلى الشكوى ... وناديت تحت الليل يأسا مع النجوى

الاستدلال باللحظ على الضمير

وأمطرت صحن الخدّ غيثا من البكا ... على كبد حرّى لتروى فما تروى «1» الاستدلال باللحظ على الضمير قالت الحكماء: العين باب القلب؛ فما كان في القلب ظهر في العين. لعثمان بن إبراهيم: أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مصعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد، قال: إني لأعرف في العين إذا عرفت، وأعرف فيها إذا أنكرت، وأعرف فيها إذا لم تعرف ولم تنكر؛ أما إذا عرفت فتحواصّ «2» ، وأما إذا أنكرت فتجحظ «3» وأما إذا لم تعرف ولم تنكر فتسجو «4» . وقال صريع الغواني: جعلنا علامات المودّة بيننا ... مصايد لحظ هنّ أخفى من السّحر فأعرف فيها الوصل في لين طرفها ... وأعرف فيها الهجر في النّظر الشّزر «5» وقال محمود الوراق: إنّ العيون على القلوب شواهد ... فبغيضها لك بيّن وحبيبها وإذا تلاحظت العيون تفاوضت ... وتحدّثت عما تجنّ قلوبها «6» ينطقن والأفواه صامتة فما ... يخفى عليك بريئها ومريبها

الاستدلال بالضمير على الضمير

وقال ابن أبي حازم: خذ من العيش ما كفي ... ومن الدّهر ما صفا عين من لا يحبّ وصلك تبدي لك الجفا ومن قولنا في هذا المعنى: صادق في الحبّ مكذوب ... دمعه للشوق مسكوب كلّ ما تطوي جوانحه ... فهو في العينين مكتوب «1» وقال الحسن بن هانيء: وإنّي لطير العين بالعين زاجر ... فقد كدت لا يخفى عليّ ضمير الاستدلال بالضمير على الضمير كتب حكيم إلى حكيم: إذا أردت معرفة مالك عندي فضع يدك على صدرك، فكما تجدني كذلك أجدك. وقالوا: إياكم ومن تبغضه قلوبكم، فإن القلوب تجازي الفلوب. وقال ذو الإصبع: لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني قال محمود الوراق: لا تسألنّ المرء عمّا عنده ... واستمل ما في قلبه من قلبكا إن كان بغضا كان عندك مثله ... أو كان حبّا فاز منك بحبّكا الإصابة بالظنّ قيل لعمرو بن العاص: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظنّ، ومعرفة ما يكون بما قد كان. وقال عمر بن الخطاب: من لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.

تقديم القرابة وتفضيل المعارف

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لله درّ ابن عباس، إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وقال الشاعر: وقلّما يفجأ المكروه صاحبه ... حتى يرى لوجوه الشّرّ أسبابا وإنما ركّب الله العقل في الإنسان دون سائر الحيوان ليستدلّ بالظاهر على الباطن ويفهم الكثير بالقليل. ومن قولنا في هذا المعنى: يا غافلا ما يرى إلّا محاسنه ... ولو درى ما رأى إلا مساويه انظر إلى باطن الدّنيا فظاهرها ... كلّ البهائم يجري طرفها فيه تقديم القرابة وتفضيل المعارف قال الشّيباني: أول من آثر القرابة والأولياء عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقال: كان عمر يمنع أقاربه ابتغاء وجه الله. ولا يرى أفضل من عمر. وقال لما آوى طريد النبي صلّى الله عليه وسلم: ما نقم الناس على أن وصل رحما وقرّب عمّا. وقيل لمعاوية بن أبي سفيان: إن آذنك يقدّم معارفه وأصدقاءه في الإذن على أشراف الناس ووجوههم. فقال ويلكم، إن المعرفة لتنفع في الكلب العقور والجمل الصّئول «1» ؛ فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين. وقال رجل لزياد: أصلح الله الأمير، إن هذا يدلّ «2» بمكانة يدّعيها منك. قال: نعم، وأخبرك ما ينفعه من ذلك، إن كان الحقّ له عليك أخذتك به أخذا شديدا، وإن كان عليه قضيته عنه.

لعبد الله القسري حين ولي قضاء البصرة:

وقال الشاعر: أقول لجاري إذا أتاني مخاصما ... يدلّ بحقّ أو يدلّ بباطل إذا لم يصل خيري وأنت مجاوري ... إليك فما شرّي إليك بواصل لعبد الله القسري حين ولي قضاء البصرة: العتبي قال: ولي عبد الله بن خالد بن عبد الله القسري قضاء البصرة، فكان يحابي أهل مودّته، فقيل له: أيّ رجل أنت لولا أنك تحابي. قال: وما خير الصديق إذا لم يقطع لصديقه قطعة من دينه. وولي ابن شبرمة قضاء البصرة وهو كاره، فأحسن السيرة، فلما عزل اجتمع إليه أهل خاصته ومودته، فقال لهم: والله لقد وليت هذه الولاية وأنا كاره، وعزلت عنها وأنا كاره، وما بي في ذلك إلا مخافة أن يلي هذه الوجوه من لا يعرف حقها. ثم تمثّل بقول الشاعر: فما السّجن أبكاني ولا القيد شفّني ... ولا أنني من خشية الموت أجزع «1» بلى إنّ أقواما أخاف عليهم ... إذا متّ أن يعطو الذي كنت أمنع وتقول العامة: محبة السلطان أردّ عليك من شهودك. وقال الشاعر: إذا كان الأمير عليك خصما ... فليس بقابل منك الشّهودا وقال زياد: أحبّ الولاية لثلاث، وأكرهها لثلاث: أحبّها لنفع الأولياء، وضرّ الأعداء، واسترخاص الأشياء. وأكرهها لروعة البريد، وخوف العزل، وشماتة العدو. ويقول الحكماء: أحقّ من شاركك في النعمة شركاؤك في المصيبة. أخذه الشاعر فقال:

فضل العشيرة

وإنّ أولى الموالي أن تواسيه ... عند السّرور لمن واساك في الحزن إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن وقال حبيب: قبح الإله عداوة لا تتّقى ... ومودّة يدلى بها لا تنفع فضل العشيرة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عشيرة الرجل خير للرجل من الرجل للعشيرة، إن كف عنهم يدا واحدة كفّوا عنه أيديا كثيرة، مع مودتهم وحفاظهم ونصرتهم، إن الرجل ليغضب للرجل لا يعرفه إلا بنسبه. وسأتلو عليكم في ذلك آيات من كتاب الله تعالى؛ قال الله عز وجل فيما حكاه عن لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ «1» يعني العشيرة، ولم يكن للوط عشيرة، فو الذي نفسي بيده ما بعث الله نبيا من بعده إلا في ثروة من قومه، ومنعة من عشيرته. ثم ذكر شعيبا إذ قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ «2» وكان مكفوفا، والله ما هابوا إلا عشيرته. وقيل لبزرجمهر: ما تقول في ابن العم؟ قال: هو عدوّك وعدوّ عدوّك. الدّين من حديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: الدّين ينقص ذا الحسب. وقال عمر ألا إن الأسيفع «3» أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج. ألا وإنه قد ادّان معرضا، وأصبح قد رين «4» به، فمن كان له عنده شيء

مجانبة الخلف والكذب

فليأتنا بالغداة نقسم ماله بين غرمائه، ثم إياكم والدّين، فإن أوله هم وآخره حزن. وقال مولى قضاعة: فلو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... عليّ لإنسان من النّاس درهما ولكنّني مولى قضاعة كلّها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما وقال آخر: إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن ... قضاء ولكن كان غرما على غرم وقال سفيان الثوري: الدّين همّ بالليل وذلّ بالنهار، فإذا أراد الله أن يذل عبدا جعله قلادة في عنقه. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا متقنّعا، فقال له: كان لقمان الحكيم يقول: القناع ريبة بالليل ذلّ بالنهار. فقال الرجل لقمان الحكيم لم يكن عليه دين. وقال المقنّع الكندي: يعاتبني في الدّين قومي وإنّما ... تداينت في أشياء تكسبهم حمدا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا مجانبة الخلف والكذب قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الكذب مجانب الإيمان» . وقالت الحكماء: ليس لكذّاب مروءة. وقالوا: من عرف بالكذب لم يجز صدقه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يجوز الكذب في جدّ ولا هزل» . وقال: لا يكون المؤمن كذابا. وقال عبد الله بن عمر: خلف الوعد ثلث النفاق. وقال حبيب الطائي في عياش:

التنزه عن استماع الخنا والقول به

يا أكثر وعدا حشوه خلف ... وأكثر الناس قولا حشوه كذب ومن قولنا في هذا المعنى: صحيفة أفنيت ليت بها وعسى ... عنوانها راحة الرّاجي إذا يئسا وعد له هاجس في القلب قد برمت ... أحشاء صدري به من طول ما انجسا مواعد غرّني منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا «1» فصادمت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا كأنّما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا التنزه عن استماع الخنا والقول به اعلم أنّ السامع شريك القائل في الشر؛ قال الله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ «2» . وقال العتبي: حدّثني أبي عن سعد القصير قال: نظر إليّ عمرو بن عتبة ورجل يشتم رجلا بين يدي؛ فقال لي: ويلك! - وما قال لي «ويلك» قبلها- نزّه سمعك عن استماع الخنا كما تنزّه لسانك عن الكلام به؛ فإن السامع شريك القائل، وإنه عمد إلى شرّ ما في وعائه فأفرغه في وعائك؛ ولو ردّت كلمة جاهل في فيه لسعد رادّها كما شقي قائلها. باب في الغلوّ في الدين توفّي رجل في عهد عمر بن ذرّ ممن أسرف على نفسه في الذنوب، وجاوز في الطّغيان، فتجافى الناس عن جنازته، فحضرها عمر بن ذرّ وصلّى عليه، فلما أدلي في قبره قال: يرحمك الله أبا فلان، صحبت عمرك بالتوحيد، وعفرت «3» وجهك لله بالسجود، فإن قالوا مذنب وذو خطايا، فمن منا غير مذنب وذي خطايا.

ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً «1» وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «2» ثم ذكر الرجل يرى أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام؛ فأنّي يستجاب له؟» . قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله بعثني بالحنيفية السمحة ولم يبعثني بالرّهبانية المبتدعة، سنّتي الصلاة والنوم، والإفطار والصوم؛ فمن رغب عن سنّتي فليس مني» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ هذا الدين متين فأوغل «3» فيه برفق؛ فإنّ المنبتّ «4» لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير هذه الأمة هنا النّمط الأوسط، يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي. وقال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير لابنه، وكان قد تعبّد: يا بنيّ، إنّ الحسنة بين السيئتين- يعني الدين: بين الإفراط والتقصير- وخير الأمور أوسطها، وشر السّير الحقحقة «5» . وقال سلمان الفارسي: القصد والدّوام، وأنت الجواد السابق. وقالوا: عامل البرّ كآكل الطعام: إن أكل منه قوتا عصمه، وإن أسرف منه أبشمه «6» . وفي بعض الحديث: أنّ عيسى بن مريم عليه السلام لقي رجلا، فقال له: ما

تصنع؟ قال: أتعبّد. قال: فمن يعود عليك؟ قال: أخي. قال: هو أعبد منك. ونظير هذا أنّ رفقة من الأشعريّين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان؛ كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل. قال: فمن كان يمهن له ويكفله؟ قالوا: كلنا. قال: كلكم أفضل منه. وقيل للزهري: ما الزهد في الدنيا؟ قال: إنه ما هو بتشعيث الّلمّة، ولا قشف الهيئة، ولكنه ظلف «1» النفس عن الشهوة. عليّ بن عاصم عن أبي إسحاق عن الشيباني قال: رأيت محمد بن الحنفية واقفا بعرفات على برذون وعليه مطرف خزّ أصفر. السّدّيّ عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان أنّ ابن عباس كان يرتدي رداء بألف. إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة. وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني يكاد يمسّ الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشّهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص وإنها اليوم في تشميره. أبو حاتم عن الأصمعي: أن ابن عون اشترى برنسا. فمرّ على معاذة العدويّة، فقالت: مثلك يلبس هذا؟ فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: أفلا أخبرتها أن تميما الدّاريّ اشترى حلّة بألف يصلّي فيها! قدم حمّاد بن سلمة البصرة، فجاءه فرقد السّبخيّ وعليه ثياب صوف، فقال له حماد: دع عنك نصرانيّتك هذه! فقال له: لقد رأيتنا ننظر إبراهيم فيخرج إلينا وعليه معصفرة «2» ، ونحن نرى أن الميتة قد حلّت له.

الربيع بن زياد وعلي في عاصم:

أبو الحسن المدائني قال: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم والي خراسان في مدرعة صوف، فقال له: ما يدعوك إلى لباس هذه؟ فسكت! فقال له قتيبة: أكلّمك فلا تجيبني؟ قال: أكره أن أقول زهدا فأزكّي نفس، أو أقول فقرا فأشكو ربي؛ فما جوابك إلا السكوت. قال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطّلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لقد هلكتم. وكان القاسم بن محمد يلبس الخزّ وسالم بن عبد الله يلبس الصوف ويقعدان في مسجد المدينة؛ فلا ينكر هذا على هذا ولا ذا على هذا. ودخل رجل على محمد بن المنكدر فوجده قاعدا على حشايا مضاعفة وجارية تغلّفه بالغالية «1» ؛ فقال: رحمك الله! جئت أسألك عن شيء وجدتك فيه- يريد التّزيّن- قال: على هذا أدركت الناس. وصلّى الأعمش في مسجد قوم فأطال بهم الإمام، فلما فرغ قال له: يا هذا، لا تطل صلاتك؛ فإنه يكون خلفك ذو الحاجة والكبير والضعيف. قال الإمام: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. فقال له الأعمش: أنا رسول الخاشعين إليك، إنهم لا يحتاجون إلى هذا منك. الربيع بن زياد وعلي في عاصم: العتبي قال: أصابت الربيع بن زياد نشّابة «2» في جبينه، فكانت تنتقض عليه كل عام. فأتاه عليّ بن أبي طالب عائدا، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه. قال: وما قيمة بصرك عندك؟ قال: لو كانت لي الدنيا فديته بها. قال: لا جرم، يعطيك الله على

النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله ابن عمرو وقد شكته زوجه:

قدر الدنيا، لو كانت لك لأنفقتها في سبيل الله. إن الله يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده بعد تضعيف كثير. وقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، إني لأشكو إليك عاصم بن زياد. قال: وماله؟ قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغمّ أهله، وأحزن ولده. قال: عليّ عاصما. فلما أتاه، عبس في وجهه، وقال: ويلك يا عاصم! أترى الله أباح لك اللذات وهو يكره منك أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك. أو ما سمعته يقول: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ «1» حتى قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» . وتالله لا بتذال نعم الله بالفعال أحبّ إليّ من ابتذالها بالمقال، وقد سمعته يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «3» وقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «4» . قال عاصم: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الحشف «5» ؟ قال: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بالعوام، لئلا يشنع «6» بالفقير فقره. قال: فما خرج حتى لبس الملاء وترك العباء. النبي صلّى الله عليه وسلم وعبد الله ابن عمرو وقد شكته زوجه: محمد بن حاطب الجمي قال: حدّثني من سمع عمرو بن شعيب، وكنت سمعته أنا وأبي جميعا، قال: حدّثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن مسعود، قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم أم عبد الله بن عمرو ابن العاص،

وكانت امرأته تلطف برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: كيف أنت يا أم عبد الله؟ قالت: كيف أكون وعبد الله بن عمرو رجل قد تخلّى من الدنيا! قال لها. كيف ذلك؟ قالت: حرّم النوم فلا ينام، ولا يفطر، ولا يطعم اللحم، ولا يؤدّي إلى أهله حقّهم. قال: فأين هو؟ قالت: خرج ويوشك أن يرجع الساعة. قال: فإذا رجع فاحبسيه عليّ. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجاء عبد الله وأوشك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الرّجعة، فقال يا عبد الله بن عمرو، ما هذا الذي بلغني عنك أنك لا تنام. قال: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: بلغني أنك لا تنام ولا تفطر. قال: أردت بذلك الأمن من الفزع الأكبر. قال: وبلغني أنك لا تطعم اللحم. قال: أردت بذلك ما هو خير منه في الجنة؟ قال: وبلغني أنك لا تؤدّي إلى أهلك حقّهم. قال: أردت بذلك نساء هنّ خير منهن. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن عمرو، إن لك في رسول الله أسوة حسنة؛ فرسول الله يصوم ويفطر، ويأكل اللحم، ويؤدّي إلى أهله حقوقهم. يا عبد الله بن عمرو، إن لله عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا. فقال: يا رسول الله، ما تأمرني أن أصوم؟ خمسة أيام وأفطر يوما؟ قال: لا. قال: فأصوم أربعة وأفطر يوما؟ قال: لا. قال: فأصوم ثلاثة وأفطر يوما؟ قال: لا. قال: فيومين وأفطر يوما؟ قال: لا. قال: فيوما؟ قال: ذلك صيام أخي داود. يا عبد الله بن عمرو؛ كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت «1» عهودهم ومواثيقهم فكانوا هكذا؟ وخالف بين أصابعه. قال: فما تأمرني به يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر، وتعمل بخاصة نفسك، وتدع الناس وعوام أمرهم. قال: ثم أخذ بيده وجعل يمشي به حتى وضع يده في يد أبيه، وقال له: أطع أباك. فلما كان يوم صفّين قال له أبوه عمرو بن العاص: يا عبد الله، اخرج فقاتل. فقال: يا أبتاه، أتأمرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما سمعت

القول في القدر

وعهد إليّ ما عهد؟ قال: أنشدك الله، ألم يكن آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال: أطع أباك؟ قال: اللهم بلى. قال: فإني أعزم عليك فلتخرج فتقاتل، قال: فخرج فقاتل متقلّدا بسيفين. القول في القدر لمحمد بن المنكدر: أتى قوم من أهل القدر محمد بن المنكدر، فقالوا له: أنت الذي تقول إن الله يعذّب الخلق على ما قدّر عليهم؟ فصرف وجهه عنهم ولم يجبهم، فقالوا له: أصلحك الله! إن كنت لا تجيبنا فلا تخلنا من بركة دعائك؛ فقال: اللهم لا تردنا بعقوبتك، ولا تمكر بنا في حيلتك، ولا تؤاخذنا بتقصيرنا عن رضاك، قليل أعمالنا تقبل، وعظيم خطايانا تغفر، أنت الله الذ لم يكن شيء قبلك، ولا يكون شيء بعدك، ولي الأشياء، ترفع بالهدى من تشاء، لا من أحسن استغنى عن عونك، ولا من أساء غلبك، ولا استبدّ شيء عن حكومتك وقدرتك، لا ملجأ إلا إليك؛ فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك؟ وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك؟ حفيظ لا ينسى، وقديم لا يبلى، حيّ لا يموت؛ بك عرفناك، وبك اهتدينا إليك، ولولا أنت لم ندر ما أنت، سبحانك وتعاليت. فقال القوم: قد والله أخبر وما قصّر. وقال: ذكر القدر في مجلس الحسن البصري، فقال: إنّ الله خلق الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه، ولم يعصوه بغلبة، لم يهملهم من الملك، وهو القادر على ما أقدرهم عليه، والمالك لما ملّكهم إياه، فإن يأتمر العباد بطاعة الله لم يكن مثبّطا لهم «1» . بل يزيدهم هدى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم؛ وإن يأتمروا بمعصية الله كان الله قادرا على صرفهم إن شاء، وإن خلّى بينهم وبين المعصية فمن بعد إعذار وإنذار.

غيلان وربيعة:

غيلان وربيعة: مروان بن موسى قال: حدّثنا أبو ضمرة أنّ غيلان قدم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال له: أنت الذي تزعم أنّ الله أحبّ أن يعصى؟ فقال له ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى كرها؟ فكأنما ألقمه حجرا. قيل لطاووس: هذا قتادة يحب أن يأتيك. فقال: إن جاء لأقومنّ. قيل له: إنه فقيه. قال: إبليس أفقه منه. قال: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي «1» . وقيل للشعبي: رأيت قتادة؟ قال: نعم. رأيت كناسة بين حشّين «2» . القدر هو العلم والكتاب والكلمة والإذن والمشيئة. قال الأصمعي: سألت أعرابيا فقلت له: ما فضل بني فلان على بني غلان؟ قال: الكتاب، يعني القدر. وقال الله عزّ وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «3» . وقال: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ «4» . وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ «5» . يعني القدر، وقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً «6» . للخشني في الأعشى ولبيد: قال الخشني أبو عبد الله محمد بن عبد السلام: شاعران من فحول الجاهلية ذهب أحدهما في بيته مذهب العدليّة والآخر ذهب مذهب الجبريّة، فالذي ذهب مذهب العدلية فأعشى بكر حيث يقول:

لإياس بن معاوية:

استأثر الله بالوفاء وبالععدل وولّى الملامة الرجلا والذي ذهب مذهب الجبرية فلبيد بن ربيعة حيث يقول: إنّ تقوى ربّنا خير نفل ... وبإذن الله ريث وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضلّ لإياس بن معاوية: وقال إياس بن معاوية: كلمت الفرق كلّها ببعض عقلي، وكلمت القدريّ بعقلي كلّه، فقلت له: دخولك فيما ليس لك ظلم منك؟ قال: نعم. قلت: فإن الأمر كله لله. ومن قول الله عز وجل في القدر: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ «1» . وقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» . ابن شهاب قال: أنزل الله على نبيه آية في القدرية: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «3» . وقال: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ «4» . وقال محمد بن سيرين: ما ينكر القدرية أن يكون الله علم من خلقه علما فكتبه عليهم. وقال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما تقول في القدر؟ قال: ويحك! أخبرني عن رحمة الله، أكانت قبل طاعة العباد؟ قال: نعم قال عليّ: أسلم صاحبكم وقد كان كافرا. فقال الرجل له: أليس بالمشيئة الأولى التي أنشأني بها أقوم وأقعد،

هشام وغيلان والأوزاعي:

وأقبض وأبسط؟ قال له علي: إنك بعد في المشيئة أما إني أسألك عن ثلاث، فإن قلت في واحدة منهن: لا، كفرت؛ وإن قلت: نعم، فأنت أنت. فمدّ القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول؛ فقال له علي: أخبرني عنك، أخلقك الله كما شئت أو كما شاء؟ قال: بل كما شاء. قال: فخلقك الله لما شئت أو لما شاء؟ قال: بل لما شاء. قال فيوم القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء؟ قال: بل بما شاء، قال: قم فلا مشيئة لك. هشام وغيلان والأوزاعي: قال هشام بن محمد السائب الكلبي: كان هشام بن عبد الله قد أنكر على غيلان التكلم في القدر، وتقدّم إليه في ذلك أشدّ التقدم، وقال له في بعض ما توعّده به من الكلام: ما أحسبك تنتهي حتى تنزل بك دعوة عمر بن عبد العزيز إذ احتجّ عليك في المشيئة بقول الله عز وجل: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» فزعمت أنك لم تلق لها بالا. فقال عمر: اللهم إن كان كاذبا فاقطع يده ورجله ولسانه، واضرب عنقه. فانته أولى لك، ودع عنك ما ضرّه إليك أقرب من نفعه. فقال له غيلان، لحينه وشقوته: ابعث إليّ يا أمير المؤمنين من يكلمني ويحتجّ عليّ، فإن أخذته حجتي أمسكت عني فلا سبيل لك إليّ، وإن أخذتني حجته فسألتك بالذي أكرمك بالخلافة إلا نفّذت فيّ ما دعا به عمر عليّ. فغاظ قوله هشاما. فبعث إلى الأوزاعي فحكى له ما قال لغيلان وما ردّ غيلان عليه؛ فالتفت إليه الأوزاعي فقال له: أسألك عن خمس أو ثلاث؟ فقال غيلان؛ عن ثلاث. قال الأوزاعي: هل علمت أن الله أعان على ما حرّم؟ قال غيلان: ما علمت وعظمت عنده. قال: فهل علمت أن الله قضى على ما نهى؟ قال غيلان: هذه أعظم، مالي بهذا من علم. قال: فهل علمت أن الله حال دون ما أمر؟ قال غيلان: حال دون ما أمر؟ ما علمت. قال الأوزاعي: هذا مرتاب من أهل الزّيغ. فأمر هشام بقطع يده ورجله، ثم ألقى به في الكناسة. فاحتوشه «2» الناس يعجبون من عظيم ما أنزل الله به من نقمته. ثم أقبل رجل كان كثيرا ما ينكر عليه

ابن أبي عروبة وقتادة:

المتكلم في القدر، فتخلل الناس حتى وصل إليه، فقال: يا غيلان، اذكر دعاء عمر. فقال غيلان: أفلح إذا هشام، إن كان الذي نزل بي دعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه. لا حرج على هشام فيما أمر به فبلغت كلمته هشاما، فأمر بقطع لسانه وضرب عنقه، لتمام دعوة عمر. ثم التفت هشام إلى الأوزاعي وقال له قد قلت يا أبا عمرو ففسّر، فقال: نعم؛ قضى على ما نهى عنه: نهى آدم عن أكل الشجرة، وقضى عليه بأكلها. وحال دون ما أمر، أمر إبليس بالسجود لآدم وحال بينه وبين ذلك. وأعان على ما حرّم، حرّم الميتة وأعان المضطر على أكلها. ابن أبي عروبة وقتادة: الرياشيّ عن سعيد بن عامر عن جويرية عن سعيد بن أبي عروبة قال: لما سألت قتادة عن القدر قال: رأي العرب تريد أم رأي العجم؟ فقلت: بل رأي العرب. قال: فإنه لم يكن أحد من العرب إلا وهو يثبت القدر، وأنشد: ما كان قطعي هول كلّ تنوفة ... إلّا كتابا قد خلا مسطورا «1» وقال أعرابيّ: الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس، يعرف ضوءها ولا يختم على حدودها. وقال: كعب بن زهير: لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر وقال آخر: والجدّ أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدّ في الحوادث أو ذر ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر

بين النبي صلى الله عليه وسلم وقدري:

بين النبي صلّى الله عليه وسلم وقدري: عبد الرحمن القصير قال: حدّثنا يونس بن بلال عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أيقدّر الله عليّ الشرّ ثم يعذّبني عليه؟ قال: «نعم. وأنت أظلم» . وحدّثني أبو عبد الرحمن المقري، يرفعه إلى أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» . ومن حديث عبد الله بن مسعود، قال: ما كان كفر بعد نبوّة قط إلا كان مفتاحه التكذيب بالقدر. أبو العتاهية وابن أشرس بين يدي المأمون: ثمامة بن أشرس قال: دخل أبو العتاهية على المأمون لما قدم العراق، فأمر له بمال وجعل يحادثه، فقال له يوما: ما في الناس أجهل من القدريّة. فقال له المأمون: أنت بصناعتك أبصر، فلا تتخطاها إلى غيرها. قال له: يا أمير المؤمنين، أجمع وبين من شئت منهم. فأرسل إليّ، فدخلت عليه، فقال لي: هذا يزعم أنك وأصحابك لا حجّة عندكم. قلت: فليسأل عما بدا له. فحرّك أبو العتاهية يده وقال: من حرّك هذه؟ قلت: من ناك أمّه! فقال: يا أمير المؤمنين، شتمني. قلت له: نقضت أصلك يا ماص بظر أمّه! فضحك المأمون. فقلت له: يا جاهل! تحرّك يدك ثم تقول: من حرّكها؟ فإن كان الله حرّكها فلم أشتمك؛ وإن كنت أنت المحرّك لها فهو قولي. قال له المأمون: عندك زيادة في المسألة. قال الكندي في الفن التاسع من التوحيد: اعلم أنّ العالم كله مسوس بالقضاء والقدر- أعني بالقضاء- ما قسم لكل معلول مما هو أصلح وأحكم، وأتقن في بنية الكل، لأنه جل ثناؤه خلق وأبدع مضطرا ومختارا بتمام القدرة، فلما كان المختار غير تام الحكمة؛ لأنّ تمام الحكمة لمبدع الكل، كان لو أطلق واختياره لاختار كثيرا مما

عمر بن عبيد وابن مسكين:

فيه فساد الكل، فقدّر جل ثناؤه بنية للكل تقديرا محكما، فصيّر بعضه سوانح لبعض «1» ، يختار بإرادته ومشيئته غير مقهور مما هو أصلح وأحكم في بنية الكل؛ فتقدير هذه السوانح هو القدر. فبالقضاء والقدر ساس جلّ ثناؤه جميع ما أبدع، فهذه السياسة المحكمة المتقنة التي لا يدخلها زلل ولا نقص. فاتضح أنّ كل معلول فيما قسم له ربّه من الأحوال لا خارج عنها، وأنّ بعض ذلك باضطرار وبعضه باختيار، وأن المختار عن سوانح قدره اختار، وبإرادته لا بالكره منه فعل. سئل أعرابيّ عن القدر فقال: ذاك علم اختصمت فيه الظنون، وكثر فيه المختلفون، والواجب علينا أن نردّ ما أشكل من حكمه إلى ما سبق من علمه. واصطحب مجوسيّ وقدري في سفر، فقال القدري للمجوسي: مالك لا تسلم قال: إن أذن الله في ذلك كان. قال: إنّ الله قد أذن، إلا أن الشيطان لا يدعك. قال: فأنا مع أقواهما. وقال رجل لهشام بن الحكم: أنت تزعم أنّ الله في فضله وكرمه وعدله كلّفنا ما لا نطيقه ثم يعذّبنا عليه؟ قال هشام: قد والله فعل، ولكن لا نستطيع أن نتكلم. عمر بن عبيد وابن مسكين: اجتمع عمرو بن عبيد مع الحارث بن مسكين بمنى، فقال له: إنّ مثلي ومثلك لا يجتمعان في مثل هذا الموضع فيفترقان من غير فائدة؛ فإن شئت فقل، وإن شئت فأنا أقول. قال له: قل. قال: هل تعلم أحدا أقبل للعذر من الله عز وجل؟ قال: لا. قال: فهل تعلم عذرا أبين من عذر من قال «لا أقدر» فيما تعلم أنت أنه لا يقدر عليه؟ قال: فلم لا يقبل؟ من لا أقبل للعذر منه، عذر من لا أبين من عذره؟ فانقطع الحارث بن مسكين فلم يردّ شيئا.

رد المأمون على الملحدين وأهل الأهواء

ردّ المأمون على الملحدين وأهل الأهواء قال المأمون للثّنوي الذي تكلم عنده: أسألك عن حرفين لا أزيد عليهما: هل ندم مسيء قط على إساءته؟ قال: بلى. قال: فالندم على الإساءة إساءة أم إحسان؟ قال: بل إحسان. قال: فالذي ندم هو الذي أساء أم هو غيره؟ قال: بل هو الذي أساء. قال: فأرى صاحب الخير هو صاحب الشرّ قال: فإني أقول: الذي ندم غير الذي أساء. قال: فندم على شيء كان منه أم على شيء كان من غيره. فسكت. وقال له أيضا: أخبرني عن قولك باثنين، هل يستطيع أحدهما أن يخلق خلقا لا يستعين فيه بصاحبه؟ قال: نعم. قال: فما تصنع باثنين؟ واحد يخلق كل شيء خير لك وأصحّ. وقال المأمون للمرتدّ الخراساني الذي أسلم على يديه وحمله معه إلى العراق فارتدّ عن الإسلام، أخبرني: ما الذي أوحشك مما كنت به آنسا من ديننا؟ فو الله لأن أستحييك بحق أحبّ إليّ من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلما بعد أن كنت كافرا، ثم عدت كافرا بعد أن صرت مسلما. فإن وجدت عندنا دواء لدائك تداويت به، وإن أخطأك الشفاء ونبا عليك الدواء، كنت قد أبليت العذر في نفسك ولم تقصّر في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قتلناك في الشريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليقين ولم تفرّط في الدخول من باب الحزم. قال المرتد: أوحشني منكم ما رأيت من الاختلاف في دينكم. قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كاختلافنا في الأذان، والتكبير في الجنائز، وصلاة العيدين والتشهد، والتسليم من الصلاة، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفتيا، وما أشبه ذلك؛ وهذا ليس باختلاف، وإنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من السنّة؛ فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يأثم، ومن ربّع لم يأثم. والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله، وتأويل الحديث عن نبينا، مع اجتماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر؛ فإن كان إنما أوحشك هذا فينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متّفقا على تأويله كما

بينه وبين علي ابن موسى:

يكون متّفقا على تنزيله، ولا يكون بين اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات ولو شاء الله أن ينزل كتبه مفسرة، ويجعل كلام أنبيائه ورسله لا يختلف في تأويله لفعل؛ ولكنّا لم نجد شيئا من أمور الدين والدّنيا وقع إلينا على الكفاية إلا مع طول البحث والتّحصيل والنظر، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحن، وذهب التفاضل والتباين، ولما عرف الحازم من العاجز، ولا الجاهل من العالم، وليس على هذا بنيت الدنيا. قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن المسيح عبد الله، وأن محمدا صادق، وأنك أمير المؤمنين. بينه وبين علي ابن موسى: وقال المأمون لعليّ بن موسى الرّضا: بم تدّعون هذا الأمر. قال: بقرابة عليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبقرابة فاطمة منه. فقال له المأمون: إن لم يكن ها هنا إلا القرابة فقد خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته، من كان أقرب إليه من علي أو من في مثل قعدده «1» ، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعليّ في هذا الأمر حقّ وهما حيّان، فإذا كان الأمر كذلك فإن عليا قد ابتزّهما حقّهما وهما صحيحان، واستولى على ما لا يجب له. فما أجابه عليّ بن موسى بشيء. من واصل إلى ابن عبيد: كتب واصل بن عطاء الغزّال إلى عمرو بن عبيد: أما بعد، فإن استلاب نعمة العبد بيد الله، وتعجيل المعاقبة بيد الله، ومهما يكن ذلك فباستكمال الآثام، والمجاورة للجدال الذي يحول بين المرء وقلبه، وقد عرفت ما كان يطعن به عليك وينسب إليك ونحن بين ظهراني الحسن بن أبي الحسن رحمه الله، لاستبشاع قبح مذهبك، نحن ومن قد عرفته من جميع أصحابنا، ولمّه «2» إخواننا

ما جاء في ذم الحمق والجهل

الحاملين الواعين عن الحسن؛ فلله تلكم لمّة وأوعياء وحفظة، ما أدمت الطبائع «1» ، وأرزن المجالس، وأبين الزّهد وأصدق الألسنة، اقتدوا والله بمن مضى شهابهم، وأخذوا بهديهم؟ عهدي والله بالحسن وعهدهم أمس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشرقي الأجنحة، وآخر حديث حدّثنا إذ ذكر الموت وهول المطلع، فأسف على نفسه واعترف بذنبه، ثم التفت والله يمنة ويسرة معتبرا باكيا؛ فكأني أنظر إليه يمسح مرفضّ العرق عن جبينه، ثم قال: اللهم إني قد شددت وضين «2» راحلتي، وأخذت في أهبة سفري إلى محل القبر وفرش العفر «3» ، فلا تؤاخذني بما ينسبون إليّ من بعدي. اللهم إني قد بلّغت ما بلغني عن رسولك، وفسّرت من محكم تأويلك ما قد صدّقه حديث نبيك؛ ألا وإني خائف عمرا! ألا وإني خائف عمرا! شكاية لك إلى ربّه جهرا، وأنت عن يمين أبي حذيفة أقربنا إليه؛ وقد بلغني كبير ما حمّلته نفسك، وقلّدته عنقك، من تفسير التنزيل، وعبارة التأويل؛ ثم نظرت في كتبك، وما أدّته إلينا روايتك من تنقيص المعاني، وتفريق المباني، فدلّت شكاية الحسن عليك بالتحقيق بظهور ما ابتدعت، وعظيم ما تحمّلت؛ فلا يغررك أي أخي تدبير من حولك، وتعظيمهم طولك «4» ، وخفضهم أعينهم عنك إجلالا لك، غدا والله تمضي الخيلاء والتفاخر، وتجزى كلّ نفس بما تسعى. ولم يكن كتابي إليك، وتجليبي عليك، إلا ليذكّرك بحديث الحسن رحمه الله، وهو آخر حديث حدّثناه. فأدّ المسموع وانطق بالمفروض، ودع تأويلك الأحاديث على غير وجهها، ركن من الله وجلا «5» فكأنّ قد. ما جاء في ذم الحمق والجهل قال النبي صلّى الله عليه وسلم «الجاهل يظلم من خالطه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلّم بغير تمييز، وإن رأى كريمة أعرض عنها، وإن عرضت فتنة أردته وتهوّر فيها» .

أصناف الإخوان

وقال أبو الدّرداء: علامة الجاهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق، وأن ينهى عن شيء ويأتيه. وقال أردشير: حسبكم دلالة على عيب الجاهل أنّ كل الناس تنفر منه وتغضب من أن تنسب إليه. وكان يقال: لا تغررك من الجاهل قرابة ولا أخوّة ولا إلف؛ فإنّ أحقّ الناس بتحريق النار أقربهم منها. وقيل: خصلتان تقرّبانك من الأحمق: كثرة الالتفات، وسرعة الجواب. وقيل: لا تصطحب الجاهل، فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك. ولبعضهم: لكلّ داء دواء يستطبّ به ... إلّا الحماقة أعيت من يداويها ولأبي العتاهية: احذر الأحمق أن تصحبه ... إنّما الأحمق كالثّوب الخلق كلّما رقّعته من جانب ... زعزعته الرّيح يوما فانخرق أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يلتصق فإذا عاتبته كي يرعوي ... زاد شرّا وتمادى في الحمق أصناف الإخوان قال العتابي: الإخوان ثلاثة أصناف: فرع بائن من أصله، وأصل متّصل بفرعه، وفرع لبس له أصل. فأما الفرع البائن من أصله، فإخاء بني على مودّة ثم انقطعت فحفظ على ذمام الصّحبة. وأما الأصل المتصل بفرعه، فإخاء أصله الكرم وأغصانه التقوى. وأما الفرع الذي لا أصل له، فالموّه الظاهر الذي ليس له باطن. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصاحب رقعة في قميصك فانظر بم ترقعه» . وقالوا: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا، ولعدوّه عدوّا.

وفد دحية الكلبي على عليّ رضي الله عنه، فما زال يذكر معاوية ويطريه في مجلسه؛ فقال عليّ عليه السلام: صديق عدوّي داخل في عداوتي ... وإنّي لمن ودّ الصديق ودود فلا تقربن منّي وأنت صديقه ... فإنّ الّذي بين القلوب بعيد وفي هذا المعنى قول العتّابي: تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني ... صديقك إنّ الرأي عنك لعازب وليس أخي من ودّني رأي عينه ... ولكن أخي من ودّني وهو غائب وقال آخر: ليس الصديق الذي إن زلّ صاحبه ... يوما رأى الذنب منه غير مغفور وإن أضاع له حقّا فعاتبه ... فيه أتاه بتزويق المعاذير إنّ الصديق الذي ألقاه يعذر لي ... ما ليس صاحبه فيه بمعذور وقال آخر: كم من أخ لك لم يلده أبوكا ... وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا صاف الكرام إذا أردت إخاءهم ... واعلم بأنّ أخا الحفاظ أخوكا والناس ما استغنيت كنت أخاهم ... وإذا افتقرت إليهم رفضوكا وقال بعضهم: أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا ... لتضربه لم يستغشّك في الودّ ولو جئت تبغي كفّه لتبينها ... لبادر إشفاقا عليك من الردّ يرى أنه في الودّ كان مقصّرا ... على أنّه قد زاد فيه على الجهد وقال آخر: إن كنت متّخذا خليلا ... فتنقّ وانتقد الخليلا «1»

من لم يكن لك منصفا ... في الودّ فابغ به بديلا ولقلّما تلقى الليئم عليك إلّا مستطيلا «1» وللعطويّ: صن الودّ إلّا عن الأكرمين ... ومن بمؤاخاته تشرف ولا تغترر من ذوي خلّة ... بما موّهوا لك أو زخرفوا فكم من أخ ظاهر ودّه ... ضمير مودّته أجيف «2» إذا أنت عاتبته في الإخا ... ء تنكر منه الذي تعرف وكتب العباس بن جرير إلى الحسن بن مخلد: إرع الإخاء أبا محمّد للذي يصفو وصنه وإذا رأيت منافسا ... في نيل مكرمة فكنه إن الصّديق هو الذي ... يرعاك حيث تغيب عنه فإذا كشفت إخاءه ... أحمدت ما كشّفت عنه مثل الحسام إذا انتضا ... هـ أخو الحفيظة لم يخنه «3» يسعى لما تسعى له ... كرما وإن لم تستعنه ولآخر: خير إخوانك المشارك في المر وأين الشريك في المرّ أينا الذي إن شهدت زادك في السرّ وإن غبت كان أذنا وعينا ولآخر: ومن البلاء أخ جنايته ... علق بنا ولغيرنا سلبه «4» وقال آخر:

ومما يستجلب الإخاء والمودة ولين الكلمة

إذا رأيت انحرافا من أخي ثقة ... ضاقت عليّ برحب الأرض أوطاني فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبى وقلبي غير غضبان وكتب بعضهم إلى محمد بن بشار: من لم يردك فلا ترد ... هـ وكن كمن لم تستفده باعد أخاك لبعده ... وإذا دنا شبرا فزده كم من أخ لك يا بن بشّار وأمّك لم تلده وأخي مناسبة يسو ... ءك عيبه لم تفتقده فأجابه محمد بن بشار: غلط الفتى في قوله ... من لم يردك فلا ترده من نافس الإخوان لم ... يبد العتاب ولم يعده عاتب أخاك إذا هفا ... واعطف بودّك واستعده «1» وإذا أتاك بعيبه ... واش فقل لم تعتمده ومما يستجلب الإخاء والمودة ولين الكلمة قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: من لانت كلمته وجبت محبته. وينشد: «كيف أصبحت كيف أمسيت» ممّا ... ينبت الوّدّ في فؤاد الكريم وعلى الصديق ألّا يلقى صديقه إلا بما يحب، ولا يؤذي جليسه فيما هو عنه بمعزل، ولا يأتي بما يعيب مثله، ولا يعيب ما يأني شكله. وقد قال المتوكل الّليثي: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم

بين مطيع وخاطب مودة:

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يثبتن لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه. وقال: ليس شيء أبلغ في خير ولا شرّ من صاحب. وقال الشاعر: إن كنت تبغي المرء أو أصله ... وشاهدا يخبر عن غائب فاعتبر الأرض بأشباهها ... واعتبر الصاحب بالصاحب لعدي بن زيد: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي «1» ولعمرو بن جميل التّغلبي: سأصبر من صديقي إن جفاني ... على كلّ الأذى إلّا الهوانا «2» فإنّ الحرّ يأنف في خلاء ... وإن حضر الجماعة أن يهانا بين مطيع وخاطب مودة: قال رجل لمطيع بن إياس: جئتك خاطبا مودتك. فقال له: قد زوجتك، على شرط أن تجعل صداقها ألّا تسمع فيّ مقالة الناس. ويقال في المثل: من لم يزدرد الريق «3» لم يستكثر من الصديق. وما أحسن ما قال إبراهيم بن عباس: يا صديقي الذي بذلت له الو ... دّ وأنزلته على أحشائي إنّ عينا أقذيتها لتراعي ... ك على ما بها من الأقذاء «4» ما بها حاجة إليك ولكن ... هي معقودة بحبل الوفاء

ولابن أبي حازم: ارض من المرء في مودّته ... بما يؤدّي إليك ظاهره من يكشف الناس لم يجد أحدا ... تصحّ منه له سرائره يوشك ألّا تتمّ وصل أخ ... في كلّ زلّاته تنافره إن ساءني صاحبي احتملت وإن ... سرّ فإني أخوه شاكره أصفح عن ذنبه وإن طلب ال ... عذر فإني عليه عاذره ولغيره: إنّي إذا أبطأت عنك فلم أزل ... لأحداث دهر لا يزال يعوق لقد أصبحت نفسي عليك شفيقة ... ومثلي على أهل الوفاء شفيق أسرّ بما فيه سرورك إنّني ... جدير بمكنون الإخاء حقيق «1» عدوّ لمن عاديت سلم مسالم ... لكلّ امريء يهوى هواك صديق ولأبي عبد الله بن عرفة: هموم رجال في أمور كثيرة ... وهمّي من الدّنيا صديق مساعد يكون كروح بين جسمين فرّقا ... فجساهما جسمان والرّوح واحد وقال بعض الحكماء: الإخاء جوهرة رقيقة، وهي ما لم توقّها وتحرسها معرّضة للآفات. فرض الإخاء بالحدّ له «2» حتى تصل إلى قربه، وبالكظم «3» حتى يعتذر إليك من ظلمك، وبالرّضى حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير. ولمحمود الوراق: لا برّ أعظم من مساعدة ... فاشكر أخاك على مساعدته

باب من أخبار الخوارج

وإذا هفا فأقله هفوته ... حتى يعود أخا كعادته فالصفح عن زلل الصّديق وإن ... أعياك خير من معاندته ولعبد الصمد بن المعذّل: من لم يردك ولم ترده ... لم يستفيدك ولم تفده قرّب صديقك ما نأى ... وزد التّقارب واستزده وإذا وهت أركان ... من أخي ثقة فشده «1» باب من أخبار الخوارج الخوارج وعلي بن أبي طالب: لما خرجت الخوارج على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا من أصحابه، وكان من أمر الحكمين ما كان واختداع عمرو لأبي موسى الأشعري، قالوا: لا حكم إلا لله. فلما سمع عليّ رضي الله عنه نداءهم. قال: كلمة حق يراد بها باطل، وإنما مذهبهم ألّا يكون أمير، ولا بد من أمير برّا كان أو فاجرا. وقالوا لعليّ: شككت في أمرك، وحكّمت عدوّك في نفسك. وخرجوا إلى حروراء، وخرج إليهم عليّ رضي الله عنه، فخطبهم متوكّئا على قوسه، وقال: هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة «2» ، أنشدكم الله، هل علمتم أن أحدا كان أكره للحكومة مني؟ قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني عليها حتى قبلتها؟ قالوا اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني؟ قالوا: إنا أتينا ذنبا عظيما فتبنا إلى الله منه، فتب إلى الله منه. واستغفره نعد إليك. فقال علي: إني أستغفر الله من كل ذنب. فرجعوا معه وهم في ستة آلاف. فلما استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّا رجع عن التحكيم وتاب منه ورآه ضلالا. فأتى الأشعث بن قيس عليّا رضي الله عنه،

فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدّثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا والإقامة عليها كفرا وتبت. فخطب عليّ الناس فقال: من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالا فهو أضلّ منها. فخرجت الخوارج من المسجد فحكمت، فقيل لعليّ: إنهم خارجون عليك. فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون. فوجّه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحّبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها قرحت «1» لطول السجود، وأيديا كثفنات «2» الإبل، وعليهم قمص مرحضة «3» ، وهم مشمّرون. قالوا: ما جاء بك يا بن عباس؟ قال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربّه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار: فقالوا: إنا أتينا عظيما حين حكّمنا الرجال في دين الله؛ فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم، أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا: نعم، ولكن عليّا محا نفسه من خلافة المسلمين. قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه وقد محا رسول الله صلّى الله عليه وسلم اسمه من النبوة، وقال سهيل بن عمرو: لو علمت أنك رسول الله ما حاربتك فقال للكاتب: اكتب «محمد بن عبد الله» . وقد أخذ عليّ على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعليّ أولى من معاوية وغيره. قالوا: إنّ معاوية يدّعي مثل دعوى عليّ، قال: فأيهما رأيتموه أولى فولّوه. قالوا: صدقت. قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف. فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعيّ الرّياحي. فلم يزالوا على ذلك حتى اجتمعوا على البيعة لعبد الله بن وهب الرّاسبي،

فرقهم:

فخرج بهم إلى النّهروان، فأوقع بهم عليّ، فقتل منهم ألفين وثمانمائة، وكانّ عددهم ستة آلاف. وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسرّ أمره؛ فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضي الله عنه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله ابن خبّاب. قالوا: كلنا قتله وشرك في دمه. وذلك أنهم لما خرجوا إلى النهروان لقوا مسلما ونصرانيا، فقتلوا المسلم وأوصوا بالنّصراني خيرا، وقالوا: احفظوا ذمّة نبيكم. ولقوا عبد الله ابن خبّاب، وفي عنقه المصحف ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا: إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك. فقال لهم: أحيوا ما أحيا القرآن، وأميتوا ما أمام القرآن. قالوا: حدّثنا عن أبيك. قال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: أقول إن عليا أعلم بالله منكم وأشدّ توقّيا على دينه وأبعد بصيرة. قالوا: إنك لست تتبع الهدى، بل الرجال على أسمائها. ثم قرّبوه إلى شاطيء البحر فذبحوه، فامذقرّ دمه- أي جرى مستقيما على دفة- وساموا «1» رجلا نصرانيا بنخلة- فقال: هي لكم هبة. قالوا: ما كنا نأخذها إلا بثمن. فقال: ما أعجب هذا! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون منا جنى نخلة إلا بثمن. فرقهم: ثم افترقت الخوارج على أربعة أضرب: الإباضية، أصحاب عبد الله بن إباض والصّفرية واختلفوا في تسميتهم. فقال قوم: سمّوا بابن الصفّار. وقال قوم: نهكتهم العبادة فاصفرّت وجوههم. ومنهم البيهسية: وهم أصحاب ابن بيهس. ومنهم الأزارقة، أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكانوا قبل على رأي واحد لا يختلفون إلّا في الشيء الشاذ.

هم وابن الزبير:

هم وابن الزبير: فبلغهم خروج مسلم بن عقبة إلى المدينة وقتله أهل حرّة، وأنه مقبل إلى مكة، فقالوا: يجب علينا أن نمنع حرم الله منهم ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا تابعناه. فلما صاروا إلى ابن الزبير عرّفوه أنفسهم وما قدموا له، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشام، فدافعوه إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يتابعوا ابن الزبير؛ ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فننظر ما عنده، فإن قدّم أبا بكر وعمر وبرىء من عثمان وعليّ وكفّر أباه وطلحة بايعناه؛ وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير وهو متبذّل «1» وأصحابه متفرّقون عنه، فقالوا له: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت على صواب بايعناك، وإن كنت على خلاف دعوناك إلى الحق؛ ما تقول في الشيخين؟ قال: خيرا، قالوا: فما تقول في عثمان الذي حمى الحمى «2» ، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئا وكتب بخلافه، وأوطأ آل بني معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين؛ وفي الذي بعده الذي حكّم الرجال في دين الله وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم؛ وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليّا، وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بيعته وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن «3» في بيوتهن، وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة؛ فإن أنت قبلت كلّ ما نقول لك الزّلفى عند الله، والنصر على أيدينا إن شاء الله، ونسأل الله لك التوفيق، وإن أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا. فقال ابن الزبير: إن الله أمر وله العزّة والقدرة في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العاتين بأرقّ من هذا القول؛ قال لموسى وأخيه صلى الله عليهما: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «4» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا

خطبة ابن الزبير فيهم:

تؤذوا الأحياء بسبّ الموتى. فنهى عن سبّ أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدوّ الله ورسوله، والمقيم على الشرك، والجادّ في محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الهجرة والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنبا؛ وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سمّيتم فيه طلحة وأبي أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين؟ فإن كانا منهم دخلا في غمار الناس «1» ، وان لم يكونا منهم لم تحفظوني بسبّ أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جلّ وعزّ قال للمؤمن في أبويه: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «2» وقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «3» . وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتّصريح، ولعمري إنّ ذلك أحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كلّ صاحبه من عدوّه. فروحوا إليّ من عشيّتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى. خطبة ابن الزبير فيهم: فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة «4» ، قال: هذا خروج منابذ «5» لكم. فجلس على رفع من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيّه، ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته؛ ثم وصلهن بالسّنين التي أنكروا سيرته فيها فجعلها كالماضية، وأخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاصي بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأنّ القوم استعتبوه من أمور ما كان له أن يفعلها أولا مصيبا ثم أعتبهم بعد ذلك محسنا. وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى ثم كتب ذلك الكتاب بقتلهم. فدفعوا الكتاب إليه، فحلف بالله

كتاب ابن الأزرق إلى ابن الزبير:

أنه لم يكتبه ولم يأمر به؛ وقد أمر الله عزّ وجلّ بقبول اليمين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما اجتمع له من صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها حلف على حق، فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من حلف بالله فليصدق، ومن حلف بالله فليقبل. وعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه. وأنا وليّ وليّه وعدوّ عدوّه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورسول الله يقول عن الله عز وجل أحد لما قطعت أصبع طلحة: سبقته إلى الجنة. وقال: أوجب طلحة. وكان الصّديق إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله أو جلّه لطلحة. والزبير حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصفوته، وقد ذكر أنه في الجنة. وقال عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ «1» . وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم؛ فإن يكن ما صنعوا حقّا فأهل ذلك هم، وإن يكن زلّة ففي عفو الله تمحيصها «2» ، وفيما وفّقهم له من السابقة مع نبيهم صلّى الله عليه وسلم، ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتكم بأمّكم عائشة، فإن أبى آب أن تكون له أمّا، نبذ اسم الإيمان عنه؛ وقد قال جلّ ذكره: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «3» . فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه. كتاب ابن الأزرق إلى ابن الزبير: وكتب بعد ذلك نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن الزّبير يدعوه إلى أمره: أما بعد، فإني أحذّرك من الله: يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذّركم الله نفسه، فاتق الله ربّك ولا تتولّ الظالمين، فإن الله يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ (مِنْكُمْ) فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «4» وقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ «5» ، وقد حضرت عثمان يوم قتل. فلعمري لئن كان قتل مظلوما لقد كفر

بين نجدة وابن الأزرق:

قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين، وإنهم لمهتدون، لقد كفر من تولّاه ونصره ولقد علمت أنّ أباك وطلحة وعليّا كانوا أشدّ الناس عليه، وكانوا في أمره بين قاتل وخاذل، وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان، فكيف ولاية قاتل متعمّد ومقتول في دين واحد؟ ولقد ولي علي بعده فنفى الشّبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقّها فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعا بيعته ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس رحمه الله: إن يكن عليّ في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمنا لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافرا كما زعمتم وفي الحكم جائرا لقد بؤتم «1» بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدوّا، ولسيرته عائبا، فكيف توليته بعد موته. بين نجدة وابن الأزرق: وكتب نجدة. وكان من الصّفرية القعدية، إلى نافع بن الأزرق لمّا بلغه عنه استعراضه للناس وقتله الأطفال، واستحلاله الأمانة: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البرّ، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم؛ كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لولا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين، فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصّه «2» وركبت مرّه، تجرّد لك الشيطان فلم يكن أحد أثقل وطأة عليه منك ومن أصحابك، فاستمالك واستغواك، فغويت وأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ «3» ثم سمّاهم أحسن الأسماء فقال: ما عَلَى

فكتب إليه نافع بن الأزرق:

الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «1» استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال جل ثناؤه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» وقال في القعد خيرا، وفضّل الله من جاهد عليهم، ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملا منزلة من هو دونه. إلا إذا اشتركا في أصل. أو ما سمعت قوله تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «3» فجعلهم الله من المؤمنين، وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم. ورأيت من رأيك أن لا تؤدّي الأمانة إلى من يخالفك، والله يأمرك أن تؤدّي الأمانات إلى أهلها. فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً «4» فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل. وقوله الفصل. والسلام. فكتب إليه نافع بن الأزرق: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب؛ وأنا أسأل الله أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وعبت عليّ ما دنت به من إكفار القعد، وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة. وسأفسّر لك لم ذلك إن شاء الله: أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلا، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا؛ وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرءوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح. وقد عرفت ما يقول الله فيمن كان مثلهم، إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «5» . وقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ «6» . وقال: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ. وَقَعَدَ الَّذِينَ

مرداس وابن زياد:

كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» . فانظر إلى أسمائهم وسماتهم. وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحا عليه السلام كان أعرف بالله يا نجدة مني ومنك، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «2» فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يولدوا؛ فكيف جاز لك في قوم نوح ولا يجوز في قومنا والله يقول: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ «3» وهؤلاء كمشركي العرب، لا تقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام. وأما استحلال الأمانات ممن خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق، وأموالهم فيء للمسلمين، فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلّا بالتوبة، ولا يسعك خذلاننا والقعود دوننا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا. والسلام على من أقرّ بالحق وعمل به. مرداس وابن زياد: وكان مرداس أبو بلال من الخوارج، وكان مستترا، فلما رأى جدّ ابن زياد في قتل الخوارج وحبسهم، قال لأصحابه: إنه والله لا يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل، مفارقين للعقل؛ والله إنّ الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا لا نبتدئهم، ولا نجرّد سيفا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع أصحابه وهم ثلاثون رجلا، فأرادوا أن يولّوا أمرهم حريث بن حجل، فأبى. فولّوا أمرهم مرداسا أبا بلال. فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاريّ، وكان له صديقا، فقال له: يا أخي، قال نعم؟ قال: أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي هؤلاء من أحكام الجورة والظلمة. فقال

له: أعلم بكم أحد؟ قال: لا. قال: فارجع. قال: أو تخاف عليّ مكروها؟ قال: نعم وأن يؤتى بك. قال: فلا تخف؛ فإني لا أجرّد سيفا، ولا أخيف أحدا، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك وهو موضع دون خراسان، فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد بلغ أصحابه أربعين رجلا، فحط ذلك المال، وأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، وردّ الباقي على المرسل، وقال: قولوا لصاحبكم إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه، فعلام ندع الباقي؟ فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة، فلا نقاتلهم. ولأبي بلال مرداس هذا أشعار في الخروج؛ منها قوله: أبعد ابن وهب ذي النّزاهة والتّقى ... ومر ماض في تلك الحروب المالكا أحبّ بقاء أو أرجّي سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا فيا ربّ سلّم نيّتي وبصيرتي ... وهب لي البقا حتى ألاقي أولئكا وقالوا إن رجلا من أصحاب زياد، قال: خرجنا من جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بمرداس وأصحابه وهم أربعون رجلا، فقال: أقاصدون لقتالنا أنتم؟ قلنا: لا، إنما نريد خراسان. قال: فأبلغوا من لقيتم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض ولا لنروّع أحدا، ولكن هربنا من الضرر، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا؛ ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا. ثم قال: أندب لنا أحد؟ فقلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي. قال: فمتى ترونه يصل إلينا؟ قلنا له: يوم كذا وكذا. فقال أبو بلال حسبنا الله ونعم الوكيل. وندب عبيد الله بن زياد أسلم بن زرعة الكلابي، ووجّهه إليهم في ألفين، فلما صار إليهم صاح به أبو بلال: اتّق الله يا أسلم فإنا لا نريد قتالا ولا نحتجز مالا، فما الذي تريد؟ قال: أريد أن أردّكم إلى ابن زياد. قال: إذا يقتلنا. قال: وإن قتلكم. قال: أفتشركه في دمائنا؟ قال: نعم، إنه محق وأنتم مبطلون. قال: أبو بلال: وكيف هو

رد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على شوذب الخارجي

محق وهو فاجر يطيع الظّلمة؟ ثم حملوا عليه حملة رجل واحد، فانهزم هو وأصحابه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا، وقال: انهزمت وأنت في ألفين عن أربعين رجلا! قال له أسلم: والله لأن تذمّني حيّا أحبّ إليّ من أن تحمدني ميتا. وكان إذا خرج إلى السوق ومر بالصبيان صاحوا به: أبو بلال: وراءك! حتى شكا إلى ابن زياد، فأمر الشرط أن يكفّوا الناس عنه. ردّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على شوذب الخارجي الهيثم بن عديّ قال: أخبرني عوانة بن الحكم عن محمد بن الزّبير قال: بعثني عمر ابن عبد العزيز مع عون بن عبد الله بن مسعود إلى شوذب الخارجي وأصحابه، إذ خرجوا بالجزيرة، وكتب معنا كتابا إليهم. فقدمنا عليهم ودفعنا كتابه إليهم. فبعثوا معنا رجلا من بني شيبان ورجلا فيه حبشية يقال له شوذب، فقدما معنا على عمر وهو بخناصرة «1» ، فصعدنا إليه، وكان في غرفة ومعه ابنه عبد الملك وحاجبه مزاحم، فأخبرناه بمكان الخارجيّين. فقال عمر: فتّشوهما لا يكن معهما حديد، وأدخلوهما. فلما دخلا قالا: السلام عليكم. ثم جلسا. فقال لهما عمر: أخبراني: ما الذي أخرجكم عن حكمي هذا وما نقمتم؟ فتكلم الأسود منهما، فقال: إنا والله ما نقمنا عليك في سيرتك وتحرّيك العدل والإحسان إلى من ولّيت ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك. قال عمر: ما هو؟ قال: رأيناك خالفت أهل بيتك وسميتها مظالم، وسلكت غير طريقهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وابرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرّق. فتكلم عمر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني قد علمت أو ظننت أنكم لم

تخرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومتاعها، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها، وإني سائلكما عن أمر، فبالله اصدقاني فيه مبلغ علمكما. قالا: نعم. قال: أخبراني عن أبي بكر وعمر، أليسا من اسلافكما ومن تتوليان وتشهدان لهما بالنجاة؟ قالا: اللهم نعم. قال: فهل علمتما أن أبا بكر حين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم فارتدت العرب قاتلهم، فسفك الدماء، وأخذ الأموال، وسبى الذراري؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السبايا إلى عشائرها؟ قالا: نعم. قال: فهل بريء عمر من أبي بكر أو تبرءون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النّهروان، أليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: نعم. قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا كفّوا أيديهم، فلم يسفكوا دما، ولم يخيفوا آمنا، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فديك استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبد الله ابن خبّاب بن الأرتّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم قتلوا النساء والأطفال، حتى جعلوا يلقونهم في قدور الأقط «1» وهي تفور؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أهل الكوفة من أهل البصرة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرءون من إحدى الفئتين؟ قالا: لا. قال: أفرأيتم الدين، أليس هو واحدا أم الدين اثنان؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم منه شيء يعجزني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن تولّيتم أبا بكر وعمر، وتولى كلّ واحد منهما صاحبه، وتوليتم أهل الكوفة والبصرة، وتولى بعضهم بعضا؛ وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم أو رأيت لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لا بد منها؛ فإن كان ذلك فمتى عهدك بلعن فرعون وقد قال: أنا ربكم الأعلى؟ قال: ما أذكر أني لعنته. قال: ويحك! أيسعك ألّا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق، ولا يسعني إلا أن ألعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحكم! إنكم قوم جهال، أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تردّون على الناس ما قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. بعثه الله إليهم وهم عبدة

القول في أصحاب الأهواء

أوثان، فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، فمن قال ذلك حقن بذلك دمه، وأحرز ماله «1» ، ووجبت حرمته، وأمن به عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أسوة المسلمين، وكان حسابه على الله. أفلستم تلقون من خلع الأوثان، ورفض الأديان، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تستحلون دمه وماله، ويلعن عندكم، ومن ترك ذلك وأباه، من اليهود والنصارى وأهل الأديان فتحرّموه دمه وماله ويأمن عندكم؟ فقال الأسود: ما سمعت كاليوم أحدا أبين حجة، ولا أقرب مأخذا، أما أنا فأشهد أنك على الحق، وأني بريء ممن بريء منك! فقال عمر لصاحبه: يا أخا بني شيبان، ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما قلت ووصفت! غير أني لا أفتات «2» على الناس بأمر حتى ألقاهم بما ذكرت وأنظر ما حجّتهم. قال: أنت وذاك! فأقام الحبشي مع عمر وأمر له بالعطاء، فلم يلبث أن مات، ولحق الشيبانيّ بأصحابه فقتل معهم بعد وفاة عمر. القول في أصحاب الأهواء وذكر رجل عند النبي صلّى الله عليه وسلم، فذكروا فضله وشدة اجتهاده في العبادة، فبينما هم في ذكره حتى طلع عليهم الرجل؛ فقالوا: يا رسول الله، هو هذا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما إني أرى بين عينيه سفعة «3» من الشيطان! فأقبل الرجل حتى وقف فسلّم عليهم، فقال هل حدثتك نفسك إذ طلعت علينا أنه ليس في القوم أحسن منك؟ قال: نعم. ثم ذهب إلى المسجد يصفّ «4» بين قدميه يصلي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله. فقام إليه فوجده يصلّي، فهابه فانصرف. قال: ما صنعت؟ قال: وجدته يصلي يا رسول فهبته. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ قال عمر: أنا يا رسول الله. فقام إليه فوجده يصلي، فهابه

الرافضة

فانصرف. فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي فهبته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ فقال عليّ: أنا يا رسول الله. قال: أنت له إن أدركته. فقام إليه فوجده قد انصرف؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا أول قرن «1» يطلع في أمتي، لو قتلتموه ما اختلف بعده اثنان؛ إنّ بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهي الجماعة. الرافضة وإنما قيل لهم رافضة لأنهم رفضوا أبا بكر وعمر، ولم يرفضهما أحد من أهل الأهواء غيرهم، والشيعة دونهم، وهم الذين يفضلون عليا على عثمان ويتولّون أبا بكر وعمر، فأما الرافضة فلها غلّو شديد في عليّ، ذهب بعضهم مذهب النصارى في المسيح، وهم السّبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، عليهم لعنة الله. وفيهم يقول السيد الحميري: قوم غلوا في عليّ لا أبا لهم ... وأجشموا أنفسا في حبّه تعبا «2» قالوا هو الله جلّ الله خالقنا ... من أن يكون له ابن أو يكون أبا وقد أحرقهم علي رضي الله عنه بالنار. المغيرة بن سعد والأعمش ومن الروافض المغيرة بن سعد مولى بجيلة، قال الأعمش: دخلت على المغيرة بن سعد فسألته عن فضائل علي، فقال: إنك لا تحتملها! قلت: بلى. فذكر آدم صلوات الله عليه، فقال: عليّ خير منه! ثم ذكر من دونه من الأنبياء، فقال: عليّ خير منهم!

حتى انتهى إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، فقال: عليّ مثله. فقلت: كذبت عليك لعنة الله. قال: قد أعلمتك أنك لا تحتملها. ومن الروافض من يزعم أن عليّا رضي الله عنه في السحاب، فإذا أظلّت عليهم سحابة قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن! وقد ذكرهم الشاعر فقال: برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزّال منهم وابن باب «1» ومن قوم إذا ذكروا عليّا ... يردّون السلام على السحاب ولكنّي أحبّ بكلّ قلبي ... وأعلم أنّ ذاك من الصواب ... رسول الله والصّدّيق حقّا ... به أرجو غدا حسن الثواب وهؤلاء من الرافضة يقال لهم المنصورية، وهم أصحاب أبي منصور الكسف وإنما سمى الكسف لأنه كان يتأوّل في قول الله عز وجل: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ «2» فالكسف عليّ، وهو السحاب. وكان المغيرة بن سعد من السبئية الذين أحرقهم عليّ رضي الله تعالى عنه بالنار، وكان يقول: لو شاء عليّ لأحيى عادا وثمودا وقرونا بعد ذلك كثيرا، وخرج لخالد ابن عبد الله، فقتله خالد وصلبه بواسط عند قنطرة العاشر. ومن الروافض كثّير عزّة الشاعر، ولما حضرته الوفاة، دعا ابنة أخ له فقال: يابنة أخي، إن عمك كان يحب هذا الرجل فأحبّيه- يعني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه- فقالت: نصيحتك يا عمّ مردودة عليك، أحبه والله خلاف الحبّ الذي أحببته أنت. فقال لها: برئت منك. وأنشد يقول: برئت إلى الإله من ابن أروى ... ومن قول الخوارج أجمعينا ومن عمر برئت ومن عتيق ... غداة دعي أمير المؤمنينا ابن أروى: عثمان.

والروافض كلها تؤمن بالرّجعة، وتقول: لا تقوم الساعة حتى يخرج المهدي وهو محمد بن علي، فيملؤها عدلا كما ملئت جورا، ويحيى لهم موتاهم فيرجعون إلى الدنيا، ويكون الناس أمة واحدة، وفي ذلك يقول الشاعر: ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة العدل أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء أراد بالأسباط الثلاثة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وهو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان. ومن الروافض السيد الحميري، وكان يلقى له وسائد في مجلس الكوفة يجلس عليها، وكان يؤمن بالرّجعة، وفي ذلك يقول: إذا ما المرء شاب له قذال ... وعلّله المواشط بالخضاب «1» فقد ذهبت بشاشته وأودى ... فقم بأبيك وابك على الشباب فليس بعائد ما فات منه ... إلى أحد إلى يوم المآب إلى يوم يؤوب الناس فيه ... إلى دنياهم قبل الحساب أدين بأن ذاك كذاك حقا ... وما أنا في النّشور بذي ارتياب لأنّ الله خبّر عن رجال ... حيوا من بعد دس في التراب وقال يرثي أخاه: يا بن أمي فدتك نفسي ومالي ... كنت ركني ومفزعي وجمالي ولعمري لئن تركتك ميتا ... رهن رمس ضنك عليك مهال «2» لو شيكا ألقاك حيّا صحيحا ... سامعا مبصرا على خير حال قد بعثتم من القبور فأبتم ... بعد ما رمّت العظام البوالي «3»

المأمون ورجل من الحسبانية:

أو كسبعين وافدا مع موسى ... عاينوا هائلا من الأهوال حين راموا من خبثهم رؤية الله ... وأنّى برؤية المتعالي فرماهم بصعقة أحرقتهم ... ثم أحياهم شديد المحال «1» المأمون ورجل من الحسبانية: دخل رجل من الحسبانية على المأمون، فقال: لثمامة بن أشرس: كلّمه، فقال له: ما تقول؟ وما مذهبك؟ فقال: أقول إن الأشياء كلها على التوهّم والحسبان، وإنما يدرك منها الناس على قدر عقولهم، ولا حقّ في الحقيقة. فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سوّدت وجهه. فقال: يا أمير المؤمنين، يفعل بي مثل هذا في مجلسك؟ فقال له ثمامة: وما فعلت بك؟ قال: لطمتني، قال: ولعل إنما دهنتك بالبان. ثم أنشأ يقول: ولعلّ آدم أمّنا ... والأبّ حوّا في الحساب ولعلّ ما أبصرت من ... بيض الطّبور هو الغراب وعساك حين قعدت قم ... ت وحين جئت هو الذّهاب وعسى البنفسج زنبقا ... وعسى البهار هو السّذاب «2» وعساك تأكل من خرا ... ك وأنت تحسبه كباب ابن عباس ورافضي: ومن حديث ابن أبي شيبة أن عبد الله بن شدّاد قال: قال لي عبد الله بن عباس: لأخبرنك بأعجب شيء: قرع اليوم عليّ الباب رجل لمّا وضعت ثيابي للظهيرة، فقلت: ما أتى به في مثل هذا الحين إلا أمر مهم، أدخلوه. فلما دخل قال: متى يبعث ذلك الرجل؟ قلت: أي رجل؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قلت: لا يبعث حتى يبعث الله من في القبور. قال: وإنك لتقول بقول هذه الجهلة! قلت: أخرجوه عنّي لعنه الله.

الرافضة والشعبي:

ومن الروافض: الكيسانية، قلت: وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد، ويقولون إن اسمه كيسان. ومن الرافضة الحسينية، وهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، وكانوا يطوفون بالليل في أزقّة الكوفة وينادون: يا ثارات الحسين. فقيل لهم الحسينية. ومن الرافضة الغرابية، سميت بذلك لقولهم: عليّ أشبه بالنبي من الغراب بالغراب. ومن الرافضة الزيدية، وهم أصحاب زيد بن عليّ المقتول بخراسان، وهم أقلّ الرافضة غلوّا، غير أنهم يرون الخروج مع كل من خرج. الرافضة والشعبي: مالك بن معاوية قال: قال لي الشّعبي وذكرنا الرافضة: يا مالك، لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا وأن يلمئوا بيتي ذهبا على أن أكذبهم على عليّ كذبة واحدة لفعلوا، ولكني والله لا أكذب عليه أبدا، يا مالك، إني درست الأهواء كلها، فلم أر قوما أحمق من الرافضة؛ فلو كانوا من الدواب لكانوا حميرا، أو كانوا من الطير لكانوا رخما «1» : ثم قال: أحذرك الأهواء المضلّة، شرّها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتا لأهل الإسلام وبغيا عليهم، وقد حرّقهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى البلدان، منهم عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن سباب، نفاه إلى الجازر «2» وأبو الكروّس؛ وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب. وقالت اليهود: لا يكون جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح المنتظر. وينادي مناد من السماء. وقالت الرافضة: لا جهاد في

سبيل الله حتى يخرج المهدي وينزل سبب من السماء. واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة. واليهود لا ترى الطلاق الثلاث شيئا، وكذا الرافضة. واليهود لا ترى على النساء عدّة، وكذلك الرافضة: واليهود تستحل دم كلّ مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرّفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرّفت القرآن واليهود تبغض جبريل وتقول: هو عدوّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غلط جبريل في الوحي إلى محمد بترك علي بن أبي طالب. واليهود لا تأكل لحم الجزور، وكذلك الرافضة. ولليهود والنصارى فضيلة على الرافضة في خصلتين: سئل اليهود: من خير أهل ملّتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى: وسئلت النصارى، فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد: أمرهم بالاستغفار لهم فشتموهم، فالسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة، لا تثبت لهم قدم، ولا تقوم لهم راية، ولا تجتمع لهم كلمة، دعوتهم مدحورة، وكلمتهم مختلفة، وجمعهم مفرّق. كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله. وذكرت الرافضة يوما عند الشعبي فقال: لقد بغّضوا إلينا حديث عليّ ابن أبي طالب. وقال الشعبي: ما شبّهت تأويل الروافض في القرآن إلا بتأويل رجل مضعوف من بني مخزوم من أهل مكة، وجدته قاعدا بفناء الكعبة. فقال: يا شعبي ما عندك في تأويل هذا البيت؟ فإن بني تميم يغلطون فيه، يزعمون أنه مما قيل في رجل منهم، وهو قول الشاعر: بيتا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل «1» فقلت له: وما عندك أنت فيه؟ قال: البيت هو هذا البيت- وأشار بيده إلى الكعبة- وزرارة الحجر، زرّر حول البيت. فقلت: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء. قلت: فأبو الفوارس؟ قال: هو أبو قبيس جبل مكة. قلت: فنهشل؟ ففكر فيه طويلا، ثم قال: أصبته، هو مصباح الكعبة، طويل أسود وهو النهشل.

قولهم في الشيعة

قولهم في الشيعة قال أبو عثمان بن بحر الجاحظ، أخبرني رجل من رؤساء التجار قال: كان معنا في السفينة شيخ شرس الأخلاق، طويل الإطراق، وكان إذا ذكر له الشيعة غضب واربد وجهه وزوى «1» من حاجبيه، فقلت له يوما: يرحمك الله، ما الذي تكرهه من الشيعة، فإني رأيتك إذا ذكروا غضبت وقبضت؟ قال: ما أكره منهم إلا هذه الشّين في أول اسمهم، فإني لم أجدها قطّ إلا في كل شرّ وشؤم وشيطان وشغب وشقاء وشنار «2» وشرر وشين وشوك وشكوى وشهوة وشتم وشح. قال أبو عثمان: فما ثبت لشيعيّ بعدها قائمة. باب من كلام المتكلمين دخل الموبذ على هشام بن الحكم، والموبذ هو عالم الفرس، فقال له: يا هشام، حول الدنيا شيء؟ قال: لا. قال: فإن أخرجت يدي فثمّ شيء يردّها؟ قال هشام: ليس ثمّ شيء يردّها ولا شيء تخرج يدك فيه. قال: فكيف أعلم هذا؟ قال له: يا موبذ، أنا وأنت على طرف الدنيا، فقلت لك: يا موبذ، إني لا أرى شيئا. فقلت لي: ولم لا ترى؟ فقلت ليس ها هنا ظلام يمنعني. فقلت لي أنت: يا هشام، إني لا أرى شيئا. فقلت لك: ولم لا ترى؟ قلت: ليس ضياء أنظر به. فهل تكافأت الملّتان في التناقض؟ قال: نعم. قال: فإذا تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء؟ فأشار الموبذ بيده أن أصبت. قال رجل لبعض ولاة بني العباس: أنا أجعل هشام بن الحكم أن يقول في علي رضي الله عنه إنه ظالم؛ فقال: إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا. ثم أحضر هشام، فقال له: نشدتك الله أبا محمد، أما تعلم أن عليّا نازع العباس عند أبي بكر؟ قال: نعم.

باب في الحياء

قال: فمن الظالم منهما؟ فكره أن يقول العباس، فيواقع «1» سخط الخليفة، أو يقول عليّ؛ فينقص أصله، فقال: ما منهما ظالم؟ قال: فكيف يتنازع اثنان في شيء لا يكون أحدهما ظالما؟ قال: قد تنازع الملكان عند داود عليه السلام وما فيهما ظالم، ولكن لينبّها داود على الخطيئة، وكذلك هذان أرادا تنبيه أبي بكر من خطيئته، فأسكت الرجل، وأمر الخليفة لهشام بصلة عظيمة. دخل إبراهيم النّظّام على أبي الهذيل العلّاف، وقد أسنّ وبعد عهده بالمناظرة، وإبراهيم حدّث السنّ. فقال: أخبرني عن قراركم: أن يكون جوهرا مخافة أن يكون جسما؛ فهل قررتم ألا يكون جوهرا مخافة أن يكون عرضا، والعرض أضعف من الجوهر؟ فبصق أبو الهذيل في وجهه. فقال له إبراهيم: قبّحك الله من شيخ، ما أضعف صحتك وأسفه حلمك. قال: لقي جهم رجلا من اليونانيين؛ فقال له: هل لك أن تكلمني وأكلمك عن معبودك هذا، أرأيته قط؟ قال: لا؛ قال: فلسمته؟ قال: لا؛ قال: فذقته؟ قال: لا؛ قال: فمن أين عرفته وأنت لم تدركه بحسّ من حواسّك الخمس وإنما عقلك معبّر عنها فلا يدرك إلا ما أوصلت إليه من جميع المعلومات؟ قال: فتلجلج جهم ساعة، ثم استدرك فعكس المسألة عليه فقال له: ما تقرّ أن لك روحا؟ قال: نعم؛ قال: فهل رأيته أو ذقته أو سمعته أو شممته أو لمسته؟ قال: لا؛ قال: فكيف علمت أن لك روحا؟ فأقرّ له اليوناني. باب في الحياء قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الحياء خير كله. الحياء شعبة من الإيمان. وقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى يحب الحيي الحليم المتعفف، ويكره البذيء السّئّال الملحف «2» . وقال عون بن عبد الله: الحياء والحلم والصمت من الإيمان.

وقال ابن عمر: الحياء والإيمان مقرونان جميعا. فإذا رفع أحدهما ارتفع الآخر معه. وقال: مكتوب في التوراة: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء. وقال: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه. وذكر أعرابي رجلا حيّا فقال: لا تراه الدهر إلا كأنه لا غني به عنك، وإن كنت إليه أحوج، وإن أذنبت غفر وكأنه المذنب، وإن أسأت إليه أحسن وكأنه المسيء. لليلى الأخيلية: فتى هو أحيا من فتاة حييّة ... وأشجع من ليث بخفّان خادر «1» ولابن قيس أيضا: تخالهم للحلم صمّا عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التهاجر ومرضى إذا لوقوا حياء وعفّة ... وعند الحفاظ كالّليوث الخوادر «2» وقال الشعبي: تعاشر الناس فيما بينهم زمانا بالدين والتقوى، ثم رفع ذلك فتعاشروا بالحياء والتذمّم، ثم رفع ذلك، فما يتعاشر الناس إلا بالرغبة والرهبة. وسيجيء ما هو شرّ من ذلك. وقيل: الحياء يزيد في النّبل. ولبعضهم: فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء وقال آخر: إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلّب في الأمور كما يشاء «3»

ولم يك للدواء ولا لشيء ... تعالجه به فيه غناء وربّ قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلّا الحياء وقال عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان. وقد قيل: ارفع حياءك فيما جئت طالبه ... إنّ الحياء مع الحرمان مقرون وفي المثل: كثرة الحياء من التخنّث «1» . قال الحسن: من استتر بالحياء لبس الجهل سرباله، فقطّعوا سرابيل الحياء، فإنه من رقّ وجهه رق علمه. وصف رجل الحياء عند الأحنف فقال: إنّ الحياء ليتم لمقدار من المقادير، فما زاد على ذلك فسمه بما أحببت. وقال بعضهم: إنّ الحياء مع الحرمان مقترن ... كذاك قال أمير المؤمنين علي واعلم بأن من التخنيث أكثره ... فارفعه في طلب الحاجات والأمل وللشمّاخ: أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم باد عليّ مراضها ولابن أبي حازم: وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم ذي القربي خلائق أربع: حياء، وإسلام، وتقوى، وأنّني ... كريم ومثلي قد يضر وينفع وقال آخر: إذا حرم المرء الحياء فإنّه ... بكل قبيح كان منه جدير له قحة في كلّ أمر وسرّه ... مباح وجدواه جفا وغرور «2»

باب جامع الآداب

يرى الشّتم مدحا والدناءة رفعة ... وللسمع منه في العظات نفور فرجّ الفتى ما دام حيّا فإنّه ... إلى خير حالات المنيب يصير باب جامع الآداب آداب الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم لابن عبد ربه: قال أبو عمر أحمد بن محمد: أوّل ما نبدأ به: أدب النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أدبه صلّى الله عليه وسلم لأمّته، ثم الحكماء والعلماء. وقد أدّب الله نبيّه بأحسن الآداب كلها، فقال له: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «1» فنهاه عن التقتير كما نهاه عن التبذير، وأمر بتوسّط الحالتين؛ كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «2» . وقد جمع الله تبارك وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلم جوامع الكلم في كتابه المحكم، ونظم له مكارم الأخلاق كلها في ثلاث كلمات، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «3» ففي أخذه العفو صلة من قطعه، والصفح عمّن ظلمه؛ وفي الأمر بالمعروف تقوى الله، وغضّ الطّرف عن المحارم، وصوّن اللسان عن الكذب، وفي الإعراض عن الجاهلين تنزيه النفس عن مماراة السفيه ومنازعة اللجوج. ثم أمره تبارك وتعالى فيما أدبه، باللين في عريكته، والرّفق بأمته، فقال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «4» وقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «5» وقال تبارك وتعالى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا

باب آداب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته

السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «1» . فلما وعى عن الله عز وجل وكملت فيه هذه الآداب، قال الله تبارك وتعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «2» . باب آداب النبي صلى الله عليه وسلم لأمّته قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أدّب به أمته وحضّها عليه من مكارم الأخلاق وجميل المعاشرة وإصلاح ذات البين وصلة الأرحام: أوصاني ربّي بتسع وأنا أوصيكم بها، أوصاني بالإخلاص في السرّ والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمّن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا. وقد قال صلّى الله عليه وسلم: نهيتكم عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال. وقد قال صلّى الله عليه وسلم: لا تقعدوا على ظهور الطرق، فإن أبيتم فغضّوا الأبصار، وأفشوا السلام، واهدوا الضال، وأعينوا الضعيف. وقال صلّى الله عليه وسلم: أوكوا «3» السّقاء، وأكفئوا «4» الإناء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا المصباح؛ فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحلّ وكاء ولا يكشف الإناء.

وقال صلّى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بشرّ الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: من أكل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده. ثم قال: ألا انبئكم بشّر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من يبغض الناس ويبغضونه. وقال حصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصّدقة، واستقبلوا البلاء بالدعاء. وقال: ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى. وقال: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. وقال: اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول. وقال: لا تجن يمينك على شمالك. ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وقال: المرء كثير بأخيه. وقال افصلوا بين حديثكم بالاستغفار، واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. وقال: أفضل الأصحاب من إذا ذكرت أعانك، وإذا نسيت ذكرك. وقال: لا يؤمّ ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه. وقال صلّى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم: مالي مالي! وإنما له من ماله ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو وهب فأمضى. وقال: ستحرصون على الإمارة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة. وقال: لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان. وقال: لو تكاشفتم ما تدافنتم، وما هلك امرؤ عرف قدره.

باب في آداب الحكماء والعلماء

وقال: الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. والناس كلّهم سواء كأسنان المشط. وقال: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم. وقال: خير المال سكّة مأبورة «1» ، ومهرة مأمورة. وخير المال عين ساهرة لعين نائمة. وقال في إناث الخيل: بطونها كنز، وظهورها حرز. وقال: ما أملق «2» تاجر صدوق، وما أقفر بيت فيه خلّ. وقال: قيّدوا العلم بالكتابة. وقال: زر غباّ «3» تزدد حبّا. وقال: علّق سوطك حيث يراه أهلك. باب في آداب الحكماء والعلماء منه في فضيلة الأدب أوصى بعض الحكماء بنبيه فقال: الأدب أكرم الجواهر طبيعة، وأنفسها قيمة، يرفع الأحساب الوضيعة، ويفيد الرّغائب الجليلة، ويعزّ بلا عشيرة، ويكثر الأنصار بغير رزية؛ فالبسوه حلّة، وتزيّنوه حلية؛ يؤنسكم في الوحشة ويجمع لكم القلوب المختلفة. ومن كلام عليّ عليه السلام، فيما يروي عنه أنه قال: من حلم ساد، ومن ساد استفاد، ومن استحيا حرم، ومن هاب خاب، ومن طلب الرياسة صبر على السياسة،

ومن أبصر عيب نفسه عمي عن عيب غيره، ومن سلّ سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن نسي زلته استعظم زلّة غيره، ومن هتك حجاب غيره انهتكت عورات بينه، ومن كابر في الأمور عطب، ومن اقتحم الّلجج غرق، ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تجبّر على الناس ذلّ، ومن تعمّق في العمل ملّ، ومن صاحب الأنذال حقّر، ومن جالس العلماء وقّر، ومن دخل مداخل السوء اتّهم، ومن حسن خلقه سهلت له طرقه. ومن حسن كلامه كانت الهيبة أمامه، ومن خشي الله فاز؛ ومن استقاد الجهل ترك طريق العدل، ومن عرف أجله قصر أمله، ثم أنشأ يقول: إلبس أخاك على عيوبه ... واستر وغطّ على ذنوبه واصبر على بهت السّفي ... هـ وللزّمان على خطوبه «1» ودع الجواب تفضّلا ... وكل الظلوم إلى حسيبه «2» وقال شبيب بن شيبة: اطلبوا الأدب فإنه مادة العقل، ودليل على المروءة، وصاحب في الغربة، ومؤنس في الوحشة، وحلية في المجلس، ويجمع لكم القلوب المختلفة. وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: عليكم بطلب الأدب؛ فإنّكم إن احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا. وقال بعض الحكماء: اعلم أنّ جاها بالمال إنما يصحبك ما صحبك المال، وجاها بالأدب غير زائل عنك. وقال ابن المقفّع: إذا أكرمك الناس لمال أو لسلطان فلا يعجبك ذلك: فإن الكرامة تزول بزوالها، ولكن ليعجبك إذا أكرموك لدين أو أدب.

وقال الأحنف بن قيس: رأس الأدب المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع؛ ولا في صدق إلا بنيّة. وقال مصقلة الزّبيري: لا يستغنى الأديب عن ثلاثة واثنين: فأمّا الثلاثة: فالبلاغة والفصاحة وحسن العبارة. وأما الاثنان فالعلم بالأثر والحفظ للخير. وقالوا: الحسب محتاج إلى الأدب، والمعرفة محتاجة إلى التجربة. وقال بزرجمهر: ما ورّث الآباء الأبناء شيئا خيرا من الأدب لأنّ بالأدب يكسبون المال وبالجهل يتلفونه. وقال الفضيل بن عياض: رأس الأدب معرفة الرجل قدره. وقالوا: حسن الخلق خير قرين، والأدب خير ميراث، والتوفيق خير قائد. وقال سفيان الثّوري: من عرف نفسه لم يضره ما قال الناس فيه. وقال أنو شروان للموبذ، وهو العالم بالفارسية: ما كان أفضل الأشياء؟ قال الطبيعة النقية تكتفي من الأدب بالرائحة، ومن العلم بالإشارة؛ وكما يموت البذر في السّباخ «1» ، كذلك تموت الحكمة بموت الطبيعة. قال له: صدقت، ونحن لهذا قلّدناك ما قلدناك. وقيل لأردشير: الأدب أغلب أم الطبيعة؟ فقال: الأدب زيادة في العقل ومنبهة للرأي، ومكسبة للصواب، والطبيعة أملك، لأن بها الاعتقاد ونماء الفراسة وتمام الغذاء. وقيل لبعض الحكماء: أيّ شيء أعون للعقل بعد الطبيعة المولودة؟ قال: أدب مكتسب.

وقالوا: الأدب أدبان: أدب الغريزة، وهو الأصل؛ وأدب الرواية، وهو الفرع. ولا يتفرع شيء إلا عن أصله، ولا ينمى الأصل إلا باتصال المادة. وقال الشاعر: ولم أر فرعا طال إلا بأصله ... ولم أر بدء العلم إلّا تعلّما وقال حبيب: وما السيف إلا زبرة لو تركته ... على الحالة الأولى لما كان يقطع «1» وقال آخر: ما وهب الله لامريء هبة ... أفضل من عقله ومن أدبه هما حياة الفتى فإن فقدا ... فإن فقد الحياة أحسن به وقال ابن عباس: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسعك جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثال. قال ابن قتيبة: إذا أردت أن تكون أديبا فتفنن في العلوم. وقالت الحكماء: إذا كان الرجل طاهر الأثواب، كثير الآداب، حسن المذهب؛ تأدّب بأدبه وصلح لصلاحه جميع أهله وولده. وقال الشاعر: رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويفسدهم ربّ الفساد إذا فسد يعظّم في الدنيا لفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد وسئل ديو جانس: أي الخصال أحمد عاقبة؟ قال: الإيمان بالله عز وجل، وبرّ الوالدين، ومحبة العلماء، وقبول الأدب. روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال من لا أدب له لا عقل له. وقالوا: الأدب يزيد العاقل فضلا ونباهة، ويفيده رقة وظرفا.

وفي رقة الأدب

وفي رقة الأدب قال أبو بكر بن أبي شيبة: قيل للعباس بن عبد المطلب، أنت أكبر أم رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: هو أكبر مني وأنا أسنّ منه. وقيل لأبي وائل: أيكما أكبر؛ أنت أم الربيع بن خثيم؟ قال أنا أكبر منه سنا وهو أكبر مني عقلا. وقال أبان بن عثمان لطويس المغني: أنا أكبر أم أنت؟ قال: جعلت فداك! لقد شهدت زفاف أمّك المباركة. وقيل لعمر بن ذر: كيف برّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قطّ إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي ولا رقي علّيّة وأنا تحته. ومن حديث عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبجّل أحدا تبجيله لعمّه العباس. وكان عمر وعثمان إذا لقيا العباس نزلا إعظاما له إذا كان راكبين. الرياشي عن الأصمعي قال: قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: أهذا منزلك. وقد تقدم هذا الخبر في الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك، وكذلك قول الحجاج للشعبي: كم عطاءك. ومن قولنا في رقة الأدب: أدب كمثل الماء لو أفرغته ... يوما لسال كما يسيل الماء من أدب علي ابن يحيى: أحمد بن أبي طاهر قال: قلت لعلي بن يحيى: ما رأيت أكمل أدبا منك! قال:

عمر بن الخطاب ورجل أحدث صوتا في المسجد:

كيف لو رأيت إسحاق بن إبراهيم! فقلت ذلك لإسحاق بن إبراهيم، فقال: كيف لو رأيت إبراهيم بن المهدي! فقلت ذلك لإبراهيم، فقال: كيف لو رأيت جعفر بن يحيى. وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: قال لي رجاء بن حيوة: ما رأيت أكرم أدبا، ولا أكرم عشرة من أبيك؛ سمرت عنده ليلة، فبينا نحن كذلك إذ عشى «1» المصباح ونام الغلام. فقلت: يا أمير المؤمنين، قد عشى المصباح ونام الغلام، فلو أذنت لي أصلحته! فقال: إنه ليس من مروءة الرجل أن يستخدم ضيفه، ثم حط رداءه عن منكبيه، وقام إلى الدبّة «2» فصبّ من الزيت في المصباح، وأشخص الفتيلة، ثم رجع. وأخذ رداءه وقال: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر. عمر بن الخطاب ورجل أحدث صوتا في المسجد: العتبي عن أبيه قال: صوّت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد. فلما كانت الصلاة قال عمر: عزمت على صاحب الصوت إلا قام فتوضأ. فلم يقم أحد. فقال جرير بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، اعزم علينا كلّنا أن نقوم فنتوضأ قال: صدقت! ولا علمتك إلا سيّدا في الجاهلية، فقيها في الإسلام، قوموا فتوضئوا. الشحام والحسن: الرياشي عن الأصمعي قال: حدّثني عثمان الشحّام، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد. قال: لبيك. قلت: أتقول لي لبيك؟ قال: إني أقولها لخادمي. وقال الشاعر: يا حبّذا حين تمسي الرّيح باردة ... وادي أشيّ وفتيان به هضم «3»

الأدب في الحديث والاستماع

مخدّمون، كرام في مجالسهم ... وفي الرّحال إذا رافقتهم خدم وما أصاحب من قوم فأذكرهم ... إلا يزيدهم حبا إليّ هم الأدب في الحديث والاستماع وقالت الحكماء: رأس الأدب كلّه حسن الفهم والتفهّم، والإصغاء للمتكلّم. وذكر الشعبي قوما فقال: ما رأيت مثلهم أسدّ «1» تناوبا في مجلس، ولا أحسن فهما من محدّث. وقال الشعبي فيما يصف به عبد الملك بن مروان: والله ما علمته إلا آخذا بثلاث، تاركا لثلاث: آخذا بحسن الحديث إذا حدّث، وبحسن الاستماع إذا حدّث، وبأيسر المؤونة إذا خولف؛ تاركا لمجاوبة اللئيم، ومماراة «2» السفيه، ومنازعة اللجوج. وقال بعض الحكماء لابنه: يا بنيّ، تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث؛ وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول؛ فاحذر أن تسرع في القول فيما يجب عنه الرجوع بالفعل، حتى يعلم الناس أنك على فعل ما لم تقل أقرب منك إلى قول ما لم تفعل. قالوا: من حسن الأدب ألّا تغالب أحدا على كلامه، وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه، وإذا حدّث بحديث فلا تنازعه إياه، ولا تقتحم عليه فيه، ولا تره أنك تعلمه، وإذا كلّمت صاحبك فأخذته حجتك فحسّن مخرج ذلك عليه ولا تظهر الظفر به، وتعلم حسن الاستماع، كما تعلّم حسن الكلام. وقال الحسن البصري: حدّثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجوهكم. وقال أبو عبّاد الكاتب: إذا أنكر المتكلم عين السامع فليسأله عن مقاطع حديثه،

الأدب في المجالسة

والسبب الذي أجرى ذلك له؛ فإن وجده يقف على الحق أتمّ له الحديث، وإلا قطعه عنه وحرمه مؤانسته، وعرّفه ما في سوء الاستماع من الفسولة «1» والحرمان للفائدة. الأدب في المجالسة للنبي صلى الله عليه وسلم: ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقم الرجل للرجل عن مجلسه ولكن ليوسّع له. وكان عبد الله بن عمر إذا قام له الرجل عن مجلسه لم يجلس فيه. وقال: لا يقم أحد عن مجلسه؛ ولكن افسحوا يفسح الله لكم. أبو أمامة قال: خرج إلينا النبي صلّى الله عليه وسلم فقمنا إليه؛ فقال: لا تقوموا كما يقوم العجم لعظمائها. فما قام إليه أحد منا بعد ذلك. ومن حديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن خرجت عليكم وأنتم جلوس فلا يقومنّ أحد منكم في وجهي؛ وإن قمت فكما أنتم، وإن جلست فكما أنتم. فإن ذلك خلق من أخلاق المشركين. وقال صلّى الله عليه وسلم: الرجل أحق بصدر دابّته وصدر مجلسه وصدر فراشه. ومن قام عن مجلسه ورجع إليه فهو أحق به. وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا جلس إليك أحد فلا تقم حتى تستأذنه. وجلس رجل إلى الحسن بن عليّ- عليهما الرضوان- فقال له: إنك جلست إلينا ونحن نريد القيام، أفتأذن؟ وقال سعيد بن العاص: ما مددت رجلي قطّ بين يدي جليس، ولا قمت عن مجلسي حتى يقوم.

معاوية والأحنف:

وقال إبراهيم النّخعي: إذا دخل أحدكم بيتا فليجلس حيث أجلسه أهله. وطرح أبو قلابة لرجل جلس إليه وسادة فردّها، فقال: أما سمعت الحديث: لا تردّ على أخيك كرامته. وقال على بن أبي طالب رضوان الله عليه: لا يأبى الكرامة إلا حمار. وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليّ ثلاث: إذا دنا رحّبت به، وإذا جلس وسّعت له، وإذا حدّث أقبلت عليه. وقال: إني لأكره أن يمر الذباب بجليسي مخافة أن يؤذيه. معاوية والأحنف: الهيثم بن عدي عن عامر الشعبي قال: دخل الأحنف بن قيس على معاوية؛ فأشار إليه إلى وسادة، فلم يجلس عليها؛ فقال له: ما منعك يا أحنف أن تجلس على الوسادة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن فيما أوصى به قيس بن عاصم ولده أن قال: لا تسع للسلطان حتى يملّك ولا تقطعه حتى ينساك، ولا تجلس له على فراش ولا وسادة، واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين. وقال الحسن: مجالسة الرجل من غير أن يسأل عن اسمه واسم أبيه، مجالسة النوكي. ولذلك قال شبيب بن شيبة لأبي جعفر، ولقيه في الطواف وهو لا يعرفه، فأعجبه حسن هيئته وسمته: أصلحك الله، إني أحب المعرفة، وأجلّك عن المسألة. فقال: أنا فلان بن فلان. قال زياد: ما أتيت مجلسا قط إلا تركت منه ما لو جلست فيه لكان لي، وترك ما لي أحبّ إليّ من أخذ ما ليس لي.

ابن طاهر وابو السمراء:

وقال: إياك وصدور المجالس وإن صدّرك صاحبها؛ فإنها مجالس قلعة «1» . وقال الشعبي: لأن أدعى من بعد إلى قرب أحبّ إليّ من أن أقصى من قرب إلى بعد. ابن طاهر وابو السمراء: وذكروا أنه كان يوما أبو السّمراء عند عبد الله بن طاهر، وعنده إسحاق بن إبراهيم، فاستدنى عبد الله إسحاق فناجاه بشيء، وطالت النجوى بينهما ... قال: فاعترتني حيرة فيما بين القعود على ما هما عليه والقيام، حتى انقطع ما بينهما وتنحى إسحاق إلى موقفه، ونظر عبد الله إليّ. فقال: يا أبا السمراء: إذا النجيّان سرّا عنك أمرهما ... فانزح بسمعك تجهل ما يقولان «2» ولا تحمّلهما ثقلا لخوفهما ... على تناجيهما بالمجلس الدّاني فما رأيت أكرم منه ولا أرفق أدبا، ترك مطالبتي في هفوتي بحق الأمراء، وأدّبني أدب النظراء. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنما أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى عليه أذى فليمطه «3» عنه، وإذا أخذ أحدكم عن أخيه شيئا فليقل: لا بك السوء، وصرف الله عنك السوء. وقالوا: إذا اجتمعت حرمتان أسقطت الصغرى الكبرى. وقال المهلب بن أبي صفرة: العيش كله في الجليس الممتع. الأدب في المماشاة وجه هشام بن عبد الملك ابنه على الصائفة، ووجه معه ابن أخيه، وأوصى كلّ واحد منهما بصاحبه، فلما قدم عليه قال لابن أخيه: كيف رأيت ابن عمّك؟ فقال:

بين الهادي وابن يزيد في سفر:

إن شئت أجملت وإن شئت فسّرت. قال: بل أجمل. قال: عرضت بيننا جادّة «1» فتركها كلّ واحد منا لصاحبه، فما ركبناها حتى رجعنا إليك. وقال يحيى بن أكثم: ما شيت المأمون يوما من الأيام في بستان مؤنسة بنت المهدي، فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع. أردت أن أدور إلى الجانب الذي يستره من الشمس، فقال: لا تفعل، ولكن كن بحالك حتى أسترك كما سترتني! فقلت: يا أمير المؤمنين، لو قدرت أن أقيك حرّ النار لفعلت، فكيف الشمس؟ فقال: ليس هذا من كرم الصّحبة. ومشى ساترا لي من الشمس كما سترته. وقيل لعمر بن ذرّ: كيف برّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحا وأنا تحته. وقيل لزياد: إنك تستخلص حارثة بن زيد وهو يواقع الشارب. فقال: وكيف لا أستخلصه وما سألته عن شيء قطّ إلا وجدت عنده منه علما، ولا استودعته سرّا قط فضيّعه، ولا راكبني قط فمّست ركبتي ركبته. بين الهادي وابن يزيد في سفر: محمد بن يزيد بن عمر بن عبد العزيز قال: خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان، فقال لي: إمّا أن تحملني وإمّا أن أحملك، فعلمت ما أراد، فأنشدته أبيات ابن صرمة: أوصيكم بالله أوّل وهلة ... وأحسابكم والبرّ بالله أوّل وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم ... وإن كنتم أهل السّيادة فاعدلوا وإن أنتم أعوزتم فتعفّفوا ... وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا وإن نزلت إحدى الدّواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا وإن طلبوا عرفا فلا تحرموهم ... وما حملوكم في الملمّات فاحملوا

بين الهادي وابن سلم وعبد الله ابن مالك:

قال: فأمر لي بعشرين ألف درهم. بين الهادي وابن سلم وعبد الله ابن مالك: وقيل إن سعيد بن سلم راكب موسى الهادي والحربة بيد عبد الله بن مالك، وكانت الريح تسفى «1» التراب، وعبد الله يلحظ موضع مسير موسى فيتكلف أن يسير على محاذاته، وإذا حاذاه ناله ذلك التراب، فلما طال ذلك عليه أقبل على سعيد ابن سلم فقال: أما ترى ما نلقى من هذا الخائن؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصّر في الاجتهاد، ولكن حرم التوفيق. باب السلام والإذن قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أطيبوا الكلام، وأفشوا السلام «2» ، وأطعموا الأيتام، وصلّوا بالليل والناس نيام. وقال صلّى الله عليه وسلم: إنّ أبخل الناس الذي يبخل بالسلام. وأتى رجل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: عليك السلام يا رسول الله. فقال: لا تقل: عليك السلام؛ فإنها تحية الموتى، وقل: السلام عليك. عمر بن عبد العزيز وجماعة سلموا عليه: وقال صاحب حرس عمر بن عبد العزيز: خرج عمر في يوم عيد وعليه قميص كتّان وعمامة على قلنسوة لاطئة «3» ، فقمت إليه وسلّمت عليه، فقال: مه، أنا واحد وأنتم جماعة؛ السلام عليّ والردّ عليكم. ثم سلّم ورددنا عليه، ومشى فمشينا معه إلى المسجد.

ابن مسعود وابن الخطاب والأسود:

وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: يسلّم الماشي على القاعد، والراكب على الراجل، والكبير على الصغير. ودخل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له: أبي يقرئك السلام. فقال: عليك وعلى أبيك السلام. ابن مسعود وابن الخطاب والأسود: إبراهيم عن الأسود قال: قال عبد الله بن مسعود: إذا لقيت عمر فاقرأ عليه السلام. قال: فلقيته فأقرأته السلام، فقال: عليك وعليه السلام. سليمان بن هشام وابن مهران دخل ميمون بن مهران على سليمان بن هشام وهو والي الجزيرة، فقال: السلام عليكم. فقال له سليمان: ما منعك أن تسلّم بالإمرة؟ فقال: إنما يسلّم على الوالي بالإمرة إذا كان عنده الناس. الحسن وإبراهيم وابن مهران: أبو بكر بن أبي شيبة قال: كان الحسن وإبراهيم وميمون بن مهران يكرهون أن يقول الرجل، حياك الله. حتى يقول السلام. وسئل عبد الله بن عمر عن الرجل يدخل المسجد أو البيت ليس فيه أحد، قال: يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ومر رجل بالنبي صلّى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلّم علي، فلم يردّ عليه السلام. وقال رجل لعائشة: كيف أصبحت؟ قالت: بنعمة من الله. وقال رجل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت طويلا أملي، قصيرا أجلي، سيّئا عملي.

باب في تأديب الصغير

وقيل لسفيان الثوري: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في دار حارت فيها الأدلّاء. واستأذن رجل من بني عامر على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، وقل له يقول: السلام عليكم، أدخل؟ جابر بن عبد الله قال: استأذنت على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا. قال: أنا أنا! وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الاستئذان ثلاثة؛ فإن أذن لك وإلا فارجع. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأولى إذن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزيمة؛ إما أن يأذنوا، وإما أن يردّوا. باب في تأديب الصغير قالت الحكماء: من أدّب ولده صغيرا سرّ به كبيرا. وقالوا: أطبع الطين ما كان رطبا، وأعمر العود ما كان لدنا. وقالوا: من أدّب ولده غمّ حاسده. وقال ابن عباس: من لم يجلس في الصغر حيث يكره، لم يجلس في الكبر حيث يحبّ. قال الشاعر: إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد وقالوا: ما أشدّ فطام الكبير، وأعسر رياضة «1» الهرم.

قال الشاعر: وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم كتب شريح إلى معلم ولده: ترك الصّلاة لأكلب يسعى بها ... يبغي الهراش مع الغواة الرّجّس فليأتينّك غدوة بصحيفة ... كتبت له كصحيفة المتلمّس «1» فإذا أتاك فعضّه بملامة ... أوعظه موعظة الأديب الكيّس فإذا هممت بضربه فبدرّة ... وإذا بلغت ثلاثة لك فاحبس واعلم بأنّك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرّعني أعزّ الأنفس لابن عبد القدوس: وقال صالح بن عبد القدّوس: وإنّ من أدّبته في الصّبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه حتى تراه مورقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد له جهله ... كذي الضّنى عاد إلى نكسه «2» ما تبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه وقال عمرو بن عتبة لمعلّم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك نفسك، فإنّ عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت؛ علّمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملّوه، ولا تتركهم منه فيهجروه. روّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه، ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإنّ

باب في حب الولد

ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم. وعلّمهم سنن الحكماء، وجنّبهم محادثة النساء، ولا تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك. باب في حب الولد أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن له أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودّهم، ويحبوك جهدهم؛ ولا تكن عليهم ثقيلا فيملوا حياتك، ويحبّوا وفاتك. فقال: لله أنت يا أحنف. لقد دخلت عليّ وإني لمملوء غضبا على يزيد، فسللته من قلبي. فلما خرج الأحنف من عنده بعث معاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب. فبعث يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب، شاطهره إياها. وكان عبد الله بن عمر يذهب بولده سالم كل مذهب، حتى لامه الناس فيه، فقال: يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم وقال: إنّ ابني سالما ليحب الله حبّا لو لم يخفه لم يعصه. وكان يحيى بن اليمان يذهب بولده داود كل مذهب؛ حتى قال يوما: أئمة الحديث أربعة: كان عبد الله، ثم كان علقمة، ثم كان إبراهيم، ثم أنت يا داود. وقال: تزوّجت أم داود، فما كان عندنا شيء ألفّه فيه، حتى اشتريت له كسوة بدانق «1» . وقال زيد بن علي لابنه: يا بنيّ، إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذّرنيك. واعلم أن خير الآباء للأبناء من لم يدعه الحبّ إلى التفريط، وخير الأبناء

للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق. وفي الحديث المرفوع: ريح الولد من ريح الجنة. وفي أيضا: الأولاد من ريحان الله. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لما بشّر بفاطمة: ريحانة أشمّها ورزقها على الله. ودخل عمرو بن العاص على معاوية وبين يديه بنته عائشة، فقال: من هذه؟ فقال: هذه تفاحة القلب! فقال له: انبذها عنك، فو الله إنهن ليلدن الأعداء، ويقرّبن البعداء، ويورثن الضغائن. قال: لا تقل ذاك يا عمرو، فو الله ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مثلهن. وربّ ابن أخت قد نفع خاله. لحطان: وقال حطّان بن المعلي الطائي: لولا بنيّات كزغب القطا ... حططن من بعض إلى بعض «1» لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض وقال عبيد الله بن أبي بكرة: موت الولد صدع في الكبد، لا ينجبر آخر الأبد. ونظر عمر بن الخطاب إلى رجل يحمل طفلا على عنقه، فقال: ما هذا منك؟ قال: ابني يا أمير المؤمنين! قال أما إنه إن عاش فتنك، وإن مات حزنك. وكانت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترقّص الحسين بن علي رضي الله عنهما وتقول: وا بأبي شبه النّبي ... ليس شبيها بعلي

إبراهيم عليه السلام وملك الموت:

وكان الزبير يرقص عروة ويقول: أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصّدّيق ألذّه كما ألذّ ريقي وقال أعرابيّ وهو يرقّص ولده: أحبّه حبّ الشّحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله إذا يريد بذله بدا له وقال آخر وهو يرقّص ولده: أعرف منه قلّة النّعاس ... وخفّة من رأسه في راسي وكان رجل من طيء يقطع الطريق، فمات وترك بنيّا رضيعا، فجعلت أمّه ترقّصه وتقول: يا ليته قد قطع الطريقا ... ولم يرد في أمره رفيقا وقد أخاف الفجّ والمضيقا ... فقلّ أن كان به شفيقا وقال عبد الملك: أضرّ بنا في الوليد حبّنا له فلم نؤدّبه، وكأن الوليد أدّبنا. وقال هارون الرشيد لابنه المعتصم: ما فعل وصيفك فلان؟ قال: مات فاستراح من الكتّاب. قال: وبلغ منك الكتّاب هذا المبلغ. والله لا حضرته أبدا. ووجهه إلى البادية فتعلم الفصاحة، وكان أمّيا، وهو المعروف بابن ماردة. إبراهيم عليه السلام وملك الموت: وفي بعض الحديث أن إبراهيم خليل الرحمن كان من أغير الناس، فلما حضرته الوفاة دخل عليه ملك الموت في صورة رجل أنكره، فقال له: من أدخلك داري؟ قال: الذي أسكنك فيها منذ كذا وكذا سنة. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، جئت لقبض روحك. قال: أتاركي أنت حتى أودّع ابني إسحاق؟ قال: نعم. فأرسل

باب الاعتضاد بالولد

إلى إسحاق. فلما أتاه أخبره، فتعلّق إسحاق بأبيه وجعل يتقطع عليه بكاء، فخرج عنهما ملك الموت. وقال: يا رب، ذبيحك إسحاق متعلق بخليلك! فقال له الله: قل له إني قد أمهلتك. ففعل، وانحل إسحاق عن أبيه، ودخل إبراهيم بيتا ينام فيه؛ فقبض ملك الموت روحه وهو نائم. باب الاعتضاد بالولد قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن عبده زكريا ودعائه إليه في الولد: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ «1» . وقال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا «2» . والموالي ها هنا: بنو العم. وقال الشاعر: من كان ذا عضد يدرك ظلامته ... إنّ الذليل الذي ليست له عضد تنبو يداه إذا ما قل ناصره ... ويأنف الضّيم إن أثرى له عدد «3» العتبي قال: لما أسنّ أبو براء عامر بن مالك وضعّفه بنو أخيه وخرّفوه ولم يكن له ولد يحميه، أنشأ يقول: دفعتكم عنّي وما دفع راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل يضعّفني حلمي وكثرة جهلكم ... عليّ وأني لا أصول بجاهل وقال آخر: تعدو الذّئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي سورة المستنفر الحامي «4»

باب في التجارب والتأدب بالزمان

باب في التجارب والتأدّب بالزمان قالت الحكماء: كفى بالتجارب تأديبا، وبتقلب الأيام عظة. وقالوا: كفى بالدهر مؤدّبا وبالعقل مرشدا. وقال حبيب: أحاولت إرشادي فعقلي مرشدي ... أم استمت تأديبي فدهري مؤدّبي «1» وقال إبراهيم بن شكلة: من لم يؤدّبه والداه ... أدّبه الليل والنهار كم قد أذلّا كريم قوم ... ليس له منهما انتصار من ذا يد الدهر لم تنلّه ... أو اطمأنّت به الدّيار كلّ عن الحادثات مغض ... وعنده للزمان ثار وقال آخر: وما أبقت لك الأيام عذرا ... وبالأيام يتّعظ اللبيب وقالوا: كفى بالدهر مخبرا بما مضى عما بقي. وقالوا: كفي مخبرا لذوي الألباب ما جرّبوا. وقالوا لعيسى ابن مريم عليهما السلام: من أدّبك؟ قال: ما أدّبني أحد؛ رأيت الجهل قبيحا فاجتنبته. باب في صحبة الأيام بالموادعة قالت الحكماء: اصحب الأيام بالموادعة، ولا تسابق الدهر فتكبو «2» . وقال الشاعر:

من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها من خطا الدهر فاخط مع الدهر إذا ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري وقال بشار العقيلي: أعاذل إنّ العسر سوف يفيق ... وإنّ يسارا من غد لخليق «1» وما كنت إلّا كالزمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزمان أموق «2» وقال آخر: تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولاقهم بالجهل فعل ذوي الجهل وخلّط إذا لاقيت يوما مخلّطا ... يخلّط في قول صحيح وفي هزل فإني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل وقال الآخر: إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم وقال الآخر: والسبب المانع حظّ العاقل ... هو الذي سبّب حظّ الجاهل ومن أمثالهم في ذلك قولهم: تطامن لها تخطك «3» . ومن قولنا في هذا المعنى: تطامن للزمان يجزك عفوا ... وإن قالوا ذليل قل ذليل وقال حبيب: وكانت لوعة ثم اطمأنّت ... كذاك لكلّ سائلة قرار وقال حبيب:

باب التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلا

ماذا يريك الدهر من هوانه ... ازفن لقرد السّوء في زمانه «1» ولآخر: الدهر لا يبقى على حالة ... لا بدّ أن يقبل أو يدبر فإن تلقّاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لا يصبر اصبر لدهر نال من ... ك فهكذا مضت الدّهور فرحا وحزما مرة ... لا الحزن دام ولا السّرور ولآخر: عفا الله عمّن صيّر الهمّ واحدا ... وأيقن أنّ الدائرات تدور تروح لنا الدّنيا بغير الذي غدت ... وتحدث من بعد الأمور أمور وتجري الليالي باجتماع وفرقة ... وتطلع فيها أنجم وتغور وتطمع أن يبقى السّرور لأهله ... وهذا محال أن يدوم سرور ولآخر: سأنتظر الأيام فيك لعلّها ... تعود إلى الوصل الذي هو أجمل باب التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلا قالت الحكماء: إياك وما يعتذر منه. وقالوا: من عرّض نفسه للتهم فلا يأمن من إساءة الظن. وقالوا: حسبك من شرّ سماعه. وقالوا: كفى بالقول عارا وإن كان باطلا.

باب الأدب في تشميت العطاس

وقال الشاعر: ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل مقالة السّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل وقال آخر: قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا وقال أرسطاطاليس للإسكندر: إن الناس إذا قدروا أن يقولوا قدروا أن يفعلوا، فاحترس من أن يقولوا تسلم من أن يفعلوا. وقال امرؤ القيس: وجرح اللّسان كجرح اليد وقال الأخطل: والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر وقال يعقوب الحمدوني: وقد يرجى لجرح السيف برء ... ولا برء لما جرح اللّسان ولآخر: قالوا ولو صحّ ما قالوا لفزت به ... من لي بتصديق ما قالوا وتكذيبي باب الأدب في تشميت العطاس للنبي صلى الله عليه وسلم: ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تشمّت العاطس حتى يحمد الله، فإن لم يحمده فلا تشمّته. وقال: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمّتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمّتوه.

باب الإذن في القبلة

وقال عليّ رضي الله عنه: يشمّت العاطس إلى ثلاث، فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه. عطس ابن عمر، فقالوا له: يرحمك الله. فقال: يهديكم الله ويصلح بالكم. وعطس عليّ بن أبي طالب فحمد الله، فقيل له: يرحمك الله. فقال: يغفر الله لنا ولكم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا عطس أحدكم فشمّتوه ثلاثا، فإن زاد فقولوا: إنك مضنوك «1» . وقال بعضهم: التشميت مرة واحدة. باب الإذن في القبلة عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر، قال: كنا نقبّل يد النبي صلّى الله عليه وسلم. وكيع عن سفيان قال: قبّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب. ومن حديث الشّعبي قال: لقي النبي صلّى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب، فالتزمه وقبّل بين عينيه. وقال إياس بن دغفل: رأيت أبا نضرة يقبّل خدّ الحسن. الشّيباني عن أبي الحسن عن مصعب قال: رأيت رجلا دخل على عليّ بن الحسين رضي الله عنهما في المسجد فقبّل يده ووضعها على عينيه، ولم ينهه. العتبي قال: دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبّل يده، فقال: أفّ له. إنّ العرب ما قبّلت الأيدي إلا هلوعا ولا قبلتها العجم إلا خضوعا. واستأذن رجل المأمون في تقبيل يده، فقال: إنّ القبلة من المؤمن ذلّة، ومن الذّميّ خديعة؛ ولا حاجة بك أن تذلّ، ولا حاجة بنا أن نخدع. واستأذن أبو دلامة المهديّ في تقبيل يده فمنعه، فقال: ما منعتني شيئا أيسر على عيالي فقدا من هذه.

الهجري والمنصور:

الهجري والمنصور: الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجري على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، نغض فمي، وأنتم أهل بيت بركة، فلو أذنت لي فقبّلت رأسك لعلّ الله كان يمسك على ما بقي من أسناني. قال: اختر بينها وبين الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألّا تبقى في فمي حاكةّ. فضحك المنصور وأمر له بجائزة. وقالوا: قبلة الإمام في اليد، وقبلة الأب في الرأس، وقبلة الأخ في الخد، وقبلة الأخت في الصدر، وقبلة الزوجة في الفم. باب الأدب في العيادة مرض أبو عمرو بن العلاء، فدخل عليه رجل من أصحابه، فقال له: أريد أن أساهرك الليلة. قال له: أنت معافى وأنا مبتلي، فالعافية لا تدعك أن تسهر، والبلاء لا يدعني أن أنام. وأسأل الله أن يهب لأهل العافية الشكر، ولأهل البلاء الصبر. ودخل كثير عزّة على عبد العزيز بن مروان وهو مريض، فقال: لو أن سرورك لا يتمّ إلا بأن تسلم وأسقم لدعوت ربي أن يصرف ما بك إليّ، ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية، ولي في كنفك النعمة. فضحك وأمر له بجائزة. فخرج وهو يقول: ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التّشكّي كان بالعوّاد لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي «1» وكتب رجل من أهل الأدب إلى عليل: نبّئت أنّك معتلّ فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كلّ محذور

بين يحيى بن خالد وشاعر اعتل:

يا ليت علّته بي ثمّ كان له ... أجر العليل وأنّي غير مأجور وكتب آخر إلى عليل: وقيناك لو يعطى الهوى فيك والمنى ... لكان بنا الشكوى وكان لك الأجر بين يحيى بن خالد وشاعر اعتل: وكان شاعر يختلف إلى يحيى بن خالد بن برمك ويمتدحه، فغاب عنه أياما لعلة عرضت له، فلم يفتقده يحيى ولم يسأل عنه؛ فلما أفاق الرجل من علّته كتب إليه: أيّهذا الأمير أكرمك الل ... هـ وأبقاك لي بقاء طويلا أجميلا تراه أصلحك الل ... هـ لكيما أراه أيضا جميلا أنّني قد أقمت عنك طويلا ... لا ترى منفذا إليّ رسولا الذنب فما علمت سوى الشّك ... ر لما قد أوليتنيه جزيلا أم ملالا فما علمتك للحا ... فظ مثلي على الزّمان ملولا قد أتى الله بالصّلاح فما أن ... كرت ممّا عهدت إلّا قليلا وأكلت الدّرّاج وهو غذاء ... أفلت علّتي عليه أفولا «1» وكأنّي قدمت قبلك آتي ... ك غدا إن أجد إليك سبيلا فكتب إليه الوزير يعتذر: دفع الله عنك نائبة الده ... ر وحاشاك أن تكون عليلا أشهد الله ما علمت وماذا ... ك من العذر جائزا مقبولا ولعلّي لو قد علمت لعاود ... تك شهرا وكان ذاك قليلا فاجعلنّ لي إلى التّعلّق بالعذ ... ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا فقديما ما جاء ذو الفضل بالفض ... ل وما سامح الخليل خليلا وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر:

أعزز عليّ بأن أراك عليلا ... أو أن يكون بك السّقام نزيلا فوددت أنّي مالك لسلامتي ... فأعيرها لك بكرة وأصيلا فتكون تبقى سالما بسلامتي ... وأكون ممّا قد عراك بديلا هذا أخ لك يشتكي ما تشتكي ... وكذا الخليل إذا أحبّ خليلا ومرض يحيى بن خالد، فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا دخل عليه يعوده وقف عند رأسه ودعا له، ثم يخرج فيسأل الحاجب عن منامه وشرابه وطعامه؛ فلما أفاق قال يحيى بن خالد: ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيل بن صبيح. وقال الشاعر: عيادة المرء يوم بين يومين ... وجلسة لك مثل الّلحظ بالعين لا تبرمنّ مريضا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين «1» وقال بكر بن عبد الله لقوم عاوده في مرضه فأطالوا الجلوس عنده: المريض يعاد والصحيح يزار. وقال سفيان الثوري: حمق القرّاء أشدّ على المرضى من أمراضهم: يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس. ودخل رجل على عمر بن العزيز يعوده في مرضه، فسأله عن علّته، فلما أخبره قال: من هذه العلة مات فلان، ومات فلان. فقال له عمر: إذا عدت المرضى فلا تنع إليهم الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا. وقال ابن عباس: إذا دخلتم على الرجل وهو في الموت فبشّروه ليلقى ربّه وهو حسن الظن، ولقّنوه الشهادة، ولا تضجروه. ومرض الأعمش فأبرمه الناس بالسؤال عن حاله، فكتب قصته في كتاب وجعله عند رأسه، فإذا سأله أحد قال: عندك القصة في الكتاب فاقرأها.

ولبعضهم: مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه وأتى إليّ يعودني ... فبرئت من نظري إليه ومرض محمد بن عبد الله بن طاهر، فكتب إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله: إنّي وجدت على جفا ... ئك من فعالك شاهدا إنّي اعتللت فما فقد ... ت سوى رسولك عائدا ولو اعتللت فلم أجد ... سببا إليك مساعدا لاستشعرت عيني الكرى ... حتّى أعودك راقدا فأجابه: كحلت مقلتي بشوك القتاد ... لم أذق حرقة لطعم الرّقاد «1» يا أخي الباذل المودّة والنّا ... زل من مقلتي مكان السّواد منعتني عليك رقّة قلبي ... من دخولي إليك في العوّاد لو بأذني سمعت منك أنينا ... لتفرّى مع الأنين فؤادي «2» ولمحمد بن يزيد: يا عليلا أفديك من ألم الع ... لة هل لي إلى الّلقاء سبيل إن يحل دونك الحجاب فما يح ... جب عنّي بك الضّنى والعويل وأنشد محمد بن يزيد، قال: أنشدني أبو دهمان لنفسه وقد دخل على بعض الأمراء يعوده: بأنفسنا لا بالطّوارف والتّلد ... نقيك الذي تخفي من السّقم أو تبدي بنا معشر العوّاد ما بك من أذى ... فإن أشفقوا ممّا أقول فبي وحدي وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طوق في شكاة له:

كم لوعة للنّدى وكم قلق ... للحمد والمكرمات من قلقك ألبسك الله منه عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك تخرج من جسمك السّقام كما ... أخرج ذمّ الفعال من خلقك ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شكاة له يعوده، فقال: الله يدفع عن نفس الإمام لنا ... وكلّنا للمنايا دونه غرض فليت أنّ الذي يعروه من مرض ... بالعائدين جميعا لا به المرض فبالإمام لنا من غيرنا عوض ... وليس في غيره منه لنا عوض فما أبالي إذا ما نفسه سلمت ... لو باد كلّ عباد الله وانقرضوا وقال آخر في بعض الأمراء: واعتلّ فاعتلّت الدنيا لعلّته ... واعتلّ فاعتلّ فيه البأس والكرم لمّا استقلّ أنار المجد وانقشعت ... عنه الضبابة والأحزان والسّقم «1» وبلغ قيسا مجنون بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة: فقال: يقولون ليلى بالعراق مريضة ... فما لك تجفوها وأنت صديق شفى الله مرضى بالعراق فإنّني ... على كلّ شاك بالعراق شفيق ولمحمد بن عبد الله بن طاهر: ألبسك الله منه عافية ... تغنيك عن دعوتي وعن جلدك سقمك ذا لا لعلّة عرضت ... بل سقم عينيك ردّ في جسدك فيا مريض الجفون أحي فتى ... قتلته بالجفون لا بيدك وقال غيره: يا أملي، كيف أنت من ألمك ... وكيف ما تشتكيه من سقمك هذان يومان لي أعدّهما ... مذ لم تلح لي بروق مبتسمك

حسدت حمّاك حين قيل لها ... بأنها قبّلتك فوق فمك ولسحيم عبد بني الحسحاس: تجمّعن شتّى من ثلاث وأربع ... وواحدة حتى كملن ثمانيا واقبلن من أقصى الخيام يعدنني ... ألا إنما بعض العوائد دائيا وللعباس بن الأحنف: قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهي الصحيحة والمريض العائد والله لو قست القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الضعيف الوالد وقال الواثق: لا بك السّقم ولكن كان بي ... وبنفسي وبأمّي وأبي قيل لي إنّك صدّعت فما ... خالطت سمعي حتى دير بي «1» وأنشد محمد بن يزيد المبرّد لعلية بنت المهدي: تمارضت كي أشجى وما بك علّة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك وقولك للعوّاد كيف ترونه ... فقالوا قتيلا قلت أهون هالك لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك ومن قولنا في هذا المعنى: روح الندى بين أثواب العلا وصب ... يعتنّ في جسد للمجد موصوب «2» ما أنت وحدك مكسوّ شحوب ضنى ... بل كلّنا بك من مضنى ومشحوب يا من عليه حجاب من جلالته ... وإن بدا لك يوما غير محجوب ألقى عليك يدا للضّرّ كاشفة ... كشّاف ضرّ نبيّ الله أيّوب ومثله من قولنا:

الأدب في الاعتناق

لا غرو إن نال منك السّقم والضرر ... قد تكسف الشمس لا بل يخسف القمر يا غرّة القمر الذاوي غضارتها ... فدّى لنورك منّي السمع والبصر إن يمس جسمك مدهوكا بصالية ... فهكذا يوعك الضّرغامة الهصر «1» أن الحسام فإن تفلل مضاربه ... فقبله ما يفلّ الصارم الذّكر «2» روح من المجد في جثمان مكرمة ... كأنما الصبح من خدّيه ينفجر لو غال مجلوده شيء سوى قدر ... أكبرت ذاك ولكن غاله القدر ومن قولنا في هذا المعنى: لا غرو إن نال منك السّقم ما سألا ... قد يكسف البدر أحيانا إذا كملا ما تشتكي علة في الدهر واحدة ... إلا اشتكى الجود من وجد بها عللا الأدب في الاعتناق سفيان بن عيينة ومالك: أبو بكر بن محمد قال: حدثنا سعيد بن إسحاق عن ابن يونس المديني قال: كنت جالسا عند مالك بن أنس، فإذا سفيان بن عيينة يستأذن بالباب، فقال مالك: رجل صالح صاحب سنّة، أدخلوه. فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فردّ السلام، فقال: سلام خاص وعام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله. فقال مالك: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله. فصافحه مالك وقال: يا أبا محمد، لولا أنها بدعة لعانقناك. فقال سفيان: قد عانق من هو خير منا، رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال مالك: جعفرا؟ قال: نعم. فقال مالك: ذاك حديث خاص يا أبا محمد ليس بعام. فقال سفيان: ما عمّ جعفرا يعمّنا وما خصه يخصنا إذا كنا صالحين؛ أفتأذن لي أن أحدّث في مجلسك؟ قال: نعم يا أبا محمد. فقال: حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه

باب الأدب في إصلاح المعيشة

عن عبد الله بن عباس: أنه لما قدم جعفر من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلّى الله عليه وسلم، وقبل بين عينيه وقال: جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا. باب الأدب في إصلاح المعيشة قالوا: من أشبع أرضه عملا أشبعت بيته خبزا. وقالوا: يقول الثوب لصاحبه: أكرمني داخلا أكرمك خارجا. وقالت عائشة: المغزل بيد المرأة أحسن من الرمح بيد المجاهد في سبيل الله. وقال عمر بن الخطاب: لا تنهكوا وجه الأرض فإن شحمها في وجهها. وقال: فرّقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين. وقال: أملكوا العجين فإنه أحد الرّيعين. وقال أبو بكر لغلام له كان يتجر بالثياب: إذا كان الثوب سابغا «1» فانشره وأنت قائم، وإذا كان قصيرا فانشره وأنت جالس، وإنما البيع مكاس «2» . وقال عبد الملك بن مروان: من كان في يده شيء فليصلحه، فإنه في زمان إن احتاج فيه فأول ما يبدل دينه. باب الأدب في المؤاكلة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله. بلال والجارود: محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلاد بن أبي بردة. وهو أمير على البصرة، للجارود بن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عبد الله

بين المنصور وأعرابي:

ابن عامر؛ قال: نعم. قال: فصفه لي. قال: نأتيه فنجده منبطحا، يعني نائما، فنجلس حتى يستيقظ، فيأذن فنساقطه الحديث، فإن حدّثناه أحسن الاستماع؛ وإن حدّثنا أحسن الحديث، ثم يدعو بمائدته، وقد تقدّم إلى جواريه وأمهات أولاده ألّا تلفظ واحدة منهن إذا وضعت مائدة، ثم يقبل خبّازه فيمثل بين يديه قائما، فيقول له: ما عندك؟ فيقول: عندي كذا وكذا. فيعدّد ما عنده. يريد بذلك أن يحسن كلّ رجل نفسه وشهوته على ما يريد من الطعام. وتقبل الألوان من ها هنا ومن ها هنا فتوضع على المائدة، ثم يؤتى بثريدة شبهاء «1» من الفلفل رقطاء «2» من الحمّص، ذات حفافين من العراق «3» ، فيأكل معذرا، حتى إذا ظن أن القوم قد كادوا يمتلئون، جثا على ركبتيه؛ ثم استأنف الأكل معهم. قال ابن أبي بردة: لله درّ عبد الأعلى، ما أربط جأشه على وقع الأضراس. وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك؛ فبيناه يأكل معه إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. فقال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا، ثم خرج وهو يقول: وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد بين المنصور وأعرابي: محمد بن زيد قال: أكل قائد لأبي جعفر المنصور معه يوما، وكان على المائدة محمد المهديّ وصالح ابناه، فبينا الرجل يأكل من ثريدة بين أيديهم، إذ سقط بعض الطعام من فيه في الغضّارة «4» ، فكأن المهدي وأخاه عافا الأكل معه، فأخذ أبو جعفر الطعام

المنصور وهاشمي والربيع حاجبه:

الذي سقط من فم الرجل فأكله، فالتفت إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، أما الدنيا فهي أقلّ وأيسر من أن أتركها لك، والله لأتركن في مرضاتك الدنيا والآخرة. المنصور وهاشمي والربيع حاجبه: وحدّث إبراهيم بن السندي قال: كان فتى من بني هاشم يدخل على المنصور كثيرا، يسلم من بعيد وينصرف، فأتاه يوما فأدناه، ثم دعاه إلى الغذاء. فقال: قد تغدّيت! فأمهله الرّبيع حاجب المنصور حتى ظن أنه لم يفهم الخطيئة، فلما انصرف وصار وراء الستر دفعه في قفاه، فلما رأى من الحاجب دفعه في قفاه، شكا الفتى حالته وما ناله إلى عمومته، فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر، وقالوا: إن الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا. فقال لهم أبو جعفر: إن الربيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حجة، فإن شئتم أمسكنا عن ذلك وأغضينا، وإن شئتم سألته وأسمعتكم. قالوا: بل يسأله أمير المؤمنين ونسمع. فدعاه فسأله، فقال: إن هذا الفتى كان يأتي فيسلّم وينصرف من بعيد؛ فلما كان أمس أدناه أمير المؤمنين حتى سلّم من قرب؛ وتبذّل بين يديه ودعاه إلى غدائه؛ فبلغ من جهله بحق المرتبة التي أحلّه فيها أن قال: قد تغديت. وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدّ خلّة الجوع، ومثل هذا لا يقوّمه القول دون الفعل. فسكت القوم وانصرفوا. وقال بكر بن عبد الله: أحق الناس بلطمة من أتى طعاما لم يدع إليه، وأحق الناس بلطمتين من يقول له صاحب البيت: اجلس ها هنا. فيقول: لا، ها هنا، وأحق الناس بثلاث لطمات من دعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل: ادع ربة البيت تأكل معنا. وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: لا ينبغي للفتى أن يكون مكحلا؛ ولا مقبّبا، ولا مكوكبا، ولا شكامدا، ولا حرامدا، ولا تقامدا. ثم فسره فقال: أما المكحل، فالذي يتعرق العظم حتى يدعه كأنه مكحلة عاج، والمقّبب، فالذي يركّب

أدب الملوك

اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قبة؛ والمكوكب، الذي يبصق في الطست وينخم فيها حتى يصير بصاقه كأنه الكواكب في الطست: والحرامد، الذي يأتي في وقت الغداء والعشاء فيقول: ما تأكلون؟ فيقولون من بغضه: سمّا! فيدخل يده ويقول: في حرامّ العيش بعدكم؛ والشّكامد. الذي يتبع اللقمة بأخرى قبل أن يسيغها فيخنق، كأنه ديك قد ابتلع فأرة، والنقامد، الذي يضع الطعام بين يديه ويأكل من بين يدي غيره. ومن الأدب: أن يبدأ صاحب الطعام بغسل يده قبل الطعام، ثم يقول لجلسائه: من شاء منكم فليغسل. فإذا غسل بعد الطعام: فليقدّمهم ويتأخر. أدب الملوك قال العلماء: لا يؤمّ ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه. وقال زياد: لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. ودخل عبد الله بن عباس على معاوية وعنده زياد، فرحّب به معاوية ووسع له إلى جنبه، وأقبل عليه يسائله ويحادثه وزياد ساكت، فقال له ابن عباس: كيف حالك أبا المغيرة، كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؟ فقال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. قال ابن عباس: ما أدكرت الناس إلا وهم يسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كفّ عنه يا بن عباس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت. الشيباني قال: بصق ابن مروان فقصّر في بصقته، فوقعت في طرف البساط فقام رجل من المجلس فمسحه بكمه، فقال عبد الملك بن مروان: أربعة لا يستحى من خدمتهم: الإمام، والعالم، والوالد، والضعيف. وقال يحيى بن خالد: مساءلة الملوك عن حالها من تحية النّوكى، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير، فقل: صبّح الله الأمير بالنعمة والكرامة. وإن كان عليلا فأردت أن تسأله عن حاله، فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة.

وقالوا: إذا زادك الملك إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبدا فاجعله ربّا ولا تديمن النظر إليه، ولا تكثر من الدعاء له في كلّ كلمة ولا تتغيّر له إذا سخط ولا تغترّ به إذا رضي، ولا تلحف في مسألته. وقالوا: الملوك لا تسأل ولا تشمّت، ولا تكيّف. وقال الشاعر: إن الملوك لا يخاطبونا ... ولا إذا ملّوا يعاتبونا وفي المقال لا تنازعونا ... وفي العطاس لا يشمّتونا وفي الخطاب لا يكيّفونا ... يثنى عليهم ويبجّلونا فافهم وصاتي لا تكن مجنونا وقالوا: من تمام خدمة الملوك أن يقرّب الخادم إليه نعليه، ولا يدعه يمشي إليهما، ويجعل النعل اليمنى قبالة الرجل اليمنى، واليسرى قبالة الرجل اليسرى؛ وإذا رأى متكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه، ولا ينتظر فيه أمره، ويتفقد الدواة قبل أن يأمره، وينفض عنها الغبار إذا قرّبها إليه، وإن رأى بين يديه قرطاسا قد تباعد عنه قرّبه إليه ووضعه بين يديه على كسره. وقال أصحاب معاوية لمعاوية: إنا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك، فأنت تكره أن تستخفّنا فتأمرنا بالقيام، ونحن نكره أن نثقل عليك في الجلوس، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها ذلك؟ فقال: علامة ذلك أن أقول: إذا شئتم. وقيل مثل ذلك ليزيد بن معاوية، فقال: إذا قلت: على بركة الله. وقيل مثل ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال: إذا وضعت الخيزرانة. وما سمعت بألطف معنى، ولا أكمل أدبا، ولا أحسن مذهبا في مساءلة الملوك من شبيب بن شيبة وقوله لأبي جعفر: أصلحك الله، إني أحب المعرفة وأجلك عن السؤال. فقال له: فلان بن فلان.

باب الكناية والتعريض

باب الكناية والتعريض ومن أحسن الكناية اللطيفة عن المعنى الذي يقبح ظاهره: قيل لعمر بن عبد العزيز، وقد نبت له حبن «1» تحت أنتييه «2» : أين نبت بك هذا الحبن؟ قال: بين الرانفة «3» والصّفن «4» . وقال آخر، ونبت به حبن في أبطه، أين نبت بك هذا الحبن؟ قال: تحت منكبي. وقد كنى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة، وعن الحدث بالغائط فقال: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ «5» - والغائط: الفحص، وجمعه غيطان- وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ «6» وإنما كنى به عن الحدث. وقال تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «7» فكنى عن البرص. ودخل الربيع بن زياد على النعمان بن المنذر وبه وضح، فقال: ما هذا البياض بك؟ فقال: سيف الله جلاه. ودخل حارثة بن بدر على زياد وفي وجهه أثر، فقال زياد: ما هذا الأثر الذي في وجهك؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فجمح بي. فقال: أما إنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنى زياد بالأشهب عن اللبن. وقال معاوية للأحنف بن قيس: أخبرني عن قول الشاعر:

إذا ما مات ميت من تميم ... وسرّك أن يعيش فجىء بزاد بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشّيء الملفّف في البجاد «1» تراه يطوف في الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد ما هذا الشيء الملفف في البجاد؟ قال الأحنف: السخينة «2» يا أمير المؤمنين. قال معاوية: واحدة بأخرى والبادي أظلم. السخينة: طعام كانت تعمله قريش من دقيق، وهو الحريرة، فكانت تسبّ به؛ وفيه يقول حسان بن ثابت: زعمت سخينة أن ستغلب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب وقال آخر: تعشوا من حريرتهم فناموا ولما عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر وولّاها ابن أبي سرح دخل عمرو على عثمان وعليه جبة محشوّة، فقال له عثمان: ما حشو جبتك يا عمرو؟ قال: أنا. قال: قد علمت أنك فيها. ثم قال له: يا عمرو، أشعرت أن اللّقاح «3» درّت بعدك ألبانها؟ فقال: لأنكم أعجفتم «4» أولادها. فكنّى عثمان عن خراج مصر بالّلقاح، وكنّى عمرو عن جور الوالي بعده وأنه حرم الرزق أهل العطاء ووفّره على السلطان، بالإعجاف. وكان في المدينة رجل يسمى جعدة، يرجّل شعره ويتعرّض للنساء المعزبات، فكتب رجل من الأنصار كان في الغزو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري قلائصنا هداك الله إنّا ... شغلنا عنكم زمن الحصار

الكناية يورى بها عن الكذب والكفر

يعقّلهنّ جعد شيظميّ ... وبئس معقّل الذّود الظّؤار «1» فكنى بالقلائص عن النساء، وعرّض برجل يقال له جعدة. فسأل عنه عمر فدلّ عليه، فجزّ شعره ونفاه عن المدينة. وسمع عمر بن الخطاب امرأة في الطواف تقول: فمنهنّ من تسقى بعذب مبرّد ... نقاخ فتلكم عند ذلك قرّت «2» ومنهنّ من تسقى بأخضر آجن ... أجاج ولولا خشية الله فرّت ففهم شكواها، فبعث إلى زوجها فوجده متغيّر الفم، فخيّره بين خمسمائة درهم وطلاقها. فاختار الدراهم، فأعطاه وطلّقها. ودخل على زياد رجل من أشراف البصرة، فقال. أين مسكنك من البصرة؟ قال: في وسطها قال له: كم لك من الولد؟ قال: تسعة. فلما خرج من عنده قيل له: إنه ليس كذلك في كل ما سألته، وليس له من الولد إلا واحد، وهو ساكن في طرف البصرة. فلما عاد إليه سأله زياد عن ذلك، فقال له: ما كذبتك. لي تسعة من الولد، قدّمت منهم ثمانية فهم لي، وبقي معي واحد، فلا أدري ألي يكون أم عليّ؛ ومنزلي بين المدينة والجبّانة؛ فأنا بين الأحياء والأموات، فمنزلي في وسط البصرة. قال: صدقت. الكناية يورّى بها عن الكذب والكفر لما هزم الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث وقتل أصحابه وأسر بعضهم، كتب إليه عبد الملك بن مروان أن يعرض الأسرى على السيف، فمن أقرّ منهم بالكفر خلّى سبيله، ومن أبي يقتله. فأتي منهم بعامر الشّعبي، ومطرّف بن عبد الله بن الشّخّير،

ابن عرباض والخوارج:

وسعيد بن جبير. فأما الشعبي ومطرّف فذهبا إلى التعريض والكناية ولم يصرّحا بالكفر، فقبل كلامهما وعفا عنهما؛ وأما سعيد بن جبير فأبى ذلك فقتل. وكان مما عرّض به الشعبي فقال: أصلح الله الأمير، نبا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا «1» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال: صدق. والله ما برّوا بخروجهم علينا ولا قووا، خليا عنه. ثم قدم إليه مطرّف بن عبد الله، فقال له الحجاج: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: إنّ من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر. قال: خلّيا عنه. ثم قدّم إليه سعيد بن جبير؛ فقال له: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت بالله مذ آمنت به. قال: اضربوا عنقه. ولما ولي الواثق وأقعد للناس أحمد بن أبي داود للمحنة في القرآن ودعا إليه الفقهاء، أتي فيهم بالحارث بن مسكين، فقيل له: اشهد أن القرآن مخلوق! قال: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هذه الأربعة مخلوقة. ومدّ أصابعه الأربع؛ فعرّض بها وكنّى عن خلق القرآن وخلّص مهجته من القتل. وعجز أحمد بن نصر فقيه بغداد عن الكناية فأباها، فقتل وصلب. ودخل بعض النّساك على بعض الخلفاء فدعاه إلى طعامه، فقال: الصائم لا يأكل يا أمير المؤمنين، وما أزكّي نفسي، بل الله يزكّي من يشاء. وإنما كره طعامه. ابن عرباض والخوارج: الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: بينما ابن عرباض يمشي مقدّما بطنه، إذ استقبلته الخوارج يحزّون الناس بسيوفهم؛ فقال لهم: هل خرج إليكم في اليهود شيء؟ قالوا: لا. قال: فامضوا راشدين. فمضوا وتركوه. ولقي شيطان الطاق رجلا من الخوارج وبيده سيف؛ فقال له الخارجي: والله

الكناية عن الكذب في طريق المدح

لأقتلنّك أو تبرأ من عليّ. فقال: أنا من عليّ ومن عثمان بريء يريد أنه من عليّ، وبريء من عثمان. أبو بكر بن أبي شيبة قال: قال الوليد بن عقبة على المنبر بالكوفة: أقسم على من سمّاني أشعر بركا «1» إلا قام. فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال له: ومن هذا الذي يقوم إليك فيقول: أنا الذي سميتك أشعر بركا؟ وكان هو الذي سمّاه بذلك. وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: اصعد المنبر فالعن عليّا. فامتنع من ذلك وقال: أو تعفيني؟ قال: لا. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس، إن معاوية أمرني أن ألعن عليّا، فالعنوه لعنه الله. الكناية عن الكذب في طريق المدح ابن الهيثم وغلام سكران: المدائنيّ قال: أتي العريان بن الهيثم بغلام سكران، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام عندها وقعود فظنه ولدا لبعض الأشراف، فأمر بتخليته، فلما كشف عنه قيل له: إنه ابن باقلّائي. عيسى بن موسى وابن شبرمة في متهم: ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شبرمة القاضي، فقال له: أتعرف هذا الرجل؟ وكان رمي عنده بريبة: فقال: إن له بيتا وقدما وشرفا. فخلّى سبيله. فلما انصرف ابن شبرمة قال له أصحابه: أكنت تعرف هذا الرجل؟ قال: لا، ولكني عرفت أن له بيتا يأوي إليه، وقدما يمشي عليها، وشرفه أذناه ومنكباه.

خاطب لبائع سنانير:

خاطب لبائع سنانير: وخطب رجل لرجل إلى قوم، فسألوه: ما حرفته؟ فقال: نخاس الدواب. فزوّجوه، فلما كشف عنه وجدوه يبيع السنانير؛ فلما عنّفوه في ذلك قال: أو السّنانير دوابّ؟ ما كذبتكم في شيء. ودخل معلّى الطائي على ابن السّريّ يعوده في مرضه. فأنشده شعرا يقول فيه: فأقسم إن منّ الإله بصحّة ... ونال السّريّ بن السّريّ شفاء «1» لأرتحلنّ العيس شهرا بحجّة ... وأعتق شكرا سالما وصفاء «2» فلما خرج من عنده قال له أصحابه: والله ما نعلم عبدك سالما، ولا عبدك صفاء، فمن أردت أن تعتق؟ قال: هما هرّتان عندي، والحجّ فريضة واجبة، فما عليّ في قولي شيء إن شاء الله تعالى. باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة سئل ابن سيرين عن رجل، فقال: توفيّ البارحة. فلما رأى جزع السائل قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «3» وإنما أردت بالوفاة النوم. ومرض زياد، فدخل عليه شريح القاضي يعوده، فلما خرج بعث إليه مسروق بن الأجدع يسأله: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته يأمر وينهي. فقال مسروق: إن شريحا صاحب تعريض، فاسألوه. فسألوه. قال: تركته يأمر بالوصية، وينهي عن البكاء. وكان سنان بن مكمّل النّميري يساير عمر بن هبيرة الفزاري يوما على بغلة فقال له ابن هبيرة: غضّ من عنان بغلتك. فقال: إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير. أراد

ابن يزيد الهلالي ومحاربي:

ابن هبيرة قول جرير: فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا وأراد سنان قول الشاعر: لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «1» ومر رجل من بني نمير برجل من بني تميم على يده باز، فقال التميمي للنّميري: هذا البازي؟ قال له النّميري: نعم، وهو يصيد القطا. أراد التميميّ قول جرير: أنا البازي المطل على نمير ... أتحت له من الجوّ انصبابا «2» وأراد النميري قول الطّرمّاح: تميم بطرق الّلؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت ابن يزيد الهلالي ومحاربي: ودخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي وهو والي أرمينية، وقريب منه غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله بن يزيد: ما تركتنا شيوخ محارب ننام الليلة! فقال له المحاربي: أصلح الله الأمير، أو تدري لم ذلك؟ قال: ولم؟ قال: لأنها أضلت برقعا لها. قال قبّحك الله، وقبّح ما جئت به، أراد ابن يزيد الهلالي قول الأخطل: تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وأراد المحاربي قول الشاعر: لكلّ هلاليّ من الّلؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: استعرض لي هذين الفرسين فقال: أحدهما

أجش «1» والآخر هزيم «2» . يعني قول النّجاشي: ونجّى ابن هند سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرّماح دواني «3» فقال معاوية: أما إنّ صاحبها على ما فيه لا يشبّب بكنائنه. وكان عبد الرحمن يرمى بكنّته. وشاور زياد رجلا من ثقاته في امرأة يتزوجها، فقال: لا خير لك فيها، إني رأيت رجلا يقبلها، فتركه وخالفه إليها وتزوجها، فلما بلغ زيادا خبره أرسل إليه وقال له: أما قلت لي إنك رأيت رجلا يقبلها؟ قال: نعم، رأيت أباها يقبلها. وقال أعرابي لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، احملني وسحيما على جمل. فقال: نشدتك الله يا أعرابي، أسحيم هذا زق؟ قال: نعم. ثم قال: من لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه. وودّع رجل رجلا كان يبغضه، فقال: امض في سرّ من حفظ الله، وحجاب من كلاءته «4» . ففطن له الرجل، فقال: رفع الله مكانك، وشدّ ظهرك، وجعلك منظورا إليك. الشيباني قال: كان ابن أبي عتيق صاحب هزل ولهو، واسمه عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم وكانت له امرأة من أشراف قريش، وكان لها فتيات يغنّين في الأعراس والمآتم، فأمرت جارية منهن أن تغني بشعر لها قالته في زوجها، فتغنت الجارية وهو يسمع: ذهب الإله بما تعيش به ... وقمرت لبّك أيّما قمر «5» أنفقت مالك غير محتشم ... في كلّ زانية وفي الخمر

باب في الصمت

فقال للجارية: لمن هذا الشعر؟ قالت: لمولاتي. فأخذ قرطاسا فكتبه وخرج به، فإذا هو بعبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قف قليلا أكلّمك. فوقف عبد الله بن عمر، قال: ما ترى فيمن هجاني بهذا الشعر؟ وأنشد البيتين. قال: أرى أن تعفو وتصفح. قال: أما والله لئن لقيته لأنيكنّه! فأخذ ابن عمر ينكله ويزجره، وقال: قبّحك الله! ثم لقيه بعد ذلك بأيام، فلما أبصره ابن عمر أعرض عنه بوجهه، فاستقبله ابن أبي عتيق فقال له: سألتك بالقبر ومن فيه إلا سمعت مني حرفين. فولاه قفاه وأنصت له، قال: علمت أبا عبد الرحمن أني لقيت قائل ذلك الشعر ونكته. فصعق عبد الله ولبط «1» به فلما رأى ما نزل به دنا من أذنه وقال: أصلحك الله، إنها امرأتي. فقام ابن عمر وقبل ما بين عينيه. باب في الصمت كان لقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى الله عليه وسلم مقتبسا، وكان عبدا أسود، فوجده وهو يعمل درعا من حديد، فعجب منه، ولم ير درعا قبل ذلك، فلم يسأله لقمان عما يعمل، ولم يخبره داود، حتى تمت الدرع بعد سنة، فقاسها داود على نفسه، وقال: زرد طافا ليوم قرافا. تفسيره: درع حصينة ليوم قتال؛ فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله. وقال أبو عبيد الله كاتب المهديّ: كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام؛ إن البلاء موكّل بالمنطق. وقال أبو الدّرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعل لك أذنان اثنتان وفم واحد لتسمع أكثر مما تقول. ابن عوف عن الحسن، قال: جلسوا عند معاوية فتكلموا وسكت الأحنف فقال معاوية: مالك لا تتكلم أبا بحر، قال: أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت.

وقال المهلّب بن أبي صفرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلا على لسانه أحبّ إليّ من أن أرى للسانه فضلا على عقله. وقال سالم بن عبد الملك: فضل العقل على اللسان مروءة، وفضل اللسان على العقل هجنة «1» . وقالوا: من ضاق صدره اتسع لسانه، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن ساء خلقه قل صديقه. وقال هرم بن حيّان: صاحب الكلام بين منزلتين: إن قصّر فيه خصم «2» ، وإن أغرق فيه أثم «3» . وقال شبيب بن شيبة: من سمع الكلمة يكرهها فسكت عنها انقطع ضرّها عنه. وقال أكثم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكّيه. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم: يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرّجل فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرّجل تبرا على مهل وقال الشاعر: الحلم زين والسّكوت سلامة ... فإذا نطقت فلا تكن مكثارا ما إن ندمت على سكوتي مرّة ... إلا ندمت على الكلام مرارا وقال الحسن بن هانيء: خلّ جنبيك لرامي ... وامض عنّي بسلام مت بداء الصّمت خير ... لك من داء الكلام ربّ لفظ ساق آجا ... ل فئام وفئام «4» إنما السالم من ألج ... م فاه بلجام

باب في المنطق

وقال بعض الحكماء: حظّي من الصمت لي، ونفعه مقصور عليّ وحظي من الكلام لغيره، ووباله راجع عليّ. وقالوا: إذا أعجبك الكلام فاصمت. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت أن تصمت. قال: فمتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت أن تتكلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أعطي العبد شرّا من طلاقة اللسان. وسمع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيخطىء، فقال: بكلامك رزق الصمت المحبة. باب في المنطق قال الذين فضّلوا المنطق: إنما بعثت الأنبياء بالكلام ولم يبعثوا بالسكوت؛ وبالكلام وصف فضل الصمت ولم يوصف القول بالصمت؛ وبالكلام يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعظّم الله ويسبّح بحمده. والبيان من الكلام هو الذي منّ الله به على عباده فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ «1» والعلم كله لا يؤدّيه إلى أوعية القلوب الا اللسان؛ فنفع المنطق عامّ لقائله وسامعه، ونفع الصمت خاصّ لفاعله. واعد شيء قيل في الصمت والمنطق، قولهم: الكلام في الخير كلّه أفضل من الصمت. ولصمت في الشر كلّه أفضل من الكلام. قال عبد الله بن المبارك صاحب الرّقائق يرثي مالك بن أنس المدني: صوت إذا ما الصّمت زيّن أهله ... وفتّاق أبكار الكلام المختّم «2» وعي ما وعى القرآن من كلّ حكمة ... ونيطت له الآداب باللحم والدّم «3» وقال عمر بن الخطاب: ترك الحركة غفلة.

باب في الفصاحة

وقال بكر بن عبد الله المزني: الصمت حبسة. وقالوا: الصمت نوم، والكلام يقظة. وقالوا: ما شيء ثنى إلا قصر، إلا الكلام فإنه كلما ثني طال. وقال الشاعر: الصمت شيمته فإن ... أبدى مقالا كان فصلا أبدى السكوت فإن تكلّم لم يدع في القول فضلا باب في الفصاحة محمد بن سيرين قال: ما رأيت على امرأة أجمل من شحم، ولا رأيت على رجل أجمل من فصاحة. وقال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن نبيه موسى صلّى الله عليه وسلم واستيحاشه لعدم الفصاحة: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي «1» . آفات المنطق تكلم ابن السماك يوما وجارية له تسمع كلامه، فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تردّده. قال: أردّده ليفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يملّه من فهمه. الأصمعي قال: قال معاوية يوما لجلسائه: أيّ الناس أفصح؟ فقال رجل من السماط: يا أمير المؤمنين، قوم قد ارتفعوا عن رتّة العراق، وتياسروا عن كشكشة بكر، وتيامنوا عن شنشنة تغلب، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قومك يا أمير المؤمنين، قريش. قال: صدقت! فمن أنت؟ قال: من جرم. قال الأصمعي: جرم فصحاء الناس.

وهذا الحديث قد وقع في فضائل قريش؛ وهذا كان موضعه فذكرناه. قال أبو العباس محمد بن يزيد النّحوي: التمتمة في المنطق: التردّد في التاء. والعقلة: هي التواء اللسان عند إرادة الكلام. والحبسه: تعذر الكلام عند إرادته. والّلفف: إدخال حرف في حرف. والطمطمة: أن يكون الكلام مشبها لكلام العجم. والّلكنة: أن تعترض عند الكلام اللغة الأعجمية- وسنفسر هذا حرفا حرفا وما قيل فيه إن شاء الله- والّلثغة أن يعدل بحرف إلى حرف. والغنّة: أن يشرب الحرف صوت الخيشوم؛ والخنة، أشد منها. والترخيم: حذف الكلام. والفأفأة: التردّد في الفاء؛ يقال: رجل فأفاء، تقديره فاعال: ونظيره من الكلام، ساباط، وخاتام، وقال الراجز: يا ميّ ذات الجورب المنشقّ ... أخذت خاتامي بغير حقّ وقال آخر: ليس بفأفاء ولا تمام ... ولا محبّ سقط الكلام والرّتة، كالرّتج: تمنّع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل به. والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا تبين لك تقطيع الحروف. وأما الرّتة فإنها تكون غريزية. وقال الراجز: يا أيّها المخلّط الأرتّ ويقال إنها تكثر في الأشراف. وأما الغمغمة. فإنها قد تكون من الكلام وغيره، لأنها صوت من لا يفهم تقطيع حروفه. قال عنترة: وصاحب ناديته فغمغما ... يريد لبّيك وما تكلّما قد صار من خوف الكلام أعجما وأما كشكشة تميم: فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شينا، لقرب الشين من الكاف في المخرج، وقال راجزهم: هل لك أن تنتفعي وأنفعش ... وتدخلي الذي معي في اللذمعش

باب في الإعراب واللحن

وأما كسكسة بكر فقوم منهم يبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميون في الشين. وأما طمطمانية حمير ففيها يقول عنترة: تأوى له قلص النّعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم وكان صهيب أبو يحيى رحمه الله يرتضخ لكنة رومية. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: صهيب سابق الروم. وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية من قبل زوج أمه شيرويه الأسواريّ. وكان زياد الأعجم، وهو رجل من عبد القيس، يرتضخ لكنة أعجمية، وأنشد المهلّب في مدحه إياه: فتى زاده السّلتان في الحمد رغبة ... إذا غيّر السّلتان كلّ خليل يريد: السلطان؛ وذلك أن بين التاء والطاء نسبا، لأن التاء من مخرج الطاء. وأما الغنة فتستحسن من الجارية الحديثة السن. قال ابن الرقاع في الظبية: تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها «1» وقال ابن المقفع: إذا كثر تقليب اللسان رقّت حواشيه ولانت عذبته. وقال العتّابي: إذا حبس اللسان من الاستعمال اشتدّت عليه مخارج الحروف. وقال الراجز: كأنّ فيه لغفا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق باب في الإعراب واللحن أبو عبيدة قال: مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو، فقال لهم: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وخالد بن صفوان وخاقان والفتح بن

خاقان والوليد بن عبد الملك. وقال عبد الملك بن مروان: اللحن في الكلام أقبح من التّفتيق في الثوب، والجدريّ في الوجه. وقيل له لقد عجل عليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيّبني ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن. وقال الحجاج لابن يعمر: أتسمعني ألحن؟ قال: ألا ربما سبقك لسانك ببعضه في آن وآن. قال: فإذا كان ذلك فعرّفني. وقال المأمون لأبي علي المعروف بأبي يعلي المنقريّ: بلغني أنك أمّيّ، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن في كلامك. فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه، وأما الأمّية وكسر الشعر فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أميا وكان لا ينشد الشعر. قال المأمون: سألتك عن ثلاث عيوب فيك فزدتني عيبا رابعا، وهو الجهل. يا جاهل، إن ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم لنفي الظّنّة عنه، لا لعيب في الشعر والكتاب، وقد قال تبارك وتعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «1» . وقال عبد الملك بن مروان: الإعراب جمال للوضيع، واللحن هجنة على الشريف وقال: تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض. وقال رجل للحسن: إن لنا إماما يلحن. قال: أميطوه «2» . وقال الشاعر: النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن «3»

فإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن وقال آخر: الشّعر صعب وطويل سلّمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلّت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه وقال رجل للحسن: يا أبو سعيد، فقال: أحسب أن الدوانيق «1» شغلتك عن أن تقول يا أبا سعيد. وكان عمر بن عبد العزيز جالسا عند الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد لحّانا، فقال: يا غلام، ادع لي صالح. فقال الغلام: يا صالحا. قال له الوليد: انقص ألفا. فقال عمر: وأنت يا أمير المؤمنين فزد ألفا. ودخل على الوليد بن عبد الملك رجل من أشراف قريش، فقال له الوليد: من ختنك «2» ؟ قال له: فلان اليهودي. فقال: ما تقول؟ ويحك! قال: لعلك إنما تسأل عن ختني يا أمير المؤمنين، هو فلان بن فلان. وقال عبد الملك بن مروان: أضرّ بنا في الوليد حبّنا له فلم نلزمه البادية. وقد يستثقل الإعراب في بعض المواضع كما يستخف اللحن في بعضها. وقال مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري: منطق بارع ويلحن أحيا ... نا وخير الكلام ما كان لحنا وذلك أنه من حكى نادرة مضحكة، وأراد أن يوفي حروفها حظّها من الإعراب، طمس حسنها وأخرجها عن مقدارها؛ ألا ترى أن مزّيدا المديني أكل طعاما فكظّه «3» وقيل له: ألا تقيء؟ فقال: وما أقيء، خبز نقي ولحم طري! مرتي

باب في اللحن والتصحيف

طالق، لو وجدت هذا قيئا لأكلته. قال: وكذلك يستقبح الإعراب في غير موضعه، كما استقبح من عيسى بن عمر إذ قال وابن هبيرة يضربه بالسياط، والله إن كانت إلا أثيّابا في أسيفاط «1» قبضها عشّاروك «2» . وحكي عن بعض المعربين للحن أنّ جارية له غنّته: إذا ما سمعت اللوم فيها رفضته ... فيدخل من أذن ويخرج من أخرى فقال لها: من أخرى يا فاعلة، أما علّمتك أنّ (من) تخفض؟ وقال رجل لشريح: ما تقول في رجل توفّي وترك أبا وأخيه؟ فقال له: أباه وأخاه. فقال: كم لأباه وأخاه؟ قال: لأبيه وأخيه. قال: أنت علّمتني، فما أصنع؟ وقال بعض الشعراء. وأدرك عليه رجل من المتفصّحين، يقال له حفص، لحنا في شعره، وكان حفص به اختلاف في عينه وتشويه في وجهه، فقال فيه. لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كمثل الطّود عما تتبّع «3» تتبّع لحنا من كلام مرقّش ... وخلقك مبنيّ من اللحن أجمع فعينك إقواء وأنفك مكفأ ... ووجهك إيطاء فما فيك مرقع «4» باب في اللحن والتصحيف أبو حنيفة: وكان أبو حنيفة لحانا، على أنه كان في الفتيا ولطف النظر واحد زمانه.

نوادر الكلام

وسأله رجل يوما فقال له: ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب بها رأس رجل فقتله، أتقيده به؟ قال: لا، ولو ضربه بأبا قبيس. وكان بشر المريسيّ يقول لجلسائه: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها. فسمع قاسم التّمّار قوما يضحكون، فقال: هذا كما قال الشاعر: إنّ سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيء ما كان يرزوها وبشر المريسي رأس في الرأي، وقاسم التمار متقدم في أصحاب الكلام؛ واحتجاجه لبشر أعجب من لحن بشر. ودخل شبيب بن شيبة على إسحاق بن عيسى يعزيه عن طفل أصيب به؛ فقال في بعض كلامه: أصلح الله الأمير، إنّ الطفل لا يزال محبنطيا على باب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي. قال إسحاق بن عيسى: سبحان الله! ماذا جئت به؟ إنما هو محبنطي؛ أما سمعت قول الراجز: إنّي إذا أنشدت لا أحبنطي ... ولا أحب كثرة التمطّي قال شبيب: ألي يقال مثل هذا وما بين لا بتيها أعلم مني بها! فقال له إسحاق: وهذه أيضا، أللبصرة لابتان يالكع! فأبان بتقريعه عواره فأخجله، فسكت. قوله: المحبنطي: الممتنع امتناع طلب لا امتناع إباء، وهو بالطاء غير معجمة، ورواه شبيب بالظاء المعجمة. وقوله «ما بين لا بتيها» خطأ؛ إذ ليس للبصرة لابتان، وإنما اللابة للمدينة والكوفة. واللابة: الحرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود. نوادر الكلام يقال ماء نقاخ، للماء العذب. وماء فرات، وهو أعذب العذب. وماء قعاع وهو شديد الملوحة. وماء حراق، وهو الذي يحرق من ملوحته. وماء شروب، وهو دون

باب نوادر من النحو

لعذب قليلا وماء مسوس، وهو دون الشروب. وماء شريب، وهو دون العذب. اجتمع المفضّل الضّبي وعبد الملك بن قريب الأصمعي، فأنشد المفضل: تصمت بالماء تولبا جذعا «1» فقال الأصمعي: تولبا جدعا. والجدع السيء الغذاء. فضجّ المفضل وأكثر. فقال له الأصمعي: لو نفخت في الشّبّور «2» ما نفعك. تكلم بكلام النّمل وأصب. وقال مروان بن أبي حفصة في قوم من رواة الشعر لا يعلمون ما هو، على كثرة استكثارهم من روايته: زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيّدها إلّا كعلم الأباعر «3» لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أوراح ما في الغرائر «4» باب نوادر من النحو للخليل: قال الخليل بن أحمد: أنشدني أعرابي: وإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر قال: فجعلت أعجب من قوله «عشر أبطن» فلما رأى عجبي قال: أليس هكذا قول الآخر: وكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر «5» وقال أبو زيد: قلت للخليل: لم قالوا في تصغير واصل: أويصل، ولم يقولوا

وويصل؟ قال: كرهوا أن يشبّه كلامهم بنبيح الكلاب. وقال أبو الأسود الدؤلي: من العرب من يقول: لولاي لكان كذا وكذا. وقال الشاعر: وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرماه من قنّة النّيق منهوي «1» وكذلك «لولا أنتم، ولولاكم» : ابتداء وخبره محذوف. وقال أبو زيد: وراء وقدّام لا يصرفان لأنهما مؤنثان؛ وتصغير قدّام قديدمة، وتصغير وراء وريئة؛ وقدّام خمسة أحرف، لأن الدال مشدّدة، فأسقطوا الألف لأنها زائدة، ولئلا يصغر إسم على خمسة أحرف. أبو حاتم قال: يقال أمّ بينة الأمومة، وعمّ بيّن العمومة. ويقال: مأموم، إذا شجّ أم رأسه. ورجل مموم. إذا أصابه الموم «2» . يقول المازني: يقال في حسب الرجل أرفة «3» ووصمة وأبنة؛ وكذلك يقال للعصا إذا كان فيها عيب. ويقال: قذيت عينه، إذا أصابها الرمد. وقد يقال في التقديم والتأخير مثل قول الشاعر. شرّ يوميها وأخزاه لها ... ركبت هند بحدج جملا «4» يريد: ركبت هند بحدج جملا في شرّ يوميها، نصب لأنه ظرف. وقد يسمّى الشيء باسم الشيء إذا جاوره: قال الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع قوله: لنا قمراها، يريد الشمس والقمر. وكذلك قول الناس العمرين: أبي بكر وعمر. الرياشي: يقال: أخذ قضّتها وكعبتها، إذا أخذ عذرتها. قال أبو عبيدة: المعيون: الذي له منظر ولا مخبر. والمعين: الذي قد أصيب بالعين. والمعين: الماء الظاهر. أبو عبيدة قال: سمعت رؤبة يقول: أنا ريّق، يريد على الريق. الأصمعي قال: لقي أبو عمرو بن العلاء عيسى بن عمر؛ فقال له: كيف رحلك؟ قال: ما تزداد إلا مثالة «1» . قال: فما هذه المعيوراء التي تركض؟ يريد: ما هذه الحمير التي تركب؟ يقال: معيوراء، ومشيوخاء، ومعوّداء. قال الأصمعي: إنما يقال: اقرأ عليه السلام؛ وأنشد: اقرأ على عصر الشباب تحيّة ... وإذا لقيت ددا فقطني من دد «2» وقال الفرزدق: وما شبق القيسيّ من ضعف عقله ... ولكن طفت علماء قلفة خالد «3» أراد: على الماء، فحذف. وهذا آخر كتاب سيبويه. وقال بعض الوراقين: رأيت يا حمّاد في الصيد ... أرانبا تؤخذ بالأيدي

إنّ ذوي النّحو لهم أنفس ... معروفة بالمكر والكيد يضرب عبد الله زيدا وما ... يريد عبد الله من زيد وأنشد أبو زيد الأنصاري: يا قرط حيي لا أبا لكم ... يا قرط إنّي عليكم خائف حذر قلتم له اهج تميما لا أبا لكم ... في فمّ قائل هذا التّرب والحجر فإنّ بيت تميم ذو سمعت به ... بيت به رأست في عزّها مضر «ذو» هنا في مكان «الذي» لا يتغير عن حاله في جميع الإعراب؛ وهذه لغة طيء، تجعل «ذو» في مكان «الذي» . وقال الحسن بن هانيء: حبّ المدامة ذو سمعت به ... لم يبق فيّ لغيرها فضلا وبعض العرب يقول: «لا أباك» في مكان «لا أبا لك» مضافا؛ ولذلك ثبتت الألف، ولو كانت غير معربة لقلت «لا أب لك» بغير ألف. وليس في الإضافة شيء يشبه هذا، لأنه حال بين المضاف والمضاف إليه. لبعض الشعراء: وقال الشاعر: أبالموت الّذي لا بدّ أنّي ... ملاق لا أباك تخوّفيني! وقال آخر: وقد مات شمّاخ ومات مزرّد ... وأيّ كريم لا أباك مخلّد وأنشد الفراء لابن مالك العقيلي: إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء هذا مثل قولهم: بين بين.

باب في الغريب والتقعيب

وقال محمود الوراق: مزج الصّدود وصاله ... نّ فكان أمرا بين بين وقال الفرزدق: وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكس الأبصار قال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: في هذا البيت شيء مستظرف عند أهل النحو. وذلك أنه جمع «فاعل» على «فواعل» وإذا كان هذا، لم يكن بين المذكر والمؤنث فرق؛ لأنك تقول: ضاربة وضوارب، ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين، وذلك قولهم فوارس وهوالك، ولكنه اضطر في الشعر فأخرجه عن الأصل، ولولا الضرورة ما جاز له. وقال أبو غسان رفيع بن سلمة تلميذ أبي عبيدة المعروف بدماذ، يخاطب أبا عثمان النحوي المازنيّ: تفكّرت في النّحو حتّى ملل ... ت وأتعبت نفسي له والبدن وأتعبت بكرا وأصحابه ... بطول المسائل في كلّ فن سوى أنّ بابا عليه العفا ... للفاء يا ليته لم يكن فكنت بظاهره عالما ... وكنت بباطنه ذا فطن وللواو باب إلى جنبه ... من المقت أحسنه قد لعن إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين أجيبوا: لما قيل هذا كذا ... على النّصب قالوا لإضمار أن وما إن رأيت لها موضعا ... فأعرف ما قيل إلّا بأن فقد خفت يا بكر من طول ما ... أفكر في أمر «أن» أن أجن باب في الغريب والتقعيب دخل أبو علقمة على أعين الطبيب، فقال: أصلحك الله، أكلت من لحوم هذه

أبو علقمة وحجام:

الجوازل، فطسئت طسأة «1» ، فأصابني وجع بين الوابلة «2» ودأية العنق «3» ، فلم يزل ينمو ويربو حتى خالط الخلب «4» والشراسيف «5» ؛ فهل عندك دواء؟ قال نعم: خذ خربقا «6» وسلفقا وشبرقا فزهزقه وزقزقه «7» واغسله بماء ذوب واشربه. فقال له أبو علقمة: لم أفهمك. فقال: ما أفهمتك إلا كما أفهمتني!. وقال له مرة أخرى: إني أجد معمعة وقرقرة. فقال: أما المعمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة فضراط لم ينضج. وقال أبو الأسود الدؤلي لأبي علقمة: ما حال ابنك؟ قال: أخذته الحمّى فطبخته طبخا، ورضخته رضخا «8» ، وفتخته فتخا «9» ، فتركته فرخا. قال: فما فعلت زوجته التي كانت تشارّه «10» وتهارّه «11» وتمارّه «12» وتزارّه «13» ؟ قال: طلّقها فتزوجت بعده فحظيت وبظيت «14» . قال: فما بظيت؟ فقال له: حرف من الغريب لم يبلغك. فقال: يا بن أخي، كل حرف لا يعرفه عمّك فاستره كما تستر السّنور خرأها. أبو علقمة وحجام: ودعا أبو علقمة بحجام يحجمه، فقال له: أنق غسل المحاجم، واشدد قضب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع؛ وليكن شرطك وخزا، ومصّك نهزا، ولا تردّن آتيا، ولا تكرهن آبيا.

أبو المكنون وأعرابي:

فوضع الحجّام محاجمه في جونته «1» ومضى عنه. أبو المكنون وأعرابي: وسمع أعرابي أبا المكنون النحويّ في حلقته وهو يقول في دعاء الاستسقاء: اللهم ربّنا وإلهنا ومولانا، فصلّ على محمد نبينا، اللهم ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السّجّيل «2» على أصحاب الفيل؛ اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريثا مريعا مجلجلا مسحنفرا «3» هزجا، سحاّ «4» سفوحا، طبقا غدقا مثعنجرا «5» نافعا لعامّتنا وغير ضار لخاصتنا. فقال الأعرابي: يا خليفة نوح، هذا الطوفان وربّ الكعبة، دعني حتى آوي إلى جبل يعصمني من الماء. وسمعه مرة أخرى يقول في يوم برد: إن هذا يوم بلّة عصبصب «6» ، بارد هلّوف «7» . فارتعد الأعرابي وقال: والله هذا مما يزيدني بردا. وخطب أبو بكر المنكور فأغرب في خطبته وتقعّر في كلامه؛ وعند أصل المنبر رجل من أهل الكوفة يقال له حنش؛ فقال لرجل إلى جنبه: إني لأبغض الخطيب يكون فصيحا بليغا متقعّرا. وسمعه أبو بكر المنكور الخطيب. فقال له: ما أحوجك يا حنش إلى مدحرج مفتول لين الجلاد لدن المهزّة عظيم الثمرة «8» ، تؤخذ به من مغرز العنق إلى عجب الذنب «9» ، فتعلى فتكثر له رقصاتك من غير جذل.

باب في تكليف الرجل ما ليس من طبعه

وقال حبيب الطائي: فما لك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب أما لو أنّ جهلك عاد علما ... إذا لرسخت في علم الغيوب ومن قولنا نمدح رجلا باستسهال اللفظ وحسن الكلام: قول كأنّ فريده ... سحر على ذهن اللّبيب لا يشمئزّ على اللّسان ... ولا يشذ عن القلوب لم يغل في شنع اللّغا ... ت ولا توحّش بالغريب سيف تقلّد مثله ... عطف القضيب على القضيب هذا تجذّ به الرّقا ... ب وذا تجذّ به الخطوب «1» باب في تكليف الرجل ما ليس من طبعه قالوا ليس الفقه بالتفقّه؛ ولا الفصاحة بالتفصّح؛ لأنه لا يزيد متزيّد في كلامه إلا لنقص يجده في نفسه، ومما اتفقت عليه العرب والعجم قولهم: الطبع أملك. وقال حفص بن النّعمان: المرء يصنع نفسه، فمتى ما تبله «2» ينزع إلى العرق. وقال العرجيّ: يا أيّها المتحلّي غير شيمته ... ومن شمائله التّبديل والملق «3» ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ... إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق وقال آخر: ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النّفس خيمها «4» وقال آخر: كل امريء راجع يوما لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقا إلى حين

وقال الخريمي: يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يملك البحر ألّا يفيضا وقال آخر: ولائمة لامتك يا فيض في النّدى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر وقال حبيب: تعوّد بسط الكفّ حتى لو أنّه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله وقال آخر: وقفّع أطرافهم قبضها ... فإن طلبوا بسطها تنكسر «1» وقالوا: إن ملكا من ملوك فارس كان له وزير حازم مجرّب، فكان يصدر عن رأيه ويتعرّف اليمن في مشورته، ثم إنه هلك ذلك الملك وقام بعده ولد له، معجب بنفسه مستبد برأيه فلم ينزل ذلك الوزير منزلته ولا اهتبل «2» رأيه ومشورته؛ فقيل له: إن أباك كان لا يقطع أمرا دونه. فقال: كان يغلط فيه، وسأمتحنه بنفسي. فأرسل إليه فقال له: أيّهما أغلب على الرجل: الأدب أو الطبيعة؟ فقال له الوزير: الطبيعة أغلب، لأنها أصل والأدب فرع، وكلّ فرع يرجع إلى أصله. فدعا الملك بسفرته، فلما وضعت أقبلت سنانير بأيديها الشمع فوقفت حول السفرة، فقال للوزير: اعتبر خطأك وضعف مذهبك؛ متى كان أبو هذه السنانير شمّاعا؟ فسكت عنه الوزير وقال: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة. فقال: ذلك لك. فخرج الوزير فدعا بغلام له، فقال: التمس لي فأرا واربطه في خيط وجئني به. فأتاه به الغلام، فعقده في سبنيّة «3» وطرحه في كمّه، ثم راح من الغد إلى الملك، فلما حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشمع حتى حفّت بها، فحل الوزير الفأر من سبنيّته ثم ألقاه إليها؛

باب في ترك المشاراة والمماراة

فاستبقت السنانير إليه ورمت بالشمع، حتى كاد البيت يضطرم عليهم نارا فقال الوزير: كيف رأيت غلبة الطبع على الأدب ورجوع الفرع إلى أصله؟ قال: صدقت، ورجع إلى ما كان أبوه عليه معه. فإنما مدار كل شيء على طبعه، والتكلف مذموم من كل وجه. قال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم: قل يا محمد: «وما أنا من المتكلفين» . وقالوا: من تطبّع بغير طبعه نزعته العادة حتى تردّه إلى طبعه، كما أن الماء إذا أسخنته وتركته ساعة عاد إلى طبعه من البرودة، والشجرة المرة لو طلبتها بالعسل لا تثمر إلا مرا. باب في ترك المشاراة والمماراة «1» دخل السائب بن صيفي على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: وكيف لا أعرف شريكي في الجاهلية الذي كان لا يشاري ولا يماري؟ وقال ابن المقفع: المشاراة والمماراة يفسدان الصداقة القديمة ويحلان العقدة الوثيقة؛ وأيسر ما فيهما أنهما ذريعة إلى المنافسة والمغالبة. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا تمار أخاك، فإما أن تغضبه وإما أن تكذبه. وقال الشاعر: فإياك إياك المراء فإنه ... إلى السّبّ دّهاء وللصرم جالب «2» وقال عبد الله بن عباس: لا تمار فقيها ولا سفيها، فإنّ الفقيه يغلبك والسفيه يؤذيك. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر» .

باب في سوء الأدب

باب في سوء الأدب دخل عروة بن مسعود الثّقفي على النبي صلّى الله عليه وسلم: فجعل يحدّثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده السيف، فقال له: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك! فقبض يده عروة. وعروة هذا عظيم القريتين الذي قالت فيه قريش: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» ويقال: إنه الوليد بن المغيرة المخزومي. النبي صلّى الله عليه وسلم ووفد تميم: ولما قدم وفد تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم ناداه رجل منهم من وراء الجدار: يا محمد، اخرج إلينا. فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ «2» وفي قراءة ابن مسعود: (بنو تميم أكثرهم لا يعقلون) وأنزل الله في ذلك: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «3» . أبو بكر وبائع ثوب: ونظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى رجل يبيع ثوبا، فقال له: أتبيع الثوب؟ قال: لا عافاك الله! قال. لقد علمتم لو تتعلمون: قل: لا، وعافاك الله. وخطب الحسن في دم، فأجابه صاحب الدم فقال: قد وضعت ذلك الدم لله ولوجوهكم. قال له الحسن: ألا قلت: قد وضعت ذلك الدم لله خالصا؟ وذكر أعرابي رجلا بسوء الأدب فقال: إن حدثته سابقك إلى ذلك الحديث وإن تركته أخذ في التّرّهات «4» .

المأمون وقطرب:

ودخل بعض الرواة على المهدي، فقال له: أنشدني قول زهير: لمن الديار بقنّة الحجر فأنشدها حتى أتى على آخرها. فقال له المهدي: ذهب والله من كان يقول هذا. فقال له: كما ذهب والله من كان يقال فيه، فاستجهله واستحمقه. المأمون وقطرب: ولما رفع قطرب النحويّ كتابه في القرآن إلى المأمون، أمر له بجائزة وأذن له، فلما دخل عليه قال: قد كانت عدة أمير المؤمنين أرفع من جائزته، فغضب المأمون وهمّ به، فقال له سهل بن هارون: يا أمير المؤمنين، إنه لم يقل بذات نفسه، وإنما غلب عليه الحصر «1» : ألا تراه كيف يرشح جبينه ويكسر أصابعه! فسكن غضب المأمون واستجهله واستحمقه. وكان الحسن اللؤلؤي ليلة عند المأمون بالرّقّة وهو يسامره، إذ نعس المأمون والحسن يحدّثه، فقال له: نعست يا أمير المؤمنين فانتبه! فقال: سوقي وربّ الكعبة! يا غلام، خذ بيده. ودخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك بأرجوزته التي أوّلها: الحمد لله الوهوب المجزل وهي من أجود شعره! فلما أتى على قوله: والشمس في الجوّ كعين الأحول غضب هشام، وكان أحول، فأمر بصفع قفاه وإخراجه. ودخل كثيّر عزّة على يزيد بن عبد الملك، فبينا هو يحدّثه إذ قال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قول الشمّاخ:

إذا الأرطى توسّد أبرديه ... خدود جوازيء بالرّمل عين «1» فقال يزيد: وماذا على أمير المؤمنين ألّا يعرف ما قال هذا الأعرابي الجلف مثلك؟ واستحمقه وأمر بإخراجه. ودخل كثير عزة على عبد العزيز بن مروان فأنشده مدحته التي يقول فيها: وأنت فلا تفقد ولا زال منكم ... إمام يحيّا في حجاب مسدّن «2» أشمّ من الغادين في كلّ حلّة ... يميسون في صبغ من العصب متقن لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرميّ الملسّن «3» فاستحسنها وقال له: سل حاجتك! فقال: توليني مكان ابن رمّانة كاتبك. فقال له: ويلك! ذا كاتب وأنت شاعر! فكيف تقوم مقامه وتسدّ مسدّه؟ فلما خرج من عنده ندم وقال: عجبت لأخذي خطّة العجز بعدما ... تبيّن من عبد العزيز قبولها لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذا لا أقولها [فهل أنت إن راجعتك القول مرّة ... بأحسن منها عائد فمنيلها؟] ووقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف ثم لمحمد ابن الأشعث، فأسرع محمد في مشيته حتى دخل قبل الأحنف، فلما رآه معاوية قال له: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وإنّا كما نلي أموركم كذلك نلي أدبكم، ولا تزيّد متزيّد في أمره إلا لنقص يجده في نفسه.

بين عمر بن عبد العزيز وأبي الزناد كاتبه:

وقال عبد الملك بن مروان: ثلاثة لا ينبغي للعاقل أن يستخفّ بهم: العلماء، والسلطان، والإخوان؛ فمن استخف بالعلماء أفسد دينه، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته. بين عمر بن عبد العزيز وأبي الزناد كاتبه: وقال أبو الزناد: كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد عامله على المدينة في المظالم، فيراجعه فيها؛ فكتب إليه: إنه يخيل إليّ أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة، لكتبت إليّ: أضأنا أم معزا؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إليّ: أذكرا أم أنثى؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت: أصغيرا أم كبيرا؟ فإذا كتبت إليك في مظلمة فلا تراجعني فيها. أبو جعفر وابن قتيبة: وكتب أبو جعفر إلى سالم بن قتيبة، يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله وعقر نخلهم. فكتب إليه: بأي نبدأ، بالدّور أو بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: إني لو أمرتك بإفساد تمرهم، لكتبت [إليّ] : بأي ذلك نبدأ، بالصّيحانيّ أم بالبرنيّ. وعزله وولى محمد بن سليمان. ولمحمود الورّاق: كم قد رأيت مساءة ... من حيث تطمع أو تسرّا ولربما طلب الفتى ... لأخيه منفعة فضرّا ودخل عدي بن أرطاة على شريح القاضي: فقال له: أين أنت أصلحك الله؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: اسمع مني، قال: قل نسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: مكان سحيق، قال: وتزوّجت عندكم، قال: بالرفاه والبنين، قال: وولد لي غلام، قال: ليهنك الفارس، قال: وأردت أن أرحلها، قال: الرجل أحق بأهله، قال: وشرطت لها دارها، قال الشرط أملك، قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد

فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: علي ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك. أراد شريح إقراره على نفسه بالشرط؛ فكان شريح صاحب تعريض عويص. ودخل شريك بن عبد الله على اسماعيل وهو يتبخر بعود؛ فقال للخادم: جئنا بعود لأبي عبد الله. فجاء ببربط «1» ، فقال اسماعيل: اكسره. وقال لشريك: أخذوا البارحة في الحرس رجلا ومعه هذا البربط. وقال بعض الشعراء في عيّ الخادم: ومتى أدعها بكأس من الما ... ء بصحفة وزبيب وقال حبيب في بني تغلب من أهل الجزيرة يصفهم بالجفاء وقلّة الأدب مع كرم النفوس: لا رقّة الحضر الّلطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النّفوس وقلّة الآداب وكان فتى يجالس الشعبي، وكان كثير الصمت، فالتفت إلى الشعبي، فقال له: إني لأجد في قفاي حكّة، أفتأمرني بالحجامة؟ فقال الشعبي: الحمد لله الذي حوّلنا من الفقه إلى الحجامة. قال: وأتى أحمد بن الخصيب بعض المتظلمين يوما، فأخرج رجله من الركاب فركله بها. فقال فيه الشاعر: قل للخليفة: يا بن عم محمد ... اشكل وزيرك إنّه ركّال «2» وبعث رجل من التجار وكيلا له إلى رجل من الأشراف يقتضيه مالا عليه، فرجع إليه مضروبا؛ فقال له: ويلك! مالك؟ قال: سبّك، فسببته، فضربني- قال: وما قال لك؟ قال: قال أدخل أير الحمار في حر امّ من أرسلك! قال: دعني من

باب في تحنك الفتى

افترائه عليّ وسبه لي، وأخبرني كيف جعلت أنت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعله لحر أمّ من أرسلك؟ هلا قلت: أير الحمار في هن أمّ من أرسلك. باب في تحنك الفتى قيل لعمر بن الخطاب: إن فلانا لا يعرف الشرّ. قال: ذلك أحرى أن يقع فيه. وقال سفيان الثوري: من لم يحسن أن يتغنّى لم يحسن أن يتقرّا. وقال عمرو بن العاص: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعرف خير الشّرّين. ومثل ذلك قول الشاعر: رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... كذلك بعض الشرّ أهون من بعض وسئل المغيرة بن شعبة عن عمر بن الخطاب، قال: كان والله له فضل يمنعه من أن يخدع، وعقل يمنعه من أن ينخدع. وقال إياس: لست بخب «1» لا يخدعني. وتجادل ابن سيرين والحسن، وكان الحسن يرى كلّ مسلم جائز الشهادة حتى يظهر عليه سقطة أو يجرّحه المشهود عليه، وكان إياس لا يرى ذلك؛ فأقبل رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! إنّ إياسا ردّ شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا. فقال له إياس: يا أبا سعيد يقول الله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ «2» وهذا ما لا نرضاه. عامر بن عبد الله وسرقة عطائه: وكان عامر بن عبد الله بن الزبير في غاية الفضل والدين، وكان لا يعرف الشر، فبينا هو جالس في المسجد إذ أتي بعطائه، فقام إلى منزله فنسيه، فلما صار إلى بيته ذكره، فقال لخادمه: اذهب إلى المسجد فأتني بعطائي. فقال له: وأين نجده؟ قال: سبحان الله! أو بقي أحد يأخذ ما ليس له.

وقال أبو أيوب: من أصحابي من أرتجى بركة دعائه ولا أقبل شهادته. وذكرت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام عند عمر بن عبد العزيز، وكان لها معظما، فقيل: إنها لا تعرف الشر. فقال عمر: عدم معرفتها بالشر جنّبها الشر. وكانوا يستحسنون الحنكة للفتى والصّبوة «1» للحديث، ويكرهون الشيب قبل أوانه، ويشبّهون ذلك بيبوس الثمرة قبل نضجها، وإنّ ذلك لا يكون إلا من ضرر فيها. فأنفع الإخوان مجلسا، وأكرمهم عشرة، وأشدهم حذقا، وأنبههم نفسا، من لم يكن بالشاطر المتفتّك، ولا الزاهد المتنسّك، ولا الماجن المتطرّف، ولا العابد المتقشّف. ولكن كما قال الشاعر: يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا ... وقد يكون شباب غير فتيان وقال آخر: وفتى وهو قد أناف على الخم ... سين يلقاك في ثياب غلام وقال آخر: فللنسك منّي جانب لا أضيعه ... وللهو منّي والبطالة جانب وقال حبيب: كهل الأناة فتى الشّذاة إذا غدا ... للرّوع كان القشعم الغطريفا «2» ومن قولنا في هذا المعنى: إذا جالس الفتيان ألفيته فتى ... وجالس كهل الناس ألفيته كهلا ونظيره قول ابن حطّان: يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيّا فعدنان

وقول عمران بن حطان هذا يحتمل غير هذا المعنى، إلا أن هذا أقرب إليه وأشبه به، لأنه أراد أنه مع اليماني يماني، ومع العدناني عدناني، فيحتمل أن ذلك لخوف منه أو مساعدة؛ وكل ذلك داخل في باب الحنكة والحذق والتجربة. وقالوا: اصحب البرّ لتتأسّى به، والفاجر لتتحنّك به. وقالوا: من لم يصحب البرّ والفاجر ولم يؤدبه الرخاء والشدة، ولم يخرج من الظل إلى الشمس مرة، فلا ترجه. ومن هذا قولهم: حلب فلان الدهر أشطره، وشرب أفاويقه. إذا فهم خيره وشرّه، فإذا نزل به الغنى عرفه ولم يبطره، وإذا نزل به البلاء صبر له ولم ينكره. وقال هدبة العذريّ: ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب ولا أتمنى الشرّ والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب وقال عبد العزيز بن زرارة في هذا المعنى: قد عشت في الدهر أطوارا على طرق ... شتّى فصادفت منه اللين والفظعا كلّا عرفت فلا النّعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائه جزعا «1» لا يملأ الأمر صدري قبل وقعته ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا وقال آخر: فإن تهدموا بالغدر داري فإنّها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا إذا همّ ألقي بين عينيه عزمه ... وأضرب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلّا قائم السيف صاحبا «2» سأغسل عنّي العار بالسيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا وسئلت هند عن معاوية، فقالت: والله لو جمعت قريش من أقطارها ثم رمي به

في وسطها لخرج من أيّ أعراضها شاء. وهذا نظير قول الشاعر: برئت إلى الرحمن من كلّ صاحب ... أصاحبه إلّا عراك بن نائل وعلمي به بين السّماطين أنّه ... سينجو بحّق أو سينجو بباطل وقال آخر: لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج وما كنت أرضى الجهل خدنا وصاحبا ... ولكنّني أرضى به حين أحرج فإن قال قوم إنّ فيه سماجة ... فقد صدقوا، والذّلّ بالحرّ أسمج ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج فمن شاء تقويمي فإني مقوّم ... ومن شاء تعويجي فإني معوّج «1» وقال معاوية بن سفيان بن عوف الغامدي: هذا الذي لا يكفكف من عجلة، ولا يدفع في ظهره من بطء، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثّفال «2» . وقال الحسن بن هانيء: من للجذاع إذا الميدان ما طلها ... بشأو مطّلع الغايات قد قرحا «3» من لا يفصفص منه البؤس أنمله ... ولا يصعّد أطراف الرّبى فرحا وقال جرير: وابن الّلبون إذا مالزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «4»

باب في الرجل النفاع الضرار

باب في الرجل النفاع الضرار يقال: إنه لخرّاج ولّاج، وأنه لحوّل قلّب؛ وإذا كان متصرفا في أموره نفاعا لأوليائه، ضرّارا لأعدائه. وإذا كان على غير ذلك قيل: ما يحلى ولا يمرّ ولا يعدّ في العير ولا في النّفير، وما فيه خير يرجى ولا شرّ يتّقى. وقال بعضهم: لا يرضى العاقل أن يكون إلا إماما في الخير أو الشر. وقال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجّى الفتي كيما يضرّ وينفعا وقال حبيب: ولم أر نفعا عند من ليس ضائرا ... ولم أر ضرّا عند من ليس ينفع وسمع أعرابي رجلا يقول: ما أتى فلان بيوم خير قط. فقال: إن لا يكن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر. وقال الشاعر: وما فعلت بنو ذبيان خيرا ... ولا فعلت بنو ذبيان شرّا وقال آخر: قبح الإله عداوة لا تتّقى ... وقرابة يدلى بها لا تنفع وفخر رجل فقال: أبي الذي قتل الملوك وغصب المنابر، وفعل وفعل! فقال له رجل: لكنه أسر وقتل وصلب. فقال دعني من أسره وقتله وصلبه؛ أبوك [هل] حدّث نفسه بشيء من هذا قط. وقال رجل «1» يذم قومه، وأغارت بنو شيبان على إبله فاستنجدهم فلم ينجدوه، وكان فيهم ضعف، فقال فيهم:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا «1» لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النّائبات على ما قال برهانا قوم إذا الشّرّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا «2» لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشّرّ في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربّك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا ولم يرد بهذا أنه وصفهم بالحلم ولا بالخشية لله؛ وإنما أراد به الذلّ والعجز؛ كما قال النجاشي في رهط تميم بن مقبل: قبيلته لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل ولا يردون الماء إلا عشيّة ... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل «3» وكل من نفع في شيء فقد ضرّ في شيء. وكذلك قول أشجع بن عمرو: يصاد أعناقا بمنصله ... ويفكّ أعناقا من الرقّ «4» وقال الحسن بن هانيء: يرجو ويخشى حالتيك الورى ... كأنّك الجنّة والنّار ومن قولنا في هذا المعنى: من يرتجى غيرك أو يتّقى ... وفي يديك الجود والباس

باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم

ما عشت عاش الناس في نعمة ... وإن تمت مات بك الناس وقال آخر: وليس فتى الفتيان من راح واغتدى ... لشرب صبوح أو لشرب غبوق «1» ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم في كتاب للهند: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر الذي لعله أن ينال منه حاجته، مخافة ما لعله يوقّاه، فليس ببالغ جسيما؛ وإن الرجل ذا المروءة ليكون خامل الذّكر خافض المنزلة، فتأبى مروءته إلا أن يستعلي ويرتفع كالشّعلة من النار التي يصونها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا، وذو الفضل لا يخفى فضله وإن أخفاه، كالمسك الذي يختم عليه ثم لا يمنع ذلك ريحه من التّذكّي والظهور. ومن قولنا في هذا المعنى: ختمت فارة مسك ... فأبت إلّا التذكي «2» ليس يخفى فضل ذي الفض ... ل بزور أو بإفك والذي برّز في الفض ... ل غنيّ عن مزكي ربما غمّ هلال ال ... فطر في ليلة شكّ ثم جلّى وجهه النّو ... ر فجلّى كلّ حلك «3» إنّ ظهر اليمّ لا تر ... كبه من غير فلك ونظام الدرّ لا تع ... قده من غير سلك ليس يصفو الذهب الا ب ... ريز إلّا بعد سبك

معاوية وعسكر علي يوم صفين:

هذه جملة أمثا ... ل فمن شاء فيحكي أبطلت كلّ يم ... انيّ وشاميّ ومكّي ليس ذا من صوغ عي ... نيّ ولا من نسج عكي وقالوا لا ينبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدى منزلتين: إما في الغاية من طلب الدنيا، وإما في الغاية من تركها. ولا ينبغي له أن يرى إلا في مكانين: إما مع الملوك مكرما، وإما مع العبّاد متبتّلا «1» . ولا يعدّ الغرم غرما إذا ما ساق غنما، ولا الغنم غنما إذا ما ساق غرما. معاوية وعسكر علي يوم صفين: ونظر معاوية إلى عسكر عليّ رضي الله عنه يوم صفين، فقال: من طلب عظيما خاطر بعظيمته. وأشار إلى رأسه. وقال حبيب الطائي: أعاذلتي ما أخشن الليل مركبا ... وأخشن منه في الملمات راكبه ذريني وأهوال الزمان أقاسها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه وقال كعب بن زهير: وليس لمن لم يركب الهول بغية ... وليس لرحل حطّه الله حامل إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل وقال الشمّاخ: فتى ليس بالرّاضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحيّ بالمتولّج فتى يملأ الشّيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكميّ المدّحج «2»

لشاعر محدث:

وقال امرؤ القيس: فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي» وقال آخر: لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... أو أن أنال بنفعي من يرجّيني لما خطبت من الدنيا مطالبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني لكن منافسة الأعداء تحملني ... على أمور أراها سوف ترديني «2» وكيف لا كيف أن أرضى بمنزلة ... لا دين عندي ولا دنيا تواتيني وقال الحطيئة في هجائه الزّبرقان بن بدر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فاستعدى عليه عمر بن الخطاب وأسمعه الشعر، فقال: ما أرى بما قال بأسا. قال: والله يا أمير المؤمنين ما هجيت ببيت قطّ أشدّ منه. فأرسل إلى حسان فسأله: هل هجاه؟ فقال: ما هجاه، ولكنه سلح عليه. لشاعر محدث: وقد أخذ هذا المعنى من الحطيئة بعض المحدثين. فقال: إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثياب وتشبعوا فإذا تذوكرت المكارم مرّة ... في مجلس أنتم به فتقنّعوا وقالوا: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن طلب العظائم خاطر بعظيمته. وقال يزيد بن عبد الملك، لما أتي برأس يزيد بن المهلب، فنال منه بعض جلسائه، فقال: إن يزيد ركب عظيما، وطلب جسيما، ومات كريما.

لبعض الشعراء:

لبعض الشعراء: وقال بعض الشعراء: لا تقنعنّ ومطلب لك ممكن ... فإذا تضايقت المطالب فاقنع ومما جبل عليه الحرّ الكريم ألّا يقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيء مما انبسط له، أملا فيما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة؛ ولذلك قال عمر بن عبد العزيز لدكين الراجز: إنّ لي نفسا توّاقة؛ فإذا بلغك أني صرت إلى أشرف من منزلتي هذه؛ فبعين ما أرينّك. قال له ذلك وهو عامل المدينة لسليمان بن عبد الملك. فلما صارت إليه الخلافة قدم عليه دكين. فقال له: أنا كما أعلمتك أنّ لي نفسا توّاقة؛ وأنّ نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا فلما بلغتها وجدتها تتوق إلى أشرف منازل الآخرة. ومن الشاهد لهذا المعنى، أنّ موسى صلوات الله عليه لما كلمه الله تكليما، سأله النظر إليه. إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرف من المنزلة التي نالها، فانبسط أمله إلى ما لا سبيل إليه. ليستدل بذلك أنّ الحرّ الكريم لا يقنع بمنزلة إذا رأى ما هو أشرف منها. ومن قولنا في هذا المعنى: والحرّ لا يكتفي من نيل مكرمة ... حتى يروم التي من دونها العطب «1» يسعى به أمل من دونه أجل ... إن كفّه رهب يستدعه رغب لذاك ما سال موسى ربّه أرني ... أنظر إليك وفي تسآله عجب يبغي التزيّد فيما نال من كرم ... وهو النجيّ لديه الوحي والكتب وقال تأبّط شرّا في ابن عم له يصفه بركوب الأهوال وبذل الأموال: وإني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عمّ الصّدق شمس بن مالك أهزّ به في ندوة الحيّ عطفه ... كما هزّ عطفي بالهجان الأوارك «2»

باب الحركة والسكون

قليل التشكّي للمهمّ يصيبه ... كثير النّوى شتّى الهوى والمسالك يظل بموماة ويمسى بغيرها ... وحيدا ويعروري ظهور المهالك «1» ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدّه المتدارك «2» إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كاليء من قلب شيحان فاتك «3» ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلّة من جفن أخلق بانك «4» إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك وقال غيره من الشعراء [بل هي له أيضا] : إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الأمر إلا وهو للقصد مبصر فذاك قريع الدهر ما عاش حوّل ... إذا سدّ منه منخر جاش منخر «5» باب الحركة والسكون قال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة: ابن آدم؛ خلقت من الحركة للحركة، فتحرّك وأنا معك. وفي بعض الكتب: ابن آدم؛ امدد يدك إلى باب من العمل أفتح لك بابا من الرزق. وشاور عتبة بن ربيعة أخاه شيبة بن ربيعة في النّجعة «6» ؛ وقال: إني قد أجدبت، ومن أجدب انتجع. فذهبت مثلا. قال له شيبة: ليس من العز أن تتعرض للذل

فذهبت مثلا. فقال عتبة: لن يفرس الليث الطّلا «1» وهو رابض. فذهبت مثلا. أخذه حبيب فقال: أراد بأن يحوي الغنى وهو وادع ... ولن يفرس الليث الطّلا وهو رابض وقيل لأعشى بكر: إلى كم هذه النّجعة والاغتراب؟ أما ترضى بالخفض والدعة؟ فقال: لو دامت الشمس عليكم لمللتموها: أخذه حبيب فقال: وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد فإنّي رأيت الشّمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد «2» قال أبو سعيد أحمد بن عبد الله المكيّ: سمعت الشافعي يقول: قلت بيتين من الشعر. وأنشدنا: إني أرى نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها خوض المهامه والقفر فو الله ما أدري إلى الخفض والغنى ... أقاد إليها أم أقاد إلى قبري «3» فدخل مصر فمات. وقال موسى بن عمران عليه السلام: لا تذموا السفر، فإني أدركت فيه ما لم يدركه أحد. يريد أن الله عز وجل كلّمه فيه تكليما. وقال المأمون: لا شيء ألذّ من سفر في كفاية، لأنك في كل يوم تحلّ محلة لم تحلها، وتعاشر قوما لم تعاشرهم. وقال الشاعر: لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... من أن تبدّل أوطانا بأوطان تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وإخوانا بإخوان

مع أن المقام بالمقام الواحد يورث الملالة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم «زر غبّا» تزدد حبّا «1» . وقالت الحكماء: لا تنال الراحة إلا بالتّعب، ولا تدرك الدّعة إلا بالنّصب. وقال حبيب: بصرت بالرّاحة العظمى فلم ترها ... تنال إلّا على جسر من التّعب وقال أيضا: على أنّني لم أحو وفرا مجمّعا ... ففزت به إلا بشمل مبدّد ولم تعطني الأيام نوما مسكّنا ... ألذّ به إلا بنوم مشرّد وقال أيضا: وركب كأطراف الأسنّة عرّسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه «2» لأمر عليهم أن تتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبه وبعد فهل يجوز في وهم أو يتمثل في عقل أو يصحّ في قياس، أن يحصد زرع بغير بذر، أو تجنى ثمرة بغير غرس، أو يوري زند بغير قدح، أو يثمر مال بغير طلب؟. ولهذا قال الخليل بن أحمد: لا تصل إلى ما تحتاج إليه إلا بالوقوف على ما لا تحتاج إليه، فقال له أبو شمر المتكلّم: فقد احتجت إذا إلى ما لا تحتاج إليه، إذ كنت لا تصل إلى ما تحتاج إليه إلا به. قال الخليل: ويحك! وهل يقطع السيف الحسام إلا بالضرب، أو يجري الجواد إلا بالرّكض، أو هل تنال نهاية إلا بالسعي إليها والإيضاع نحوها. وقد يكون الإكداء «3» مع الكد، والخيبة مع الهيبة.

وقال الشاعر: وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين وأدّرع الخوف تحت الرّجاء ... وأستصحب الجدي والفرقدين «1» وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفيّ حنين «2» إلى أن أكون على حالة ... مقلا من المال صفر اليدين فقير الصّديق غنيّ العدو ... قليل الجداء عن الوالدين ومثل هذا قليل في كثير، وإنما يحكم بالأعم والأغلب، والنّجع مع الطلب والحرمان للعجز أصحب. لحبيب: وقد شرح حبيب هذا المعنى فقال: همّ الفتى في الأرض أغصان الغنى ... غرست وليست كلّ حين تورق للحمدوني: وقال إسماعيل بن إبراهيم الحمدوني في المطالب: لك ألحاظ مراض ودلّ ... غير أنّ الطّرف عنها أكلّ «3» وأرى خدّيك وردا نضيرا ... قد جاءه من دمع عينّي طلّ عذبة الألفاظ لو لم يشنها ... كرّ تفنيد بسمعي يضل «4» إنّ عزّى التي أنفت بي ... عن سواها كثرها لي قلّ ظلت في أفياء ظلك حتى ... ظلّ فوقي للمتالف ظلّ «5»

إن أولى منك بي لمرام ... لا يجلّ الهول حيث يحلّ ما مقامي وحسامي قاطع ... وسناني صارم ما يفلّ وسناني مثل روضة حزن ... أضحكتها ديمة تستهلّ ودليلي بين فكّيّ يعلو ... كلّ صعب ريّض فيذلّ «1» ثملا من خمرة العجز أسقى ... نهلا من بعده لي علّ «2» إن يكن قربك عندي جليلا ... فأقلّ الحزم منه أجلّ أقعيدا للقعيدة إلفا ... كلّ إلف بي لعدمي مخلّ ويك ليس اللّيث للّيث يضحي ... مخرجا من غيله وهو كلّ «3» فاتركي عتبا ولوما ودعي ... وعلى الإقتار عينك سجل هو سيف غمده بردتاه ... ينتضيه الحزم حين يسلّ لا يشكّ السّمع حين يراه ... أنّه بالبيد سمع أزلّ «4» بين ثوبيه أخو عزمات ... يتّقيها الحادث المصمئلّ «5» ليس تنبو بي رجال وبيد ... إنّ لبابي منزل ومحل فأقلي بعض عذل مقل ... لا يرى صرف الزمان يقلّ إنّ وخد العيش إثمار رزق ... يجتنيها المسهب المشمعلّ «6» لا تفليّ حدّ عزمي بلوم ... إنّني للعزم والدر خلّ فالفتى من ليس يرعى حماه ... طمعا يوما له مستزلّ من إذا خطب أظلّ عليه ... فله صبر عليه مظلّ

باب التماس الرزق وما يعود على الأهل والولد

يصحب الليل الوليد إلى أن ... يهرم الليل وما إن يملّ ويرى السير قد يلجلج منه ... مضغة لكنّها لا تصلّ «1» شمّرت أثوابه تحت ليل ... ثوبه ضاف عليه رفلّ «2» سأضيع النّوم كيما تريني ... ومضيعي معظم لي مجلّ فابتناء العزّ هدم المهاري ... وانحلال العدم سير وحلّ «3» باب التماس الرزق وما يعود على الأهل والولد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «العائد على أهله وولده كالمجاهد المرابط في سبيل الله» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» . وقال عمر بن الخطاب: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإن الله تعالى إنما يرزق الناس بعضهم من بعض. وتلا قول الله جل وعلا فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «4» . وقال محمد بن إدريس الشافعي: احرص على ما ينفعك، ودع كلام الناس، فإنه لا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة. ومثله قول مالك بن دينار: من عرف نفسه لم يضره ما قال الناس فيه. طاهر بن عبد العزيز: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أنشدنا أبو عبيد القاسم بن سلام:

للنبي صلى الله عليه وسلم في متعبد:

لا ينقص الكامل من كماله ... ما ساق من خير إلى عياله وقال عمر بن الخطاب: يا معشر القرّاء، التمسوا الرزق ولا تكونوا عالة على الناس. وقال أكثم بن صيفي: من ضيّع زاده اتكل على زاد غيره. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خيركم من لم يدع آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته» . وقال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا. للنبي صلّى الله عليه وسلم في متعبد: وذكر رجل عند النبي صلّى الله عليه وسلم بالاجتهاد في العبادة والقوّة على العمل، وقالوا: صحبناه في سفر، فما رأينا بعدك يا رسول الله أعبد منه، كان لا ينفتل من صلاة، ولا يفطر من صيام. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: فمن كان يمونه ويقوم به؟ قالوا: كلنا. قال كلّكم أعبد منه. ومر المسيح برجل من بني إسرائيل يتعبّد، فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبّد. قال: ومن يقوم بك؟ قال: أخي. قال: أخوك أعبد منك. وقد جعل الله طلب الرزق مفروضا على الخلق كله: من الإنس، والجنّ، والطير، والهوام، منهم بتعليم، ومنهم بإلهام؛ وأهل التحصيل والنظر من الناس يطلبونه بأحسن وجوهه من التصرف والتحرّز، وأهل العجز والكسل يطلبونه بأقبح وجوهه، من السؤال والاتكال والخلابة «1» والاحتيال.

باب فضل المال

باب فضل المال قال الله تعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا » . وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم للمجاشعي: «إن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإن كان لك دين فلك كرم» . وقال عمر بن الخطاب: حسب الرجل ماله، وكرمه دينه، ومروءته خلقه. وفي كتاب الأدب للجاحظ: اعلم أن تثمير المال آلة للمكارم، وعون على الدّين، وتأليف للإخوان؛ وأن من فقد المال قلّت الرغبة إليه والرهبة منه، ومن لم يكن بموضع رغبة ولا رهبة استهان الناس به؛ فاجهد جهدك كله في أن تكون القلوب معلّقة منك برغبة أو رهبة في دين أو دنيا. وقال حكيم لابنه: يا بنيّ، عليك بطلب المال؛ فلو لم يكن فيه إلا أنه عزّ في قلبك وذل في قلب عدوّك لكفى. وقال عبد الله بن عبّاس: الدنيا العافية. والشباب الصحة، والمروءة الصبر، والكرم التقوى، والحسب المال. وكان سعد بن عبادة يقول: اللهم ارزقني جدا ومجدا، فإنه لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال. وقالت الحكماء: لا خير فيمن لا يجمع المال يصون به عرضه، ويحمي به مروءته، ويصل به رحمه. وقال عبد الرحمن بن عوف: يا حبذا المال أصون به عرضي وأتقرّب به إلى ربي. وقال سفيان الثوري: المال سلاح المؤمن في هذا الزمان.

وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «نعم العون على طاعة الله الغنى. ونعم السّلّم إلى طاعة الله الغنى» . وتلا وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «1» وقوله اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «2» . وقال خالد بن صفوان لابنه: يا بني، أوصيك باثنين لن تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. وقال عروة بن الورد: ذريني للغنى أسعى فإنّي ... رأيت الناس شرّهم الفقير وأحقرهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له كرم وخير «3» يباعده القريب وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جمّ ... ولكن للغني ربّ غفور لبعض الشعراء: وقال آخر: سأكسب مالا أو أموت ببلدة ... يقلّ بها قطر الدّموع على قبري وقال آخر: سأعمل نصّ العيس حتى يكفّني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان «4» فللموت خير من حياة يرى لها ... على المرء بالإقلال وسم هوان «5»

إذا قال لم يسمع لحسن مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان كأنّ الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطق بلسان الرياشي قال: أنشدنا أبو بكر بن عيّاش: حيران يعلم أن المال ساق له ... ما لم يسقه له دين ولا خلق لولا ثلاثون ألفا سقتها بدرا ... إلى ثلاثين ألفا ضاقت الطّرق «1» فمن يكن عن كرام الناس يسألني ... فأكرم الناس من كانت له ورق وقال آخر: أجلّك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكلّ غنى في العيون جليل ولو كنت ذا فقر ولم تؤت ثروة ... ذللت لديهم والفقير ذليل وقال محمود الورّاق: أرى كلّ ذي مال يبرّ لماله ... وإن كان لا أصل هناك ولا فضل فشرّف ذوي الأموال حيث لقيتهم ... فقولهم قول وفعلهم فعل وأنشد أبو محلّم لرجل من ولد طلبة بن قيس بن عاصم: وكنت إذا خاصمت خصما كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم فلما تنازعنا الخصومة غلّبت ... عليّ وقالوا قم فإنّك ظالم وأنشدني الرياشي: لم يبق من طلب الغنى ... إلّا التعرّض للحتوف «2» فلأقذفنّ بمهجتي ... بين الأسنّة والسّيوف ولأطلبنّ ولو رأيت الموت يلمع في الصّفوف وكان لأحيحة بن الجلاح بالزّوراء ثلاثمائة ناضح «3» .. فدخل بستانا له، فمرّ

بتمرة فلقطها فعوتب في ذلك، فقال: تمرة إلى تمرة تمرات، وجمل إلى جمل ذود «1» . ثم أنشأ يقول: إنّي مقيم على الزّوراء أعمرها ... إنّ الكريم على الإخوان ذو المال فلا يغرّنك ذو قربى وذو نسب ... من ابن عم ومن عم ومن خال كلّ النداء إذا ناديت يخذلني ... إلّا ندائي إذا ناديت يا مالي لابن عبد ربه: ومن قولنا في هذا المعنى: دعني أصن حرّ وجهي عن إذالته ... وإن تغرّبت عن أهلي وعن ولدي «2» قالوا نأيت عن الإخوان قلت لهم ... ما لي أخ غير ما تطوى عليه يدي كان الرماحس بن حفصة بن قيس وابن عم له يدعى ربيعة بن الورد يسكنان الأردن. وكان ربيعة بن الورد موسرا، والرّماحس معسرا كثيرا ما يشكو إليه الحاجة، ويعطف عليه ربيعة بعض العطف، فلما أكثر عليه كتب إليه: إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا وصار على الأدنين كلّا وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا «3» فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا فما طالب الحاجات من حيث تبتغى ... من المال إلّا من أجدّ وشمّرا «4» ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا وقال بعض الحكماء: المال يوقّر الدّنيّ، والفقر يذل السّني. وأنشد: أرى ذا الغنى في الناس يسعون حوله ... فإن قال قولا تابعوه وصدّقوا

صنوف المال

فذلك دأب الناس ما كان ذا غنى ... فإن زال عنه المال يوما تفرّقوا وأنشد: ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوما به انقلبوا يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا صنوف المال قال معاوية لصعصعة بن صوحان: إنما أنت هاتف بلسانك، لا تنظر في أود «1» الكلام ولا في استقامته: فإن كنت تنظر في ذلك فأخبرني عن أفضل المال. فقال: والله يا أمير المؤمنين، إني لأدع الكلام حتى يختمر في صدري، فما أرهف «2» به ولا أتلهّق «3» فيه حتى أقيم أوده، وأحرّر متنه، وإن أفضل المال لبرّة سمراء في تربة غبراء؛ أو نعجة صفراء في روضة خضراء؛ أو عين خرّارة في أرض خوّارة. قال معاوية: لله أنت، فأين الذهب والفضة. قال: حجران يصطكّان، إن أقبلت عليهما نفدا، وإن تركتهما لم يزيدا. وقيل لأعرابية: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل لها: فمائة من الضأن؟ قالت غنى. قيل لها: فمائة من الإبل؟ قالت: منى. وقال عبد الله بن الحسن: غلّة الدور مسألة، وغلة النّخل كفاف، وغلة الحبّ ملك. للنبي صلّى الله عليه وسلم: وفي الحديث: «أفضل أموالكم: فرس في بطنها فرس يتبعها فرس، وعين ساهرة لعين نائمة» .

تدبير المال

وأنشد فرج بن سلام لبعض العراقيين: ولقد أقول لحاجب نصحا له ... خلّ العروض وبع أرضا «1» إني رأيت الأرض يبقى نفعها ... والمال يأكل بعضه بعضا واحذر أناسا يظهرون محبّة ... وعيونهم وقلوبهم مرضى حتى إذا أمكنتهم من فرصة ... تركوا الخداع وأظهروا البغضا تدبير المال قالوا: لا مال لأخرق «2» ، ولا عيلة على مصلح، وخير المال ما أطعمك لا ما أطعمته. وقال صاحب كليلة ودمنة: لينفق ذو المال ماله في ثلاثة مواضع: في الصدقة إن أراد الآخرة: وفي مصانعة السلطان إن أراد الذكر؛ وفي النساء إن أراد نعيم العيش. وقال: إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة ولا يدركها إلا بأربعة؛ فأما الثلاثة التي يطلب: فالسّعة في المعيشة، والمنزلة في الناس، والزاد إلى الآخرة، وأما الرابعة التي تدرك بها هذه الثلاثة: فاكتساب المال من أحسن وجوهه، وحسن القيام عليه، ثم التّثمير له، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان ويعود في الآخرة نفعه. فإن أضاع شيئا من هذه الأربعة لم يدرك شيئا من هذه الثلاثة. إن لم يكتسب لم يكن له مال يعيش به؛ وإن كان ذا مال واكتساب ولم يحسن القيام عليه يوشك أن يفنى ويبقى بلا مال، وإن هو أنفقه ولم يثمّره لم تمنعه قلة الإنفاق من سرعة النفاد. كالكحل الذي إنما يؤخذ منه على الميل مثل الغبار، ثم هو مع ذلك سريع نفاده. وإن هو اكتسب وأصلح وثمّر ولم ينفق الأموال في أبوابها؛ كان بمنزلة الفقير الذي لا مال له، ثم لا يمنع ذلك ماله من أن يفارقه ويذهب حيث لا منفعة فيه؛ كحابس الماء

في الموضع الذي تنصبّ فيه المياه، إن لم يخرج منه بقدر ما يدخل فيه؛ مصل «1» وسال من نواحيه، فيذهب الماء ضياعا. وهذا نظير قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «2» . وقوله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «3» . ونظر عبد الله بن عباس إلى درهم بيد رجل، فقال له: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. يريد أنه لا ينتفع به حتى ينفقه ويستفيد غيره مكانه. قال الحطيئة: مفيد ومتلاف إذا ما سألته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد وقال مسلم بن الوليد: لا يعرف المال إلّا ريث ينفقه ... أو يوم يجمعه للنّهب والبدد وقال آخر: مهلك مال ومفيد مال وقال سفيان الثوري: من كان في يده شيء فليصلحه؛ فإنه في زمان إن احتاج فيه، فأول ما يبذله دينه. وقال المتلمّس: وحبس المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد

الإقلال

سعد القصير قال: ولأني عتبة أمواله بالحجاز، فلما ودّعته قال لي: يا سعد، تعاهد صغير مالي فيكثر، ولا تضيّع كثيره فيصغر، فإنه ليس يشغلني كثير مالي عن إصلاح قليله، ولا يمنعني قليل ما في يدي عن الصبر على كثير ما ينوبني. قال: فقدمت المدينة، فحدّثت بها رجالات قريش ففرّقوا بها الكتب على الوكلاء. الإقلال قال أرسطاطاليس: الغنى في الغربة وطن والمقل في أهله غريب. أخذه الشاعر فقال: لعمرك ما الغريب بذي التّنائي ... ولكنّ المقلّ هو الغريب إذا ما المرء أعوز ضاق ذرعا ... بحاجته وأبعده القريب وقال إبراهيم الشيباني: رأيت في جدار من جدر بيت المقدس بيتين مكتوبين بالذهب: فكلّ مقلّ حين يغدو لحاجة ... إلى كلّ من يلقى من الناس مذنب وكان بنو عمي يقولون مرحبا ... فلما رأوني مقترا مات مرحب ومن قولنا في هذا المعنى: أعاذل قد المت ويك فلومي ... وما بلغ الإشراك ذنب عديم لقد أسقطت حقّي عليك صبابتي ... كما أسقط الإفلاس حقّ غريم «1» وأعذر ما أدمى الجفون من البكا ... كريم رأى الدّنيا بكفّ لئيم أرى كلّ فدم قد تبجّح في الغنى ... وذو الطرف لا تلقاه غير عديم «2» وقال الحسن بن هانيء: الحمد لله ليس لي نشب ... فخفّ ظهري وملّني ولدي «3»

من نظرت عينه إليّ فقد ... أحاط علما بما حوته يدي وكان أبو الشّمقمق الشاعر أديبا طريفا محارفا «1» صعلوكا متبرّما، قد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج، فنظر من فرج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له، وإلّا سكت عنه، فأقبل إليه بعض إخوانه فدخل عليه، فلما رأى سوء حاله، قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث أن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. قال: إن كان والله ما تقول حقا لأكوننن بزّازا يوم القيامة، ثم أنشأ يقول. أنا في حال تعالى لله ... ربي أيّ حال ولقد أهزلت حتى ... محت الشمس خيالي من رأى شيئا محالا ... فأنا عين المحال ليس لي شيء إذ قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي ولقد أفلست حتى ... حلّ أكلي لعيالي في حر امّ الناس طرّا ... من نساء ورجال لو أرى في الناس حرّا ... لم أكن في ذا المثال وقال أيضا: أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطيّة غير رجلي كلما كنت في جميع فقالوا ... قرّبوا للرّحيل قرّبت نعلي حيثما لا أخلّف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي وقال أيضا: لو قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم مالي فيه تلبيس «2» والله يعلم مالي فيه شابكة ... إلّا الحصيرة والأطمار والدّيس «3»

وقال أيضا: برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد حجابي فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السّحاب فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... عليّ مسلّما من غير باب لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السّحاب إلى التّراب ولا انشقّ الثرى عن عود تخت ... أؤمّل أن أشدّ به ثيابي ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي «1» ولا حاسبت يوما قهرمانا ... محاسبة فأغلط في حسابي «2» وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبدا ودابي وفي كتاب للهند: ما التّبع والإخوان والأهل والأصدقاء والأعوان والحشم إلا مع المال، وما أرى المروءة يظهرها إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا المال، ووجدت من لا مال له إذا أراد أن يتناول أمرا قعد به العدم، فيبقى مقصّرا عما أراد، كالماء الذي يبقى في الأودية من مطر الصيف، فلا يجري إلى بحر ولا نهر، بل يبقى مكانه حتى تنشفه الأرض؛ ووجدت من لا إخوان له لا أهل له. ومن لا ولد له لا ذكر له، ومن لا عقل له لا دنيا له ولا آخرة له، ومن لا مال له لا شيء له؛ لأن الرجل إذا افتقر رفضه إخوانه وقطعه ذو رحمه، وربما اضطرته الحاجة لنفسه وعياله إلى التماس الرزق بما يغرّر فيه بدينه ودنياه، فإذا هو قد خسر الدنيا والآخرة، فلا شيء أشدّ من الفقر، والشجرة النابتة على الطريق المأكولة من كل جانب أمثل حالا من الفقير المحتاج إلى ما في أيدي الناس. والفقر داع صاحبه إلى مقت الناس، ومتلف للعقل والمروءة، ومذهب للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمع للبلايا؛ ووجدت الرجل إذا افتقر أساء به الظنّ من كان له مؤتمنا، وليس من خصلة هي للغنىّ مدح وزين إلا وهي للفقير ذمّ وشين؛ فإن كان شجاعا قيل أهوج، وإن كان جوادا قيل

السؤال

مفسد، وإن كان حليما قيل ضعيف، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان صموتا قيل عييّ، وإن كان بليغا قيل مهذار «1» ؛ فالموت أهون من الفقر الذي يضطرّ صاحبه إلى المسألة، ولا سيما مسألة اللئام؛ فإنّ الكريم لو كلّف أن يدخل يده في فم تنّين ويخرج منه سمّا فيبتلعه، كان أخفّ عليه من مسألة البخيل اللئيم. السؤال قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب بها على ظهره أهون عليه من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله. أعطاه أو منعه» . وقالوا: من فتح على نفسه بابا من السؤال، فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر. وقال أكثم بن صيفي: كل سؤال وإن قل أكثر من كل نوال وإن جلّ. ورأى علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه رجلا يسأل بعرفات فقنّعه بالسوط، وقال: ويلك! في مثل هذا اليوم تسأل أحدا غير الله. وقال عبد الله بن عباس: المساكين لا يعودون مريضا، ولا يشهدون جنازة، ولا يحضرون جمعة، وإذا اجتمع الناس في أعيادهم ومساجدهم يسألون الله من فضله، اجتمعوا يسألون الناس ما في أيديهم. وقال النعمان بن المنذر: من سأل فوق حقه استحق الحرمان، ومن ألحف في مسألته استحق المطل. والرفق يمن، والخرق شؤم، وخير السخاء ما وافق الحاجة، وخير العفو مع القدرة. وقال شريح: من سأل حاجة فقد عرّض نفسه على الرق، فإن قضاها المسئول منه استعبده بها، وإن ردّه عنها رجع كلاهما ذليلا، هذا بذلّ البخل، وذاك بذلّ الردّ.

وقال حبيب: ذل السؤال شجى في الحلق معترض ... من دونه شرق من خلفه جرض «1» ما ماء كفّك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إن أفتيته عوض الخشني قال: قال أبو غسّان: أخبرني أبو زيد قال: سأل سائل بمسجد الكوفة وقت الظهر فلم يعط شيئا، فقال: اللهم إنك بحاجتي عالم لا تعلّم، أنت الذي لا يعوزك نائل، ولا يحفيك سائل «2» ، ولا يبلغ مدحك قائل؛ أسألك صبرا جميلا، وفرجا قريبا، وبصرا بالهدى، وقوة فيما تحب وترضى. فتبادروا إليه يعطونه. فقال: والله لا رزأتكم» الليلة شيئا وقد رفعت حاجتي إلى الله. ثم خرج وهو يقول: ما نال باذل وجهه بسؤاله ... عوضا ولو نال الغنى بسؤال وإذا النّوال مع السؤال وزنته ... رجح السؤال وشال كلّ نوال «4» وقال مسلم بن الوليد: سل الناس إني سائل الله وحده ... وصائن عرضي عن فلان وعن فلا وقال عبيد بن الأبرص: من سأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب وقال ابن أبي حازم: لطيّ يوم وليلتين ... ولبس ثوبين باليين «5» أهون من منّة لقوم ... أغضّ منها جفون عيني إني وإن كنت ذا عيال ... قليل مال كثير دين لأحمد الله حين صارت ... حوائجي بينه وبيني ومن قولنا في هذا المعنى:

سؤال السائل من السائل

سؤال الناس مفتاح عتيد ... لباب الفقر فاتلف بالسؤال وروي أشعب الطماع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: يحشر الله عز وجل يوم القيامة قوما عارية وجوههم قد أذهب حياءها كثرة السؤال. سؤال السائل من السائل مدح أبو الشمقمق مروان بن أبي حفصة. فقال له أبو الشمقمق: أنت شاعر وأنا شاعر، وغايتنا كلنا السؤال. وذكر أعرابي رجلا بالسؤال، فقال: إنه أسأل من ذي عصوين. وقال حبيب: لم يخلق الرحمن أحمق لحية ... من سائل يرجو الغنى من سائل الأصمعي عن عيسى بن عمر النحوي قال: قدمت من سفر فدخل عليّ ذو الرّمة الشاعر، فعرضت لأن أعطيه شيئا، فقال: كلا، أنا وأنت نأخذ ولا نعطي. الشيب قال قيس بن عاصم: الشيب خطام المنية «1» . وقال غيره: الشيب نذير الموت. وقال النميري: الشيب عنوان الكبر. وقال المعتمر بن سليمان: الشيب موت الشّعر، وموت الشّعر علّة لموت البشر. وقال أعرابي: كنت أنكر البيضاء فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل. وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: عجل عليك الشيب يا رسول الله! قال: شيّبتني هود وأخواتها.

وقيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك الشيب يا أمير المؤمنين! قال: شيّبتني ارتقاء المنابر وتوقّع الّلحن. وقيل لرجل من الشعراء: عجل عليك الشيب. فقال: وكيف لا يعجل وأنا أعصر قلبي في عمل لا يرجى ثوابه، ولا يؤمن عقابه. وقال حبيب الطائي: غدا الشيب مختطا بفوديّ خطّة ... طريق الرّدى منها إلى النفس مهيع «1» هو الزّور يجفى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقّع «2» له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنّه في القلب أسود أسفع «3» وقال محمود الوراق: بكيت لقرب الأجل ... وبعد فوات الأمل ووافد شيب طرا ... بعقب شباب رحل شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل طواك بشير البقا ... وجاء بشير الأجل وقال أيضا: لا تطلبنّ أثرا بعين ... فالشّيب إحدى الميتتين أبدى مقابح كلّ شين ... ومحا محاسن كلّ زين فإذا رأيت الغانيا ... ت رأين منك غراب بين ولربما نافسن في ... ك وكنّ طوعا لليدين أيام عمّمك الشّبا ... ب وأنت سهل العارضين «4»

حتى إذا نزل المشي ... ب وصرت بين عمامتين سوداء حالكة وبي ... ضاء المناشر كالّلجين مزج الصّدود وصا ... لهنّ فكنّ أمرا بين بين وصبرن ما صبر السّوا ... د على مصانعة ودين حتى إذا شمل المشي ... ب فحاز قطر الحاجبين قفّين شرّ قفيّة ... وأخذن منك الأطيبين فاقن الحياء وسلّ نف ... سك أو فناد الفرقدين «1» ولئن أصابتك الخطو ... ب بكلّ مكروه وشين فلقد أمنت بأن يصي ... بك ناظر أبدا بعين وقال حبيب الطائي: نظرت إليّ بعين من لم يعدل ... لمّا تمكّن حبّها من مقتلي لمّا رأت وضح المشيب بلمّتي ... صدّت صدود مجانب متحمّل فجعلت أطلب وصلها بتلطف ... والشيب يغمزها بألّا تفعلي وقال آخر: صدّت أمامة لمّا جئت زائرها ... عنّي بمطروفة إنسانها غرق «2» وراعها الشيب في رأسي فقلت لها ... كذاك يصفرّ بعد الخضرة الورق وقال محمد بن أمية: رأين الغواني الشّيب لاح بعارضي ... فأعرضن عنّي بالخدود النّواضر وكنّ إذا أبصرنني أو سمعن بي ... دنون فرقّعن الكوي بالمحاجر «3» وقال العلوي:

عيّرتني بشيب رأسي نوار ... يا بنة العمّ ليس في الشيب عار إنما العار في الفرار من الزّح ... ف إذا قيل أين أين الفرار ومن قولنا في الشيب: بدا وضح الشيب على عذاري ... وهل ليل يكون بلا نهار شريت سواد ذا ببياض هذا ... فبدّلت العمامة بالخمار وألبسني النّهى ثوبا جديدا ... وجرّدني من الثّوب المعار وما بعت الهوى بيعا بشرط ... ولا استثنيت فيه بالخيار ومن قولنا فيه: قالوا شبابك قد ولّى فقلت لهم ... هل من جديد على كرّ الجديدين صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فربما ضاقت الدّنيا على اثنين ومن قولنا فيه: جار المشيب على رأسي فغيرّه ... لما رأى عندنا الحكام قد جاروا كأنّما جنّ ليل في مفارقه ... فاعتاقه من بياض الصّبح إسفار «1» ومن قولنا فيه: سواد المرء تنفده الليالي ... وإن كانت تصير إلى نفاد فأسوده يعود إلى بياض ... وأبيضه يعود إلى سواد ومن قولنا أيضا: أطلال لهوك قد أقوت مغانيها ... لم يبق من عهدها إلا أثافيها «2» هذي المفارق قد قامت شواهدها ... على فنائك والدّنيا تزكّيها الشّيب سفتجة فيها معنونة ... لم يبق للموت إلّا أن يسجّيها «3»

ومن قولنا أيضا: نجوم في المفارق ما تغور ... ولا يجري بها فلك يدور كأنّ سواد لمّته ظلام ... أغار من المشيب عليه نور ألا إنّ القتير وعيد صدق ... لنا لو كان يزجرنا القتير «1» نذير الموت أرسله إلينا ... فكذّبنا بما جاء النّذير وقلنا للنّفوس لعلّ عمرا ... يطول بنا وأطوله قصير متى كذبت مواعدها وخانت ... فأوّلها وآخرها غرور لقد كاد السّلو يميت شوقي ... ولكن قلّما فطم الكبير كأني لم أرق بل لم يرقني ... شموس في الأكلّة أو بدور ولم ألق المنى في ظلّ لهو ... بأقمار سحائبها السّتور ولآخر: والشيب تنغيص الصّبا ... فاقض اللبانة في الشباب «2» وقال ابن عباس: الدنيا الصحة والشباب. ولبعضهم: في كلّ يوم أرى بيضاء قد طلعت ... كأنّما طلعت في ناظر البصر لئن قصصتك بالمقراض عن نظري ... لما قصصتك عن همّي ولا فكري ولابن المعتز: جاء المشيب فما تعست به ... ومضى الشباب فما بكاي عليه وقال أيضا: ماذا تريدين من جهلي وقد غبرت ... سنوّ شبابي وهذا الشيب قد وخطا «3»

الشباب والصحة

أرقع الشعرة البيضاء ملتقطا ... فيصبح الشيب للسوداء ملتقطا وسوف لا شك يعييني فأتركه ... فطالما أعمل المقراض والمشطا الشباب والصحة قال أبو عمرو بن العلاء: ما بكت العرب شيئا ما بكت على الشباب وما بلغت به ما يستحقّه. وقل الأصمعي: أحسن أنماط الشعر المراثي والبكاء على الشباب: وقيل لكثيّر عزة: مالك لا تقول الشعر؟ قال: ذهب الشباب فما أطرب، ومات عبد العزيز فما أرغب. وقال عبد الله بن عباس: الدنيا العافية، والشباب الصحة. وقال محمود الوراق: أليس عجيبا بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه فمن بين باك له موجع ... وبين مغرّ مغذّ إليه «1» ويسلبه الشيب شرخ الشباب ... فليس يعزّيه خلق عليه وقال ابن أبي حازم: ولّى الشّباب فخلّ الدمع ينهمل ... فقد الشباب بفقد الروح متصل لا تكذبنّ فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل وقال جرير: ولّى الشباب حميدة أيامه ... لو كان ذلك يشترى أو يرجع وقال صريع الغواني: واها لأيّام الصّبا وزمانه ... لو كان أسعف بالمقام قليلا سل عيش دهر قد مضت أيامه ... هل يستطيع إلى الرجوع سبيلا

وقال الحسن بن هانيء: وأراني إذ ذاك في طاعة الجه ... ل وفوقي من الصّبا إمراء «1» ترب عيش لريطي فضل ذيل ... ولرأسي ذؤابة فرعاء «2» بقناع من الشباب جديد ... لم ترقّعه بالخضاب النساء قبل أن يلبس المشيب عذاريّ ... وتبلى عمامتي السوداء وقال أعرابي: لله أيام الشباب وعصره ... لا يستعار جديده فيعار ما كان أقصر ليله ونهاره ... وكذلك أيام السرور قصار ومن قولنا في الشباب: ولّى الشباب وكنت تسكن ظلّه ... فانظر لنفسك أيّ ظل تسكن ونهى المشيب عن الصّبا لو أنه ... يدلي بحجته إلى من يلقن ومن قولنا فيه: قالوا شبابك قد مضت أيامه ... بالعيش قلت وقد مضت أيامي لله أيّة نعمة كان الصبا ... لو أنها وصلت بطول دوام حسر المشيب قناعه عن وجهه ... وصحا العواذل بعد طول ملام «3» فكأنّ ذاك العيش ظلّ غمامة ... وكأنّ ذاك اللهو طيف منام ومن قولنا فيه: ولو شئت راهنت الصبابة والهوى ... وأجريت في اللذات من مئتين وأسلبت من ثوب الشباب، وللصبا ... عليّ رداء معلّم الطرفين «4» وقال آخر:

الخضاب

إنّ شرخ الشباب والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا «1» وقال آخر: قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر ومن قولنا في الشباب: كنت إلف الصبا فودّعني ... وداع من بان غير منصرف أيام لهوي كظلّ إسحلة ... وإذ شبابي كروضة أنف «2» ومن قولنا في الشباب: شبابي كيف صرت إلى نفاد ... وبدّلت البياض من السواد وما أبقى الحوادث منك إلّا ... كما أبقت من القمر الدّادي «3» فراقك عرّف الأحزان قلبي ... وفرّق بين جفني والرّقاد فيا لنعيم عيش قد تولّى ... ويا لغليل حزن مستفاد كأنّي منك لم أربع بربع ... ولم أرتد به أحلى مراد سقى ذاك الثّرى وبل الثّريّا ... وغادى نبته صوب الغوادي «4» فكم لي من غليل فيه خاف ... وكم لي من عويل فيه بادي زمان كان فيه الرّشد غيّا ... وكان الغيّ فيه من الرّشاد يقبّلني بدلّ من قبول ... ويسعدني بوصل من سعاد وأجنبه فيعطيني قيادا ... ويجنبني فأعطيه قيادي الخضاب قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «غيّروا هذا الشّيب. وجنبو السواد» . وكان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم «5» .

وقال مالك بن أسماء بن خارجة لجاريته: قومي اخضبي رأسي ولحيتي. فقالت: دعني، قد عييت مما أرقّعك. فقال مالك بن أسماء. عيّرتني خلقا أبليت جدته ... وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا ودخل أبو الأسود الدؤلي على معاوية وقد خضب؛ فقال: لقد أصبحت يا أبا الأسود جميلا؛ فلو علّقت تميمة «1» . فأنشأ أبو الأسود يقول: أفنى الشباب الذي فارقت بهجته ... مرّ الجديدين من آت ومنطلق لم يبقيا لي من طول اختلافهما ... شيئا يخاف عليه لذعة الحدق وذكر عن الأصمعي قال: بلغني عن بعض العرب فصاحة، فأتيته فوجدته يخضب، فقال: يا بن أخي، ما الذي أقصدك إليّ؟ قلت: الاستئناس بك والاستماع من حديثك. قال: يا بن أخي، قصدتني وأنا أخضب، والخضاب من مقدّمات الضعف، ولطالما فزّعت الوحوش، وقدت الجيوش، ورويت السيف، وقريت الضيف، وحميت الجار، وأبيت العار، وشربت الراح، وجالست الملاح، وعاديت القروم، وعلوت الخصوم؛ واليوم يا بن أخي الكبر وضعف البصر تركا من بعد الصّفو الكدر. وأنشأ يقول: شيب نعلّله كيما نسرّ به ... كهيئة الثوب مطويّا على خرق فكنت كالغصن يرتاح الفؤاد به ... فصرت عودا بلا ماء ولا ورق صبرا على الدهر إن الدهر ذو غير ... وأهله منه بين الصفو والرّنق «2» ودخل معاوية على ابن جعفر يعوده؛ فوجده مفيقا وعنده جارية في حجرها عود؛ فقال: ما هذا يا بن جعفر؟ فقال: هذه جارية أروّيها رقيق الشّعر فتزيده حسنا بحسن نغمتها. قال: فلتقل. فحركت عودها وغنت! وكان معاوية قد خضب.

أليس عندك شرّ للتي جعلت ... ما ابيضّ من قادمات الرّيش كالحمم «1» وجدّدت منك ما قد كان أخلقه ... ريب الزمان وصرف الدهر والقدم فحرّك معاوية رجله؛ فقال له ابن جعفر: لم حرّكت رجلك يا أمير المؤمنين؟ قال: كل كريم طروب. وقال محمود الوراق في الخضاب: للضيف أن يقرى ويعرف حقّه ... والشيب ضيفك فاقره بخضاب وافى بأكذب شاهد ولربّما ... وافى المشيب بشاهد كذّاب فافسخ شهادته عليك بخضبه ... تنفي الظنون به عن المرتاب فإذا دنا وقت المشيب فخلّه ... والشيب يذهب فيه كلّ ذهاب وقال آخر: وقائلة تقول: وقد رأتي ... أرفّع عارضيّ من القتير عليك الخطر علّك أن تدنّى ... إلى بيض ترائبهن حور «2» فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوّدا وجه النذير وقال غيره: إنّ شيئا صلاحه بخضاب ... لعذاب موكّل بعذاب فو حقّ الشباب لولا هوى البي ... ض وأن تشمئزّ نفس الكعاب «3» لأرحت الخدين من وضر الخط ... ر واذنت بانقضاء الشباب» وقال غيره: بكرت تحسّن لي سواد خضابي ... لكأنّ يعيدني لشبابي «5»

فضيلة الشيب

وإذا أديم الوجه أخلقه البلى ... لم ينتفع فيه بحسن خضاب ماذا ترى يجدي عليك سواده ... وخلاف ما يرضيك تحت ثيابي ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلّا كشمس جلّلت بسحاب تخفي قليلا ثم يقشعها الصّبا ... فيصير ما سترت به لذهاب ومن قولنا في هذا المعنى: أصمّم في الغواية أم أنابا ... وشيب الرأس قد أنضى الشّبابا «1» إذا نصل الخضاب بكى عليه ... ويضحك كلما وصل الخضابا «2» كأنّ حمامة بيضاء ظلّت ... تقاتل في مفارقه غرابا فضيلة الشيب قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كان له نورا يوم القيامة» . وقال ابن أبي شيبة: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نتف الشيب وقال: «هو نور المؤمن» . وقالوا: أول من رأى الشيب إبراهيم خليل الرحمن، فقال: يا ربّ، ما هذا؟ قال له: هذا الوقار. قال: ربّ زدني وقارا. وقال أبو نواس: يقولون في الشّيب الوقار لأهله ... وشيبي بحمد الله غير وقار وقال غيره: يقولون هل بعد الثّلاثين ملعب ... فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب لقد جلّ قدر الشّيب إن كان كلّما ... بدت شيبة يعرى من الّلهو مركب أبو دلف والمأمون: دخل أبو دلف على المأمون، وعنده جارية [له] ، وقد ترك الخضاب أبو دلف،

كبرة السن

فغمز المأمون الجارية، فقالت له: شبت أبا دلف، إنا لله وإنا إليه راجعون لا عليك! فسكت أبو دلف، فقال له المأمون: أجبها أبا دلف. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه. فقال: تهزّأت أن رأت شيبي فقلت لها ... لا تهزئي من يطل عمر به يشب شيب الرّجال لهم زين ومكرمة ... وشيبكنّ لكنّ الويل فاكتئبي فينا لكنّ وإن شيب بدا أرب ... وليس فيكنّ بعد الشّيب من أرب وقال محمود الوراق: وعائب عابني بشيب ... لم يعد لمّا ألمّ وقته «1» فقلت للعائبي بشيبي ... يا عائب الشّيب لا بلغته أنشدني أبو عبد الله الإسكندارني، معلم الإخوة: ومما زاد في طول اكتئابي ... طلائع شيبتين ألمتا بي فأمّا شيبة ففزعت منها ... إلى المقراض من حبّ التصابي وأما شيبة فعفوت عنها ... لتشهد بالبراء من الخضاب! وقال محمود بن مناذر: لا سلام على الشّباب ولا حيّ ... االإله الشّباب من معهود قد لبست الجديد من كلّ شيء ... فوجدت الشّباب شرّ جديد صاحب ما يزال يدعو إلى العي ... ب وما من دعا له برشيد ولنعم المنيب والوازع الشّي ... ب ونعم المفاد للمستفيد «2» كبرة السنّ قيل لأعرابي قد أخذته كبرة السن: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت تقيّدني

معاوية والمستوغر:

الشعرة وأعثر بالبعرة؛ قد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره «1» . وقال آخر: لقد كنت أنكر البيضاء، فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل. معاوية والمستوغر: ودخل المستوغر بن ربيعة على معاوية بن أبي سفيان وهو ابن ثلاثمائة سنة؛ فقال: كيف تجدك يا مستوغر؟ فقال: أجدني يا أمير المؤمنين قد لان مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، وابيض مني ما كنت أحب أن يسودّ، واسودّ مني ما كنت أحب أن يبيض، ثم أنشأ يقول: سلني أنبّئك بآيات الكبر ... نوم العشاء وسعال بالسّحر وقلّة النّوم إذا الليل اعتكر ... وقلة الطّعم إذا الزّاد حضر وسرعة الطرف وتحميج النظر ... وتركك الحسناء في قبل الظهر «2» والناس يبلون كما يبلى الشّجر وقال أعرابي: أشكو إليك وجعا بركبتي ... وهدجانا لم يكن في مشيتي «3» كهدجان الرّأل خلف الهيقت «4» وقال آخر: وللكبير رثيات أربع ... الرّكبتان والنّسا والأخدع «5» وقال جرير:

عبد الملك والشعبي:

تحنّ العظام الرّاجفات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب وقال أعرابي في امرأة: يا بكر حوّاء من الأولاد ... وأقدم العالم في البلاد عمرك ممدود إلى التّناد ... فحدّثينا بحديث عاد «1» ومبتدا فرعون ذي الأوتاد ... وكيف جاء السيل بالأطواد وقال آخر: إذا عاش الفتى سبعين عاما ... فقد ذهب المسرّة والفتاء كان في غطفان نصر بن دهمان؛ قاد غطفان وسادها حتى خرف وعمّر تسعين ومائة سنة، حتى اسود شعره ونبتت أضراسه وعاد شابا؛ فلا يعرف في العرب أعجوبة مثله. وقال محمد بن مناذر في رجل من المعمّرين: إنّ معاذ بن مسلم رجل ... قد ضجّ من طول عمره الأبد قد شاب رأس الزمان واكتهل الده ... ر وأثواب عمره جدد يا نسر لقمان كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد «2» قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنّك الوتد تسأل غربانها إذا حجلت ... كيف يكون الصّداع والرمد عبد الملك والشعبي: ودخل الشعبي على عبد الملك بن مروان، فوجده قد كبا مهتما، فقال: ما بال أمير المؤمنين؟ قال: يا شعبي؛ ذكرت قول زهير: كأنّي وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عني عذار لجامي رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام

فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ... ولكنّني أرمى بغير سهام على الراحتين تارة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي قال له الشعبي: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة، وقد بلغ سبعين سنة: كأني وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا فلما بلغ سبعا وسبعين سنة قال: باتت تشكّي إليّ النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا فلما بلغ مائة سنة قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الخلق كيف لبيد فلما بلغ مائة سنة وعشرا قال: أليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر فلما بلغ ثلاثين ومائة وقد حضرته الوفاة قال: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع ولا خان الخليل ولا غدر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر قال الشعبي: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعا أن يعيشها. وقال لبيد أيضا: أليس ورائي إن تراخت منيّتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبّر أخبار القرون التي مضت ... أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع

فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد القين والنّصل قاطع «1» ويقال: مكتوب في الزبور: من بلغ السبعين اشتكى من غير علة. وقال محمد بن حسان النبطي: لا تسأل نفسك العام ما أعطتك في العام الماضي. وقال معاوية لما أسنّ: ما مرّ شيء كنت أستلذه وأنا شاب فأجده اليوم كما أجده، إلا اللبن والحديث الحسن. عاش ضرار بن عمر حتى ولد له ثلاثة عشر ذكرا، فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه. وقال ابن أبي فنن: من عاش أخلقت الأيام جدّته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إنّ الشباب جنون برؤه الكبر قال أبو عبيدة: قيل لشيخ: ما بقي منك؟ قال: يسبقني من أمامي، ويدركني من خلفي، وأذكر القديم، وأنسى الحديث، وأنعس في الملا، وأسهر في الخلا، وإذا قمت قربت الأرض مني، وإذا قعدت تباعدت عني. وقال حميد بن ثور الهلالي: أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما وقال آخر: كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء «2» ودعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السلامة داء وقال أبو العتاهية، ويروى للقطامي: أسرع في نقص امريّ تمامه وقالت الحكماء: ما زاد شيء إلا نقص، ولا قام إلا شخص.

من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه

وقال بعض المحدثين: ألست ترى أن الزمان طواني ... وبدّل عقلي كلّه وبراني «1» تحيّفني عضوا فعضوا فلم يدع ... سوى اسمي صحيحا وحده ولساني «2» ولو كانت الأسماء يدخلها البلى ... إذا بلي اسمي لامتداد زماني وما لي لا أبلى لسبعين حجّة ... وسبع أتت من دونها سنتان إذا عنّ لي شيء تخيّل دونه ... شبيه ضباب أو شبيه دخان وقال الغزّال: أصبحت والله محمودا على أمد ... من الحياة قصير غير ممتد حتى بقيت بحمد الله في خلف ... كأنّني بينهم من وحشة وحدي وما أفارق يوما من أفارقه ... إلّا حسبت فراقي آخر العهد وقال آخر: يا من لشيخ قد تخدّد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا «3» سوداء حالكة وسحق مفوّف ... وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا «4» قصر الليالي خطوه فتدانى ... وحنين قائم صلبه فتحانى صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه شدّة وليانا والموت يأتي بعد ذلك كلّه ... وكأنّما يعني بذاك سوانا وقال سفيان الثوري في مدح كبره: إنّي وإن كان مسّني كبر ... على ما قد ترين من كبري أعرف من قبل أن تفارقني ... موقع سهمي والسهم في الوتر من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه كان حارثة بن بدر الغداني فارس بني تميم، وكان شاعرا أديبا ظريفا، وكان

ابن زياد وحارثة وأبو الأسود:

يعاقر الشراب ويصحب زيادا، فقيل لزياد: إنك تصحب هذا الرجل وليس من شاكلتك. إنه يعاقر الشراب. فقال: كيف لا أصحبه ولم أسأله عن شيء قط إلا وجدت عنده منه علما، ولا مشى أمامي فاضطرني أن أناديه، ولا مشى خلفي فاضطرني أن التفت إليه، ولا راكبني فمسّت ركبتي ركبته. فلما هلك زياد قال فيه حارثة بن بدر: أبا المغيرة والدّنيا مغرّرة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للتنكير تنكير لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير «1» وتمام هذه الأبيات قد وقعت في الكتاب الذي أفردناه للمراثي. وكان زياد لا يداعب أحد في مجلسه ولا يضحك، فاختصم إليه بنو راسب وبنو الطفاوة في غلام أثبته هؤلاء وهؤلاء، فتحيّر زياد في الحكم، فقال له حارثة، بن بدر: عندي أكرم الله الأمير في هذا الغلام أمر، إن أذن لي الأمير تكلمت به فيه. قال: وما عندك فيه؟ قال: أرى أن يلقى في دجلة، فإن رسب فهو لبني راسب، وإن طفا فهو لبني الطفاوة! فتبسم زياد وأخذ نعليه ودخل، ثم خرج فقال لحارثة: ما حملك على الدعابة في مجلسي؟ قال: طيبة حضرتني، أصلح الله الأمير خفت أن تفوتني، قال: لا تعد إلى مثلها. ابن زياد وحارثة وأبو الأسود: ولما ولي عبيد الله بن زياد بعد موت أبيه، اطّرح حارثة بن بدر وجفاه، فقال له حارثة: مالك لا تنزلني التي كان ينزلني أبوك؟ أتدّعي أنك أفضل منه أو أعقل؟ قال له: إنّ أبي كان برع في الفضل بروعا لا تضره صحبة مثلك. وأنا حدث أخشى أن تحرقني بنارك؛ فإن شئت فاترك الشراب وتكون أول داخل وآخر خارج. قال: والله ما تركته لله فكيف أتركه لك؟ قال: فتخير بلدا أولّيكه. فاختار سرّق

ابن الوليد البجلي وابن بيض:

من أرض العراق، فولاه إياها. فكتب إليه أبو الأسود الدؤلي وكان صديقا له: أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق وباه تميما بالغنى، إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق «1» وما الناس إلّا اثنان إمّا مكذّب ... يقول بما يهوى وإمّا مصدّق يقولون أقوالا ولا يحكمونها ... فإن قيل يوما حقّقوا لم يحقّقوا فدع عنك ما قالوا ولا تكترث بهم ... فحظّك من مال العراقين سرّق فوقّع في أسفل كتابه: لا بعد عليك الرشد. ابن الوليد البجلي وابن بيض: وكان ابن الوليد البجلي، وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القسري، ولي أصبهان، وكان رجلا متسمّتا «2» متصلّحا، فقدم عليه حمزة بن بيض وبن عوف في صحبته، فقيل له: إن حمزة لا يصحب مثلك؛ لأنه صاحب كلاب ولهو. فبعث إليه ثلاثة آلاف درهم وأمره بالانصراف. فقال فيه: يا بن الوليد المرتجى سيبه ... ومن يجلّي الحدث الحالكا سبيل معروفك منّي على ... بال فما بالي على بالكا حشو قميصى شاعر مفلق ... والجود أمسى حشو سربالكا يلومك النّاس على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرّامكا «3» إن كنت لا تصحب إلّا فتى ... مثلك لن تؤتى بأمثالكا هبني امرء اجئت أريد الهدى ... فجد على جهلي بإسلامكا قال له: صدقت! وقرّبه وحسنت عنده منزلته. وكان عبد الرحمن بن الحكم الأمير قد عتب على ندمائه، فأمر نصرا الفتى

قولهم في القرآن

بإسقاطهم من ديوان عطائه ولم يستبدل بهم؛ فلما كان بعد أيام استوحش لهم، فقال لنصر: قد استوحشنا لأصحابنا أولئك! فقال له نصر: قد نالهم من سخط الأمير ما فيه أدب لهم؛ فإن رأى أن يرسل فيهم أرسلت. قال: أرسل. فأقبل القوم وعليهم كآبة السخط، فأخذوا مجالسهم ولم ينشرحوا ولا خاضوا فيما كانوا يخوضون فيه، فقال الأمير لنصر: ما يمنع هؤلاء من الانشراح؟ قال: عليهم أبقى الله الأمير وجمة «1» السخط الذي نالهم، قال: قل لهم: قد عفونا فلينشرحوا. قال: فقام عبد الرحمن بن الشمر الشاعر المتنجم، فجثا بين يديه، ثم أنشده شعرا له أقذع فيه على بعض أصحابه إلا أنه ختمه ببيتين بديعين، وهما: فيا رحمة الله في خلقه ... ومن جوده أبدا يسكب لئن عفت صحبة أهل الذّنوب ... لقلّ من الناس من تصحب وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرّجال المهذّب؟ «2» قولهم في القرآن كتب المريسيّ إلى أبي يحيى منصور بن محمد: اكتب: القرآن خالق أو مخلوق؟ فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن تفعل فأعظم بها منّة، وإن لا تفعل فهي الهلكة، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعة، يتكلف المجيب ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقا إلا الله، وما سوى الله فمخلوق؛ والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكون من المهتدين، ولا تسمّ القرآن باسم من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.

تم الجزء الثاني من العقد الفريد ويليه الجزء الثالث

الجزء الثالث

الجزء الثالث كتاب الجوهرة في الامثال قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في العلم والأدب وما يتولّد منهما وينسب إليهما من الحكم النادرة، والفطن البارعة. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأمثال، التي هي وشي الكلام وجوهر اللفظ، وحلى المعاني، والتي تخيّرتها العرب، وقدّمتها العجم، ونطق بها كلّ زمان وعلى كل لسان. فهي أبقى من الشّعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عمّ عمومها، حتى قيل: أسير من مثل. وقال الشاعر: ما أنت إلا مثل سائر ... يعرفه الجاهل والخابر «1» وقد ضرب الله عز وجل الأمثال في كتابه، وضربها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كلامه. قال الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ «2» وقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ «3» . ومثل هذا كثير في آي القرآن. فأول ما نبدأ به: أمثال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أمثال العلماء، ثم أمثال أكثم بن صيفي

أمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبزرجمهر الفارسي؛ وهي التي كان يستعملها جعفر بن يحيى في كلامه؛ ثم أمثال العرب التي رواها أبو عبيد، وما أشبهها من أمثال العامة: ثم الأمثال التي استعملها الشعراء في أشعارهم في الجاهلية والإسلام. أمثال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبي الصراط أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخيّة، وعلى رأس الصراط داع يقول: ادخلوا الصراط ولا تعوجّوا. فالصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، والداعي القرآن. وقال صلّى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كالخامة «1» من الزرع: يقلبها الريح مرة كذا ومرة كذا. ومثل الكافر مثل الأرزة «2» المجذية على الأرض، يكون انجعافها بمرّة. وسأله حذيفة: أبعد هذا الشر خير يا رسول الله؟ فقال: جماعة على أقذاء، وهدنة على دخن. وقوله حين ذكر الدنيا وزينتها، فقال: إن ممّا ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلّم «3» . وقال لأبي سفيان: أنت أبا سفيان كما قالوا: كلّ الصيد في جوف الفرا «4» . وقال حين ذكر الغلو في العبادة: إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وقال صلّى الله عليه وسلم: إياكم وخضراء الدّمن. قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء.

وذكر الرّبا في آخر الزمان، وافتتان الناس به، فقال: من لم يأكله أصابه غباره. وقال: الإيمان قيد الفتك. وقال صلّى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال في فرس: وجدته بحرا. وقال: إن من البيان لسحرا. وقال: لا ترفع عصاك عن أهلك. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يلدغ المؤمن من جحر» مرتين. وقال: الحرب خدعة. وله صلّى الله عليه وسلم: أمثال كثيرة غير هذه، ولكنّا لم نذهب في كل باب إلى استقصائه، وإنما ذهبنا إلى أن نكتفي بالبعض، ونستدل بالقليل على الكثير، ليكون أسهل مأخذا للحفظ، وأبرأ «2» من الملالة والهرب. وتفسيرها: أما المثل الأوّل، فقد فسّره النبي صلّى الله عليه وسلم. وأما قوله: «المؤمن كالخامة والكافر كالأرزة، فإنه شبّه المؤمن في تصرف الأيام به وما يناله من بلائها، بالخامة من الزرع يقلبها الرّيح مرة كذا ومرة كذا- والخامة في قول أبي عبيد: القصبة الرطبة في الزرع؛ والأرزة: واحدة الأرز، وهو شجر له ثمر يقال له الصنوبر. والمجذبة: الثابتة، وفيها لغتان: جذا يجذو، وأجذى يجذى. والانجعاف: الانقلاع، يقال جعفت الرجل، إذا قلعته وصرعته وضربت به الأرض. وقوله لحذيفة: هدنة على دخن وجماعة على أقذاء «3» . أراد ما تنطوي عليه القلوب من الضغائن والأحقاد، فشبّه ذلك بإغضاء الجفون على الأقذاء. والدخن: مأخوذ من الدخان، جعلا مثله لما في الصدور من الغل. وقوله: إنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم. فالحبط- كما ذكر أبو عبيدة عن

الأصمعي: أن تأكل الدابة حتى ينتفخ بطنها وتمرض منه، يقال: حبطت الدابة تحبط حبطا. وقوله: أو يلم. معناه: أو يقرب من ذلك. ومنه قوله: إذ ذكر أهل الجنة فقال: إن أحدهم إذا نظر إلى ما أعدّ الله له في الجنة فلولا أنه شيء قضاه الله له لألّم أن يذهب بصره، يعني لما يرى فيها. يقول: لقرب أن يذهب بصره. وقوله لأبي سفيان: كل الصيد في جوف الفرا. فمعناه أنك في الرجال كالفرا في الصيد، وهو الحمار الوحشي، وقال له ذلك يتألّفه على الإسلام. وقوله حين ذكر الغلو في العبادة: إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. يقول: إن المغذّ «1» في السير إذا أفرط الإغذاذ عطبت راحلته من قبل أن يبلغ حاجته أو يقضي سفره، فشبّه بذلك من أفرط في العبادة حتى يبقى حسيرا. وقوله في الربا: من لم يأكله أصابه غباره. إنما هو مثل لما ينال الناس من حرمته، وليس هناك غبار. وقوله: الإيمان قيّد الفتك. أي منع منه كأنه قيد له. وفي حديث آخر: لا يفتك مؤمن. وقوله في فرس: وجدته بحرا. وإن من البيان لسحرا؛ إنما هو تمثيل لا على التحقيق. وكذلك قوله: الولد للفراش وللعاهر الحجر. معناه أنه لا حق له في نسب الولد. وقوله صلّى الله عليه وسلم: لا ترفع عصاك عن أهلك. إنما هو الأدب بالقول، ولم يرد ألا ترفع عنها العصا. وقوله: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. معناه أن لدغ مرة يحفظ من أخرى. وقوله: الحرب خدعة. يريد أنها بالمكر والخديعة.

أمثال روتها العلماء

أمثال روتها العلماء ابن بشير على منبر الكوفة: خطب النعمان بن بشير على منبر بالكوفة فقال: يأهل الكوفة، إني وجدت مثلي ومثلكم كالضّبع والثعلب أتيا الضبّ في جحره، فقالا: أبا حسل «1» . قال: أجبتكما قالا: جئناك نختصم. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت الضبع: فتحت عيبتي، قال: فعل النساء فعلت. قالت: فلقطت تمرة. قال: حلوا جنيت. قالت: فاختطفها ثعالة. قال: نفسه بغى ثعالة اسم الثعلب، الذكر والأنثى قالت: فلطمته لطمة. قال: حقا قضيت. قالت: فلطمني أخرى. قال: كان حرّا فانتصر. قالت: فاحكم الآن بيننا. قال: حدّث امرأة حديثين فإن لم تفهم فأربعة. ابن الزبير وأهل العراق: وقال عبد الله بن الزبير لأهل العراق: وددت والله لو أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم. قال له رجل منهم: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلكم ومثل أهل الشام؟ قال: وما ذلك؟ قال: ما قاله أعشى بكر حيث يقول: علّقتها «2» عرضا وعلقت رجلا غيري وعلّق أخرى غيرها الرجل. أحببناك نحن، وأحببت أنت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك بن مروان. مثل في الرياء «3» فخ الإسرائيلي والعصفورة: يحيى بن عبد العزيز: قال: حدّثني نعيم عن إسماعيل عن رجل من ولد أبي بكر الصدّيق رضوان الله عليه، عن وهب بن منبه قال: نصب رجل من بني إسرائيل

اسرائيلي وقبرة:

فخّا، فجاءت عصفورة فنزلت عليه، فقالت: ما لي أراك منحنيا؟ قال: لكثرة صلاتي انحنيت. قالت: فمالي أراك بادية «1» عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي. قالت: فمالي أرى هذا الصّوف عليك؟ قال: لزهادتي في الدنيا لبست الصوف. قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكّأ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبّة في يدك؟ قال: قربان إن مرّ بي مسكين ناولته إياه. قالت: فإني مسكينة! قال: فخذيها. فدنت فقبضت على الحبة، فإذا الفخ في عنقها. فجعلت تقول: قعي قعي. تفسيره: لا غرّني ناسك مراء بعدك أبدا. اسرائيلي وقبرة: داود بن أبي هند عن الشّعبي: أن رجلا من بني إسرائيل صاد قبّرة، فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك فآكلك! قالت: والله ما أشفي من قرم «2» ولا أغني من جوع، ولكني أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما الواحدة فأعلمكها وأنا في يدك، والثانية إذا صرت على هذه الشجرة، والثالثة إذا صرت على الجبل. فقال: هات الأولى، قالت: لا تتلهفن على ما فاتك. فخلّى عنها؛ فلما صارت فوق الشجرة قال: هات الثانية. قالت: لا تصدّقن بما لا يكون أنه يكون. ثم طارت فصارت على الجبل، فقالت: يا شقيّ! لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درّة فيها زنة عشرين مثقالا. قال: فعضّ على شفتيه وتلهّف ثم قال: هات الثالثة. قالت له: أنت قد نسيت الاثنتين، فكيف أعلّمك الثالثة؟ ألم أقل لك لا تتلهفنّ على ما فاتك؟ فقد تلهفت عليّ إذ فتّك، وقلت لك. لا تصدقن بما لا يكون، أنه يكون! فصدقت! أنا وعظمي وريشي لا أزن عشرين مثقالا، فكيف يكون في حوصلتي ما يزنها؟ من أمثال الهند: وفي كتاب للهند: مثل الدنيا وآفاتها ومخاوفها والموت والمعاد الذي إليه مصير الإنسان:

من ضرب به المثل من الناس

قال الحكيم: وجدت مثل الدنيا والمغرور بالدنيا المملوءة آفات، مثل رجل ألجأه خوف إلى بئر تدلّى فيها وتعلق بغصنين نابتين على شفير البئر، ووقعت رجلاه على شيء فمدّهما. فنظر فإذا بحيّات أربع قد أطلعن رءوسهنّ من جحورهنّ، ونظر إلى أسفل البئر فإذا بثعبان فاغرفاه نحوه، فرفع بصره إلى الغصن الذي يتعلق به فإذا في أصله جرذان أبيض وأسود يقرضان الغصن دائبين لا يفتران؛ فبينما هو مغتم بنفسه وابتغاء الحيلة في نجاته، إذ نظر فإذا بجانب منه جحر نحل قد صنعن شيئا من عسل، فتطاعم منه فوجد حلاوته، فشغلته عن الفكر في أمره والتماس النجاة لنفسه، ولم يذكر أن رجليه فوق أربع حيات لا يدري من تساوره منهنّ، وأن الجرذين دائبان في قرض الغصن الذي يتعلق به، وأنهما إذا قطعاه وقع في لهوة «1» التنين. ولم يزل لاهيا غافلا حتى هلك. قال الحكيم: فشبهت الدنيا المملوءة آفات وشرورا ومخاوف بالبئر؛ وشبهت الأخلاط التي بني جسد الإنسان عليها، من المرّتين والبلغم والدم بالحيات الأربع وشبهت الحياة بالغصنين اللذين تعلق بهما وشبهت الليل والنهار ودورانهما في إفناء الأيام والأجيال بالجرذين الأبيض والأسود اللذين يقرضان الغصن دائبين لا يفتران؛ وشبهت الموت الذي لا بد منه بالتنين الفاغر «2» فاه؛ وشبهت الذي يرى الإنسان ويسمع ويطعم ويلبس فيلهيه ذلك عن عاقبة أمره وما إليه مصيره بالعسيلة التي تطاعمها. من ضرب به المثل من الناس قالت العرب: أسخى من حاتم، وأشجع من ربيعة بن مكدّم، وأدهى من قيس ابن زهير. وأعزّ من كليب بن وائل. وأوفى من السّموأل. وأذكى من إياس بن معاوية. وأسود من قيس بن عاصم. وأمنع من الحارث بن ظالم. وأبلغ من سحبان ابن وائل. وأحلم من الأحف بن قيس وأصدق من أبي ذرّ الغفاريّ. وأكذب من

من يضرب به المثل من النساء

مسيلمة الحنفي. وأعيا من باقل «1» . وأمضى من سليك «2» المقانب. وأنعم من خريم الناعم. وأحمق من هبنّقة. وأفتك من البرّاض «3» . من يضرب به المثل من النساء يقال: أشأم من البسوس. وأحمق من دغة. وأمنع من أمّ قرفة وأقود من ظلمة، وأبصر من زرقاء اليمامة. البسوس: جارة جسّاس بن مرة بن ذهل بن شيبان، ولها كانت الناقة التي قتل من أجلها كليب بن وائل، وبها ثارت الحرب بين بكر بن وائل وتغلب، التي يقال لها حرب البسوس. وأم قرفة: امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يعلّق في بيتها خمسون سيفا كل سيف منها لذي محرم لها. ودغة: امرأة من عجل بن لجيم: تزوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم. وزرقاء بني نمير: امرأة كانت باليمامة تبصر الشّعرة البيضاء في اللبن، وتنظر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها الجيوش إذا غزتهم، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، حتى احتال لها بعض من غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجرا أمسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبل إليكم. قالوا لها: قد خرفت ورق عقلك وذهب بصرك. فكذبوها، وصبّحتهم الخيل وأغارت عليهم وقتلت الزرقاء. قال: فقوّروا عينيها فوجدوا عروق عينيها قد غرقت في الإثمد من كثرة ما كانت تكتحل به. وظلمة: امرأة من هذيل زنت أربعين عاما، فلما عجزت عن الزنا والقود اتخذت

ما تمثلوا به من البهائم

تيسا وعنزا، فكانت تنزي «1» التيس على العنز، فقيل لها، لم تفعلين ذلك؟ قالت: حتى أسمع أنفاس الجماع. ما تمثلوا به من البهائم قالوا: أشجع من أسد. وأجبن من الصّافر. وأمضى من ليث عفرّين «2» . وأحذر من غراب. وأبصر من عقاب. وأزهى من ذباب. وأذلّ من قراد بمنسم «3» . وأسمع من فرس. وأنوم من فهد. وأعمر من ضبّ. وأجبن من صفرد «4» . وأحقد من جمل. وأضرع من سنّور. وأسرق من زبابة. وأصبر من عود وأظلم من حيّة. وأحنّ من ناب «5» . وأكذب من فاختة. وأعزّ من بيض الأنوق. وأجوع من كلبة حومل «6» . وأعزّ من الأبلق «7» العقوق «8» . الصفار: ذو الصفير من الطير. العود: المسن من الجمال. الأنوق: طير يقال إنه يبيض في الهواء، والزّبابة: الفأرة تسرق دود الحرير، وفاختة: طير يطير بالرطب في غير أيامه. ما يضرب به المثل من غير الحيوان قالوا: أهدى من النّجم. وأجود من الدّيم. وأصبح من الصّبح. وأسمح من البحر. وأنور من النهار. وأسود من اللّيل. وأمضى من السّيل. وأحمق من رجلة «9» . وأحسن من دمية. وأنزه من روضة. وأوسع من الدّهناء «10» . وآنس من جدول.

ومما ضربوا به المثل

وأضيق من قرار حافر. وأوحش من مفازة. وأثقل من جبل. وأبقى من الوحي «1» في صمّ الصّلاب. وأخفّ من ريش الحواصل. ومما ضربوا به المثل قولهم: قوس حاجب. وقرط مارية. وحجّام «2» ساباط. وشقائق النعمان. وندامة الكسعيّ. وحديث خرافة. وكنز النّطف. وخفّا حنين. وعطر منشم. أما قوس حاجب. فقد فسرنا خبره في كتاب الوفود. وأما قرط مارية فإنها مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية الكندي وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار. وابنها الحارث الأعرج الذي ذكره النابغة بقوله: والحارث الأعرج خير الأنام وإيّاها يعني حسان بن ثابت بقوله: أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل وأما حجّام ساباط، فإنه كان يحجم الجيوش بنسيئة إلى انصرافهم، من شدة كساده؛ وكان فارسيّا. وساباط. هو ساباط كسرى. ونسب شقائق النعمان إليه، لأن النعمان بن المنذر أمر بأن تحمى وتضرب قبته فيها استحسانا لها، فنسبت إليه، والعرب تسميها الشّقر. وأما خرافة؛ فإنّ أنس بن مالك يروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: إنّ من أصدق الأحاديث حديث خرافة، وكان رجلا من بني عذرة سبته الجن، وكان معهم، فإذا استرقوا السمع أخبروه، فيخبر به أهل الأرض فيجدونه كما قال.

أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي

وأما كنز النّطف، فهو رجل من بني يربوع كان فقيرا يحمل الماء على ظهره فينطف، أي يقطر؛ وكان أغار على مال بعث به باذان من اليمن إلى كسرى، فأعطى منه يوما حتى غربت الشمس، فضربت به العرب المثل في كثرة المال. وأما خفّا «1» حنين، فإنه كان إسكافا من أهل الحيرة، ساومه أعرابيّ بخفين فاختلفا حتى أغضبه، فأراد أن يغيظ الأعرابيّ، فلما ارتحل أخذ أحد الخفين فألقاه في طريق الأعرابي، ثم ألقى الآخر بموضع آخر على طريقه. فلما مر الأعرابي، بالخف الأول، قال ما أشبه هذا بخف حنين! لو كان معه صاحبه لأخذته. فلما مرّ بالآخر ندم على ترك الأول فأناخ راحلته، وانصرف إلى الأول وقد كمن له حنين، فوثب على راحلته وذهب بها؛ وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير خفى حنين. فذهبت مثلا. وأما عطر منشم، فإنها كانت امرأة تبيع الحنوط «2» في الجاهلية، فقيل للقوم إذا تحاربوا: دقّوا عطر منشم. يراد بذلك طيب الموتى. وأما ندامة الكسعي، فإنه رجل رمى فأصاب، فظن أنه أخطأ فكسر قوسه، فلما علم ندم على كسر قوسه. فضرب به المثل. أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي العقل بالتّجارب. الصاحب مناسب. الصديق من صدّق عينيه. الغريب من لم يكن له حبيب، ربّ بعد أقرب من قريب. القريب من قرب نفعه. لو تكاشفتم ما تدافنتم «3» . خير أهلك من كفاك. وخير سلاحك ما وقاك. خير إحوانك من لم تخبره. ربّ غريب ناصح الجيب «4» ؛ وابن أب متهم الغيب. أخوك من صدقك. الأخ مرآة أخيه. إذا عزّ أخوك فهن. مكره أخوك لا بطل. تباعدوا في الديار

وتقاربوا في المحبة. أيّ الرجال المهذّب. من لك بأخيك كلّه. إنك إن فرّجت لاق فرجا. أحسن يحسن إليك. ارحم ترحم. كما تدين تدان. من ير يوما ير به، والدهر لا يغترّ به. عين عرفت فذرفت. في كلّ خبرة عبرة. من مأمنه يؤتى الحذر. لا يعدو المرء رزقه وإن حرص. إذا نزل القدر عمي البصر: وإذا نزل الحين نزل بين الأذن والعين. الخمر مفتاح كلّ شرّ. الغناء رقية الزّناء. القناعة مال لا ينفد. خير الغنى غنى النفس. منساق إلى ما أنت لاق. خذ من العافية ما أعطيت، ليس الإنسان إلا القلب واللسان. إنما لك ما أمضيت. لا تتكلف ما كفيت. القلم أحد اللسانين. قلّة العيال أحد اليسارين. ربما ضاقت الدنيا باثنين. لن تعدم الحسناء ذامّا. لم يعدم الغاوي لائما. لا تك في أهلك كالجنازة. لا تسخر من شيء فيحور بك. أخّر الشرّ فإن شئت تعجّلته. صغير الشرّ يوشك أن يكبر. يبصر القلب ما يعمى عنه البصر. الحرّ حرّ وإن مسّه الضرّ «1» . العبد عبد وإن ساعده جد. من عرف قدره استبان أمره. من سرّه بنوه ساءته نفسه. من تعظّم على الزمان أهانه. من تعرّض للسلطان أذراه ومن تطامن «2» له تخطّاه. من خطا يخطو. كلّ مبذول مملول. كلّ ممنوع مرغوب فيه. كل عزيز تحت القدرة ذليل. لكلّ مقام مقال. لكلّ زمان رجال. لكل أجل كتاب. لكل عمل ثواب. لكل نبإ مستقر. لكل سرّ مستودع. قيمة كلّ إنسان ما يحسن. اطلب لكل غلق مفتاحا. أكثر في الباطل يكن حقا. عند القنط» يأتي الفرج. عند الصباح يحمد السّرى. الصدق منجاة والكذب مهواة. الاعتراف يهدم الاقتراف. ربّ قول أنفذ من صول. ربّ ساعة ليس بها طاعة. ربّ عجلة تعقب ريثا. بعض الكلام أقطع من الحسام. بعض الجهل أبلغ من الحلم. ربيع القلب ما اشتهى. الهوى شديد العمى. الهوى الإله المعبود. الرأي نائم والهوى يقظان، غلب عليك من دعا إليك. لا راحة لحسود، ولا وفاء لملول. لا سرور كطيب النفس. العمر أقصر من أن يحتمل الهجر. أحق الناس بالعفو أقدرهم

على العقوبة. خير العلم ما نفع. خير القول ما اتّبع. البطنة «1» تذهب الفطنة. شرّ العمى عمى القلب. أوثق العرى كلمة التقوى. النساء حبائل الشيطان. الشباب شعبة من الجنون، الشقيّ من شقي في بطن أمّه. السعيد من وعظ بغيره. لكل امرىء في بدنه شغل. من يعرف البلاء يصبر عليه. المقادير تريك ما لا يخطر ببالك. أفضل الزّاد ما تزوّد للمعاد. الفحل أحمى للشول «2» . صاحب الحظوة غدا من بلغ المدى. عواقب الصبر محمودة. لا تبلغ الغايات بالأماني. الصريمة على قدر العزيمة. الضعيف يثني أو يذمّ. من تفكر اعتبر. كم شاهد لك لا ينطق، ليس منك من غشّك. ما نظر لآمرىء مثل نفسه. ما سدّ فقرك إلا ملك يمينك. ما على عاقل ضيعة. الغنى في الغربة وطن. والمقلّ في أهله غريب. أول المعرفة الاختبار. يدك منك وإن كانت شلّاء. أنفك منك وإن كان أجدع. من عرف بالكذب لم يحز صدقه، ومن عرف بالصدق جاز كذبه. الصحة داعية السّقم. الشباب داعية الهرم. كثرة الصياح من الفشل. إذا قدمت المصيبة تركت التعزية. إذا قدم الإخاء سمج الثناء. العادة أملك من الأدب. الرفق يمن والخرق شؤم. المرأة ريحانة وليست بقهرمانة «3» . الدّالّ على الخير كفاعله. المحاجزة قبل المناجزة. قبل الرماية تملأ الكنائن. لكل ساقطة لاقطة. مقتل الرجل بين فكّيه. ترك الحركة غفلة. الصّمت حبسة. من خير خبر أن يسمع بمطر. كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. قيّدوا النّعم بالشكر. من يزرع المعروف يحصد الشكر. لا تغترّ بمودّة الأمير إذا غشّك الوزير. أعظم من المصيبة سوء الخلف منها. من أراد البقاء فليوطّن نفسه على المصائب. لقاء الأحبّة مسلاة للهم. قطيعة الجاهل كصلة العاقل. من رضي على نفسه كثر الساخط عليه. قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عارفها. أدوأ الداء الخلق الدّنيّ واللسان البذيّ. إذا جعلك السلطان أخا فاجعله ربّا. احذر الأمين ولا تأمن الخائن. عند الغاية يعرف السبق. عند الرّهان يحمد المضمار. السؤال وإن قلّ أكثر من النوال وإن جل. كافىء المعروف

ومن أمثال العرب

بمثله أو انشره. لا خلة «1» مع عيلة «2» . لا مروءة مع ضر. ولا صبر مع شكوى. ليس من العدل سرعة العذل. عبد غيرك حر مثلك. لا يعدم الخيار من استشار. الوضيع من وضع نفسه. المهين من نزل وحده. من أكثر أهجر «3» . كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع. كل إناء ينضح بما فيه. العادة طبع ثان. ومن أمثال العرب مما روى أبو عبيد جرّدناها من الآداب التي أدخل فيها أبو عبيد إذ كنا قد أفردنا للأدب والمواعظ كتبا غير هذا، وضممنا إلى أمثلة العرب القديمة ما جرى على ألسنة العامة من الأمثال المستعملة، وفسرنا من ذلك ما احتاج إلى التفسير. فمن ذلك قولهم: في حفظ اللسان لعمر بن عبد العزيز: التقيّ ملجم. لأبي بكر الصدّيق: إن البلاء موكّل بالمنطق. لابن مسعود: ما شيء أولى بطول سجن من لسان. لأنس بن مالك: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحترز من لسانه ولسان غيره. احذر لسانك لا يضرب عنقك. جرح اللسان جرح اليد. رب كلام أقطع من حسام. القول ينفذ ما لا تنفذ الإبر. قال الشاعر: وقد يرجى لجرح السيف برء «4» ... ولا برء لما جرح اللسان اجتلبنا هذا البيت لأنه قد صار مثلا سائرا للعامة. وجعلنا لأمثال الشعراء في آخر كتابنا هذا بابا.

إكثار الكلام وما يتقى منه

وقال أكثم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكّيه. وقال: ربما أعلم فأذر. يريد أنه يدع ذكر الشيء وهو به عالم؛ لما يحذر من عاقبته. إكثار الكلام وما يتقى منه قالوا: من ضاق صدره اتّسع لسانه. من أكثر أهجر- أي خرج إلى الهجر، وهو القبيح من القول. وقالوا: المكثار كحاطب ليل، وحاطب الليل ربما نهشته الحية أو لسعته العقرب في احتطابه ليلا. وقالو: أوّل العييّ الاختلاط، «1» وأسوأ القول الإفراط. في الصمت قالوا: الصّمت حكم «2» وقليل فاعله. وقالوا: عيّ صامت خير من عيّ ناطق، والصمت يكسب أهله المحبّة. وقالوا: استكثر من الهيبة الصّموت؛ والندم على السّكوت خير من الندم على الكلام. وقالوا: السّكوت سلامة. القصد في المدح منه قولهم: من حفّنا «3» أو رفّنا «4» فليقتصد. يقولون: من مدحنا فلا يغلون في ذلك. وقولهم: لا تهرف بما لا تعرف والهرف: الإطناب في المدح والثناء. ومنه قولهم: شاكه أبا يسار من دون ذا ينفق الحمار. أخبرنا أبو محمد الأعرابي عن رجل من بني عامر بن صعصعة قال: لقي أبو يسار رجلا بالمربد يبيع حمارا ورجل يساومه؛ فجعل أبو يسار يطرى الحمار؛ فقال المشتري:

صدق الحديث

أعرفت الحمار؟ قال: نعم. قال: كيف سيره؟ قال: يصطاد به النّعام معقولا. قال له البائع: شاكه أبا يسار، من دون ذا ينفق الحمار. والمشاكهة: المقاربة والقصد. صدق الحديث منه قولهم: من صدق الله نجا. ومنه قولهم: سبّني واصدق. وقالوا: الكذب داء والصّدق شفاء. وقولهم: لا يكذب الرائد أهله معناه أن الذي يرتاد لأهله منزلا لا يكذبهم فيه. وقولهم: صدقني سنّ بكره. أصله أنّ رجلا ابتاع من رجل بعيرا، فسأله عن سنّه. فقال له: إنه بازل «1» . فقال له: أنخه. فلما أناخه قال: هدع هدع. وهذه لفظة تسكّن بها الصغار من الإبل. فلما سمع المشتري هذه الكلمة قال: صدقني سنّ بكره. ومنه قولهم: القول ما قالت حذام. وهي امرأة لجيم بن صعب، والد حنيفة وعجل، ابني لجيم، وفيها قال: إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام من أصاب مرة وأخطأ مرة منه قولهم: شخب في الإناء. وشخب «2» في الأرض. شبّه بالحالب الجاهل الذي يحلب شخبا في الإناء وشخبا في الأرض. وقولهم: يشج «3» مرة ويأسو «4» أخرى. وقولهم: سهم لك وسهم عليك.

سوء المسألة وسوء الاجابة

وقولهم: اطرقي وميشي. والميش أن يخلط الشعر بالصوف. والمطراقة: العود الذي يضرب به بين ما خلط. سوء المسألة وسوء الاجابة قالوا: أساء سمعا فأساء جابة. هكذا تحكى هذه الكلمة، «جابة» بغير ألف، وذلك أنه اسم موضوع يقال: أجابني فلان جابة حسنة، فإذا أرادوا المصدر قالوا: إجابة، بالألف. وقالوا: حدّث امرأة حديثين فإن لم تفهم فأربعة. كذا في الأصل؛ والذي أحفظ: فاربع، أي أمسك. وقولهم: إليك يساق الحديث. من صمت ثم نطق بالفهاهة قالوا: سكت ألفا ونطق خلفا. الخلف من كل شيء: الرديء. المعروف بالكذب يصدق مرة قولهم: من الخواطيء سهم صائب. وربّ رمية من غير رام. وقولهم: قد يصدق الكذوب. المعروف بالصدق يكذب مرة قالوا: لكلّ جواد كبوة، «1» ولكلّ صارم نبوة «2» ، ولكلّ عالم هفوة «3» ، وقد يعثر الجواد، ومن لك بأخيك كلّه، وأيّ الرجال المهذب.

كتمان السر

كتمان السر قالوا: صدرك أوسع لسرّك. وقالوا: لا تفش سرّك إلى أمة، ولا تبل على أكمة. يقول لا نفش سرك إلى امرأة فتبديه، ولا تبل على مكان مرتفع فتبدو عورتك. ويقولون إذا أسروا إلى الرجل: اجعل هذا في وعاء غير سرب «1» . وقولهم سرّك من دمك. وقيل لأعرابي: كيف كتمانك السر؟ فقال: ما صدري إلا قبر. انكشاف الأمر بعد اكتتامه قولهم: حصحص «2» الحقّ. وقولهم: أبدى الصريح عن الرّغوة. وفي الرغوة ثلاث لغات: فتح الراء، وضمها، وكسرها. وقولهم: صرح «3» المحض «4» عن الزّبد. وقالوا: أفرخ القوم بيضتهم. أي أخرجوا فرختها، يريدون أظهروا سرهم. وقولهم: برح «5» الخفاء وكشف الغطاء. إبداء السر قالوا: أفضيت إليك بشقوري. أي أخبرتك بأمري، وأطلعتك على سري. وقولهم: أخبرتك بعجري وبجري. أي أطلعتك على معايبي، والعجر: العروق المتعقدة، وأما البجر فهي في البطن خاصة. وتقول العامة: لو كان في جسدي برص ما كتمته.

الحديث يتذكر به غيره

الحديث يتذكر به غيره قالوا: الحديث ذو شجون: وهذا المثل لضبّة بن أدّ وكان له ابنان: سعد وسعيد، فخرجا في طلب إبل لهما، فرجع سعد ولم يرجع سعيد، فكان ضبه كلما رأى رجلا مقبلا قال: أسعد أم سعيد، فذهبت مثلا. ثم إن ضبة بينما هو يسير يوما ومعه الحارث بن كعب في الشهر الحرام إذ أتى على مكان، فقال له الحارث: أترى هذا الموضع! فإني لقيت فتى هيئته كذا وكذا، فقتلته وأخذت منه هذا السيف. فإذا بصفة سعيد، فقال له ضبة: أرني السيف أنظر إليه. فناوله إياه فعرفه فقال له: إن الحديث ذو شجون. ثم ضربه به حتى قتله. فلامه الناس في ذلك، وقالوا: أقتلت في الشهر الحرام؟ قال: سبق السيف العذل. فذهبت مثلا. ومنه: ذكّرتني الطّعن وكنت ناسيا. وأصل هذا أن رجلا حمل ليقتل رجلا، وكان بيد المحمول عليه رمح، فأنساه الدهش والجزع ما في يده، فقال له الحامل: ألق الرمح. قال الآخر: فإن رمحي لمعي، ذكّرتني الطعن وكنت ناسيا. ثم كز «1» على صاحبه فهزمه أو قتله. ويقال: إن الحامل: صخر بن معاوية السلمي أخو الخنساء والمحمول عليه: يزيد بن الصّعق. العذر يكون للرجل ولا يمكن أن يبديه منه قولهم: ربّ سامع خبري لم يسمع عذري. وربّ ملوم لا ذنب له. ولعلّ له عذرا وأنت تلوم. وقولهم: المرء أعلم بشأنه. الاعتذار في غير موضعه منه قولهم: ترك الذنب أيسر من التماس العذر، وترك الذنب أيسر من طلب التوبة.

التعريض بالكناية

التعريض بالكناية ومنه قولهم: أعن صبوح «1» ترقق «2» . ومنه قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة. المنّ بالمعروف قالوا: شوا أخوك حتى إذا أنضج رمّد. وقولهم: فضل القول على الفعل دناءة، وفضل الفعل على القول مكرمة. الحمد قبل الاختبار لا تحمدن أمة عام اشترائها ولا حرّة عام بنائها «3» . وقولهم: لا تهرف قبل أن تعرف. يقول: لا تمدح قبل أن تختبر. وقولهم: أول المعرفة الاختبار. إنجاز الوعد قالوا: أنجز حرّ ما وعد. وقولهم: العدة عطيّة. وقولهم: من أخّر حاجة فقد ضمنها. وقالوا: وعد الحرّ فعل، ووعد اللّئيم تسويف. وقالت العامة: الوعد من العهد. التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلا حسبك من شرّ سماعه. وما اعتذارك من شيء قيل.

بالخير

بالخير منه قولهم للقادم من سفره: خير ما ردّ في أهل ومال؛ أي جعلك الله كذلك. وقولهم: بلغ الله بك أكلأ العمر. أي أقصاه. وقولهم: نعم عوفك. أي نعم بالك. وقولهم في النكاح: على بدء الخير واليمن. وقولهم: بالرّفاء والبنين. يريد بالرفاء: الكثرة، يقال منه: رفأته، إذا دعوت له بالكثرة. وقولهم: هنّئت ولا تنكه. أي أصابك خير ولا أصابك ضر. وقولهم: هوت «1» أمّه، وهبلته «2» أمّه. يدعون عليه وهم يريدون الحمد له. ونحوه قاتله الله، وأخزاه الله، إذا أحسن. ومنه قول امرىء القيس: ماله لا عدّ من نفره تعيير الإنسان صاحبه بعيبه قالوا: رمتني بدائها وانسلّت. وقولهم: عيّر بجير بجره، «3» نسي بجير خبره. وقولهم: محترس من مثله وهو حارس. وقولهم: تبصر القذى في عين أخيك ولا تبصر الجذع في عينك. الدعاء على الإنسان منه قولهم: فاها لفيك. يريد: الأرض لفيك. وقولهم: بفيك الحجر، وبفيك الأثلب «4» . وقولهم: لليدين وللفم.

رمى الرجل غيره بالمعضلات

ولما أتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسكران في رمضان، وقال له: لليدين وللفم؛ أو لداننا صيام وأنت مفطر. وضربه مائة سوط. ومنه قولهم: لجنبه فليكن الوجه. يريد الصرعة. ومنه قولهم: من كلا جانبيك لا لبّيك، أي لا كانت لك تلبية ولا سلامة من كلا جانبيك. والتلبية: الإقامة بالمكان. وقولهم: بك لا بظبي. وقال الفرزدق: أقول له لمّا أتاني نعيه ... به لا بظبي بالصّريمة أعفرا» ومنه قولهم: جدع الله مسامعه. وقولهم: عقرا حلقا، يريد عقره الله وحلقه. ومنه قولهم: لا لعا «2» له: أي لا أقامه الله. قال الأخطل: ولا لعا لبني ذكوان إذ عثروا ولحبيب: صفراء صفرة صحّة قد ركّبت ... جثمانه في ثوب سقم أصفر قتلته سرّا ثمّ قالت جهرة ... قول الفرزدق لا بظبي أعفر رمى الرجل غيره بالمعضلات منه قولهم: رماه بأقحاف «3» رأسه، ورماه بثالثة الأثافي، يريد قطعة من الجبل يجعل إلى جنبها أثفيّتان وتكون هي الثالثة. ومنه: يا للعضيهة «4» والأفيكة «5» ، إذا رماه بالبهتان. وقولهم: كأنما أفرغ عليه ذنوبا «6» ، إذا كلمه كلمة يسكته بها.

المكر والخلابة

المكر والخلابة منه قولهم: فتل في ذروته، أي خادعه حتى أزاله عن رأيه. قال أبو عبيد: ويروى عن الزبير حين سأل عائشة الخروج إلى البصرة فأبت عليه: فما زال يفتل في الذّروة والغارب حتى أجابته. وقولهم: ضرب «1» أخماسا لأسداس، يريدون المناكرة. وقال آخر: إذا أراد امرؤ مكرا جنى عللا ... وظلّ يضرب أخماسا لأسداس ومنه قولهم: الذّئب يأدو للغزال، أي يختله ليوقعه. اللهو والباطل منه قولهم: جاء فلان بالتّره «2» . وجري فلان السّمّه «3» ، وهما من أسماء الباطل. وقال صلّى الله عليه وسلم: ما أنا من دد ولا دد منّي، وفيه ثلاث لغات: دد، وددا: مثل قفا. وددن: مثل حزن. خلف الوعد منه قولهم: ما وعده إلا برق خلّب، وهو الذي لا مطر معه. ومنه ما وعده إلا وعد عرقوب. وهو رجل من العماليق أتاه أخوه يسأله فقال: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فأتاه للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحا. فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير رطبا. فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمرا. فلما أتمرت عمد إليها عرقوب فجزها ولم يعط أخاه شيئا، فصارت مثلا سائرا في الخلف. قال الأعشى:

اليمين الغموس

وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب اليمين الغموس منه قولهم: جذّها جذّ العير الصّليانة «1» . وذلك أن العير ربما اقتلع الصّليانة إذا ارتعاها. ومنه الحديث المرفوع: اليمين الغموس تدع الدّيار بلاقع. قال أبو عبيد: اليمين الغموس هي المصبورة «2» التي يوقف عليها الرجل فيحلف بها؛ وسميت غموسا لغمسها حالفها في المأثم. ومنه قولهم: اليمين حنث أو مندمة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله. أمثال الرجال واختلاف نعوتهم في الرجل المبرّز في الفضل قولهم: ما يشقّ غباره، وأصله السابق من الخيل. وقولهم: جري المذكي حسرت «3» عنه الحمر، أي كما يسبق الفرس القارح الحمر. وقولهم: جري المذكّيات غلاء «4» أو غلاب «5» . وقولهم: ليست له همّة دون الغاية القصوى. الرجل النبيه الذكر قولهم: ما يحجر فلان في العكم: الجوالق، يريد أنه لا يخفي مكانه. وقولهم: ما يوم حليمة بسر وكانت فيه وقعة مشهورة قتل فيها المنذر بن ماء السماء، فضربت مثلا لكل أمر مشهور.

الرجل العزيز يعز به الدليل

وقولهم: أشهر من أبلق «1» . وقولهم: وهل يخفى على الناس النهار. ومثله: وهل يخفى على الناظر الصبح. وقولهم: وهل يجهل فلانا إلا من يجهل القمر. الرجل العزيز يعز به الدليل منه قولهم: إنّ البغاث بأرضنا تستنسر. البغاث؛ صغار الطير، تستنسر: تصير نسورا. وقولهم: لا حر بوادي عوف. يريدون عوف بن محلّم الشيباني، وكان منيعا. وقولهم: تمرّد مارد وعزّ الأبلق. مارد: حصن بدومة الجندل، والأبلق: حصن السموأل. وقولهم: من عزّ بزّ «2» ، ومن قلّ ذلّ. ومن أمر فلّ «3» . أمر: كثر. الرجل الصعب منه قولهم: فلان ألوى بعيد المستمرّ. وقولهم: ما بللت منه بأفوق ناصل. وأصله السهم المكسور الفوق الساقط النصل، يقول: فهذا ليس كذلك. وقولهم: ما يقعقع «4» لي بالشنان «5» . وقولهم: ما يصطلى بناره. وقولهم: ما تقرن به الصّعبة «6» .

النجد يلقى قرنه

النجد يلقى قرنه منه قولهم: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا والحديد بالحديد يفلح. والفلح: الشق. ولا يفل الحديد إلا الحديد. والنّبع يقرع بعضه بعضا. ورمي فلان بحجره، أي قرن بمثله. الأريب الداهي هو هتر «1» أهتار، وصلّ أصلال. أصله من الحيات، شبه الرجل بها. ومثله: حية ذكر، وحية واد. وقولهم: هو عضلة «2» من العضل. وهو باقعة «3» من البواقع. وحوّل قلّب. ومؤدم مبشر. يقول: فيه لين الأدمة، وخشونة البشرة. وفلان يعلم من حيث تؤكل الكتف. التنبيه بلا منظر ولا سابقة قال أبو عبيد: هو الذي تسميه العرب الخارجيّ، يريدون: خرج من غير أولية كانت له، قال الشاعر: ألا يامرو لست بخارجيّ ... وليس قديم مجدك بانتحال وقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وهو تصغير رجل منسوب إلى معد. وقالوا: نفس عصام سوّدت عصاما

الرجل العالم النحرير

الرجل العالم النحرير قالوا: إنه لنقّاب. وهو الفطن الذكيّ. وقالوا: إنه لعض. وهو العالم النّحرير. وقولهم: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجّب. قال الأصمعي: الجذيل: تصغير الجذل، وهو عود ينصب للإبل الجرباء، لتحتك به من الجرب، فأراد أن يشفى برأيه. والعذيق: تصغير عذق، والعذق- بالفتح- النخلة نفسها، فإذا مالت النخلة الكريمة بنوا من جانبها المائل بناء مرتفعا يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب، وصغرهما للمدح. ومثله قولهم: إنه لجذل حكاك. ومنه قولهم: عنيّته تشفى الجرب. والعنية: شيء تعالج به الإبل إذا جربت. وقولهم: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وأول من قرعت له العصا سعد بن مالك الكناني، ثم قرعت لعامر بن الظرب العدواني، وكان حكم في الجاهلية فكبر حتى أنكر عقله، فقال لبنيه: إذا أنا زغت «1» فقوموني. كان إذا زاغ قرعت له العصا، فينزع عن ذلك. ومنه قولهم: إنه لألمعيّ. وهو الذي يصيب بالظن. وقولهم: ما حككت قرحة إلا أدميتها. وقولهم: الأمور تشابه مقبلة وتظهر مدبرة. ولا يعرفها مقبلة إلا العالم النّحرير «2» ، فإذا أدبرت عرفها الجاهل والعالم. الرجل المجرب منه قولهم: إنه لشراب بأنقع «3» . أي معاود للخير والشر.

الذب عن الحرم

وقولهم: إنه لخرّاج ولّاج. وقولهم: حلب الدّهر أشطره. وشرب أفاويقه. أي اختبر من الدهر خيره وشره. فالشطر هو شطر الحلبة. والفيقة: ما بين الحلبتين. وقولهم: رجل منجّذ. وهو المجرب، وأصله من النواجذ؛ يقال: قد عضّ على ناجذه، إذا استحكم. وقولهم: أوّل الغزو أخرق. وقولهم: لا تعدو إلا بغلام وقد غذا. وقولهم: زاحم بعود أو دع. وقولهم: العوان «1» لا تعلّم الخمرة. وقالت العامة: الشارف «2» لا يصفّر له. الذب «3» عن الحرم قالوا: الفحل يحمي شوله. والخيل تجري على مساويها. يقول: إن الخيل وإن كانت لها عيوب فإن كرمها يحملها على الجرى. وقولهم: النساء لحم على وضم «4» إلا ما ذبّ عنه. وقولهم: النساء حبائل الشيطان. وقولهم: كلّ ذات صدار «5» خالة. يريد أنه يحميها كما يحمي خالته. الصلة والقطيعة منه قولهم: لا خير لك فيمن لا يرى لك ما يرى لنفسه. وقولهم: إنما يضنّ بالضّنين. وقولهم: خلّ سبيل من وهي سقاؤه.

الرجل يأخذ حقه قسرا

وقولهم: ألق حبله على غاربه. وقولهم: لو كرهتني يدي قطعتها. الرجل يأخذ حقه قسرا منه قولهم: يركب الصّعب من لا ذلول له. وقولهم: مجاهرة إذا لم أجد مختلا. يقول: آخذ حقي قسرا علانية إذا لم أصل إليه بالستر والعافية. وقولهم: حلبتها بالسّاعد الأشدّ. يقول: أخذتها بالقوّة والشدّة إذا لم أقدر عليها بالرفق. وقولهم: التجلّد خير من التبلّد، والمنيّة خير من الدّنيّة، ومن عزّ برّ. الإطراق حتى تصاب الفرصة منه قولهم: مخرنبق لينباع. مخرنبق: مطرق. لينباع: لينبعث. يقول: سكت حتى يصيب فرصته فيثب عليها. وقولهم: تحسبها حمقاء وهي باخس. وقولهم: خيره في صدره. وقولهم: أحمق بلغ. يقول: مع حمقه يدرك حاجته الرجل الجلد المصحح أطرّي فإنك ناعلة. أصله أن رجلا قال لراعية له كانت ترعى في السهولة وتترك الحزونة، فقال لها: أطرّي. أي: خذي طرر الوادي. وهي نواحيه. فإنك ناعلة. يريد: فإن عليك نعلين. وقولهم: به داء ظبي. معناه أنه ليس بالظبي داء وقالوا: الشجاع موقّى.

الذل بعد العز

الذل بعد العز منه قولهم: كان جملا فاستنوق. أي صار ناقة. وقولهم: كان حمارا فاستأتن. أي صار أتانا. وقولهم: الحور «1» بعد الكور» . وقولهم: ذل لو أجد ناصرا. أصله أن الحارث بن أبي شمر الغساني، سأل أنس بن أبي الحجير عن بعض الأمر، فأخبره؛ فلطمه الحارث، فقال أنس: ذل لو أجد ناصرا. فلطمه ثانية، فقال: لو نهيت الأولى لم تلطم الثانية. فذهبتا مثلين. الانتقال من ذل إلى عز منه قولهم: كنت كراعا فصرت ذراعا. وقولهم: كنت عنزا فاستتيست. وقولهم: كنت بغاثا «3» فاستنسرت. أي صرت نسرا. تأديب الكبير قالوا: ما أشدّ فطام الكبير. وقولهم: عود يقلّح. أي جمل مسنّ تنقى أسنانه. وقالوا: من العناء رياضة الهرم. قال الشاعر: وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم وقولهم: أعييتني بأشر «4» ، فكيف بدردر. يقول أعييتني وأنت شابة، فكيف إذا بدت درادرك، وهي مغارز الأسنان.

الذليل المستضعف

الذليل المستضعف منه قولهم: فلان لا يعوي، ولا ينبح من ضعفه. يقول: لا يتكلم بخير ولا شر. وقولهم: أهون مظلوم سقاء مروّب. وهو السقاء الذي يلفّ حتى يبلغ أوان المخض. وقالوا: أهون مظلوم عجوز معقومة. وقولهم: لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب. الذليل يستعين بأذل منه قالوا: عبد صريخه أمة. وقولهم: مثقل استعان بذقنه. وأصله: البعير يحمل عليه الحمل الثقيل فلا يقدر على النهوض به، فيعتمد على الأرض بذقنه. وقولهم: العبد من لا عبد له. الأحمق المائق قالوا: عدوّ الرجل حمقه، وصديقه عقله. وقولهم: خرقاء عيّابة. وهو الأحمق الذي يعيب الناس. وقالوا في الرجل إذا اشتدّ حمقه جدا: ثأطة مدّت بماء. الثأطة الحمأة، فإذا أصابها الماء ازدادت فسادا ورطوبة. الذي تعرض له الكرامة فيختار الهوان منه قولهم: تجنّب روضة وأحال يعدو. يقول: ترك الخصب واختار الشقاء. وقولهم: لا يخلو مسك السوء من عرف السوء. يقول: لا يكن جلد رذل إلا والريح المنتنة موجودة فيه. ومنه قول العامة: قيل للشقيّ هلمّ إلى السعادة. قال: حسبي ما أنا فيه. ومنه قول العامة: إن الشقيّ بكلّ حبل يختنق وقولهم: لا يعدم الشقيّ مهيرا. أي لا يعدم الشقي رياضة مهر.

الرجل تريد إصلاحه وقد أعياك أبوه قبله

الرجل تريد إصلاحه وقد أعياك أبوه قبله منه قولهم: لا تقتن من كلب سوء جروا. وقال الشاعر: ترجو الوليد وقد أعياك والده ... وما رجاؤك بعد الوالد الولدا الواهن العزم الضعيف الرأي منه قولهم: ماله أكل ولا صيّور. أي ليس له رأي ولا قوّة. قال الأصمعي: طلب أعرابي ثوبا من تاجر، فقال: أعطني ثوبا له أكل. يعني قوة وحصافة «1» . ومنه قولهم: هو إمّعة. وهو إمّرة. قال أبو عبيد: هو الرجل الذي لا رأي له ولا عزم، فهو يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء، وكذلك الإمّرة، الذي يتابع كل أحد على أمره. ومنه قولهم: بنت الجبل. ومعناه الصدى يجيبك من الجبل، أي هو مع كل متكلم يجيبه بمثل كلامه. الذي يكون ضارا ولا نفع عنده منه قولهم: المغزى تبهى ولا تبنى. قال أبو عبيد: معناه أن المعزى لا تكون منها الأبنية، وهي بيوت الأعراب، وإنما تكون من وبر الإبل، وصوف الضأن، ولا تكون من الشعر، وربما صعدت المعزى إلى الخباء فخرقته، فذلك قولهم تبهى، يقال: أبهيت البيت، إذا خرقته، فإذا انخرق قيل بيت باه. الرجل يكون ذا منظر ولا خير فيه ومنه قولهم: ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل. وقال الحجاج لعبد الرحمن بن الأشعث: إنك لمنظراني. قال: نعم ومخبراني.

أمثال الجماعات وحالاتهم من اجتماع الناس وافتراقهم

أمثال الجماعات وحالاتهم من اجتماع الناس وافتراقهم قال الأصمعي: ويقال: لن يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا قال أبو عبيد: معناه أن الغالب على الناس الشر، والخير في القليل من الناس فإذا كان التساوي فإنما هو من الشر. ومن أشد العجائب قول القائل: سواسية كأسنان الحمار. ومنه قولهم: الناس سواء كأسنان المشط. وقولهم: الناس أشباه وشتى في الشيم «1» . وقولهم: الناس أخياف. أي مفترقون في أخلاقهم، وكلّهم يجمعه بيت الأدم. والأخيف من الخيل: الذي إحدى عينيه زرقاء، والأخرى كحلاء. ومنه قولهم: بيت الإسكاف فيه من كلّ جلد رقعة. المتساويان في الخير والشر هما كفرسي رهان. وكركبتي بعير. وهما زندان «2» في وعاء. وهذا في الخير وأما في الشر؛ فيقال: هما كحماري العباديّ. حين قال له: أيّ حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا. الفاضلان وأحدهما أفضل منه قولهم: مرعى ولا كالسّعدان «3» . وقولهم: ماء ولا كصدّاء: ركية ذات ماء عذب. وقولهم: فتى ولا كمالك «4» . وقولهم: في كلّ الشجر نار وآستمجد «5» المرخ والعفار «6» . وهما أكثر الشجر نارا.

الرجل يرى لنفسه فضلا على غيره

الرجل يرى لنفسه فضلا على غيره منه قولهم: كلّ مجر بالخلاء يسرّ. وأصله: الذي يجري فرسه في المكان الخالي فهو يسر بما يرى منه. المكافأة منه قولهم: سنة بتلك. وقولهم: أضىء لي، أقدح لك. أي كن لي أكن لك. وقولهم: اسق رقاش «1» سقاية. يقول: أحسنوا لها إنها محسنة. الأمثال في القربى التعاطف بين ذوي الأرحام قال الكلبي: منه قولهم: يا بعضي دع بعضا. وأصل هذا أن زرارة بن عدس زوّج ابنته من سويد بن ربيعة، فكان له منها تسعة بنين. وأن سويدا قتل أخا صغيرا لعمرو بن هند الملك وهرب ولم يقدر عليه ابن هند؛ فأرسل إلى زرارة أن ائتني بولده من ابنتك؛ فجاء بهم، فأمر عمرو بقتلهم، فتعلقوا بجدهم زرارة؛ فقال: يا بعضي دع بعضا. فذهبت مثلا. ومن أمثالهم في التحنن على الأقارب قولهم: لكن على بلدح «2» قوم عجفي. وقولهم: لكنّ بالاثلاث لحم لا يظلّل. وأصل هذا أن بيهسا الذي يلقّب بنعامة كان بين أهل بيته وبين قوم حرب، فقتلوا سبعة إخوة لبيهس وأسروا بيهسا، فلم يقتلوه وارتحلوا به، فنزلوا منزلا في سفرهم ونحروا جزورا في يوم شديد الحر، فقال بعضهم: ظللوا لحم جزوركم لئلا يفسد. فقال بيهس: لكن بالأثلاث لحم لا يظلل. يعني لحم إخوته القتلى. ثم ذكروا

حماية القريب وإن كان مبغضا

كثرة ما غنموا، فقال بيهس: لكن على بلدح قوم عجفي. ثم إنه أفلت، أو خلوا سبيله، فرجع إلى أمه، فقالت: أنجوت من بينهم؟ وكانت لا تحبه؛ فقال لها: لو خيّرت لاخترت فلما لم يكن لها ولد غيره رقت له وتعطفت عليه. فقال بيهس: الثّكل أرأمها «1» . فذهبت كلماته هذه الأربع كلها أمثالا. ومنه قولهم: لا يعدم الحوار «2» من أمّه حنّة. وقولهم: لا يضرّ الحوار ما وطئته أمّه. وقولهم: بأبي أوجه اليتامى. حماية القريب وإن كان مبغضا من ذلك قولهم: آكل لحمي ولا أدعه يؤكل. ومنه: لا تعدم من ابن عمّك نصرا. وقولهم: الحفائظ «3» تحلّل الأحقاد.. وقولهم في ابن العم: عدوّك وعدوّ عدوّك. وقولهم: كفّك منك وإن كانت شلاء. وقولهم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. إعجاب الرجل بأهله منه قولهم: كلّ فتاة بأبيها معجبة. وقولهم: القرنبى «4» في عين أمها حسنة. وقولهم: زيّن في عين والد ولده. وقولهم: حسن في كلّ عين من تودّ. وقولهم: من يمدح العروس إلّا أهلها.

تشبيه الرجل بأبيه

تشبيه الرجل بأبيه منه قولهم: من أشبه أباه فما ظلم. وقولهم: العصيّة من العصا. وقولهم: ما أشبه حجل الجبال بألوان صخرها. وقولهم: ما أشبه الحول «1» بالقبل «2» . وما أشبه الليلة بالبارحة. وقولهم: شنشنة «3» أعرفها من أخزم. يقال هذا في الولد إذا كان فيه طبيعة من أبيه. قال زهير: وهل ينبت الخطّيّ «4» إلا وشيجه «5» ... وتغرس إلّا في منابتها النخل ومنه قول العامة: لا تلد الذئبة إلّا ذئبا. وقولهم: حذو النعل بالنعل. وحذو القذّة بالقذّة، والقذة: الريشة من ريش السهم تحذى على صاحبتها. تحاسد الأقارب من ذلك قولهم: الأقارب هم العقارب. وقال عمر: تزاوروا ولا تجاوروا. وقال أكثم: تباعدوا في الدّيار تقاربوا في المحبة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي هريرة: زر غبّا «6» تزدد حبا. ومنه قولهم: فرّق بين معد تحابّ. يريد أن ذوي القربى إذا تدانوا تحاسدوا وتباغضوا.

قولهم في الأولاد

قولهم في الأولاد قالوا: من سرّه بنوه ساءته نفسه. أي من يرى فيهم ما يسره يرى في نفسه ما يسوءه. وقولهم: إنّ بنيّ صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيّون الولد الصيفي: الذي يولد للرجل وقد أسن. والربعى: الذي يولد له في عنفوان شبابه؛ أخذ من ولد البقرة الربعي والصيفي. ويقال للمرأة إذا تبنّت غير ولدها: ابنك من دمي عقبيك. الرجل يؤتى من حيث أمن قالوا: من مأمنه يؤتى الحذر. وقال عدّي بن زيد العبادي: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «1» قال الأصمعي: هذا من أشرف أمثال العرب. يقول: إن كل من شرق بالماء لا مستغاث له. وقال الآخر: كنت من كربتي «2» أفرّ إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار ومثله قول عباس بن الأحنف: قلبي إلى ما ضرّني داع ... يهيج أحزاني وأوجاعي كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي وقال آخر:

الأمثال في مكارم الأخلاق

من غصّ داوى بشرب الماء غصتّه ... فكيف يصنع من قد غص بالماء الأمثال في مكارم الأخلاق الحلم قال أبو عبيد: من أمثالهم في الحلم: إذا نزا «1» بك الشّرّ فاقعد. أي فاحلم ولا تسارع إليه. ومنه قول الآخر: الحليم مطيّة الجهول. وقولهم: لا ينتصف حليم من جاهل. وقولهم: أخّر الشّرّ فإن شئت تعجّلته. وقولهم في الحليم: إنه لواقع الطّير، ولساكن الرّيح. وقولهم في الحلماء: كأنما على رءوسهم الطّير. ومنه قولهم: ربما أسمع فأذر. وقولهم: حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء. العفو عند المقدرة منه قولهم: ملكت فأسجح. وقد قالته عائشة رضوان الله عليها لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوم الجمل حين ظهر على الناس فدنا من هودجها وكلّمها فأجابته ملكت فأسجح. أي ظفرت فأحسن. فجهزها بأحسن الجهاز. وبعث معها أربعين امرأة- وقال بعضهم: سبعين- حتى قدمت المدينة. ومنه قولهم: إن المقدرة تذهب الحفيظة. وقولهم: إذا ارجحنّ شاصيا فارفع يدا. يقول: إذا رأيته قد خضع واستكان فاكفف عنه. والشاصي: الرافع رجله.

المساعدة وترك الخلاف

المساعدة وترك الخلاف من ذلك قولهم إذا عز أخوك فهن. وقولهم: لولا الوئام هلك اللّئام. الوئام: المباهاة. يقول: لولا المباهاة لم يفعل الناس خيرا. مداراة الناس قالوا: إذا لم تغلب فاخلب. يقول: إذا لم تغلب فاخدع ودار وألطف. وقولهم: إلّا حظيّة فلا أليّة. معناه: إن لم يكن حظوة فلا تقصير. وألا يألوا، ويأتلي: أي يقصّر. ومنه قول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ «1» . وقولهم: سوء الاستمساك خير من حسن الصّرعة. ومنه قول أبي الدرداء: إنّا لنبشّ في وجوه قوم وإنّ قلوبنا لتلعنهم. ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «شرار النّاس من داراه الناس لشرّه» . ومنه قول شبيب بن شيبة في خالد بن صفوان: ليس له صديق في السّرّ ولا عدو في العلانية. يريد أن الناس يدارونه لشرّه، وقلوب الناس تبغضه. مفاكهة «2» الرجل أهله منه قولهم: كلّ امريء في بيته صبي. يريد حسن الخلق والمفاكهة. ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنّا إذا خلونا قلنا. ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «خياركم خيركم لأهله» . ومنه قول معاوية: انهنّ يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام.

اكتساب الحمد واجتناب الذم

اكتساب الحمد واجتناب الذم قالوا: الحمد مغنم والذّمّ مغرم. وقولهم: إن قليل الذّمّ غير قليل. وقولهم: إنّ خيرا من الخير فاعله، وإنّ شرا من الشرّ فاعله. وقولهم: الخير يبقى وإن طال الزّمان به ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد «1» الصبر على المصائب من ذلك قولهم: هوّن عليك ولا تولع بإشفاق وقولهم: من أراد طول البقاء فليوطّن «2» نفسه على المصائب. وقولهم: المصيبة للصّابر واحدة وللجازع اثنتان. وقال أكثم بن صيفي: حيلة من لا حيلة له الصّبر. وذكروا عن بعض الحكماء أنه أصيب بابن له، فبكى حولا ثم سلا، فقيل له: مالك لا تبكي؟ قال: كان جرحا فبريء. قال أبو خراش الهذلي: بلى إنها تعفو الكلوم «3» وإنما ... توكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي ومنه قولهم: لا تلهّف على ما فات. الحض على الكرم منه قولهم: اصطناع المعروف يقي مصارع السوء. وقولهم: الجود محبّة والبخل مبغضة.

الكريم لا يجد

وقول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس الكريم لا يجد منه قولهم: بيتي يبخل لا أنا. وقولهم: بالساعد تبطش الكفّ. وقولهم: ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد وقال آخر: يرى المرء أحيانا إذا قلّ ماله ... من الخير تارات ولا يستطيعها متى ما يرمها قصّر الفقر كفّه ... فيضعف عنها والغنيّ يضيعها القناعة والدعة منه قولهم: وحسبك من غنى شبع وريّ وقولهم: يكفيك ما بلّغك المحلّ. وقال الشاعر: من شاء أن يكثر أو يقلّا ... يكفيه ما بلّغه المحلّا الصبر على المكاره تحمده العواقب قالوا: عواقب المكاره محمودة. وقالوا: عند الصباح يحمد القوم السّرى «1» .

الانتفاع بالمال

وقولهم: لا تدرك الراحة إلا بالتعب. أخذه حبيب فقال: على أنني لم أحو مالا مجمّعا ... ففزت به إلا بشمل مبدّد ولم تعطني الأيام نوما مسكّنا ... ألذّ به إلا بنوم مشرّد وأحسن منه قوله أيضا: بصرت بالراحة العليا فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التعب الانتفاع بالمال قالوا: خير مالك ما نفعك، ولم يضع من مالك ما وعظك. ونظر ابن عباس إلى درهم بيد رجل، فقال: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. وقولهم: تقتير المرء على نفسه توفير منه على غيره. قال الشاعر: أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك المتصافيان منه قولهم: هما كندماني جذيمة. قال الكلبي: هو جذيمة الأبرش الملك، ونديماه رجلان من بلقين يقال لهما: مالك، وعقيل. بلقين: يريد من بني القين. وقولهم: وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان ومنه قولهم: هما أطول صحبة من ابني شمام. وهما جبلان. خاصة الرجل منه قولهم: عيبة الرجل. يريدون خاصته وموضع سره. ومنه الحديث في خزاعة: كانوا عيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. مؤمنهم وكافرهم.

من يكسب له غيره

من يكسب له غيره منه قولهم: ليس عليك غزله فاسحب وجر. وقولهم: ربّ ساع لقاعد. وقولهم: خير المال عين ساهرة لعين نائمة. المروءة مع الحاجة منه قولهم: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. وقولهم: شرّ الفقر الخضوع، وخير الغنى القناعة. ومنه الحديث المرفوع: «أجملوا في الطّلب» . قال الشاعر: فإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعا وتجمّل «1» ومنه قول هدبة العذري: ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب ولا أتمنى الشر والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب المال عند من لا يستحقه منه قولهم: خرقاء وجدت صوفا. عبد ملك عبدا فأولاه تبّا» . وقولهم: من يطل ذيله يتمنطق به. ومرعى ولا أكولة «3» . وعشب ولا بعير. يعني مال ولا منفق. الحض على الكسب منه قولهم: اطلب تظفر. وقولهم: من عجز عن زاده اتّكل على زاد غيره.

الخبير بالأمر البصير به

وقولهم: من العجز نتجت الفاقة. وقولهم: لا يفترس الليث الظبي وهو رابض. وقول العامة: كلب طواف خير من أسد رابض. وقولهم: أوردها سعد وسعد مشتمل ... يا سعد لا تروى على ذاك الإبل «1» الخبير بالأمر البصير به منه قولهم: على الخبير سقطت. وقولهم: كفى قوما بصاحبهم خبيرا. وقولهم: لكل أناس في جملهم خبر. وقولهم: على يديّ دار الحديث. وقولهم: تعلّمني بضبّ أنا حرشته «2» . يقول: أتخبرني بأمر أنا وليته. وقولهم: ولّ القوس باريها. وقولهم: الخيل أعلم بفرسانها. وقولهم: كل قوم أعلم بصناعتهم. وقولهم: قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها. الاستخبار عن علم الشيء وتيقنه من ذلك قولهم: ما وراءك يا عصام. أول من تكلم به النابغة الذبياني لعصام صاحب النعمان، وكان النعماني مريضا فكان إذا لقيه النابغة قال له: ما وراءك يا عصام؟ وقولهم: سيأتيك بالاخبار من لم تزوّد

انتحال العلم بغير آلته

وقولهم: إليك يساق الحديث. انتحال العلم بغير آلته منه قولهم: لكالحادي وليس له بعير. وقال الحطيئة: لكالماشي وليس له حذاء وقولهم: إنباض «1» بغير توتير «2» . وكقابض على الماء. أخذه الشاعر فقال: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع وخرقاء ذات نيقة «3» . يضرب للرجل الجاهل بأمر يدّعي معرفته. من يوصي غيره وينسى نفسه يا طبيب طبّ لنفسك. ومنه: لا تعظيني وتعظعظي «4» . أي: لا توصيني وأوصي نفسك. الأخذ في الأمور بالاحتياط منه قولهم: أن ترد الماء بماء أكيس. وقول العامة: لا تصبّ ماء حتى تجد ماء. وقولهم: عش ولا تغترّ. يقول: عش إبلك، ولا تغتر بما تقدم عليه. ويروى عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير أن رجلا أتاهم، فقال: كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع الإيمان تقصير. فكلهم قال: عش ولا تغترّ.

الاستعداد للأمر قبل نزوله

وقولهم: ليس بأوّل من غرّه السّراب. وقولهم: اشتر لنفسك وللسّوق. ومنه الحديث المرفوع عن الرجل الذي قال: أرسل ناقتي وأتوكل. قال: «اعقلها وتوكّل» . الاستعداد للأمر قبل نزوله منه قولهم: قبل الرمي يراش السهم. وقولهم: قبل الرّماية تملأ الكنائن «1» . وقولهم: خذ الأمر بقوابله. أي: باستقباله قبل أن يدبر. وقولهم: شرّ الرّأي الدبريّ «2» . وقولهم: المحاجزة قبل المناجزة. وقولهم: التقدم قبل التندّم. وقولهم: يا عاقد اذكر حلّا. وقولهم: خير الأمور أحمدها مغبّة. وقولهم: ليس للدهر بصاحب. من لم ينظر في العواقب. طلب العافية بمسالمة الناس قولهم: من سلك الجدد «3» أمن العثار. واحذر تسلم. ومنه قولهم: جرّ له الخطير ما انجرّ لك. الخطير: زمام الناقة. ومنه قولهم: لا تكن أدنى العيرين إلى السهم. يقول: لا تكن أدنى أصحابك إلى موضع التلف، وكن ناحية أو وسطا. قال كعب: إنّ لكل قوم كلبا فلا تكن كلب أصحابك. وتقول العامة: لا تكن لسان قوم.

توسط الأمور

توسط الأمور من ذلك قولهم: لا تكن حلوا فتسترط، ولا مرا فتعقى. أي تلفظ. يقال: أعقي الشيء، إذا اشتدّت مرارته. قال الشاعر ولا تك آنيا حلوا فتحسى ... ولا مرا فتنشب في الحلاق وتقول العامة: لا تكن حلوا فتؤكل، ولا مرا فتلفظ. وتوسّط الأمور أدنى إلى السلامة. ومنه قول مطرّف بن عبد الله بن الشخّير: الحسنة بين السيئتين. وخير الأمور أوساطها، وشرّ السير الحقحقة «1» . قوله: بين السيئتين؛ يريد بين المجاوزة والتقصير. ومنه قولهم: بين الممخّة «2» والعجفاء، يريد بين السمين والمهزول. ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير الناس هذا النّمط الأوسط، يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي. الإنابة بعد الإجرام منه قولهم: أقصر لمّا أبصر. ومنه: أتبع السيئة الحسنة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والندم توبة، والاعتراف يهدم الاقتراف. مدافعة الرجل عن نفسه جاحس فلان عن خيط رقبته. وخيط الرقبة: النخاع، يقول: دافع عن دمه ومهجته. وقالت العامة: وأيّة نفس بعد نفسك تنفع

قولهم في الانفراد

ومنه: أدفع عن نفسي إذا لم يكن عنها دافع. قولهم في الانفراد الذئب خاليا أسد، يقول: إذا وجدك خاليا اجترأ عليك. ومنه الحديث المأثور: الوحيد شيطان. وفي الحديث الآخر: عليكم بالجماعة: فإن الذئب إنما يصيب من الغنم الشاردة. من ابتلى بشيء مرة مخافة أخرى منه الحديث المرفوع: لا يلسع المؤمن من جحر مرتين. يريد أنه إذا لسع مرة تحفظ أخرى. وقولهم: من لدغته الحية يفرق من الرّسن «1» . وقولهم: من يشتري سيفي وهذا أثره يضرب هذا المثل للذي قد اختبر وجرّب. وقولهم: كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع الوقع: الذي يمشي في الوقع، وهي الحجارة. قال أعرابي: يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع اتباع الهوى قال ابن عباس: ما ذكر الله الهوى في شيء إلا ذمه. قال الشّعبي: قيل له هوى؛ لأنه يهوى به.

الحذر من العطب

ومن أمثالهم فيه: حبّك الشيء يعمي ويصم. وقالوا: الهوى إله معبود. الحذر من العطب قالوا: إنّ السلامة منها ترك ما فيها. وقولهم: أعور عينك والحجر. وقولهم: الليل وأهضام الوادي. وأصله أن يسير الرجل ليلا في بطون الأودية. حذّره ذلك. وقولهم: دع خيرها لشرّها. وقولهم: لا تراهن على الصّعبة. وقولهم: أعذر من أنذر. حسن التدبير والنهي عن الخرق الرّفق يمن والخرق شؤم. وربّ أكلة تحرم أكلات. وقولهم: قلب الأمر ظهرا لبطن. وقولهم: ضرب وجه الأمر وعينه، وأجر الأمور على أذلالها. أي على وجوهها. وقولهم: وجّه الحجر وجهة ما له. وقولهم: ولي حارّها من ولي قارّها «1» . المشورة قالوا: أوّل الحزم المشورة. ومنه لا يهلك امرؤ عن مشورة. قال ابن المسيّب: ما استشرت في أمر واستخرت وأبالي على أيّ جنبيّ سقطت.

الجد في طلب الحاجة

الجد في طلب الحاجة أبل عذرا وخلاك ذمّ. يقول: إنما عليك أن تجتهد في الطلب وتعذر، لكيلا تذم فيها وإن لم تكن تقضى الحاجة. ومنه: هذا أوان الشّدّ فاشتدّي زيم «1» وقولهم: درّب عليه جروتك. أي وطّن عليه نفسك. ومنه اجمع عليه جراميزك «2» ، واشدد له حيازيمك «3» . وقولهم: شمّر ذيلا، وادّرع ليلا. ومنه: ايت به من حسّك وبسّك «4» . ومنه قول العامة: جيء به من حيث أيس وليس. والأيس: الموجود. والليس: المعدوم. التأني في الأمر من ذلك قولهم: ربّ عجلة تعقب ريثا. وقولهم: المنبتّ «5» لا أرضا قطع ولا ظهرا «6» أبقى. وقال القطامي: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل ومنه: ضحّ رويدا. أي لا تعجل. والرّشف أنقع. أي أروى يقال: شرب حتى نقع. ومنه: لا يرسل السّاق إلا ممسكا ساقا.

سوء الجوار

سوء الجوار ومنه قولهم: لا ينفعك من جار سوء توقّ، والجار السوء قطعة من نار. ومنه: هذا أحقّ منزل بترك. ومنه قولهم: الجار قبل الدار، الرفيق قبل الطريق. ومنه قولهم: بعت جاري ولم أبع داري. يقول: كنت راغبا في الدار، إلا أني بعتها بسبب الجار السوء. سوء المرافقة أنت تئق وأنا مئق فمتى نتّفق. التئق: السريع الشر. والمئق: السريع البكاء؛ وقال: الممتلىء من الغضب. والتئق والمئق مهموزان. وقولهم: ما يجمع بين الأروى «1» والنّعام. يريد أن مسكن الأروى الجبل ومسكن النعام الرمل. والأروى، جمع أرويّة. ومنه: لا يجتمع السّيفان في غمد. ومنه: لا يلطاط هذا بصفري. أي لا يلصق بقلبي. العادة قالوا: العادة أملك من الأدب. وقالوا: عادة السّوء شرّ من المغرم. وقالوا: أعط العبد ذراعا يطلب باعا. ترك العادة والرجوع إليها منه قولهم: عاد فلان في حافرته. أي في طريقته. ومنه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ «2» . ومنه: رجع فلان على قروائه «3» . ومنه الحديث: «لا ترجع هذه الأمّة عن قروائها» .

اشتغال الرجل بما يعنيه

اشتغال الرجل بما يعنيه منه: كلّ امريء في شأنه ساع. وقولهم: همّك ما أهمّك. همّك ما أدأنك. وقولهم: ولي حارّها من تولّى قارّها. قلة الاكتراث منه قولهم: ما أباليه بالة، اسمح يسمح لك. وسئل ابن عباس عن الوضوء من اللبن؟ فقال: ما أباليه بالة. وقولهم: الكلاب على البقر. يقول: خلّ الكلاب وبقر الوحش. قلة اهتمام الرجل بصاحبه هان على الأملس «1» ما لاقى الدّبر «2» . وقولهم: ما يلقى الشّجيّ من الخليّ. قال أبو زيد. الشجي مخفف، والخلى: مشدد. ومنه قول العامة: هان على الصّحيح أن يقول للمريض: لا بأس عليك. الجشع والطمع منه قولهم: تقطّع أعناق الرّجال المطامع. ومنه قولهم: غثّك خير لك من سمين غيرك. وقولهم: المسألة. خموش «3» في وجه صاحبها. وقال أبو الأسود في رجل دنيء: إذا سئل أرز «4» وإذا دعي انتهز. ومنه قول عون بن عبد الله: إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف.

الشره للطعام

الشره للطعام منه قولهم: وحمى ولا حبل. أي لا يذكر شيء إلا اشتهاه، كشهوة الحبلى وهي الوحمى. ومنه: المرء توّاق إلى ما لم ينل. وقولهم: يبعث الكلاب على مرابضها. أي يطردها طمعا أن يجد شيئا يأكله من تحتها. ومنه قولهم: أراد أن يأكل بيدين. ومنه الحديث المرفوع: «الرّغبة شؤم» . الغلط في القياس مثل قولهم: ليس قطا مثل قطيّ. «1» وقال ابن الأسلت: ليس قطا مثل قطيّ ولا ... المرعيّ في الأقوام كالراعي ومنه قولهم: مذكّية تقاس بالجذاع. يضرب لمن يقيس الكبير بالصغير والمذكية هي المسنة من الخيل. وضع الشيء في غير موضعه منه: كمستبضع «2» التّمر إلى هجر، وهجر: معدن التمر. قال الشاعر: فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أهل خيبر ومنه قولهم: كمعلّمة أمها الرّضاعا. ومنه الحديث المرفوع: «ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» .

كفران النعمة

وفيمن وضع الشيء في غير موضعه: ظلم من استرعى الذّئب الغنم. وقال ابن هرمة: كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا يصف النعامة التي تحضن بيض غيرها وتضيع بيضها. كفران النعمة منه: سمّن كلبك يأكلك. أحشّك وتروثني. قال في مخاطبة فرسه: أأعلفك الحشيش وتروثي عليّ. ومنه قول الآخر: أعلّمه الرّماية كلّ يوم ... فلما اشتدّ ساعده رماني. التبذير منه قولهم: لا ماءك أبقيت، ولا درنك أنقيت «1» . وقولهم: لا أبوك نشر ولا التّراب نفذ. أصل هذا المثل لرجل قال: ليتني أعرف قبر أبي حتى آخذ من ترابه على رأسي. التهمة منه قولهم: عسى الغوير أبؤسا. والأبؤس جمع بأس، قال ابن الكلبي: الغوير؛ ماء معروف لكلب. وهذا مثل تكلمت به الزباء، وذلك أنها وجهت قصيرا للخمي بالعير ليجلب لها من بزّ العراق، وكان يطلبها بدم جذيمة الأبرش، فجعل الأحمال صناديق، وجعل في كل صندوق رجلا معه السلاح، ثم تنكب بهم الطريق وأخذ على الغوير فسألت عن خبره، فأخبرت بذلك، فقالت: عسى الغوير أبؤسا. تقول عسى أن يأتي الغوير بشر، واستنكرت أخذه على غير الطريق ومنه: سقطت به النّصيحة على الظّنّة، أي نصحته فاتهمك. ومنه: لا تنقش «2» الشّوكة بمثلها، فإن ضلعها معها. يقول: لا تستعن في حاجتك

تأخير الشيء وقت الحاجة إليه

بمن هو للمطلوب منه الحاجة أنصح منه لك. تأخير الشيء وقت الحاجة إليه منه: لا عطر بعد عروس، وأصل هذا أن عروسا أهديت فوجدها الرجل نفلة» ، فقال لها: أين الطيب؟ قالت: ادخرته. قال: لا عطر بعد عروس. وقولهم: لا بقاء للحميّة بعد الحرمة؛ يقول: إنما يحمي الإنسان حريمه، فإذا ذهب فلا حمية له. الإساءة قبل الإحسان منه: يسبق درّته غراره؛ الغرار: قلة اللبن. والدرة: كثرته. ويسبق سيله مطره. البخل ما عنده خير ولا مير «2» . سواء هو والعدم. والعدم والعدم، لغتان. ما بضّ حجره. والبض أقل السيلان. ما تبل إحدى يديه الأخرى. الجبن إنّ الجبان حتفه من فوقه، ومثله في القرآن: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ «3» . ومنه: كلّ أزب «4» نفور. وقفّ شعره. واقشعرّت ذؤابته. معناه: قام شعره من الفرع. وشرق بريقه. الجبان يواعد بما لا يفعل الصّدق ينبي عنك لا الوعيد. ينبي: يدفع عنك من ينبو. ومنه: أوسعتهم شتما وأودوا بالإبل.

الاستغناء بالحاضر عن الغائب

وقيل لأعرابي خاصم امرأته إلى السلطان: كبّها الله لوجهها. فقال: ولو أمر بي إلى السّجن. الاستغناء بالحاضر عن الغائب قولهم: إن ذهب عير «1» فعير في الرّباط «2» . ومنه: إذا غاب منها كوكب لاح كوكب وقولهم: رأس برأس وزيادة خمسمائة، قالها الفرزدق في رجل كان في جيش، فقال: من جاء برأس فله خمسمائة درهم: فبرز رجل وقتل رجلا من العدو، فأعطاه خمسمائة درهم؛ ثم برز ثانية، فقتل، فبكى عليه أهله، فقال لهم الفرزدق: أما ترضون رأسا برأس وزيادة خمسمائة؟ المقادير منه قولهم: المقادير تريك ما لا يخطر ببالك. وقولهم: إذا نزل القدر غشّى البصر. وإذا نزل الحين غطّى العين. ولا يغني حذر من قدر. من مأمنه يؤتى الحذر. وقولهم: وكيف توقّى ظهر ما أنت راكبه. الرجل يأتي إلى حتفه منه قولهم: أتتك بحائن رجلاه. لا تكن كالباحث عن المدية. وقولهم: حتفها تحمل ضأن بأظلافها.

ما يقال للجاني على نفسه

ما يقال للجاني على نفسه يداك أوكتا وفوك نفخ. وأصله أن رجلا نفخ زقّا وركبه في النهر، فانحل الوكاء وخرجت الريح وغرق الرجل. فاستغاث بأعرابي على ضفة النهر، فقال: يداك أوكتا وفوك نفخ. جالب الشر إلى أهله منه قولهم: دلّت على أهلها براقش. وبراقش كلبة لحي من العرب مرّ بهم جيش ليلا ولم ينتبهوا لهم، فنبحت براقش فدلت عليهم. وقالوا: كانت عليهم كراغبة البكر. يعنون ناقة ثمود. وقال الأخطل: ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حيّة البحر تصرف الدهر منه قولهم: مرة عيش ومرّة جيش. ومنه: اليوم خمر وغدا أمر: قاله امرؤ القيس، أو مهلهل أخو كليب، لما أتاه موت أخيه وهو يشرب. وقالوا: عش رجبا تر عجبا. وقالوا: أتى الأبد على لبد «1» . وقال الشاعر: فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسرّ وقولهم: من يجتمع تتقعقع عمده. وأنشد: أجارتنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق

الأمر الشديد المعضل

الأمر الشديد المعضل منه قولهم: أظلم عليه يومه، وأين يضع المخنوق يده. ومنه قولهم: لو كان ذا حيلة لتحوّل. ومنه قولهم: رأى الكوكب ظهرا. قال طرفة: وتريه النّجم يهوي بالظّهر هلاك القوم منه قولهم: طارت بهم العنقاء. وطارت بهم عقاب ملاع. يقال ذلك في الواحد والجمع. وأحسبها معدولة عن مليع «1» . والمنايا على الحوايا. قال أبو عبيد: يقال إن الحوايا في هذا الموضع مركب من مراكب النساء، واحدتها حويّة، وأحسب أصلها أنّ قوما قتلوا، فحملوا على الحوايا، فظنّ الراءون أنّ فيها نساء، فلما كشفوا عنها أبصروا القتلى، فقالوا ذلك؛ فصارت مثلا. ومنه: أتتهم الدّهيم ترمي بالرّضف «2» . معناه الداهية العظيمة. وهذا أمر لا ينادى وليده. معناه أن الأمر اشتد حتى ذهلت المرأة أن تدعو وليدها. ومنه: التقت حلقتا البطان «3» . وبلغ السيل الزّبى. وجاوز الحزام الطببين. وتقول العامة: بلغ السّكّين العظم. إصلاح ما لا صلاح له منه قولهم: كدابغة وقد حلم الأديم

صفة العدو

حلم: فسد. وكتب الوليد بن عقبة إلى معاوية بهذا البيت: فإنك والكتاب إلى عليّ ... كدابغة وقد حلم الأديم في شعر له. صفة العدوّ يقال في العدوّ: هو أزرق العين. وإن لم يكن أزرق. وهو أسود الكبد. وأصهب السّبال «1» . البخيل يعتل بالعسر منه قولهم: قبل البكاء كان وجهك عابسا. ومنه: قبل النفاس كنت مصفرّة. اغتنام ما يعطي البخيل وإن قل منه: خذ من الرّضفة «2» ما عليها. وخذ من جذع ما أعطاك. قال ابن الكلبي: وأصل هذا المثل أنّ غسان كانت تؤدّي إلى ملوك سليح دينارين كل سنة عن كل رجل، وكان الذي يلي ذلك سبطة بن المنذر السّليحي. فجاء سبطة إلى جذع بن عمرو الغّساني يسأله الدينارين. فدخل جذع منزله واشتمل على سيفه، ثم خرج فضرب به سبطة حتى سكت، ثم قال له: خذ من جذع ما أعطاك! فامتنعت غسّان من الدينارين بعد ذلك، وصار الملك لها حتى أتى الإسلام. البخيل يمنع غيره ويجود على نفسه منه قولهم: سمنكم هريق في أديمكم. ومنه: يا مهدي المال كل ما أهديت.

موت البخيل وماله وافر

ومنه قول العامة: الحمار جلبه والجمار أكله. موت البخيل وماله وافر منه: مات فلان عريض البطان «1» . ومات ببطنته لم يتغضغض منها شيء. والتغضغض: النقصان. البخيل يعطي مرة منه قولهم: ما كانت عطيّته إلا بيضة العقر. وهي بيضة الديك. قال الزبيري: الدّيك ربما باض بيضة. وأنشد لبشار: قد زرتني زورة في الدهر واحدة ... ثنّي ولا تجعليها بيضة الدّيك ومنه قول الشاعر: لا تعجبنّ لخير زل من يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا ومنه قولهم: من الخواطىء سهم صائب. والليل طويل وأنت مقمر. وأصل هذا أنّ سليك بن سلكة، كان نائما مشتملا، فجثم رجل على صدره. وقال له: استأسر. فقال له: الليل طويل وأنت مقمر. ثم قال له: استأسر يا خبيث. فضمه ضمة ضرط منها، فقال له: أضرطا وأنت الأعلى. فذهبت أيضا مثلا. طلب الحاجة المتعذّرة منه قولهم: تسألني برامتين «2» سلجما. وأصله أن امرأة تشهّت على زوجها سلجما وهو ببلد قفر، فقال هذه المقالة؛ والسلجم: اللفت.

الرضا بالبعض دون الكل

ومنه: شر ما نال امرؤ ما لم ينل. ومنه: السائل فوق حقّه مستحقّ الحرمان. ومنه قولهم: إنك إن كلّفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرّك مني من خلق الرضا بالبعض دون الكل منه: قد يركب الصّعب من لا ذلول له. وقولهم: خذ من جذع ما أعطاك. وقولهم: خذ ما طفّ لك. أي ارض بما أمكنك. ومنه قولهم: زوج من عود خير من قعود. وقولهم: ليس الرّيّ [عن] التّشافّ. أي ليس يروي الشارب بشرب الشفافة كلها، وهي بقية الماء في الإناء، ولكنه يروي قبل بلوغ ذلك. وقولهم: لم يحرم من فصد له. ومعناه أنهم كانوا إذا لم يقدروا على قرى الضيف فصدوا له بعيرا وعالجوا دمه بشيء حتى يمكن أن يأكله. ومنه قول العامة: إذا لم يكن شحم فنفس. أصل هذا أن امرأة لبست ثيابا، ثم مشت وأظهرت البهر في مشيتها بارتفاع نفسها، فلقيها رجل، فقال لها: إني أعرفك مهزولة، فمن أين هذا النفس؟ قالت: إن لم يكن شحم فنفس، وقال ابن هانىء: قال لي: ترضى بوعد كاذب ... قلت إن لم يك شحم فنفس التنوّق في الحاجة منه قولهم: فعلت فيها فعل من طبّ لمن حبّ. ومنه قولهم: جاء تضبّ لثاته على الحاجة. معناه لشدة حرصه عليها. وقال بشر بن أبي حازم:

استتمام الحاجة

خيل تضبّ لثاتها للمغنم «1» استتمام الحاجة أتبع الفرس لجامها. يريد أنك قد جدت بالفرس واللجام أيسر خطبا. فأتمّ الحاجة. ومنه: تمام الرّبيع الصّيف. وأصله في المطر؛ فالربيع أوله، والصيف آخره. المصانعة في الحاجة من يطلب الحسناء يعط مهرها. وقولهم: المصانعة تيسّر الحاجة، ومن اشترى فقد اشتوى. يقول: من اشترى لحما فقد أكل شواء. تعجيل الحاجة قولهم: السّراج من النّجاح، والنّفس مولعة بحبّ العاجل. الحاجة تمكن من وجهين منه قولهم: كلا جانبي هرشى لهنّ طريق. هرشى: عقبة. ومنه: هو على حبل ذراعك. أي لا يخالفك. من منع حاجة فطلب أخرى منه قولهم: إلّاده فلاده. قال ابن الكلبي: معناه أنّ كاهنا تقاضى إليه رجلان من العرب. فقالا: أخبرنا في أي شيء جئناك؟ قال: في كذا وكذا. قالا: إلّاده. أي انظر غير هذا النظر. قال: إلّاده فلاده. ثم أخبرهما بها. قال الأصمعي: معناه إن لم يكن هذا الآن فلا يكون بعد الآن.

الحاجة يحول دونها حائل

الحاجة يحول دونها حائل منه قولهم: قد علقت دلوك دلو أخرى. وقولهم: الأمر يحدث دونه الأمر. وقولهم: أخلف رويعيا «1» مظنّه «2» . وأصله أن راعيا اعتاد مكانا، فجاء يرعاه، فوجده قد تغير وحال عن عهده. ومنه قولهم: سدّ ابن بيض الطريق سدّا. وابن بيض: رجل عقر ناقة في رأس ثنية فسدّ بها الطريق. اليأس والخيبة منه قولهم: من لي بالسانح بعد البارح. أي من لي باليمن بعد الشؤم. وقولهم: جاء بخفّي حنين. وقد فسرناه في الكتاب الذي قبل هذا. ومنه: أطال الغيبة وجاء بالخيبة. ونظير هذا قولهم: سكت ألفا ونطق خلفا. أي أطال السكوت وتكلم بالقبيح، وهذا المثل يقع في باب العيّ، وله هاهنا وجه أيضا. وقال الشاعر: وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين وأدّرع الخوف تحت الدّجى ... وأستصحب النّسر والفرقدين «3» وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفّي حنين طلب الحاجة في غير موضعها قالوا: لم أجد لشفرتي محزا «4» . وقولهم: كدمت غير مكدم «5» .

طلب الحاجة بعد فوتها

وقولهم: نفخت لو تنفخ في فحم. وقالت العامة: يضرب في حديد بارد. طلب الحاجة بعد فوتها منه قولهم: لا تطلب أثرا بعد عين. وقولهم: الصّيف ضيّعت الّلبن. معناه أن الرجل إذا لم يطرق ماشيته في الصيف كان مضيّعا لألبانها عند الحاجة. الرضا من الحاجة بتركها منه قولهم: من نجا برأسه فقد ربح. وقولهم: رضيت من الغنيمة بالإياب «1» وقول العامة: الهزيمة مع السّلامة غنيمة. وقال امرؤ القيس: وقد طوّفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وقال آخر: الليل داج والكباش تنتطح ... فمن نجا برأسه فقد ربح من طلب الزيادة فانتقص منه: كطالب القرن [جدعت] أذنه. وقولهم: كطالب الصّيد في عرّيسة «2» الأسد. وقولهم: سقط العشاء بها على سرحان. يريد دابة خرجت تطلب العشاء فصادفت ذئبا.

الخلاء بالحاجة

ونظير هذا من قولنا: طلبت بك التّكثير فازددت قلّة ... وقد يخسر الإنسان في طلب الرّبح الخلاء بالحاجة منه قولهم: خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ومنه: رمي بريشك على غاربك. وهذا المثل قالته عائشة لابن أخت ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم: ذهبت والله ميمونة ورمي بريشك على غارك. إرسالك في الحاجة من تثق به أرسل حكيما ولا توصه وقولهم: الحريص يصيد لك لا الجواد. يقول: إن الذي يحرص بحاجتك هو الذي يقوم بها، لا القويّ عليها ولا هوى له فيها. ومنه: لا يرحّلنّ رحلك من ليس معك. ومنه في هذا المعنى: الحاجة يجعلها نصب عينيه، ويحملها بين أذنه وعاتقه ولم يجعلها بظهر. قضاء الحاجة قبل السؤال منه قولهم: لا تسأل الصّارخ وانظر ماله. يريد: لم يأتك مستصرخا إلا من ذعر أصابه، فأغثه قبل أن يسألك. ومنه: كفى برغائها مناديا. ومنه يخبر عن مجهوله معلومه. وقولهم: في عينه فراره «1» . يعنون في نظرك إلى الفرس ما يغنيك عن أن تفرّه.

الانصراف بحاجة تامة مقضية

الانصراف بحاجة تامة مقضية جاء فلان ثانيا من عنانه. فإن جاء بغير قضاء حاجة، قالوا: جاء يضرب أصدريه، أي عطفيه. وجاء وقد لفظ لجامه. وجاء سبهللا «1» . فإن جاء بعد شدة قيل: جاء بعد اللتيّا والتي. وجاء بعد الهياط المياط «2» . تجديد الحزن بعد أن يبكي منه منه قولك: حرّك لها حوارها تحنّ. وهذا المثل يروى عن عمرو بن العاص أنه قال لمعاوية حين أراد أن يستنصر أهل الشام: أخرج إليهم قميص عثمان رضوان الله عليه الذي قتل فيه. ففعل ذلك معاوية. فأقبلوا يبكون. فعندها قال عمرو: حرّك لها حوارها «3» تحنّ. جامع أمثال الظلم منه قولهم: الظّلم مرتعه وخيم. وفي الحديث: «الظّلم ظلمات يوم القيامة» . ومنه: إنّك لا تجني من الشّوك العنب. وقولهم: الحرب غشوم. الظلم من نوعين منه: أحشفا وسوء كيلة. ومنه: أغدّة كغدّة البعير، وموت في بيت سلوليّة. وهذا المثل لعامر بن الطفيل حين أصابه الطاعون في انصرافه عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فلجأ إلى امرأة من سلول فهلك عندها.

من يزاد غما على غمه

ومنه: أغيرة وجبنا. قالته امرأة من العرب لزوجها تعيّره حين تخلّف عن عدوّه في منزله، ورآها تنظر إلى القتال فضربها. فقالت: أغيرة وجبنا؟ وقولهم: أكسفا وإمساكا. أصله الرجل يلقاك بعبوس وكلوح مع بخل ومنع. وقولهم: يا عبرى «1» مقبلة وسهرى «2» مدبرة. يضرب للأمر الذي يكره من وجهين. ومنه قول العامة: كالمستغيث من الرّمضاء بالنار وقولهم: للموت يفزع وللموت بدر. وقولهم: كالأشقر «3» : إن تقدّم نحر، وإن تأخّر عقر. وقولهم: كالأرقم «4» إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم. يقول: إن قتلته كان له من ينتقم له منك، وإن تركته قتلك. ومنه: هو بين حاذف وقاذف. الحاذف: الضارب بالعصا، والقاذف: الرامي بالحجر. من يزاد غما على غمه منه قولهم: ضغث على إبّالة. الضغث: الحزمة الصغيرة من الحطب، والإبالة: الكبيرة. ومنه قولهم: كفت إلى وئيّة. الكفت القدر الصغيرة، والوئيّة: القدر الكبيرة. يضرب للرجل يحمل البلية الكبيرة ثم يزيد إليها أخرى صغيرة. ومنه قولهم: وقعوا في أمّ جندب، إذا ظلموا. المغبون في تجارته منه قولهم: صفقة لم يشهدها حاطب. وأصله أن بعض أهل حاطب باع بيعة غبن بها.

سرعة الملامة

ومنه قولهم: أعطاه اللّفاء «1» غير الوفاء. سرعة الملامة منه: ليس من العدل سرعة العذل. ومنه: ربّ ملوم لا ذنب له. وقولهم: الشّعير يؤكل ويذمّ. وقول العامة: أكلا وذمّا. وقول الحجاج: قبّح والله منّا الحسن. الكريم يهتضمه اللئيم لو ذات سوار «2» لطمتني. ومنه: ذلّ لو أجد ناصرا. الانتصار من الظلم هذه بتلك، والبادي أظلم. ومنه: من لم يذد عن حوضه يهدّم. الظلم ترجع عاقبته على صاحبه قالوا: من حفر مغوّاة وقع فيها. والمغواة: البئر تحفر للذئاب، ويجعل فيها جدي ليسقط الذئب فيها ليصيده، فيصطاد. ومنه: يعدو على كلّ امريء ما يأتمر. ومنه: عاد الرّمي على النّزعة. وهم الرماة يرجع عليهم رميهم. وتقول العامة: كالباحث عن المدية. ومنه قولهم: رمي بحجره، وقتل بسلاحه.

المضطر إلى القتال

المضطر إلى القتال مكره أخوك لا بطل. قد يحمل العير من ذعر على الأسد المأخوذ بذنب غيره جانيك من يجني عليك. ومنه: كذي» العرّ يكوى غيره وهو راتع ومنه: كالثّور يضرب لمّا عافت البقر. يعني: عافت الماء. وقال أنس بن مدرك: إني وقتلى سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر «2» يعني ثور الماء. وهو ثورانه، يقال: ثار الماء ثورا وثورانا. ومنه قولهم: كلّ شاة برجلها تناط «3» . يريد: لا يؤخذ رجل بغير ذنبه. المتبرىء من الشيء ما هو من ليله ولا سمره. ما هو من بزّي ولا من عطري. مالي فيه ناقة ولا جمل. ومنه قولهم: برئت منه إلى الله. ومنه: لست منك ولست مني. وما أنا من دد ولا الدّد «4» منّي.

سوء معاشرة الناس

سوء معاشرة الناس قالوا: الناس شجرة بغي. لا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة. ورضا الناس غاية لا تدرك. ومنه الحديث المرفوع: «الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» . ومنه قولهم: الناس يعيّرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر. وقال مالك بن دينار: من عرف نفسه لم يضره قول الناس فيه. وقول أبي الدرداء: إن قارضت الناس قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك. الجبان وما يذم من أخلاقه منه قولهم: إنّ الجبان حتفه من فوقه. وهو قول عمر بن مامة: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه قال أبو عبيد: أحسبه أراد أن حذره وتوقّيه ليس بدافع عنه المنيّة. وهذا غلط من أبي عبيد عندي، والمعنى فيه أنه وصف نفسه بالجبن، وأنه وجد الموت قبل يذوقه، وهذا من الجبن، ثم قال: إنّ الجبان حتفه من فوقه يريد أنه نظر إلى منيته كأنما تحوم على رأسه. كما قال تبارك وتعالى في المنافقين إذ وصفهم بالجبن: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ «1» . وقال جرير للأخطل يعيّره إيقاع قيس بهم: حملت عليك رجال قيس خيلها ... شعثا عوابس تحمل الأبطالا ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تكر عليكم ورجالا ولو كان الأمر كما ذهب إليه أبو عبيد ما كان معناه يدخل في هذا الباب؛ لأنه باب الجبان وما يذم من أخلاقه، وليس الأخذ في الحذر من الجبن في شيء، لأن أخذ

إفلات الجبان بعد إشفائه

الحذر محمود وقد أمر الله به، والجبن مذموم من كل وجه. ومنه الشعر الذي تمثّل به سعد بن معاذ يوم الخندق: لبّث قليلا يدرك الهيجا جمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل ومنه قولهم: كلّ أزبّ نفور. وإنما يقال في الأزبّ من الإبل لكثرة شعره، ويكون ذلك في عينيه، فكلما رآه ظنّ أنه شخص يطلبه فينفر من أجله. ومنه قولهم: بصبصن «1» إذ حدين بالأذناب. ومنه قولهم: دردب «2» لمّا عضّه الثقاف «3» وقولهم: حال الجريض «4» دون القريض. وهذا المثل لعبيد بن الأبرص، قاله للنعمان بن المنذر بن ماء السماء حين أراد قتله فقال له: أنشدني شعرك. أقفر من أهله ملحوب «5» فقال عبيد: حال الجريض دون القريض. ومنه: قفّ شعره، واقشعرّت ذؤابته. معناه قام شعره من الفزع. إفلات الجبان بعد إشفائه منه قولهم: أفلت وانحصّ «6» الذّنب. ومنه: أفلت وله حصاص «7» . ويروى في الحديث: «إن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص» . ومنه أفلتني جريعة الذّقن. إذا كان منه قريبا كقرب الجرعة من الذقن، ثم أفلته.

الجبان يتهدد غيره

ومنه قول العامة: إن يفلّت الطير فقد ذرق «1» . وقولهم: أفلت وقد بلّ النّيفق «2» . الذي تسميه العامة: النّيفق. الجبان يتهدد غيره منه قولهم: جاء فلان ينفض مذرويه. أي يتوعد ويتهدّد. والمذروان: فرعا الأليتين. ولا يكاد يقال هذا إلا لمن يتهدد بلا حقيقة. ومنه: أبرق لمن لا يعرفك. واقصد بذرعك. ولا تبق إلا على نفسك. تصرف الدهر منه: من يجتمع تتقعقع «3» عمده. أي أن الاجتماع داعية الافتراق. ومنه: كل ذات بعل ستئيم «4» . ومنه البيت السائر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان ومنه: لم يفت من لم يمت. الاستدلال بالنظر عن الضمير منه قولهم: شاهد البغض اللحظ. وجلّى محبّ نظره. قال زهير: فإن تك في صديق أو عدوّ ... نخّبرك العيون عن الضمير وقال ابن أبي حازم: خذ من العيش ما كفى ... ومن الدهر ما صفا

نفي المال عن الرجل

عين من لا يحبّ وص ... لك تبدي لك الجفا نفي المال عن الرجل منه قولهم: ماله سعنة «1» ولا معنة «2» . معناه لا شيء له. ومنه: ماله هلع ولا هلّعة. وهما الجدي والعناق «3» . ومنه: ماله هارب ولا قارب، معناه ليس له أحد يهرب منه، ولا أحد يقرب إليه؛ فليس له شيء. وقولهم: ماله عافطة ولا نافطة؛ وهما الضائنة والماعزة. وما به نبض ولا حبض. قال الأصمعي: النبض: المتحرك، ولا أعرف الحبض. وقال غيره: النبض والحبض في الوتر، والنبض: تحرك الوتر، والحبض: صوته. قال: والنبل يهوى نبضا وحبضا ومنه قولهم: ماله سبد ولا لبد. هما الشعر والصوف. ولم يعرف الأصمعي السّعنة والمعنة. إذا لم يكن في الدار أحد منه قولهم: ما بالدار شفر «4» ؛ ولا بها دعوي؛ ولا بها دبّي. معناه ما بها من يدعو ومن يدب، وما بها من غريب. ولا بها دوري ولا طوري؛ وما بها وابر، وما بها صافر، ولا بها ديّار، وما بها نافخ ضرمة «5» ، وما بها أرم. معنى هذا كله ما بها أحد، ولا يقال منها شيء في الإثبات والإيجاب، وإنما يقولونها في النفي والجحد.

اللقاء وأوقاته

اللقاء وأوقاته ومنه: لقيت فلانا أوّل عين. يعني أوّل شيء. وقال أبو زيد: لقيته أوّل عائنة. ولقيته أوّل وهلة. ولقيته أوّل ذات يدين. ولقيته أوّل صوك وأول بوك «1» . فإن لقيته فجأة من غير أن تريده، قلت: لقيته نقابا؛ ولقيته التقاطا، إذا لقيته من غير طلب. وقال الراجز: ومنهل وردته التقاطا وإن لقيته مواجهة قلت: لقيته صفاحا. ولقيته كفاحا. ولقيته كفّة كفّة. قال أبو زيد: فإن عرض لك من غير أن تذكره قلت: رفع رفعا؛ وأشبّ لي إشبابا. فإن لقيته وليس بينك وبينه أحد، قلت: لقيته صحرة بحرة. وهي غير مجراة. فإن لقيته في مكان قفر لا أنيس به قلت: لقيته صحرة بحرة أصمت، غير مجرى أيضا. ولقيته بين سمع الأرض وبصرها. فإن لقيته قبل الفجر قلت: لقيته قبل [كلّ] صبح ونفر. النفر: التفرق. وإن لقيته بالهاجرة قلت: لقيته صكة عميّ. وصكة «2» أعمى. قال رؤبة يصف الفلاة إذا لمعت بالسراب في الهاجرة: شبيهة بسهم قوس لمعا ... صكّ عمي زاجرا قد برعا «3» فإن لقيته في اليومين والثلاثة قلت: لقيته في الفرط. ولا يكون الفرط في أكثر من خمس عشرة ليلة. فإن لقيته بعد شهر ونحوه، قلت: لقيته في عفر. فإن لقيته بعد الحول ونحوه قلت: لقيته عن هجر. فإن لقيته بعد أعوام قلت: لقيته ذات العويم. فإن لقيته في الزمان قلت: لقيته ذات الزّمين. والغب في الزيارة، وهو الإبطاء فيها. والاعتمار في الزيارة. وهو التردّد فيها.

في ترك الزيارة

في ترك الزيارة منه قولهم: لا آتيك ما حنت النّيب. وما أطت «1» الإبل. وما اختلف الدرّة والجرّة. وما اختلف الملوان. وما اختلف الجديدان. ولا آتيك السّمر والقمر وأبد الأبد. ويقال: أبد الآبدين. ودهر الداهرين. وحتى يرجع السّهم إلى فوقه «2» . وحتى يرجع اللبن في الضّرع. ولا آتيك سنّ الحسل. تفسيره: النيب: جمع ناب، وهي المسنة من الإبل. والدرة: الحلبة من اللبن. والجرة: من اجترار البعير. والملوان والجديدان: الليل والنهار. والحسل: هو ولد الضب. يقول: حتى تسقط أسنانه، ولا تسقط أبدا حتى يموت. استجهال الرجل ونفي العلم عنه منه قولهم: ما يعرف الحوّ من اللوّ. وما يعرف الحيّ «3» من الّليّ «4» . ولا هريرا «5» من غرير «6» . ولا قبيلا من دبير. وما يعرف أيّ طرفيه أطول وأكبر. وما يعرف هرّا من برّ، أي ما يعرف من يهرّه ممن يبّره. والقبيل: ما أقبلت به من فتل الحبل، والدبير: ما أدبرت به منه، وأي طرفه أطول: أنسب أبيه أم نسب أمه. أمثال مستعملة في الشعر قال الأصمعي: لم أجد في شعر شاعر بيتا أوّله مثل وآخره مثل إلا ثلاثة ابيات: منها بيت الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وبيتان لامرىء القيس:

وأفلتهنّ علباء جريضا «1» ... ولو أدركنه صفر الوطاب وقاهم جدّهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب ومثل هذا كثير في القديم والحديث، ولا أدري كيف أغفل القديم منه الأصمعي. فمنه قول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وفي هذا مثلان من أشرف الأمثال. ويقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع هذا البيت، فقال: «إن معناه من كلام النبوّة» ؛ ومن ذلك قول الآخر: ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد ومن ذلك قول الحسن بن هانيء: أيها المنتاب عن عقره ... لست من ليلي ولا سمره لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره إن العرب تقول: انتاب فلان عن عقره: أي تباعد عن أصله. لست من ليلي ولا سمره: مثل ثان، وليس في البيت الثاني إلا مثل واحد. ومن قولنا في بيت أوّله مثل وآخره مثل: قد صرّح الأعداء بالبين ... وأشرق الصبح لذي العين وبعده أبيات في كل بيت منها مثل، وذلك قولنا: وعاد من أهواه بعد القلى ... شقيق روح بين جسمين «2» وأصبح الداخل في بيننا ... كساقط بين فراشين قد ألبس البغضاء من ذا وذا ... لا يصلح الغمد لسيفين

ما بال من ليست له حاجة ... يكون أنفا بين عينين ومن قولنا الذي هو أمثال سائرة: قالوا شبابك قد ولّى فقلت لهم ... هل من جديد على كرّ الجديدين صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين واقطع حبائل خلّ لا تلائمه ... فربما ضاقت الدنيا على اثنين» وقلت بعد هذا في المدح: فكّرت فيك أبحر أنت أم قمر ... فقد تحيّر فكري بين هذين إن قلت بحرا وجدت البحر منحسرا ... وبحر جودك ممتدّ العبابين أو قلت بدرا رأيت البدر منتقصا ... فقلت شتّان ما بين البديرين ومن الأمثال التي لم تأت إلا في الشعر أو في قليل من الكلام، من ذلك قول الشاعر: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إنّ السفينة لا تجري على اليبس وقال آخر: متى تنقضي حاجات من ليس صابرا ... على حاجة حتى تكون له أخرى قيل ولما بلغ حاتما قول المتلمّس: وأعلم علم صدق غير ظنّ ... لتقوى الله من خير العتاد وحفظ المال أيسر من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد «2» وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد قال: قطع الله لسانه! يحمل الناس على البخل؛ ألا قال: لا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد فلا تلتمس مالا بعيش مقتّر ... لكل غد رزق يعود جديد «3»

وقال غيره: إذا كنت لا أعفو عن الذنب من أخ ... وقلت أكافيه فأين التفاضل فإن أقطع الإخوان في كل عسرة ... بقيت وحيدا ليس لي من أواصل ولكنني أغضي الجفون على القذى ... وأصفح عما رابني وأجامل متى ما يربني مفصل فقطعته ... بقيت ومالي للنهوض مفاصل ولكن أداويه فإن صحّ سرّني ... وإن هو أعيا كان فيه التجامل وقال: يديفون لي سمّا وأسقيهم الحيا ... ويقرونني شرا وشري مؤخّر «1» كأني سلبت القوم نور عيونهم ... فلا العذر مقبول ولا الذنب يغفر وقد كان إحساني لهم غير مرة ... ولكن إحسان البغيض مكفّر «2» ولغيره: لم يبق من طلب الغنى ... إلا التعرّض للحتوف فلأقبلنّ وإن رأيت ... الموت يلمع في الصفوف إني امرؤ لم أوت من ... أدب ولا حظّ سخيف لكنه قدر يزو ... ل من القويّ إلى الضعيف

كتاب الزمردة في المواعظ والزهد

كتاب الزمردة في المواعظ والزهد لابن عبد ربه: قال أحمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأمثال، وما تفننوا فيها على كل لسان، ومع كل زمان؛ ونحن نبدأ بعون الله وتوفيقه بالقول في الزهد ورجاله المشهورين به، ونذكر المنتخل من كلامهم، والمواعظ التي وعظت بها الأنبياء، واستخلصتها الآباء للأبناء، وجرت بين الحكماء والأدباء؛ ومقامات العبّاد بين أيدي الخلفاء. فأبلغ المواعظ كلها كلام الله تعالى الأعز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قال الله تبارك وتعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «1» . وقال جل ثناؤه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «2» . وقال: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ

وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «1» . فهذه أبلغ الحجج وأحكم المواعظ. ثم مواعظ الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم مواعظ الآباء للأبناء، ثم مواعظ الحكماء والأدباء، ثم مقامات العبّاد بين أيدي الخلفاء، ثم قولهم في الزهد ورجاله المعروفين به، ثم المشهورين من المنتسبين إليه. والموعظة ثقيلة على السمع محرّجة «2» على النفس، بعيدة من القبول، لاعتراضها الشهوة، ومضادّتها الهوى، الذي هو ربيع القلب، ومراد الروح، ومربع اللهو، ومسرح الأماني؛ إلا من وعظه علمه، وأرشده قلبه؛ وأحكمته تجربته قال الشاعر: لن ترجع الأنفس عن غيّها ... حتى يرى منها لها واعظ وقالت الحكماء: السعيد من وعظ بغيره. لا يعنون من وعظه غيره، ولكن من رأى العبر في غيره فاتعظ بها في نفسه. ولذلك كان يقول الحسن: اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة «3» ، وحادثوها بالذّكر «4» فإنها سريعة الدثور، واعصوها فإنها إن أطيعت نزعت إلى شرّ غاية. وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختم موعظته: يا لها من موعظة لو صادفت من القلوب حياة. لابن السماك: وكان ابن السماك يقول إذا فرغ من كلامه: ألسن تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف. وقال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا. يريد ثقل الموعظة على السمع،

وجنوح النفس إلى مخالفتها. ومنه قولهم: أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا وقولهم: والشيء يرغب فيه حين يمتنع والموعظة مانعة لك مما تشتهي، حاملة لك على ما تكره، إلا أن تلقاها بسمع قد فتقته العبرة، وقلب قدحت فيه الفكرة، ونفس لها من علمها زاجر، ومن عقلها رادع؛ فيفتح لك باب التوبة، ويوضح لك سبيل الإنابة. للنبي صلّى الله عليه وسلم: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات. يريد أن الطريق إلى الجنة احتمال المكروه في الدنيا، والطريق إلى النار ركوب الشهوات. وخير الموعظة ما كانت من قائل مخلص، إلى سامع منصف. لبعضهم: وقال بعضهم: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان. وقالوا: ما أحسن التاج! وهو على رأس الملك أحسن. وما أحسن الدرّ، وهو على نحر الفتاة أحسن. وما أحسن الموعظة! وهي من الفاضل التقيّ أحسن. لزياد: وقال زياد: أيها الناس، لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا، أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا. قال الشاعر: اعمل بقولي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري

مواعظ الأنبياء عليهم السلام

لابن عباس في كلام لعلي: وقال عبد الله بن عباس: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما انتفعت بكلام كتبه إليّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كتب إليّ: أما بعد: فإن المرء يسرّه إدراك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من أمر دنياك فلا تكن به فرحا. وما فاتك فلا تأس عليه جزعا. وليكن همك ما بعد الموت. حكيم بباب بعض الملوك: وقف حكيم بباب بعض الملوك فحجب، فتلطّف برقعة وأوصلها إليه، وكتب فيها هذا البيت: ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الفقر فلما قرأ البيت لم يلبث أن انتعل وجعل لاطئة «1» على رأسه، وخرج في ثوب فضال «2» ، فقال له: والله ما اتعظت بشيء بعد القرآن اتّعاظى ببيتك هذا! ثم قضى حوائجه. مواعظ الأنبياء عليهم السلام للنبي صلّى الله عليه وسلم: قال أبو بكر بن أبي شيبة يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم «يكفي أحدكم من الدنيا قدر زاد الراكب» .

لعيسى عليه السلام:

وقال صلّى الله عليه وسلم: «ابن آدم. اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» . عبد الله بن سلام قال: لما قدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة أتيته، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذّاب؛ فسمعته يقول: «أيها الناس، أطعموا الطّعام، وأفشوا السلام، وصلّوا والناس نيام» . لعيسى عليه السّلام: وقال عيسى بن مريم عليه السّلام: ألا أخبركم بخيركم مجالسة؟ قالوا: بلى يا روح الله. قال: من تذكّركم بالله رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويشوّقكم إلى الجنة عمله. وقال عيسى بن مريم عليه السّلام للحواريين: ويلكم يا عبيد الدنيا! كيف تخالف فروعكم أصولكم، وأهواؤكم عقولكم. قولكم شفاء يبرىء الدّاء، وفعلكم داء لا يقبل الدّواء. لستم كالكرمة التي حسن ورقها، وطاب ثمرها، وسهل مرتقاها. ولكنكم كالسمرة «1» التي قلّ ورقها، وكثر شوكها، وصعب مرتقاها. ويلكم يا عبيد الدنيا! جعلتم العمل تحت أقدامكم من شاء أخذه، وجعلتم الدنيا فوق رؤوسكم لا يمكن تناولها؛ فلا أنتم عبيد نصحاء، ولا أحرار كرام. ويلكم يا أجراء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تفسدون، سوف تلقون ما تحذرون، إذا نظر ربّ العمل في عمله الذي أفسدتم، وأجره الذي أخذتم. وقال عليه السّلام للحواريين: اتخذوا المساجد بيوتا، والبيوت منازل، وكلوا بقل البرية، واشربوا الماء القراح، وانجوا من الدنيا سالمين. وقال عليه السّلام للحواريّين: لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، وانظروا في أعمالكم كأنكم عبيد؛ فإنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى؛ فارحموا أهل البلاء،

داود عليه السلام:

واحمدوا الله على العافية. وقال عليه السّلام لهم أيضا: عجبا لكم، تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل؛ ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بعمل. وقال يحيى بن زكريا عليه السّلام للمكذّبين من بني إسرائيل: يا نسل الأفاعي، من دلّكم على الدخول في المساخط الموبقة بكم؟ ويلكم! تقرّبوا بعمل صالح، ولا تغرّنكم قرابتكم من إبراهيم عليه السّلام. فإن الله قادر على أن يستخرج من هذه الجنادل «1» نسلا لإبراهيم. إن الفأس قد وضعت في أصول الشجر، فأخلق بكلّ شجرة مرّة الطعم أن تقطع وتلقى في النار. وقال شعياء لبني إسرائيل: إذ أطلق الله لسانه بالوحي: إن الدابة تزداد على كثرة الرياضة لينا، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوة. إنّ الجسد إذا صلح كفاه القليل من الطعام، وإن القلب إذا صحّ كفاه القليل من الحكمة. كم من سراج قد أطفأته الريح، وكم عابد قد أفسده العجب. يا بني إسرائيل، اسمعوا قولي، فإن قائل الحكمة وسامعها شريكان، وأولاهما بها من حقّقها بعمله. وقال المسيح صلّى الله عليه وسلم: إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذ نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجلها إذ نظروا إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم؛ هم أعداء لما سالم الناس، وسلم لما عادى الناس، لهم خير، وعندهم الخبر العجيب، بهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الهدى وبه عملوا، لا يرون أمانا دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون. داود عليه السّلام: وهب بن منبه قال: قال داود عليه السّلام: يا رب، ابن آدم ليس منه شعرة إلا

إبراهيم عليه السلام:

وتحتها لك نعمة وفوقها لك نعمة، فمن أين يكافئك بما أعطيته؟ فأوحى الله إليه: يا داود، إنّي أعطي الكثير، وأرضى من عبادي بالقليل، وأرضى من شكر نعمتي بأن يعلم العبد أن ما به من نعمة فمن عندي لا من عند نفسه. إبراهيم عليه السّلام: ولما أمر الله عز وجل إبراهيم صلّى الله عليه وسلم بذبح ولده وأن يجعله قربانا، أسرّ ذلك إلى خليل له يقال له العازر، وكان له صديقا؛ فقال له الصديق إن الله لا يبتلي بمثل هذا مثلك، ولكنه يريد أن يختبرك أو يختبر بك؛ وقد علمت أنه لا يبتليك بمثل هذا ليفتنك، ولا ليضلك ولا ليعنتك، ولا لينقض به بصيرتك وإيمانك ويقينك؛ فلا يرو عنّك هذا، ولا يسوأن بالله ظنّك؛ وإنما رفع الله اسمك في البلاء عنده على جميع أهل البلايا، حتى كنت أعظمهم محنة في نفسك وولدك. ليرفعك بقدر ذلك في المنازل والدرجات والفضائل: فليس لأهل الصبر في فضيلة الصبر إلا فضل صبرك، وليس لأهل الثواب في فضيلة الثواب إلا فضل ثوابك. وليس هذا من وجوه البلاء الذي يبتلي الله به أولياءه؛ لأن الله أكرم في نفسه، وأعدل في حكمه وأرحم بعباده من أن يجعل ذبح الولد الطّيب بيد الوالد النبي المصطفى. وأنا أعوذ بالله أن يكون هذا مني حتما على الله أو ردّا لأمره، أو سخطا لحكمه، ولكن هذا الرجاء فيه والظنّ به؛ فإن عزم ربّك على ذلك فكن عند أحسن علمه بك؛ فإني أعلم أنه لم يعرّضك لهذا البلاء الجسيم، والخطب العظيم، إلا لحسن علمه بك، وصدقك وتصبّرك؛ ليجعلك إماما؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومن وحي الله تعالى إلى أنبيائه أوحى الله عز وجل إلى نبي من أنبيائه: إني أنا الله مالك الملوك؛ قلوب الملوك بيدي؛ فمن أطاعني جعلت الملوك عليه رحمة؛ ومن عصاني جعلت الملوك عليه نقمة «1» .

المسيح عليه السلام:

المسيح عليه السّلام: ومما أنزل الله على المسيح في الإنجيل: شوّقناكم فلم تشتاقوا؛ ونحنا لكم فلم تبكوا؛ يا صاحب الخمسين، ما قدّمت وما أخّرت؟ يا صاحب الستين، قد دنا حصادك! يا صاحب السبعين، هلمّ إلى الحساب. وفي بعض الكتب القديمة المنزلة: يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا عبادي طالما ظمئتم، وتقلّصت في الدنيا شفاهكم، وغارت أعينكم عطشا وجوعا: فكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأوحى الله تعالى إلى نبيّ من أنبيائه: هب لي من قلبك الخشوع، ومن نفسك الخضوع، ومن عينيك الدّموع؛ وسلني فأنا القريب المجيب. وفي بعض الكتب: عبدي، كم أتحبّب إليك بالنعم وتتبغّض إليّ بالمعاصي؛ خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد. وأوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه: إن أردت أن تسكن غدا حظيرة القدس، فكن في الدنيا فريدا، وحيدا، طريدا، مهموما، حزينا؛ كالطير الوحدانيّ: يظل بأرض الفلاة، ويرد ماء العيون، ويأكل من أطراف الشجر؛ فاذا جنّ عليه الليل أوى وحده، واستيحاشا من الطير واستئناسا بربه. ومما أوحى الله إلى موسى في التوراة: يا موسى بن عمران، يا صاحب جبل لبنان، أنت عبدي وأنا إلهك الدّيّان، لا تستذلّ الفقير، ولا تغبط الغني بشيء يسير، وكن عند ذكري خاشعا، وعند تلاوة وحي طائعا؛ أسمعني لذاذة التوراة بصوت حزين. موسى عليه السّلام: وقال وهب بن منبّه: أوحى الله إلى موسى عند الشجرة: لا تعجبنّك زينة فرعون ولا ما متّع به، ولا تمدّنّ إلى ذلك عينك؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين؛ ولو شئت أن أوتيك زينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عنها فعلت؛

يوسف عليه السلام:

ولكني أرغبتك عن ذلك وأزويته عنك؛ فكذلك أفعل بأوليائي؛ إني لأذودهم عن نعيمها. ولذاذتها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة؛ وإني لأحميهم عيشها وحلوتها، كما يحمي الراعي ذوده عن مبارك العرّ «1» . يوسف عليه السّلام: وذكر عن وهب بن منبه أن يوسف لما لبث في السجن بضع سنين، أرسل الله جبريل إليه بالبشارة بخروجه، فقال: أما تعرفني أيها الصّدّيق؟ قال يوسف: أرى صورة طاهرة وروحا طيبا لا يشبه أرواح الخاطئين. قال جبريل: أنا الروح الأمين، رسول رب العالمين. قال يوسف: فما أدخلك مداخل المذنبين، وأنت سيد المرسلين، ورأس المقرّبين؟ قال: ألم تعلم أيها الصديق أن الله يطهر البيوت بطهر النبيين. وأن البقعة التي تكون فيها هي أطهر الأرضين، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا ابن الطاهرين. قال يوسف: كيف تشبهني بالصالحين، وتسميني بأسماء الصادقين، وتعدّني مع آبائي المخلصين، وأنا أسير بين هؤلاء المجرمين؟ قال جبريل: لم يكلم قلبك الجزع، ولم يغيّر خلفك البلاء، ولم يتعاظمك السجن، ولم تطأ فراش سيّدك، ولم ينسك بلاء الدنيا بلاء الآخرة، ولم تنسك نفسك أباك، ولا أبوك ربّك، وهذا الزمان الذي يفكّ الله فيه عنقك، ويعتق فيه رقبتك، ويبيّن للناس فيه حكمتك، ويصدّق رؤياك، وينصفك ممن ظلمك، ويجمع لك أحبتك ويهب لك ملك مصر تملك ملوكها، وتذل جبابرتها، وتصغّر عظماءها، ويذلّ لك أعزتها. ويخدمك سوقتها «2» ، يخوّلك خولها، ويرحم بك مساكينها، ويلقي لك المودة والهيبة في قلوبهم، ويجعل لك اليد العليا عليهم، والأثر الصالح فيهم، ويرى فرعون حلما يفزع منه حتى يسهر ليله، ويذهب نومه، ويغمّى عليه، تفسيره وعلى السحرة والكهنة، ويعلّمك تأويله.

مواعظ الحكماء

مواعظ الحكماء لعلي: قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أوصيكم بخمس لو ضربت عليها آباط «1» الإبل لكان قليلا: لا يرجونّ أحدكم إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه. واعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس ذهب الجسد. وقال أيضا: من أراد الغنى بغير مال، والكثرة بلا عشيرة، فليتحوّل من ذل المعصية إلى عزّ الطاعة؛ أبى الله إلا أن يذل من عصاه. للحسن: وقال الحسن: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء. لبعضهم: وقال بعضهم: من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أخلص سريرته أصلح الله علانيته. كلمات أربع للعرب والعجم: قال العتبي: اجتمعت العرب والعجم على أربع كلمات، قالوا: لا تحملن على قلبك ما لا تطيق، ولا تعملن عملا ليس لك فيه منفعة، ولا تثق بامرأة، ولا تغتر بمال وإن كثر. لأبي بكر في موته يوصي عمر: وقال أبو بكر الصدّيق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند موته حين استخلفه:

الحسن وابن الأهتم:

أوصيك بتقوى الله؛ فإنّ لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل؛ وإنه لا يقبل نافلة «1» حتى تؤدّى الفرائض. وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحق وثقله عليهم؛ وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خفت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفّته عليهم؛ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا. وإن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا سمعت بهم قلت: إني أخاف ألّا أكون من هؤلاء. وذكر أهل النار بأقبح أعمالهم، وأمسك عن حسناتهم؛ فإذا سمعت بهم قلت: أنا خير من هؤلاء وذكر آية الرحمة مع آية العذاب: ليكون العبد راغبا راهبا، لا يتمنى على الله غير الحق. فإذا حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحبّ إليك من الموت، وهو آتيك؛ وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أكره إليك من الموت، ولن تعجزه. الحسن وابن الأهتم: ودخل الحسن بن أبي الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه؛ فرآه يصوّب بصره في صندوق في بيته ويصعّده، ثم قال: أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أؤدّ منها زكاة ولم أصل منها رحما؟ قال: ثكلتك أمك! ولمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان؛ وجفوة السلطان؛ ومكاثرة العشيرة. قال: ثم مات، فشهده الحسن. فلما فرغ من دفنه قال: انظروا إلى هذا المسكين! أتاه شيطانه فحذّره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته، عما رزقه الله إياه وغمره فيه؛ انظروا كيف خرج منها مسلوبا محزونا، ثم التفت إلى الوارث فقال: أيها الوارث، لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا المال حلالا فلا يكوننّ عليك وبالا. أتاك عفوا صفوا، ممن كان له جموعا منوعا؛ من باطل جمعه، ومن حق منعه؛ قطع فيه لجج «2» البحار، ومفاوز القفار، لم تكدح فيه بيمين، ولم يعرق لك فيه جبين. إن يوم

لحكيم يعظ قوما:

القيامة يوم ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غدا أن ترى مالك في ميزان غيرك. فيالها عثرة لا تقال. وتوبة لا تنال. لحكيم يعظ قوما: ووعظ حكيم قوما فقال: يا قوم، استبدلوا العوارى «1» بالهبات تحمدوا العقبى، واستقبلوا المصائب بالصبر تستحقوا النّعمى، واستديموا الكرامة بالشكر تستوجبوا الزيادة. واعرفوا فضل البقاء في النعمة والغنى في السلامة قبل الفتنة الفاحشة، والمثلة «2» البينة، وانتقال العمل، وحلول الأجل؛ فإنما أنتم في الدنيا أغراض المنايا، وأوطان البلايا، ولن تنالوا نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل منكم معمّر يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، فأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، وفي معاشكم أسباب مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، ولا يشغلكم شيء عنها، فأنتم الأخلاف بعد الأسلاف، وستكونون أسلافا بعد الأخلاف، بكل سبيل منكر صريع منعفر، وقائم ينتظر، فمن أي وجه تطلبون البقاء، وهذان الليل والنهار لم يرفعا شيئا قط إلا أسرعا الكرة في هدمه، ولا عقدا أمرا إلا رجعا في نقضه. لأبي الدرداء: وقال أبو الدّرداء: يا أهل دمشق، مالكم تبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، وتجمعون ما لا تأكلون؟ هذه عاد وثمود قد ملئوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا، فمن يشتري مني ما تركوا بدرهمين. لابن شبرمة: وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيما لم ينجع في الطعام ولا الشراب، وإذا كان

لابن خثيم:

القلب مغرما بحب الدنيا لم تنجع فيه الموعظة. لابن خثيم: وقال الربيع بن خثيم: أقلل الكلام إلا من تسع: تكبير، وتهليل، وتسبيح، وتحميد، وسؤالك الخير، وتعوّذك من الشر، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن. لحكيم يعظ: قال رجل لبعض الحكماء: عظني! قال: لا يراك الله بحيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. وقيل لحكيم: عظني! قال: جميع المواعظ كلّها منتظمة في حرف واحد. قال: وما هو؟ قال: تجمع على طاعة الله فإذا أنت قد حويت المواعظ كلها. أبو جعفر وسفيان: وقال أبو جعفر لسفيان: عظني! قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟ الرشيد وابن السماك: قال هارون لابن السمّاك: عظني! قال: كفى بالقرآن واعظا. يقول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1» . مكاتبة جرت بين الحكماء بين حكيمين: عتب حكيم على حكيم، فكتب المعتوب عليه إلى العاتب: يا أخي، إن أيام العمر أقصر من أن تحتمل الهجر. فرجع إليه.

الحسن وعمر بن عبد العزيز:

الحسن وعمر بن عبد العزيز: وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد؛ فكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل. والسّلام. وكتب إليه عمر: أما بعد فكأن آخر من كتب عليه الموت قد مات، والسّلام. بين سلمان وأبي الدرداء: ابن المبارك قال: كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء: أما بعد؛ فإنك لن تنال ما تريد إلا بترك ما تشتهي، ولن تنال ما تأمل إلا بالصبر على ما تكره. فليكن كلامك ذكرا، وصمتك فكرا، ونظرك عبرا؛ فإن الدنيا تتقلب وبهجتها تتغير فلا تغترّ بها، وليكن بيتك المسجد. والسّلام. فأجابه أبو الدرداء: سلام عليك، أما بعد؛ فإني أوصيك بتقوى الله، وأن تأخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك؛ ومن جفائك لمودّتك، واذكر حياة لا موت فيها في إحدى المنزلتين. إما في الجنة، وإما في النار؛ فإنك لا تدري إلى أيهما تصير. أبو موسى وعامر ابن عبد القيس: وكتب أبو موسى الأشعري إلى عامر بن عبد القيس: أما بعد؛ فإني عاهدتك على أمر وبلغني أنك تغيّرت، فإن كنت على ما عهدتك فاتق الله ودم «1» ، وإن كنت على ما بلغني فاتق الله وعد «2» . ابن النضر وأخ له: وكتب محمد بن النضر إلى أخ: أما بعد؛ فإنك على منهج وأمامك منزلان لا بد لك من نزول أحدهما، ولم يأتك أمان فتطمئن، ولا براءة فتتكل.

بين حكيمين:

بين حكيمين: وكتب حكيم إلى آخر: اعلم حفظك الله أن النفوس جبلت على أخذ ما أعطيت ومنع ما سئلت؛ فاحملها على مطيّة، لا تبطىء. إذا ركبت. ولا تسبق إذا قدّمت؛ فإنما تحفظ النفوس على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب. فإذا استطعت أن يكون معك خوف المشفق وقناعة الراضي فافعل. من عمر بن عبد العزيز إلى ابن حيوة: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حيوة: أما بعد، فإنه من أكثر من ذكر الموت اكتفى باليسير، ومن علم أن الكلام عمل قل كلامه إلا فيما ينفعه. من عمر بن الخطاب إلى ابن غزوان: وكتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن غزوان عامله على البصرة: أما بعد؛ فقد أصبحت أميرا تقول فيسمع لك، وتأمر فينفذ أمرك؛ فيالها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك، وتطغيك على من دونك «1» ؛ فاحترس من النعمة أشدّ من احتراسك من المصيبة؛ وإياك أن تسقط سقطة لا لعا لها- أي لا إقالة لها- وتعثر عثرة لا تقالها. والسّلام. من الحسن إلى عمر: وكتب الحسن إلى عمر: إنّ فيما أمرك الله به شغلا عما نهاك عنه، والسّلام. بين عمر بن عبد العزيز والحسن: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أمر الدنيا، وصف لي أمر الآخرة.

مواعظ الآباء للأبناء

فكتب إليه: إنما الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والموت متوسط؛ ونحن في أضغاث أحلام. من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضلّ، ومن حلم غنم، ومن خاف سلم؛ ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، ومن علم عمل، فإذا زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فاسأل، وإذا غضبت فأمسك. واعلم أنّ أفضل الأعمال ما أكرهت النفوس عليه. مواعظ الآباء للأبناء للقمان يوصي ابنه: قال لقمان لابنه: إذا أتيت مجلس قوم فارمهم بسهم السّلام ثم اجلس، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل «1» سهمك مع سهامهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتخلّ عنهم وانهض. وقال: يا بنيّ؛ استعذ بالله من شرار الناس، وكن من خيارهم على حذر. لأكثم: ومثل هذا قول أكثم بن صيفي: احذر الأمين ولا تأتمن الخائن، فإن القلوب بيد غيرك. للقمان يعظ ابنه: وقال لقمان لابنه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تشغل قلبك بها، فإنك لم تخلق لها، وما خلق الله خلقا أهون عليه منها، فإنه لم يجعل نعيمها ثوابا للمطيعين، ولا بلاءها عقوبة للعاصين. يا بني، لا تضحك من غير عجب، ولا تمش في غير أرب «2» ، ولا تسأل عما لا يعنيك. يا بني، لا تضيّع مالك وتصلح مال غيرك؛ فإنما لك ما قدمت،

ابن صفوان ينصح ابنه:

ولغيرك ما تركت. يا بني؛ إنه من يرحم يرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يقل الخير يغنم، ومن يقل الباطل يأثم، ومن لا يملك لسانه يندم. يا بني، زاحم العلماء بركبتيك، وأنصت إليهم بأذنيك، فإن القلب يحيا بنور العلماء كما تحيا الأرض الميتة بمطر السماء. ابن صفوان ينصح ابنه: وقال خالد بن صفوان لابنه: كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقلّ ما تكون في الباطن مآلا. ودع من أعمال السر ما لا يصلح لك في العلانية. لأعرابي يوصي ابنه: وقال أعرابي لابنه: يا بني، إنه قد أسمعك الداعي، وأعذر إليك الطالب، وانتهى الأمر فيك إلى حدّه؛ ولا أعرف أعظم رزية «1» ممن ضيّع اليقين وأخطأه الأمل. لعلي بن الحسين يوصي ابنه: وقال علي بن الحسين لابنه: وكان من أفضل بني هاشم: يا بني، اصبر على النوائب، ولا تعرّض للحتوف، ولا تجب أخاك من الأمر إلى ما مضرّته عليك أكثر من منفعته لك. لحكيم في مثله: وقال حكيم لبنيه: يا بنيّ؛ إياكم والجزع عند المصائب؛ فإنه مجلبة للهمّ، وسوء ظنّ بالرب، وشماتة للعدوّ. وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترين، ولها آمين، فإني والله ما سخرت من شيء إلا نزل بي مثله؛ فاحذروها وتوقّعوها. فإنما الإنسان في الدنيا غرض تتعاوره السهام، فمجاوز ومقصّر عنه، وواقع عن يمينه وشماله، حتى يصيبه بعضها. واعلموا أنّ لكل شيء جزاء، ولكل عمل ثوابا. وقد قالوا: كما تدين تدان؛ ومن برّ يوما برّ به.

لبعض الشعراء:

لبعض الشعراء: وقال الشاعر: إذا ما الدهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ «1» بآخرينا فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا لحكيم يعظ ابنه: وقال حكيم لابنه: يا بني إني موصيك بوصية؛ فإن لم تحفظ وصيتي عني لم تحفظها عن غيري. اتق الله ما استطعت. وإن قدرت أن تكون اليوم خيرا منك أمس، وغدا خيرا منك اليوم فافعل. وإياك والطمع، فإنه فقر حاضر. وعليك باليأس فإنك لن تيأس من شيء قط إلا أغناك الله عنه. وإياك وما يعتذر منه، فإنك لن تعتذر من خير أبدا، وإذا عثر عاثر «2» فاحمد الله ألّا تكون هو يا بني، خذ الخير من أهله، ودع الشر لأهله، وإذا قمت إلى صلاتك فصلّ صلاة مودّع وأنت ترى ألّا تصلي بعدها. لعلي بن الحسين في مثله: وقال علي بن الحسين عليهما السّلام لابنه: يا بني، إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذّرني منك. واعلم أنّ خير الآباء للأبناء من لم تدعه المودّة إلى التفريط» فيه، وخير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق له «4» . لحكيم في مثله: وقال حكيم لابنه: يا بني، إن أشدّ الناس حسرة يوم القيامة: رجل كسب مالا من غير حلّه فأدخله النار، وأورثه من عمل فيه بطاعة الله فأدخله الجنة.

ابن عتبة وأبوه:

ابن عتبة وأبوه: عمرو بن عتبة قال: لما بلغت خمس عشرة سنة قال لي أبي: يا بني؛ قد تقطعت عنك شرائع الصّبا فالزم الحياء تكن من أهله، ولا تزايله «1» فتبين منه؛ ولا يغرّنك من اغتر بالله فيك فمدحك بما تعلم خلافه من نفسك؛ فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعلم إذا رضي، قال فيك من الشر مثله إذا سخط. فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء تسلم من غبّ عواقبهم. لعبد الملك يوصي بنيه: وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كفّوا الأذى، وابذلوا المعروف، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا «2» إذا سألتم؛ فإنه من ضيّق ضيّق عليه، ومن أعطى أحلف الله عليه. للأشعث في مثله: وقال الأشعث بن قيس لبنيه: يا بنيّ، لا تذلّوا في أعراضكم، وانخدعوا في أموالكم؛ ولتخفّ بطونكم من أموال الناس، وظهوركم من دمائهم، فإنّ لكل امرىء تبعة «3» ؛ وإياكم وما يعتذر منه أو يستحى؛ فإنما يعتذر من ذنب، ويستحي من عيب؛ واصلحوا المال لجفوة السلطان وتغير الزمان، وكفوا عند الحاجة عن المسألة؛ فإنه كفى بالردّ منعا؛ وأجملوا في الطلب حتى يوافق الرزق قدرا؛ وامنعوا النساء من غير الأكفاء؛ فإنكم أهل بيت يتأسّى «4» بكم الكريم، ويتشرف بكم اللئيم، وكونوا في عوام الناس ما لم يضطرب الحبل «5» ، فإذا اضطرب الحبل فالحقوا بعشائركم. من عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله في غيبة غابها: أما بعد فإن من اتقى الله وقاه، ومن اتكل عليه كفاه، ومن شكر له زاده، ومن اقترضه جزاه. فاجعل التقوى

من علي إلى ابنه حسن:

عمارة قلبك، وجلاء بصرك. فإنه لا عمل لمن لا نيّة له، ولا خير لمن لا خشية له، ولا جديد لمن لا خلق له. من علي إلى ابنه حسن: وكتب علي بن أبي طالب إلى ولده الحسن عليهما السّلام: من عليّ أمير المؤمنين الوالد الفان، المقرّ للزمان، المستسلم للحدثان «1» ، المدبر العمر، المؤمل ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام «2» ، ورهينة الأيام، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وأسير المنايا، وقرين الرزايا، وصريع الشهوات، ونصب الآفات، وخليفة الأموات. أما بعد؛ يا بني، فإن فيما تفكرت فيه من إدبار الدنيا عني، وإقبال الآخرة عليّ. وجموح الدهر عليّ ما يرغّبني عن ذكر سوائي، والاهتمام بما ورائي، غير أنه حيث تفرد بي همّ نفسي دون همّ الناس، فصدقني رأيي، وصرفني عن هواي، وصرح بي محض أمري، فأفضى بي إلى جدّ لا يزرى به لعب، وصدق لا يشوبه كذب «3» ، ووجدتك يا بني بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأن شيئا لو أصابك لأصابني، وحتى كأن الموت لو أتاك أتاني. فعند ذلك عناني من أمرك ما عناني من أمر نفسي. كتبت إليك كتابي هذا يا بني مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني موصيك بتقوى الله، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله فإن الله تعالى يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً «4» . وأي سبب يا بني أوثق من سبب بينك وبين الله تعالى إن أنت أخذت به، أحى قلبك بالموعظة، ونوّره بالحكمة وأمته بالزهد، وذلّله بالموت وقوّه بالغنى عن الناس، وحذّره صولة الدهر؛ وتقلّب الأيام والليالي، واعرض عليه أخبار الماضين وسر في ديارهم وآثارهم فانظر ما فعلوا، وأين حلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا من دار الغرور ونزلوا دار الغربة. وكأنك عن

منه إلى ولده ابن الحنفية:

قليل يا بني قد صرت كأحدهم، فبع دنياك بآخرتك، ولا تبع آخرتك بدنياك. ودع القول فيما لا تعرف، والأمر فيما لا تكلّف، وأمر بالمعروف بيدك ولسانك، وانه عن المنكر بيدك ولسانك، وباين «1» من فعله، وخض الغمرات إلى الحق، ولا يأخذك في الله لومة لائم، واحفظ وصيّتي ولا تذهب عنك صفحا، فلا خير في علم لا ينفع. واعلم أنه لا غنى لك عن حسن الارتياد «2» مع بلاغك من الزاد، فإن أصبت من أهل الفاقة من يحمل عنك زادك فيوافيك به في معادك فاغتنمه، فإن أمامك عقبة كئودا «3» لا يجاوزها إلا أخف الناس حملا فأجمل في الطلب، وأحسن المكتسب. فرب طلب قد جرّ إلى حرب «4» . وإنما المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب يقينه. واعلم أنه لا غني يعدل الجنة؛ ولا فقر يعدل النار. والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته. منه إلى ولده ابن الحنفية: وكتب إلى ابنه محمد بن الحنفية: أن تفقّه في الدين، وعوّد نفسك الصبر على المكروه، وكل نفسك في أمورك كلّها إلى الله عز وجل، فإنك تكلها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، وأخلص المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان وأكثر الاستخارة له، واعلم أنّ من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان لا يسير، فإن الله تعالى قد أبى إلا خراب الدنيا وعمارة الآخرة، فإن قدرت أن تزهد فيها زهدك كله فافعل ذلك، وإن كنت غير قابل نصيحتي إياك فاعلم علما يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولا تعدو أجلك، فإنك في سبيل من كان قبلك، فأكرم نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا، وإياك أن توجف «5» بك مطايا الطمع وتقول: متى ما أخّرت نزعت، فإن هذا أهلك من هلك قبلك، وأمسك عليك لسانك، فإن تلافيك ما فرط من صمتك، أيسر عليك

من إدراك ما فات من منطقك، واحفظ ما في الوعاء بشدّ الوكاء، فحسن التدبير مع الاقتصاد أبقى لك من الكثير مع الفساد والحرفة «1» مع العفة خير من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسره، ولربما سعى فيما يضره، وإياك والاتكال على الأماني، فإنها بضائع النّوكى «2» ، وتثبّط عن الآخرة والأولى، ومن خير حظ الدنيا القرين الصالح، فقارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، ولا يغلبنّ عليك سوء الظن، فإنه لن يدع بينك وبين خليل صلحا. أذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب، واعلم أن كفر النعمة لؤم، وصحبة الأحمق شؤم، ومن الكرم منع الحرم، ومن حلم ساد، ومن تفهم ازداد. امحض أخاك النصيحة «3» ، حسنة كانت أو قبيحة. لا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب، وليس جزاء من سرك أن تسوءه. الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك، واعلم يا بني أنه مالك من دنياك إلا ما أصلحت به في مثواك، فأنفق من خيرك. ولا تكن خازنا لغيرك، وإن جزعت على ما يفلت من يديك، فاجزع على ما لم يصل إليك ربما أخطأ البصير قصده، وأبصر الأعمى رشده، ولم يهلك امرؤ اقتصد، ولم يفتقر من زهد. من ائتمن الزمان خانه ومن تعظم عليه أهانه. رأس الدين اليقين، وتمام الإخلاص اجتناب المعاصي، وخير المقال ما صدّقه الفعال. سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، واحمل لصديقك عليك، واقبل عذر من اعتذر إليك، وأخرّ الشر ما استطعت، فإنك إذا شئت تعجلته. لا يكن أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته، وعلى الإساءة أقوى منك على الإحسان. لا تملّكنّ المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة، فإنّ ذلك أدوم لحالها، وأرخى لبالها، واغضض بصرها بسترك، واكففها بحجابك، وأكرم الذين بهم تصول، فإذا تطاولت «4» تطول. أسأل الله أن يلهمك الشكر والرشد: ويقويّك على العمل بكل خير، ويصرف عنك كل محذور برحمته. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

مقامات العباد عند الخلفاء

مقامات العباد عند الخلفاء مقام صالح بن عبد الجليل قام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي فقال له: إنه لما سهل علينا ما توعّر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي [عند] انقطاع عذر الكتمان، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحقّ على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص «1» . وقد جاء في الأثر: من حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل؛ وأشد منه عذابا من أقبل إليه العلم فأدبر عنه. فاقبل يا أمير المؤمنين ما أهدى إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء؛ فإنما هو تنبيه من غفلة، وتذكير من سهو وقد وطّن الله عز وجل نبيه على نزولهما، فقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «2» . مقام رجل من العبّاد عند المنصور بينما المنصور في الطواف ليلا إذ سمع قائلا يقول اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلى الرجل ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة. فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض، وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني «3» . فقال: إن أمّنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجرت منك واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل.

قال: فأنت آمن على نفسك فقل. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت. فقال: فكيف ذلك ويحك! يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ والآجرّ، وأبوابا من الحديد، وحرّاسا معهم السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم فيها، وبعثت عمّالك في جباية الأموال وجمعها وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكراع «1» ، وأمرت ألا يدخل عليك أحد من الرجال إلّا فلان وفلان، نفرا سمّيتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها. قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه. فائتمروا ألّا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا خوّنوه عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك، لينالوا ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلّم حيل بينك وبينه، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك المتظلم فبلغ بطانتك «2» خبره، سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به «3» ، ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه، فإذا أجهد وأحرج ثم ظهرت صرخ بين يديك، فيضرب ضربا مبرحا يكون نكالا «4» لغيره، وأنت تنظر فما

تنكر! فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه، فبكى بكاء شديدا، فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة، ولكني أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إذ قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلّا متظلّم. ثم كان يركب الفيل طرفي النهار وينظر هل يرى مظلوما، فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله، بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيّه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس إليه. ولست الذي تعطي، بل الله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء. فإن قلت إنما تجمع المال لتشديد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بني أمية، ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها. فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين. هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل. فقال المنصور: لا. فقال: فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب الأليم. قد رأى ما عقد «1» عليه قلبك، وعملته جوارحك «2» ، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه رجلاك. هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب؟ قال: فبكى المنصور، ثم قال: ليتني لم أخلق! ويحك كيف أحتال لنفسي؟ فقال يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون «3» إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك. قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني. قال: خافوك أن

مقام الأوزاعي بين يدي المنصور

تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهّل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفىء والصدقات على حلها، واقسمها بالحق والعدل على أهلها، وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة. وجاء المؤذّنون فآذنوه بالصلاة، فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد. مقام الأوزاعي بين يدي المنصور قال الأوزاعي: دخلت عليه فقال لي: ما الذي بطأ بك عني؟ قلت: وما تريد مني يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الاقتباس منك. فقلت: يا أمير المؤمنين، انظر ما تقول، فإن مكحولا حدّثني عن عطية بن بسر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «من بلغته عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها من الله بشكر وإلا فهي حجة من الله عليه ليزداد إثما ويزداد الله عليه غضبا وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط ومن كرهه فقد كره الله عز وجل لأن الله هو الحق المبين» . ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إنك تحمّلت أمانة هذه الأمة وقد عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. وقد جاء عن جدك عبد الله بن عباس في تفسير قول الله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «1» قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك. فما ظنك بالقول والعمل؟ فأعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترى أن قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنفعك مع المخالفة لأمره، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: «يا صفيّة عمّة محمد، ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا أنفسكما من الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئا» . وكذلك جدّك العباس، سأل إمارة من النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أي عمّ نفس تحبيها خير لك من إمارة لا تحصيها؛ نظرا لعمه وشفقة عليه من أن يلي فيحيد عن سنّته جناح بعوضة، فلا يستطيع له نفعا ولا عنه دفعا» .

كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك

وقال صلّى الله عليه وسلم: «ما من راع يبيت غاشّا لرعيته إلا حرّم الله عليه رائحة الجنة. وحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرا، ولما استطاع من عوراتهم ساترا، وبالحق فيهم قائما، فلا يتخوّف محسنهم رهقا، ولا مسيئهم عدوانا. فقد كانت بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم جريدة يستاك «1» بها ويردع عنه المشركين بها، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة التي معك! اتركها لا تملأ قلوبهم رعبا! فما ظنك بمن سفك دماءهم، وقطع أستارهم، ونهب أموالهم!» يا أمير المؤمنين، إنّ المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيا لم يتعمده؛ فقال جبريل: يا محمد، إنّ الله لم يبعثك جبارا تكسر قرون أمتك. واعلم يا أمير المؤمنين أن كل ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة، ولا ثمرة من ثمارها؛ ولو أن ثوبا من ثياب أهل الناس علق بين السماء والأرض لأهلك الناس رائحته، فكيف بمن يتقمّصه! ولو أن ذنوبا» من صديد أهل النار صبّ على ماء الدنيا لأحمّه «3» ، فكيف بمن يتجرّعه! ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لأذابته؛ فكيف بمن يسلك فيها؛ ويردّ فضلها على عاتقه. كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك حج سليمان بن عبد الملك؛ فلما قدم المدينة للزيارة بعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شهاب. فلما دخل قال: تكلم يا أبا حازم. قال: فيم أتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: في المخرج من هذا الأمر. قال: يسير إن أنت فعلته. قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلّها، ولا تضعها إلا في أهلها. قال: ومن يقوى على ذلك؟

مقام ابن السماك عند الرشيد

قال: من قلّده الله من أمر الرعية ما قلّدك. قال: عظني أبا حازم! قال: اعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج من يديك بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم أشر عليّ. قال: إنما أنت سوق، فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر فاختر أيهما شئت. قال: مالك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أخزيتني؛ وليس عندك ما أرجوك له، ولا عندي ما أخافك عليه! قال: فارفع إلينا حاجتك. قال: وقد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت. مقام ابن السماك عند الرشيد دخل عليه، فلما وقف بين يديه قال له: عظني يا ابن السماك وأوجز. قال: كفى بالقرآن واعظا يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» . هذا يا أمير المؤمنين وعيد لمن طفف في الكيل، فما ظنك بمن أخذه كله! وقال له مرة: عظني. وأتى بماء ليشربه. فقال: يا أمير المؤمنين، لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: فلو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم! قال: فما خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة! قال: يا ابن السماك، ما أحسن ما بلغني عنك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن لي عيوبا لو اطلع الناس منها على عيب واحد ما ثبتت لي في قلب أحد مودة؛ وإني لخائف في الكلام الفتنة وفي السر الغرة وإني لخائف على نفسي من قلة خوفي عليها.

كلام عمرو بن عبيد عند المنصور

كلام عمرو بن عبيد عند المنصور دخل عمرو بن عبيد على المنصور وعنده ابنه المهدي، فقال له أبو جعفر: هذا ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين؛ ورجائي أن تدعو له. فقال: يا أمير المؤمنين، أراك قد رضيت له أمورا يصير إليها وأنت عنه مشغول فاستعبر أبو جعفر وقال له عظني أبا عثمان! قال يا أمير المؤمنين! إنّ الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها. هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يد من كان قبلك لم يصل إليك! قال: أبا عثمان أعنّي بأصحابك، قال: ارفع علم الحق يتبعك أهله؛ ثم خرج، فأتبعه أبو جعفر بصرّة، فلم يقبلها؛ وجعل [المنصور] يقول: كلكم يمشي رويد ... كلّكم خاتل صيد «1» غير عمرو بن عبيد خبر سفيان الثوري مع أبي جعفر لقي أبو جعفر سفيان الثوري في الطواف، وسفيان لا يعرفه، فضرب بيده على عاتقه وقال: أتعرفني؟ قال: لا، ولكنك قبضت عليّ قبضة جبّار، قال: عظني أبا عبد الله. قال: وما عملت فيم عملت فأعظك فيما جهلت؟ قال: فما يمنعك أن تأتينا؟ قال: إن الله نهى عنكم فقال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «2» فمسح أبو جعفر يده به ثم التفت إلى أصحابه فقال: ألقينا الحب إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا فرارا.

كلام شبيب بن شيبة للمهدي

كلام شبيب بن شيبة للمهدي قال العتبي: سألت بعض آل شبيب بن شيبة: أتحفظون شيئا من كلامه؟ قالوا: نعم، قال للمهدي: يا أمير المؤمنين، إن الله إذا قسم الأقسام في الدنيا جعل لك أسناها وأعلاها، فلا ترض لنفسك في الآخرة إلا مثل ما رضي لك به من الدنيا، فأوصيك بتقوى الله فعليكم نزلت؛ ومنكم أخذت، وإليكم تردّ. من كره الموعظة لبعض ما فيها من الغلظ أو الخرق بين الرشيد وواعظ: قال رجل للرشيد: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أعظك بعظة فيها بعض الغلظة فاحتملها، قال: كلا، إنّ الله أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني: قال لنبيّه موسى إذ أرسله إلى فرعون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «1» . سليمان بن عبد الملك وأعرابي: دخل أعرابيّ على سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إني مكلّمك بكلام، فاحتمله إن كرهته، وراءه ما تحب إن قبلته، قال: هام يا أعرابي، قال: إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك. تأديه لحق الله تعالى وحق إمامتك: إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، فابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب الآخرة سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لا يألونك خبالا «2» ، والأمانة تضييعا، والأمة عسفا وخسفا «3» ، وأنت مسئول عما اجترحوا «4» وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا

المأمون وواعظ:

تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة وأعظمهم غبنا، من باع آخرته بدنيا غيره. قال سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد سللت لسانك وهو أحد سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك. المأمون وواعظ: ووعظ رجل المأمون فأصغى إليه منصتا، فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك، فأسأل الله أن ينفعنا بها، وربما عملنا، غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال، فقد كثر القائلون وقلّ الفاعلون. العتبي قال: دخل رجل من عبد القيس على أبي فوعظه، فلما فرغ قال أبي له: لو اتعظنا بما علمنا لانتفعنا بما عملنا، ولكنا علمنا علما لزمتنا فيه الحجة، وغفلنا غفلة من وجبت عليه النقمة، فوعظنا في أنفسنا بالتنقل من حال إلى حال، ومن صغر إلى كبر، ومن صحة إلى سقم، فأبينا إلا المقام على الغفلة، إثارا لعاجل لا بقاء لأهله، وإعراضا عن آجل إليه المصير. عتبان بن أبي سفيان وبعض القراء: سعد القصير قال: دخل أناس من القراء على عتبة بن أبي سفيان فقالوا: إنك سلطت السيف على الحق ولم تسلط الحق على السيف، وجئت بها عشوة «1» خفيّة. قال: كذبتم! بل سلطت الحق وبه سلطت، فاعرفوا الحق تعرفوا السيف، فإنكم الحاملون له حيث وضعه أفضل، والواضعون له حيث عمله أعدل، ونحن في أوّل زمان لم يأت آخره، وآخر دهر قد فات أوله. فصار المعروف عندكم منكرا، والمنكر معروفا. وإني أقول لكم مهلا، قبل أن أقول لنفسي هلا! قالوا: فنخرج آمنين؟ قال غير راشدين ولا مهذبين.

راهب وضالون في سفرهم:

راهب وضالون في سفرهم: حاد قوم سفر عن الطريق، فدفعوا إلى راهب منفرد في صومعته، فنادوه، فأشرف عليهم، فسألوه عن الطريق، فقال: ههنا. وأومأ بيده إلى السماء، فعلموا ما أراد، فقالوا: إنا سائلوك. قال: سلوا ولا تكثروا: فإن النهار لا يرجع والعمر لا يعود، والطالب حثيث! قالوا: علام الناس يوم القيامة؟ قال: على نياتهم وأعمالهم. قالوا: إلى أين الموئل؟ قال: إلى ما قدمتم. قالوا: أوصنا. قال: تزوّدوا على قدر سفركم، فخير الزاد ما بلّغ المحل. ثم أرشدهم الجادّة وانقمع «1» . وقال بعضهم: أتيت الشام فمررت بدير حرملة، فإذا فيه راهب كأن عينيه مزادتان «2» ، فقلت له: ما أشدّ ما يبكيك! قال: يا مسلم، أبكي على ما فرطت فيه من عمري، وعلى يوم يمضي من أجلي لم يحسن فيه عملي! قال: ثم مررت بعد ذلك، فسألت عنه، فقيل لي إنه أسلم وغزا الروم وقتل! الحيري وثوبان في لبس الرهبان: قال أبو زيد الحيري: قلت لثوبان الراهب: ما معنى لبس الرهبان هذا السواد؟ قال: هو أشبه بلباس أهل المصائب! قلت: وكلكم معشر الرهبان قد أصيب بمصيبة؟ قال: يرحمك الله، وهل مصيبة أعظم من مصائب الذنوب على أهلها. قال أبو زيد: فما أذكر قوله إلا أبكاني. آزاد مرد: حبيب العدوى عن موسى الأسواري قال: لما وقعت الفتنة أردت أن أحرز ديني «3» ، فخرجت إلى الأهواز، فبلغ آزاد مرد قدومي، فبعث إليّ متاعا، فلما أردت الانصراف بلغني أنه ثقيل، فدخلت عليه، فإذا هو كالخفّاش، لم يبق منه إلا رأسه،

بين العتبي وبعض الرهبان:

فقلت: ما حالك؟ قال: وما حال من يريد سفرا بعيدا بغير زاد، ويدخل قبرا موحشا بلا مؤنس، وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة؟ ثم خرجت نفسه. بين العتبي وبعض الرهبان: العتبي قال: مررت براهب باك، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أمر عرفته وقصرت عن طلبه، ويوم مضى من عمري نقص له أجلي ولم ينقص له أملي. باب من كلام الزهاد وأخبار العباد لبعض العباد: قيل لقوم من العبّاد: ما أقامكم في الشمس؟ قالوا: طلب الظل. لعلقمة الأسود: قيل لعلقمة الأسود بن يزيد: كم تعذّب هذا الجسد الضعيف؟ قال: لا تنال الراحة إلا بالتعب. لآخر: وقيل لآخر: لو رفقت بنفسك! قال: الخير كلّه فيما أكرهت النفوس عليه، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «حفّت الجنّة بالمكاره» . مسروق الأجدع: وقيل لمسروق بن الأجدع: لقد أضررت ببدنك. قال: كرامته أريد. وقالت له امرأته فيروز لما رأته لا يفطر من صيام ولا يفتر من صلاة «1» : ويلك يا مسروق! أما يعبد الله غيرك، أما خلقت النار إلا لك؟ قال لها: ويحك يا فيروز! إن طالب الجنة

أبو الدرداء وزوجه:

لا يسأم، وهارب النار لا ينام. أبو الدرداء وزوجه: وشكت أم الدرداء إلى أبي الدرداء الحاجة، فقال لها: تصبّري، فإن أمامنا عقبة كئودا «1» لا يجاوزها إلا أخف الناس حملا. أبو حازم: ومر أبو حازم بسوق الفاكهة، فقال: موعدك الجنة. ومر بالجزارين، فقالوا له: يا أبا حازم، هذا لحم سمين فاشتر. قال: ليس عندي ثمنه. قالوا نؤخرك. قال: أنا أؤخر نفسي. وكان رجل من العبّاد يأكل الرّمّان بقشره، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال إنما هو عدوّ فأثخن «2» فيه ما أمكنك. علي بن الحسين: وكان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فسئل عن ذلك، فقال: ويحكم! أتدرون إلى من أقوم ومن أريد أن أناجي؟ يونس بن عبيد: وقال رجل ليونس بن عبيد: هل تعلم أحدا يعمل بعمل الحسن «3» ؟ قال: لا والله ولا أحدا يقول بقوله. لمحمد بن علي: وقيل لمحمد بن علي بن الحسين أو لعليّ بن الحسين عليهم السّلام: ما أقلّ ولد

ابن المسيب وامرأة:

أبيك؟ قال: العجب كيف ولدت له وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرغ للنساء؟ وحج خمسا وعشرين حجة راجلا. ابن المسيب وامرأة: ولما ضرب سعيد بن المسيب وأقيم للناس قالت له امرأة: لقد أقمت مقام خزية! فقال: من مقام الخزية فررت. لابن دينار في قحط: وشكا الناس إلى مالك بن دينار القحط. فقال: أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطىء الحجارة! لابن عياض في مثله: وشكا أهل الكوفة إلى الفضيل بن عياض القحط. فقال: أمدبّرا غير الله تريدون؟ لأبي حنيفة في السختياني: وذكر أبو حنيفة أيوب السّختياني. فقال: رحمه الله تعالى- ثلاثا- لقد قدم المدينة مرة وأنا بها فقلت: لأقعدن إليه لعلّي أتعلق منه بسقطة. فقام بين يدي القبر مقاما ما ذكرته إلا اقشعرّ له جلدي. ابن أبي رباح: وقيل لاهل مكة: كيف كان عطاء بن أبي رباح فيكم؟ قالوا: كان مثل العافية التي لا يعرف فضلها حتى تفقد. وكان عطاء أفطس «1» أسود أشل أعرج ثم عمي وأمه سوداء تسمى بركة.

الأوقص المخزومي:

الأوقص المخزومي: وكان الأوقص المخزومي قاضيا بمكة، فما رؤى مثله في عفافه وزهده؛ فقال يوما لجلسائه: قالت لي أمي: يا بني، إنك خلقت خلقة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان عند القيان؛ فعليك بالدين؛ فإن الله يرفع به الخسيسة، ويتم به النقيصة، فنفعني الله تعالى بكلامها وأطعتها فوليت القضاء. بين ابن واسع وابن دينار: الفضيل بن عياض قال: اجتمع محمد بن واسع ومالك بن دينار في مجلس بالبصرة، فقال مالك بن دينار: ما هو إلا طاعة الله أو النار. فقال محمد بن واسع ما هو كما تقول، ليس إلا عفو الله أو النار. قال مالك: صدقت. ثم قال مالك: إنه يعجبني أن يكون للرجل معيشة قدر ما يقوته. قال محمد بن واسع: ما هو إلا كما تقول، ولكن يعجبني أن يصبح الرجل وليس له غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله عز وجل. قال مالك: ما أحوجني إلى أن يعلمني مثلك. لابن مهدي في بعض العباد: جعفر بن سليمان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما رأيت أحدا أقشف «1» من شعبة، ولا أعبد من سفيان الثوري، ولا أحفظ من ابن المبارك. وما أحب أن ألقى الله بصحيفة أحد إلا بصحيفة بشر بن منصور، مات ولم يدع قليلا ولا كثيرا. بشر بن منصور على فراش الموت: عبد الأعلى بن حماد قال: دخلت على بشر بن منصور وهو في الموت، فإذا به من السرور في أمر عظيم؛ فقلت له: ما هذا السرور؟ قال: سبحان الله! أخرج من بين الظالمين والباغين والحاسدين والمغتابين، وأقدم على أرحم الراحمين ولا أسر.

الرشيد وعابد بمكة:

الرشيد وعابد بمكة: حج هارون الرشيد، فبلغه عن عابد بمكة مجاب الدعوة معتزل في جبال تهامة فأتاه هارون الرشيد فسأله عن حاله ثم قال له: أوصني ومرني بما شئت، فواد لا عصيتك! فسكت عنه ولم يرد عليه جوابا؛ فخرج عنه هارون، فقال له أصحابه ما منعك إذا سألك أن تأمره بما شئت وحلف ألّا يعصيك أن تأمره بتقوى الله والإحسان إلى رعيته؟ فخط لهم في الرمل: إني أعظمت الله أن يكون يأمره فيعصيه، وآمره أنا فيطيعني. سفيان الثوري: علي بن حمزة ابن أخت سفيان الثوري قال: لما مرض سفيان مرضه الذي مات فيه ذهبت ببوله إلى ديراني، فأريته إياه فقال: ما هذا ببول حنيفي. قلت: بلى والله من خيارهم. قال: فأنا أذهب معك إليه، قال: فدخل عليه وجس عرقه، فقال: هذا رجل قطع الحزن كبده. ابن سيرين: مؤرّق العجلي قال: ما رأيت أحدا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين، ولقد قال يوما: ما غشيت امرأة قط في نوم ولا يقظة، إلا امرأتي أم عبد الله فإني أرى المرأة في النوم؛ فأعلم أنها لا تحلّ لي فأصرف «1» بصري عنها. بعض العباد: الأصمعي عن ابن عون قال: رأيت ثلاثة لم أر مثلهم: محمد بن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام. العتبي قال: سمعت أشياخنا يقولون، انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين: عامر بن

كيف يكون الزهد

عبد القيس، والحسن بن أبي الحسن البصري، وهرم بن حبان، وأبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، والربيع بن خثيم ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد. كيف يكون الزهد للنبي صلّى الله عليه وسلم العتبي يرفعه قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما الزهد في الدنيا؟ قال: «أما إنه ما هو بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أغنى منك عما في يدك» . للزهري: وقيل للزهري: ما الزهد؟ قال: أما إنه ليس تشعيث الّلمّة، «1» ولا قشف الهيئة؛ ولكنه صرف النفس عن الشهوة. لبعضهم: وقيل لآخر: ما الزهد في الدنيا؟ قال: أن لا يغلب الحرام صبرك، ولا الحلال شكرك. للنبي صلّى الله عليه وسلم: وقيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من أزهد الناس في الدنيا؟ قال: «من لم ينس المقابر والبلى، وآثر ما يبقى على ما يفنى، وعدّ نفسه مع الموتى» . وقيل لمحمد بن واسع: من أزهد الناس في الدنيا؟ قال: من لا يبالي بيد من كانت الدنيا. وقيل للخليل بن أحمد: من أزهد الناس في الدنيا؟ قال من لم يطلب المفقود حتى يفقد الموجود.

صفة الدنيا

وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الزّهد في الدنيا مفتاح الرّغبة في الآخرة، والرغبة في الدنيا مفتاح الزهد في الآخرة» . قالوا: مثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له امرأتان ضرّتان، إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من جعل الدنيا أكبر همّه نزع الله خوف الأخرى من قلبه، وجعل الفقر بين عينيه، وشغله فيما عليه لا له» . وقال ابن السماك: الزاهد الذي إن أصاب الدنيا لم يفرح، وإن أصابته الدنيا لم يحزن، يضحك في الملا «1» ، ويبكي في الخلا. وقال الفضيل: أصل الزهد في الدنيا الرضا عن الله تعالى. صفة الدنيا قال رجل لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا. قال: ما أصف من دار أوّلها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن. قيل لأرسطا طاليس: صف لنا الدنيا. فقال: ما أصف من دار أولها فوت، وآخرها موت. وقيل لحكيم: صف لنا الدنيا. قال: أمر بين يديك، وأجل مطل عليك، وشيطان فتان، وأماني جرّارة العنان «2» ، تدعوك فتستجيب؛ وترجوها فتخيب. وقيل لعامر بن عبد القيس: صف لنا الدنيا. قال: الدنيا والدة للموت، ناقضة للمبرم «3» ، مرتجعة العطية وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري.

من الأثر:

وقيل لبكر بن عبد الله المزني: صف لنا الدنيا. فقال: ما مضى منها فحلم؛ وما بقي فأماني. وقيل لعبد الله بن ثعلبة: صف لنا الدنيا. قال: أمسك مذموم فيك، ويومك غير محمود لك، وعزّك غير مأمون عليك. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وقال: «الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر. والآخرة وعد صدق يحكم فيها ملك قادر، يفضل الحق من الباطل» . وقال: «الدنيا خضرة حلوة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ومن أخذها بغير حقها كان كالآكل الذي لا يشبع» . وقال ابن مسعود: ليس من الناس أحد إلا وهو ضيف على الدنيا وماله عارية: فالضيف مرتحل، والعارية مردودة. وقال المسيح عليه السّلام: الدنيا لإبليس مزرعة وأهلها حرّاثون. وقال إبليس: ما أبالي إذا أحب الناس الدنيا أن لا يعبدوا صنما ولا وثنا، الدنيا أفتن لهم من ذلك. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم «يسمي الدنيا أمّ دفر. الدفر: النتن» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم للضحاك بن سفيان: «ما طعامك؟» قال: اللحم واللبن. قال: «ثم إلى ماذا يصير؟» قال يصير إلى ما قد علمت. قال: «فإن الله عز وجل ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا» . وقال المسيح عليه السّلام لأصحابه: اتخذوا الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. من الأثر: وفي بعض الكتب: أوحى الله إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. وقيل لنوح عليه السّلام: يا أبا البشر ويا طويل العمر، كيف وجدت الدنيا؟ قال:

لابن عبيد:

كبيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. وقال لقمان لابنه: إن الدنيا بحر عريض، قد هلك فيه الأولون والآخرون، فإن استطعت أن تجعل سفينتك تقوى الله، وعدّتك التوكل على الله، وزادك العمل الصالح. فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك. وقال ابن الحنفية: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا. وقال: إن الملوك خلّوا لكم الحكمة فخلّوا لهم الدنيا. وقيل لمحمد بن واسع: إنك لترضى بالدّون «1» . قال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا. وقال المسيح عليه الصلاة والسّلام للحواريين: أنا الذي كفأت «2» الدنيا على وجهها، فليس لي زوجة تموت، ولا بيت يخرب. لابن عبيد: شكا رجل إلى يونس بن عبيد وجعا يجده، فقال له: يا عبد الله، هذه دار لا توافقك فالتمس لك دارا توافقك. الراهب: لقي رجل راهبا فقال: يا راهب، صف لنا الدنيا. فقال: الدنيا تخلق الأبدان، وتجدد الآمال، وتباعد الأمنيّة، وتقرّب المنية. قال: فما حال أهلها؟ قال: من ظفر بها تعب، ومن فاتته نصب «3» . قال. فما الغنى عنها؟ قال: قطع الرجاء منها. قال: فأين المخرج؟ قال: في سلوك المنهج. قال: وما ذاك؟ قال: يذل المجهود، والرضا بالموجود.

لبعض الشعراء:

لبعض الشعراء: قال الشاعر: ما الناس إلّا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوما به انقلبوا يعظّمون أخا الدنيا وإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا وقال آخر: يا خاطب الدّنيا إلى نفسها ... تنحّ عن خطبتها تسلم إنّ التي تخطب غرّارة ... قريبة العرس من المأتم «1» عبد الواحد بن الخطاب: داود بن المحبّر قال: أخبرنا عبد الواحد بن الخطاب قال: أقبلنا قافلين من بلاد الروم، حتى إذا كنا بين الرّصافة وحمص سمعنا صوتا من تلك الجبال، تسمعه آذاننا ولم تبصره أبصارنا، يقول: يا مستور يا محفوظ، انظر في ستر من أنت؛ إنما الدنيا شوك، فانتظر أين تضع قدميك منها! وقال أبو العتاهية: رضيت بذي الدّنيا ككلّ مكاثر ... ملحّ على الدّنيا وكلّ مفاخر ألم ترها تسقيه حتى إذا صبا ... فرت حلقه منها بشفرة جازر «2» ولا تعدل الدّنيا جناح بعوضة ... لدى الله أو معشار نغبة طائر «3» فلم يرض بالدنيا ثوابا لمؤمن ... ولم يرض بالدنيا عقابا لكافر وقال أيضا: هي الدنيا؛ إذا كملت ... وتمّ سرورها خذلت وتفعل في الذين بقوا ... كما فيمن مضى فعلت

لبعض الشعراء:

قال بعض الشعراء يصف الدنيا: لقد غرّت الدنيا رجالا فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحوّل فساخط أمر لا يبدّل غيره ... وراض بأمر غيره سيبدّل وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومخترم من دون ما كان يأمل «1» وقال هارون الرشيد: لو قيل للدنيا صفي لنا نفسك، وكانت ممن ينطق، ما وصفت نفسها بأكثر من قول أبي نواس: إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق وما الناس إلّا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق لبعض الشعراء: وقال آخر في صفة الدنيا: فرحنا وراح الشّامتون عشيّة ... كأنّ على أكتافنا فلق الصّخر لحا الله دنيا تدخل السّتر أهلها ... وتهتك ما بين الأقارب من ستر ولأبي العتاهية: كلنا نكثر الملامة للدنيا ... وكل بحبّها مفتون والمقادير لا تناولها الأو ... هام لطفا ولا تراها العيون ولركب الفناء في كلّ يوم ... حركات كأنهنّ سكون لابن عبد ربه: ومن قولنا في وصف الدنيا: ألا إنما الدّنيا نضارة أيكة ... إذا اخضرّ منها جانب جفّ جانب «2» هي الدار ما الآمال إلّا فجائع ... عليها ولا الّلذّات إلا مصائب فكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرّت عيون دمعها اليوم ساكب

ابن شبرمة وولده:

فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب وقال أبو العتاهية: أصبحت الدنيا لنا فتنة ... والحمد لله على ذلكا قد أجمع الناس على ذمّها ... ما إن ترى منهم لها تاركا وقال إبراهيم بن أدهم: نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع وما سمعت في صفة الدنيا والسبب الذي يحبها الناس لأجله بأبلغ من قول القائل. نراع بذكر الموت في حين ذكره ... وتعترض الدّنيا فنلهو ونلعب ونحن بنو الدّنيا خلقنا لغيرها ... وما كنت منه فهو شيء محبّب فذكر أن الناس بنو الدنيا وما كان الإنسان منه فهو محبب إليه. واعلم أن الإنسان لا يحب شيئا إلا أن يجانسه في بعض طبائعه، وأن الدنيا جانست الإنسان في طبائعه كلها فأحبها بكل أطرافه. ابن شبرمة وولده: وقال بعض ولد ابن شبرمة: كنت مع أبي جالسا قبل أن يلي القضاء فمرّ به طارق ابن أبي زياد في موكب نبيل، فلما رآه أبي تنفّس الصّعداء، وقال: أراها وإن كانت تحبّ كأنها ... سحابة صيف عن قليل تقشّع» ثم قال: اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فلما ابتلى بالقضاء، قلت: يا أبت، أتذكر يوم طارق؟ فقال: يا بني إنهم يجدون خلفا من أبيك وإن أباك لا يجد خلفا منهم إن أباك خطب في أهوائهم وأكل من حلوائهم.

الأصعمي في بيت يستحسنه:

وقال الشعبي ما رأيت مثلنا ومثل الدنيا إلا كما قال كثّير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت «1» وأحكم بيت قيل في تمثيل الدنيا قول الشاعر: ومن يأمن الدّنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع «2» الأصعمي في بيت يستحسنه: وحدّث العبّاس بن الفرج الرياشي، قال: رأيت الأصمعي ينشد هذا البيت ويستحسنه في صفة الدنيا: ما عذر مرضعة بكا ... س الموت تفطم من غذت ولقطري بن الفجاءة في وصف الدنيا خطبة مجردة تقع في جملة الخطب في كتاب الواسطة. قولهم في الخوف لابن عباس: سئل ابن عباس عن الخائفين لله، فقال: هم الذين صدّقوا الله في مخافة وعيده، قلوبهم بالخوف قرحة، وأعينهم على أنفسهم باكية، ودموعهم على خدودهم جارية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا. والقبور من أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي ربنا موقفنا! وقال عليّ كرم الله وجهه: ألا إن الله عبادا مخلصين، كمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين، وأهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة. وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة العقبى راحة طويلة، أما بالليل فصفّوا

لابن عمار في الزهد:

أقدامهم في صلاتهم؛ تجري دموعهم على خدودهم، يجارون «1» إلى ربهم: ربّنا ربّنا! يطلبون فكاك قلوبهم؛ وأما بالنهار فعلماء حلماء بررة أتقياء؛ كأنهم القداح. القداح: السهام، يريد في ضمرتها- ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى، وما بالقوم من مرض؛ ويقول: خولطوا؛ ولقد خالط القوم أمر عظيم. لابن عمار في الزهد: وقال منصور بن عمار في مجلس الزهد: إن لله عبادا جعلوا ما كتب عليهم من الموت مثالا بين أعينهم، وقطعوا الأسباب المتصلة بقلوبهم من علائق الدنيا؛ فهم أنضاء عبادته، حلفاء طاعته، قد نضحوا «2» خدودهم بوابل دموعهم «3» ، وافترشوا جباههم في محاريبهم، يناجون ذا الكبرياء والعظمة في فكاك رقابهم «4» . عمر بن عبد العزيز في مرضه: ودخل قوم على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه وفيهم شاب ذابل ناحل؛ فقال له عمر: يا فتى، ما بلغ بك ما أرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمراض وأسقام! قال له عمر: لتصدقنّي. قال: بلى يا أمير المؤمنين، ذقت يوما حلاوة الدنيا فوجدتها مرة عواقبها؛ فاستوى عندي حجرها وذهبها؛ وكأني أنظر إلى عرش ربنا بارزا؛ وإلى الناس يساقون إلى الجنة والنار؛ فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي؛ وقليل كلّ ما أنا فيه في جنب ثواب الله وخوف عقابه. وقال ابن أبي الحواري: قلت لسفيان: بلغني في قول الله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «5» : الذي يلقي ربه وليس فيه أحد غيره. فبكى وقال: ما سمعت منذ ثلاثين سنة أحسن من هذا التفسير.

وقال الحسن: إن خوفك حتى تلقي الأمن خير من أمنك حتى تلقى الخوف. وقال: ينبغي أن يكون الخوف أغلب على الرجاء. فإن الرجاء إذا غلب الخوف فسد القلب. وقال: عجبا لمن خاف العقاب ولم يكفّ، ولمن رجا الثواب ولم يعمل. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لرجل: ما تصنع؟ فقال: أرجو وأخاف. قال: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه. وقال الفضيل بن عياض: إني لأستحي من الله أن أقول: توكّلت على الله. ولو توكلت عليه حقّ التوكل ما خفت ولا رجوت غيره. وقالوا: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء. وقال: وعد من الله لمن خافه أن يدخله الله الجنة. وتلا قوله عز وجل: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «1» . وقال عمر بن ذرّ: عباد الله؛ لا تغتروا بطول حلم الله واحذروا أسفه؛ فإنه قال عز وجل: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ «2» . وقال محمد بن سلّام: سمعت يونس بن حبيب يقول: لا تأمن من قطع في خمسة دراهم أشرف عضو فيك أن تكون عقوبته في الآخرة أضعاف ذلك. وقال الربيع بن خثيم: لو أن لي نفسين إذا علقت إحداهما سعت الأخرى في فكاكها، ولكنها نفس واحدة، فإن أنا أوثقتها. من يفكّها؟. وفي الحديث: «من كانت الدنيا همّه، طال في الآخرة غمّه. ومن خاف الوعيد لها عمّا يريد، ومن خاف ما بين يديه ضاق ذرعا بما في يده» .

قولهم في الرجاء

وقال محمود الوراق: يا غافلا ترنو بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد «1» تصل الذّنوب إلى الذّنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفوز العابد «2» ونسيت أنّ الله أخرج آدما ... منها إلى الدّنيا بذنب واحد وقال نابغة بني شيبان: إنّ من يركب الفواحش سرّا ... حين يخلو بسرّه غير خال كيف يخلو وعنده كاتباه ... شاهداه وربّه ذو الجلال قولهم في الرجاء قال العلماء: لا تشهد على أحد من أهل القبلة بجنة ولا نار؛ يرجى للمحسن ويخاف عليه، ويخاف على المسيء ويرجى له. في الأثر: وفي الحديث المرفوع. «إن الله يغفر ولا يعيّر، والناس يعيّرون ولا يغفرون» . وفي حديث آخر: «لا تكفّروا أهل الذنوب» . فتى توفي في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم: وتوفي رجل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان مسرفا على نفسه فرفع رأسه، وهو يجود بنفسه، فإذا أبواه يبكيان عند رأسه، فقال: ما يبكيكما؟ قال: نبكي لإسرافك على نفسك «3» ! قال: لا تبكيا: فو الله ما يسرني أن الذي بيد الله من أمري بأيديكما. ثم مات. فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام النبي صلّى الله عليه وسلم، فأخبره أن فتى توفى اليوم فاشهده فإنه من أهل الجنة، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبويه عن عمله، فقالا: ما عملنا

عمر بن ذر ورجل توفي:

عنده شيئا من خير، إلا أنه قال لنا عند الموت كذا وكذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من هاهنا أوتي؛ إن حسن الظن بالله من أفضل العمل عنده» . عمر بن ذر ورجل توفي: وتوفي رجل بجوار ابن ذر، وكان مسرفا على نفسه، فتحامى الناس جنازته وبلغ ذلك عمر بن ذر، فأوصى أهله: إذا جهزتموه فآذنوني. ففعلوا؛ فشهده والناس معه، فلما أدلى وقف على قبره فقال: رحمك الله أبا فلان، فلقد صحبت عمرك بالتوحيد، وعفرت وجهك لله بالسجود، فإن قالوا مذنب وذو خطايا، فمن منا غير مذنب وذي خطايا؟ وتمثل معاوية عند الموت بهذا البيت: هو الموت لا منجى من الموت والذي ... نحاذر بعد الموت أنكى وأفظع ثم قال: اللهم فأقل العثرة، واعف عن الزّلّة، وعد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك، ولم يثق إلا بك فإنك واسع المغفرة. يا رب أين لذي الخطأ مهرب إلا إليك. قال داود بن أبي هند: فبلغني أن سعيد بن المسيّب قال حين بلغه ذلك: لقد رغب إلى من لا مرغب إلا إليه كرها، وإني أرجو من الله له الرحمة. لأعرابي في عائشة: الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول في دعائه وابتهاله: إلهي، ما توهمت سعة رحمتك إلا وكأن نعمة عفوك تقرع مسامعي: أن قد غفرت لك؛ فصدّق ظني بك. وحقق رجائي فيك يا إلهي. لبعض الشعراء: ومن أحسن ما قيل في الرجاء هذا البيت: وإن لأرجو الله حتى كأنّني ... أرى بجميل الظّنّ ما الله صانع

قولهم في التوبة

قولهم في التوبة للمسيح عليه السّلام: مر المسيح بن مريم عليه السّلام بقوم من بني إسرائيل يبكون، فقال لهم: ما يبكيكم؟ قالوا: نبكي لذنوبنا! قال: اتركوها تغفر لكم. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: عجبا لمن يهلك ومعه النجاة؛ قيل له: وما هي؟ قال: التوبة والاستغفار. فتى من بني إسرائيل: وقالوا: كان شاب من بني إسرائيل قد عبد الله عشرين حجة، ثم عصاه عشرين حجّة؛ فبينما هو في بيته يتراءى في مرآته، نظر إلى الشيب في لحيته، فساءه ذلك؛ فقال: إلهي، أطعتك عشرين سنة وعصيتك عشرين سنة؛ فإن رجعت إليك تقبلني؟ فسمع صوتا من زاوية البيت، ولم ير شخصا: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك. ابن العلاء في عابد: عبد الله بن العلاء قال: خرجنا حجّاجا من المدينة، فلما كنا بالحليفة نزلنا، فوقف علينا رجل عليه أثواب رثّة له منظر وهيئة، فقال: من يبغي خادما؟ من يبغي ساقيا؟ من يملأ قربة أو إداوة؟ فقلنا: دونك هذه القرب فاملأها. فأخذها وانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أقبل امتلأت أثوابه طينا، فوضعها وهو كالمسرور الضاحك، ثم قال: لكم غير هذا؟ قلنا: لا. وأطعمناه قارصا حاذرا «1» ، فأخذه وحمد الله وشكره، ثم اعتزل وقعد يأكل أكل جائع، فادركتني عليه الرقة، فقمت إليه بطعام طيب كثير؛ وقلت: قد علمت أنه لم يقع منك القرص موقعا، فدونك هذا الطعام فكله. فنظر في

في التوبة:

وجهي وتبسم؛ وقال: يا عبد الله، إنما هي فورة، هذه النار قد أطفأتها- وضرب بيده على بطنه- فرجعت وقد انكسف بالي لما رأيت في هيبته؛ فقال إلى رجل كان إلى جانبي: أتعرفه؟ قلت: ما أعرفه. قال: هذا رجل من بني هاشم، من ولد العباس ابن عبد المطلب؛ كان يسكن البصرة؛ فتاب وخرج منها، ففقد وما يعرف له أثر. فأعجبني قوله؛ ثم لحقت به وناشدته الله؛ وقلت له: هل لك أن تعادلني فإن معي فضلا من راحلتي وأنا رجل من بعض أخوالك؟ فجزاني خيرا، وقال: لو أردت شيئا من هذا لكان لي معدّا. ثم أنس إليّ وجعل يحدثني؛ وقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وجبروت وبذخ؛ وإني أمرت خادما لي أن تحشو لي فراشا من حرير بورد نثير، ومخدّة؛ ففعلت؛ فإني لنائم إذ أيقظني قمع «1» وردة أغفلته الخادم؛ فقمت إليها فأوجعتها ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد أن خرج ذلك القمع من المخدّة؛ فأتاني آت من منامي في صورة فظيعة، فنهرني وزبرني «2» ، وقال: أفق من غشيتك وأبصر من حيرتك. ثم أنشأ يقول: يا خدّ إنك إن توسّد ليّنا ... وسّدت بعد الموت صمّ الجندل «3» فامهد لنفسك صالحا تنجو به ... فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل فانتبهت فزعا، وخرجت من ساعتي هاربا بديني إلى ربي. في التوبة: وقالوا: علامة التوبة الخروج من الجهل، والندم على الذنب، والتجافي عن الشهوة، وترك الكذب، والانتهاء عن الخلق السوء. وقالوا: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وأول التوبة الندم. لابن عبد ربه: ومن قولنا في هذا المعنى: يا ويلتا من موقف ما به ... أخوف من أن يعدل الحاكم

المبادرة بالعمل الصالح

أبارز الله بعصيانه ... وليس لي من دونه راحم يا ربّ غفرانك عن مذنب ... أسرف إلا أنه نادم وقال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً «1» . إن التوبة النصوح: أن يتوب العبد عن الذنب ولا ينوي العود إليه. وقال ابن عباس في قول الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ «2» . إن الرجل لا يركب ذنبا ولا يأتي فاحشة إلا وهو جاهل. وقوله: ثم يتوبون من قريب. قال: كل من كان دون المعاينة فهو قريب، والمعاينة: أن يؤخذ بكظم الإنسان، فذلك قوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «3» قال أهل التفسير: هو إذا أخذ بكظمه «4» . وقال ابن شبرمة: إني لأعجب ممن يحتمي مخافة الضرر، ولا يدع الذنوب مخافة النار. المبادرة بالعمل الصالح قال الله عز وجل: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ «5» . وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «6» . وقال الحسن: بادروا بالعمل الصالح قبل حلول الأجل، فإن لكم ما أمضيتم، لا ما أبقيتم. وقالوا: ثلاثة لا أناة فيهنّ. المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميت، وإنكاح الكفء.

وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ابن آدم: اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك» . وقال الحسن: صم قبل أن لا تقدر على يوم تصومه، كأنك إذا ظمئت لم تكن رويت، وكأنك إذا رويت لم تكن طمئت. وكان يزيد الرّقاشي يقول: يا يزيد، من يصوم عنك أو يصلّي لك أو يترضى لك ربك إذا مت. وكان خالد بن معدان يقول: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التّفريط في زمن البذر وقال ابن المبارك: كنت مع محمد بن النّضر في سفينة، فقلت: بأي شيء استخرج منه الكلام؟ فقلت له: ما تقول في الصوم في السفر؟ فقال: إنما هي المبادرة يابن أخي. فجاءني والله بفتيا غير فتيا إبراهيم والشعبي. ومن قولنا في هذا المعنى: بادر إلى التوبة الخلصاء مبتدئا ... والموت ويحك لم يمدد إليك يدا وارقب من الله وعدا ليس يخلفه ... لا بدّ لله من إنجاز ما وعدا وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: فيم أنتم؟ قالوا: نرجو ونخاف. قال: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه. وقال الشاعر «1» : ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إنّ السفينة لا تجري على اليبس وقال آخر: اعمل وأنت من الدنيا على حذر ... واعلم بأنك بعد الموت مبعوث واعلم بأنك ما قدّمت من عمل ... يحصى عليك، وما خلّفت موروث

النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة:

النبي صلّى الله عليه وسلم وعائشة: وقدّمت عائشة رضي الله عنها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم صحفة «1» فيها خبز شعير وقطعة من كرش، وقالت: يا رسول الله، ذبحنا اليوم شاة فما أمسكنا منها غير هذا. فقال: «بل كلّها أمسكتم غير هذا» . العجز عن العمل مؤرق وشاك: قال رجل لمؤرّق العجلي: أشكو إليك نفسي؛ إنها لا تريد الصلاة، ولا تستطيع الصبر على الصيام. قال: بئس الثناء [ما] أثنيت على نفسك، فإذا ضعفت عن الخير، فاضعف عن الشر؛ فإن الشاعر قال: احزن على أنك لا تحزن ... ولا تسيء إن كنت لا تحسن واضعف عن الشرّ كما تدّعي ... ضعفا عن الخير وقد يمكن وقال بكر بن عبد الله: اجتهدوا في العمل، فإن قصّر بكم ضعف فأمسكوا عن المعاصي. وقال الحسن رحمه الله: من كان قويا فليعتمد على قوّته في طاعة الله؛ وإن كان ضعيفا فليكّف عن معاصي الله. وقال عليّ: لا تكن كمن يعجز عن شكر ما أوتي، فيبتغي الزيادة فيما بقي؛ وينهى الناس ولا ينتهي. وكان الحسن إذا وعظ يقول: يا لها موعظة لو صادفت من القلوب حياة! أسمع حسيسا «2» ولا أرى أنيسا، ما لهم تفاقدوا عقولهم؟ فراش نار وذباب طمع. وكان ابن السماك إذا فرغ من موعظته يقول: ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.

قولهم في الموت

وقال: الحسنة نور في القلب، وقوّة في العمل؛ والسيئة ظلمة في القلب، وضعف في العمل. وقال بعض الحكماء: يا أيها المشيخة الذين لم يتركوا الذنوب حتى تركتهم الذنوب، ثم ظنوا أنّ تركها لهم توبة؛ وليتهم إذا ذهبت عنهم لم يتمنّوا عودها إليهم وكان مالك بن دينار يقول: ما أشدّ فطام الكبير. وينشد: وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم «1» ومن حديث محمد بن وضّاح قال: إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب، مسح إبليس بيده على وجهه وقال: بأبي وجه لا أفلح أبدا. قال الشاعر: فإذا أي إبليس غرّة وجهه ... حيّا وقال فديت من لا يفلح وقال رجل للحسن: أبا سعيد، أردت البارحة أن أصلي فلم أستطع، قال: قيّدتك ذنوبك. قولهم في الموت بين النبي صلّى الله عليه وسلم وابن الخطاب: قال النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه: «ما عندك من ذكر الموت أبا حفص؟» قال: أمسي فما أرى أنّي أصبح، وأصبح فما أرى أني أمسي! قال: «الأمر أوشك من ذلك أبا حفص، أما إنه يخرج عني نفسي فما أرى أنه يعود إليّ!» وقال عبد الله بن شدّاد: أرى داعي الموت لا يقلع، ومن مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع «2» . وقال الحسن: ابن آدم، إنما أنت عدد، فإذا مضى يومك فقد مضى بعضك.

ابن العلاء وجرير:

وقال أبو العتاهية: الناس في غفلاتهم ... ورحى المنيّة تطحن وقال عمر بن عبد العزيز: من أكثر من ذكر الموت اكتفى باليسير، ومن علم أن الكلام عمل: قلّ كلامه إلا فيما ينفع. وكان أبو الدرداء إذا رأى جنازة قال: اغدي «1» فإنا رائحون، أو روحي «2» فإنا غادون. وقال رجل للحسن: مات فلان فجأة. فقال: لو لم يمت فجأة لمرض فجأة ثم مات. وقال يعقوب صلوات الله عليه للبشير الذي أتاه بقميص يوسف: ما أدري ما أثيبك به، ولكن هوّن الله عليك سكرات الموت. ابن العلاء وجرير: وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه: ودّع أمامة حان منك رحيل ثم طلعت جنازة فأمسك وقال: شيّبتني هذه الجنازة. قلت: فلم تساب الناس؟ قال: يبدءونني ثم لا أعفو، وأعتدي ولا أبتدي. ثم أنشأ يقول: تروّعنا الجنائز مقبلات ... فنلهو حين تذهب مدبرات كروعة ثلّة لمغار سبع ... فلما غاب عادت راتعات «3» وقالوا: من جعل الموت بين عينيه، لها عما في يديه. وقالوا: اتخذ نوح بيتا من جصّ، فقيل: لو بنيت ما هو أحسن من هذا! قال: هذا كثير لمن يموت.

لأمية:

لأمية: وأحكم بيت قالته العرب في وصف الموت، بيت أمية بن أبي الصلت حيث يقول: يوشك من فرّ من منيّته ... في بعض غرّاته يوافقها من لم يمت عبطة يمت هرما ... للموت كاس والمرء ذائقها «1» لأصبغ في عابد: وقال أصبغ بن الفرج، كان بنجران عابد يصيح في كل يوم صيحتين بهذين البيتين: منع البقاء مطالع الشمس ... وغدوّها من حيث لا تمسي وطلوعها حمراء قانية ... وغروبها صفراء كالورس» اليوم يخبر ما يجيء به ... ومضى بفصل قضائه أمس وقال آخر: زيّنت بينك جاهلا وعمرته ... ولعلّ صهرك صاحب البيت من كانت الأيام سائرة به ... فكأنه قد حلّ بالموت! والمرء مرتهن بسوف وليتني ... وهلاكه في السّوف والّليت لله درّ فتى تدبّر أمره ... فغدا وراح مبادر الموت وقال صريع الغواني: كم رأينا من أناس هلكوا ... قد بكوا أحبابهم ثم بكوا تركوا الدّنيا لمن بعدهم ... ودّهم لو قدّموا ما تركوا كم رأينا من ملوك سوقة ... ورأينا سوقة قد ملكوا وقال الصّلتان العبديّ:

أشاب الصّغير وأفنى الكبير ... كرّ الغداة ومرّ العشي «1» إذا ليلة هزمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي وكان سفيان بن عيينة يستحسن قول عدي بن زيد: أين أهل الدّيار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدها وثمود بينما هم على الأسرّة والأنماط ... أفضت إلى التراب الخدود وصحيح أمسى يعود مريضا ... وهو أدنى للموت ممن يعود ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا كلّه وذاك الوعيد وقال أبو العتاهية في وصف الموت: كأنّ الأرض قد طويت عليّا ... وقد أخرجت مما في يديّا كأني صرت منفردا وحيدا ... ومرتهنا لديك بما عليّا كأنّ الباكيات عليّ يوما ... ولا يغنى البكاء عليّ شيّا ذكرن منيّتي فنعيت نفسي ... ألا أسعد أخيّك يا أخيّا وقال: ستخلق جدّة وتحول حال ... وعند الحقّ تختبر الرّجال وللدّنيا ودائع في قلوب ... بها جرت القطيعة والوصال تخوّف ما لعلّك لا تراه ... وترجوا ما لعلّك لا تنال وقد طلع الهلال لهدم عمري ... وأفرح كلما طلع الهلال! وله أيضا: من يعش يكبر ومن يكبر يمت ... والمنايا لا تبالي من أتت نحن في دار بلاء وأذى ... وشقاء وعناء وعنت «2»

لابن عبد ربه:

منزل ما يثبت المرء به ... سالما إلّا قليلا إن ثبت أيها المغرور ما هذا الصّبا ... لو نهيت النفس عنه لانتهت رحم الله امرأ أنصف من ... نفسه إذ قال خيرا أو سكت لابن عبد ربه: ومن قولنا في ذكرت الموت: من لي إذا جدت بين الأهل والولد ... وكان منّي نحو الموت قيس يدي «1» والدّمع يهمل والأنفاس صاعدة ... فالدّمع في صبب والنّفس في صعد ذاك القضاء الذي لا شيء يصرفه ... حتى يفرّق بين الرّوح والجسد ومن قولنا فيه: أتلهو بين باطية «2» وزير ... وأنت من الهلاك على شفير؟ فيامن غرّه أمل طويل ... يؤدّيه إلى أجل قصير أتفرح والمنيّة كلّ يوم ... تريك مكان قبرك في القبور؟ هي الدّنيا فإن سرّتك يوما ... فإنّ الحزن عاقبة السرور ستسلب كل ما جمّعت منها ... كعارية تردّ المعير وتعتاض اليقين من التّظنّي ... ودار الحقّ من دار الغرور ولأبي العتاهية: وليس من منزل يأويه مرتحل ... إلّا وللموت سيف فيه مسلول وله أيضا: ما أقرب الموت منا ... تجاوز الله عنا كأنه قد سقانا ... بكاسه حيث كنا وله أيضا:

أؤمّل أن أخلّد والمنايا ... يثبن عليّ من كلّ النواحي وما أدري أمسيت حيّا ... لعلّي لا أعيش إلى الصباح وقال الغزّال: أصبحت والله مجهودا على أمل ... من الحياة قصير غير ممتدّ وما أفارق يوما من أفارقه ... إلّا حسبت فراقي آخر العهد انظر إليّ إذا أدرجت في كفني ... وانظر إليّ إذا أدرجت في لحدي واقعد قليلا وعاين من يقيم معي ... ممن يشيّع نعشي من ذوي ودّي هيهات! كلّهم في شأنه لعب ... يرمي التراب ويحثوه على خدّي وقال أبو العتاهية: نعى لك ظلّ الشّباب المشيب ... ونادتك باسم سواك الخطوب فكن مستعدّا لريب المنون ... فإنّ الذي هو آت قريب وقبلك داوى الطّبيب المريض ... فعاش المريض ومات الطّبيب يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب؟ وله أيضا: أخي ادّخر مهما استطعت ... ليوم بؤسك وافتقارك فلتنزلنّ بمنزل ... تحتاج فيه إلى ادّخارك وقال أبو الأسود الدؤلي: أيها الآمل ما ليس له ... ربما غرّ سفيها أمله ربّ من مات يمنّي نفسه ... حال من دون مناه أجله والفتى المختال فيما نابه ... ربما ضاقت عليه حيله قل لمن مثّل في أشعاره ... يهلك المرء ويبقى مثله «1» نافس المحسن في إحسانه ... فسيكفيك سناء عمله

وقال عدي بن زيد العبادي: أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور وبنو الأصفر الكرام ملوك الرّ ... وم لم يبق منهم مذكور أخو الحضرا إذ بناه وإذا دج ... لة تجبى إليه والخابورو «1» شاده مرمرا وجلّله كل ... سا فللطّير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور وتفكّر ربّ الخورنق إذ أص ... بح يوما وللهدى تفكير «2» سرّه حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسّدير «3» فارعوى قلبه فقال: وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير؟ ثم بعد الفلاح والملك والنّع ... مة وارتهم هناك القبور ثم صاروا كأنهم ورق ج ... فّ فألوت به الصّبا والدّبور وقال حريث بن جبلة العذرى: يا قلب إنك في الأحياء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير حتى متى أنت فيها مدنف وله ... لا يستفزّنك منها البدر والحور قد بحت بالجهل لا تخفيه عن أحد ... حتى جرت بك أطلاق محاضير «4» تريد أمرا فما تدري أعاجله ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير فاستقدر الله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذا دارت مياسير وبينما المرء في الأحياء مغتبطا ... والدهر في الرّمس تعفوه الأعاصير حتى كأن لم يكن إلّا توهّمه ... والدهر في كلّ حاليه دهارير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور

قولهم في الطاعون

فذاك آخر عهد من أخيك إذا ... ما ضمّنت شلوه اللحد المحافير قولهم في الطاعون عمر بن الخطاب وابن الجراح في الطاعون: قال أبو عبيدة بن الجرّاح لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه لما بلغه أن الطاعون وقع في الشام فانصرف بالناس: أفرارا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو أن لك إبلا هبطت بها واديا له جهتان إحداهما خصيبة والأخرى جديبة، أليس لو رعيت في الخصيبة رعيتها بقدر الله، ولو رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله؟ وكان عبد الرحمن بن عوف غائبا فأقبل، فقال: عندي في هذا علم سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» . فحمد الله عمر، ثم انصرف بالناس. للوليد بن عبد الملك في مثله: وقيل للوليد بن عبد الملك حين فرّ من الطاعون: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى بقول: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا «1» . قال: ذلك القليل نطلب. من شريح إلى صديق له فر من الطاعون: العتبي قال: وقع الطاعون بالكوفة، فخرج صديق لشريح إلى النّجف، فكتب إليه شريح: أما بعد؛ فإن الموضع الذي هربت منه لم يسق إلى أجلك تمامه، ولم يسلبه أيامه؛ وإن الموضع الذي صرت إليه لبعين من لا يعجزه طلب، ولا يفوته هرب؛ وإنا وإياك على بساط ملك، والنجف من ذي قدرة لقريب.

الحسين في الطاعون الجارف:

الحسين في الطاعون الجارف: لما وقع الطاعون الجارف أطاف الناس بالحسين، فقال: ما أحسن ما صنع بكم ربّكم؛ أقلع مذنب وأنفق ممسك. لأعرابي هرب من الطاعون: وخرج أعرابي هاربا من الطاعون فلدغته أفعى في طريقه فمات. فقال أخوه يرثيه: طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك ليت شعري ضلّة ... أيّ شيء قتلك أجحاف سائل ... من جبال حملك والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك ابن وهب وابن الزيات: حكى أن ماء المطر اتصل في وقت من الأوقات، فقطع الحسن بن وهب عن لقاء محمد بن عبد الملك الزيات، فكتب إليه الحسن: يوضح العذر في تراخي اللّقاء ... ما توالى من هذه الأنواء فسلام الإله أهديه منّي ... كلّ يوم لسيد الوزراء لست أدري ماذا أذمّ وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء غير أني أدعو لهاتيك بالثّ ... كل وأدعو لهذه بالبقاء ابن الزيات وابن أبي داود: اتصل بأحمد بن أبي دواد أن محمد بن عبد الملك هجاه بقصيدة فيها تسعون بيتا، فقال: أحسن من تسعين بيتا سدى ... جمعك معناهّن في بيت

مقتل زيد ابن حسين:

ما أحوج الناس إلى مطرة ... تزيل عنهم وضر الزيت «1» فبلغ قوله محمدا فقال: يأيها المأفون رأيا لقد ... عرّضت بي نفسك للموت «2» قيّرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت «3» الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت وقيل لابن أبي داود: لم لا تسأل حوائجك الخليفة بحضرة محمد بن عبد الملك؟ فقال: لا أحب أن أعلمه شأني. مقتل زيد ابن حسين: وقد حدث أبو القاسم جعفر، أن محمد الحسني قال: أخبرنا محمد بن زكريا الغلابيّ، قال: حدثنا محمد بن نجيع النّوبختي، قال: حدثنا يحيى أنّ سليمان قال: حدثني أبي، وكان ممن لحق الصحابة، قال: دخلت الكوفة، فإذا أنا برجل يحدث الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: بكر بن الطرماح؛ فسمعته يقول: سمعت زيد بن حسين يقول: لما قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، أتى بنعيه إلى المدينة كلثوم بن عمرو، فكانت تلك الساعة التي أتى فيها أشبه بالساعة التي قبض فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من باك وباكية، وصارخ وصارخة، حتى إذا هدأت عبرة البكاء عن الناس، قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تعالوا حتى نذهب إلى عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، فننظر حزنها على ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقام الناس جميعا حتى أتوا منزل عائشة رضي الله عنها، فاستأذنوا عليها، فوجدوا الخبر قد سبق إليها، وإذا هي في غمرة الأحزان وعبرة الأشجان، ما تفتر عن البكاء والنحيب منذ وقت سمعت بخبره، فلما نظر الناس إلى ذلك منها انصرفوا؛ فلما كان من غد قيل إنها غدت إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يبق في المسجد أحد من المهاجرين إلا استقبلها يسلم عليها،

لابن عباس:

وهي لا تسلم ولا تردّ ولا تطيق الكلام؛ من غزرة الدمعة، وغمرة العبرة، تختنق بعبرتها، وتتعثر في أثوابها، والناس من خلفها، حتى أتت إلى الحجرة، فأخذت بعضادتي «1» الباب، ثم قالت: السّلام عليك يا نبي الهدى، السّلام عليك يا أبا القاسم، السّلام عليك يا رسول الله وعلى صاحبيك، يا رسول الله؛ أنا ناعية إليك أحظى أحبابك، وذاكرة لك أكرم أودّائك «2» عليك، قتل والله حبيبك المجتبى، وصفيّك المرتضى، قتل والله من زوجته خير النساء، قتل والله من آمن ووفى، وإني لنادبة ثكلى، وعليه باكية حرّى، فلو كشف عنك الثرى لقلت إنه قتل أكرمهم عليك، وأحظاهم لديك؛ ولو أمرت أن يجيب النداء لك مني ما تعرضت له منذ اليوم، والله يجري الأمور على السداد. قال المبرد: عزى أحمد بن يوسف الكاتب ولد الربيع، فقال: عظّم أجركم، ورحم الله فقيدكم؛ وجعل لكم من وراء مصيبتكم حالا يجمع شملكم، ويلم شعثكم، ولا يفرق ملأكم. وقيل لأعرابية مات لها بنون عدّة: ما فعل بنوك؟ قالت: أكلهم دهر لا يشبع. وعزى رجل الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، كان لك الأجر لا بك، وكان العزاء لك لا عنك. لابن عباس: ومما روي أنّ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما نعي إليه ابنه وهو في السفر، فاسترجع ثم قال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر ساقه الله. للنبي صلّى الله عليه وسلم في ابنته: وقال أسامة بن زيد رضي الله عنهما لما عزّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بابنته رقية. قال:

ملك كندة وأعرابي عزاه في ابنته:

«الحمد لله. دفن البنات من المكرمات» . وفي رواية: «من المكرمات دفن البنات» . ملك كندة وأعرابي عزاه في ابنته: وقال الغزّال: ماتت ابنة لبعض ملوك كندة، فوضع بين يديه بدرة «1» من الذهب، وقال: من أبلغ في التعزية فهي له! فدخل عليه أعرابي فقال: أعظم الله أجر الملك! كفيت المؤنة! وسترت العورة! ونعم الصهر القبر! فقال له الملك: أبلغت وأوجزت. وأعطاه البدرة. من أحب الموت ومن كرهه في بعض الأحاديث: «لا يتمنى أحدكم الموت؛ فعسى أن يكون محسنا فيزداد في إحسانه، أو يكون مسيئا فينزع عن إساءته» . وقد جاء في الحديث: «يقول الله تبارك وتعالى: إذا أحبّ عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» . وليس معنى هذا الحديث حبّ الموت وكراهته، ولكن معناه من أحب الله أحبه الله، ومن كره الله كرهه الله. وقال أبو هريرة: كره الناس ثلاثا وأحببتهنّ: كرهوا المرض وأحببته، وكرهوا الفقر وأحببته، وكرهوا الموت وأحببته! بشر بن منصور: عبد الأعلى بن حماد قال: دخلنا على بشر بن منصور وهو في الموت، وإذا هو من السرور في أمر عظيم؛ فقلنا له: ما هذا السرور؟ قال: سبحان الله! أخرج من بين الظالمين والحاسدين والمغتابين والباغين وأقدم على أرحم الراحمين ولا أسرّ.

الوليد بن عبد الملك وشيخ:

الوليد بن عبد الملك وشيخ: ودخل الوليد بن عبد الملك المسجد، فخرج كل من كان فيه، إلا شيخا قدحناه الكبر؛ فأرادوا أن يخرجوه، فأشار إليهم [الوليد] أن دعوا الشيخ. ثم مضى حتى وقف عليه، فقال له: يا شيخ، تحب الموت؟ قال: لا يا أمير المؤمنين؛ ذهب الشباب وشره، وأتى الكبر وخيره؛ فإذا قمت حمدت الله، وإذا قعدت ذكرته؛ فأنا أحب أن تدوم لي هاتان الخلتان. النبي صلّى الله عليه وسلم وعبد الله بن عمر: قال عبد الله بن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي لا أحب الموت؟ قال: «هل لك مال» ؟ قال: نعم. قال: «فقدّمه بين يديك» . قال: لا أطيق ذلك! فقال النبي عليه السّلام: «المرء مع ماله؛ إن قدّمه أحب أن يلحقه، وإن أخره أحب أن يتخلف معه!» وقال الشاعر في كراهية الموت: قامت تشجّعني هند فقلت لها ... إنّ الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب وقالت الحكماء: الموت كريه. وقالوا: أشدّ من الموت ما إذا نزل بك أحببت له الموت؛ وأطيب من العيش ما إذا فارقته أبغضت له العيش. التهجد «1» للنبي صلّى الله عليه وسلم: المغيرة بن شعبة قال: قام النبيّ صلّى الله عليه وسلم حتى ورمت قدماه. وقيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ قال: إنهم خلوا بالرحمن

المغيرة والنخعي:

فأسفر نورهم من نوره. وكان بعضهم يصلي الليل حتى إذا نظر إلى الفجر، قال: عند الصباح يحمد القوم السّرى. وقالوا: الشتاء ربيع المؤمنين؛ يطول ليلهم للقيام، ويقصر نهارهم للصيام. وقال صلّى الله عليه وسلم: «أطعموا الطعام، وأفشوا السّلام، وصلّوا بالليل والناس نيام. وقال الله تبارك وتعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «1» . وهذا يوافق الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من مستغيث فأغيثه» . المغيرة والنخعي: أبو عوانة عن المغيرة قال: قلت لإبراهيم النّخعي: ما تقول في الرجل يرى الضوء بالليل؟ قال: هو من الشيطان، لو كان خيرا لأريه أهل بدر. البكاء من خشية الله عز وجل قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «حرّم الله على النّار كلّ عين تبكي من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله» . وكان يريد الرقاشي قد بكى حتى سقطت أشفار «2» عينيه. وقيل لغالب بن عبد الله: أما تخاف على عينيك من العمى من طول البكاء؟ فقال: شفاءها أريد. وقيل ليزيد بن مزيد: ما بال عينك لا تجف؟ قال: أي أخي، إن الله أوعدني إن عصيته أن يحبسني في النار: ولو أوعدني أن يحبسني في الحمّام لكنت حريّا أن لا تجف عيني.

النهي عن كثرة الضحك

قال عمر بن ذرّ لأبيه: مالك إذا تكلمت أبكيت الناس، فإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ قال: يا بني، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة. وقال الله لنبي من أنبيائه: هب لي من قلبك الخشوع، ومن عينيك الدموع؛ ثم ادعني أستجب لك. ومن قولنا في البكاء: مدامع قد خدّدت في الخدود ... وأعين مكحولة بالهجود ومعشر أوعدهم ربّهم ... فبادروا خشية ذاك الوعيد فهم عكوف في محاريبهم ... يبكون من خوف عقاب المجيد قد كاد أن يعشب من دمعهم ... ما قابلت أعينهم في السّجود وقال قيس بن الأصمّ في هذا المعنى: صلّي الإله على قوم شهدتهم ... كانوا إذا ذكروا أو ذكّروا شهقوا كانوا إذا ذكروا نار الجحيم بكوا ... وإن تلا بعضهم مخوّفا صعقوا من غير همز من الشيطان يأخذهم ... عند التّلاوة إلا الخوف والشّفق «1» صرعى من الحزن قد سجّوا ثيابهم ... بقيّة الرّوح في أوداجهم رمق «2» حتى تخالهم لو كنت شاهدهم ... من شدّة الخوف والإشفاق قد زهقوا النهي عن كثرة الضحك في الحديث المرفوع: «كثرة الضحك تميت القلب وتذهب بهاء المؤمن» . وفيه: «لو علمتم ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا» . وفيه: «إن الله يكره لكم العبث في الصلاة: والرفث «3» في الصيام، والضحك في الجنائز» .

الحسن وقوم يضحكون:

الحسن وقوم يضحكون: ومر الحسن بقوم يضحكون في شهر رمضان، فقال: يا قوم، إنّ الله جعل رمضان مضمارا لخلقه يتسابقون فيه إلى رحمته؛ فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا؛ فالعجب من الضاحك اللاهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلفون! أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسنا إحسانه ومسيئا إساءته. عبد الله وضاحك: ونظر عبد الله بن ثعلبة إلى رجل يضحك مستغرقا، فقال له: أتضحك ولعل أكفانك قد أخذت من عند القصّار «1» ؟ وقال الشاعر: وكم من فتى يمسي ويصبح آمنا ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري النهي عن خدمة السلطان وإتيان الملوك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من دخل على الملوك خرج وهو ساخط على الله. أبو جعفر وسفيان: أرسل أبو جعفر إلى سفيان، فلما دخل عليه قال: سلني حاجتك أبا عبد الله! قال: وتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: فإن حاجتي إليك أن لا ترسل إليّ حتى آتيك، ولا تعطيني شيئا حتى أسألك! ثم خرج؛ فقال أبو جعفر: ألقينا الحبّ إلى العلماء فلقطوا، إلا ما كان من سفيان الثوري، فإنه أعيانا فرارا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الدخول على الأغنياء فتنة للفقراء.

مالك بن دينار وسجين:

وقال زياد لأصحابه: من أغبط الناس عيشا؟ قالوا: الأمير وأصحابه. قال: كلا؛ إنّ لأعواد المنبر لهيبة، ولقرع لجام البريد لفزعة. ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يسكنها، وزوجة صالحة يأوي إليها، في كفاف من عيش، لا يعرفنا ولا نعرفه؛ فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه. وقال الشاعر: إنّ الملوك بلاء حيثما حلّوا ... فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تريد بقوم إن هم غضبوا ... جاروا عليك وإن أرضيتهم ملّوا فاستغن بالله عن إتيانهم أبدا ... إنّ الوقوف على أبوابهم ذلّ وقال آخر: لا تصحبنّ ذوي السّلطان في عمل ... تصبح على وجل تمسي على وجل «1» كل التّراب ولا تعمل لهم عملا ... فالشّرّ أجمعه في ذلك العمل وفي كتاب كليلة ودمنة: صاحب السلطان مثل راكب الأسد: لا يدري متى يهيج به فيقتله. مالك بن دينار وسجين: ودخل مالك بن دينار على رجل في السجن يزوره، فنظر إلى رجل جنديّ قد اتكأ في رجليه كبول «2» قد قرنت بين ساقيه، وقد أتي بسفرة كثيرة الألوان؛ فدعا مالك بن دينار إلى طعامه؛ فقال له: أخشى إن أكلت من طعامك هذا أن يطرح في رجلي مثل كبولك هذه. وفي كتاب الهند: السلطان مثل النار: إن تباعدت عنها احتجت إليها، وإن دنوت منها أحرقتك.

أيوب وأبو قلابة في القضاء:

أيوب وأبو قلابة في القضاء: أيوب السختياني قال: طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب منها إلى الشام، فأقام حينا ثم رجع، قال أيوب فقلت له: لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران. قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر فكم عسى أن يسبح! إبراهيم يعظ بقية: وقال بقية: قال لي إبراهيم: يا بقية، كن ذنبا ولا تكن رأسا، فإن الرأس يهلك والذنب ينجو. ومن قولنا في خدمة السلطان وصحبته: تجنّب لباس الخزّ إن كنت عاقلا ... ولا تختتم «1» يوما بفصّ زبرجد ولا تتغلّل بالغوالي تعطّرا ... وتسحب أذيال الملاء المعضّد «2» ولا تتبختر صيّت النّعل زاهيا ... ولا تتصدّر في الفراش الممهّد وكن هملا في الناس أغبر شاعثا ... تروح وتغدو في إزار وبرجد «3» ترى جلد كبش تحته كلّ ما استوى ... عليه سرير فوق صرح ممرّد ولا تطمح العينان منك إلى امرىء ... له سطوات باللّسان وباليد تراءت له الدّنيا بزبرج عيشها ... وقادت له الأطماع غير مقوّد فأسمن كشحيه وأهزل دينه ... ولم يرتقب في اليوم عاقبة الغد «4» فيوما تراه تحت سوط مجرّدا ... ويوما تراه فوق سرج منضّد «5» فيرحم تارات ويحسد تارة ... فذا شر مرحوم وذا شرّ محسد القول في الملوك الأصمعي قال: بلغني أن الحسن قال: يابن آدم، أنت أسير الجوع، صريع الشبع؛

لمالك:

إن قوما لبسوا هذه المطارف «1» العتاق. والعمائم الرقاق، ووسعوا دورهم، وضيقوا قبورهم، وأسمنوا دوابهم، وأهزلوا دينهم، يتكىء أحدهم على شماله، ويأكل من غير ماله فإذا أدركته الكظّة قال: يا جارية، هاتي هاضومك! ويلك! وهل تهضم إلا دينك؟ لمالك: يحيى بن يحيى قال: جلس مالك يوما فأطرق مليّا، ثم رفع رأسه فقال: يا حسرة على الملوك! لا هم تركوا في نعيم دنياهم، وماتوا قبل أن يموتوا حزنا على ما خلّفوا، وجزعا مما استقبلوا! وقال الحسن، وذكر عنده الملوك: أما إنهم وإن هملجت» لهم البغال، وأطافت بهم الرجال، وتعاقبت لهم الأموال، إن ذل المعصية في قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يذلّ من عصاه! لعبد الله بن الحسن: الأصمعي قال: خطب عبد الله بن الحسن على منبر البصرة فأنشد على المنبر: أين الملوك التي عن حظّها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها بلاء المؤمن في الدنيا قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن كالخامة من الزرع: تميل بها الريح مرة كذا ومرة كذا؛ والكافر كالأرزة المجدثة على الأرض يكون انجعافها مرة» . ومعنى هذا الحديث: تردّد الرزايا على المؤمن، وتجافيها عن الكافر ليزداد إثما. وقال وهب بن منبه: قرأت في بعض الكتب: إني لأذود عبادي المخلصين عن نعيم

كتمان البلاء إذا نزل

الدنيا، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن موارد الهلكة. قال الفضيل بن عياض: ألا ترون كيف يزوي الله الدنيا عمن يحب من خلقه: يمررها عليه مرة بالجوع، ومرة بالعري، ومرة بالحاجة؛ كما تصنع الأم الشفيقة بولدها: تفطمه بالصبر مرة، ومرة بالحضض «1» ؛ وإنما يريد بذلك ما هو خير له. وفي الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أخبرني جبريل عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ما ابتليت عبدي ببلية في نفسه أو ماله أو ولده فتلقاها بصبر جميل إلا استحييت يوم القيامة أن أرفع له ميزانا أو أنشر له ديوانا» . كتمان البلاء إذا نزل قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ابتلي ببلاء فكتمه ثلاثة أيام صبرا واحتسابا، كان له أجر شهيد» . وسمع الفضيل بن عياض رجلا يشكو بلاء نزل به، فقال: يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك. وقال: من شكا مصيبة نزلت به فكأنما شكا ربّه. وقال دريد بن الصمة يرثي أخاه عبد الله بن الصمة: قليل التشكّي للمصائب ذاكرا ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وقال تأبط شرا: قليل التشكّي للملمّ يصيبه ... كثير النّوى شتى الهوى والمسالك «2» لشريح: الشيباني قال: أخبرني صديق لي قال: سمعني شريح وأنا أشتكي بعض ما غمّني إلى صديق، فأخذ بيدي وقال: يا بن أخي. إياك والشكوى إلى غير الله؛ فإنه لا يخلو

بين عقيل بن أبي طالب وأخيه علي:

من تشكو إليه أن يكون صديقا أو عدوا؛ فأما الصديق فتحزنه ولا ينفعك، وأما العدو فيشمت بك. انظر إلى عيني هذه- وأشار إلى إحدى عينيه- فو الله ما أبصرت بها شخصا ولا طريقا منذ خمس عشرة سنة، وما أخبرت بها أحدا إلى هذه الغاية. أما سمعت قول العبد الصالح: إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله! فاجعله مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك؛ فإنه أكرم مسئول؛ وأقرب مدعو. بين عقيل بن أبي طالب وأخيه علي: كتب عقيل إلى أخيه عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهما، يسأله عن حاله؛ فكتب إليه: فأن تسألنّي كيف أنت فإنني ... جليد على ريب الزمان صليب عزيز عليّ أن ترى بي كآبة ... فيفرح واش أو يساء حبيب «1» وكان ابن شبرمة إذا نزلت به نازلة قال: سحابة صيف عن قليل تقشّع. وكان يقال: أربع من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان الصدقة، وكتمان الفاقة، وكتمان الوجع. القناعة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أصبح وأمسى آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ كان كمن حيزت له الدنيا بحذافيرها» . السّرب: المسلك؛ يقال: فلان واسع السرب: يعني المسلك والمذهب. وقال قيس بن عاصم: يا بني، عليكم بحفظ المال، فإنه منبهة الكريم، ويستغنى به عن اللئيم؛ وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل. وقال سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني: إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد؛ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر؛ وعليك باليأس، فإنك لم تيأس من

شيء قط إلا أغناك الله عنه. وقالوا: الغنيّ من استغنى بالله، والفقير من افتقر إلى الناس. وقالوا: لا غنى إلا غنى النفس. وقيل لأبي حازم: ما مالك؟ قال: مالان: الغنى بما في يدي عن الناس، واليأس عما في أيدي الناس! وقيل لآخر: ما مالك؟ فقال: التجمل في الظاهر، والقصد في الباطن. وقال آخر: لا بدّ ممّا ليس منه بدّ ... اليأس حرّ والرجاء عبد وليس يفني الكدّ إلّا الجدّ وقالوا: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة الحرص التعب. وقال البحتري: إذا ما كان عندي قوت يوم ... طرحت الهمّ عنّي يا سعيد ولم تخطر هموم غد ببالي ... لأنّ غدا له رزق جديد وقال عروة بن أذينة: لقد علمت وخير القول أصدقه ... بأنّ رزقي وإن لم يأت يأتيني أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني «1» وفد عروة بن أذينة على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فقال له عبد الملك: ألست القائل يا عروة: أسعى له فيعنّيني تطلبه فما أراك إلا قد سعيت له. فخرج عنه عروة وشخص من فوره ذلك إلى المدينة. فافتقده عبد الملك، فقيل له: توجّه إلى المدينة. فبعث إليه بألف دينار فلما أتاه

الرسول قال: قل لأمير المؤمنين: الأمر على ما قلت؛ قد سعيت له فعنّاني تطلّبه، وقعدت عنه فأتاني لا يعنّيني. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» . وقال تعالى فيما حكى عن لقمان الحكيم: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ «1» . وقال الحسن: ابن آدم، لست بسابق أجلك، ولا ببالغ أملك، ولا مغلوب على رزق، ولا بمرزوق ما ليس لك؛ فعلام تقتل نفسك؟ قال ابن عبد ربّه: قد أخذت هذا المعنى فنظمته في شعري فقلت: لست بقاض أملي ... ولا بعاد أجلي ولا بمغلوب على الرّ ... زق الذي قدّر لي ولا بمعطى رزق غي ... ري بالشّقا والعمل فليت شعري ما الّذي ... أدخلني في شغلي وقال آخر: سيكون الذي قضي ... غضب المرء أم رضى سيكون الذي قضي ... غضب المرء أم رضى وقال محمود الوراق: أما عجب أن يكفل النّاس بعضهم ... ببعض فيرضى بالكفيل المطالب وقد كفل الله المليّ بنفسه ... فلم يرض والإنسان فيه عجائب عليم بأن الله موف بوعده ... وفي قلبه شك على القلب دائب أبى الجهل إلّا أن يصير بعلمه ... فلم يغن عنه علمه والتّجارب

وله أيضا: أتطلب رزق الله من عند غيره ... وتصبح من خوف العواقب آمنا وترضى بصرّاف وإن كان مشركا ... ضمينا «1» ، ولا ترضى بربّك ضامنا! وقال أيضا: غنى النفس يغنيها إذا كنت قانعا ... وليس بمغنيك الكثير من الحرص وإنّ اعتقاد الهمّ للخير جامعا ... وقلّة همّ المرء يدعو إلى النّقص وله أيضا: من كان ذا مال كثير ولم ... يقنع، فذاك الموسر المعسر وكلّ من كان قنوعا وإن ... كان مقلا، فهو المكثر الفقر في النفس وفيها الغنى ... وفي غنى النفس الغنى الأكبر وقال بكر بن حماد: تبارك من ساس الأمور بعلمه ... وذلّ له أهل السّموات والأرض ومن قسم الأرزاق بين عباده ... وفضّل بعض الناس فيها على بعض فمن ظنّ أنّ الحرص فيها يزيده ... فقولوا له يزداد في الطّول والعرض! وقال ابن أبي حازم: ومنتظر للموت في كلّ ساعة ... يشيد ويبني دائبا ويحصّن له حين تبلوه حقيقة موقن ... وأفعاله أفعال من ليس يوقن عيان كإنكار، وكالجهل علمه ... يشكّ به في كلّ ما يتيقّن وقال أيضا: اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ... واقنع بيأس فإنّ العزّ في الياس واستغن عن كلّ ذي قربى وذي رحم ... إنّ الغنيّ من استغنى عن النّاس

وله أيضا: فلا تحرصنّ فإنّ الأمور ... بكفّ الإله مقاديرها فليس بآتيك منهيّها ... ولا قاصر عنك مأمورها وله أيضا: كم إلى كم أنت للحر ... ص وللآمال عبد؟ ليس يجدي الحرص والسّ ... عي إذا لم يك جدّ ما لما قد قدّر الله ... من الأمر مردّ قد جرى بالشرّ نحس ... وجرى بالخير سعد وجرى الناس على جر ... يهما قبل وبعد أمنوا الدّهر وما ... للدهر والأيام عهد غالهم فاصطلم الجم ... ع وأفنى ما أعدّوا «1» إنها الدّنيا- فلا تحف ... ل بها- جزر ومدّ وقال الأضبط بن قريع: ارض من الدهر ما أتاك به ... من يرض يوما بعيشه نفعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه وقال مسلم بن الوليد: لن يبطيء الأمر ما أمّلت أوبته ... إذا أعانك فيه رفق متّئد «2» والدهر آخذ ما أعطى، مكدّر ما ... أصفى، ومفسد ما أهوى له بيد فلا يغرنك من دهر عطيّته ... فليس يترك ما أعطى على أحد وقال كلثوم العتابي: تلوم على ترك الغنى باهليّة ... لوى الدهر عنها كل طرف وتالد «3»

رأت حولها النّسوان يرفلن في الكسا ... مقلّدة أجيادها بالقلائد يسرّك أنّي نلت ما نال جعفر ... وما نال يحيى- في الحياة- بن خالد وأنّ أمير المؤمنين أعضّني ... معضّهما بالمرهفات الحدائد «1» ذريني تجئنى منيتي مطمئنّة ... ولم أتجشّم هول تلك الموارد فإن الذي يسمو إلى الرتب العلى ... سيرمى بألوان الفرى والمكايد «2» وجدت لذاذات الحياة مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود وقال: حتى متى أنا في حلّ وترحال ... وطول شغل بإدبار وإقبال ونازح الدار ما أنفك مغتربا ... عن الأحبّة ما يدرون ما حالي بمشرق الأرض طورا ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرص على بالي ولو قنعت أتاني الرزق في دعة ... إن القنوع الغنى، لا كثرة المال وقال عبد الله بن عباس: القناعة مال لا نفاد له. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الرزق رزقان: فرزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك. وقال حبيب: فالرّزق لا تكمد عليه فإنه ... يأتي ولم تبعث إليه رسولا «3» وفي كتاب للهند: لا ينبغي للملتمس أن يلتمس من العيش إلا الكفاف الذي به يدفع الحاجة عن نفسه، وما سوى ذلك إنما هو زيادة في تعبه وغمه. ومن هذا قالت الحكماء: أقل الدنيا يكفي وأكثرها لا يكفي! وقال أبو ذؤيب:

لإبراهيم:

والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع وقال المسيح عليه السّلام: عجبا منكم! إنكم تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بلا عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل. وقال الحسن: عيّرت اليهود عيسى عليه السّلام بالفقر؛ فقال: من الغنى أتيتم. أخذ هذا المعنى محمود الورّاق فقال: يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحّ منك النظر: ... أنّك تعصى كي تنال الغنى ... ولست تعصى الله كي تفتقر لإبراهيم: سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الطلب في أطارف الأرض. وقال الأعمش: أعطاني البنانيّ مضاربه «1» أخرج بها إلى ماء، فسألت إبراهيم، فقال لي: ما كانوا يطلبون الدنيا هذا الطلب وبين ماء وبين الكوفة عشرة أيام. ليونس بن حبيب: الأصمعي عن يونس بن حبيب قال: ليس دون الإيمان غنى ولا بعده فقر. قيل لخالد بن صفوان: ما أصبرك على هذا الثوب الخلق! قال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه. بين حكيمين: وكتب حكيم إلى حكيم يشكو إليه دهره: إنه ليس من أحد أنصفه زمانه فتصرّفت به الحال حسب استحقاقه، وإنك لا ترى الناس إلا أحد رجلين: إما مقدّم أخّره حظّه، أو متأخر قدّمه جدّه؛ فارض بالحال التي أنت عليها. وإن كانت دون أملك واستحقاقك اختيارا، وإلا رضيت بها اضطرارا.

بين الأصمعي وأعرابية:

وقيل للأحنف بن قيس: ما أصبرك على هذا الثوب؟ فقال: أحق ما صبر عليه ما ليس إلى مفارقته سبيل. بين الأصمعي وأعرابية: قال الأصمعي: رأيت أعرابية ذات جمال تسأل بمنى: فقلت لها: يا أمة الله، تسألين ولك هذا الجمال؟ قالت: قدّر الله فما أصنع؟ قلت: فمن أين معاشكم؟ قالت: هذا الحاج، نسقيهم ونغسل ثيابهم. قلت: فإذا ذهب الحاجّ فمن أين؟ فنظرت إليّ وقالت: يا صلت «1» الجبين، لو كنا نعيش من حيث نعلم ما عشنا! وقيل لرجل من أهل المدينة: ما أصبرك على الخبز والتمر! قال: ليتهما صبرا عليّ. الرضا بقضاء الله قالت الحكماء: أصل الزهد الرضا عن الله. وقال الفضيل بن عياض: استخيروا الله ولا تتخيروا عليه؛ فربما اختار العبد أمرا هلاكه فيه. وقالت الحكماء: رب محسود على رخاء هو شقاؤه، ومرحوم من سقم هو شفاؤه، ومغبوط بنعمة هي بلاؤه. وقال الشاعر: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنّعم وقالوا: من طلب فوق الكفاية، رجع من الدهر إلى أبعد غاية.

من قتر على نفسه وترك المال لوارثه

من قتر على نفسه وترك المال لوارثه لمالك: زياد عن مالك قال: من لم يكن فيه خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره؛ لأن نفسه أولى الأنفس كلها؛ فإذا ضيّعها فهو لما سواها أضيع؛ ومن أحب نفسه حاطها وأبقى عليها وتجنب كل ما يعيبها أو ينقصها؛ فجنبها السرقة مخافة القطع، والزنا مخافة الحدّ، والقتل خوف القصاص. الرشيد وبطريق هرقلة: داود بن علي الكاتب قال: لما افتتح هارون الرشيد هرقلة وأباحها ثلاثة أيام، وكان بطريقها الخارج عليه «فسيل» الرومي؛ فنظر إليه الرشيد مقبلا على جدار فيه كتاب باليونانية وهو يطيل النظر فيه. فدعا به وقال له: لم تركت النظر إلى الانتهاب والغنيمة وأقبلت على هذا الجدار تنظر فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قرأت في هذا الجدار كتابا هو أحب إليّ من هرقلة «1» وما فيها. قال له الرشيد: ما هو؟ قال «بسم الله الملك الحق المبين. ابن آدم، غافص «2» الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى وليها. ولا تحمل على قلبك همّ يوم ولم يأت بعد؛ إن يكن من أجلك يأتك الله برزقك فيه؛ ولا تجعل سعيك في طلب المال أسوة المغرورين، فربّ جامع لبعل حليلته، واعلم أن تقتير المرء على نفسه هو توفير منه على غيره، فالسعيد من اتعظ بهذه الكلمات ولم يضيعها» قال له الرشيد: أعدها عليّ يا فسيل. فأعادها عليه حتى حفظها. وقال الحسن: ابن آدم، أنت أسير في الدنيا، رضيت من لذتها بما ينقضي، ومن نعيمها بما يمضي، ومن ملكها بما ينفد، فلا تجمع الأوزار لنفسك، ولأهلك الأموال، فإذا متّ حملت الأوزار إلى قبرك وتركت أموالك لأهلك.

لابن عمر في وفاة ابن حارثة:

أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال: أبقيت مالك ميراثا لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال؟ القوم بعدك في حال تسوءهم ... فكيف بعدهم دارت بك الحال؟ ملوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال! وفي الحديث المرفوع: «أشدّ الناس حسرة يوم القيامة رجل كسب مالا من غير حلّه فدخل به النار، وورثه من عمل فيه بطاعة الله فدخل به الجنة» . لابن عمر في وفاة ابن حارثة: وقيل لعبد الله بن عمر: توفى زيد بن حارثة وترك مائة ألف. قال: لكنها لا تتركه. الحسن وابن الأهتم في مرضه: ودخل الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يصعّد بصره في صندوق في بيته ويصوّبه، ثم التفت إلى الحسن فقال: أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أؤدّ منها زكاة ولم أصل منها رحما؟ فقال له: ثكلتك أمّك! ولمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة. ثم مات، فشهد الحسن جنازته، فلما فرغ من دفنه ضرب بيده على القبر ثم قال: انظروا إلى هذا، أتاه شيطانه فحذره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته، عما استودعه الله إياه، وغمره فيه، انظروا إليه يخرج منها مذموما مدحورا «1» . ثم قال: أيها الوارث، لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا المال حلالا فلا يكوننّ عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا، ممن كان له جموعا منوعا؛ من باطل جمعه، ومن حق منعه؛ قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار؛ لم تكدح فيه

هشام بن عبد الملك حين حضرته الوفاة:

بيمين، ولم يعرق لك فيه جبين؛ إن يوم القيامة يوم حسرة وندامة، وإن من أعظم الحسرات غدا أن ترى مالك في ميزان غيرك؛ فيالها حسرة لا تقال، وتوبة لا تنال. هشام بن عبد الملك حين حضرته الوفاة: لما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاة، نظر إلى أهله يبكون عليه، فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما حمل؛ ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له. نقصان الخير وزيادة الشر عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل قال: إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء، وفتنة، ولا يزيد الأمر إلا شدّة، ولا الأئمة إلا علظا، وما يأتيكم أمر يهولكم إلا حقّره ما بعده. قال الشاعر: الخير والشر مزداد ومنتقص ... فالخير منتقص والشر مزداد وما أسائل عن قوم عرفتهم ... ذوي فضائل إلا قبل قد بادوا «1» العزلة عن الناس قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «استأنسوا بالوحدة عن جلساء السوء» . وقال: إن الإسلام بدأ غريبا ولا تقوم الساعة حتى يعود غريبا كما بدأ. وقال العتابي: ما رأيت الراحة إلا مع الخلوة، ولا الأنس إلا مع الوحشة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «خيركم الأتقياء الأصفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا» . وقال: «لا تدعوا حظكم من العزلة؛ فإن العزلة لكم عبادة» .

للقمان يعظ ابنه:

للقمان يعظ ابنه: وقال لقمان لابنه: استعذ بالله من شرار الناس، وكن من خيارهم على حذر. وقال إبراهيم بن أدهم: فرّ من الناس فرارك من الأسد. وقيل لإبراهيم بن أدهم: لم تجتنب الناس؟ فأنشأ يقول: ارض بالله صاحبا ... وذر الناس جانبا قلّب الناس كيف شئت تجدهم عقاربا لابن الزيات: وكان محمد بن عبد الملك الزيات يأنس بأهل البلادة ويستوحش من أهل الذكاء؛ فسئل عن ذلك فقال: مؤنة التحفظ شديدة! وقال ابن محيريز: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتسأل ولا تسأل، وتمشي ولا يمشى إليك، فافعل. وقال أيوب السختياني: ما أحب الله عبدا إلا أحب أن لا يشعر به. وقيل للعتابي: من تجالس اليوم؟ قال: من أبصق في وجهه ولا يغضب! قيل له: ومن هو؟ قال: الحائط. وقيل لدعبل الشاعر: ما الوحشة عندك؟ قال: النظر إلى الناس! ثم أنشأ يقول: ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهم ... الله يعلم أنّي لم أقل فندا «1» إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا وقال ابن أبي حازم: طب عن الإمرة نفسا ... وارض بالوحشة أنسا ما عليها أحد يسوى ... على الخبرة فلسا وقال آخر:

إعجاب الرجل بعمله

قد بلوت الناس طرّا ... لم أجد في الناس حرّا صار أحلى الناس في الع ... ين إذا ما ذيق مرّا إعجاب الرجل بعمله قال عمر بن الخطاب: ثلاث مهلكات، شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه. وفي الحديث: «خير من العجب بالطاعة، أن لا تأتي طاعة» . وقالوا: ضاحك معترف بذنبه، خير من باك مدلّ على ربه. وقالوا: سيّئة تسيئك، خير من حسنة تعجبك. وقال الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ «1» . وقال الحسن: ذمّ الرجل لنفسه في العلانية مدح لها في السريرة. وقالوا: من أظهر عيب نفسه فقد زكاها. وقيل: أوحى الله إلى عبده داود: يا داود، خالق «2» الناس بأخلاقهم واحتجز الإيمان بيني وبينك. وقال ثابت البناني: دخلت على داود، فقال لي: ما جاء بك؟ قلت، أزورك. قال: ومن أنا حتى تزورني؟ أمن العباد أنا؟ لا والله! أم من الزهاد؟ لا والله! ثم أقبل على نفسه يوبّخها. فقال: كنت في الشبيبة فاسقا، ثم شبت فصرت مرائيا؛ والله إن المرائي شر من الفاسق. بين عابدين: لقي عابد عابدا، فقال أحدهما لصاحبه: والله إني أحبك في الله. قال: والله لو اطلعت على سريرتي لأبغضتني في الله.

معاوية وبعض الرجال:

معاوية وبعض الرجال: وقال معاوية بن أبي سفيان لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا! قال: لو كنت كذلك لم تقله. وقال محمود الوراق: تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا محال في القياس بديع لو كنت تضمر حبّه لأطعته ... إن المحبّ لمن أحبّ مطيع في كل يوم يبتليك بنعمة ... منه وأنت بشكر ذاك مضيع تواضع ابن سيرين: وقال أبو الأشعث: دخلنا على ابن سيرين فوجدناه يصلي، فظن أنّا عجبنا بصلاته، فلما انفتل منها التفت لنا فقال: الرياء أخاف. للنبي صلّى الله عليه وسلم: زياد عن مالك قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والشّرك الأصغر. قالوا: وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء» . وقال عبد الله بن مسعود: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا رياء ولا سمعة «1» ، من سمّع الله به. وقال صلّى الله عليه وسلم: «ما أسرّ امرؤ سريرة إلّا ألبسه الله رداءها: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. للقمان يعظ ابنه: وقال لقمان الحكيم لابنه: احذر واحدة هي أهل للحذر. قال: وما هي؟ قال: إياك أن تري الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر.

للأشعث في تخفيف الصلاة:

وفي الحديث. «من أصلح سريرته أصلح الله علانيته» . وقال الشاعر: وإذا أظهرت شيئا حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسرّ فمسرّ الخير موسوم به ... ومسرّ الشّرّ موسوم بشرّ للأشعث في تخفيف الصلاة: صلى أشعث فخفف الصلاة، فقيل له: ما أخف صلاتك! قال: إنه لم يخالطها رياء. وصلى رجل من المرائين، فقيل له: ما أحسن صلاتك! فقال: ومع ذلك إني صائم! بين طاهر والمروزي: وقال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المروزي: كم لك منذ نزلت بالعراق؟ قال: منذ عشرين سنة، وأنا أصوم الدهر منذ ثلاثين سنة. قال: أبا عبد الله، سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين. ابن الخطاب: الأصمعي قال: أخبرني إبراهيم بن القعقاع بن حكيم قال: أمر عمر بن الخطاب لرجل بكيس، فقال الرجل: آخذ الخيط؟ قال عمر: ضع الكيس! بين الحسن وبعضهم: قال رجل للحسن وكتب عنك؟؟؟ كتابا: أتجعلني في حلّ من تراب حائطك؟ قال: يا ابن أخي، بلى، ورعك لا ينكر. وقال محمود الوراق: أظهروا للناس دينا ... وعلى الدّينار داروا

أبو العتاهية ومتصوف:

وله صاموا وصلّوا ... وله حجّوا وزاروا لو بدا فوق الثّريّا ... ولهم ريش لطاروا! وقال مساور الوراق: شمّر ثيابك واستعدّ لقائل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم وعليك بالغنوى فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيم وإذا دخلت على الرّبيع مسلّما ... فاخصص سبابة منك بالتّسليم وقال: تصوّف كي يقال له أمين ... وما معنى التّصوّف والأمانه ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانه وقال الغزال: يقول لي القاضي معاذ مشاورا ... وولّى امرأ فيما يرى من ذوي العدل قعيدك ماذا تحسب المرء فاعلا ... فقلت وماذا يفعل الدّبر في النحل «1» يدقّ خلاياها ويأكل شهدها ... ويترك للذّبّان ما كان من فضل وقال أبو عثمان المازني لبعض من راءى فهتك الله عز وجل ستره: بينا أنا في توبتي مستعبرا ... قد شبّهوني بأبي دواد وقد حملت العلم مستظهرا ... وحدّثوا عني بإسناد إذ خطر الشيطان لي خطرة ... نكست منها في أبي جاد «2» أبو العتاهية ومتصوف: وقال ابن أبي العتاهية: أرسلني أبي إلى صوفيّ قد قيّر «3» إحدى عينيه أسأله عن المعنى في ذلك؛ فقال: النظر إلى الدنيا بكلتا عينيّ إسراف. قال: ثم بدا له في ذلك، فاتصل الخبر بأبي فكتب إليه:

فخ الإسرائيلي والعصفورة:

مقيّر عينه ورعا ... أردت بذلك البدعا خلعت وأخبث الثقلين صوفيّ إذا خلعا «1» فخ الإسرائيلي والعصفورة: يحيى بن عبد العزيز قال: حدّثني نعيم عن إسماعيل، رجل من ولد أبي بكر الصديق، عن وهب بن منبه، قال: نصب رجل من بني إسرائيل فخّا فجاءت عصفورة فوقعت عليه، فقالت: مالي أراك منحنيا؟ قال: لكثرة صلاتي انحنيت قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي! قالت: فمالي أرى هذا الصوف عليك؟ قال: لزهادتي في الدنيا لبست الصوف! قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكأ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبة في يديك؟ قال: قربان إن مرّ بي مسكين ناولته إياه! قالت: فإني مسكينة! قال: فخذيها. فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها! فجعلت تقول: قعي قعي! قال: الخشني: تفسيره: لا غرني ناسك مراء بعدك أبدا. الدعاء قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن» . وقال: «الدعاء يردّ القدر والبرّ يزيد في العمر» . وقال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يردّ» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «استقبلوا البلاء بالدعاء» . وقال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» . وقال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ «3» . وقال عبد الله بن عباس: إذا دعوت الله فاجعل في دعائك الصلاة على النبي

لعائشة في النبي صلى الله عليه وسلم:

صلّى الله عليه وسلم؛ فإن الصلاة عليه مقبولة، والله أكرم من أن يقبل بعض دعائك ويردّ بعضا. وقال سعيد بن المسيب: كنت جالسا بين القبر والمنبر، فسمعت قائلا يقول: اللهم إني أسألك عملا بارّا، ورزقا دارّا، وعيشا قارّا. فالتفتّ فلم أر أحدا. لعائشة في النبي صلّى الله عليه وسلم: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت نائمة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة النصف من شعبان، فلما لصق جلدي بجلده أغفيت؛ ثم انتبهت، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس عندي؛ فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فلففت مرطي «1» - أما والله ما كان خزّا ولا قزّا، ولا ديباجا، ولا قطنا ولا كتانا، قيل: فما كان يا أمّ المؤمنين؟ قالت: كان سداه من شعر، ولحمته من أوبار الإبل- قالت: فحنوت عليه أطلبه حتى ألفيته كالثوب الساقط على وجهه في الأرض وهو ساجد يقول في سجوده: «سجد لك خيالي وسوادي، وآمن بك فؤادي؛ هذه يدي وما جنيت بها على نفس. ترجى لكلّ عظيم، فاغفر لي الذنب العظيم» فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لفي شأن وإني لفي شأن. فرفع رأسه ثم عاد ساجدا فقال: «أعوذ بوجهك الذي أضاءت له السموات السبع والأرضون السبع، من فجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك؛ ومن شر كتاب قد سبق؛ وأعوذ برضاك من سخطك، وبغفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . فلما انصرف من صلاته تقدمت أمامه حتى دخلت البيت ولي نفس عال، فقال: مالك يا عائشة؟ فأخبرته الخبر، فقال: ويح هاتين الركبتين ما لقيتا في هذه الليلة! ومسح عليهما؛ ثم قال: أتدرين أي ليلة هذه يا عائشة؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال صلّى الله عليه وسلم: «هذه الليلة ليلة النّصف من شعبان، فيها تؤقت الآجال وتثبت الأعمال» .

ابن ذر ودعاء له:

ابن ذر ودعاء له: العتبي عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن ذرّ إلى مكة، فكان إذا لبّى لم يلبّ أحد من حسن صوته؛ فلما جاء الحرم قال يا رب، ما زلنا نهبط وهدة ونصعد أكمة، ونعلو نشرا، ويبدو لنا علم، حتى جئناك بها نقبة «1» أخفافها، دبرة «2» ظهورها، ذابلة أسنمتها؛ وليس أعظم المؤنة علينا إتعاب أبداننا، ولكن أعظم المؤنة علينا أن ترجعنا خائبين من رحمتك، يا خير من نزل به النازلون. وكان آخر يدعو بعرفات: يا ربّ، لم أعصك إذ عصيتك جهلا مني بحقك، ولا استخفافا بعقوبتك؛ ولكن الثقة بعفوك، والاغترار بسترك المرخى عليّ، مع الشّقوة» الغالبة والقدر السابق؛ فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فيا أسفي على الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جوزوا، وللمذنبين حطوا. لعروة بن الزبير في مناجاته: أبو الحسن قال: كان عروة بن الزبير يقول في مناجاته بعد أن قطعت رجله ومات ابنه: كانوا أربعة- يعني بنيه- فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة؛ وكنّ أربعا- يعني يديه ورجليه- فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثا؛ فلئن ابتليت لطالما عافيت، ولئن عاقبت لطالما أنعمت. وكان داود إذا دعا في جوف الليل يقول: نامت العيون، وغارت النجوم وأنت حيّ قيوم: اغفر لي ذنبي العظيم، فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا العظيم؛ إليك رفعت رأسي، نظر العبد الذليل إلى سيده الجليل. وكان من دعاء يوسف: يا عدّتي عند كربتي، ويا صاحبي في غربتي، ويا غياثي

دعاء لبعضهم:

عند شدتي، ويا رجائي إذا انقطعت حيلتي، اجعل لي فرجا ومخرجا. وكان عبد الله بن ثعلبة البصري يقول: اللهم أنت من حلمك تعصى فكأنك لا ترى، وأنت من جودك وفضلك تعطى فكأنك لا تعصى، وأيّ زمان لم تعصك فيه سكان أرضك فكنت عليهم بالعفو عوّادا، وبالفضل جوادا. وكان من دعاء عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في مرأى العيون علانيتي، وتقبح في خفيّات القلوب سريرتي؛ اللهم كما أسأت فأحسنت إليّ ... فإذا عدت فعد عليّ، وارزقني مواساة من قتّرت عليه ما وسّعت عليّ. دعاء لبعضهم: الشيباني قال: أصاب الناس ببغداد ريح مظلمة، فانتهيت إلى رجل في المسجد وهو ساجد يقول في سجوده: اللهم احفظ محمدا في أمته، ولا تشمت بنا أعداءنا من الأمم؛ فإن كنت أخذت العوام بذنبي، فهذه ناصيتي بين يديك! وكان الفضيل بن عياض يقول: إلهي، لو عذبتني بالنار لم يخرج حبّك من قلبي، ولم أنس أياديك عندي في دار الدنيا! وقال عبد الله بن مسعود: اللهم وسع عليّ في الدنيا وزهّدني فيها، ولا تزوها «1» عني وترغّبني فيها. أبو الدرداء ورجل في سجوده: مرّ أبو الدرداء برجل يقول في سجوده: اللهم إني سائل فقير فأغنني من سعة فضلك، خائف مستجير فأجرني من عذابك. الأصمعي قال: كان عطاء بن أبي رباح يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وعند الموت صرعتي، وفي القبور وحدتي، ومقامي غدا بين يديك.

ابن زياد وأبو بكر بن عبد الله:

ابن زياد وأبو بكر بن عبد الله: العتبي قال: حدّثني عبد الرحمن بن زياد قال: اشتكى أبي فكتب إلى أبي بكر بن عبد الله يسأله أن يدعو له، فكتب إليه: حقّ لمن عمل ذنبا لا عذر له فيه، وخاف موتا لا بد له منه، أن يكون [وجلا] مشفقا؛ سأدعو لك ولست أرجو أن يستجاب لي بقوة في عمل، ولا براءة من ذنب. من دعاء عبد الملك ابن مروان: العتبي قال: كان عبد الملك بن مروان يدعو على المنبر: يا رب؛ إن ذنوبي قد كثرت وجلّت عن أن توصف، وهي صغيرة في جنب عفوك، فاعف عني. كيف يكون الدعاء لابن عباس: سفيان بن عيينة عن أبي معبد عن عكرمة عن ابن عباس قال: الإخلاص هكذا- وبسط يده اليسرى وأشار بأصبعه من يده اليمنى- والدعاء هكذا- وأشار براحته إلى السماء- والابتهال هكذا، ورفع يديه فوق رأسه وظهورهما إلى وجهه. بين جعفر بن محمد وسفيان الثوري: سفيان الثوري قال: دخلت على جعفر بن محمد رضي الله عنهما فقال لي: يا سفيان، إذا كثرت همومك فأكثر من «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وإذا تداركت عليك النعم فأكثر من «الحمد لله» وإذا أبطأ عنك الرزق فأكثر من الاستغفار. وقال عبد الله بن عباس: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عجبا ممن يهلك والنجاة معه! قيل له: وما هي؟ قال: الاستغفار.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، الصديق وعمر رضوان الله عليهما

دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر، الصديق وعمر رضوان الله عليهما دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم: أم سلمة قالت: كان أكثر دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» . المغيرة بن شعبة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. دعاء أبي بكر: وكان آخر دعاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم لقائك. دعاء عمر: وكان آخر دعاء عمر رضي الله عنه في خطبته اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني في غرة، ولا تجعلني مع الغافلين. الدعاء عند الكرب للنبي صلّى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد أصابه هم فقال: اللهم إني عبدك. وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك؛ أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو ذكرته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ضياء صدري، وربيع قلبي، وجلاء حزني، وذهاب همي. إلا أذهب الله همه وبدّله مكان حزنه فرحا» .

الكلمات التي تلقى آدم من ربه

وقالوا: كلمات الفرج من كل كرب «لا إله إلا الله الكريم الحليم، سبحان الله ربّ العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين. الكلمات التي تلقى آدم من ربه اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. اسم الله الأعظم عبد الله بن يزيد عن أبيه قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. أسماء بنت يزيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: اسم الله الاعظم فيما بين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ «1» ، وفاتحة آل عمران الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «2» . الاستغفار للنبي صلّى الله عليه وسلم: شدّاد بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء «3» لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

لابن مسعود:

لابن مسعود: الأسود وعلقمة قالا: قال عبد الله بن مسعود: إن في كتاب الله آيتين ما أصاب عبد ذنبا فقرأهما ثم استغفر الله إلا غفر له: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ «1» ، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً «2» . أبو سعيد الخدري قال: من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأتوب إليه. خمس مرات- غفر له ولو فرّ من الزحف. دعاء المسافر للنبي صلّى الله عليه وسلم: عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا قال: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الحضر؛ اللهم إني أعوذ بك من وعثاء «3» السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور، ومن سوء المنظر في الأهل والمال» . لأم سلمة: الشعبي عن أم سلمة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا خرج في سفر يقول: «اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل، أو أضلّ أو أضلّ، أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ» . وقالت: من خرج في طاعة الله، فقال: اللهم إني لم أخرج أشرا «4» أو بطرا «5» ، ولا

الدعاء عند الدخول على السلطان

رياء ولا سمعة، ولكني خرجت ابتغاء مرضاتك واتقاء سخطك؛ فأسألك بحقك على جميع خلقك أن ترزقني من الخير أكثر مما أرجو، وتصرف عني من الشر أكثر مما أخاف. استجيب له بإذن الله. الدعاء عند الدخول على السلطان لابن عباس: سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا دخلت على السلطان المهيب تخاف أن يسطو عليك فقل: الله أكبر، الله أكبر وأعزّ مما أخاف وأحذر، اللهم ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم، كن لي جارا من عبدك فلان وجنوده وأشياعه وأتباعه، تبارك اسمك، وجل ثناؤك، وعزّ جارك، ولا إله غيرك. المنصور وجعفر ابن محمد: أبو الحسن المدائني قال: لما حج أبو جعفر المنصور مرّ بالمدينة، فقال للربيع: عليّ بجعفر بن محمد، قتلني الله إن لم أقتله؛ فمطل «1» به، ثم ألح فيه فحضر؛ فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه، همس جعفر بشفتيه، ثم تقرب وسلّم، فقال: لا سلّم الله عليك يا عدوّ الله! تعمل على الغوائل في ملكي؟ قتلني الله إن لم أقتلك! فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إن سليمان صلّى الله عليه وسلم أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر؛ وأنت على إرث منهم، وأحقّ من تأسّى بهم. فنكس أبو جعفر رأسه مليا، ثم رفع إليه رأسه فقال له: [إليّ] يا أبا عبد الله فأنت القريب القرابة، وأنت ذو الرحم الواشجة «2» ، السليم الناحية، القليل الغائلة. ثم صافحه بيمينه، وعانقه بيساره، وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يسائله ويحادثه؛ ثم قال: عجّلوا لأبي عبد الله إذنه وكسوته وجائزته. قال الربيع: فلما خرج

الدعاء على الطعام

وخطرف «1» الستر أمسكت بثوبه. فارتاع وقال: ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا! قلت: هذه مني لا منه. قال: فذلك أيسر؛ قل حاجتك. قلت: إني منذ ثلاث أدافع عنك وأداري عليك؛ ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك، ثم رأيت الأمر انجلى عنك؛ وأنا خادم سلطان ولا غنى بي عنه؛ فأحب منك أن تعلمنيه ... قال: نعم، قل: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بكنفك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي؛ فكم من نعمة أنعمتها عليّ قلّ عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليتني بها قلّ عندها صبري فلم تخذلني، اللهم بك أدرأ في نحره، وأعوذ بخيرك من شره. الدعاء على الطعام من قال على طعامه: «بسم الله خير الأسماء، في الأرض وفي السماء، ولا يضر مع اسمه داء؛ اللهم اجعل فيه الدواء والشفاء» لم يضرّه ذلك الطعام كائنا ما كان. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله الذي منّ علينا وهدانا، وأطعمنا وأروانا، وكل بلاء حسن أبلانا» . الدعاء عند الأذان من قال إذا سمع الأذان: رضيت بالله ربّا. وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. غفرت له ذنوبه وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا سمعتم الأذان فقولوا مثل ما يقول المؤذن. الدعاء عند الطيرة «2» قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من رأى من الطير شيئا يكرهه فقال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك. لم يضرّه» .

الساعة التي يستجاب فيها الدعاء

الساعة التي يستجاب فيها الدعاء الفضيل عن أبي حازم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ناس أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أنهم أجمعوا أن الساعة التي يستجاب فيها الدعاء آخر ساعة من يوم الجمعة. التعويذ أنس بن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، اللهم إني أعوذ بك من هذه الأربع» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من قال إذا أمسى وأصبح: أعوذ بكلمات الله التامّات المباركات التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ «1» في الأرض وما يخرج منها. لم يضره شيء من الشياطين والهوامّ» . ما كان يعوذ به النبي صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين: مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بهذه الكلمات: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل عين لامّة «2» ، ومن كل شيطان وهامّة. وكان إبراهيم صلّى الله عليه وسلم يعوّذ بها إسماعيل وإسحق. وقال أعرابي يصف دعوة: وسارية لم تسر في الأرض تبتغي ... محلّا ولم يقطع بها البيد قاطع سرت حيث لم تسر الركاب ولم تنخ ... لورد ولم يقصر لها القيد مانع «3» تظل وراء الليل والليل ساقط ... بأرواقه فيه سمير وهاجع «4»

تفتّح أبواب السماء لوفدها ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع إذا سألت لم يردد الله سؤلها ... على أهلها والله راء وسامع وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع ومن قولنا في هذا المعنى: بنيّ لئن أعيا الطبيب ابن مسلم ... ضناك وأعيا ذا البيان الموشّع «1» لأبتلهن تحت الظلام بدعوة ... متى يدعها داع إلى الله يسمع تغلغل من بين الضّلوع نشيجها ... لها شافع من عبرة وتضرّع إلى فارج الكرب المجيب لمن دعا ... فزعت بكربي، إنه خير مفزع فيا خير مدعوّ دعوتك فاستمع ... ومالي شفيع غير فضلك فاشفع

كتاب السدرة في النوادي والتعاذي والمراثي

كتاب السدّرّة في النوادي والتعاذي والمراثي قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الزهد ورجاله المشهورين: ونحن قائلون بعون الله في النوادب والمراثي، والتهاني والتعازي، بأبلغ ما وجدناه من الفطن الذكية، والألفاظ الشجية، التي ترق القلوب القاسية، وتذيب الدموع الجامدة، مع اختلاف النوادب عند نزول المصائب؛ فنادبة تثير الحزن من ربضته، وتبعث الوجد من رقدته، بصوت كترجيع الطير، وتقطع أنفاس المآتم «1» ، وتترك صدعا في القلوب الجلامد؛ ونادبة تخفض من نشيجها، وتقصد في نحيبها، وتذهب مذهب الصبر والاستسلام، والثقة بجزيل الثواب. قال عمر بن ذرّ: سألت أبي: ما بال الناس إذا وعظتهم بكوا، وإذا وعظهم غيرك لم يبكوا؟ قال: يا بنيّ، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة. وقال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما بال المراثي أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وقلوبنا محترقة. وقال الحكماء: أعظم المصائب كلها انقطاع الرجاء. وقالوا: كلّ شيء يبدو صغيرا ثم يعظم؛ إلا المصيبة؛ فإنها تبدو عظيمة ثم تصغر.

القول عند الموت

القول عند الموت الأصمعي عن معتمر عن أبيه؛ قال: لقّنوا موتاكم الشهادة، فإذا قالوها فدعوهم ولا تضجروهم. وقال الحسن: إذا دخلتم على الرجل في الموت فبشّروه؛ ليلقى ربه وهو حسن الظنّ به؛ وإذا كان حيا فخوفوه. بين أبي بكر وطلحة: ولقي أبو بكر طلحة بن عبيد الله، فرآه كاسفا متغيّرا لونه، فقال: مالي أراك متغيرا لونك؟ قال: كلمة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم أسأله عنها. قال: وما ذاك؟ قال: سمعته يقول: «إني أعلم كلمة من قالها عند الموت محصت ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر» . فأنسيت أن أسأله عنها. قال أبو بكر: وأعلّمكها؟ هي: لا إله إلا الله. لمعاذ في احتضاره: أبو الحباب قال: لما احتضر معاذ قال لخادمته: ويحك! هل أصبحنا؟ قالت: لا. ثم تركها ساعة، ثم قال لها: انظري. فقالت: نعم. قال أعوذ بالله من صباح إلى النار! ثم قال: مرحبا بالموت! مرحبا بزائر جاء على فاقة! لا أفلح من ندم: اللهم إنك تعلم أني لم [أكن] أحبّ في الدنيا لكري الأنهار، وغرس الأشجار؛ ولكن لمكابدة الليل الطويل، وظمإ الهواجر في الحرّ الشديد، ومزاحمة العلماء بالرّكب في مجالس الذكر. لعمر بن عتبة في مثله: ولما حضرت الوفاة عمر بن عتبة قال لرفيقه: نزل بي الموت ولم أتأهب له! اللهم إنك تعلم أنه ما سنح لي أمران لك في أحدهما رضا ولي في الآخر هوى إلا آثرت رضاك على هواي.

لابن الخطاب في مثله:

لابن الخطاب في مثله: ولما حضرت الوفاة عمر بن الخطاب قال لولده عبد الله بن عمر: ضع خدّي على الأرض علّ ربي أن يتعطف عليّ ويرحمني. للرقاشى في مثله: ابن السمّاك قال: دخلت على يزيد الرقاشي وهو في الموت. فقال لي: سبقني العابدون وقطع بي؛ والهفاه. الأسواري وآزاد مرد في احتضاره: موسى الأسواري قال: دخلت على آزاد مرد وهو ثقيل، فإذا هو كالخفاش لم يبق إلا رأسه؛ فقلت له: يا هذا ما حالك؟ قال: وما حال من يريد سفرا بعيدا بغير زاد، وينطلق إلى ملك عدل بغير حجة، ويدخل قبرا موحشا بغير مؤنس!. عمر بن عبد العزيز وأبو قلابة: قال عمر بن عبد العزيز لأبي قلابة وولي غسل ابنه عبد الملك: إذا غسلته وكفنته فآذّني قبل أن تغطي وجهه. ففعل، فنظر إليه وقال: يرحمك الله با بني ويغفر لك. الحجاج وموت ابنه محمد: ولما مات محمد بن الحجاج جزع عليه جزعا شديدا، وقال: إذا غسلتموه وكفنتموه فآذنوني. ففعلوا، فنظر إليه وقال متمثلا: الآن لما كنت أكمل من مشى ... وافتر نابك عن شباة القارح «1» وتكاملت فيك المروءة كلّها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح فقيل له: اتق الله واسترجع. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك:

عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك: وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: كيف تجدك يا بنيّ؟ قال: أجدني في الموت فاحتسبني؛ فإن ثواب الله خير لك مني. قال: والله يا بني لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك قال: وأنا والله، لأن يكون ما تحب أحبّ إليّ من أن يكون ما أحب. مسلمة بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز في احتضاره: لما احتضر عمر بن عبد العزيز رحمه الله استأذن عليه مسلمة بن عبد الملك، فأذن له وأمره أن يخفف الوقفة؛ فلما دخل وقف عند رأسه فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا؛ فلقد ألنت لنا قلوبا كانت علينا قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا. الرسول صلّى الله عليه وسلم في قبضه: حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس بن مالك، قال: كانت فاطمة جالسة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فتواكدت «1» عليه كرب الموت؛ فرفع رأسه وقال، واكرباه! فبكت فاطمة وقالت: واكرباه لكربك يا أبتاه! قال، لا كرب على أبيك بعد اليوم!. الرياشي عن عثمان بن عمر عن إسرائيل عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ما رأيت أحدا من خلق الله أشبه حديثا وكلاما برسول الله صلّى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها ورحّب بها وأجلسها في مجلسه؛ وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده فقبلتها. فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه، فأسّر إليها فبكت، ثم أسّر إليها فضحكت، فقلت: كنت أحسب لهذه المرأة فضلا على النساء، فإذا هي واحدة منهنّ؛ بينما هي تبكي إذ هي تضحك! فلما توفي رسول الله

عائشة مع أبيها في احتضاره:

صلّى الله عليه وسلم سألتها؛ فقالت: أسّر إليّ فأخبرني أنه ميت فبكيت؛ ثم أسّر إليّ أني أول أهل بيته لحوقا به فضحكت. عائشة مع أبيها في احتضاره: القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي مات فيه، فقالت له: يا أبت، اعهد إلي خاصتك، وأنفذ رأيك في عامتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك؛ وإنك محضور ومتصل بقلبي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك، وانتقاع لونك؛ فإلى الله تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك، أرقأ فلا أرقأ وأشكو فلا أشكى. فرفع رأسه فقال: يا بنية، هذا يوم يحلّ فيه عن غطائي؛ وأعاين جزائي، إن فرحا فدائم، وإن نوحا فمقيم؛ إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم، حين كان النكوص إضاعة، والحذر تفريطا؛ فشهيدي الله ما كان بقلبي إلا إياه؛ فتبلّغت بصحفتهم، وتعللت بدرّة لقحتهم، وأقمت صلاي «1» معهم، لا مختالا أشرا، ولا مكابرا بطرا، لم أعد سدّا لجوعة، وتورية لعورة، طوى ممغص تهفو له الأحشاء وتجب له الأمعاء؛ واضطررت إلى ذلك اضطرار الجرض «2» إلى المعيف «3» الآجن، فإذا أنا متّ فردّي إليهم صحفتهم ولقحتهم وعبدهم ورحاهم، ودثارة ما فوقي اتّقيت بها أذى البرد، ودثارة ما تحتى اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوهما قطع السعف. عمر مع أبي بكر في احتضاره: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لقد كلفت القوم بعدك تعبا، ووليتهم نصبا. فهيهات من شقّ غبارك! وكيف باللحاق بك. وقالت عائشة وأبوها يغمّض:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل فنظر إليها وقال: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغمى عليه فقالت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر قالت: فنظر إليّ كالغضبان وقال لي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ «1» . ثم قال: انظروا ملاءتيّ فاغسلوهما وكفّنوني فيهما؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. وقال معاوية حين حضرته الوفاة: ألا ليتني لم أغن في الملك ساعة ... ولم أك في الّلذّات أعشى النّواظر «2» وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... ليالي حتى زار ضنك المقابر «3» لما ثقل معاوية ويزيد غائب، أقبل يزيد فوجد عثمان بن محمد بن سفيان جالسا، فأخذ بيده ودخل على معاوية وهو يجود بنفسه، فكلمه يزيد فلم يكلمه، فبكى يزيد، وتضوّر «4» معاوية ساعة، ثم قال: أي بني، إن أعظم ما أخاف الله فيه ما كنت أصنع بك يا بنيّ. إني خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان إذا مضى لحاجته وتوضأ أصب الماء على يديه، فنظر إلى قميص لي قد انخرق من عاتقي، فقال لي: يا معاوية، ألا أكسوك قميصا؟ قلت: بلى. فكساني قميصا لم ألبسه إلا لبسة واحدة، وهو عندي. واجتزّ ذات يوم فأخذت جزازة شعره، وقلامة أظفاره، فجعلت ذلك في قارورة، فإذا مت يا بني فاغسلني ثم اجعل ذلك الشعر والأظفار في عيني ومنخري وفمي، ثم اجعل قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلم شعارا من تحت كفني. إن نفع شي نفع هذا. لما احتضر عمرو بن العاص، جمع بنيه فقال: يا بنيّ، ما تغنون عني من أمر الله شيئا! قالوا: يا أبت، إنه الموت، ولو كان غيره لوقيناك بأنفسنا. فقال: أسندوني.

الجزع من الموت

فأسندوه، ثم قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قويّ فأنتصر، ولا بريّ فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر! أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين! فلم يزل يكررها حتى مات. قال: وأخبرنا رجال من أهل المدينة أن عمرو بن العاص قال لبنيه عند موته: إني لست في الشّرك الذي لومت عليه أدخلت النار، ولا في الإسلام الذي لو متّ عليه أدخلت الجنة؛ فمهما قصرت فيه فإني مستمسك بلا إله إلا الله. وقبض عليها بيده، وقبض لوقته؛ فكانت يده تفتح ثم تترك، فتنقبض. وقال لبنيه: إن أنا مت فلا تبكوا عليّ، ولا يتبعني مادح ولا نائح، وشنّوا «1» عليّ التراب شنا، فليس جنبي الأيمن أولى بالتراب من الأيسر؛ ولا تجعلوا في قبري خشبة ولا حجرا، وإذا واريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور «2» . وتفصيلها أستأنس بكم. الجزع من الموت الفضيل بن عياض قال: ما جزع أحد من أصحابنا عند الموت ما جزع سفيان الثوري، فقلنا: يا أبا عبد الله، ما هذا الجزع، ألست تذهب إلى من عبدته وفررت ببدنك إليه؟ فقال: ويحكم! إني أسلك طريقا لم أعرفه، وأقدم على ربّ لم أره. حزن سعيد بن أبي الحسن على أخيه: ولما توفي سعيد بن أبي الحسن وجد عليه أخوه الحسن وجدا شديدا، فكلّم في ذلك، فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب!

الحسن في احتضاره:

الحسن في احتضاره: وقال صالح المرّي: دخلت على الحسن وهو في الموت، وهو يكثر الاسترجاع؛ فقال له ابنه: أمثلك يسترجع على الدنيا؟ قال: يا بني، ما أسترجع إلا على نفسي التي لم أصب بمثلها قط. حجر بن الأدبر في موته: ولما أمر معاوية بقتل حجر بن الأدبر وأصحابه، بعث إليهم أكفانهم وأمر بأن تفتح قبورهم ويقتلوا عليها. فلما قدّم حجر بن الأدبر إلى السيف جزع جزعا شديدا، فقيل له: أمثلك يجزع من الموت؟ فقال: وكيف لا أجزع وأرى سيفا مشهورا وكفنا منشورا وقبرا محفورا. البكاء على الميت لإبراهيم: الشعبي عن إبراهيم قال: لا يكون البكاء إلا من فضل، فإذا اشتد الحزن ذهب البكاء. وأنشد: فلئن بكيناه لحقّ لنا ... ولئن تركنا ذاك للصّبر فلمثله جرت العيون دما ... ولمثله جمدت فلم تجر الأحنف وباكية: مر الأحنف بامرأة تبكي ميتا ورجل ينهاها، فقال له: دعها فإنها تندب عهدا قريبا وسفرا بعيدا. للنبي صلّى الله عليه وسلم في وفاة ابنه إبراهيم: قالوا: لما توفى إبراهيم بن محمد صلّى الله عليه وسلم بكى عليه؛ فسئل عن ذلك فقال: تدمع العينان ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ.

النبي صلى الله عليه وسلم وباكيات من الأنصار:

النبي صلّى الله عليه وسلم وباكيات من الأنصار: ومر النبي صلّى الله عليه وسلم بنسوة من الأنصار يبكين ميتا فزجرهنّ عمر، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «دعهنّ يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة والعهد قريب» . النبي صلّى الله عليه وسلم وباكيات قتلى أحد: ولما بكت نساء أهل المدينة على قتلى أحد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لكن حمزة لا باكية له ذلك اليوم!» فسمع ذلك أهل المدينة، فلم يقم لهم مأتم إلى اليوم إلا ابتدأن فيه البكاء على حمزة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن يشقّ على صفية، ما دفنته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع. ابن الخطاب حين نعى إليه ابن مقرن: ولما نعى النعمان بن مقرّن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح: يا أسفا على النعمان. ابن الخطاب حين نعى إليه زيد: ولما استشهد زيد بن الخطاب باليمامة، وكان صحبه رجل من بني عدي بن كعب؛ فرجع إلى المدينة، فلما رآه عمر دمعت عيناه وقال: وخلّفت زيدا ثاويا وأتيتني! «1» وقال عمر بن الخطاب: ما هبت الصّبا إلا وجدت نسيم زيد. وكان إذا أصابته مصيبة قال: قد فقدت زيدا فصبرت.

عمر ووفاة خالد:

عمر ووفاة خالد: ولما توفي خالد بن الوليد أيام عمر بن الخطاب- وكان بينهما هجرة- امتنع النساء من البكاء عليه، فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال: وما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقع» ولا لقلقة «2» . لمعاوية في النساء: وقال معاوية وذكر عنده النساء: ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى مثلهن لابن عياش: وقال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني فذكرت قول ذي الرمة: لعلّ انحدار الدّمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي شجيّ البلابل فخلوت، فبكيت، فسلوت. وقال الفرزدق في هذا المعنى: ألم ترياني يوم جوّ سويقة ... بكيت فنادتني هنيدة ماليا فقلت لها إنّ البكاء لراحة ... به يشتفي من ظنّ أن لا تلاقيا قعيد كما الله الذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا «3» حبيب دعا والرّمل بيني وبينه ... فأسمعني سقيا لذلك داعيا يقال: قعيدك الله، وقعدك الله، معناه: سألتك الله. القول عند المقابر قال بعضهم: خرجنا مع زيد بن علي نريد الحج، فلما بلغنا النّباج وصرنا إلى مقابرها، التفت إلينا فقال:

للرقاشي:

لكلّ أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد «1» فما إن تزال دار حيّ قد اخربت ... وقبر بأفناء البيوت جديد هم جيرة الأحياء أمّا مزارهم ... فدان وأمّا الملتقى فبعيد للرقاشي: وقال مررت بيزيد الرقاشي وهو جالس بين المدينة والمقبرة، فقلت له: ما أجلسك ههنا؟ قال: أنظر إلى هذين العسكرين، فعسكر يقذف الأحياء، وعسكر يلتقم الموتي! ثم نادى بأعلى صوته: يا أهل القبور الموحشة التي قد نطق بالخراب فناؤها، ومهّد بالتراب بناؤها، فمحلها مقترب، وساكنها مغترب؛ لا يتواصلون تواصل الإخوان، ولا يتزاورون تزاور الجيران؛ قد طحنهم بكلكله «2» البلى، وأكلهم الجنادل والثرى. وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا دخل المقبرة قال: أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت؛ فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده، لو أذن لهم في الكلام لقالوا: إن خير الزاد التقوى. وكان علي بن أبي طالب إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم يأهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات؛ اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. ثم يقول: الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتا «3» أحياء وأمواتا، والحمد لله الذي منها خلقنا، وإليها معادنا، وعليها محشرنا؛ طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل الحسنات، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله عز وجل. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل المقبرة قال: «السلام عليك دار قوم مؤمنين، وإنا إن

الوقوف على القبور وما بين الموتى

شاء الله بكم لاحقون» . وكان الحسن البصري إذا دخل المقبرة قال: اللهم ربّ هذه الأجساد البالية، والعظام النّخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحا منك وسلاما منا. وكان علي بن الفضل إذا دخل المقبرة يقول: اللهم اجعل وفاتهم نجاة لهم مما يكرهون، واجعل حسابهم زيادة لهم مما يحبون. الوقوف على القبور وما بين الموتى لأعرابي على قبر الرسول صلّى الله عليه وسلم: وقف أعرابي على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قلت فقبلنا وأمرت فحفظنا، وبلّغت عن ربك فسمعنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً «1» ، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا. فما بقيت عين إلا سالت. لفاطمة على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلم: وقفت فاطمة عليها السلام على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلم فقالت: إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنّا الوحي والكتب «2» فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لمّا نعيت وحالت دونك الكثب حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: لما فرغنا من دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقبلت عليّ فاطمة، فقالت: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم التراب؟ ثم بكت ونادت: يا أبتاه! أجاب ربّا دعاه؛ يا أبتاه! من ربّه ما أدناه؛ يا أبتاه! من ربّه ناداه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه؛ يا أبتاه! جنّة الفردوس

ابن مسعود على قبر عمر بن الخطاب:

مأواه. قال: ثم سكتت فما زادت شيئا. ابن مسعود على قبر عمر بن الخطاب: ولما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أقبل عبد الله بن مسعود وقد فاتته الصلاة عليه؛ فوقف على قبره يبكي ويطرح رداءه؛ ثم قال: والله لئن فاتتني الصلاة عليك لا فاتني حسن الثناء؛ أما والله لقد كنت سخيّا بالحق، بخيلا عن الباطل، ترضى حين الرضا، وتسخط حين السّخط، ما كنت عيّابا ولا مدّاحا؛ فجزاك الله عن الإسلام خيرا. علي بن أبي طالب على قبر خباب: ووقف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على قبر خبّاب فقال: رحم الله خبّابا! لقد أسلم راغبا، وجاهد طائعا، وعاش زاهدا، وابتلي في جسمه فصبر؛ ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا. الحسن على قبر علي: ولما توفى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، قام الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال: أيها الناس، إنه قبض فيكم الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون ولم يدركه الآخرون، قد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعثه فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، لا ينثني حتى يفتح الله له؛ ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم أعدّها لخادم له. ابن السماء في رثاء الطائي: عبد الرحمن بن الحسين عن محمد بن مصعب قال: لما مات داود الطائي تكلم ابن السمّاك فقال: إن داود نظر إلى ما بين يديه من آخرته، فأغشى بصر القلب بصر العين، فكأن لم ينظر ما إليه تنظرون، وكأنكم لم تنظروا إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون وهو منكم يعجب، فلما رآكم مفتونين مغرورين، قد أذهلت الدنيا عقولكم،

للاحنف على قبر أخيه:

وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت إليه حسبته حيا وسط أموات؛ يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك، أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها وأخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتّ نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذّبتها قبل أن تعذب؛ سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قلّة يبرّد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك؛ يا داود، ما تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيّبه، ولا من اللباس لينه؛ بلى، ولكن زهدت فيه لما بين يديك؛ فما أصغر ما بذلت وما أحقر ما تركت في جنب ما رغبت وأمّلت، فلما مت شهرك ربّك بفضلك؛ وألبسك رداء عملك، فلو رأيت من حضرك علمت أن ربك قد أكرمك وشرّفك. للاحنف على قبر أخيه: وقف الأحنف بن قيس على قبر أخيه فأنشد: فو الله لا أنسى قتيلا رزئته ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض «1» بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي ووقف محمد بن الحنفية على قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما فخنقته العبرة ثم نطق فقال: يرحمك الله أبا محمد، فلئن عزّت حياتك فلقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء «2» ، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حيّا وطبت ميتا، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة بفراقك، ولا شاكّة في الخيار لك.

عائشة على قبر أبي بكر:

عائشة على قبر أبي بكر: ووقفت عائشة على قبر أبي بكر فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك- إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك، وحسن العوض منك؛ فأنا أتنجز موعود الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك؛ فعليك السلام ورحمة الله، توديع غير قالية «1» لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك! ثم انصرفت. رثاء علي لأبي بكر: لما قبض أبو بكر سجّي بثوب فارتجت المدينة بالبكاء عليه، ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله أبا بكر، كنت والله أوّل القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا. وأشدّهم يقينا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحدبهم «2» على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلّى الله عليه وسلم خلقا وفضلا وهديا وسمتا، فجزاء الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا، صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، سماك الله في كتابه صدّيقا، فقال: «والّذي جاء بالصّدق وصدّق به» يريد محمدا ويريدك، كنت والله للإسلام حصنا، وعلى الكافرين عذابا، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت الجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كثيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقويّ عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي

عبد الملك على قبر معاوية:

حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك. عبد الملك على قبر معاوية: وقف عبد الملك بن مروان على قبر معاوية فقال: تالله إن كنت ما علمت لينطقك العلم؛ ويسكنك الحلم. ثم أنشأ يقول: وما الدهر والأيام إلّا كما ترى ... رزيئة مال أو فراق حبيب للضحاك في زياد: الهيثم بن عدي قال: لما هلك زياد استعمل معاوية الضحاك على الكوفة؛ فلما دخلها سأل عن قبر زياد فدلّ عليه؛ فأتاه حتى وقف به ثم قال: أبا المغيرة والدّنيا مفجّعة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للنكراء تنكير لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير والأبيات لحارثة بن بدر يرثي زيادا. لعلي في فاطمة: المدائني قال: لما دفن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه فاطمة عليها السلام، تمثل عند قبرها فقال: لكلّ اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الممات قليل وإنّ افتقادي واحدا بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل امرأة الحسن على قبره: لما مات الحسن بن عليّ عليهما السلام ضربت امرأته فسطاطا على قبره وأقامت حولا ثم انصرفت إلى بيتها؛ فسمعت قائلا يقول: أدركوا ما طلبوا، فأجابه مجيب: بل ملّوا فانصرفوا.

نائلة على قبر عثمان:

نائلة على قبر عثمان: ابن الكلبي قال: وقفت نائلة بنت الفرافصة الكلبية على قبر عثمان فترحمت عليه ثم قالت: ومالي لا أبكي وتبكي صحابتي ... وقد ذهبت عنا فضول أبي عمرو ثم انصرفت إلى منزلها، فقالت: إني رأيت الحزن يبلي كما يبلى الثوب، وقد خفت أن يلى حزن عثمان في قلبي! فدعت بفهر «1» فهمشت فاها وقالت: والله لا قعد مني رجل مقعد عثمان أبدا! الراثون على قبر الإسكندر: لما هلك الإسكندر: قامت الخطباء على رأسه، فكان من قولهم: الإسكندر كان أمس، أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس! لأبي العتاهية في ابن له: أخذ هذا المعنى أبو العتاهية. فقال عند دفنه ولدا له: كفى حزنا بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديّا وكنت وفي حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا لأبي ذر في مثله: وقف أبو ذرّ الهمداني على قبر ابنه ذرّ، فقال: يا ذرّ، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما قلت وما قيل لك! ثم قال: اللهم إني قد وهبت لك إساءته إليّ، فهب له إساءته إليك! فلما انصرف عنه التفت إلى قبره فقال: يا ذرّ، قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك!

لابن سليمان في مثله:

لابن سليمان في مثله: وقف محمد بن سليمان على قبر ابنه فقال: اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه؛ فحقق رجائي وآمن خوفي. لأعرابية في أبيها: وقفت أعرابية على قبر أبيها فقالت: يا أبت، إنّ في الله تبارك وتعالى من فقدك عوضا، وفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة. ثم قالت: اللهم نزل بك عبدك مقفرا من الزاد، مخشوشن المهاد، غنيا عما في أيدي العباد، فقيرا إلى ما في يديك يا جواد، وأنت أي ربّ خير من نزل به المؤمّلون، واستغنى بفضله المقلّون، وولج في سعة رحمته المذنبون؛ اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك. ثم انصرفت. لأعرابية في رثاء ابنتها: قال عبد الرحمن بن عمر: دخلت على امرأة من نجد بأعلى الأرض في خباءلها، وبين يديها بنيّ لها قد نزل به الموت، فقامت إليه فأغمضته وعصبته وسجّته، وقالت: يا بن أخي. قلت: ما تشائين؟ قالت: ما أحق من ألبس النعمة، وأطيلت به النظرة، أن لا يدع التوثق من نفسه قبل حل عقدته، والحلول بعفو ربه، والمحالة بينه وبين نفسه! قال: وما يقطر من عينها دمعة، صبرا واحتسابا. ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان ماله لبطنه، ولا أمره لعرسه. ثم أنشدت. رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن كانت الفحشاء بها ذرعا عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه: وقف عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال: رحمك الله يا بنيّ، فلقد كنت سارّا مولودا، بارّا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني!

ابن ذر جنازة جار له:

ابن ذر جنازة جار له: توفى رجل كان مسرفا على نفسه بالذنوب، فتجافى الناس جنازته؛ فبلغ عمر بن ذرّ خبره؛ فأوصى إلى أهله أن خذوا في جهازه فإذا فرغتم فآذنوني. ففعلوا، وشهده عمر بن ذرّ وشهده الناس معه، فلما فرغ من دفنه وقف عمر ابن ذرّ على قبره فقال: يرحمك الله أبا فلان! فلقد صحبت عمرك بالتوحيد، وعفّرت لله وجهك بالسجود، فإن قالوا: مذنب وذو خطايا! فمن منا غير مذنب وغير ذي خطايا! لجارية على قبر أبيها: سمع الحسن من جارية واقفة على قبر أبيها وهي تقول: يا أبت مثل يومك لم أره! قال: الذي- والله- لم ير مثل يومه أبوك! خصي للوليد على قبره: وسمع عمر بن عبد العزيز خصيّا للوليد بن عبد الملك واقفا على قبر الوليد وهو يقول: يا مولاي، ماذا لقينا بعدك! فقال له عمر: أما والله لو أذن له في الكلام لأخبر أنه لقي بعدكم أكثر مما لقيتم بعده. معاوية على قبر أخيه: وقف معاوية على قبر أخيه عتبة فدعا له وترحم عليه، ثم التفت إلى من معه فقال: لو أن الدنيا بنيت على نسيان الأحبة ما نسيت عتبة أبدا. المراثي من رثى نفسه ووصف قبره وما يكتب على القبر لابن خذاق: قال ابن قتيبة بلغني أنّ أوّل من بكى على نفسه وذكر الموت في شعره: يزيد بن خذّاق فقال:

وقال ابن ذؤيب الهذلي يصفه حفرته:

هل للفتى من بنات الدهر من راقي ... أم هل له من حمام الموت من واقي قد رجّلوني وما بالشّعر من شعث ... وألبسوني ثيابا غير أخلاق «1» وطيّبوني وقالوا أيّما رجل! * وأدرجوني كأني طيّ مخراق «2» وأرسلوا فتية من خيرهم حسبا ... ليسندوا في ضريح القبر أطباقي «3» وقسّموا المال وارفضّت عوائدهم ... وقال قائلهم مات ابن خذّاق! هوّن عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي وقال ابن ذؤيب الهذلي يصفه حفرته: مطأطأة لم ينبطوها وإنما ... ليرضى بها فرّاطها، أمّ واحد «4» قضوا ما قضوا من رمّها ثم أقبلوا ... إلي بطاء المشي غبر السّواعد فكنت ذنوب البئر لمّا تلحّبت ... وأدرجت أكفاني ووسّدت ساعدي وقال عروة بن حزام لما نزل به الموت: من كان من أخواتي باكيا أبدا ... فاليوم، إني أراني اليوم مقبوضا يسمعنيه فإني غير سامعه ... إذا علوت رقاب القوم معروضا وقال الطرماح بن حكيم: فيا ربّ لا تجعل وفاتي إن أتت ... على شرجع يعلى بدكن المطارف ولكن شهيدا ثاويا في عصابة ... يصابون في فجّ من الأرض خائف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ... وصاروا إلى موعود ما في الصحائف فأقتل قعصا ثم يرمى بأعظمي ... مفرّقة أوصالها في التّنائف ويصبح لحمي بطن طير مقيله ... بجوّ السماء في نسور عواكف وقال مالك بن الرّيب: يرثي نفسه ويصف قبره- وكان خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان. لما ولي خراسان، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه، فإذا

بأفعى في داخلها، فلسعته، فلما أحس بالموت استلقى على قفاه. ثم أنشأ يقول دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي ... بذي الطّبسين فالتفتّ ورائيا «1» فما راعني إلا سوابق عبرة ... تقنّعت منها أن ألام ردائيا ألم ترني بعت الضّلالة بالهدى ... وأصبحت في جيش ابن عفّان غازيا فلله درّي حين أترك طائعا ... بنيّ بأعلى الرّقمتين وماليا ودرّ الكبيرين اللذين كلاهما ... عليّ شفيق ناصح قد نهانيا ودرّ الظّباء السّانحات عشيّة ... يخبّرن أني هالك من أماميا تقول ابنتي لمّا رأت وشك رحلتي ... سفارك هذا تاركي لا أباليا ألا ليت شعري هل بكت أمّ مالك ... كما كنت لو عالوا نعيّك باكيا إذا متّ فاعتادي القبور وسلّمي ... عليهنّ أسقين السّحاب الغواديا تري جدثا قد جرّت الريح فوقه ... ترابا كسحق المرنبانىّ هابيا «2» فيا صاحبي رحلي دنا الموت فاحفرا ... برابية إني مقيم لياليا وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي ... وردّا على عينيّ فضل ردائيا ولا تحسداني بارك الله فيكما ... من الأرض ذات العرض أن توسعاليا خذاني فجرّاني ببردي إليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا تفقّدت من يبكي عليّ فلم أجد ... سوى السّيف والرّمح الرديني باكيا وأدهم غربيب يجرّ لجامه ... إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا «3» وبالرّمل لو يعلمن علمي نسوة ... بكين وفدّين الطبيب المداويا عجوزي وأختاي اللّتان أصيبتا ... بموتي وبنت لي تهيج البواكيا لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لقد كنت عن بابي خراسان نائيا تحمّل أصحابي عشاء وغادروا ... أخا ثقة في عرصة الدّار ثاويا «4»

لأفنون في بكاء نفسه:

يقولون لا تبعدوهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا لأفنون في بكاء نفسه: وقال رجل من بني تغلب يقال له أفنون، وهو لقبه، واسمه ضريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن مالك بن حبيب بن عمر بن غنم بن تغلب، ولقي كاهنا في الجاهلية، فقال له: إنك تموت بمكان يقال له الاهة. فمكث ما شاء الله، ثم سافر في ركب من قومه إلى الشام فأتوها، ثم انصرفوا فضلوا الطريق، فقالوا لرجل: كيف نأخذ؟ فقال: سيروا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا ظهر لكم الطريق ورأيتم الإهة- وإلاهة قارة بالسماوة- فلما أتوها نزل أصحابه وأبى أن ينزل؛ فبينما ناقته ترتعي وهو راكبها إذ أخذت بمشفر ناقته حية، فاحتكت الناقة بمشفرها فلدغت ساقه، فقال لأخيه وكان معه، واسمه معاوية: احفر لي فإني ميت ثم تغنّى قبل أن يموت يبكي نفسه: لست على شيء، فروحن معاويا ... ولا المشفقات إذ تبعن الحوازيا «1» ولا خير فيما كذّب المرء نفسه ... وتقواله للشيء يا ليت ذا ليا وإن أعجبتك الدّهر حال من امريء ... فدعه وواكل حاله واللياليا يرحن عليه أو يغيّرن ما به ... وإن لم يكن في خوفه العيث وانيا فتطأ معرضا إنّ الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقي بنفسك باقيا لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا كفى حزنا أن يرحل الرّكب غدوة ... وأنزل في أعلى إلاهة ثاويا قال: فمات فدفنوه بها. وقال هدبة العذري لما أيقن بالموت: ألا علّلاني قبل نوح النّوائح ... وقبل اطلاع النفس بين الجوانح وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح

لأبي العتاهية في أبيات أوصى أن تكتب على قبره:

إذا راح أصحابي بفيض دموعهم ... وغودرت في لحد عليّ صفائحي يقولون هل أصلحتم لأخيكم ... وما الرّمس في الأرض القواء بصالح «1» وقال محمد بن بشير: ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه والويل لي من كلّ يوم أتى ... يذكرني الموت وأنساه كأنه قد قيل في مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه: صار البشيريّ إلى ربّه ... يرحمنا الله وإياه لأبي العتاهية في أبيات أوصى أن تكتب على قبره: ولما حضرت أبا العتاهية الوفاة، واسمه إسماعيل بن القاسم، أوصى بأن يكتب على قبره هذه الأبيات الأربعة: أذن حيّ تسمّعي ... اسمعي ثم عي وعي أنا رهن بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي عشت تسعين حجّة ... ثم وافيت مضجعي ليس شي سوى التّقي ... فخذي منه أودعي وعارضه بعض الشعراء في هذه الأبيات، وأوصى بأن يكتب على قبره أيضا فكتبت وهي: أصبح القبر مضجعي ... ومحلّي وموضعي صرعتني الحتوف في ال ... تّرب يا ذلّ مصرعي «2» أين إخواني الذي ... ن إليهم تطلّعي متّ وحدي فلم يمت ... واحد منهم معي

أبيات قيل إنها لأبي نواس:

أبيات قيل إنها لأبي نواس: وجد على قبر جارية إلى جنب قبر أبي نواس ثلاثة أبيات؛ فقيل إنها من قول أبي نواس، وهي: أقول لقبر زرته متلثّما ... سقى الله برد العفو صاحبة القبر «1» لقد غيّبوا تحت الثرى قمر الدّجى ... وشمس الضحى بين الصّفائح والعفر «2» عجبت لعين بعدها ملّت البكا ... وقلب عليها يرتجي راحة الصبر لابن نواس: الرياشي قال: وجدت تحت الفراش الذي مات عليه أبو نواس رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات: يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم مالي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم أنّي مسلم أبيات على قبر الإيادي: الخشني قال: أخبرنا بعض أصحابنا ممن كان يغشى مجلس الرياشي قال: رأيت على قبر أبي هاشم الإيادي بواسط: الموت أخرجني من دار مملكتي ... والموت أضرعني من بعد تشريفي لله عبد رأى قبري فأعبره ... وخاف من دهره ريب التّصاريف الأصمعي قال: أخذ بيدي يحيى بن خالد بن برمك فأوقفني على قبر بالحيرة، فإذا عليه مكتوب: إن بني المنذر لمّا انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب

وقال محمد بن عبد الله:

تنّفح بالمسك محاريبهم ... وعنبر يقطبة قاطب «1» والخبز واللحم لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب «2» والقطن والكتّان أثوابهم ... لم يجلب الصّوف لهم جالب فأصبحوا قوتا لدود الثّرى ... والدهر لا يقي له صاحب كأنما حياتهم لعبة ... سرى إلى بين بها راكب وقال أبو حاتم: بين: موضع من الحيرة على ثلاث ليال. الشيباني قال: وجد مكتوبا على بعض القبور: ملّ الأحبّة زورتي فجفيت ... وسكنت في دار البلى فنسيت الحيّ يكذب لا صديق لّميت ... لو كان يصدق مات حين يموت يا مؤنسا سكن الثرى وبقيت ... لو كنت أصدق إذ بليت بليت أو كان يعمى للبكاء مفجّع ... من طول ما أبكى عليك عميت «3» وقال محمد بن عبد الله: وعما قليل أن ترى باكيا لنا ... سيضحك من يبكي ويعرض عن ذكري ترى صاحبي يبكي قليلا لفرقتي ... ويضحك من طول اللّيالي على قبري ويحدث إخوانا وينسى مودّتي ... وتشغله الأحباب عني وعن ذكري من رثى ولده فمن قولي في ولدي: بليت عظامي والأسى يتجدّد ... والصبر ينفد والبكا لا ينفد يا غائبا لا يرتجى لإيابه ... ولقائه دون القيامة موعد ما كان أحسن ملحدا ضمّنته ... لو كان ضمّ أباك ذاك الملحد باليأس أسلو عنك لا بتجلّدي ... هيهات أين من الحزين تجلد

ومن قولي فيه أيضا: واكبدا قد قطّعت كبدي ... وحرّقتها لواعج الكمد ما مات حيّ لّمت أسفا ... أعذر من والد على ولد يا رحمة الله جاوري جدثا ... دفنت فيه حشاشتي بيدي ونوّرى ظلمة القبور على ... من لم يصل ظلمه إلى أحد من كان خلوا من كلّ بائقة ... وطيّب الرّوح طاهر الجسد يا موت، يحيى لقد ذهبت به ... ليس بزمّيلة ولا نكد «1» يا موته لو أقلت عثرته ... يا يومه لو تركته لغد يا موت لو لم تكن تعاجله ... لكان لا شكّ بيضة البلد «2» أو كنت راخيت في العنان له ... حاز العلا واحتوى على الأمد «3» أيّ حسام سلبت رونقه ... وأيّ روح سللت من جسد وأيّ ساق قطعت من قدم ... وأيّ كفّ ازلت من عضد يا قمرا أجحف الخسوف به ... قبل بلوغ السواء في العدد» أيّ حشى لم يذب له أسفا ... وأيّ عين عليه لم تجد «5» لا صبر لي بعده ولا جلد ... فجعت بالصبر فيه والجلد لو لم أمت عند موته كمدا ... لحقّ لي أن أموت من كمدي يا لوعة لا يزال لاعجها ... يقدح نار الأسى على كبدي «6» وقلت فيه أيضا: قصد المنون له فمات فقيدا ... ومضى على صرف الخطوب حميدا بأبي وأمي هالكا أفردته ... قد كان في كلّ العلوم فريدا سود المقابر أصبحت بيضا به ... وغدت له بيض الضمائر سودا

لم نرزه لمّا رزينا وحده ... وإن استقلّ به المنون وحيدا «1» لكن رزينا القاسم بن محمد ... في فضله والأسود بن يزيدا وابن المبارك في الرّقائق مخبرا ... وابن المسيّب في الحديث سعيدا والأخفشين فصاحة وبلاغة ... والأعشيين رواية ونشيدا كان الوصيّ إذا أردت وصيّة ... والمستفاد إذا طلبت مفيدا ولّى حفيظا في الأذمّة حافظا ... ومضى ودودا في الورى مودودا «2» ما كان مثلي في الرّزيّة والد ... ظفرت يداه بمثله مولودا حتى إذا بذّ السّوابق في العلا ... والعلم ضمّن شلوه ملحودا يا من يفنّد في البكاء مولّها ... ما كان يسمع في البكا تفنيدا «3» تأبى القلوب المستكينة للأسى ... من أن تكون حجارة وحديدا إنّ الذي باد السّرور بموته ... ما كان حزني بعده ليبيدا ألآن لما أن حويت مآثرا ... أعيت عدوّا في الورى وحسودا ورأيت فيك من الصّلاح شمائلا ... ومن السّماح دلائلا وشهودا أبكي عليك إذا الحمامة طرّبت ... وجه الصّباح وغرّدت تغريدا لولا الحياء وأن أزنّ ببدعة ... مما يعدّده الورى تعديدا «4» لجعلت يومك في المنائح مأتما ... وجعلت يومك في الموالد عيدا وقلت فيه أيضا: لا بيت يسكن إلّا فارق السّكنا ... ولا امتلا فرحا إلّا امتلا حزنا لهفي على ميّت مات السرور به ... لو كان حيّا لأحيا الدين والسّننا واها عليك أبا بكر مردّدة ... لو سكّنت ولها أو فتّرت شجنا إذا ذكرتك يوما قلت وا حزنا ... وما يردّ عليك القول وا حزنا يا سيّدي ومراح الروح في جسدي ... هلّا دنا الموت منّي حين منك دنا!

حتى يعود بنا في قعر مظلمة ... لحد ويلبسنا في واحد كفنا يا أطيب الناس روحا ضمّه بدن ... أستودع الله ذاك الروح والبدنا لو كنت أعطى به الدّنيا معاوضة ... منه لما كانت الدنيا له ثمنا وقال أبو ذؤيب الهذلي، وكان له أولاد سبعة فماتوا كلهم إلا طفلا، فقال يرثيهم: أمن المنون وريبه تتوجّع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع «1» قالت أمامة ما لجسمك شاحبا ... منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع أم ما لجسمك لا يلائم مضجعا ... إلّا أقضّ عليك ذاك المضجع «2» فأجبتها أن ما لجسمي إنه ... أودى بنيّ من البلاد فودّعوا أودى بنيّ وأعقبوني حسرة ... بعد الرّقاد وعبرة ما تقلع سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع «3» فبقيت بعدهم بعيش ناصب ... وإخال أني لاحق مستتبع ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنيّة أقبلت لا تدفع وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع فالعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عورا تدمع «4» حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشرّق كلّ يوم تقرع «5» وتجلّدي للشّامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع وقال في الطفل الذي بقي له: والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع وقال الأصمعي: هذا أبدع بيت قالته العرب. وقال أعرابيّ يرثي بنيه:

أسكّان بطن الأرض لو يقبل الفدا ... فدينا وأعطينا بكم ساكني الظّهر «1» فياليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيما إلى الحشر وقاسمني دهري بنيّ بشطره ... فلما تقضّى شطره مال في شطري فصاروا ديونا للمنايا ولم يكن ... عليهم لها دين قضوه على عسر كأنهم لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر إلى قبر وقد كنت حيّ الخوف قبل وفاتهم ... فلمّا توفّوا مات خوفي من الدهر فلله ما أعطى ولله ما حوى ... وليس لأيّام الرّزيّة كالصّبر وقيل لأعرابية مات ابنها. ما أحسن عزاءك؟ قالت: إن فقدى إياه آمنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هونت عليّ المصائب بعده! ثم أنشأت تقول: من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر كنت السّواد لناظري ... فعمي عليك النّاظر ليت المنازل والدّيا ... رحفائر ومقابر إني وغيري لا محا ... لة حيث صرت لصائر أخذ الحسن بن هانيء معنى هذا البيت الأول، فقال في الأمين: طوى الموت ما بيني وبين محمّد ... وليس لما تطوي المنيّة ناشر وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شي عليه أحاذر لئن عمرت دور بمن لا أحبّه ... لقد عمرت ممن أحبّ المقابر وقال عبد الله بن الأهتم يرثي ابنا له: دعوتك يا بنيّ فلم تجبني ... فردّت دعوتي يأسا عليّا بموتك ماتت الّلذّات مني ... وكانت حيّة ما دمت حيّا فيا أسفا عليك وطول شوقي ... إليك لو انّ ذلك ردّ شيّا

لأبي العتاهية في رثاء ابن له:

لأبي العتاهية في رثاء ابن له: وأصيب أبو العتاهية بابن له فلما دفنه وقف على قبره وقال: كفى حزنا بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديا وكنت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا لأعرابي في رثاء ابن له: ومات ابن لأعرابيّ فاشتد حزنه عليه، وكان الأعرابيّ يكنى به، فقيل له: لو صبرت لكان أعظم لثوابك! فقال: بأبي وأمّي من عبأت حنوطه ... بيدي وفارقني بماء شبابه كيف السّلوّ وكيف أنسى ذكره ... وإذا دعيت فإنما أدعى به عمر بن الخطاب وأعرابي فقد ابنا له: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما إلى بقيع الغرقد «1» ، فإذا أعرابي بين يديه، فقال: يا أعرابي، ما أدخلك دار الحق؟ قال: وديعة لي ها هنا منذ ثلاث سنين. قال: وما وديعتك؟ قال: ابن لي حين ترعرع فقدته فأنا أندبه! قال عمر: أسمعني ما قلت فيه: فقال: يا غائبا ما يثوب من سفره ... عاجله موته على صغره يا قرّة العين كنت لي سكنا ... في طول ليلي نعم وفي قصره شربت كأسا أبوك شاربها ... لا بدّ يوما له على كبره أشربها والأنام كلهم ... من كان في بدوه وفي حضره «2» فالحمد لله لا شريك له ... الموت في حكمه وفي قدره قد قسم الموت في الأنام فما ... يقدر خلق يزيد في عمره قال عمر: صدقت يا أعرابي، غير أن الله خير لك منه!

المنصور وشعر لمطيع حين مات ولده:

المنصور وشعر لمطيع حين مات ولده: الشيباني قال: لما مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، اشتدّ عليه حزنه. فلما فرغ من دفنه التفت إلى الربيع فقال: يا ربيع، كيف قال مطيع بن إياس في يحيى بن زياد؟ فأنشد: يا هل دواء لقلبي القرح ... وللدّموع الذّوارف السّفح راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال ... أقدار لم تبتكر ولم يرح يا خير من يحسن البكاء به ال ... يوم ومن كان أمس للمدح قد ظفر الحزن بالسّرور وقد ... ألّم مكروهه من الفرح وقالت أعرابية تندب ابنا لها: أبنيّ غيّبك المحلّ الملحد ... إمّا بعدت فأين من لا يبعد أنت الذي في كلّ ممسى ليلة ... تبلى وحزنك في الحشا يتجدّد وقالت فيه: لئن كنت لي لهوا لعين وقرّة ... لقد صرت سقما للقلوب الصّحائح وهوّن حزني أنّ يومك مدركي ... وأني غدا من أهل تلك الضّرائح وقال أبو الخطّار يرثي ابنه الخطار: ألا خبراني بارك الله فيكما ... متى العهد بالخطار يا فتيان فتى لا يرى نوم العشاء غنيمة ... ولا ينثني من صولة الحدثان وقال جرير يرثي ولده سوادة: قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم ... كيف العزاء وقد فارقت أشبالي ذاكم سوادة يجلو مقلتي لحم ... باز يصرصر فوق المرقب العالي «1» فارقته حين غضّ الدهر من بصرى ... وحين صرت كعظم الرّمّة البالي «2»

لابن عبد الأعلى في رثاء أيوب بن سليمان:

وقال أبو الشغب يرثي ابنه شغبا: قد كان شغب لو انّ الله عمّره ... عزّا تزاد به في عزّها مضر ليت الجبال تداعت قبل مصرعه ... دكّا فلم يبق من أحجارها حجر فارقت شغبا وقد قوّست من كبر ... بئس الخليطان طول الحزن والكبر «1» لابن عبد الأعلى في رثاء أيوب بن سليمان: ولما توفى أيوب بن سليمان بن عبد الملك في حياة سليمان، وكان وليّ عهده وأكبر ولده؛ رثاه ابن عبد الأعلى وكان من خاصته، فقال فيه: ولقد أقول لذي الشّماتة إذ رأى ... جزعي ومن يذق الحوادث يجزع أبشر فقد قرع الحوادث مروتي ... وافرح بمروتك التي لم تقرع «2» إن عشت تفجع بالأحبّة كلّهم ... أو يفجعوا بك إن بهم لم تفجع أيوب! من يشمت بموتك لم يطق ... عن نفسه دفعا وهل من مدفع؟ لأب في رثاء ابنه: الأصمعي عن رجل من الأعراب قال: كنا عشرة إخوة، وكان لنا أخ يقال له حسن. فنعي إلى أبينا، فبقى سنتين يبكي عليه حتى كفّ بصره؛ وقال فيه: أفلحت إن كان لم يمت حسن ... وكفّ عني البكاء والحزن بل أكذب الله من نعى حسنا ... ليس لتكذيب قوله ثمن أجول في الدار لا أراك وفي الدار أناس جوارهم غبن «3» بدّلتهم منك ليت أنهم ... كانوا وبيني وبينهم مدن قد علموا عند ما أنافرهم ... ما في قتالي صدع ولا أبن قد جرّبوني فما ألاومهم ... ما زال بيني وبينهم إحن «4»

لابن عبد ربه في طفل له:

فقد برى الجسم مذ نعيت لنا ... كما برى فرع نبعة سفن «1» فإن تعش فالمنى حياتك والخلد وأنت الحديث والوسن «2» إن تحى تحي بخير عيش وإن ... تمض فتلك السبيل والسّنن بريدك الحمد والسلام معا ... فكلّ حيّ بالموت مرتهن يا ويح نفسي إن كنت في جدث ... دونك فيه التراب والكفن عليّ لله إن لقيتك من ... قبل الممات الصيام والبدن أسوقها حافيا مجلّلة ... أدما هجانا قد كظّها السّمن «3» فلا نبالي إذا بقيت لنا ... من مات أو من أودى به الزمن كنت جليلي وكنت خالصتي ... لكلّ حيّ من أهله سكن لا خير لي في الحياة بعدك إن ... أصبحت تحت التراب يا حسن وقال أعرابي يرثي ابنه: ولما دعوت الصبر بعدك والأسى ... أجاب الأسى طوعا ولم يجب الصبر فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر وقال أعرابي يرثي ابنه: بنيّ لئن ضنّت جفون بمائها ... لقد قرحت مني عليك جفون «4» دفنت بكفّي بعض نفسي فأصبحت ... وللنفيس منها دافن ودفين لابن عبد ربه في طفل له: وهذا نظير قولي في طفل أصبت به: على مثلها من فجعة خانك الصبر ... فراق حبيب دون أوبته الحشر ولي كبد مشطورة في يد الأسى ... فتحت الثّرى شطر وفوق الثرى شطر يقولون لي صبّر فؤادك بعده ... فقلت لهم مالي فؤاد ولا صبر

لأعرابي في ابنين له:

فريخ من الحمر الحواصل ما اكتسى ... من الريش حتى ضمّه الموت والقبر إذا قلت أسلو عنه هاجت بلابل ... يجدّدها فكر يجدده ذكر وأنظر حولي لا أرى غير قبره ... كأنّ جميع الأرض عندي له قبر أفرخ جنان الخلد طرت بمهجتي ... وليس سوى قعر الضريح لها وكر وقالت أعرابية ترثي ولدها: يا قرحة القلب والأحشاء والكبد ... يا ليت أمّك لم تحبل ولم تلد لما رأيتك قد أدرجت في كفن ... مطيّبا للمنايا آخر الأبد أيقنت بعدك أنّي غير باقية ... وكيف يبقى ذراع زال عن عضد «1» لأعرابي في ابنين له: توفى ابن لأعرابي فبكى عليه حينا، فلما همّ أن يسلو عنه توفى له ابن آخر، فقال في ذلك: إن أفق من حزن هاج حزن ... ففؤادي ماله اليوم سكن وكما تبلى وجوه في الثّرى ... فكذا يبلى عليهنّ الحزن «2» وقال في ذلك: عيون قد بكينك موجعات ... أضرّ بها البكاء وما ينينا «3» إذا أنفدن دمعا بعد دمع ... يراجعن الشئون فيستقينا أبو عبيد البجلي قال: وقفت أعرابية على قبر ابن لها يقال له عامر، فقالت: أقمت أبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار لي وحشة ... قد ذلّ من ليس له ناصر وقالت فيه: هو الصبر والتسليم لله والرضا ... إذا نزلت بي خطة لا أشاؤها

لهذيلية في رثاء إخوة وابن:

إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجعت أمرا فخاب رجاؤها فأنفسنا خير الغنيمة إنها ... تئوب ويبقى ماؤها وحياؤها ولا برّ إلا دون ما برّ عامر ... ولكنّ نفسا لا يدوم بقاؤها هو ابني أمسى أجره لي وعزّني ... على نفسه رب إليه ولاؤها فإن أحتسب أوجر وإن أبكه أكن ... كباكية لم يحي ميتا بكاؤها «1» لهذيلية في رثاء إخوة وابن: الشيباني قال: كانت امرأة من هذيل، وكان لها عشرة إخوة وعشرة أعمام؛ فهلكوا جميعا في الطاعون؛ وكانت بكرا لم تتزوج؛ فخطبها ابن عم له فتزوّجها. فلم تلبث أن اشتملت على غلام فولدته، فنبت نباتا كأنما يمدّ بناصيته وبلغ، فزوّجته وأخذت في جهازه، حتى إذا لم يبق إلا البناء «2» أتاه أجله، فلم تشقّ لها جيبا، ولم تدمع لها عين؛ فلما فرغوا من جهازه دعيت لتوديعه، فأكبّت عليه ساعة، ثم رفعت رأسها ونظرت إليه وقالت: ألا تلك المسرّة لا تدوم ... ولا يبقى على الدهر النعيم ولا يبقى على الحدثان غفر ... بشاهقة له أمّ رءوم «3» ثم أكبت عليه أخرى، فلم تقطع نحيبها حتى فاضت نفسها، فدفنا جميعا. لشيبانية في حزنها على أهلها: خليفة بن خيّاط قال: ما رأيت أشدّ كمدا من امرأة من بني شيبان، قتل ابنها وأبوها وزوجها وأمها وعمتها وخالتها مع الضحاك الحروريّ؛ فما رأيتها قطّ ضاحكة ولا متبسمة حتى فارقت الدنيا، وقالت ترثيهم: من لقلب شفّه الحزن ... ولنفس مالها سكن

لأب في رثاء ابنه:

ظعن الأبرار فانقلبوا ... خيرهم من معشر ظعنوا «1» معشر قضّوا نحوبهم ... كلّ ما قد قدّموا حسن صبروا عند السّيوف فلم ... ينكلوا عنها ولا جبنوا فتية باعوا نفوسهم ... لا، وربّ البيت ما غبنوا فأصاب القوم ما طلبوا ... منّة ما بعدها منن وقال عبد الله بن ثعلبة يرثي والدا له: أأخضب رأسي أم أطيّب مفرقي ... ورأسك مرموس وأنت سليب نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب غريب وأطراف البيوت تكنّه ... ألا كلّ من تحت التراب غريب قال العتبي محمد بن عبيد الله يرثي ابنا له: أضحت بخدّي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم» والصبر يحمد في المواطن كلّها ... إلا عليك فإنه مذموم لأب في رثاء ابنه: خرج أعرابيّ هاربا من الطاعون، فبينما هو سائر إذ لدغته أفعى فمات، فقال أبوه يرثيه: طاف يبغى نجوة ... من هلاك فهلك والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك ليت شعري ضلّة ... أيّ شيء قتلك كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك

لأبي العتاهية في رثاء الأمين:

لأبي العتاهية في رثاء الأمين: لما قتل عبد الله المأمون أخاه محمد بن زبيدة، أرسلت أمه زبيدة ابنة جعفر إلى أبي العتاهية يقول أبياتا على لسانها للمأمون، فقال: ألا إنّ ريب الدهر يدني ويبعد ... وللدهر أيام تذمّ وتحمد «1» أقول لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ... ولي جعفر، لم يهلكا، ومحمد وكتبت إليه من قوله: لخير إمام قام من خير معشر ... وأكرم بسّام على عود منبر كتبت وعيني تستهلّ دموعها ... إليك ابن يعلى من دموعي ومحجري «2» فجعنا بأدنى الناس منك قرابة ... ومن زلّ عن كبدي فقلّ تصبّري أتى طاهر لا طهّر الله طاهرا ... وما طاهر في فعله بمطهّر فأبرزني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وخرّب أدوري وعزّ على هارون ما قد لقيته ... وما نابني من ناقص الخلق أعور فلما نظر المأمون إلى كتابها وجه إليها بحباء جزيل، وكتب إليها يسألها القدوم عليه، فلم تأته في ذلك الوقت وقبلت منه ما وجّه به إليها؛ فلما صارت إليه بعد ذلك قال لها: من قائل الأبيات؟ قالت: أبو العتاهية. قال: وكم أمرت له؟ قالت: عشرين ألف درهم. قال المأمون: وقد أمرنا له بمثل ذلك. واعتذر إليها من قتل أخيه محمد، وقال لها: لست صاحبه ولا قاتله. فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لكما يوما تجتمعان فيه، وأرجو أن يغفر الله لكما إن شاء الله. أبو شأس يرثي ابنه شأسا: وربّيت شأسا لريب الزمان ... فلله تربيتي والنصب فليتك يا شأس فيمن بقي ... وكنت مكانك فيمن ذهب!

من رثى إخوته

من رثى إخوته لمتمم بن نويرة: الرياشيّ قال: صلى متمّم بن نويرة الصبح مع أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه، ثم أنشد: نعم بالله إذا الرّياح تناوحت ... بين البيوت قتلت يابن الأزور أدعوته بالله ثم قتلته ... لو هو دعاك بذمّة لم يغدر لا يضمر الفحشاء تحت ردائه ... حلو شمائله عفيف المثزر قال: ثم بكى حتى سالت عينه العوراء. قال أبو بكر: ما دعوته ولا قتلته. وقال متمم: ومستضحك مني ادّعى كمصيبتي ... وليس أخو الشجو الحزين بضاحك يقول أتبكي من قبور رأيتها ... لقبر بأطراف الّلوى فالدّكادك «1» فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذي كلّها قبر مالك «2» وقال متمم يرثي أخاه مالكا، وهي التي تسمّى أمّ المراثي: لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما ألّم فأوجعا «3» لقد غيّب المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا «4» ولا برما تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا «5» تراه كنصل السيف يهتزّ للنّدى ... إذا لم تجد عند امريء السّوء مطعما فعينيّ هلّا تبكيان لمالك ... إذا هزت الرّيح الكنيف المرفّعا وأرملة تدعو بأشعث محثل ... كفرخ الحبارى ريشه قد تمزّعا «6»

وما كان وقّافا إذا الخيل أحجمت ... ولا طالبا من خشية الموت مفزعا ولا بكهام سيفه عن عدوّه ... إذا هو لاقى حاسرا أو مقنّعا «1» أبى الصبر آيات أراها وإنني ... أرى كلّ حبل بعد حبلك أقطعا وإني متى ما أدع باسمك لم تجب ... وكنت حريّا أن تجيب وتسمعا تحيته مني وإن كان نائيا ... وأمسى ترابا فوقه الأرض بلقعا فإن تكن الأيام فرّقن بننا ... فقد بان محمودا أخى حين ودّعا وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبّعا وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا فلما تفرقنا كأنّي ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا فما شارف حنّت حنينا ورجّعت ... أنينا فأبكى شجوها البرك أجمعا «2» ولا وجد أظآر ثلاث روائم ... وأين مجرّا من حوار ومصرعا «3» بأوجد مني يوم قام بمالك ... مناد فصيح بالفراق فأسمعا سقى الله أرضا حلّها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا «4» قيل لعمرو بن بحر الجاحظ: إن الأصمعي كان يسمي هذا الشعر أم المراثي. فقال: لم يسمع الأصمعي: أيّ القلوب عليكم ليس ينصدع ... وأيّ نوم عليكم ليس يمتنع وقال الأصمعي: لم يبتدىء أحد بمرثية بأحسن من ابتداء أوس بن حجر: أيتها النفس أجملي جزعا ... إنّ الذي تحذرين قد وقعا وبعدها قول زميل: أجارتنا من يجتمع يتفرّق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق

رثاء أخت النضر له:

رثاء أخت النضر له: قال ابن إسحاق صاحب المغازي: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصفراء- وقال ابن هشام الأثيل- أمر عليّ بن أبي طالب بضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف صبرا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقالت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه: يا راكبا إنّ الاثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفّق أبلغ بها ميتا بأنّ تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «1» منّي إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق «2» هل يسمعنّي النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضنء كريمة ... من قومه والفحل فحل مغرق «3» ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتقا يعتق ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق «4» صبرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق «5» قال ابن هشام: قال النبي صلّى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبل قتله ما قتلته. عمر بن الخطاب والخنساء في أخويها: الأصمعي قال: نظر عمر بن الخطاب إلى خنساء وبها ندوب في وجهها، فقال: ما هذه الندوب يا خنساء؟ قالت: من طول البكاء على أخويّ! قال لها: أخواك في النار! قالت: ذلك أطول لحزني عليهما؛ إني كنت أشفق عليهما من القتل، وأنا اليوم أبكي لهما من النار، وأنشدت:

عائشة والخنساء في صدار كانت تلبسه:

وقائلة والنعش قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسي على صخر ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر عائشة والخنساء في صدار كانت تلبسه: دخلت خنساء على عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وعليها صدار من شعر قد استشعرته إلى جلدها؛ فقال لها: ما هذا يا خنساء؟ فو الله لقد توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما لبسته! قالت: إنّ له معنى دعاني إلى لباسه؛ وذلك أنّ أبي زوّجني سيدّ قومه، وكان رجلا متلافا، فأسرف في ماله حتى أنفده، ثم رجع في مالي فأنفده أيضا، ثم التفت إليّ فقال: إلى أين يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر. قالت: فأتيناه فقسم ماله شطرين، ثم خيّرنا في أحسن الشطرين، فرجعنا من عنده، فلم يزل زوجي حتى أذهب جميعه، ثم التفت إليّ فقال لي: إلى أين يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر! قالت: فرحلنا إليه، ثم قسم ماله شطرين وخيّرنا في أفضل الشطرين، فقالت له زوجته: أما ترضى أن تشاطرهم مالك حتى تخيّرهم بين الشطرين؟ فقال: والله لا أمنحها شرارها ... فلو هلكت قدّدت خمارها واتخذت من شعر صدارها ... وهي حصان قد كفتني عارها فآليت ألّا يفارق الصدار جسدي ما بقيت. الخنساء في أخويها: قيل للخنساء: صفي لنا أخويك صخرا ومعاوية. فقالت: كان صخر والله جنة الزمان الأغبر، وذعاف الخميس الأحمر. وكان والله معاوية القائل والفاعل. قيل لها: فأيهما كان أسنى وأفخر، قالت: أما صخر فحرّ الشتاء، وأما معاوية فبرد الهواء. قيل لها: فأيهما أوجع وأفجع. قالت: أما صخر فجمر الكبد، وأما معاوية فسقام الجسد! وأنشأت: أسدان محمرّا المخالب نجدة ... بحران في الزّمن الغضوب الأنمر

قمران في النادي، رفيعا محتد ... في المجد فرعا سودد متخيّر «1» وقالت الخنساء ترثي أخاها صخر بن الشريد: أقذى بعينك أم بالعين عوّار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدّار كأنّ دمعي لذكراه إذا خطرت ... فيض يسيل على الخدّين مدرار فالعين تبكي على صخر وحقّ لها ... ودونه من جديد الأرض أستار بكاء والهة ضلّت أليفتها ... لها حنينان إصغار وإكبار «2» ترعى إذا نسيت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار «3» حامي الحقيقة، محمود الخليقة، مهديّ الطريقة، نفّاع وضرّار وقالت أيضا: ألا ما لعيني، ألا مالها ... لقد أخضل الدّمع سربالها أمن بعد صخر من ال الشريد حلّت به الأرض أثقالها فآليت آسى على هالك ... وأسأل باكية مالها وهمّت بنفسي كلّ الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها سأحمل نفسي على خطة ... فإمّا عليها وإمّا لها وقالت أيضا: أعينيّ جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر النّدى؟ ألا تبكيان الجريء الجواد ... ألا تبكيان الفتى السّيّدا؟ طويل النّجاد رفيع العما ... د، ساد عشيرته أمردا يحمّله القوم ما غالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا جموع الضّيوف إلى بابه ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا

لأخت الوليد بن طريف في رثائه:

وقالت أيضا: فما أدركت كفّ امرىء متناول ... من المجد إلّا والذي نلت أطول وما بلغ المهدون للمدح غاية ... ولا جهدوا إلّا الذي فيك أفضل وما الغيث في جعد الثرى دمث الربا ... تبعّق فيها الوابل المتهلّل «1» فأفضل سيبا من يديك ونعمة ... تجود بها، بل سيب كفّيك أجزل من القوم مغشيّ الرواق كأنه ... إذا سيم ضيما خادر متبسّل «2» شرنبث أطراف البنان ضبارم ... له في عرين الغيل عرس وأشبل «3» لأخت الوليد بن طريف في رثائه: وقالت أخت الوليد بن طريف ترثي أخاها الوليد بن طريف: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يريد العزّ إلّا من التقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف «4» ولا الذّخر إلا كلّ جرداء صلدم ... وكلّ رقيق الشّفرتين حليف «5» فقدناه فقدان الرّبيع فليتنا ... فديناه من ساداتنا بألوف خفيف على ظهر الجواد إذا عدا ... وليس على أعدائه بخفيف عليك سلام الله وقفا فإنني ... أرى الموت وقاعا بكلّ شريف وقال آخر يرثي آخاه: أخ طالما سرني ذكره ... فقد صرت أشجى إلى ذكره وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره وكنت أراني غنيّا به ... عن الناس لو مدّ في عمره وكنت إذا جئته زائرا ... فأمري يجوز على أمره

وقالت الخنساء ترثي أخاها صخرا: بكت عيني وعاودها قذاها ... بعوّار فما تقضى كراها «1» على صخر وأيّ فتى كصخر ... إذا ما الغاب لم ترأم طلاها «2» حلفت بربّ صهب معملات ... إلى البيت المحرّم منتهاها لئن جزعت بنو عمرو عليه ... لقد رزئت بنو عمرو فتاها له كف يشدّ بها وكف ... تجود فما يجفّ ثرى نداها ترى الشّمّ الغطارف من سليم ... وقد بلّت مدامعها لحاها أحاميكم ومطعمكم تركتم ... لدى غبراء منهدم رجاها فمن للضيف إن هبّت شمال ... مزعزعة تناوئها صباها وألجأ بردها الأشوال حدبا ... إلى الحجرات بادية كلاها «3» هنالك لو نزلت بباب صخر ... قرى الأضياف شحما من ذراها وخيل قد دلفت لها بخيل ... فدارت بين كبشيها رحاها «4» تكفكف فضل سابغة دلاص ... على خيفانة خفق حشاها «5» وقال كعب يرثي أخاه أبا المغوار: تقول سليّمى: ما لجسمك شاحبا ... كأنك يحميك الطعام طبيب فقلت: شجون من خطوب تتابعت ... عليّ كبار والزمان يريب لعمري لئن كانت أصابت منيّة ... أخي، فالمنايا للرّجال شعوب «6» فإني لباكيه، وإني لصادق ... عليه، وبعض القائلين كذوب أخي ما أخي! لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللّقاء هيوب أخ كان يكفيني وكان يعينني ... على نائبات الدّهر حين تنوب

هو العسل الماذيّ لينا وشيمة ... وليث إذا لاقى الرجال قطوب» هوت أمّه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يؤدّي الليل حين يؤوب «2» كعالية الرّمح الرّدينيّ لم يكن ... إذا ابتدر الخير الرجال يخيب وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا ... لعلّ أبا المغوار منك قريب يجبك كما قد كان يفعل إنه ... بأمثاله رحب الذّراع أريب وحدّثتماني أنما الموت في القرى ... فكيف وهذي هضبة وكثيب فلو كانت الموتى تباع اشتريته ... بما لم تكن عنه النفوس تطيب بعينيّ أو يمنى يديّ وخلتني ... أنا الغانم الجذلان حين يؤوب لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على يومه علق إليّ حبيب «3» أتى دون حلو العيش حتى أمرّه ... خطوب على آثارهنّ نكوب فو الله لا أنساه ماذرّ شارق ... وما اهتزّ بي فرع الأراك قضيب فإن تكن الأيام أحسنّ مرة ... إليّ لقد عادت لهنّ ذنوب وقال امرؤ القيس يرثي إخوته: ألا يا عين جودي لي شنينا ... وبكّي للملوك الذاهبينا ملوك من بني صخر بن عمرو ... يقادون العشيّة يقتلونا فلم تغسل رءوسهم بسدر ... ولكن في الدماء مزمّلينا فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا وقال الأبيرد بن المعذّر الرّياحي يرثي أخاه بريدا: تطاول ليلى لم أنمه تقلّبا ... كأن فراشي حال من دونه الجمر أراقب من ليل التمام نجومه ... لدن غاب قرن الشمس حتى بدا الفجر تذكّر علق بان منّا بنصره ... ونائله يا حبّذا ذلك الذّكن

فإن تكن الأيام فرّقن بيننا ... فقد عذرتنا في صحابته العذر وكنت أرى هجرا فراقك ساعة ... ألا لا بل الموت التفرق والهجر أحقا عباد الله أن لست لاقيا ... بريدا طوال الدهر مالألأ العفر «1» فتى ليس كالفتيان إلا خيارهم ... من القوم جزل لا ذليل ولا غمر «2» فتى إن هو استغنى تخرّق في الغنى ... وإن كان فقر لم يؤد متنه الفقر «3» وسامي جسيمات الأمور فنالها ... على العسر حتى يدرك العسرة اليسر ترى القوم في العزاء ينتظرونه ... إذا شتّ رأي القوم أو حزب الأمر «4» فليتك كنت الحيّ في الناس باقيا ... وكنت أنا الميت الذي ضمّه القبر فتى يشتري حسن الثناء بماله ... إذا السّنة الشهباء قلّ بها القطر «5» كأن لم يصاحبنا بريد بغبطة ... ولم تأتنا يوما بأخباره البشر لعمري لنعم المرء عالي نعيّه ... لنا ابن عرين بعد ما جنح العصر تمضّت به الأخبار حتى تغلغلت ... ولم تثنه الأطباع عنا ولا الجدر «6» فلما نعى الناعي بريدا تغوّلت ... بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر «7» عساكر تغشى النفس حتى كأنني ... أخو نشوة دارت بهامته الخمر إلى الله أشكو في بريد مصيبتي ... وبثّي وأحزانا يجيش بها الصدر وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن سرّني الأجر وما زال في عينيّ بعد غشاوة ... وسمعي عما كنت أسمعه وقر على أنني أقني الحياء وأتّقي ... شماتة أقدام عيونهم خزر «8» فحّياك عني الليل والصبح إذ بدا ... وهوج من الأرواح غدوتها شهر سقى جدثا لو أستطيع سقيته ... بأود فروّاه الرواعد والقطر «9»

ولا زال يسقي من بلاد ثوى بها ... ثبات إذا صاب الربيع بها نضر حلفت برب الرافعين أكفّهم ... وربّ الهدايا حيث حلّ بها النجر «1» ومجتمع الحجاج حيث تواقفت ... رفاق من الآفاق تكبيرها جأر يمين امريء آلى وليس بكاذب ... وما في يمين بتّها صادق وزر لئن كان أمسى ابن المعذّر قد ثوى ... بريد لنعم المرء غيّبه القبر هو المرء للمعروف والدين والنّدي ... ومسعر حرب لا كهام ولا غمر «2» أقام ونادى أهله فتحمّلوا ... وصرّمت الأسباب واختلف النّجر فأيّ امريء غادرتم في بيوتكم ... إذا هي أمست لون آفاقها حمر إذا الشول أمست وهي حدب ظهورها ... عجافا ولم يسمع لفحل لها هدر كثير رماد القدر يغشى فناؤه ... إذا نودي الأيسار واحتضر الجزر فتى كان يغلي اللحم نيئا ولحمه ... رخيص بكفّيه إذا تنزل القدر يقسّمه حتى يشيع ولم يكن ... كآخر يضحي من غبيبته ذخر «3» فتى الحيّ والأضياف إن روّحتهم ... بليل وزاد السّفر إن أرمل السّفر «4» إذا أجهد القوم المطيّ وأدرجت ... من الضّمر حتى يبلغ الحقب الضّفر «5» وخفت بقايا زادهم وتواكلوا ... وأكسف بال القوم مجهولة قفر رأيت له فضلا عليهم بقوّة ... وبالعقر لما كان زادهم العقر إذا القوم أسروا ليلهم ثم أصبحوا ... غدا وهو ما فيه سقاط ولا فتر «6» وإن خشعت أبصارهم وتضاءلت ... من الأين جلّى مثل ما ينظر الصّقر وإن جارة حلّت إليه وفى لها ... فباتت ولم يهتك لجارته ستر عفيف عن السّوءات ما التبست به ... صليب فما يلفى بعود له كسر سلكت سبيل العالمين فما لهم ... وراء الذي لاقيت معدى ولا قصر

وكلّ امرىء يوما ملاق حمامه ... وإن باتت الدّعوى وطال به العمر وأبليت خيرا في الحياة وإنّما ... ثوابك عندي اليوم أن ينطق الشّعر ليفدك مولى أو أخ ذو ذمامة ... قليل الغناء لا عطاء ولا نصر «1» لشبل بن معبد البجلي: أتى دون حلو العيش حتى أمرّه ... نكوب على آثارهنّ نكوب تتابعن في الأحباب حتى أبدنهم ... فلم يبق منهم في الدّيار قريب برتني صروف الدهر من كلّ جانب ... كما ينبري دون اللّحاء عسيب «2» فأصبحت إلا رحمة الله مفردا ... لدى الناس صبرا والفؤاد كئيب إذا ذرّ قرن الشمس علّلت بالأسى ... ويأوي إليّ الحزن حين يؤوب ونام خليّ البال عنّي ولم أنم ... كما لم ينم عاري الفناء غريب تضرّ به الأيام حتى كأنّه ... بطول الذي أعقبن وهو رقوب فقلت لأصحابي وقد قذفت بنا ... نوى غربة عمّن نحبّ شطوب «3» متى العهد بالأهل الذين تركتهم ... لهم في فؤادي بالعراق نصيب فما ترك الطاعون من ذي قرابة ... إليه إذا حان الإياب نؤوب فقد أصبحوا لا دارهم منك غربة ... بعيد، ولا هم في الحياة قريب وكنت ترجّى أن تئوب إليهم ... فعالتهم من دون ذاك شعوب مقادير لا يغفلن من حان يومه ... لهنّ على كلّ النّفوس رقيب سقين بكأس الموت من حان حينه ... وفي الحيّ من أنفاسهنّ ذنوب «4» وإنا وإيّاهم كوارد منهل ... على حوضه بالباليات نهيب إليه تناهينا ولو حال دونه ... مياه وراء كلّهن شروب فهوّن عنّي بعض وجدي أنّني ... رأيت المنايا تغتدي وتؤوب ولسنا بأحيا منهم غير أنّنا ... إلى أجل ندعى له فنجيب

من رثت زوجها

وإني إذا ما شئت لاقيت أسوة ... تكاد لها نفس الحزين تطيب فتى كان ذا أهل ومال فلم يزل ... به الدهر حتى صار وهو حريب «1» وكيف عزاء المرء عن أهل بيته ... وليس له في الغابرين حبيب متى يذكروا يفرح فؤادي لذكرهم ... وتسجم دموع بينهنّ نحيب دموع مراها الشّجو حتى كأنها ... جداول تجري بينهنّ غروب «2» إذا ما أردت الصبر هاج لي البكا ... فؤاد إلى أهل القبور طروب بكى شجوه ثم ارعوى بعد عوله ... كما واترت بين الحنين سلوب «3» دعاها الهوى من سبقها فهي واله ... وردّت إليّ الآن فهي تحوب «4» فوجدي بأهلي وجدها غير أنهم ... شباب يزينون النّدى ومشيب من رثت زوجها قال أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها ترثي زوجها الزبير بن العوام، وكان قتله عمرو بن جرموز المجاشعي بوادي السّباع وهو منصرف من وقعة الجمل وتروي هذه الأبيات لزوجته عاتكة التي تزوجها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم الهياج وكان غير معرّد «5» يا عمرو لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة المتعمّد لبانة زوجة الأمين ترثيه: الهلالي قال: تزوّج محمد بن هارون الرشيد لبانة بنت عليّ بن ريطة، وكانت من أجمل النساء، فقتل محمد عنها ولم يبن بها، فقالت ترثيه:

الأصمعي وجارية على قبر زوجها:

أبكيك لا للنّعيم والأنس ... بل للمعالي والرّمح والفرس يا فارسا بالعراء مطّرحا ... خانته قوّاده مع الحرس أبكي على سيّد فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس أم من لبرّأم من لعائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس «1» من للحروب التي تكون لها ... إن أضرمت نارها بلا قبس وقال أعرابية ترثي زوجها: كنّا كغصنين في جرثومة بسقا ... حينا على خير ما ينمى به الشجر حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... وطاب قنواهما واستنظر الثّمر «2» أخنى على واحد ريب الزّمان وما ... يبقي الزّمان على شيء ولا يذر «3» كنّا كأنجم ليل بينهما قمر ... يجلو الدّجى فهوى من بيننا القمر الأصمعي وجارية على قبر زوجها: الأصمعيّ قال: دخلت بعض مقابر الأعراب ومعي صاحب لي، فإذا جارية على قبر كأنها تمثال، وعليها من الحلي والحلل ما لم أر مثله، وهي تبكي بعين غزيرة وصوت شجي؛ فالتفت إلى صاحبي فقلت: هل رأيت أعجب من هذا؟ قال: لا والله ولا أحسبني أراه! ثم قلت لها: يا هذه إني أراك حزينة وما عليك زي الحزن. فأنشأت تقول: فإن تسألاني فيم حزني فإنني ... رهينة هذا القبر يا فتيان وإني لأستحييه والتّرب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني أهابك إجلالا وإن كنت في الثرى ... مخافة يوم أن يسوءك شاني ثم اندفعت في البكاء وجعلت تقول: يا صاحب القبر يا من كان ينعم بي ... بالا ويكثر في الدّنيا مواساتي

من رثى جاريته

قد زرت قبرك في حلي وفي حلل ... كأنني لست من أهل المصيبات أردت آتيك فيما كنت أعرفه ... أن قد تسرّ به من بعض هيآتي فمن رآني رأى عبرى مولّهة ... عجيبة الزّيّ تبكي بين أموات وقال: رأيت بصحراء جارية قد ألصقت خدها بقبر وهي تبكي وتقول: خدّي يقيك خشونة اللّحد ... وقليلة لك سيّدي خدّي يا ساكن القبر الذي بوفاته ... عميت عليّ مسالك الرّشد اسمع أبثّك علّتي ولعلّني ... أطفي بذلك حرقة الوجد من رثى جاريته كان لمعلى الطائي جارية يقال لها وصف، وكانت أديبة شاعرة، فأخبرني محمد بن وضّاح، قال: أدركت معلّى الطائي بمصر وأعطي بجاريته وصف أربعة آلاف دينار، فباعها؛ فلما دخل عليها قالت له: بعتني يا معلّى! قال: نعم. قالت: والله لو ملكت منك مثل ما تملك مني ما بعتك بالدنيا وما فيها! فردّ الدنانير واستقال صاحبه، فأصيب بها إلى ثمانية أيام؛ فقال يرثيها: يا موت كيف سلبتني وصفا ... قدّمتها وتركتني خلفا هلّا ذهبت بنا معا فلقد ... ظفرت يداك فسمتني خسفا وأخذت شقّ النفس من بدني ... فقبرته وتركت لي النّصفا فعليك بالباقي بلا أجل ... فالموت بعد وفاتها أعفى يا موت ما أبقيت لي أحدا ... لمّا رفعت إلي البلى وصفا هلّا رحمت شباب غانية ... ريّا العظام وشعرها الوحفا «1» ورحمت عيني ظبية جعلت ... بين الرّياض تناظر الخشفا «2» تغفي إذا انتصبت فرائصه ... وتظل ترعاه إذا أغفى»

مروان بن محمد وجارية له خلفها بالرملة:

فإذا مشى اختلفت قوائمه ... وقت الرضاع فينطوي ضعفّا متحيرا في المشي مرتعشا ... يخطو فيضرب ظلفه الظّلفا فكأنها وصف إذا جعلت ... نحوي تحير محاجرا وطفا «1» يا موت أنت كذا لكلّ أخي ... إلف يصون ببرّه الإلفا خلّيتني فردا وبنت بها ... ما كنت قبلك حاملا وكفا «2» فتركتها بالرغم في جدث ... للرّيح تنسف تربه نسفا دون المقطّم لا ألبّسها ... من زينة قرطا ولا شنفا «3» أسكنتها في قعر مظلمة ... بيتا يصافح تربه السّقفا بيتا إذا ما زاره أحد ... عصفت به أيدي البلى عصفا لا نلتقي أبدا معاينة ... حتى نقوم لربّنا صفّا لبست ثياب الحتف جارية ... قد كنت ألبس دونها الحتفا فكأنها والنفس زاهقة ... غصن من الرّيحان قد جفّا يا قبر أبق على محاسنها ... فلقد حويت البر والظّرفا مروان بن محمد وجارية له خلفها بالرملة: لما هزم مروان بن محمد وخرج نحو مصر، كتب إلى جارية له خلفها بالرملة: وما زال يدعوني إلى الصدّ ما أرى ... فآبي ويثنيني الذي لك في صدري وكان عزيزا أن تبيني وبيننا ... حجاب فقد أمسيت منك على عشر وأنكاهما للقلب والله فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر وأعظم من هذين والله أنني ... أخاف بألّا نلتقي آخر الدهر سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر

لأبي نواس يرثي جارية:

لأبي نواس يرثي جارية: وجدوا على قبر جارية إلى جنب قبر أبي نواس أبياتا، ذكروا أن أبا نواس قالها، وهي: أقول لقبر زرته متلثّما ... سقى الله برد العفو صاحبة القبر لقد غيّبوا تحت الثرى قمر الدجى ... وشمس الضّحى بين الصّفائح والقفر عجبت لعين بعدها ملّت البكا ... وقلب عليها يرتجي راحة الصبر وقال حبيب الطائي يرثي جارية أصيب بها: جفوف البلى أسرعت في الغصن الرطب ... وخطب الرّدى والموت أبرحت من خطب لقد شرقت في الشرق بالموت غادة ... تبدّلت منها غربة الدار في القرب وألبسني ثوبا من الحزن والأسى ... هلال عليه نسج ثوب من التّرب وكنت أرجّي القرب وهي بعيدة ... فقد نقلت بعدي عن البعد والقرب أقول وقد قالوا استراحت لموتها ... من الكرب روح الموت شرّ من الكرب لها منزل تحت الثّرى وعهدتها ... لها منزل بين الجوانح والقلب «1» وقال يرثيها: ألم ترني خلّيت نفسي وشانها ... ولم أحفل الدنيا ولا حدثانها لقد خوّفتني النائبات صروفها ... ولو أمّنتني ما قبلت أمانها وكيف على نار الليالي معرّس ... إذا كان شيب العارضين دخانها أصبت بخود سوف أغبر بعدها ... حليف أسى أبكي زمانا زمانها «2» عنان من الّلذات قد كان في يدي ... فلما قضى الالف استردّت عنانها منحت المها هجري فلا محسناتها ... أريد ولا يهوى فؤادي حسانها يقولون هل يبكي الفتى لخريدة ... إذا ما أراد اعتاض عشرا مكانها «3»

محب وجارية له ماتت:

وهل يستعيض المرء من خمس كفّه ... ولو صاغ من حرّ اللّجين بنانها «1» وقال أعرابي يرثي امرأته: فو الله ما أدري إذا الليل جنّني ... وذكرنيها أيّنا هو أوجع أمنفصل عنه ثرى أم كريمة ... أم العاشق النابي به كلّ مضجع وقال محمود الورّاق يرثي جاريته نشو: ومنتصح يردّد ذكر نشو ... على عمد ليبعث لي اكتئابا أقول- وعدّ- ما كانت تساوي ... سيحسب ذاك من خلق الحسابا عطيّته إذا أعطى سرور ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا فأيّ النّعمتين أعم نفعا ... وأحسن في عواقبها إيابا أنعمته التي أهدت سرورا ... أم الأخرى التي أهدت ثوابا بل الأخرى وإن نزلت بحزن ... أحقّ بشكر من صبر احتسابا محب وجارية له ماتت: أبو جعفر البغدادي قال: كان لنا جار، وكانت له جارية جميلة، وكان شديد المحبة لها؛ فماتت، فوجد عليها وجدا شديدا، فبينما هو ذات ليلة نائم، إذ أتته الجارية في نومه فأنشدته هذه الأبيات: جاءت تزور وسادي بعد ما دفنت ... في النوم ألثم خدا زانه الجيد فقلت قرّة عيني قد نعيت لنا ... فكيف ذا وطريق القبر مسدود قالت هناك عظامي فيه ملحدة ... تنهش منها هوام الأرض والدود «2» وهذه النفس قد جاءتك زائرة ... فاقبل زيارّة من في القبر ملحود فانتبه وقد حفظها، وكان يحدّث الناس بذلك وينشدهم. فما بقي بعدها إلا أياما يسيرة حتى لحق بها.

من رثى ابنة

من رثى ابنة قال البحتري في ابنة لأحد بني حميد: ظلم الدهر فيكم وأساء ... فعزاء بني حميد عزاء أنفس ما تّزال تفقد فقدا ... وصدور ما تبرح البرحاء أصبح السيف داءكم وهو الدا ... ء الذي ما يزال يعني الدواء وانتحى القتل فيكم فبكينا ... بدماء الدموع تلك الدّماء يا أبا القاسم المقسّم في النّج ... دة والجود والنّدي أجزاء والهزبر الذي دارت الحر ... ب به صرّف الرّدى كيف شاء «1» الأسى واجب على الحرّ إما ... نية حرّة وإما رياء وسفاه أن يجزع الحرّ مما ... كان حتما على العباد قضاء أنبكّي من لا ينازل بالسي ... ف مشيحا ولا يهزّ اللّواء «2» والفتى من رأى القبور لمن طا ... ف به من بناته الأكفاء ليس من زينة الحياة كعدّ ... الله منها الأموال والابناء قد ولدن الأعداء قدما وورّث ... ن التّلاد الأقاصي البعداء لم يئدتر بهنّ قيس تميم ... علّة بل حمّية وإباء وتغشّي مهلهل الذلّ في ... هنّ وقد أعطي الأديم حباء وشقيق بن فاتك حذر العا ... ر عليهنّ فارق الدّهناء وعلى غيرهنّ أحزن يعقو ... ب وقد جاءه بنوه عشاء وشعيب من أجلهنّ رأى الوح ... دة ضعفا فاستأجر الأنبياء وتلفّت إلى القبائل فانظر ... أمّهات ينسبن أم آباء واستزلّ الشيطان آدم في الج ... نّة لمّا أغرى به حوّاء ولعمري ما العجز عندي إلا ... أن تبيت الرجال تبكي النساء

مراثي الأشراف

مراثي الأشراف لحسان يرثي الرسول صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان: قال حسّان بن ثابت يرثي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، رضوان الله عليهم: ثلاثة برزوا بسبقهم ... نضّرهم ربّهم إذا نشروا عاشوا بلا فرقة حياتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا فليس من مسلم له بصر ... ينكرهم فضلهم إذا ذكروا وقال حسان يرثي أبا بكر رضي الله عنه: إذا تذكّرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البريّة أتقاها وأعدلها ... بعد النبيّ وأوفاها بما حملا الثاني اثنين والمحمود مشهده ... وأوّل الناس طراّ صدّق الرّسلا وكان حبّ رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا وقال يرثي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزّق فمن يجر أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... نوافج في أكمامها لم تفتّق وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّي سبنتي أزرق العين مطرق «1» وقال يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه: من سرّه الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت ما سرّه في دار عثمانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حيّا وما سمّيت حسّانا يا ليّت شعري وليت الطير تخبرني ... ما كان شأن عليّ وابن عفّانا لتسمعن وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا ضحوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل نسبيحا وقرآنا «2»

وقال الفرزدق في قتل عثمان رضي الله تعالي عنه: إنّ الخلافة لمّا أظعنت ظعنت ... من أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا «1» صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لمّا رأى الله في عثمان ما انتهكوا السافكي دمه ظلما ومعصية ... أيّ دم لا هدوا من غيّهم سفكوا وقال السيد الحميري يرثي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ويذكر يوم صفّين: إني أدين بما دان الوصي به ... وشاركت كفه كفّي بصفّينا في سفك ما سفكت منها إذا احتضروا ... وأبرز الله للقسط الموازينا تلك الدّماء معا يا ربّ في عنقي ... ثم اسقني مثلها آمين آمينا آمين من مثلهم في مثل حالهم ... في فتية هاجروا لله سارينا ليسوا يريدون غير الله ربّهم ... نعم المراد توخّاه المريدونا أنشد الرياشي لرجل من أهل الشام يرثي عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: قد غيّب الدّافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين «2» ولم يكن همّه عينا يفجّرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذين «3» أقول لمّا أتاني نعي مهلكه ... لا تبعدنّ قوام الملك والدّين وقال الفرزدق يرثي عبد العزيز بن مروان: ظلّوا على قبره يستغفرون له ... وقد يقولون تارات لنا العبر «4» يقبّلون ترابا فوق أعظمه ... كما يقبل في المحجوجة الحجر «5» لله أرض أجنّته ضريحتها ... وكيف يدفن في الملحودة القمر «6» إنّ المنابر لا تعتاض عن ملك ... إليه يشخص فوق المنبر البصر

وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز: ينعي النّعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وسرت فيه بحكم الله يا عمرا فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا قال جرير يرثي الوليد بن عبد الملك: إنّ الخليفة قد وارت شمائله ... غبراء ملحودة في جولها زور «1» أمسى بنوه وقد جلّت مصيبتهم ... مثل النجوم هوى من بينها القمر كانوا جميعا فلم يدفع منيته ... عبد العزيز ولا روح ولا عمر وقال غيره يرثي قيس بن عاصم المنقريّ: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما تحية من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما «2» وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما وقال أبو عطاء السندي يرثي يزيد بن عمر بن هبيرة لما قتل بواسط: ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود عشيّة راح الدّافنون وشقّقت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود «3» فإن تك مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود وإنك لم تبعد على متعهّد ... بلى إنّ من تحت التراب بعيد وقال منصور النمري يرثي يزيد بن مزيد: متى يبرد الحزن الذي في فؤادنا ... أبا خالد من بعد أن لا تلاقيا أبا خالد ما كان أدهى مصيبة ... أصابت معدا يوم أصبحت ثاويا لعمري لئن سرّ الأعادي وأظهروا ... شماتا لقد سرّوا بربعك خاليا

وأوتار أقوام لديك لويتها ... وزرت بها الأجداث وهي كما هيا تعزّي أمير المؤمنين ورهطه ... بسيف لهم ما كان في الحرب نابيا على مثل ما لاقي يزيد بن مزيد ... عليه المنايا فالق إن كنت لافيا وإن تك أفنته الليالي وأوشكت ... فإنّ له ذكرا سيفني اللياليا وقال: سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تجنّ الجوانح «1» كأن لم يمت حيّ سواك ولم تقم ... على أحد إلّا عليك النّوائح لئن حسنت فيك المراثي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح فما أنا من رزء وإن جلّ جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح «2» وقال زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلّب: إنّ الشجاعة والسّماحة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكلّ طرف سابح «3» وانضح جوانب قبره بدمائها ... ولقد يكون أخا دم وذبائح والآن لمّا كنت أكمل من مشى ... وافترّ نابك عن شباة القارح وتكاملت فيك المروءة كلّها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح للمهلبي من مرثيته للمتوكل: لا حزن إلا أراه دون ما أجد ... وهل كمن فقدت عيناي مفتقد لا يبعدن هالك كانت منيته ... كما هوى من عطاء الزّبية الأسد «4» لا يدفع الناس ضيما بعد ليلتهم ... إذ لا تمدّ على الجاني عليك يد لو أنّ سيفي وعقلي حاضران له ... أبليته الجهد إذ لم يبله أحد

هلا أتته أعاديه مجاهرة ... والحرب تسعر والأبطال تجتلد فخرّ فوق سرير الملك منجدلا ... لم يحمه ملكه لمّا انقضى الأمد قد كان أنصاره يحمون حوزته ... وللرّدى دون أرصاد الفتي رصد وأصبح الناس فوضى يعجبون له ... ليثا صريعا تنزّى «1» حوله النقد «2» علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلّا الواحد الضّمد جاءوا لدنيا عظيم يسعدون بها ... فقد شقوا بالذي جاؤا وما سعدوا ضجت نساؤك بعد العز حين رأت ... خداّ كريما عليه قارت جسد «3» أضحى شهيد بني العباس موعظة ... لكلّ ذي عزّة في رأسه صيد «4» خليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يصغ مثله روح ولا جسد كم في أديمك من فوهاء هادرة ... من الجوائف يغلي فوقها الزّبد «5» إذا بكيت فإنّ الدمع منهمل ... وإن ونيت فإنّ القول مطّرد قد كنت أسرف في مالي ويخلف لي ... فعلّمتني الليالي كيف أقتصد لما اعتقدتم أناسا لا حلوم لهم ... ضعتم وضيّعتم من كان يعتقد فلو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المركوزة الحشد قوم هم الجذم والأنساب تجمعكم ... والمجد والدين والأرحام والبلد قد وتّر الناس طراّ ثم قد صمتوا ... كأنما كان ما يتلونه رشد إذا قريش أرادوا شدّ ملكهم ... بغير قحطان لم يبرح به أود من الألى وهبوا للمجد أنفسهم ... فما ينالون ما نالوا إذا حمدوا وقال آخر: وفتى كأنّ جبينه بدر الدّجا ... قامت عليه نوادب وروامس

للحجاج في ابن خارجة:

غرس الفسيل مؤمّلا لبقاية ... فنما الفسيل ومات عنه الغارس وقال الأسود بن يعفر: ماذا أؤمّل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد «1» نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظلّ ملك ثابت الأوتاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد وقال عبيد بن الأبرص: يا حار ما راح من قوم ولا ابتكروا ... إلا وللموت في آثارهم حادي يا حار ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا تقرّب آجالا لميعاد هل نحن إلا كأرواح يمرّ بها ... تحت التراب وأجساد كأجساد للحجاج في ابن خارجة: لما مات أسماء بن خارجة الفزّاري قال الحجاج: ذلك رجل عاش ما شاء، ومات حين شاء. وقال فيه الشاعر: إذا مات ابن خارجة بن زيد ... فلا مطرت على الأرض السماء ولا جاء البريد بغنم جيش ... ولا حملت على الطّهر النساء فيوم منك خير من رجال ... كثير عندهم نعم وشاء وقال مسلم بن الوليد الأنصاري: أمسعود هل غاداك يوم بفرحة ... وأمسيت لم تعرض لها التّرحات

وهل نحن إلا أنفس مستعارة ... تمرّ بها الرّوحات والغدوات بكيت وأعطتك البكاء مصيبة ... مضت وهي فرد ما لها أخوات كأنك فيها لم تكن تعرف العزا ... ولم تتعمد غيرك النّكبات سقى الضاحك الوسميّ أعظم حفرة ... طواها الردي في اللّحد وهي رفات أرى بهجة الدنيا رجيع دوائر ... لهنّ اجتماع مرة وشتات» طوى أيدي المعروف مصرع مالك ... فهنّ عن الآمال منقبضات وقال أيضا: أما القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور عمّت فواضله وعمّ مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور ردّت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور وقال أشجع بن عمرو السّلمي يرثي منصور بن زياد: يا حفرة الملك المؤمّل رفده ... ما في ثراك من النّدى والخير؟ لا زلت في ظلين ظلّ سحابة ... وطفاء دانية وظلّ حبور «2» وسقى الوليّ على العهاد عراص ما ... والاك من قبر ومن مقور «3» يا يوم منصور أبحت حمى النّدى ... وفجعته بوليّه المذكور يا يومه ماذا صنعت بمرمل ... يرجو الغنى ومكبّل مأسور يا يومه لو كنت جئت بنصحه ... فجمعت بين الحيّ والمقبور! لله أوصال تقسّمها البلى ... في الّلحد بين صفائح وصخور عجبا لخمسة أذرع في خمسة ... غطّت على جبل أشمّ كبير من كان يملأ عرض كلّ تنوفة ... واراه جولا ملحد محفور «4» ذلّت بمصرعه المكارم والنّدى ... وذباب كلّ مهنّد مأثور أفلت نجوم بني زياد بعد ما ... طلعت بنور أهلّة وبدور

لولا بقاء محمد لتصدّعت ... أكبادنا أسفا على منصور أبقى مكارم لا تبيد صفاتها ... ومضى لوقت حمامه المقدور أصبحت مهجورا بحفرتك التي ... بدّلتها من قصرك المعمور بليت عظامك والصفاح جديدة ... ليس البلى لفعالك المشهور إن كنت ساكن حفرة فلقد ترى ... سكنا لعودي منبر وسرير وقال يرثي محمد بن منصور: أنعي فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجود أنعي فتى مصّ الثرى بعده ... بقية الماء من العود فانثلم المجد به ثلمة ... جانبها ليس بمسدود أنعي ابن منصور إلى سيّد ... وأيّد ليس برعديد «1» وأشعث يسعى على صبية ... مثل فراخ الطير مجهود وطارق أعيا عليه القرى ... ومسلم في القيد مصفود اليوم تخشى عثرات النّدى ... وعدوة البخل على الجود أورده حوضا عظيم الشأى ... في المجد يوم غير محمود كلّ امرىء يجري إلى مدّة ... وأجل قد خطّ معدود سينطق الشعر بأيامه ... على لسان غير معقود فكلّ مفقود إلى جنبه ... وإن تعالى غير مفقود يا وافدي قومهما إنّ من ... طلبتما تحت الجلاميد طلبتما الجود وقد ضمّه ... محمد في بطن ملحود فاتكما الموت بمعروفه ... وليس ما فات بمردود يا عضدا للمجد مفتوقة ... وساعدا ليس بمعضود أوهن زنديها وأكباهما ... قرع المنايا في العناديد «2»

وهدّت الركن الذي كان بال ... أمس عمادا غير مهدود وقال حبيب الطائي يرثي خالد بن يزيد بن مزيد: أشيبان لا ذاك الهلال بطالع ... علينا، ولا ذاك الغمام بعائد أشيبان عمّت نارها من رزيئة ... فما تشتكي وجدا إلى غير واجد فما جانب الدنيا بسهل ولا الضّحى ... بطلق ولا ماء الحياة ببارد فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ... ووحدة من فيها بمصرع واحد وأنشد أبو محمد التّيميّ في يزيد بن مزيد: أحقا أنه أودى يزيد ... فبيّن أيها الناعي المشيد «1» أتدري من نعيت وكيف فاهت ... به شفتاك وارك الصعيد «2» أحامي الملك والإسلام أودى ... فما للأرض ويحك لا تميد تأمّل هل ترى الإسلام مالت ... دعائمه وهل شاب الوليد وهل شيمت سيوف بني نزار ... وهل وضعت عن الخيل اللّبود «3» وهل تسقي البلاد عشار مزن ... بدرتها وهل يخضرّ عود أما هدّت لمصرعه نزار ... بلى، وتقوّض المجد المشيد وحلّ ضريحه إذ حلّ فيه ... طريف المجد والمجد التليد وهدّ العزّ والإسلام لمّا ... ثوى وخليفة الله الرشيد لقد أوفى ربيعة كلّ نحس ... لمهلكه وغيّبت السّعود وأنصلت الأسنّة من قناها ... وأشرعت الرّماح لمن يكيد نعيّ يزيد إن لم يبق بأس ... غداة مضى وإن لم يبق جود نعيّ أبي الزّبير لكلّ يوم ... عبوس الوجه زينته الحديد أأودى عصمة البادي يزيد ... وسيف الله والغيث الحميد «4» فمن يحمي حمى الإسلام أم من ... يذبّ عن المكاره أو يذود

ومن يدعو الأنام لكلّ خطب ... يخاف وكلّ معضلة تؤود «1» ومن تجلى به الغمرات أم من ... يقوم بها إذا اعوجّ العتود ومن يحمي الخميس إذا تعايا ... بحيلة نفسه البطل النّجيد «2» وأين يؤمّ منتجع ولاج ... وأين تحطّ أرحلها الوفود لقد رزئت نزار يوم أودى ... عميدا ما يقاس به عميد فلو قبل الفداء فداه منّا ... بمهجته المسوّد والمسود أبعد يزيد تختزن البواكي ... دموعا أو تصان لها خدود أما بالله لا تنفكّ عيني ... عليه بدمعها أبدا تجود وإن تجمد دموع لئيم قوم ... فليس لدمع ذي حسب جمود وإن يك غاله حسب فأودى ... لقد أودى وليس له نديد وإن يعثر به دهر لما قد ... يفادي من مخافته الأسود وإن يهلك يزيد فكلّ حيّ ... فريس للمنيّة أو طريد فإن يك عن خلود قد دعته ... مآثره فكان لها الخلود فما أودى امرؤ أودى وأبقى ... لوارثه مكارم لا تبيد ألم تعلم أخي أنّ المنايا ... غدرن به وهنّ له جنود قصدن له وكنّ يحدن عنه ... إذا ما الحرب شبّ لها الوقود فهلا يوم يقدمها يزيد ... إلى الأبطال والخيلان حيد ولو لاقى الحتوف على سواء ... للاقاها به حتف عنيد أضرّاب الفوارس كلّ يوم ... ترى فيه الحتوف لها وعيد فمن يرضي القواطع والعوالي ... إذا ما هزها فرع شديد لتبكك قبة الإسلام لمّا ... وهت أطنابها ووهى العمود ليبكك مرهق يتلوه خيل ... إبالة وهو مجدول وحيد «3»

ويبكك خامل ناداك لمّا ... تواكله الأقارب والبعيد ويبكك شاعر لم يبق دهر ... له نشأ وقد كسد القصيد تركت المشرفية والعوالي ... محلّاة وقد حان الورود «1» وغادرت الجياد بكلّ لغز ... عواطل بعد زينتها ترود «2» فإن تصبح مسلّمة فمّما ... تفيد بها الجزيل وتستفيد ألم تك تكشف الغمرات عنها ... عوابس والوجوه البيض سود أصيب المجد والإسلام لما ... أصابك بالردى سهم شديد لقد عزّى ربيعة أنّ يوما ... عليها مثل يومك لا يعود ومثلك من قصدن له المنايا ... بأسهمها وهنّ له جنود فيا للدهر ما صنعت يداه ... كأنّ الدهر منها مستفيد سقى جدثا أقام به يزيد ... من الوسميّ بسّام رعود فإن أجزع لمهلكه فاني ... على النّكبات إذ أودى جليد ليذهب من أراد فلست آسى ... على من مات بعدك يا يزيد وقال مروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة: زار ابن زائدة المقابر بعد ما ... ألقت إليه عرى الأمور نزار إن القبائل من نزار أصبحت ... وقلوبها أسفا عليه حرار ودّت ربيعة أنها قسمت له ... منها فعاش بشطرها الأعمار فلأبكينّ فتى ربيعة ما دجا ... ليل بظلمته ولاح نهار لا زال قبر أبي الوليد تجوده ... بعهادها وبوبلها الأمطار قبر يضم مع الشجاعة والنّدى ... حلما يخالطه تقى ووقار إن الرزيّة من ربيعة هالك ... ترك العيون دموعهنّ غزار رحب السّرادق والضّياء جبينه ... كالبدر شقّ ضياءه الإسفار

لهفا عليك إذا الطّعان بمارق ... ترك القنا وطوالهنّ قصار «1» خلّى الأعنّة يوم مات مشيّع ... بطل اللقاء مجرّب مغوار «2» يمسي ويصبح معلما تذكى به ... نار بمعترك وتخمد نار مهما يمرّ فليس يرجو نقضه ... أحد وليس لنقضه إمرار «3» لو كان خلفك أو أمامك هائبا ... أحدا سواك لهابك المقدار وقال يرثيه: بكى الشام معنا يوم خلّى مكانه ... فكادت له أرض العراقين ترجف ثوى القائد الميمون والذّائد الذي ... به كان يرمى الجانب المتخوّف أتى الموت معنا وهو للعرض صائن ... وللمجد مبتاع وللمال متلف وما مات حتى قلّدته أمورها ... ربيعة والحيّان قيس وخندف وحتى فشا في كلّ شرق ومغرب ... أياد له بالضّرّ والنفع تعرف وكم من يد عندي لمعن كريمة ... سأشكرها ما دامت العين تطرف بكته الجياد الأعوجيّة إذ ثوى ... وحنّ مع النّبع الوشيج المثقّف «4» وقد غنيت ريح الصّبا في حياته ... قبولا فأمست وهي نكباء حرجف «5» وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد ويمدح ابنه محمد بن زبيدة الأمين: جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في وحشة وفي أنس العين تبكي والسّنّ ضاحكة ... فنحن في مأتم وفي عرس يضحكنا القائم الأمين ويبكينا وفاة الإمام بالأمس بدران بدر أضحى ببغداد في الخلد وبدر بطوس في الرّمس «6» وأنشد العتبي:

والمرء يجمع ماله مستهترا ... فرحا وليس بآكل ما يجمع وليأتينّ عليك يوما مرة ... يبكي عليك مقنّعا لا تسمع وقال حارثة بن بدر الغداني يرثي زياد بن ظبيان: صلى الإله على قبر وطهّره ... عند الثّويّة يسفي فوقه المور «1» زفّت إليه قريش نعش سيدها ... فثمّ كلّ التّقى والبرّ مقبور أبا المغيرة والدّنيا مغيّرة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للتنكير تنكير لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير قد كنت تخشى وتعطي المال من سعة ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجور وقال نهار بن توسعة يرثي المهلّب: ألا ذهب الغزو المقرّب للغنى ... ومات الندى والحزم بعد المهلّب أقام بمرو الرّوذ رهن ضريحه ... وقد غيّبا عن كلّ شرق ومغرب وقال المهلهل بن ربيعة: يرثي أخاه كليب بن وائل؛ وكان كليب إذا جلس لم يرفع أحد بحضرته صوته: ذهب الخيار من المعاشر كلهم ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس وتناولوا من كل أمر عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا وقال عبد الصمد بن المعذل يرثي سعيد بن سلم: كم يتيم جبرته بعد يتم ... وعديم نعشته بعد عدم كلّ ما عضّ بالحوادث نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم وقال ابن أخت تأبط شراّ يرثي خاله تأبط شراّ الفهميّ؛ وكانت هذيل قتلته: إنّ بالشّعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطلّ «2»

قذف العبء عليّ وولّى ... أنا بالعبء له مستقلّ «1» ووراء الثأر مني ابن أخت ... مصع عقدته ما تحلّ «2» مطرق يرشح موتا كما أطرق أفعى ينفث السّمّ صلّ «3» خبر ما نابنا مصمئلّ ... جلّ حتى دقّ فيه الأجلّ «4» بزّني الدهر وكان غشوما ... بأبيّ جاره ما يذلّ «5» شامس في القمرّ حتى إذا ما ... ذكت الشّعرى فبرد وظلّ «6» يابس الجنبين من غير بؤس ... ونديّ الكفين شهم مدلّ «7» ظاعن بالحزم حتى إذا ما ... حلّ حلّ الحزم حيث يحلّ وله طعمان أري وشري ... وكلا الطّعمين قد ذاق كلّ «8» رائح بالمجد غاد عليه ... من ثياب الحمد ثوب رفلّ أفتح الراحة بالجود جوادا ... عاش في جدوى يديه المقلّ مسبل في الحيّ أحوى رفل ... وإذا يغزو فسمع أزلّ «9» يركب الهول وحيدا ولا يص ... حبه إلّا اليماني الأفلّ 1» فاحتسوا أنفاس يوم فلما ... هوّموا رعتهم فاشمعلّوا «11» كلّ ماض قد تردّى بماض ... كسنا البرق إذا ما يسلّ فلئن فلّت هذيل شباه ... لبما كان هذيلا يفل «12» وبما أبركها في مناخ ... جعجع ينقب منه الأظلّ «13»

صليت منه هذيل بخرق ... لا يملّ الشّرّ حتى يملّوا «1» ينهل الصّعدة حتى إذا ما ... نهلت كان لها منه علّ تضحك الضّبع لقتلي هذيل ... وترى الذّئب لها يستهلّ عتاق الطير تهفو بطانا ... تتخطّاهم فما تستقلّ وفتوّ هجّروا ثم اسروا ... ليلهم حتى إذا انجاب حلّوا «2» فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إنّ جسمي بعد خالي لخلّ «3» وقال أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر من قريش: ألّا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولي الممادح كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح يبكين حرّى مستكي ... نات يرحن مع الروائح أمثالهن الباكيا ... ت المعولات من النّوائح من يبكهم يبك على ... حزن ويصدق كل مادح من ذا ببدر فالعقن ... قل من مرازبة جحاجح «4» شمط وشبّان بها ... ليل مغاوير وحاوح «5» ألا ترون لما أرى ... ولقد أبان لكلّ لامح أن قد تغيّر بطن مكّ ... ة فهي موحشة الأباطح من كلّ بطريق لبط ... ريق نقيّ اللون واضح رعموص أبواب الملو ... ك وجائب للخرق فاتح ومن السراطمة الحلا ... جمة الملازبة المناجح «6»

القائلين الفاعلي ... ن الآمرين بكل صالح المطعمين الشّحم فو ... ق الخبز شحما كالأنافح «1» نقل الجفان مع الجفا ... ن إلى جفان كالمناضح «2» ليست بأصفار لمن ... يعفو ولا رحّ رحارح «3» للضيف ثم الضيف بع ... د الضيف والبسط السلاطح «4» وهب المئين من المئ ... ين إلى المئين من اللّواقح سوق المؤبّل للمؤ ... بّل صادرات عن بلادح «5» لكرامهم فوق الكرا ... م مزيّة وزن الرّواجح كتثاقل الأرطال بال ... قسطاس في الأيدي الموائح «6» لله درّ بني عليّ ... أيّم منهم وناكح إن لم يغيروا غارة ... شعواء تحجر كلّ نابح بالمقربات المبعدا ... ت الطّامحات مع الطّوامح «7» مردا على جرد إلى ... أسد مكالبة كوالح «8» ويلاق قرن قرنه ... مشي المصافح للمصافح بزهاء ألف ثم أل ... ف بين ذي بدن ورامح «9» الضّاربين التّقدمي ... ة بالمهنّدة الصفائح روى الاخفش لسهل بن هارون: ما للحوادث عنك منصرف ... إلا بنفس مالها خلف فكأنها رام على حنق ... وكأنني لسهامها هدف

لفروة الحروري في رثاء الخوارج:

دهر سررت به فأعقبني ... حزنا به ما عشت ألتحف فابك الذي ولّى لمهلكه ... عنك السّرور خلّف الأسف إذ لا يردّ عليك ما أخذت ... منك الحوادث دمعة تكف قبر بمختلف الرّياح به ... من لسن أبلغه بما أصف أنسى الثّرى بمحلّه وله ... قد أوحش المستأنس الألف «1» فالصّبر أحسن ما اعتصمت به ... إذ ليس منه لديّ منتصف لفروة الحروري في رثاء الخوارج: وقال فروة بن نوفل الحروريّ، وكان بعض أهل الكوفة يقاتلون الخوارج ويقولون: والله لنحرقنّهم ولنفعلن ولنفعلن. فقال في ذلك فروة بن نوفل، وكان من الخوارج: ما إن نبالي إذا أرواحنا قبضت ... ماذا فعلتم بأجساد وأبشار «2» تجري المجرّة والنّسران بينهما ... والشّمس والقمر السّاري بمقدار لقد علمت وخير العلم أنفعه ... أنّ السعيد الذي ينجو من النار وقال يرثي قومه: هم نصبوا الأجساد للنّبل والقنا ... فلم يبق منها اليوم إلا رميمها تظل عتاق الطير تحجل نحوهم ... يعلّلن أجسادا قليلا نعيمها «3» لطاف براها الصوم حتى كأنها ... سيوف إذا ما الخيل تدمى كلومها التعازي لابن أبي بكر يعزي سليمان في ابنه: قال عبد الرحمن بن أبي بكر لسليمان بن عبد الملك يعزيه في ابنه أيوب، وكان وليّ

لابن جريح يعزي ابن الأهتم:

عهده وأكبر ولده: يا أمير المؤمنين، إنه من طال عمره فقد أحبّته، ومن قصر عمره كانت مصيبته في نفسه؛ فلو لم يكن في ميزانك لكنت في ميزانه! وكتب الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبد العزيز يعزّيه في ابنه عبد الملك: وعوّضت أجرا من فقيد، فلا يكن ... فقيدك لا يأتي وأجرك يذهب لابن جريح يعزي ابن الأهتم: العتبي قال: قال عبد الله بن الأهتم: مات لي ابن وأنا بمكة، فجزعت عليه جزعا شديدا؛ فدخل عليّ ابن جريح يعزيني، فقال لي: يا أبا محمد، اسل صبرا واحتسابا، قبل أن تسلو غفلة ونسيانا كما تسلو البهائم. وهذا الكلام لعليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يعزي الأشعث بن قيس في ابن له، ومنه أخذ ابن جريح؛ وقد ذكره حبيب في شعره فقال: وقال عليّ في التّعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلوّ البهائم علي والأشعث في وفاة ابنه: أتى عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه لأشعث يعزيه عن ابنه، فقال: إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر فإن في الله خلفا من كل هالك، مع أنك إن صبرت عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت آثم. وعزّى ابن السماك رجلا فقال: عليك بالصبر، فبه يعمل من احتسب، وإليه يصير من جزع، واعلم أنه ليست مصيبة إلا ومعها أعظم منها، من طاعة الله فيها أو معصيته بها.

لصالح المري في مثله:

لصالح المري في مثله: الأصمعي قال: عزى صالح المزى رجلا بابنه، فقال له: إن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة، فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بابنك؛ واعلم أن التهنئة على آجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة. لوالد العتبي في مثله: العتبي قال: عزى أبي رجلا فقال: إنما يستوجب على الله وعده من صبر لحقّه، فلا تجمع إلى ما فجعت به الفجيعة بالأجر، فإنها أعظم المصيبتين عليك، ولكل اجتماع فرقة إلى دار الحلول. عزّى عبد الله بن عباس عمر بنّ الخطاب رضي الله تعالى عنه في بنيّ له صغير؛ فقال: عوضك الله منه ما عوّضه الله منك. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا عزىّ قوما قال: عليكم بالصبر فإن به يأخذ الحازم، وإليه يرجع الجازع. وكان الحسن يقول في المصيبة: الحمد لله الذي آجرنا على ما لو كلفنا غيره لعجزنا عنه. كتاب تعزية أما بعد: فإن أحق من تعزى، وأولي من تأسّي وسلّم لأمر الله، وقبل تأديبه في الصبر على نكبات الدنيا وتجرّع غصص البلوى- من تنجز من الله وعده، وفهم عن كتابه أمره، وأخلص له نفسه، واعترف له بما هو أهله، وفي كتاب الله سلوة من فقد كل حبيب وإن لم تطب النفس عنه، وأنس من كل فقيد وإن عظمت اللوعة به؛ إذ يقول الله عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «1» وحيث يقول: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ

عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «1» والموت سبيل الماضين والغابرين، «2» ومورد الخلائق أجمعين، وفي أنبياء الله وسالف أوليائه أفضل العبرة، وأحسن الأسوة، فهل أحد منهم إلا وقد أخذ من فجائع الدنيا بأجزل الإعطاء، ومن الصبر عليها باحتساب الأجر فيها بأوفر الأنصباء. فجع نبيّنا عليه الصلاة والسلام بابنه إبراهيم، وكان ذخر الإيمان، وقرة عين الإسلام، وعقب الطهارة، وسليل الوحي، ونتيج الرحمة، وحضين الملائكة، وبقية آل إبراهيم واسمعيل صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى عامة الأنبياء والمرسلين فعمت الثقلين مصيبته، وخصت الملائكة رزيّته. ورضي صلّى الله عليه وسلم من فراقه بثواب الله بدلا، ومن فقدانه بموعوده عوضا؛ فشكر قضاه واتبع رضاه؛ فقال: «يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون!» . وإذا تأمل ذو النظر ما هو مشف عليه من غير الدنيا، وانتصح نفسه وفكره في غيرها بتنقل الأحوال، وتقارب الآجال، وانقطاع يسير هذه المدة ذلت الدنيا عنده، وهانت المصائب عليه، وتسهلت الفجائع لديه، فأخذ للأمر أهبته، واستعد للموت عدته؛ ومن صحب الدنيا بحسن الروية، ولاحظها بعين الحقيقة، كان على بصيرة من وشك زوالها. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اذكروا الموت فإنه هادم اللذات ومنغّص الشهوات. وليس شيء مما اقتصصت إلا وقد جعلك الله مقدما في العلم به؛ ولعمري إن الخطب فيما أصبت به لعظيم، غير أن معوّضه من الأجر والمثوبة عليه بحسن الصبر، يهوّنان الرزية وإن ثقلت، ويسهلان الخطب وإن عظم؛ فوهب الله لك من عصمة الصبر ما يكمل لك به زلفى «3» الفائزين، وقربة الشاكرين، وجعلك من المرضيين قولا وفعلا، الذين أعطاهم الحسنى، ووفقهم للصبر والتقوى» .

في عزاء عقبة بابنه:

في عزاء عقبة بابنه: محمد بن الفضل عن أبي حازم قال: مات عقبة بن عياض بن غنم الفهري، فعزّى رجل أباه فقال: لا تجزع عليه فقد قتل شهيدا، فقال: وكيف أجزع على من كان في حياته زينة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات. عزاء الأصمعي لجعفر بن سليمان في أخيه: ابن الغار قال: حدّثنا عيسى بن إسمعيل، قال: سمعت الأصمعي يقول: دخلت على جعفر بن سليمان وقد ترك الطعام جزعا على أخيه محمد بن سليمان، فأنشدته بيتين، فما برحت حتى دعا بالمائدة، فقلت للأصمعي: ما هما؟ فسكت، فسألته؛ فقال: أتدري ما قال الأحوص؟ قلت: لا أدري. قال: قال الأحوص: قد زاده كلفا بالحبّ إذا منعت ... أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا قال أبو موسى: والأبيات لأراكة الثقفي يرثي بها عمرو بن أراكة ويعزّي نفسه، حيث يقول: لعمري لئن أتبعت عينك ما مضى ... به الدّهر أو ساق الحمام إلى القبر لتستنفدن ماء الشئون بأسره ... وإن كنت تمريهنّ من ثبج البحر «1» تبيّن فإن كان البكا ردّ هالكا ... على أحد فاجهد بكاك على عمرو فلا تبك ميتا بعد موت أحبّة ... علي وعباس وآل أبي بكر لمالك بن دينار في أخيه: أبو عمر بن يزيد قال: لما مات أخو مالك بن دينار، بكى مالك، وقال: يا أخي، لا تقرّ عيني بعدك حتى أعلم أفي الجنة أنت أم في النار؛ ولا أعلم ذلك حتى ألحق بك! وقالت أعرابية ورأت ميتا يدفن: جافى الله عن جنبيه الثّري، وأعانه على طول البلي.

الحسن وجازع على ابنه:

وعزى أعرابيّ رجلا فقال: أوصيك بالرضا من الله بقضائه، والتنجّز لما وعد به من ثوابه؛ فإن الدنيا دار زوال ولا بد من لقاء الله. وعزى أيضا رجلا فقال: إن من كان لك في الآخرة أجرا، خير لك ممن كان لك في الدنيا سرورا. الحسن وجازع على ابنه: وجزع رجل على ابن له، فشكا ذلك إلى الحسن، فقال له: هل كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم؛ كان مغيبه عني أكثر من حضوره. قال: فاتركه غائبا، فإنه لم يغب عنك غيبة الأجر لك فيها أعظم من هذه الغيبة. وعزّي رجل نصرانيّ مسلما، فقال له: إنّ مثلي لا يعزّي مثلك، ولكن انظر ما زهد فيه الجاهل فارغب فيه. لعلي بن الحسين في ناعية: وكان علي بن الحسين رضي الله عنه في مجلسه وعنده جماعة؛ إذ سمع ناعية في بيته؛ فنهض إلى منزله فأسكتهم، ثم رجع إلى مجلسه، فقالوا له: أمن حدث كانت الناعية؟ قال: نعم! فعزوه وعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيع الله فيما نحب، ونحمده على ما نكره. تعزية: التمس ما وعد الله من ثوابه بالتسليم لقضائه، والانتهاء إلى أمره؛ فإن ما فات غير مستدرك. وعزي موسى المهدي إبراهيم بن سلم على ابن له مات، فجزع عليه جزعا شديدا، فقال له: أيسرّك وهو بليّة وفتنة، ويحزنك وهو صلوات ورحمة. لابن جبير: سفيان الثوري، عن سعيد بن جبير قال. ما أعطيت أمة عند المصيبة ما أعطيت

تعازي الملوك

هذه الأمة من قولها: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «1» ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب حيث يقول: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ! وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «2» . وعزى رجل رجلا بابن له فقال له: لو ذهب أبوك وهو أصلك، وذهب ابنك وهو فرعك؛ فما بقاء من ذهب أصله وفرعه. تعازي الملوك لأكتم يعزي ابن هند: العتبي قال: عزى أكثم بن صيفي عمرو بن هند ملك العرب على أخيه، فقال له: أيها الملك، إن أهل هذه الدار سفر لا يحلون عقد الرّحال إلا في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن عنك ويدعك؛ واعلم أنّ الدنيا ثلاثة أيام: فأمس عظة وشاهد عدل، فجعك بنفسه، وأبقى لك وعليك حكمته. واليوم: غنيمة وصديق، أتاك ولم تأته، طالت عليك غيبته، وستسرع عنك رحلته. وغد: لا تدري من أهله، وسيأتيك إن وجدك! فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر! وقد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفروع بعد أصولها؟ واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله. في مهلك المنصور: لما هلك أمير المؤمنين المنصور، قدمت وفود الأمصار على أمير المؤمنين المهدي، وقدم فيهم أبو العيناء المحدّث؛ فتقدم إلى التعزية فقال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له؛ فلا مصيبة أعظم من مصيبة إمام والد، ولا عقبى أفضل من خلافة الله على أوليائه؛ فاقبل من الله أفضل العطية،

الرشيد وعبد الملك بن صالح:

واصبر له على أعظم الرزيّة. ولما مات معاوية بن أبي سفيان، ويزيد غائب؛ صلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، ثم قدم يزيد من يومه ذلك؛ فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي، فقال: اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا لا رزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبى كعقباكا أصبحت راعي أهل الأرض كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا فافتتح الخطباء الكلام. عزى شبيب بن شبة المنصور على أخيه أبي العباس فقال: جعل الله ثواب ما رزئت به لك أجرا، وأعقبك عليه صبرا، وختم ذلك لك بعافية تامة، ونعمة عامة؛ فثواب الله خير لك منه، وما عند الله خير له منك، وأحق ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل. وكتب إبراهيم بن إسحاق إلى بعض الخلفاء يعزّيه: إن أحق من عرف حقّ الله فيما أخذ منه، من عرف نعمته فيما أبقى عليه. يا أمير المؤمنين، إن الماضي قبلك هو الباقي لك، والباقي بعدك هو المأجور فيك، وإن النعمة على الصابرين فيما ابتلوا به أعظم منها فيما يعافون منه. الرشيد وعبد الملك بن صالح: ودخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أصيب الليلة بابن له وولد له آخر! فلما دخل عليه قال سرك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه، مثوبة على الصبر، وجزاء على الشكر.

من عمر بن عبد العزيز إلى عماله بعد موت ولده:

ودخل المأمون على أم الفضل بن سهل يعزيها بابنها الفضل بن سهل فقال: يا أمّه، إنك لم تفقدي إلا رؤيته، وأنا ولدك مكانه! فقالت: يا أمير المؤمنين، إن رجلا أفادني ولدا مثلك لجدير أن أجزع عليه. من عمر بن عبد العزيز إلى عماله بعد موت ولده: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: إن عبد الملك كان عبدا من عبيد الله، أحسن الله إليه واليّ فيه؛ أعاشه ما شاء وقبضه حين شاء وكان- ما علمت- من صالحي شباب أهل بيته قراءة للقرآن وتحرّيا للخير، وأعوذ بالله أن يكون لي محبة أخالف فيها محبة الله، فإن ذلك لا يحسن في إحسانه إليّ، وتتابع نعمه عليّ، ولأعلمن ما بكت عليه باكية ولا ناحت عليه نائحة؛ قد نهينا أهله الذين هم أحق بالبكاء عليه. عزاء زياد لسليمان بن عبد الملك في ابنه: دخل زياد بن عثمان بن زياد على سليمان بن عبد الملك وقد توفي ابنه أيوب فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يقول: من أحب البقاء- ولا بقاء- فليوطّن نفسه على المصائب. لعطاء يعزي يزيد في معاوية: لما مات معاوية دخل عطاء بن أبي صيفيّ على يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين أصبحت رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله؛ فاحتسب على الله أعظم الرزية واشكره على أحسن العطية. لابن الوليد يعزي عمر بن عبد العزيز في ابنه: عزى محمد بن الوليد بن عتبة عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، أعدّ لما ترى عدّة تكن لك جنّة من الحزن وسترا من النار! فقال عمر:

عمر بن عبد العزيز في وفاة أخته:

هل رأيت حزنا يحتج به، أو غفلة ينبّه عليها؟ قال: يا أمير المؤمنين، لو أن رجلا ترك تعزية رجل لعلمه وانتباهه لكنته، ولكن الله قضى أن الذكرى تنفع المؤمنين. عمر بن عبد العزيز في وفاة أخته: وتوفيت أخت لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دفنها دنا إليه رجل فعزاه، فلم يردّ عليه شيئا؛ ثم دنا إليه آخر فعزاه فلم يرد عليه شيئا، فلما رأى الناس ذلك أمسكوا عنه ومشوا معه؛ فلما بلغ الباب أقبل على الناس بوجهه وقال: أدركت الناس وهم لا يعزون بامرأة إلا أن تكون أمّا، انقلبوا رحمكم الله. لبعض الشعراء في التعزية: وجد في حائط من حيطان تبّع مكتوبا: اصبر لدهر نال من ... ك فهكذا مضت الدّهور فرح وحزن مرّة ... لا الحزن دام ولا السّرور وهذا نظير قول العتابي: وقائلة لمّا رأتني مسهّدا ... كأنّ الحشا مني تلذعه الجمر أباطن داء أم جوى بك قاتل ... فقلت الذي بي ما يقوم له صبر تفرق ألّاف وموت أحبّة ... وفقد ذوي الأفضال قالت كذا الدهر كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المتوكل يعزيه بابن له: إني أعزّيك لا أني على ثقة ... من الحياة ولكن سنّة الدّين ليس المعزّى بباق بعد ميّته ... ولا المعزّي وإن عاشا إلى حين وقال أبو عيينة: فإن أشك من ليلى بجرجان طوله ... فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر وقائلة ماذ نأى بك عنهم ... فقلت لها: لا علم لي فسلي القدر

لحكيم يعزي سليمان بن عبد الملك في ابنه.

لحكيم يعزي سليمان بن عبد الملك في ابنه. وقال بعض الحكماء لسليمان بن عبد الملك لما أصيب بابنه أيوب: يا أمير المؤمنين إن مثلك لا يوعظ إلا بدون علمه؛ فإن رأيت أن تقدّم ما أخرت العجزة فترضي ربك وتريح بدنك من حسن العزاء والصبر على المصيبة، فافعل. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز يعزّيه في ابنه عبد الملك ببيت شعر: وهو: وعوّضت أجرا من فقيد فلم يكن ... فقيدك لا يأتي وأجرك يذهب للاسكندر يعزي أمه عن فقده. ولما حضرت الإسكندر الوفاة كتب إلى أمه أن اصنعي طعاما يحضره الناس ثم تقدمي إليهم أن لا يأكل منه محزون. ففعلت: فلم يبسط أحد إليه يده؛ فقالت: ما لكم لا تأكلون؟ فقالوا: إنك تقدمت إلينا أن لا يأكل منه محزون، وليس منا إلا من قد أصيب بحميم أو قريب! فقالت: مات والله ابني! وما أوصى إليّ بهذا إلا ليعزيني به!. وكان سهل بن هارون يقول في تعزيته: إن أجر التهنئة بآجل الثواب! أوجب من التعزية على عاجل المصيبة.

كتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب

كتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النوادب والمراثي، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في النسب الذي هو سبب التعارف، وسلّم إلى التواصل؛ به تتعاطف الأرحام الواشجة، وعليه تحافظ الأواصر القريبة. قال الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا . «1» فمن لم يعرف النسب لم يعرف الناس، ومن لم يعرف الناس لم يعدّ من الناس. وفي الحديث: «تعلموا من النسب ما تعرفون به أحسابكم وتصلون به أرحامكم» . وقال عمر بن الخطاب: تعلموا النسب ولا تكونوا كنبيط «2» السواد: إذا سئل أحدهم عن أصله قال: من قرية كذا وكذا. أصل النسب أولاد نوح قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد بن المسيّب، قال: ولد نوح ثلاثة أولاد: سام وحام ويافث؛ فولد سام العرب وفارس والروم، وولد حام السودان والبربر والنّبط، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج.

أصل قريش

أصل قريش كانت قريش تدعى النضر بن كنانة، وكانوا متفرقين في بني كنانة، فجمعهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، من كل أوب إلى البيت؛ فسمّوا قريشا. والتقريش: التجميع. وسمّي قصيّ بن كلاب مجمّعا، فقال فيه الشاعر: قصي أبوكم من يسمّى مجمّعا ... به جمع الله القبائل من فهر وقال حبيب: غدوا في نواحي نعشه وكأنما ... قريش قريش يوم مات مجمّع يريد بمجمّع قصيّ بن كلاب، وهو الذي بنى المشعر الحرام، «1» وكان يقوم عليه أيام الحج؛ فسماه الله مشعرا، وأمره بالوقوف عنده. وإنما جمع قصيّ إلى مكة بني فهر ابن مالك، فجدم قريش كلّها فهر بن مالك؛ فما دونه قريش وما فوقه عرب مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر؛ وأما قبائل قريش فإنها تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه، وكانت قريش تسمّى آل الله، وجيران الله، وسكان الله. وفي ذلك يقول عبد المطلب بن هاشم: نحن آل الله في ذمّته ... لم نزل فيها على عهد قدم إن للبيت لربّا مانعا ... من يرد فيه بإثم يخترم» لم تزل لله فينا حرمة ... يدفع الله بها عنّا النّقم وقال الحسن بن هانيء في بعض بني شيبة بن عثمان الذين بأيديهم مفتاح الكعبة: إذا اشتعب الناس البيوت فأنتم ... أولو الله والبيت العتيق المحرّم

نسب قريش

نسب قريش قال أبو المذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي: تسمية من انتهى إليه الشرف من قريش في الجاهلية فوصله بالإسلام، عشرة رهط من عشرة أبطن، وهم: هاشم، وأمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم. فكان من هاشم: العباس بن عبد المطلب، يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام. ومن بني أمية: أبو سفيان بن حرب، كانت عنده العقاب راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب، وإن لم يجتمعوا على أحد رأسوا صاحبها فقدّموه. ومن بني نوفل: الحرث بن عامر، وكانت إليه الرفادة، وهي ما كانت تخرجه من أموالها وترفد به منقطع الحاج. ومن بني عبد الدار: عثمان بن طلحة، وكان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال والندوة أيضا في بني عبد الدار. ومن بني أسد: يزيد بن زمعة بن الأسود، وكانت إليه المشورة: وذلك أن رؤساء قريش لم يكونوا يجتمعون على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافقه ولّاهم عليه، وإلا تخير وكانوا له أعوانا؛ واستشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطائف. ومن بني تيم: أبو بكر الصديق، وكانت إليه في الجاهلية الأشناق، وهي الديات والمغرم، فكان إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه. ومن بني مخزوم: خالد بن الوليد، وكانت إليه القبة والأعنة؛ فأما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش؛ وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب.

بين المأمون وأبي الطاهر

ومن بني عديّ: عمر بن الخطاب، وكانت إليه السفارة في الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب، بعثوه سفيرا، وإن نافرهم حيّ لمفاخرة جعلوه منافرا ورضوا به. ومن بني جمح: صفوان بن أمية، وكانت إليه الأيسار، وهي الأزلام؛ فكان لا يسبّق بأمر عامّ حتى يكون هو الذي يتّسرون على يديه. ومن بني سهم: الحرث بن قيس، وكانت إليه الحكومة والأموال المحجرة التي سمّوها لآلهتهم. فهذه مكارم قريش التي كانت في الجاهلية، وهي؛ السقاية، والعمارة، والعقاب، والرفادة، والسّدانة، والحجابة، والندوة، واللواء، والمشورة، والأشناق، والقبة، والأعنة، والسفارة، والأيسار، والحكومة، والأموال المحجرة- إلى هؤلاء العشرة من هذه البطون العشرة على حال ما كانت في أوّليتهم، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر؛ وجاء الإسلام فوصل ذلك لهم؛ وكان كل شرف من شرف الجاهلية أدركه الإسلام فوصله، فكانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم. فأما السقاية فمعروفة، وأما العمارة فهو ألّا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته، وكان العباس ينهاهم عن ذلك. وأما حلوان النفر، فإن العرب لم تكن تملّك عليها في الجاهلية أحدا، فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه، صغيرا كان أو كبيرا. فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العبّاس وهو صغير فأجلسوه على المجن. بين المأمون وأبي الطاهر أبو الطاهر أحمد بن كثير بن عبد الوهاب قال: حدّثني أبو ذكوان عن أحمد بن يزيد الأنطاكي أنه سمع المأمون يقول لأبي الطاهر الذي كان على البحرين: من أي قريش أنت؟ قال: من بني أسامة بن لؤي، فقال المأمون: ما سمعنا لأسامة ابن لؤي

فضل بني هاشم وبني أمية

نسبا في بطوننا العشرة، لو علمنا به على بعده منا لكنا به بررة. فضل بني هاشم وبني أمية قيل لعلي بن أبي طالب: أخبرنا عنكم وعن بني أمية. فقال: بنو أمية أغدر وأمكر وأفجر، ونحن أصبح وأفصح وأسمح. وسأل رجل الشعبيّ عن بني هاشم وبني أمية، فقال: إن شئت أخبرتك ما قال عليّ ابن أبي طالب فيهم. قال: أخبرني. قال: أما بنو هاشم فأطعمها للطعام، وأضربها للهام؛ وأما بنو أمية فأبعدها حلما وأطلبها للأمر الذي لا ينال فينالونه. قيل لمعاوية: أخبرنا عنكم وعن بني هاشم. قال: بنو هاشم أشرف واحدا، ونحن أشرف عددا، فما كان إلا كلا ولا، حتى جاؤا بواحدة بذّت الأولين والآخرين. يريد النبي صلّى الله عليه وسلم. وبقوله: أشرف واحدا: عبد المطلب بن هاشم. الرشيد وأموي الرياشي عن الأصمعي قال: تصدى رجل من بني أمية لهارون الرشيد فأنشده: يا أمين الله إني قائل ... قول ذي فهم وعلم وأدب عبد شمس كان يتلو هاشما ... وهما بعد لأمّ ولأب فاحفظ الأرحام فينا إنما ... عبد شمس عمّ عبد المطلب لكم الفضل علينا، ولنا ... بكم الفضل على كلّ العرب فأحسن جائزته ووصله. للنبي صلّى الله عليه وسلم. سفيان الثورى يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم أفراقا فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خير بيت. فأنا خيركم بيتا وخيركم نسبا» .

جماعة بني هاشم بن عبد مناف وجماعة قريش

وقال صلّى الله عليه وسلم: «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي» . جماعة بني هاشم بن عبد مناف وجماعة قريش عبد المطلب بن هاشم ولده عشرة بنين، منهم: عبد الله أبو محمد صلّى الله عليه وسلم، وأبو طالب، والزبير، أمهم فاطمة بنت عمرو المخزومية. والعباس، وضرار، أمهما نتيلة النمرية. وحمزة، والمقوم، أمهما هالة بنت وهيب. وأبو لهب، أمه لبنى خزاعية. والحارث، أمه صفية من بني عامر بن صعصعة. والغيداق، أمه خزاعية. جماعة بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وهو أمية الأكبر: حرب بن أمية، وأبو حرب، وسفيان، وأبو سفيان؛ وعمرو، وأبو عمرو، وهؤلاء يقال لهم العنابس، والعاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص؛ وهؤلاء يقال لهم الأعياص، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، وعثمان بن عفان ابن أبي العاص بن أمية، ومنهم سعيد بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية. جماعة بني نوفل الحارث بن عامر صاحب الرفادة، ومعطعم بن نوفل، ومنهم عدي بن الخيار بن نوفل؛ ومنهم شافع بن ظرب بن عمرو بن نوفل؛ وهو كاتب المصاحف لعمر بن الخطاب؛ ومسلم بن قرطة، قتل يوم الجمل. جماعة بني عبد الدار عثمان بن طلحة، صاحب الحجابة؛ وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة؛ والحرث بن علقمة بن كلدة، كان رهينة قريش عند أبي يكسوم؛ والنضر بن الحرث بن علقمة

جماعة بني أسد بن عبد العزى

ابن كلدة، بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله النبي صلّى الله عليه وسلم صبرا، أمر عليّ بن أبي طالب فقتله يوم الأثيل. «1» جماعة بني أسد بن عبد العزى منهم الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، وأمه صفية ابنة عبد المطلب، ويزيد ابن زمعة بن الأسود صاحب المشورة؛ وأبو البختري، واسمه العاص بن هاشم ابن الحرث بن أسد؛ وورقة بن نوفل بن أسد، هو الذي أدرك الإيمان بعقله وبشّر خديجة بالنبي صلّى الله عليه وسلم. جماهير بني تيم بن مرة منهم أبو بكر الصديق، وطلحة بن عبيد الله، وعمرو بن عبد الله بن معمر، وعبد الله بن جدعان، وعلي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة، والمهاجر بن فهد بن عمر بن جدعان، ومحمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير. جماهير مخزوم بن مرة منهم المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وخالد بن الوليد بن المغيرة، وعبد الرحمن بن الحرث، وعمرو بن حريث، وأبو جهل بن هاشم بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة، وعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر، وعبد الله بن المهاجر، وعمارة بن الوليد بن المغيرة، وإسماعيل بن هشام بن المغيرة- ولي المغيرة المدينة وضرب سعيد بن المسيب- ومنهم سعيد بن المسيب بن أبي وهب الفقيه. جماهير عدي بن كعب منهم: عمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو من أصحاب

جماهير جمح

حراء، وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ولي الكوفة لعمر بن عبد العزيز، وسراقة بن المعتمر، والنحام بن عبد الله بن أسيد، والنعمان بن عدي بن النضلة، استعمله عمر على ميسان «1» وعبد الله بن مطيع، وأبو جهم بن حذيفة، وخارجة بن حذافة، وكان قاضيا لعمرو بن العاص بمصر: فقتله الخارجي وهو يظنه عمرو بن العاص، وقال فيه: أردت عمرا وأراد الله خارجة!. جماهير جمح منهم: صفوان بن أمية، من المؤلفة قلوبهم، وأمية بن خلف، قتل يوم بدر؛ وأبيّ ابن خلف؛ ومحمد بن حاطب؛ وجميل بن معمر بن حذافة؛ وأبو عزة وهو عمرو بن عبد الله؛ وأبو محذورة، مؤذن النبي صلّى الله عليه وسلم. جماهير بني سهم الحرث بن قيس، صاحب حكومة قريش؛ وعمرو بن العاص؛ وقيس بن عدي؛ وخنيس بن حذافة، ومنبه؛ ونبيه، ابنا الحجاج؛ ومنهم العاص بن منبه، قتل مع أبيه، قتله عليّ وأخذ سيفه ذا الفقار، فصار إلى النبي عليه الصلاة والسلام. جماهير عامر بن لؤي منهم: سهيل بن عمرو، من المؤلفة قلوبهم؛ ومنهم ابن أبي ذئب الفقيه، واسمه محمد بن عبد الرحمن؛ وحويطب بن عبد العزى، من المؤلفة قلوبهم؛ وعبد الله بن مخرمة، بدري؛ ونوفل بن مساحق؛ وأبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، الفقيه؛ وعبد الله بن أبي سرح، بدري؛ ومنهم ابن أم مكتوم، مؤذن النبي عليه الصلاة والسلام.

جماهير بني محارب بن فهر بن مالك

جماهير بني محارب بن فهر بن مالك منهم: الضحاك بن قيس الفهري، وحبيب بن مسلمة. جماهير بني الحارث بن فهر بن مالك منهم: أبو عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة؛ وسهيل؛ وصفوان، ابنا وهب؛ وعياض بن غنم بن زهير؛ وأبو جهم بن خالد؛ وبنو الحرث. هؤلاء من المطيّبين الذين تحالفوا وغمسوا أيديهم في حفنة فيها طيب. قريش الظواهر وغيرها من بطون قريش بنو الحارث وبنو محارب ابنا فهر بن مالك، وهم قريش الظواهر لأنهم نزلوا حول مكة وما والاها. فمن بني الحارث بن فهر: أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح، من المهاجرين الأولين. ومن بني محارب بن فهر: الضحاك بن قيس الفهري، صاحب مرج راهط. وما سوى هؤلاء من بطون قريش يقال لهم قريش البطاح؛ لأنهم سكنوا بطحاء مكة، وهم البطون العشرة التي ذكرناها قبل هذا الباب. ومن بطون قريش بنو زهرة بن كلاب بن كعب بن لؤيّ. منهم وهب بن عبد مناف بن زهرة، أبو آمنة أم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومنهم عبد الرحمن بن عوف، خال النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم بنو حبيب بن عبد شمس؛ ومنهم عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس، صاحب العراق؛ ومنهم بنو أمية الأصغر ابن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه عبلة، فيقال لهم العبلات؛ وبنو عبد العزى بن عبد شمس، منهم

فضل قريش

أبو العاص بن الربيع، صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تزوج ابنته التي قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيه: «ولكنّ أبا العاص لم يذمم صهره» ؛ ومنهم بنو المطلب بن عبد مناف؛ ومنهم محمد بن إدريس الشافعي. ومن بني نوفل بن عبد مناف: المطعم بن عدي. ولعبد شمس بن عبد مناف ونوفل بن عبد مناف يقول أبو طالب: فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... أعيذكما أن تبعثا بيننا حربا وولد أمية الأكبر: العاص، وأبا العاص، والعيص، وأبا العيص، فهؤلاء يقال لهم الأعياص، وحربا وأبا حرب، وهذه البطون التي ذكرنا كلها من قريش ليست من البطون العشرة التي ذكرناها أولا وذكرنا جماهيرها. فضل قريش قال النبي عليه السّلام: «الأئمّة من قريش» . وقال: «قدموا قريشا ولا تقدموها» : ولما قتل النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف، قال: «لا يقتل قرشيّ صبرا بعد اليوم» ، يريد أنه لا يكفر قرشي فيقتل صبرا بعد هذا اليوم. معاوية وأصحابه: الأصمعي قال: قال معاوية: أي الناس أفصح؟ فقال رجل من السماط: يا أمير المؤمنين، قوم ارتفعوا عن رتّة العراق، وتياسروا عن كشكشة «1» بكر، وتيامنوا عن شنشنة «2» تغلب، ليست فيهم غمغمة «3» قضاعة، ولا طمطمانية «4» حمير. قال: من هم؟ قال: قومك يا أمير المؤمنين، [قريش] . قال: صدقت! فمن أنت؟ قال: من جرم.

ابن عتبة وابن عمير:

قال الأصمعي: جرم فصحاء العرب. ابن عتبة وابن عمير: قدم محمد بن عمير بن عطارد في نيف وسبعين راكبا، فاستزارهم عمرو بن عتبة، قال: فسمعته يقول: يا أبا سفيان، ما بال العرب تطيل كلامها وأنتم تقصرونه معاشر قريش؟ فقال عمرو بن عتبة: بالجندل يرمى الجندل، وإن كلامنا كلام يقل لفظه ويكثر معناه، ويكتفي بأولاه ويستشفى بأخراه، يتحدر تحدر الزلال على الكبد الحرّى، ولقد نقصوا وأطال غيرهم فما أخلّوا، ولله أقوام أدركتهم كأنما خلقوا لتحسين ما قبّحت الدنيا، سهلت ألفاظهم كما سهلت عليهم أنفاسهم، فابتذلوا أموالهم، وصانوا أعراضهم، حتى ما يجد الطاعن فيهم مطعنا، ولا المادح مزيدا، ولقد كان آل أبي سفيان مع قلتهم كثيرا منه نصيبهم، ولله در مولاهم حيث يقول: وضع الدهر فيهم شفرتيه ... فمضى سالما وأمسوا شعوبا شفرتان والله أفنتا أبدانهم، وأبقتا أخبارهم، فتركناهم حديثا حسنا في الدنيا، ثوابه في الآخرة أحسن، وحديثا سيئا في الدنيا، ثوابه في الآخرة أسوأ، فيا موعوظا بمن قبله موعوظا به من بعده، اربح نفسك إذا خسرها غيرك. قال: فظننت أنه إن أراد أن يعلمه أن قريشا إذا شاءت أن تتكلم تكلمت. ابن عتبة وقرشيون تشاحوا: العتبي قال: شهدت مجلس عمرو بن عتبة وفيه ناس من القرشيين، فتشاحّوا في مواريث وتجاحدوا، فلما قاموا من عنده أقبل علينا فقال: إنّ لقريش درجا تزلق عنها أقدام الرجال، وأفعالا تخضع لها رقاب الأقوال، وغايات تقصر عنها الجياد المنسوبة، وألسنة تكلّ عنها الشفار المشحوذة؛ ولو احتفلت الدنيا ما تزيّنت إلا بهم، ولو كانت لهم ضاقت عن سعة أخلاقهم؛ وإنّ قوما منهم تخلقوا بأخلاق العوام فصار لهم رفق باللؤم، وخرق في الحرص ولو أمكنهم لقاسموا الطير في أرزاقها؛ إن خافوا مكروها

محمد بن الفضل وقوم:

تعجّلوا له الفقر؛ وإن عجّلت لهم النعم أخروا عنها الشكر، أولئك أنضاء فكرة الفقر، وعجزة حملة الشكر. محمد بن الفضل وقوم: قال أبو العيناء الهاشمي: جرى بين محمد بن الفضل وبين قوم من أهل الأهواز كلام، فلما أصبح رجع عنه؛ فقالوا له: ألم تقل أمس كذا وكذا؟ قال: تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال. بينه وبين والى الأهواز: ودخل محمد بن الفضل على والي الأهواز فسمعه يقول: إذا كان الحق استوى عندي الهاشمي والنبطي. فقال محمد بن الفضل: لئن استوت حالاتهما عندك فما ذلك بزائد النبطي زينة ليست له، ولا ناقص الهاشمي قدرا هو له، وإنما يلحق النقص المسوي بينهما!. لابن عتبة ينصح قرشيين: العتبي قال: قال عمرو بن عتبة: اختصم قوم من قريش عند معاوية فمنعوا الحق، فقال معاوية: يا معشر قريش، ما بال القوم لأمّ يصلون بينهم ما انقطع، وأنتم لعلّات «1» تقطعون بينكم ما وصل الله، وتباعدون ما قرب؟ بل كيف ترجون لغيركم وقد عجزتم عن أنفسكم؟ تقولون كفانا الشرف من قبلنا؛ فعندها لزمتكم الحجة؛ فاكفوه من بعدكم كما كفاكم من قبلكم، أو تعلمون أنكم كنتم رقاعا في جنوب العرب، وقد أخرجتم من حرم ربّكم، ومنعتم ميراث أبيكم وبلدكم، وأخذ لكم ما أخذ منكم؛ وسماكم باجتماعكم اسما به أبانكم من جميع العرب، وردّ به كيدّ العجم، فقال جل ثناؤه: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ «2» فارغبوا في الائتلاف أكرمكم الله به، فقد حذرتكم الفرقة نفسها، وكفى بالتجربة واعظا.

مكان العرب من قريش

مكان العرب من قريش للنبي صلّى الله عليه وسلم: يحيى بن عبد العزيز، عن أبي الحجاج رياح بن ثابت، عن بكر بن خنيس، عن أبي الأحوص، عن أبي الحصين، عن عبد الله بن مسعود أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قريش الجؤجؤ «1» والعرب الجناحان، والجؤجؤ لا ينهض إلا بالجناحين. لمعاوية: قال عمرو بن عتبة: ما استدرّ لعمي كلام قط فقطعه، حتى يذكر العرب بفضل أو يوصى فيهم بخير. ولقد أنشده مروان ذات يوم للنابغة حيث يقول: فهم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّى «2» فقال معاوية: ألا إنّ دروع هذا الحي من قريش إخوانهم من العرب، المتشابكة أرحامهم تشابك حلق الدرع، التي إن ذهبت حلقة منه فرقت بين أربع؛ ولا تزال السيوف تكره مذاقة لحوم قريش ما بقيت دروعها معها، وشدت نطقها عليها، ولم تفك حلقها منها؛ فإذا خلعتها من رقابها كانت للسيوف جزرا. لابن عتبة في معاوية: العتبي عن أبيه عن عمرو بن عتبة قال: عقمت النساء أن يلدن مثل عمي: شهدته يوما وقد قدمت عليه وفود العرب، فقضى حوائجهم وأحسن جوائزهم؛ فلما دخلوا عليه ليشكروا سبقهم إلى الشكر، فقال لهم: جزاكم الله يا معشر العرب عن قريش أفضل الجزاء؛ بتقدّمكم إياهم في الحرب، وتقديمكم لهم في السلم، وحقنكم دماءهم بسفكها منكم؛ أما والله لا يؤثر عليكم غيركم منهم إلا حازم كريم، ولا يرغب عنكم منهم إلا عاجز لئيم؛ شجرة قامت على ساق، فتفرع أعلاها واجتمع أصلها، عضد الله

فضل العرب

من عضدها، فيا لها كلمة لو اجتمعت، وأيديا لو ائتلفت! ولكن كيف بإصلاح ما يريد الله إفساده؟ فضل العرب يحيى بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو الحجاج رياح بن ثابت، قال: حدّثنا بكر بن خنيس، عن أبي الأحوص، عن أبي الحصين، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الحوائج فاسألوا العرب؛ فإنها تعطى لثلاث خصال: كرم أحسابها، واستحياء بعضها من بعض، والمواساة لله» . ثم قال: «من أبغض العرب أبغضه الله» . ابن الكلبي قال: كانت في العرب خاصة عشر خصال لم تكن في أمة من الأمم: خمس منها في الرأس، وخمس في الجسد؛ فأما التي في الرأس: فالفرق، والسواك، والمضمضة، والاستنثار، «1» وقص الشارب؛ وأما التي في الجسد: فتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء؛ «2» وكان في العرب خاصة، القيافة؛ لم يكن في جميع الأمم أحد ينظر إلى رجلين أحدهما قصير والآخر طويل، أو أحدهما أسود والآخر أبيض، فيقول: هذا القصير ابن هذا الطويل، وهذا الأسود ابن هذا الأبيض، إلا في العرب. لابن المقفع: أبو العيناء الهاشمي عن القحذمي عن شبيب بن شيبة قال: كنا وقوفا بالمربد، وكان المربد مألف الأشراف، إذ أقبل ابن المقفع، فبششنا به وبدأناه بالسلام، فردّ علينا السلام، ثم قال: لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل، وسورها المديد، ونسيمها العجيب؛ فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض، وأرحتم دوابّكم من جهد الثقل؛ فإن الذي تطلبونه لم تفاتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تنالوه! فقبلنا وملنا؛ فلما استقرّ بنا

ذو الرمة وعبد أسود:

المكان قال لنا: أيّ الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إلى بعض؛ فقلنا: لعله أراد أصله من فارس. فقلنا: فارس. فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر؛ فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم بنفوسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحاب صنعة. قلنا: فالصين. قال: أصحاب طرفة. قلنا: الهند. قال: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان. قال: شر خلق الله. قلنا: الترك. قال: كلاب ضالة. قلنا: الخزر. قال: بقر سائمة. قلنا: فقل. قال: العرب. قال: فضحكنا. قال: أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسبة، فلا يفوتني حظي من المعرفة؛ إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت؛ أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم؛ يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسّن ما شاء فيحسن، ويقبّح ما شاء فيقبح؛ أدّبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم؛ فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم؛ فقال تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «1» فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم؛ ودفع الحق باللسان أكبت للجنان. ذو الرمة وعبد أسود: ذكر الأصمعي عن ذي الرمة قال: رأيت عبدا أسود لبني أسد قدم علينا من شق اليمامة، وكان وحشيا؛ لطول تغرّبه في الإبل، وربما كان لقي الأكرة «2» فلا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إليّ، ثم قال لي: يا غيلان، لعن الله بلادا ليس فيها عربيّ، وقاتل الله الشاعر حيث يقول:

علماء النسب

حرّ الثرى مستغرب التراب وما رأيت هذه العرب في جميع الناس إلا مقدار القرحة في جلد الفرس؛ ولولا أن الله رقّ عليهم فجعلهم في حشاه: لطمست هذه العجمان آثارهم، والله ما أمر الله نبيّه بقتلهم إلا لضنه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم إلا لتركها لهم. الأكرة: جمع أكار، وهم الحرّاث. وقوله: جعلهم في حشاه، أي: استبطنهم. يقول الرجل للعربي إذا استبطنه: خبأتك في حشاي وقال الراجز: وصاحب كالدّمّل الممدّ ... جعلته في رقعة من جلدي وقال آخر: لقد كنت في قوم عليك أشحّة ... بحبّك إلا أنّ ما طاح طائح يودّون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا يدفع الموت النّفوس الشّحائح علماء النسب أبو بكر وابن المسيب: كان أبو بكر رضي الله عنه نسابة، وكان سعيد بن المسيّب نسابة، وقال له رجل: أريد أن تعلمني النسب، قال: إنما تريد أن تساب الناس. أبو بكر وبعض القبائل: عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل، خرج مرة وأنا معه وأبو بكر، حتى رفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم. قال عليّ: وكان أبو بكر مقدّما في كل خير، وكان رجلا نسابة. فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأي ربيعة أنتم، أمن هامتها [أم من لهازمها] ؟ قالوا: من هامتها العظمى. قال: وأيّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر. قال أبو بكر: فمنكم عوف بن محلم الذي يقال فيه: لا حرّ

دغفل وقوم من الأنصار:

بوادي عوف؟ قالوا: لا؛ قال: فمنكم جساس بن مرة الحامي الذمار، والمانع الجار؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من شيبان حين بقل «1» وجهه، يقال له دغفل، فقال: إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، فممن الرجل؟ قال أبو بكر: من قريش؟ قال: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة؛ فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. قال: أمكنت والله الرامي من سواء الثّغرة. «2» أفمنكم قصّي بن كلاب الذي جمع القبائل فسمي مجمّعا؟ قال: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون «3» عجاف؟ قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد، عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي وجهه كالقمر في الليلة الظلماء؟ قال: لا. قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. فاجتذب أبو بكر زمام الناقة، ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فقال الغلام: صادف درّ السيل درّا يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصدعه قال: فتبسم النبي عليه السّلام؛ قال عليّ: فقلت له: وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على بائقة. «4» قال: أجل: قال: ما من طامة إلا وفوقها أخرى، والبلاء موكل بالمنطق والحديث ذو شجون. دغفل وقوم من الأنصار: قال ابن الأعرابي: بلغني أن جماعة من الأنصار وقفوا على دغفل النسابة بعد ما كفّ، فسلموا عليه، فقال: من القوم؟ قالوا: سادة اليمن. فقال: من أهل مجدها

ابن شيبان وقوم من العرب:

القديم، وشرفها العميم، كندة؟ قالوا: لا. قال: فأنتم الطوال قصبا الممحّضون نسبا، بنو عبد المدان؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أقودها للزحوف، وأخرقها للصفوف، وأضربها بالسيوف، رهط عمرو بن معد يكرب؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أحضرها قراء، وأطيبها فناء، وأشدها لقاء رهط حاتم بن عبد الله [الطائي] ؟ قالوا: لا. قال: فأنتم الغارسون للنخل، والمطعمون في المحل، والقائلون بالعدل، الأنصار؟ قالوا: نعم. ابن شيبان وقوم من العرب: مسلمة بن شبيب، عن المنقرى، قال: ذكروا أن يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس قال: خرجت حاجا، حتى إذا كنت بالمحصب من منى إذا رجل على راحلة معه عشرة من الشباب، مع كل رجل منهم محجن، ينحّون الناس عنه ويوسّعون له؛ فلما رأيته دنوت منه؛ فقلت: ممّن الرجل؟ قال: رجل من مهرة، ممن يسكن الشّحر. «1» قال: فكرهته ووليت عنه، فناداني من ورائي: مالك؟ فقلت: لست من قومي ولست تعرفني ولا أعرفك. قال: إن كنت من كرام العرب فسأعرفك. قال: فكررت عليه راحلتي، فقلت: إني من كرام العرب. قال: فممن أنت؟ قلت: من مضر. قال: فمن الفرسان أنت أم من الأرحاء؟ فعلمت أنه أراد بالفرسان قيسا، وبالأرحاء خندفا؛ فقلت: بل من الأرحاء. قال: أنت امرؤ من خندف؟ قلت: نعم. قال: من الأرنبة أنت أم من الجماجم؟ فعلمت أنه أراد بالأرنبة خزيمة، وبالجمجمة بني أد بن طابخة؛ قلت: بل من الجمجمة. قال: فأنت امرؤ من بني أد بن طابخة؟ قلت: أجل: قال: فمن الدواني أنت أم من الصميم؟ قال: فعلمت أنه أراد بالدواني الرباب ومزينة، وبالصميم بني تميم؛ قلت: من الصميم. قال: فأنت إذا من بني تميم. قلت: أجل. قال: فمن الأكثرين ولد زيد مناة، وبالأقلين ولد الحارث، وبإخوانهم الآخرين بني عمرو بن تميم؛ قلت: من الأكثرين، قال: فأنت إذا

قول دغفل في قبائل العرب

من ولد زيد، قلت: أجل؛ قال: فمن البحور أنت أم من الجدود «1» أم من الثماد؟ «2» فعلمت أنه أراد بالبحور بني سعد، وبالجدود بني مالك بن حنظلة، وبالثماد بني امريء القيس بن زيد؛ قلت: بل من الذرى. قال: فأنت من مالك بن حنظلة. قلت: أجل. قال: فمن اللهاب «3» أنت أم من الشعاب أم من اللصاب؟ «4» فعلمت أنه أراد باللهاب مجاشعا، وبالشعاب نهشلا، وباللصاب بني عبد الله بن دارم؛ فقلت له: من اللصباب. قال: فأنت من بني عبد الله بن دارم؟ قلت: أجل. قال: فمن البيوت أنت أم من الزّوافر؟ فعلمت أنه أراد بالبيوت ولد زرارة، وبالزوافر الأحلاف؛ قلت: من البيوت. قال: فأنت يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس، وقد كان لأبيك امرأتان، فأيهما أمّك؟. قول دغفل في قبائل العرب دغفل وزياد: الهيثم بن عدي عن عوانة قال: سأل زياد دغفلا عن العرب، فقال: الجاهلية ليمن، والإسلام لمضر، والفينة بينهما لربيعة. قال: أخبرني عن مضر؛ قال: فاخر بكنانة، وكاثر بتميم، وحارب بقيس؛ ففيها الفرسان والأنجاد؛ وأما أسد ففيها دل وكبر. دغفل ومعاوية: وسأل معاوية بن أبي سفيان دغفلا فقال له: ما تقول في بني عامر بن صعصعة؟ قال: أعناق ظباء، وأعجاز نساء! قال: فما تقول في بني أسد؟ قال: عافة قافة، «5» فصحاء كافة. قال: فما تقول في بني تميم؟ قال: حجر أخشن، إن صادقته آذاك، وإن

مفاخرة يمن ومضر

تركته أعفاك. قال: فما تقول في خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث! قال: فما تقول في اليمن؟ قال: شدة وإباء. قال نصر بن سيّار: إنا وهذا الحيّ من يمن لنا ... عند الفخار أعزّة أكفاء قوم لهم فينا دماء جمّة ... ولنا لديهم أجنة ودماء وربيعة الأذناب فيما بيننا ... لاهم لنا سلم ولا أعداء إن ينصرونا لا نعز بنصرهم ... أو يخذلونا فالسماء سماء مفاخرة يمن ومضر الأبرش يفاخر ابن صفوان: قال الأبرش الكلبي لخالد بن صفوان: هل أفاخرك- وهما عند هشام بن عبد الملك- فقال له خالد: قل. فقال الأبرش: لنا ربع البيت- يريد الركن اليماني- ومنا حاتم طيء، ومنا المهلب بن أبي صفرة. قال خالد بن صفوان: منا النبي المرسل، وفينا الكتاب المنزّل، ولنا الخليفة المؤمّل. قال الأبرش: لا فاخرت مضريا بعدك! أبو العباس وقوم من اليمن: ونزل بأبي العباس قوم من اليمن من أخواله من كعب، ففخروا عنده بقديمهم وحديثهم؛ فقال أبو العباس لخالد بن صفوان: أجب القوم. فقال: أخوال أمير المؤمنين [وأهله] ! قال: لا بد أن تقول. قال: وما [عسى أن] أقول لقوم يا أمير المؤمنين هم بين حائك برد، وسائس قرد، ودابغ جلد؛ دل عليهم هدهد، وملكتهم امرأة، وغرقتهم فأرة؟ فلم يثبت لهم بعدها قائمة.

مفاخرة الأوس والخزرج

مفاخرة الأوس والخزرج الخشنى يرفعه إلى أنس، قال: تفاخرت الأوس والخزرج؛ فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة الراهب، ومنا عاصم بن ثابت بن الأفلح الذي حمت لحمه الدّبر، «1» ومنا ذو الشهادتين جزيمة بن ثابت، ومنا الذي اهتزلموته العرش سعد بن معاذ. قالت الخزرج: منا أربعة قرءوا القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يقرأه غيرهم: زيد بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب سيد القرّاء؛ ومنا الذي أيده الله بروح القدس في شعره، حسان بن ثابت. البيوتات علماء النسب في حضرة عبد الملك: قال أبو عبيدة في كتاب التاج: اجتمع عند عبد الملك بن مروان في سمره علماء كثيرون من العرب، فذكروا بيوتات العرب، فاتفقوا على خمسة أبيات: بيت بني معاوية الأكرمين في كندة، وبيت بني جشم بن بكر في تغلب، وبيت ابن ذي الجدين في بكر، وبيت زرارة بن عدس في تميم، وبيت بني بدر في قيس- وفيهم الأحرز بن مجاهد التغلبي، وكان أعلم القوم، فجعل لا يخوض معهم فيما يخوضون فيه؛ فقال له عبد الملك: مالك يا أحيرز ساكنا منذ الليلة؟ فو الله ما أنت بدون القوم علما. قال: وما أقول؟ سبق أهل الفضل في فضلهم أهل النقص في نقصانهم، والله لو أن للناس كلهم فرسا سابقا لكانت غرته بنو شيبان ففيم الإكثار. وقد قال المسيّب بن علس: تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن عتبت تعتب فكالشّهد بالرّاح أخلاقهم ... وأحلامهم منهما أعذب وكالمسك ترب تقاماتهم ... وترب قبورهم أطيب

بيوتات مضر وفضائلها

بيوتات مضر وفضائلها قال النبي صلّى الله عليه وسلم، وسئل عن مضر. فقال: «كنانة جمجمتها وفيها العينان، وأسد لسانها، وتميم كاهلها» . وقالوا: بيت تميم، بنو عبد الله بن دارم، ومركزه بنو زرارة، وبيت قيس، فزارة ومركزه بنو بدر؛ وبيت بكر بن وائل شيبان، ومركزه بيت بني ذي الجدين. معاوية والكلبي: وقال معاوية للكلبي حين سأله عن أخبار العرب. قال: أخبرني عن أعز العرب فقال: رجل رأيته بباب قبته فقسم الفيء بين الحليفين أسد وغطفان معا. قال: ومن هو؟ قال. حصن بن حذيفة بن بدر. قال: فأخبرني عن أشرف بيت في العرب. قال: والله إني لأعرفه وإني لأبغضه! قال: ومن هو؟ قال بيت زرارة بن عدس. قال: فأخبرني عن أفصح العرب. قال: بنو أسد. والمجتمع عليه عند أهل النسب. وفيما ذكره أبو عبيدة في التاج، أن أشرف بيت في مضر غير مدافع في الجاهلية، بيت بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة ابن تميم. النعمان والأحيمر: وقال النعمان بن المنذر ذات يوم، وعنده وجوه العرب ووفود القبائل، ودعا ببردي محرّق. فقال: ليلبس هذين البردين أكرم العرب وأشرفهم حسبا وأعزّهم قبيلة. فأحجم الناس؛ فقام الأحيمر بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فقال: أنا لهما! فأتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ فقال له المنذر: ما حجتك فيما ادعيت؟ قال: الشرف من نزار كلها في مضر. ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في بهدلة. قال: هذا أنت في اصلك؛ فكيف أنت في عشيرتك؟ قال: أنا أبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة، وخال عشرة! قال: فهذا أنت في عشيرتك؛ فكيف أنت في نفسك؟ فقال: شاهد العين شاهدي. ثم قام فوضع قدمه في الأرض.

بيوتات اليمن وفضائلها

وقال: من أزالها فله من الإبل مائة! فلم يقم إليه أحد ولا تعاطى ذلك. ففيه يقول الفرزدق: فما تم في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما سيل لم يتبهدل لهم وهب النّعمان بردي محرّق ... بمجد معدّ والعديد المحصّل ومن بيت بهدلة بن عوف كان الزبرقان بن بدر، وكان يسمى سعد بن زيد مناة ابن تميم أسعد الأكرمين. وفيهم كانت الإفاضة في الجاهلية في عطارد بن عوف بن كعب بن سعد، ثم في آل كرب بن صفوان بن عطارد. وكان إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد حتى يجوز آل صفوان ومن ورث ذلك عنهم، ثم يمر الناس أرسالا. وفي ذلك يقول أوس بن مغراء السعدي. ولا يريمون في التّعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا ما تطلع الشّمس إلّا عند أوّلنا ... ولا تغيّب إلا عند أخرانا قال الفرزدق: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا بيوتات اليمن وفضائلها قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن» ، معناه والله أعلم: أن الله ينفس عن المسلمين بأهل اليمن: يريد الأنصار. ولذلك تقول العرب: نفّسني فلان في حاجتي، إذا روّح بعض ما كان يغمّه من أمر حاجته. وقال عبد الله بن عباس لبعض اليمانية: لكم من السماء نجمها ومن الكعبة ركنها ومن الشرف صميمها. وقال عمر بن الخطاب: من أجود العرب؟ قالوا: حاتم طيء، قال: فمن فارسها؟ قالوا: عمرو بن معد يكرب. قال: فمن شاعرها؟ قالوا: امرؤ القيس بن حجر. قال: فأي سيوفها أقطع؟ قالوا: الصمصامة. قال: كفى بهذا فخرا لليمن.

للنبي صلى الله عليه وسلم:

وقال أبو عبيدة: ملوك العرب حمير، ومقاولها غسان ولخم، وعددها وفرسانها الأزد، ولسانها مذحج، وريحانتها كندة، وقريشها الأنصار. وقال ابن الكلبي: حمير ملوك وأرادف الملوك، والأزد أسد، ومذحج الطعّان وهمدان أحلاس الخيل، وغسان أرباب الملوك. ومن الأزد الأنصار، وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو بن عامر، وهم أعز الناس أنفسا، وأشرفهم همما؛ لم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك. وكتب إليهم أبو كرب تبّع الآخر يستدعيهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم؛ فكتبوا إليه: العبد تبّعكم يريد قتالنا ... ومكانه بالمنزل المتذلّل إنا أناس لا تنام بأرضنا ... عضّ الرسول ببظر أمّ المرسل قال: فغزاهم أبو كرب، فكانوا يحاربونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فقال أبو كرب: ما رأيت قوما أكرم من هؤلاء؛ يحاربوننا بالنهار، ويخرجون لنا العشاء بالليل! ارتحلوا عنهم. فارتحلوا. للنبي صلّى الله عليه وسلم: ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن سبإ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة؟ فقال: «بل رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام أربعة. أما اليمانيون، فكندة ومذحج والأزد وأنمار وحمير والأشعريون. وأما الشاميون فلخم وجذام وغسان وعاملة» . ابن لهيعة قال: كان أبو هريرة إذا جاء الرسول سأله ممن هو؟ فإذا قال من جذام، قال: مرحبا بأصهار موسى وقوم شعيب. ابن لهيعة عن بكر بن سوادة، قال: أتى رجل من مهرة إلى علي بن أبي طالب، قال: ممن أنت؟ قال: من مهرة. قال: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ . «1»

تفسير القبائل والعمائر والشعوب

وقال ابن لهيعة: قبر هود في مهرة. تفسير القبائل والعمائر والشعوب قال ابن الكلبي؛ الشعب أكبر من القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ ثم العشيرة، ثم الفصيلة. وقال غيره: الشعوب العجم، والقبائل العرب، وإنما قيل للقبيلة قبيلة، لتقابلها وتناظرها، وأن بعضها يكافىء بعضا، وقيل للشعب شعب لأنه انشعب منه أكثر مما انشعب من القبيلة؛ وقيل لها عمائر، من الاعتمار والاجتماع، وقيل لها بطون، لأنها دون القبائل، وقيل لها أفخاذ، لأنها دون البطون، ثم العشيرة: وهي رهط الرجل، ثم الفصيلة وهي أهل بيت الرجل خاصة. قال الله تعالى: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ «1» وقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . «2» تفسير الأرحاء والجماجم وقال أبو عبيدة في التاج: كانت أرحاء العرب ستا، وجماجمها ثمانيا، فالأرحاء الست، بمضر منها اثنتان، ولربيعة اثنتان، ولليمن اثنتان، واللتان في مضر: تيم بن مرة، وأسد بن خزيمة، واللتان في اليمن: كلب بن وبرة، وطيء بن أدد. وإنما سميت هذه أرحاء، لأنها أحرزت دورا ومياها لم يكن للعرب مثلها، ولم تبرح من أوطانها، ودارت في دورها كالأرحاء على أقطابها، إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب، وذلك قليل منهم. وقيل للجماجم جماجم، لأنها يتفرع من كل واحدة منها قبائل اكتفت بأسمائها دون الانتساب إليها، فصارت كأنها جسد قائم وكل عضو منها مكتف باسمه معروف بموضعه. والجماجم ثمان: فاثنتان منها في اليمن، واثنتان في ربيعة، وأربع في مضر فالأربع

التي في مضر: اثنتان في قيس، واثنتان في خندف، ففي قيس: غطفان وهوازن، وفي خندف: كنانة وتميم، والتي في ربيعة: بكر بن وائل وعبد القيس بن أفصى، والتي في اليمن: مذحج- وهو مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ- وقضاعة بن مالك ابن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ. ألا ترى أن بكرا وتغلب ابني وائل قبيلتان متكافئتان في العد والعدد؟ فلم يكن في تغلب رجال شهرت أسماؤهم حتى انتسب إليهم واجتزىء «1» بهم عن تغلب، فإذا سألت الرجل من بني تغلب لم يجتزىء حتى يقول تغلبي. ولبكر رجال قد اشتهرت أسماؤهم حتى كانت مثل بكر، فمنها شيبان وعجل ويشكر وقيس وحنيفة وذهل. ومثل ذلك عبد القيس، ألا ترى أن عنزة فوقها في النسب ليس بينها وبين ربيعة إلا أب واحد، عنزة بن أسد بن ربيعة، فلا يجتزىء الرجل منهم إذا سئل أن يقول: عنزي؟. والرجل من عبد القيس ينسب شيبانيا وجرميا وبكريا. ومثل ذلك أن ضبة بن أدعم تميم لا يجتزىء الرجل منهم أن يقول: ضبيّ. والتميمي قد ينسب فيقول: منقري، وهجيمي، وطهويّ، ويربوعيّ ودارميّ، وكلبيّ. وكذلك الكناني ينسب فيقول: لبثيّ، ودؤليّ، وضمري، وفراسي، وكل ذلك مشهور معروف. وكذلك الغطفاني ينسب فيقول: عبسي، وذبياني، وفزاري، ومري، وأشجعي، وبغيضي. وكذلك هوازن منها: ثقيف، والأعجاز، وعامر بن صعصعة، وقشير، وعقيل، وجعدة. وكذلك القبائل من يمن التي ذكرنا. فهذا فرق ما بين الجماجم وغيرها من القبائل، والمعنى الذي به سمّيت جماجم.

أسماء ولد نزار

وجمرات العرب أربعة، وهم: بنو نمير بن عامر بن صعصعة، وبنو الحرث بن كعب، وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض، وإنما قيل لها الجمرات لاجتماعهم، والجمرة: الجماعة، والتجمير: التجميع. أسماء ولد نزار سطيح وتقسيم ميراث نزار: قال أبو عبد الله محمد بن عبد السّلام الخشني: لما احتضر نزار بن معد بن عدنان، ترك أربعة بنين: مضر وربيعة، وأنمار، وأياد، وأوصى أن يقسم ميراثهم بينهم سطيح الكاهن؛ فلما مات نزار، صفهم سطيح بين يديه، ثم أعطاهم على الفراسة؛ فأعطى ربيعة الخيل، ويقال له ربيعة الفرس. وأعطى مضر الناقة الحمراء، فيقال له مضر الحمراء. وأعطى أنمارا الحمار. وأعطى إيادا أثاث البيت. قال: فقيل لسطيح: من أين علمت هذا العلم؟ قال: سمعته من أخي حين سمعه من موسى يوم طور سيناء. الأصمعي قال: أخبرني شيخ من تغلب، قال أردفني أبي، فلما أصحر رفع عقيرته فقال: رأت سدرة من سدر حومل فابتنت ... به بيتها أن لا تحاذر راميا «1» إذا هي قامت فيه قامت ظليلة ... وأدرك روقاها الغصون الدّوانيا تطلّع منه بالعشيّ وبالضّحى ... تطلّع ذات الخدر تدعو الجواريا ثم قال: أتدري من قائل هذه الأبيات يا بني؟ قلت: لا أدري. قال: قالها ربيعة ابن نزار. فقلت: وما يصف؟ قال: البقرة الوحشية. أنساب مضر ولد مضر بن نزار: اليأس، والناسّ، وهو عيلان. أمهما الرباب بنت حيدة بن

بطون هذيل وجماهيرها

معد، فولد الناسّ- الذي هو عيلان بن مضر- قيس بن عيلان بن مضر. وولد اليأس بن مضر: عمرا. وهو مدركة، وعامرا، وهو طابخة. وعميرا، وهو القمعة، ويقال إن القمعة هو أبو خزاعة. وأمهم خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة؛ فجميع ولد اليأس بن مضر بن نزار من خندف. ولذلك يقال لهم خندف لأنها أمهم وإليها ينسبون، فجميع ولد مضر بن نزار؛ قيس، وخندف. ومن بطون خندف: بنو مدركة بن اليأس بن مضر، وهم: هذيل بن مدركة، وكنانة بن خزيمة بن مدركة، وأسد بن خزيمة بن مدركة، والهون بن خزيمة بن مدركة. [ومن أسد بن خزيمة أربع عشائر: بنو كاهل وصعب وعمرو ودودان؛ فمن دودان: بنو عمرو بن دودان، قبيلة] ؛ وهم وجوه بني أسد. ومن بني طابخة بن اليأس بن مضر: ضبة بن أدّ بن طابخة، ومزينة؛ وهم بنو عمرو بن أد بن طابخة، نسبوا إلى أمهم مزينة ابنة كلب بن وبرة؛ والرباب بنو أدّ بن طابخة، وهم عدىّ، وتميم، وثور، وعكل، وإنما سميت الرباب لأنها اجتمعت وتحالفت فكانت مثل الربابة؛ «1» ويقال إنهم إذا تحالفوا وضعوا أيديهم في جفنة فيها رب، وصوفة؛ وهو الربيط بن الغوث بن أدّ بن طابخة؛ وكانوا أصحاب الإجازة، ثم انتقلت في بني عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم؛ وتميم بن مرة بن أدّ بن طابخة. فجميع قبائل مضر يجمعها قيس وخندف؛ وقد تنسب ربيعة في مضر؛ وإنما هم إخوة مضر؛ لأن ربيعة بن نزار، ومضر بن نزار. بطون هذيل وجماهيرها منهم لحيان بن هذيل، بطن؛ وخناعة بن سعد بن هذيل، بطن؛ وحريث بن

بطون كنانة وجماهيرها

سعد بن هذيل، بطن؛ وكاهل بن سعد بن هذيل، بطن؛ وصاهلة بن كاهل بن الحارث بن سعد بن هذيل، بطن؛ وصبح بن كاهل، بطن؛ وكعب بن كاهل، بطن. فمن بني صاهلة: عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، شهد بدرا. ومن بني صبح بن كاهل: أبو بكر الهذلي الفقيه، ومنهم صخر بن حبيب الشاعر، الذي يقال فيه صخر الغي، وأبو بكر الشاعر، واسمه ثابت بن عبد شمس. ومنهم: أبو ذؤيب الشاعر، وهو خويلد بن خالد. وبطون هذيل كلها لا ينتسب إلى شيء منها، وإنما ينتسب إلى هذيل؛ لأنها ليست جمجمة. بطون كنانة وجماهيرها كنانة بن خزيمة بن مدركة، منهم قريش، وهم بنو النضر بن كنانة؛ ومنهم بكر ابن عبد مناة، بطن؛ وحدج بن ليث بن بكر بن عبد مناة، بطن؛ وغفار بن مليل ابن ضمرة بن بكر، بطن- منهم أبو ذرّ الغفاري صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام- ومدلج بن مرة بن عبد مناة، بطن- منهم سراقة بن [مالك بن] جعشم المدلجي الذي تصوّر إبليس في صورته يوم بدر وقال لقريش: إني جار لكم- وبنو مالك بن كنانة، بطن- منهم جذل الطعان، وهو علقمة بن أوس بن عمرو بن ثعلبة بن مالك ابن كنانة. ومن ولد جذل الطعان، وربيعة بن مكدم، وهو أشجع بيت في العرب، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددت والله لو أنّ لي بمائة الف منكم ثلاثمائة من بني فراس بن غنم بن ثعلبة. ومن بني الحارث بن مالك بن كنانة، منهم العملس، وهو أبو ثمامة الذي كان ينسيء الشهور حتى أنزل الله فيه إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ،» وبنو مخدج بن عامر بن ثعلبة، بطن؛ وبنو ضمرة في كنانة الأحابيش، منهم البرّاض بن قيس الذي يقال فيه «أفتك من البراض» ومن بني كنانة الأحابيش، منهم مبذول وعوف وأحمر وعون؛ ومن بني الحرث بن عبد مناة: الحليس بن عمرو بن الحارث، وهو رئيس الأحابيش يوم أحد؛ ومن بني سعد ليث: أبو

بطون أسد وجماهيرها

الطفيل عامر بن واثلة، وواثلة بن الأسقع، كانت له صحبة مع النبي عليه الصلاة والسّلام؛ ومن بني حدج بن ليث: نصر بن سيار صاحب خراسان؛ ومن بني ضمرة بن بكر: عمارة بن مخشي- الذي عاقد النبي عليه الصلاة والسّلام على بني ضمرة. بطون أسد وجماهيرها أسد بن خزيمة بن مدركة بن اليأس بن مضر؛ منهم دودان الذي يقول فيه امرؤ القيس: قولا لدودان عبيد العصا ... ما غرّكم بالأسد الباسل! ومنهم: كاهل بن عمرو بن صعب، وحلمة؛ فأما بنو حلمة فأفناهم امرؤ القيس ابن حجر بأبيه؛ ومنهم غنم بن دودان، وثعلبة بن دودان؛ ومنهم قعيس بن الحارث ابن ثعلبة بن دودان بن أسد؛ ومنهم بنو الصيداء بن عمرو بن قعيس؛ ومنهم فقعس ابن طريف بن عمرو بن قعيس؛ ومنهم جحوان بن فقعس، ودثار، ونوفل، ومنقذ، وهو حذلم، بنو فقعس؛ فمن بني جحوان طليحة بن خويلد الأسدي؛ ومن بني الصيداء شيخ من عميرة القائد، والصامت بن الأفقم الذي قتل ربيعة بن مالك أبا لبيد بن ربيعة الشاعر يوم ذي علق. وفي بني الصيداء يقول الشاعر: يا بني الصّيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذّليل ومن بني قعيس: العلاء بن محمد بن منظور، ولي شرطة الكوفة؛ ومنهم ذؤاب بن ربيّعة الذي قتل عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي، ومنهم: قبيصة بن برمة، ومنهم بشر بن أبي خازم الشاعر؛ ومن بني سعد بن ثعلبة بن دودان: سويد بن ربيعة، وعبيد بن الأبرص، وعمرو بن شاس أبو عرار، والكميت بن زيد؛ ومنهم: ضرار بن الأزور صاحب المختار؛ ومنهم بنو غاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان؛ ومن بني غاضرة زر بن حبيش الفقيه، ومنهم الحسحاس بن هند الذي ينسب إليه عبد بني الحسحاس؛ ومن أسد بنو غنم بن دودان؛ ومنهم زينب بنت جحش زوج

الهون بن خزيمة بن مدركة

النبي صلّى الله عليه وسلم، ومنهم أيمن بن خريم الشاعر، والأقيشر الشاعر؛ ومن بني كاهل بن أسد علباء بن الحرث الذي يقول فيه امرؤ القيس: وأفلتهنّ علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب «1» الهون بن خزيمة بن مدركة منهم القارة، وهم عائذة وبيثع، بنو الهون بن خزيمة بن مدركة؛ والقارة أرمى حي في العرب، ولهم يقال: قد أنصف القارة من راماها فهذه قبائل بني مدركة بن اليأس، وهي: هذيل بن مدركة، وكنانة بن خزيمة بن مدركة، وأسد بن خزيمة بن مدركة، والهون بن خزيمة بن مدركة. ومن قبائل طابخة بن اليأس بطون ضبة وجماهيرها ضبة بن أدّ بن طابخة بن اليأس: ولد ضبة بن أدّ سعدا وسعيدا وباسلا، وله المثل الذي يقال فيه: «أسعد أم سعيد» فقتل سعيد ولم يعقب؛ ولحق باسل بأرض الديلم؛ فتزوج امرأة من أرض العجم، فولدت له الديلم. فيقال إن باسل بن ضبة أبو الديلم. وفي ذلك يقول أبو بجير يعيب به العرب: زعمتم بأنّ الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر وديلم من نسل ابن ضبّة باسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر فقد صار كلّ الناس أولاد واحد ... وصاروا سواء في أصول العناصر بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر فمن بني سعد بن ضبة: بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة، بطن.

مزينة

وبنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة، بطن. وبنو زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر، بطن. وبنو عائذة بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة، بطن. ومنهم: عبد مناة بن بكر بن سعد بن ضبة، وبنو ثعلبة بن سعد بن ضبة. فمن بني كوز: المسيب بن زهير بن عمرو، ومن بني زهير: عمرو بن مالك بن زيد بن كعب، وكان سيدا مطاعا، وولد له عبد الحارث، وحصين، وعمرو، وأدهم، وذبحة، وعامر، وقبيصة، وحنظلة، وخيار، وحارث، وقيس، وشيبة، ومنذر، كل هؤلاء شريف قد رأس وربع- يعني قد أخذ المرباع- وكان الرئيس إذا غنم الجيش معه أخذ الرّبع. ومن ولد الحصين بن ضرار: زيد الفوارس، وله يقول الفرزدق: زيد الفوارس وابن زيد منهم ... وأبو قبيصة والرّئيس الأوّل الرئيس الأول: محلّم بن سويط ربع ضبة وتميم والرباب. ومن بني زيد الفوارس: ابن شبرمة القاضي. ومن بني عائذة بن مالك. شرحاف ابن المثلم- الذي قتل عمارة بن زياد العبسي. ومن بني السيد بن مالك: زيد بن حصين، ولي أصبهان. وعبد الله بن علقمة الشاعر الجاهلي. ومنهم عميرة بن اليثربيّ قاضي البصرة، وهو الذي قتل علباء وهند الجملي. وقال في قتلهما يوم الجمل: إني أنا عميرة بن اليثربيّ ... قتلت علباء وهند الجمليّ ومن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة: عاصم بن خليفة بن يعقل، الذي قتل بسطام بن قيس. مزينة مزينة: بنو عمرو بن أدّ بن طابخة بن اليأس، نسبوا إلى أمهم مزينة بنة كلب بن وبرة. منهم: النعمان بن مقرّن، ومنهم معقل بن سنان بن نبيشة صاحب النبي عليه

الرباب

الصلاة والسّلام، وزهير بن أبي سلمى الشاعر، ومعن بن أوس الشاعر. ومنهم إياس ابن معاوية القاضي. وإنما مزينة كلها بنو عثمان وأوس بن عمرو بن أدّ بن طابخة، وفي ذلك يقول كعب بن زهير: متى أدع في أوس وعثمان تأتني ... مساعير قوم كلّهم سادة دعم «1» هم الأسد عند البأس والحشد في القرى ... وهم عند عقد الجار يوفون بالذّمم الرباب وهم: عديّ، وتميم، وثور، وعكل؛ وإنما سميت هذه القبائل الرباب، لأنهم تحالفوا فوضعوا أيديهم في جفنة فيها رب؛ وقال بعضهم: إنما سموا الرباب لأنهم إذا تحالفوا جمعوا أقداحا، من كل قبيلة منهم قدح، وجعلوها في قطعة أدم، وتسمى تلك القطعة الربة، فسموا بذلك الرباب. فمن بني عدي بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة: ذو الرمّة الشاعر، وهو غيلان بن عقبة. ومن بني تميم بن عبد مناة: عمر بن لجأ الشاعر الذي كان يهاجى جريرا؛ ومن بني عكل بن عبد مناة: النمر بن تولب الشاعر؛ ومن بني ثور بن عبد مناة: سفيان الثوري الفقيه. فهذه الرباب، وهم بنو عبد مناة. صوفة هم بنو الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة، وفيهم كانت الإجازة في الجاهلية: هم كانوا يدفعون بالناس من عرفات، ثم انتقلت الإجازة في بني عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم؛ فمن الغوث شرحبيل بن عبد العزى الذي يقال له شرحبيل بن حسنة. بطون تميم وجماهيرها تميم بن مر بن أدّ بن طابخة بن اليأس بن مضر. كان لتميم ثلاثة أولاد: زيد مناة،

بنو العنبر بن عمرو بن تميم

وعمرو، والحارث بن تميم. فمن الحارث بن تميم: شقرة، واسمه معاوية بن الحارث بن تميم؛ وإنما قيل له شقرة لبيت قاله، وهو: وقد أحمل الرّمح الأصمّ كعوبه ... به من دماء القوم كالشّقرات والشقرات: هي شقائق النعمان، شبه الدماء بها في حمرتها. ومن بني شقرة: المسيّب بن شريك الفقيه، ونصر بن حرب بن مخرمة. ومن عمرو بن تميم: أسيّد بن عمرو بن تميم، ومنهم أكثم بن صيفي حكيم العرب، وأبو هالة زوج خديجة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، وأوس بن حجر الأسيدي الشاعر، وحنظلة ابن الربيع صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام الذي يقال له حنظلة الكاتب. بنو العنبر بن عمرو بن تميم منهم سوّار بن عبد الله القاضي، وعبيد الله بن الحسن القاضي، وعامر بن قيس الزاهر. ومنهم: بنو دغة بنت مغنج التي يقال فيها: «أحمق من دغة» ؛ وهي من إياد ابن نزار تزوجها عمرو بن جندب بن العنبر، فولدت له بني الهجيم بن عمرو بن تميم، ويقال لهم الحبال. بنو مازن بن عمرو بن تميم، منهم: عباد بن أخضر، وحاجب بن ذبيان الذي يعرف بحاجب الفيل، ومالك بن الرّيب الشاعر؛ ومنهم: قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة، وسلم وأخوه هلال بن أحوز. الحبطات وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم، وذلك أنّ أباهم الحارث أكل طعاما فحبط منه، أي ورم بطنه. منهم: عباد بن الحصين من فرسان العرب، كان على شرطة مصعب بن الزبير.

غيلان وأسلم وحرماز بنو مالك بن عمرو بن تميم

غيلان وأسلم وحرماز بنو مالك بن عمرو بن تميم فمن بني غيلان. أبو الجرباء، شهد يوم الجمل مع عائشة، وقتل يومئذ. ومن بني حرماز: سمرة بن يزيد. كان من رجال البصرة في أول ما نزلها الناس. بنو سعد بن زيد مناة بن تميم الأبناء، وهم ستة من ولد سعد بن زيد مناة، يقال لهم: عبد شمس، ومالك وعوف، وعوافة، وجشم، وكعب. فبنو سعد بن زيد مناة، وأولاد كعب بن سعد، يسمّون مقاعس والأجارب إلا عمرا وعوفا ابني كعب. فمن بني عبد شمس بن سعد: تميلة بن مرة صاحب شرطة إبراهيم بن عبد الله ابن الحسن. وإياس بن قتادة، حامل الديات في حرب الأزد لتميم- وهو ابن أخت الأحنف بن قيس- وعبدة بن الطبيب الشاعر. وحمّان، وهو عبد العزيء بن كعب ابن سعد. الأجارب هم بطنان في سعد، وهم: ربيعة بن كعب بن سعد، وبنو الأعرج كعب بن سعد. وفيهم يقول أحمر بن جندل: ذودا قليلا تلحق الحلائب ... يلحقنا حمّان والأجارب «1» فمن بني الأجارب: حارثة بن قدامة، صاحب شرطة علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وعمرو بن جرموز، قاتل الزبير بن العوام. مقاعس: هو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد. ومن أفخاذ مقاعس: منقر بن

بنو عطارد بن عوف ابن كعب بن سعد

عبيد بن مقاعس؛ منهم قيس بن عاصم سيد الوبر، وعمرو بن الأهتم، وخالد بن صفوان بن عمرو بن الأهتم، وشبيب بن شيبة بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم. ومن بني عبيد بن مقاعس، وهم إخوة منقر: الأحنف بن قيس؛ وسلامة بن جندل، والسّليك بن سلكة رجليّ العرب، ويقال له الرئبال، كان يغير وحده. ومنهم عبد الله بن صفّار الذي تنسب إليه الصّفرية. وعبد الله بن إباض الذي تنسب إليه الإباضية. فهذه مقاعس وجماهيرها. بنو عطارد بن عوف ابن كعب بن سعد منهم: كرب بن صفوان بن حباب. صاحب الإفاضة، إفاضة الحاج يدفع بهم من عرفات، وله يقول أوس بن مغراء: ولا يريمون في التّعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا قريع بن عوف ابن كعب بن سعد منهم الأضبط بن قريع رئيس تميم يوم ميط، وبنو لأي بن أنف الناقة الذين مدحهم الحطيئة، فقال فيهم. قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف النّاقة الذّنبا ومنهم أوس بن مغراء الشاعر. وهذا أشرف بطن في تميم. بهدلة بن عوف ابن كعب بن سعد منهم الزبرقان بن بدر، واسمه حصين. ومنهم الأحيمر بن خلف بن بهدلة، صاحب بردي محرّق، والذي يقول فيه الفرزدق:

جشم بن عوف بن كعب بن سعد

فيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس النهد جشم بن عوف بن كعب بن سعد يقال لبنى جشم وعطارد وبهدلة: الجذاع. حنظلة بن مالك الأحمق بن زيد مناة البراجم خمسة من بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة وهم: غالب، وعمرو، وقيس، وكلفة، وظليم، بنو حنظلة بن مالك الأحمق بن زيد مناة بن تميم. منهم عميرة بن ضابيء الذي قتله الحجاج. يربوع بن حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم من ولده رياح بن يربوع بن حنظلة. منهم: عتّاب بن ورقاء الرياحي والى أصبهان وأحد أجواد الإسلام، ومطر بن ناجية الذي غلب على الكوفة أيام ابن الأشعث. وسحيم بن وثيل الشاعر. والحارث بن يزيد، صاحب الحسن بن علي. وأبو الهنديّ الشاعر، واسمه أزهر بن عبد العزيز؛ ومعقل بن قيس صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأبيرد بن قرة. غدانة بن يربوع، منهم: وكيع بن أبي سود، وحارثة بن بدر وكان فارسا شاعرا. ثعلبة بن يربوع، منهم مالك ومتّمم ابنا نويرة، وعتيبة بن الحارث بن شهاب الذي يقال صيّاد الفوارس. وبنو سليط بن يربوع، منهم: المساور بن رئاب. كليب بن يربوع، منهم: جرير بن الخطفي الشاعر. العنبر بن يربوع، منهم: سجاع بنت أوس التي تنبأت في تميم.

زيد بن مالك، وكعب الضرّاء بن مالك، ويربوع بن مالك بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة: أمهم العدوية، وبها يعرفون. يقال لهم بنو العدوية. طهية، وهم بنو أبي سود بن مالك، وعوف بن مالك. أمهم طهية بها يعرفون، ويقال لبني طهية وبني العدوية: الجمار. ومن بني طهية بنو شيطان. ومنهم دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم؛ فولد دارم بن مالك: عبد الله، ومجاشع، وسدوس، وخيبري، ونهشل، وجرير وأبان ومناف. فمن ولد عبد الله بن دارم: حاجب بن زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم. وهلال بن وكيع بن بشر، وهو بيت بني تميم وصاحب القوس. ومحمد بن جبير بن عطارد. مجاشع بن دارم. منهم: الفرزدق الشاعر، والأقرع بن حابس، وأعين بن ضبيعة ابن عقال، والحتات بن يزيد، والحارث بن شريح بن زيد صاحب خراسان، والبعيث الشاعر- واسمه خداش بن بشر- والأصبغ بن نباتة، صاحب علي. نهشل بن دارم. منهم: خازم بن خزيمة قائد الرشيد، وعباس بن مسعود الذي مدحه الحطيئة، وكثيّر عزة الشاعر، والأسود بن يعفر الشاعر. أبان بن دارم. منهم: سورة بن بحر- كان فارسا- صاحب خراسان، وذو الحزق بن شريح الشاعر. سدوس بن دارم، وهؤلاء قد بادوا. وربيعة بن مالك بن زيد مناة، وربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وربيعة ابن مالك بن حنظلة: يقال لهم: الربائع. فمن ربيعة بن حنظلة: أبو بلال الخارجي، واسمه مرداس بن جدير. ومن ربيعة بن مالك بن زيد مناة: علقمة بن عبدة الشاعر، وأخوه شأس.

بطون قيس وجماهيرها

ومن ربيعة بن مالك بن حنظلة: الحنيف بن السّجف. جشيش بن مالك- وأمه حطّى، على مثال حبلى، وبها يعرفون- منهم: حصين ابن تميم الذي كان على شرطة عبيد الله بن زياد. ويقال لجشيش وربيعة ودارم وكعب بني مالك بن حنظلة بن مالك: الخشاب. انقضى نسب الرباب وضبة ومزينة وتميم. بطون قيس وجماهيرها نسب قيس بن عيلان بن مضر، قيس بن الناس، وهو عيلان بن مضر. فمن بطون قيس: عدوان وفهم ابنا عمرو بن قيس بن عيلان، وأمهما جديلة. بنت مدركة بن اليأس بن مضر، نسبوا إليها. فمن عدوان: عامر بن الظرب حكم العرب بعكاظ، ومنهم أبو سيارة، وهو عميلة بن الأعزل. ومنهم تأبط شراّ، وهو ثابت بن عميثل. غطفان بن قيس عيلان- وأعصر بن سعد بن قيس بن عيلان. فمن بطون غطفان: أشجع بن ريث بن غطفان، وأشجع بن ريث بن غطفان؛ منهم: نصر بن دهمان. وكان من المعمّرين، عاش مائتي سنة، ومنهم فروة بن نوفل. عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، وهي إحدى جمرات العرب، منهم: زهير ابن جذيمة، كان سيد عبس كلها حتى قتله خالد بن جعفر الكلابي؛ وابنه قيس بن زهير فارس داحس؛ وعنترة الفوارس؛ والحطيئة؛ وعروة بن الورد؛ والربيع بن زياد، وإخوته الذين يقال لهم الكملة؛ ومروان بن زنباع الذي يقال له مروان القرظ، وخالد بن سنان الذي ضيّعه قومه. ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. منهم: فزارة بن ذبيان بن بغيض، وفيهم الشرف؛ ومنهم حذيفة بن بدر؛ ومنهم منظور بن زيّان بن سيار، وعمر ابن هبيرة، وعديّ بن أرطاة. مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان؛ منهم هرم بن سنان المرّي الجواد الذي كان

باهلة

يمدحه زهير؛ ومنهم زياد النابغة الشاعر؛ ومنهم الحارث بن ظالم الذي يقال فيه «أمنع من الحارث» ؛ ومنهم: شبيب بن البرصاء، وأرطاة بن سهيّة، وعقيل بن علّفة المرّي، وابن ميّادة الشاعر، ومسلم بن عقبة صاحب الحرة، وعثمان بن حيان، وهاشم بن حرملة. الذي يقول فيه الشاعر: أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يقتل ذا الذّنب ومن لا ذنب له والشماخ الشاعر، وأخوه مزرّد. ابنا ضرار. ومن بطون أعصر: غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن الناس بن مضر. منهم طفيل الخيل. وقد ربع غنيّا ومنهم: مرثد بن أبي مرثد، شهد بدرا. باهلة هم بنو معن بن أعصر، نسبوا إلى أمهم باهلة، وهم: قتيبة ووائل وأود وجأوة، أمهم باهلة، وبها يعرفون، منهم: حاتم بن النعمان. وقتيبة بن مسلم، وأبو أمامة صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسلمان بن ربيعة، ولّاه أبو بكر الصديق، وزيد بن الحباب. بنو الطفاوة بن أعصر وهم: ثعلبة وعامر ومعاوية: أمهم الطفاوة وإليها ينسبون، وهم إخوة غنىّ ابن أعصر: فهذه غطفان. بنو خصفة بن قيس بن عيلان محارب بن زياد بن خصفة بن قيس بن عيلان، منهم الحكم بن منيع الشاعر، وبقيع بن صفّار الشاعر الذي كان يهاجي الأخطل. وولد محارب: ذهل وغنم؛ وهم الأبناء؛ والخضر، وهم بنو مالك بن محارب. سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة. منهم: العباس بن مرداس، كان فارسا

بنو ذكوان وبهز وبهثة بنو سليم

شاعرا، وهو من المؤلّفة قلوبهم؛ والفجاءة الذي أحرقه أبو بكر في الردة. ومنهم: صخر ومعاوية. ابنا عمرو بن الحارث بن الشّريد، وهما أخوا خنساء؛ وخفاف بن عمير الشاعر، ونبيشة بن حبيب قاتل ربيعة بن مكدم، ومجاشع بن مسعود من أهل البصرة، وعبد الله بن خازم صاحب خراسان. بنو ذكوان وبهز وبهثة بنو سليم منهم: أبو الأعور السّلمي صاحب معاوية، وعمير بن الحباب قائد قيس، والجحّاف بن حكيم. فهذه بطون سليم ومحارب. قبائل هوازن هم هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. منهم سعد بن بكر بن هوازن، وفيهم استرضع النبي صلّى الله عليه وسلم ومنهم نصر بن معاوية ابن بكر بن هوازن- منهم مالك بن عوف النّصري قائد المشركين يوم حنين. جشم بن معاوية بن بكر، منهم: دريد بن الصّمّة فارس العرب. ثقيف، وهو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن. منهم: مسعود بن معتب، والمختار ابن أبي عبيد. ومنهم: عروة بن مسعود عظيم القريتين، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن أم الحكم. عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن فمن بطون عامر: بنو هلال بن عامر بن صعصعة، منهم: ميمونة زوج النبي عليه الصلاة والسّلام، ومنهم عاصم بن عبد الله صاحب خراسان، وحميد بن ثور الشاعر، وعمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر فارس الضّحياء؛ ومن ولده خالد وحرملة ابنا هوذة، صحبا النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وخداش بن زهير. نمير بن عامر بن صعصعة. منهم: الراعي الشاعر، وهو عبيد بن حصين، وهمام بن

بنو كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة

قبيصة، وشريك بن خباشة الذي دخل الجنة في الدنيا في أيام عمر بن الخطاب. بنو كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهم ستة بطون، منهم عقيل بن كعب، رهط توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية. منهم: بنو المنتفق. بنو الحريش بن كعب، رهط سعيد بن عمر، ولي خراسان، وهو صاحب رأس خاقان. بنو العجلان بن كعب رهط تميم بن مقبل الشاعر. ومنهم بنو قشير بن كعب، رهط مالك بن سلمة الذي أسر حاجب بن زرارة. ومنهم: بنو جعدة بن كعب، رهط النابغة الجعدي، وهو أبو ليلى؛ فهذه بطون كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومن أفخاذ ربيعة بن عامر بن صعصعة: كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ منهم المحلّق بن حنتم بن شدّاد. ومنهم زفر بن الحارث الكلابي، ويزيد بن الصّعق، ووكيع بن الجرّاح الفقيه. جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، منهم الطّفيل. فارس قرزل، وعامر بن الطّفيل، وعلقمة بن علاثة، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة. الضّباب بن كلاب، منهم: شمر بن ذي الجوشن. هؤلاء بنو عامر بن صعصعة. بنو سلول هم بنو مرة بن صعصعة، نسبوا إلى أمهم سلول. غاضرة، وهم غالب بن صعصعة، ومالك، وربيعة، وغويضرة، وحارث،

نسب ربيعة بن نزار

وعبد الله،- وهما عادية- وعوف، وقيس، ومساور، وسيّار، وهو غزيّة. لوذان، وجحوش، وجحّاش، وعوف؛ وهم الوقعة، بنو معاوية بن بكر بن هوازن. بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، يقال لهم: الأبناء. هذا آخر نسب مضر بن نزار. نسب ربيعة بن نزار ولد ربيعة بن نزار: أسد، وضبيعة، وعائشة، وهم باليمن في مراد، وعمرو، وعامر، وأكلب؛ وهم رهط أنس بن مدرك. فمن قبائل ربيعة: نزار. ضبيعة بن ربيعة بن نزار- وفيهم كان بيت ربيعة وشرفها. ومنهم الحارث الأضجم، حكم ربيعة في زهرة، وفيه يقول الشاعر: قلوص الظلامة من وائل ... تردّ إلى الحارث الأضجم «1» فمهما يشأ يأت منه السّداد ... ومهما يشأ منهم يهضم «2» ومنهم المتلمّس، وهو جرير بن عبد المسيح الشاعر، صاحب طرفة بن العبد. الذي يقول فيه: أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حمامه المتلّمس «3» ومنهم المسيّب بن علس الشاعر. ومنهم المرقّش الأكبر والمرقّش الأصغر. وكان المرقش الأكبر عمّ المرقش الأصغر، والمرقش الأصغر عم طرفة بن العبد بن سفيان ابن سعد بن مالك بن ضبيعة.

فمن يذكر: بنو جلّان بن عتيك بن أسلم بن يذكر، وبنو هزّان بن صباح بن عتيك ابن أسلم بن يذكر، وبنو الدول بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر، وهم الذين أسروا حاتم طيء وكعب بن مامة والحارث بن ظالم؛ وفي ذلك يقول الحارث بن ظالم: أبلغ سراة بني غيظ مغلغلة ... أني أقسم في هزّان أرباعا «1» ومنهم كدام بن حيان من بني هميم، وكان من خيار التابعين، وكان من خيار أصحاب عليّ، ولهما يقول عبد الله بن خليقة: يا أخويّ من هميم هديتما ... ويسّرتما للصالحات فأبشرا ومن بني يقدم عنزة، سيد بني بغيض الشاعر، وعمران بن عصان الذي قتله الحجاج بدير الجماجم. عبد القيس بن أفصى بن دغمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة. ولد لعبد القيس: أفصى والّلبؤ. وولد لأفصى: عبد القيس وشن ولكيز. الّلبؤ بن عبد القيس: منهم رئاب بن زيد بن عمرو بن جابر بن ضبيب، كان ممن وحّد الله في الجاهلية، وسأل عنه النبي صلّى الله عليه وسلم وفد عبد القيس، وكان يسقي قبر كل من مات من ولده. وفي ذلك يقول الحجين بن عبد الله: ومنّا الذي بالبعث يعرف نسله ... إذا مات منهم ميّت جيد بالقطر رئاب وأنى للبريّة كلّها ... بمثل رئاب حين يخطر بالسّمر «2» لكيز بن عبد القيس، منهم بنو نكرة بن لكيز بن عبد القيس. منهم الممزّق الشاعر، وهو شأس بن نهار بن أسرج الذي يقول: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق وصباح بن لكيز. منهم: كعب بن عامر بن مالك، وكان ممن وفد على النبي عليه الصلاة والسّلام.

النمر بن قاسط

وبنو غنم بن وديعة بن لكيز، منهم حكيم بن جبلة صاحب عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه. وفيه يقول: دعا حكيم دعوة سميعه ... نال بها المنزلة الرّفيعه وبنو جذيمة بن عوف بن بكر بن أنمار بن وديعة بن لكيز، منهم الجارود العبدي، وهو بشر بن عمرو. وعصر بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن وديعة بن لكيز، منهم: عمرو بن مرجوم الذي يمدحه المتلمّس. وبنو حطمة بن محارب بن عمرو بن أنمار بن وديعة بن لكيز، إليهم تنسب الدروع الحطمية. وعامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن أنمار بن وديعة بن لكيز، منهم مهزم بن الفزر، الذي يقول فيه الحرمازي: يحملن بالموماة بحرا يجري ... العامر بن المهزم بن الفزر «1» العمور من عبد قيس: الدّيل وعجل ومحارب، بنو عمرو بن وديعة بن لكيز. فمن بني الدّيل: سحيم بن عبد الله بن الحارث، كان أحد السبعة الذين عبروا الدجلة مع سعد بن أبي وقاص. ومن بني محارب: عبد الله بن همّام بن امريء القيس بن ربيعة، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم. ومن بني عجل: صعصعة بن صوحان، وزيد بن صوحان؛ من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهذه عبد القيس وبطونها وجماهيرها. النمر بن قاسط النمر بن قاسط بن هنّب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن

تغلب بن وائل

نزار. فمن ولد النمر بن قاسط: تيم الله، وأوس مناة، وعبد مناة، وقاسط، ومنبّه، بنو النمر بن قاسط. أوس مناة بن النمر، منهم صهيب بن سنان بن مالك، صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. كان أصابه سباء في الروم ثم وافوا به الموسم فاشتراه عبد الله بن جدعان فأعتقه؛ وقد كان النعمان بن المنذر استعمل أباه سنانا على الأبلّة. ومنهم: حمران بن أبان، الذي يقال له مولى عثمان بن عفان. ومن تيم الله: الضّحيان بن النمر، وهو رئيس ربيعة قبل بني شيبان، وإنما سمي الضّحيان لأنه كان يجلس لهم وقت الضحى فيقضي بينهم، وقد ربع ربيعة أربعين سنة. وأخوه عوف بن سعد، ومن ولده ابن القريّة البليغ، واسمه أيوب بن زيد، وكان خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجّاج. ومنهم ابن الكيّس النّسابة، وهو عبيد بن مالك بن شراحيل بن الكيّس. فهذا النمر بن القاسط. تغلب بن وائل تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. فمن بطون تغلب: الأراقم، وهم: جشم، وعمرو، وثعلبة ومعاوية، والحارث، بنو بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب؛ وإنما سموا الأراقم لأن عيونهم كعيون الأراقم. ومن بطون تغلب: كليب وائل الذي يقال فيه: «أعز من كليب وائل» وهو كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم؛ وأخوه مهلهل بن ربيعة. ومن بني كنانة بن تيم بن أسامة: إياس بن عينان بن عمرو بن معاوية، قاتل عمير ابن الحباب، وله يقول زفر بن الحارث: ألا يا كلب غيرك أرجفوني ... وقد ألصقت خدّك بالتّراب «1»

ألا يا كلب فانتشري وسحّي ... فقد أودى عمير بن الحباب «1» رماح بني كنانة أقصدتني ... رماح في أعاليها اضطراب «2» ومن بني حارثة بن ثعلبة بن بكر بن حبيب: الهذيل بن هبيرة، وهو الذي تقول فيه نهيشة بنت الجراح البهراني تعيّر قضاعة: إذا ما معشر شربوا مداما ... فلا شربت قضاعة غير بول فإمّا أن تقودوا الخيل شعثا ... وإمّا أن تدينوا للهذيل «3» وتتّخذوه كالنّعمان ربا ... وتعطوه خراج بني الدّميل الدّميل: ابن لخم. ومن عدي بن معاوية بن غنم بن تغلب: فارس العصا، وهو الأخنس ابن شهاب. ومن بني الفدوكس بن عمرو بن الحارث بن جشم: الأخطل الشاعر النصراني ومنهم: قبيصة بن والق، له هجرة، قتله شبيب الحروريّ، وكان جوادا كريما، فقال شبيب حين قتله: هذا أعظم أهل الكوفة جفنة! قال له أصحابه: أتطري المنافقين؟ فقال: إن كان منافقا في دينه فقد كان شريفا في دنياه. ومن الأوس بن تغلب: كعب بن جعيل. الذي يقول فيه جرير: وسمّيت كعبا بشرّ العظام ... وكان أبوك يسمّى الجعل «4» وكان محلّك من وائل ... محلّ القراد من است الجمل «5» فهذه تغلب، ليس لها بطون ينسب إليها كما ينسب إلى بطون بكر بن وائل، لأن بكرا جمجمة، وتغلب غير جمجمة.

بكر بن وائل

بكر بن وائل القبائل من بكر بن وائل: يشكر بن بكر بن وائل، وعجل، وحنيفة- ابنا لجيم ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل-، وشيبان وذهل وقيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل وأمهم البرشاء من تغلب. يشكر بن بكر منهم الحارث بن حلّزة الشاعر، ومنهم شهاب بن مذعور بن حلّزة، وكان من علماء الأنساب؛ ومنهم سويد بن أبي كاهل الشاعر. عجل بن لجيم منهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار، كان سيّد بني عجل يوم ذي قار؛ ومنهم الفرات ابن حيّان، له صحبة مع النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ومنهم إدريس بن معقل جدّ أبي دلف؛ ومنهم شبابة بن المعتمر بن لقيط، صاحب الدّيوان؛ ومنهم الأغلب الراجز؛ ومنهم أبجر بن جابر بن شريك، وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. حنيفة بن لجيم ولد له الدّيل، وعدي وعامر. فمن بني الدّيل بن حنيفة: قتادة بن مسلمة، كان سيدا شريفا؛ ومنهم ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة، ومنهم: هوذة بن علي بن ثمامة، الذي يقول فيه أعشى بكر: من ير هوذة يسجد غير متّئد «1» ... إذا تعصّب فوق التاج أو وضعا «2» ومن بني الديل بن حنيفة: شمر بن عمرو، الذي قتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ؛ ومنهم بنو هفّان بن الحارث بن ذهل بن الديل، وبنو عبيد بن ثعلبة، ويربوع

شيبان بن ثعلبة بن عكابة

ابن ثعلبة بن الديل. وبنو أبي ربيعة في شيبان، سيدهم هانيء بن قبيصة. شيبان بن ثعلبة بن عكابة منهم جسّاس بن مرة بن ذهل بن شيبان، قاتل كليب بن وائل: وهمام بن مرة بن ذهل بن شيبان؛ وقيس بن مسعود بن قيس بن خالد، وهو ذو الجدّين، وابنه بسطام ابن قيس، فارس بني شيبان في الجاهلية، وقد ربع الذّهلين واللهازم اثني عشر مرباعا ومنهم: هانيء بن قبيصة بن هانيء بن مسعود بن المزدلف عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان، الذي أجار عيال النعمان بن المنذر وماله عن كسرى، وبسببه كانت وقعة ذي قار، ومنهم مصقلة بن هبيرة، كان سيدا شريفا، وفيه يقول الفرزدق: وبيت أبي قابوس مصقلة الذي ... بنى بيت مجد اسمه غير زائل وفيه يقول الأخطل: دع المغمّر لا تقتل بمصرعه ... وسل بمصقلة البكريّ ما فعلا بمتلف ومفيد لا يمنّ ولا ... يعنّف النفس فيما فاته عذلا إنّ ربيعة لا تنفكّ صالحة ... ما دافع الله عن حوبائك الأجلا «1» ومن ذهل بن شيبان: عوف بن محلّم الذي يقال فيه: «لا حرّ بوادي عوف» والضحاك بن قيس الخارجي، والمثنّى بن حارثة، ويزيد بن رزيم؛ ومنهم الغضبان بن القبعثري، ويزيد بن مسهر أبو ثابت، الذي ذكره الأعشى؛ والحوفزان، وهو الحارث بن شريك، ومطر بن شريك؛ ومن ولده: معن بن زائدة؛ وشبيب الحروري. ذهل بن ثعلبة بن عكابة منهم: الحارث بن وعلة، وكان سيدا شريفا، ومن ولده: الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة صاحب راية ربيعة بصفّين مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى

قيس بن ثعلبة بن عكابة

عنه، وله يقول علي: لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما ومنهم القعقاع بن شور بن النعمان، كان شريفا؛ ومنهم دغفل بن حنظلة العلّامة، كان أعلم أهل زمانه. وهؤلاء من بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، أمهم رقاش، وإليها ينسبون، ومنها يقال: الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرّقاشي. قيس بن ثعلبة بن عكابة منهم الحارث بن عباد بن ضبيعة بن ثعلبة بن حارثة؛ كان على جماعة بكر ابن وائل يوم قضّة، فأسر مهلهل بن ربيعة وهو لا يعرفه فخلّى سبيله. ومنهم: مالك بن مسمع بن شيبان بن ثعلبة، يكنى أبا غسان. ومنهم الأعشى، أعشى بكر، وهو من بني تيم اللّات من قيس بن ثعلبة بن عكابة؛ ومن بني تيم اللات أيضا: مطر بن فضّه، وهو الجعد بن قيس، كان شريفا سيدا، وهو الذي أسر خاقان الفارسي بالقادسية، ومن ولده عبيد الله بن زياد بن ظبيان. سدوس من شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة، منهم: خالد بن المعمّر ومجزأة بن ثور، وأخوه شقيق بن ثور، وابن أخيه سويد بن منجوف بن ثور، وعمران بن حطّان. اللهازم وهم: عنزة بن أسد بن ربيعة؛ وعجل بن لجيم. وتيم الله. وقيس بنا ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل، وهم حلفاء. والذهلان: شيبان وذهل، ابنا ثعلبة بن عكابة. وأم عجل بن لجيم يقال لها حذام، وفيها يقول لجيم:

القبائل المشتبهة

ألا أبلغ بني الطّمّاح عنا ... ودعمياّ فكيف وجدتمونا وولد زهر بن إياد حذافة، رهط أبي دواد الشاعر. وأما أنمار بن نزار بن معد، فلا عقب له إلا ما يقال في بجيلة وخثعم، فإنه يقال إنهما ابنا أنمار بن نزار، وتأبى ذلك بجيلة وخثعم ويقولون: إنما تزوّج إراش بن عمرو بن الغوث ابن أخي الأزد بن الغوث، سلامة بنت أنمار، فولدت له أنمار بن إراش، فنحن ولده. وقال حسان بن ثابت؛ ولدنا بني العنقاء وابن محرّق أراد بالعنقاء: ثعلبة بن عمرو مزيقياء، سمّي بالعنقاء لطول عنقه؛ ومحرّق هو الحارث بن عمرو مزيقياء، وكان أول الملوك أحرق الناس بالنار؛ والولادة التي ذكرها حسان، أن هندا بنت الخزرج بن حارثة كانت عند العنقاء، فولدت له ولده كلهم؛ وكانت أختها عند الحارث بن عمرو. فولدت له أيضا. انقضى نسب بني نزار بن معد. القبائل المشتبهة الدّئل في كنانة؛ والدئل بن حنيفة في بكر بن وائل، منهم: قتادة بن سلمة، وهوذة بن علي، صاحب التاج الذي يمدحه أعشى بكر بن وائل. سدوس؛ في ربيعة، وهو سدوس بن شيبان بن بكر بن وائل، منهم: سويد بن منجوف؛ وسدوس، مرفوعة السين، في تميم، وهو سدوس بن دارم. محارب بن فهر بن مالك في قريش؛ ومحارب بن خفصة في قيس؛ ومحارب بن عمرو بن وديعة في عبد القيس. غاضرة في بني صعصعة بن معاوية؛ وغاضرة في ثقيف. تيم بن مرة في قريش رهط أبي بكر، تيم بن غالب بن فهر في قريش أيضا، وهم

بنو الأدرم؛ وتيم بن عبد مناة بن أد بن طابخة في مضر؛ وتيم بن ذهل في ضبة؛ وتيم في قيس بن ثعلبة؛ وتيم في شيبان. تيم الله بن ثعلبة بن عكابة؛ وفي النمر بن قاسط، وتيم الله في ضبة. كلاب بن مرة في قريش، وكلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة في قيس. عدي بن كعب من قريش، رهط عمر بن الخطاب؛ وعدي بن عبد مناة من الرّباب، رهط ذي الرّمة؛ وعدي في فزارة؛ وعدي في بني حنيفة. ذهل بن ثعلبة بن عكابة؛ وذهل بن شيبان؛ وذهل بن مالك في ضبّة. ضبيعة في ضبة؛ وضبيعة في عجل؛ وضبيعة في قيس بن ثعلبة، وهم رهط الأعشى. مازن في تيم؛ ومازن في قيس عيلان، وهم رهط عتبة بن غزوان؛ ومازن في صعصعة بن معاوية؛ ومازن في شيبان. سهم في قريش؛ وسهم في باهلة. سعد بن ذبيان؛ وسعد في بكر في هوازن، أظآر «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وسعد في عجل؛ وسعد بن زيد مناة في تميم. جشم في معاوية بن بكر، وجشم في ثقيف، وجشم في الأراقم. بنو ضمرة في كنانة، وبنو ضمرة في قشير. دودان في بني أسد، ودودان في بني كلاب. سليم في قيس عيلان، وسليم في جذام من اليمن. جديلة في ربيعة، وجديلة في طيء، وجديلة في قيس عيلان. الخزرج في الأنصار، والخزرج في النمر بن قاسط. وأسد بن خزيمة بن مدركة، وأسد بن ربيعة بن نزار. شقرة في ضبة، وشقرة في تميم.

مفاخرة ربيعة

ربيعة: ربيعة الكبرى، وهو ربيعة بن مالك بن زيد مناة، ويلقب ربيعة الجوع، وربيعة الوسطى، وهو ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة؛ وربيعة الصغرى، وهو ربيعة بن مالك بن حنظلة. وكل واحد منهم عم الآخر. مفاخرة ربيعة قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه؛ خبّروني عن حيّ من أحياء العرب فيهم أشد الناس، وأسخى الناس، وأخطب الناس، وأطوع الناس في قومه، وأحلم الناس، وأحضرهم جوابا. قالوا: يا أمير المؤمنين، ما نعرف هذه القبيلة، ولكن ينبغي لها أن تكون في قريش. قال: لا. قالوا: ففي حمير وملوكها. قال: لا. قالوا: ففي مضر. قال: لا. قال مصقلة بن رقيّة العبدي: فهي إذا في ربيعة ونحن هم. قال: نعم. قال جلساؤه: ما نعرف هذا في عبد القيس إلا أن تخبرنا به يا أمير المؤمنين. قال: نعم؛ أما أشد الناس فحكيم بن جبل، كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقطعت ساقه فضمّها إليه حتى مر به الذي قطعها فرماه بها فجدله عن دابته، ثم جثا إليه فقتله واتكأ عليه، فمر به الناس فقالوا له: يا حكيم، من قطع ساقك؟ قال: وسادي هذا. وأنشأ يقول: يا ساق لا تراعي إن معي ذراعي أحمي بها كراعي «1» وأما أسخى الناس، فعبد الله بن سوّار، استعمله معاوية على السند، فسار إليها في أربعة آلاف من الجند، وكانت توقد معه نار حيثما سار، فيطعم الناس؛ فبينما هو ذات يوم إذ أبصر نارا، فقال: ما هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، اعتل بعض أصحابنا فاشتهى خبيصا فعملنا له. فأمر خبازه أن لا يطعم الناس إلا الخبيص، حتى صاحوا وقالوا: أصلح الله الأمير، ردّنا إلى الخبز واللحم! فسمي مطعم الخبيص. وأما أطوع الناس في قومه، فالجارود بشر بن العلاء؛ إنه لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وارتدت العرب، خطب قومه فقال: أيها الناس، إن كان محمد قد مات فإن الله حيّ

جمرات العرب

لا يموت؛ فاستمسكوا بدينكم، فمن ذهب له في هذه الرّدّة دينار أو درهم أو بعير أو شاة فله عليّ مثلاه! فما خالفه منهم رجل. أما أحضر الناس جوابا فصعصعة بن صوحان، دخل على معاوية في وفد أهل العراق، فقال معاوية: مرحبا بكم يأهل العراق! قدمتم أرض الله المقدسة؛ منها المنشر وإليها المحشر، قدمتم على خير أمير، يبرّ كبيركم ويرحم صغيركم؛ ولو أن الناس كلها ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء! فأشار الناس إلى صعصعة، فقام فحمد الله وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أما قولك يا معاوية إنا قدمنا الأرض المقدّسة: فلعمري ما الأرض تقدس الناس، ولا يقدّس الناس إلا أعمالهم؛ وأما قولك منها المنشر وإليها لمحشر، فلعمري ما ينفع قربها ولا يضر بعدها مؤمنا؛ وأما قولك لو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء، فقد ولدهم خير من أبي سفيان: آدم صلوات الله عليه؛ فمنهم الحليم والسفيه، والجاهل والعالم. وأما أحلم الناس [فالأشجّ العبديّ] ، فإن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم بصدقاتهم وفيهم الأشج، ففرّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو أول عطاء فرقه في أصحابه؛ ثم قال: يا أشج، ادن مني. فدنا منه، فقال: إن فيك خلتين يحبهما الله: الأناة، والحلم! وكفى برسول الله صلّى الله عليه وسلم شاهدا؛ ويقال: إنّ الأشج لم يغضب قط. جمرات العرب وهم بنو نمير بن عامر بن صعصعة؛ وبنو الحارث بن كعب بن علة بن جلد؛ وبنو ضبة بن أدّ بن طابخة؛ وبنو عبس بن بغيض. وإنما قيل لهذه القبائل جمرات لأنها تجمعت في أنفسها ولم يدخلوا معهم غيرهم. والتجمير: التجميع؛ ومنه قيل: جمرة العقبة، لاجتماع الحصى فيها؛ ومنه قيل: لا تجمّروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم. يعني: لا تجمعوهم في المغازي. وأبو عبيدة قال في كتاب التاج أطفئت جمرتان من جمرات العرب: بنو ضبة لأنها

أنساب اليمن

صارت إلى الرّباب فحالفتها؛ وبنو الحارث؛ لأنها صارت إلى مذحج فحالفتها؛ وبقيت بنو نمير إلى الساعة لم تحالف ولم يدخل بينها أحد. وقال شاعرهم يرد على جرير: نمير جمرة العرب التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا وإني إذ أسبّ بها كليبا ... فتحت عليهم للخسف بابا فلولا أن يقال هجا نميرا ... ولم نسمع لشاعرها جوابا رغبنا عن هجاء بني كليب ... وكيف يشاتم الناس الكلابا أنساب اليمن قحطان بن عابر- وعابر. هو هود النبي صلّى الله عليه وسلم- ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام ابن نوح عليه السّلام بن لمك بن متّوشلخ بن أخنوخ- وهو إدريس النبي عليه السّلام- ابن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث- وهو هبة الله- ابن آدم أبي البشر صلّى الله عليه وسلم. فولد قحطان: يعرب- وهو المرعف- وسبأ، والمسلف، والمرداد، وودقلي، وتكلا، وأبيمال، وعوبال، وأزال، وهدورام، وهو جرهم، وأوفير، وهويلا، وروح، وإرم، ونوبت؛ فهؤلاء ولد قحطان فيما ذكر عبد الله بن ملاذ. وقال الكلبي محمد بن السائب: ولد قحطان: المرعف- وهو يعرب-، ولأي، وجابر، والمتلمّس، والعاصي، والمتغشم، وعاصب، ومعوذ، وشيم، والقطامي، وظالم، والحارث، ونباتة. فهلك هؤلاء إلا ظالما، فإنه كان يغزو بالجيوش. وقال الكلبي: ولد قحطان أيضا: جرهما، وحضرموت. فمن أشراف حضر موت بن قحطان: الأسود بن كبير، وله يقول الأعشى قصيدته التي أولها؛ ما بكاء الكبير بالأطلال

حمير

ومنهم مسروق بن وائل، وفيه يقول الأعشى: قالت قتيلة: من مدحت فقلت: مسروق بن وائل فولد يعرب بن قحطان يشجب؛ وولد يشجب سبأ. وولد سبأ حميرا، وكهلان، وصيفيّا، وبشرا، ونصرا، وأفلح، وزيدان، والعود، ورهما، وعبد الله، ونعمان، ويشجب، وشدّادا، وربيعة، ومالكا، وزيدا. فيقال لبني سبإ كلهم: السّبئيون، إلا حميرا وكهلان. فإن القبائل قد تفرّقت منهما. فإذا سألت الرجل: ممن أنت؟ فقال: سبئي. فليس بحميري ولا كهلاني. حمير حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. فولد حمير بن سبأ: مالكا والهميسع، وزيدا، وأوسا، وعريبا، ووائلا، ودرميّا، وكهلان، وعميكرب، ومسروحا، ومرة. رهط معد يكرب بن النعمان القيل الذي كان بحضرموت. فمن بطون حمير: معدان بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب. وملحان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل، رهط عامر الشعبي الفقيه. وعداد بن ملحان: وشيبان في همدان. فمن كان منهم باليمن فهو حميري، ويقال له شيباني. ومن بطون حمير: شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. وإليه تنسب الرماح الشرعبية. ومن بطون حمير: الدرون، وقد يقال لهم الأذواء. وأيضا. رمدد، فمنهم: بنو فهد، وعبد كلال، وذو كلاع- وهو يزيد بن النعمان، وهو ذو كلاع الأكبر. يقال: تكلّع الشيء. إذا تجمّع- وذو رعين، وهو شراحيل بن عمرو القائل: فإن تك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين ذو أصبح: واسمه الحارث بن مالك بن زيد بن الغوث. وهو أول من عملت له

السياط الأصبحية. ومن ولده: أبرهة بن الصبّاح كان ملك تهامة، وأمه ريحانة بنت أبرهة الأشرم ملك الحبشة. وابنه أبو شمر، قتل مع عليّ بن أبي طالب يوم صفّين. وأبو رشد بن كرب بن أبرهة، كان سيد حمير بالشام زمن معاوية. ومنهم يزيد بن مفرّغ الشاعر. ذو يزن، واسمه عامر بن أسلم بن زيد بن الغوث بن قطن بن عريب ومنهم: النعمان بن قيس بن سيف بن ذي يزن الذي نفى الحبشة عن اليمن- وجاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه اشترى حلّة ببضع وعشرين قلوصا فأعطاها إلى ذي يزن- وإلى ذي يزن تنسب الرماح اليزنية. ذو جدن: وهو علس بن الحارث بن زيد بن الغوث، ومن ولده علقمة بن شراحيل. ذو قيفان الذي كانت له صمصامة عمرو بن معد يكرب، وقد ذكره عمرو في شعره حيث يقول: وسيف لابن ذي قيفان عندي ... تخيّر نصله من عهد عاد حضور بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية. وهم في همدان. فمن حضور: شعيب بن ذي مهزم، النبيّ الذي قتله قومه. فسلّط الله عليهم بختنصر فقتلهم، فلم يبق منهم أحد فاصطلت حضور؛ ويقال: فيهم نزلت: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ «1» فيقال إن قبر شعيب هذا النبي في جبل باليمن في حضور يقال له ضين، ليس باليمن جبل فيه ملح غيره، وفيه فاكهة الشام، ولا تمرّ به هامّة من الهام.

الأوزاع

الأوزاع وهم: مرثد بن زيد بن زرعة بن سبأ بن كعب، وهم في همدان إلّا جرش بن أسلم بن زيد بن الغوث، الأصغر بن أسعد بن عوف. شجيج بن عديّ بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو. وصيفي بن سبأ، الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن تبّع، وهو أسعد أبو كرب. التبابعة تبّع الأصغر أسعد أبو كرب، واسمه تبان بن ملكيكرب، وهو تبع الأكبر ابن قيس بن زيد بن عمرو، ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار. وتبع بن الرائش بن قيس بن صيفي. وملكيكرب تبع الأكبر، يكنى أبا مالك، وله يقول الاعشي: وخان الزمان أبا مالك ... وأيّ امرىء لم يخنه الزّمن ومن بني صيفي بن سبأ: بلقيس، وهي بلقمة بنت آل شرخ بن ذي جدن بن الحارث بن قيس بن سبأ الأصغر. ومنهم: حمير التبابعة. وهم تسعة، منهم تبع الأصغر، وتبع الأكبر؛ ومنهم المثامنة، وهم ثمانية رهط ولاة العهود بعد الملوك؛ وهم الثمامنة، أربعة آلاف؛ والقيل الذي يكلم الملك فيسمع كلامه ولا يكلم غيره؛ ومنهم أبو فريقيش بن قيس بن صيفي الذي افتتح إفريقية فسميت به، ويومئذ سميت البرابرة؛ وذلك أنهم قالوا إنه قال لهم: ما أكثر بربرتكم. قضاعة هو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير، واسم قضاعة: عمرو.

فمن قبائل قضاعة وبطونها وجماهيرها: كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة؛ وذلك أن وبرة ولد له: كلب، وأسد، ونمر، وذئب، وثعلب، وفهد، وضبع، ودب، وسيد، وسرحان. فمن أشراف كلب: الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، وهو الذي تزوّج عثمان بن عفان ابنته نائلة بنت الفرافصة؛ ومنهم زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة. ومن أسلافهم في الإسلام دحية بن خليفة الكلبي، وهو الذي كان جبريل عليه السلام ينزل في صورته. ومنهم حسان بن مالك بن جذيمة. ومن قضاعة: القين بن جسر بن شبع اللات بن أسد بن وبرة؛ فمن أشراف القين: دعج بن كثيف، وهو الذي أسر سنان بن حارثة المرّي؛ ومنهم نديما جذيمة، وهما مالك وعقيل ابنا فارج، ولهما يقول المنخّل: ألم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل ومنهم سعد بن أبي عمر وكان سيد بني القين ورئيسهم. ومن قضاعة: تنوخ، وهم ثلاثة أبطن: منهم بنو تيم الله بن أسد بن وبرة، ومنهم مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن ثعلبة بن مالك بن فهم، ومنهم أذينة الذي يقول فيه الأعشي: أزال أذينة عن ملكه ... وأخرج من قصره ذا يزن ومن بني قضاعة: جرم وهو عمرو بن علّاف بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وإلى علاف تنسب الرحال العلافية، وقال الشاعر: مجوف علافيّ ونطع ونمرق «1» ومن جرم: الرّعل بن عروة وكان شريفا، ومنهم عصام بن شهبر بن الحارث

وكان شاعرا شجاعا، وله يقول النابغة: فإنّي لا ألومك في دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام وله قيل: نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما وجعلته ملكا هماما ولجرم أربعة من الولد: قدامة، وجدة، وملكان، وناجية؛ فمن بني قدامة: كنانة ابن صريم الذي كان يهاجي عمرو بن معد يكرب، ووعلة بن عبد الله بن الحارث الذي قتل الحارث بن عبد المدان. ومنهم بنو شنّ، وهم باليمامة مع بني هزّان بن عنزة؛ ومنهم أبو قلابة الفقيه عبد الله بن زيد؛ والمساور بن سوار، ولي شرطة الكوفة لمحمد بن سليمان. ومن بني جدة بن جرم: بنو راسب، وهم بنو الخزرج بن جدة بن جرم. ومن قضاعة: سليح، وهو عمرو بن حلوان، بن عمران. ومن بني سعد بن سليح: الضّجاعمة الذين كانوا ملوك الشام قبل غسّان. ومن بني النمر بن وبرة خشين، منهم أبو ثعلبة الخشني صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم ومن بني النمر بن وبرة: غاضرة وعاتية ابنا سليم بن منصور. ومن بني أكثم بن النمر: مشجعة بن الغوث: منهم معاوية بن حجار، الذي يقال له ابن قارب، وهو الذي قتل داود بن هبولة السّليحي، وكان ملكا. بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة؛ فولد بهراء: أهود، وقاسطا، وعبدة وقسرا، وعديّا، بطون كلها. ومنهم قيس وشبيب، بطنان عظيمان، ومنهم المقداد بن عمرو صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي يقال له المقداد بن الأسود؛ لأن الأسود بن عبد يغوث كان تبنّاه، وقد انتسب المقداد إلى كندة؛ وذلك أن كندة سبته في الجاهلية فأقام فيهم وانتسب إليهم.

ومن قضاعة: بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة؛ منهم المجدّر بن ذياد قاتل أبي البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى في يوم بدر وهو يقول: بشّر بيتم من أبيه البختري ... أو بشّرن بمثلها منّي أبي أنا الّذي أزعم أصلي من بلي ... أضرب بالهنديّ حتى ينثني وفيهم بنو إراشة بن عامر؛ منهم كعب بن عجرة الأنصاري صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، وسهل بن رافع صاحب الصاع. وفيهم بنو العجلان بن الحارث: منهم ثابت بن أرقم شهد بدرا وهو الذي قتل طليحة في الردّة. ومنهم بنو واثلة بن حارثة أخي بني عجلان: منهم النعمان بن أعصر، شهد بدرا. ومن قضاعة: مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وهو الذي تنسب إليه الإبل المهرية. ومنهم: كرز بن روعان، من بني المنسم الذي صار إلى معد يكرب بن جبلة الكندي، وهو الذي يقول: تقول بنيّتي لما رأتني ... أكرّ عليهم وأذبّ وحدي «1» لعمرك إن ونيت اليوم عنهم ... لتنقلبنّ مصروعا بخدّ «2» ومنهم ذهبن بن قرضم بن العجيل، وهو الذي كان وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وكتب له كتابا وردّه إلى قومه. جهينة بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. منهم: سويد بن عمرو بن جذيمة بن سبرة بن خديج بن مالك بن عمرو بن ثعلبة بن رفاعة بن مضر بن مالك ابن غطفان بن قيس بن جهينة، وكان شريفا. ومن قضاعة: نهد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. منهم الصّعق،

كهلان بن سبأ

وهو جشم بن عمرو بن سعد، وكان سيد نهد في زمانه، وكان قصيرا أسود دميما، وكان النعمان قد سمع شرفه فأتاه؛ فلما نظر إليه نبت عنه عينه، فقال: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!» فقال: أبيت اللعن! إن الرجال ليست بمسوك يستقي فيها الماء، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إذا نطق نطق ببيان، وإن صال صال بجنان. قال: صدقت! ثم قال له: كيف علمك بالأمور؟ قال: أبغض منها المقبول، وأبرم المسحول، «1» وأحيلها حتى تحول، وليس لها بصاحب، من لم ينظر في العواقب. ومنهم: ودعة بن عمرو صاحب بسبس، طليعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث: منهم خالد بن عرفطة، ولاه سعد بن أبي وقاص ميمنة الناس يوم القادسية. ومنهم عروة بن حزام صاحب عفراء ومنهم رزاح ابن ربيعة أخو قصيّ لأمه، وهو الذي أعان قصيّا حتى غلب على البيت. ومنهم جميل ابن عبد الله بن معمر بن نهيك صاحب بثينة. وبنو الحارث بن سعد. إخوة عذرة. فهؤلاء بطون قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة. وهؤلاء أولاد حمير بن سبأ. كهلان بن سبأ الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان. فمن قبائل الأزد: الأنصار، والأوس، والخزرج: ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر، وأمهما قيلة. هؤلاء الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة- وهو العنقاء- ابن عمرو بن ثعلبة- وهو المزيقيا- ابن عامر، وهو ماء السماء. فمن بطون الأوس والخزرج وجماهيرها: عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وهم بنو السّميعة، بها يعرفون- وهم عوف [وحبيب] وثعلبة ولوذان، بنو عمرو ابن عوف بن مالك بن الأوس.

ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. منهم: سويد بن الصامت قتله المجذّر بن ذياد في الجاهلية، فوثب ابنه علي المجذّر فقتله في الإسلام، فقتله النبي عليه الصلاة والسلام. عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. منهم: سعد بن معاذ الذي اهتزلموته العرش، بدري، حكم في بني قريظة والنضير، وعمرو أخو سعد بن معاذ، شهد بدرا وقتل يوم أحد. والحارث بن أنس، شهد بدرا وقتل يوم أحد، وعمار بن زياد قتل يوم بدر، وأسيد بن الحضير بن سماك، شهد العقبة وبدرا؛ وربيعة بن زيد شهد العقبة وبدرا. ربيعة بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن خزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. منهم: رفاعة بن قيس، قتل يوم أحد. وسلمة بن سلامة بن وقش، شهد بدرا وقتل يوم أحد. وأخوه عمرو بن سلامة، قتل يوم أحد، ورافع بن يزيد، بدري. زعورا بن جشم بن الحارث بن خزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. منهم: مالك بن التّيّهان أبو الهيثم، نقيب بدري عقبي؛ وأخوه عتبة بن التيهان، بدري قتل يوم أحد. خطمة هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس. منهم: عدي بن خرشة، وعمرو بن خرشة، وأوس بن خالد، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وعبد الله بن يزيد الأنصاري، ولي الكوفة لابن الزبير. واقف: هو مالك بن امريء القيس بن مالك بن الأوس. منهم: هلال بن أمية، وعائشة بن نمير الذي ينسب إليه بئر عائشة بالمدينة، وهرم بن عبد الله السلمي بن امريء القيس بن مالك بن الأوس. ومنهم: سعد بن خيثمة بن الحرث، بدري عقبي نقيب، قتل يوم أحد.

الخزرج

عامرة: هم أهل رابخ بن مرة بن مالك بن الأوس. منهم: وائل بن زيد بن قيس بن عمارة، وأبو القيس بن الأسلت. الخزرج فمن بطون الخزرج: النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج: غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. منهم: أبو أيوب خالد بن زيد، بدري. وثابت ابن النعمان؛ وسراقة بن كعب؛ وعمارة بن حزم؛ وعمرو بن حزم؛ بدري عقبي؛ وزيد بن ثابت صاحب القرآن والفرائض؛ بدري؛ ومعاذ ومعوّذ وعوف بنو الحارث ابن رفاعة. وأمهم عفراء، بها يعرفون، شهدوا بدرا؛ وأبو أمامة أسعد بن زرارة؛ نقيب عقبي بدري؛ وحارثة بن النعمان، بدري. مبذول: اسمه عامر بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج. منهم: حبيب بن عمرو، قتل يوم اليمامة، وأبو عمرة، وهو بشير بن عمرو، قتل مع علي بن أبي طالب بصفين. والحرث بن الصمة، بدري. وسهل بن عتيك، بدري. حديلة: هو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. أمه حديلة وبها يعرفون. منهم: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن معاوية. وأبو حبيب بن زيد، بدري. مغالة: هو عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. منهم: حسان بن ثابت بن المنذر ابن حرام شاعر النبي عليه الصلاة والسّلام، وأبو طلحة وهو زيد بن سهل بن الأسود ابن حرام. ملحان بن عدي بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج. منهم: سليم بن ملحان، وحرام بن ملحان، بدريان، قتلا يوم بئر معونة. غنم بن عدي بن النجار. منهم: صرمة بن أنس بن صرمة صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم. ومحرز بن عامر، بدري. وعامر بن أمية، بدري، قتل يوم أحد. وأبو حكيم وهو

عمرو بن ثعلبة، بدري. وأبو خارجة وهو عمرو بن قيس، بدري. وابنه سبرة أبو سليط، بدري. وثابت بن خنساء، بدري. قتل يوم أحد، وأبو الأعور وهو كعب بن الحرث، بدري. وأبو زيد أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وبنو الحسحاس الذين ذكرهم حسان في قوله: ديار من بني الحسحاس قفر مازن بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج. منهم: حبيب بن زيد، قطع مسليمة جسده، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعثه إليه؛ وعبد الرحمن بن كعب من الذين تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع، بدري، وقيس بن أبي صعصعة، بدري، وغزيّة بن عمرو، عقبي. بنو الحارث بن الخزرج. منهم: عبد الله بن رواحة الشاعر، بدري عقبي نقيب. وخلاد بن سويد، بدري، قتل يوم قريظة. وسعد بن الربيع، بدري عقبي نقيب، قتل يوم أحد. وخارجة بن زيد، بدري عقبي نقيب قتل يوم أحد. وابنه زيد بن خارجة الذي تكلم بعد موته. وثابت بن قيس بن شماس، خطيب النبي صلّى الله عليه وسلم، قتل يوم اليمامة وهو على الأنصار؛ وبشير بن سعد، بدري عقبي. وأبو النعمان بن بشير. وزيد بن أرقم. وابن الأطنابة الشعر. ويزيد بن الحارث الشاعر، بدري. وأبو الدرداء وهو عويمر بن زيد. وعبد الله بن زيد الذي أري الأذان. وسبيع بن قيس، بدري. وعامر بن كعب الشاعر. بنو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج. منهم: أبو مسعود عقبة بن عمرو، بدري عقبي، وعبد الله بن الربيع، بدري. وأبو سعيد الخدري وهو سعد بن مالك. بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج. منهم سعد بن عبادة بن دليم، كان من النقباء، وهو الذي دعا إلى نفسه يوم سقيفة بني ساعدة. والمنذر بن عمرو، بدري عقبي نقيب، قتل يوم بئر معونة. وأبو دجانة وهو سماك بن أوس بن خرشة. وقيس بن سعد. وأبو أسيد وهو مالك بن ربيعة قتل يوم اليمامة. ومسلمة بن مخلد.

سالم بن عوف بن الخزرج. منهم: الرّمق بن زيد الشاعر، جاهلي. ومالك بن العجلان بن زيد بن سالم سيد الأنصار الذي قتل الفطيون. القوقل: هو غنم بن عمرو بن عوف بن الخزرج. منهم: عبادة بن الصامت، بدري نقيب. ومالك بن الدّخشم، بدري. والحارث بن خزيمة، بدري. بنو بياضة بن عامر بن زريق. منهم: زياد بن لبيد، بدري. وفروة بن عمرو، بدري عقبي. وخالد بن قيس، بدري. وعمرو بن النعمان رأس الخزرج يوم بعاث. وابنه النعمان صاحب راية المسلمين بأحد. العجلان بن زيد بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج؛ ومن بني العجلان: عبد الله بن نضلة بن مالك بن العجلان البدري، قتل يوم أحد. وعياش بن عبادة بن نضلة. ومليل بن وبرة، بدري. وعصمة بن الحصين بن وبرة بدري. وأبو خيثمة، وهو مالك بن قيس. الحبلي: وهو سالم بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج؛ سمي الحبلي لعظم بطنه. منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين؛ وابنه عبد الله بن عبد الله، شهد بدرا وقتل يوم اليمامة. وأوس بن خولي، بدري. بنو زريق بن عامر بن زريق بن حارثة بن مالك بن عضب بن جشم بن الخزرج. منهم: ذكوان بن عبد قيس، بدري عقبي قتل يوم أحد. وأبو عبادة سعد بن عثمان، بدري. وعتبة بن عثمان بدري. والحرث بن قيس، بدري. وأبو عياش بن معاوية فارس جلوة، بدري. ومسعود بن خلدة، بدري. ورفاعة بن رافع، بدري. وأبو رافع بن مالك، أول من أسلم من الأنصار. بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن شاردة بن جشم بن الخزرج. منهم: جابر ابن عبد الله صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. ومعاذ بن الصّمّة، بدري. وخراش بن الصمة، شهد بدرا بفرسين. وعتبة بن أبي عامر، بدري. ومعاذ بن عمرو بن

خزاعة

الجموح، بدري، وهو الذي قطع رجل أبي لهب. وأخوه معوذ بن عمرو، قتلا يوم بدر. وأبو قتادة واسمه النعمان بن ربعي. وكعب بن مالك الشاعر وأبو مالك بن أبي كعب الذي يقول: لعمر أبيها ما تقول حليلتي ... إذا فرّ عنها مالك بن أبي كعب وبشر بن عبد الرحمن؛ والزبير بن حارثة؛ وأبو الخطاب وهو عبد الرحمن بن عبد الله؛ ومعن بن وهب- هؤلاء الخمسة شعراء- وعبد الله بن عتيك، قاتل ابن أبي الحقيق. هذا نسب الأنصار. خزاعة هو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر؛ وإنما قيل لهم خزاعة؛ لأنهم انخزعوا «1» من ولد عمرو بن عامر في إقبالهم من اليمن؛ وذلك أن بني مازن من الأزد لما تفرّقت الأزد من اليمن في البلاد- نزل بنو مازن على ماء بين زبيد ورمع يقال له غسان؛ فمن شرب منه فهو غساني؛ وأقبل بنو عمرو فانخزعوا من قومهم فنزلوا مكة؛ ثم أقبل أسلم ومالك وملكان بنو أفصى بن حارثة فانخزعوا، فسموا خزاعة، وافترق سائر الأزد، فالأنصار وخزاعة وبارق والهجن وغسان: كلها من الأزد، فجميعهم من عمرو بن عامر، وذلك أن عمرو بن عامر ولد له حفنة والحارث وهو محرّق، لأنه أول من عذّب بالنار، وثعلبة العنقاء، وهو أبو الأنصار، وحارثة، وهو أبو خزاعة، وأبو حارثة، ومالك، وكعب، ووداعة، وهو في همدان، وعوف، وذهل، وهو وائل، وعمران. فلم يشرب أبو حارثة ولا عمران ولا وائل من ماء غسان، فليس يقال لهم غسان. بطون من خزاعة حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. وهو كان صاحب البيت قبل قريش، منهم المحترش بن حليل بن حبشية- الذي باع مفتاح الكعبة من

قصي بن كلاب-، وهلال بن حليل، وكرز بن علقمة- الذي قفا أثر النبي صلّى الله عليه وسلم حتى دخل الغار، وهو الذي أعاد معالم الحرم في زمن معاوية فهي إلى اليوم-، وطارق ابن باهية الشاعر. قمير بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. فمن بني قمير: بسر بن سفيان الذي كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم، وجلجلة بن عمرو الذي ذكره أبو الكنود في شعره، ومن ولده قبيصة بن ذؤيب بن جلجلة، ومالك بن الهيثم بن عوف. كليب بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة؛ منهم: السفّاح ابن عبد مناة الشاعر، وخراش بن أبي أمية حليف بني مخزوم، وهو الذي حجم النبي عليه الصلاة والسّلام. ضاطر بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. منهم: حفص بن هاجر الشاعر، وقرة بن إياس الشاعر. وكان ابنه يحيى بن قرة سيد قومه- وطلحة بن عبيد الله بن كريز بن الحدادية الشاعر، واسمه قيس بن عمرو. حرام بن عمر بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. منهم أكثم ابن أبي الجون، وسلمان بن صرد بن الجون، ومعتب بن الأكوع الشاعر. وأم معبد: وهي عاتكة بنت خليف التي نزل بها النبي صلّى الله عليه وسلم في مهاجرته إلى المدينة. غاضرة بن عمرو بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. منهم: عمران بن حصين صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام؛ وسعيد بن سارية، ولي شرطة علي بن أبي طالب. وأبو جمعة جدّ كثيّر عزة. وجعدة وأبو الكنود ابنا عبد العزى. مليح بن خزاعة، منهم: عبد الله بن خلف، قتل مع عائشة يوم الجمل. وأخوه سليمان بن خلف، كان مع عليّ يوم الجمل، وابنه طلحة بن عبد الله بن خلف يقال له طلحة الطلحات، وهو أجود العرب في الإسلام، وعمرو بن سالم الذي يقول: لا همّ إنّي ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «1»

ومنهم كثيّر عزة الشاعر، كنيته أبو عبد الرحمن. عدي بن خزاعة. منهم: بديل بن ورقاء الذي كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، وابنه عبد الله بن بديل، ونافع بن بديل، قتل يوم بئر معونة، ومحمد بن ضمرة كان شريفا، والحيسمان بن عمرو الذي جاء بقتلى أهل بدر إلى مكة وأسلم بعد ذلك. سعد بن كعب بن خزاعة؛ منهم: مطرود بن كعب الذي رثى بني عبد مناف، وعمرو بن الحمق صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام؛ وأبو مالك القائد وهو أسد بن عبد الله؛ والحصين بن نضلة، كان سيد أهل تهامة، مات قبل الإسلام؛ والحرث بن أسد، صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم. المصطلق بن سعد بن خزاعة؛ منهم جويرية بنت الخزرج زوج النبي عليه الصلاة والسّلام. وإخوة خزاعة وهم ينسبون في خزاعة: أسلم بن أفصي بن حارثة بن عمرو بن عامر؛ منهم: بريدة بن الحصيب صاحب النبيّ عليه الصلاة والسّلام. وسلمة بن الأكوع صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. وملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر. ومنهم ذو الشمالين، وهو عمير ابن عبد عمرو، شهد بدرا مع النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ومالك بن الطّلاطلة، كان من المستهزئين من النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ونافع بن الحارث ولي مكة لعمر بن الخطاب. مالك بن أفصى بن عمرو بن عامر؛ منهم: عويمر بن حارثة؛ وسليمان بن كثير، من نقباء بني العباس، قتله أبو مسلم بخراسان. سلامان بن أسلم بن أفصي بن حارثة بن عمرو بن عامر، منهم: جرهد بن رزاح كان شريفا، وأبو بردة صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. فرغت خزاعة

بارق والهجن

بارق والهجن ولد عدي بن حارثة بن عامر: سعدا- وهو بارق-، وعمرا- وهم الهجن- فخزاعة وبارق والهجن: من بني حارثة بن عمرو بن عامر. فمن بارق: سراقة بن مرداس الشاعر وجعفر بن أوس الشاعر، ومنهم النعمان بن خميصة، جاهلي شريف. وبارق والهجن لا يقال لهما غسان؛ وغسان ماء بالمشلّل، فمن شرب منه من الأزد فهو غساني، ومن لم يشرب منه فليس بغساني؛ وقال حسان: إما سألت فإنّا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسّان ومن الهجن: عرفجة بن هرثمة الذي جنّد الموصل، وعداده في بارق؛ ومنهم ربعة وملادس وثعلبة وشبيب وألمع، بنو الهجن. حجر بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امريء القيس بن مازن بن الأزد؛ ومنهم: أبو شجرة بن حجنة، هاجر مع النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ومنهم: صيفي بن خالد ابن سلمة بن هريم. والعتيك: هو ابن الأزد بن عمران بن عمرو؛ منهم: المهلّب بن أبي صفرة، واسم أبي صفرة ظالم بن سراقة: وجديع بن سعيد بن قبيصة. ومن العتيك: عمرو بن الأشرف، قتل مع عائشة يوم الجمل؛ وابنه زياد بن عمرو، وكان شريفا؛ وثابت قطنة الشاعر. ويقال إن العتيك: ابن عمران بن عمرو بن أسد بن خزيمة. فهؤلاء بنو عمران بن عمرو بن عامر؛ وهم: الحجر، والأزد، والعتيك. ومن بطون الأزد: بنو ماسخة بن عبد الله بن مالك بن النصر بن الأزد، إليهم تنسب القسي الماسخية، كان أول من رمي بها بنو زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر من الأزد. ومنهم: حممة بن رافع: وفيهم: بنو النمر بن عثمان بن النصر بن هوازن؛ ومنهم: أبو الكنود صاحب ابن مسعود، قتل يوم

الفجار؛ وأبو الجهم بن حبيب، كان واليا لأبي جعفر: وأبو مريم، وهو حذيفة بن عبد الله، صاحب رايتهم يوم رستم، والحارث بن حصيرة الذي يحدّث عنه، ومخلد بن الحسن، كان فارسا بخراسان. وفهم بن زهران بطن وحدّان بطن، وزيادة بطن. ومعولة، بنو شمس بن عمرو ابن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن هوازن. فمن بني حدّان: صبرة بن شيبان، كان رأس الأزد يوم الجمل، وقتل يومئذ. ومن بني معولة بن شمس: الجلندي بن المستكين صاحب عثمان، وابنه جيفر. وكتب النبي عليه الصلاة والسّلام إلى جيفر وعبيد ابني الجلندي، ومنهم الغطريف الأصغر والغطريف الأكبر من بني دهمان بن نصر بن زهران، ومنهم سبالة، وحدروج، ورسن بنو عمرو بن كعب بن الغطريف، بطون كلهم، وبنو جعثمة بن يشكر بن ميسر بن صعب بن دهمان. بنو راسب بن مالك بن ميدعان بن مالك بن نصر بن الأزد، منهم: عبد الله بن وهب ذو الثفنات، رئيس الخوارج، قتله علي بن أبي طالب يوم النّهروان. ومن الناس من ينسب بني راسب في قضاعة. ثمالة، وهو عوف بن أسلم بن أبجر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد. وثمالة منزلهم قريب من الطائف، وهم أهل رويّة وعقول، ومنهم: محمد بن يزيد النّحوي المعروف بالمبّرد صاحب الروضة، وقال فيه بعض الشعراء: سألنا عن ثمالة كلّ حي ... فقال القائلون ومن ثماله فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدت بهم جهاله بنو لهب بن أبجر بن كعب بن الحارث بن كعب، وهم أعيف كل حيّ في العرب- العائف: الذي يزجر الطير- ولهم يقول كثيّر عزة: تيّممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقد ردّ علم العائفين إلى لهب

دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران، ومنهم حممة بن الحارث بن رافع، كان سيد دوس في الجاهلية، وكان أسخى العرب، وهو مطعم الحاج بمكة، ومنهم أبو هريرة صاحب النبيّ عليه الصلاة والسلام، واسمه عمير بن عامر. ومنهم جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، وجهضم بن عوف بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، ومنهم الجراميز، جمع جرموز، والقراديس، جمع قردوس، والقسامل، جمع قسملة، والأشاقر، جمع أشقر، وهم بنو عائذ بن دوس، وفيهم يقول الأعجم: قالوا الأشاقر تهجوكم فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا وهم من الحسب الزاكي بمنزلة ... كطحلب الماء لا أصل ولا ورق لا يكبرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا عكّ بن عدثان بن عبد الله بن زهران. وعكّ أخو دوس بن عدثان بن عبد الله ابن زهران عند من نسبهم إلى الأزد، ومن قال غير ذلك، فهو عكّ بن عدثان أخو معد بن عدثان. وفي عكّ: قرن، وهو بطن كبير، منهم مقاتل بن حكيم، كان من نقباء بني هاشم بخراسان. غسان، وهم بنو عمرو بن مازن، وفيهم: صريم، وبنو نفيل، وهم الصّبر، سموا بذلك لصبرهم في الحرب، وفي بني صريم شقران ونمران ابنا عمرو بن صريم، وهما بطنان في غسان. وبنو عنزة بن عمرو بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد. منهم: الحارث بن أبي شمر الأعرج، ملك غسان الذي يقال فيه الجفني، وليس بجفني ولكن أمّه من بني جفنة. ومن بني عمرو بن مازن: عبد المسيح بن عمرو بن ثعلبة صاحب خالد بن الوليد، ومنهم عبد المسيح الجهبذ، ومنهم سطيح الكاهن، وهو ربيعة بن ربيعة. ومن بني غسّان: بنو جفنة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امريء القيس بن مازن بن الأزد؛ ومنهم: ملوك غسان بالشام، وهم سبعة وثلاثون

ملكا، ملكوا ستمائة سنة وست عشرة سنة إلى أن جاء الإسلام. بجيلة، وهم عبقر والغوث وصهيب، ووداعة وأشهل؛ نسبوا إلى أمّهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة؛ وهم بنو أنمار بن إراس بن عمرو بن الغوث، أخو الازد بن الغوث. منهم: جرير بن عبد الله صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام، وكان يقال لجرير: يوسف هذه الأمّة؛ لحسنه. وفيهم يقول الشاعر: لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله ومنهم: الضّبين بن مضر الذي وقع ببني كنانة، ومنهم القاسم بن عقيل أحد بني عائذة بن عامر بن قداد. كان شريفا. وهو الذي ابتدأ منافرة بجيلة وقضاعة. وفي بجيلة قسر بن عبقر منهم: خالد بن عبد الله القسري صاحب العراق. ومنهم بنو أحمس، وهم بنو علقة بن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث؛ وبنو زيد بن الغوث بن أنمار؛ وبنو دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس رهط عمار الدّهني. ومن قبائل بجلة: هدم، وهديم، وأحمس، وعادية، وعديّة، وقينان، وعرينة بن زيد. خثعم- هو: خثعم بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث، أخي الأزد بن الغوث. ففي خثعم: عفرس، وناهس، وشهران، فيها الشرف والعدد. فمن بني شهران: بنو قحافة بني عامر بن ربيعة؛ منهم: أسماء بنت عميس، ومالك بن عبد الله الذي قاد خيل خثعم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم. ومن ربيعة بن عفرس: نفيل بن حبيب دليل الحبشة على الكعبة، وهو القائل: وكلهم يسائل عن نفيل ... كأنّ عليّ للحبشان دينا وما كانت دلالتهم بزين ... ولكن كان ذاك عليّ شينا «1» فإنّك لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصّب ما رأينا

همدان

إذا لم تفرحي أبدا بشيء ... ولم تأسي على ما فات عينا «1» حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة ترمى علينا ومن خثعم: عثعث بن قحامة، وهو الذي هزم همدان ومذحج. وله يقول الشاعر: وجرثومة لم يدخل الذلّ وسطها ... قريبة أنساب كثير عديدها «2» ململمة فيها فوارس عثعث ... بنوه وأبناء الأقيصر جيدها ومنهم حمران الذي يقول: أقسمت لا أموت إلّا حرّا ... وإن وجدت الموت طعما مرا أخاف أن أخدع أو أغرّا ويقال إن خثعم اسمه أفتل، وإنما خثعم جمل كان لهم نسبوا إليه. همدان وهو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخبار بن مالك بن زيد بن كهلان؛ فولدت همدان: حاشدا وبكيلا؛ ومنهما تفرقت همدان. فمن بطون همدان شبام، وهو عبد الله بن أسعد بن حاشد. ومنهم ناعط وهو ربيعة بن مرثد بن حاشد بن جشم بن حاشد. ومنهم وداعة بن عمرو بن عامر، رهط مسروق بن الأجدع؛ ومن الناس من يزعم أنه وداعة بن عمرو بن عامر بن الأزد، ولكنهم انتسبوا إلى همدان ومن همدان: بنو السّبيع بن الصعب بن معاوية بن كبير بن مالك بن جشم بن حاشد؛ منهم: سعيد بن قيس بن زيد بن حرب بن معد يكرب بن سيف بن عمرو السبيعيّ؛ ومن بني ناعط: الحارث بن عميرة الذي يمدحه أعشى همدان بقوله:

إلى ابن عميرة تخدي بنا ... على أنها القلص الضّمّر «1» ومن بني بكيل بن جشم بن خوان بن نوف بن همدان: بنو جوب- وهم الجوبيون- ابن شهاب بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل. وبنو أرحب بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب. وبنو شاكر، وهم أبو ربيعة بن مالك بن معاوية بن صعب، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الجمل: لو تمت عدّتهم ألفا لعبد الله حق عبادته. وكان إذا رآهم تمثل بقول الشاعر: ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنّي فتحة الباب» كالهندوانيّ لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجّاب «3» وقال فيهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لهمدان أخلاق ودين يزينهم ... وبأس إذا لاقوا وحسن كلام فلو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام ومن أشراف همدان: مالك بن حريم الدّلانيّ، وكان فارسا شاعرا؛ ومنهم محمد بن مالك الخيواني، وكان يجير قريشا في الجاهلية على اليمن؛ وفي همدان: جشم، وهم رهط أعشى همدان؛ وفيهم خيوان، وهو مالك بن زيد بن جشم بن حاشد؛ وفيهم دألان بن سابقة بن ناشج بن دافع؛ منهم مالك بن حريم الذي يقول: وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما ... وأنفا حميّا تجتنبك المظالم ومنهم: أرحب بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل. منهم: أبو رهم بن مطعم الشاعر، هاجر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو ابن خمسين ومائة سنة. وفي همدان: إلهان بن مالك، وهو أخو همدان بن مالك، ومنهم: حوشب. قتل بصفين مع معاوية.

كندة

كندة كندة بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. فمن بطون كندة: الرائش بن الحارث بن معاوية بن كندة؛ منهم: شريح بن الحارث القاضي؛ ومنهم معاوية الأكرمين الذي مدحهم الأعشى؛ ومنهم الأشعث بن قيس بن معد يكرب؛ والصبّاح بن قيس وشرحبيل بن السّمط، ولي حمص؛ وحجر ابن عديّ الأدبر صاحب علي، وهو الذي قتله معاوية صبرا. ومنهم: بنو مرة بن حجر، لهم مسجد بالكوفة؛ ومنهم: الأسود بن الأرقم؛ ويزيد بن فروة الذي أجار خالد بن الوليد يوم قطع نخل بني وليعة؛ وفي كندة معاوية الولّادة. سمي بذلك لكثرة ولده؛ ومنهم حجر الفرد، سمي بذلك لجوده، وأهل اليمن يسمون الجواد: الفرد، ومنهم معاوية مقطّع النّجد، كان لا يتقلد أحد معه سيفا إلا قطع نجاده. فمن بني حجر الفرد الملوك الأربعة: مخوس، ومشرح، وجمد، وأبضعة؛ وأختهم العمرّدة، بنو معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن حجر الفرد؛ وهم الذي يقول فيهم الشاعر: نحن قتلنا بالنّجير أربعه ... مخوس مشرحا وجمدا أبضعه ومن بني امريء القيس بن معاوية: رجاء بن حيوة الفقيه، وامرؤ القيس بن السّمط. ومن أشراف بني الحرث بن معاوية بن ثور: امرؤ القيس الشاعر ابن حجر ابن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ثور؛ وهم ملوك كندة؛ ومنهم: حجر بن الحارث بن عمرو، وهو ابن أم قطام بنت عوف ابن محلم الشيباني. ومن بطون كندة: السّكاسك والسكون. ابنا أشرس بن كندة؛ ومنهم معاوية

مذحج

ابن حديج؛ قاتل محمد بن أبي بكر؛ ومنهم الجون بن يزيد، وهو أول من عقد الحلف بين كندة وبين بكر بن وائل؛ ومنهم حصين بن نمير السّكوني، صاحب الجيش بعد مسلم بن عقبة صاحب الحرّة. ومن السّكون: تجيب؛ وهما عدي وسعد ابنا أشرس بن شبيب بن السكون وأمهما تجيب بنت ثوبان بن مذحج، إليها ينسبون. فمن أشراف تجيب: ابن غزالة الشاعر، جاهلي، وهو ربيعة بن عبد الله؛ وحارثة بن سلمة، كان على السكون يوم محيّاة، وهو يوم اقتتلت معاوية بن كندة وكنانة بن بشر الذي ضرب عثمان يوم الدار. والسّكاسك بن أشرس بن كندة، منهم الضّحاك بن رمل بن عبد الرحمن؛ وحويّ بن مانع الذي زعم أهل الشام أنه قتل عمّار بن ياسر؛ ويزيد بن أبي كبشة صاحب الحجاج. انقضى نسب كندة. مذحج ومن بني أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: مالك بن أدد، وهو مذحج وطّيء بن أدد والأشعر ابن أدد. وقال ابن الكلبي: إن مذحج بن أدد هو ذو الأنعام، وله ثلاثة نفر: مالك بن مذحج وطيء بن مذحج والأشعر بن مذحج. فمن قبائل مذحج: سعد العشيرة بن مالك بن أدد؛ وولده الحكم بن سعد العشيرة، وهو قبيل كبير؛ منهم الجراح بن عبد الله الحكمي، قتله الترك أيام عمر ابن عبد العزيز، وهم موالي أبي نواس. وفي بعضهم يقول: يا شقيق النّفس من حكم ... نمت عن ليلى ولم أنّم

وإنما سمي سعد العشيرة؛ لأنه لم يمت حتى ركب معه من ولده وولد ولده ثلاثمائة رجل؛ ومنهم عمير بن بشر، ومنهم بندقة بن مظة. ومن بطون سعد العشيرة: جعف بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد؛ وصعب ابن سعد العشيرة، دخل في جعف وجزء بن سعد العشيرة فمن ولد جزء بن سعد العدل، والجمد؛ وكان العدل على شرطة تبع، وكان إذا أراد قتل رجل قال: يجعل على يدي عدل. وهو قول الناس: فلان على يدي عدل، إذا كان مشرفا على الهلاك. ومن أشراف جعف: أبو سبرة، وهو يزيد بن مالك: كان وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فدعا له: ومنهم شراحيل بن الأصهب، كان أبعد العرب غارة كان يغزو من حضرموت إلى البلقاء في مائة فارس من بني أبيه؛ فقتله بنو جعدة ففيه يقول نابغة بني جعدة. أرحنا معداّ من شراحيل بعد ما ... أراها مع الصّبح الكواكب مظهرا وعلقمة الحرّاب أدرك ركضنا ... بذي الرّمث إذ صام النّهار وهجّرا «1» وعلقمة الحزاب كان رأس بني جعف بعد شراحيل. ومن بني جعف: زحر ابن قيس صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم الأشعر بن أبي حمران الذي يقول فيه: أريد دعاء بني مازن ... وراق المعلّى بياض اللّبن «2» خليلان مختلف بيننا ... أريد العلاء ويبغي السّمن ومنهم: عبيد الله بن مالك الفاتك الجعفي. ومن بني سعد العشيرة: أود؛ وزبيد، واسمه منبّه؛ وهما ابنا صعب بن سعد العشيرة وزبيد الأصغر، وهو منبه الأصغر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن زبيد بن صعب بن سعد العشيرة. ومنهم: أبو المغراء الشاعر، ومنهم الزعافر وهو

عامر بن حرب بن سعد بن منبه بن أود: ومنهم عبد الله بن إدريس الفقيه، ومنهم الأفوه الشاعر، واسمه صلاءة بن عمرو، ومنهم: بنو رمّان بن كعب بن أود، من ولده عافية بن يزيد القاضي، وبنو قرن لهم مسجد بالكوفة. زبيد بن صعب بن سعد العشيرة. واسمه منبّه وهو زبيد الأكبر. من ولده زبيد الأصغر، وهو زبيد بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن زبيد بن صعب. ومن بني زبيد الأصغر: عمرو بن معد يكرب، وعاصر ابن الأصقع الشاعر، ومعاوية بن قيس بن سلمة، وهو الأفكل، وكان شريفا، وإنما سمي الأفكل لأنه كان إذا غضب أرعد؛ ويقال: الافكل من بني زبيد الأكبر. ومنهم: الحارث بن عمرو بن عبد الله بن قيس بن أبي عمرو بن ربيعة بن عاصم بن عمرو بن زبيد الأصغر. فهذه سعد العشيرة. ومن مذحج: جنب، وصداء، ورهاء؛ فمن بني جنب: منبه، والحارث، والغليّ وشيحان، وشمران، وهفّان. فهؤلاء الستة- وهم جنب- بنو يزيد بن حرب بن علة ابن خالد بن مالك بن أدد؛ وإنما قيل لهم جنب؛ لأنهم جانبوا أخاهم صداء وحالفوا سعد العشيرة؛ وحالفت صداء بني الحارث بن كعب. فمن جنب أبو طبيان الجنبيّ الفقيه. ومنهم: معاوية الخير بن عمرو بن معاوية صاحب لواء مذحج. وهو الذي أجار مهلهل بن ربيعة التغلبي على بكر بن وائل، فتزوج ابنة مهلهل. وفي ذلك يقول مهلهل بن ربيعة أخو كليب وائل: هان على تغلب بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جشم أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم «1» لو بأبانين جاء يخطبها ... رمّل ما أنف خاطب بدم «2» وقوله: وكان الحباء من أدم، أي انه ساق إليها في مهرها قبة من أدم.

صداء بن يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وهم حلفاء بني الحارث بن كعب بن مذحج. رهاء بن منبّه بن علة بن جلد بن مالك. ومنهم: هزّان بن سعد بن قيس بن سرمح، كان من أشراف أهل الشام. بنو الحارث بن كعب بن حرب بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وهو بيت مذحج. منهم: زعبل، بطن في بني الحارث، وهو الذي يقال فيه: لا يكلم زعبل. وكان شريفا. ومنهم المحجّل بن حزن. ومنهم بنو حماس بن ربيعة. منهم النجاشي واسمه قيس بن عمرو. وفيهم بنو المعقل بن كعب بن ربيعة. ومنهم مرثد ومريثد ابنا سلمة بن المعقل، قيل لهم المراثد. ومنهم المأمون بن معاوية اجتمعت عليه مذحج ومزاحم بن كعب. ومنهم اللجلاج، وأخوه مسهر الذي فقأ عين عامر بن الطّفيل يوم فيف فيف الريح، وعبد يغوث بن الحارث الشاعر قتيل التّيم يوم الكلاب، وهو القائل: أقول وقد شدّوا لساني بنسعة ... ألا يال تيم أطلقوا من لسانيا «1» وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا «2» ومنهم بنو قنان بن سلمة. منهم: الحصين ذو الغصّة بن مرثد بن شدّاد بن قنان، وهو رأس بني الحارث، عاش مائة سنة، وكان يقال لبنيه: فوارس الأرباع، قتلته همدان؛ من ولده: كثير بن شهاب بن الحصين. ومنهم: محمد بن زهرة بن الحارث. وفي بني الحارث بن كعب: الضّباب؛ منهم هند بن أسماء الذي قتل المنتشر البلهلي. وفيهم: بنو الدّيّان. فيهم زياد بن النضر صاحب علي. والربيع بن زياد، ولي

خراسان أيام معاوية. والنابغة الشاعر، واسمه يزيد بن أبان. هؤلاء بنو الحارث بن كعب. الضّباب في بني الحارث بن كعب: مفتوحة الضاد، وفي عامر بن صعصعة: مكسورة الضاد. ومن بطون مذحج: مسلية بن عامر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك. فولد مسلية، كنانة وأسدا: منهما تفرقت مسلية. كنانة وأسد ابنا مسلية. فمن بني كنانة بن مسلية: بنو صبح وثعلبة ابنا ناشرة، وأمهما حبابة بها يعرفون. منهم أبيّ بن ربيعة بن صبح الذي يقول له عمرو بن معد يكرب: تمنّاني ليقتلني أبيّ ... وددت وأينما مني ودادي ومن بني حبابة: عامر بن إسماعيل القائد، وابن الحبابة الشاعر، جاهلي ومن مذحج النّخع بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد. فمن بطون النخع: عمرو، بطن؛ وصهبان، بطن؛ ووهبيل، بطن؛ وعامر، بطن؛ وجذيمة، بطن؛ وحارثة، بطن؛ وكعب، بطن. فمن بني جذيمة سعد بن مالك بن جلد بن النخع: الأشتر، واسمه مالك بن الحارث؛ وثابت بن قيس بن أبي المنقّع. ومن بني حارثة بن سعد بن مالك بن النخع: إبراهيم بن يزيد الفقيه، والحجاج ابن أرطاة. ومن بني وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع: سنان بن أنس الذي قتل الحسين ابن علي؛ وشريك بن عبد الله القاضي. ومن بني صهبان بن سعد بن مالك بن النخع: كميل بن زياد صاحب علي بن أبي طالب، قتله الحجاج. وفي النخع: جشم، وبكر. فمن بني جشم: العريان بن الهيثم بن الأسود.

ومن بني بكر بن عوف بن النّخع: يزيد بن المكفف. وعلقمة بن قيس. وأخوه أبيّ بن قيس، قتل مع عليّ بصفين. وأخوهما يزيد بن قيس. وابنه الأسود بن يزيد العابد. ومن مذحج: عنس بن مالك بن أدد. فولد عنس: سعدا الأكبر، وسعدا الأصغر، ومالكا، وعمرا، ومخامرا، ومعاوية، وعريبا، وعتيكا، وشهابا، والقرّية، وياما. فمن بني مالك بن عنس: الأسود بن كعب الذي تنبأ باليمن. ومن بني يام بن عنس: عمّار بن ياسر صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. ومن بني سعد الأكبر: الأسود بن كعب: تبناه سعد الأكبر، وكان كاهنا. ومن أشراف عنس: عامر بن ربيعة، شهد بدرا مع النبي صلّى الله عليه وسلم وهو حليف لقريش. ومن بطون مذحج: مراد بن مالك بن مذحج بن أدد، ويسمى يحابر. فمن بطون مراد: ناجية وزاهر وأنعم. فمن بني ناجية بن مراد: فروة بن مسيك، كان واليا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على نجران. ومن بني زاهر بن مراد: قيس بن هبيرة بن عبد يغوث. ومنهم أويس الفرني بن عمرو بن مالك بن عمرو بن سعد بن عمرو بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، وهو الذي يقال أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيه: يدخل بشفاعته الجنة مثل ربيعة ومضر. وكان من التابعين، وقد أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي ناجية بن مراد: بنو غطيف بن عبد الله بن ناجية، ويقال إنهم من الأزد. وهانيء بن عروة المقتول مع مسلم بن عقيل. وفي ناجية بن مراد: بنو جمل بن كنانة بن ناجية، منهم: هند بن عمرو، قتله عمرو بن اليثربيّ يوم الجمل، وقال فيّ ذلك: لمن يجهلني ابن اليثربي ... قتلت علباء وهند الجمليّ وابنا لصوحان على دين علي

طيء

ومن بني زاهر بن مراد: قيس بن هبيرة بن عبد يغوث، وهو قيس بن مكشوح. طيء هو طيء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان أخو مذحج، ويقال ابن مذحج في رواية ابن الكلبي؛ فولد طيء الغوث وفطرة والحارث. فمن بطون طيء: جديلة وهم بنو جندب وبنو حور، وأمهما جديلة وبها يعرفون، وهي جديلة طيء. فأما بنو حور بن جديلة فسهليون وليسوا من الجبليين، وأما بنو جندب بن جديلة فهم من الجبليين، وفيهم الشّرف والعدد، وفيهم الثعالب، وهم بنو ثعلبة بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب. فمن بني ثعلبة بن جدعاء: المعلي بن تيم بن ثعلبة بن جدعاء، عليه نزل امرؤ القيس بن حجر الشاعر؛ إذ قتل أبوه حجر بن الحارث، وقال في المعلى: كأنّي إذ نزلت على المعلىّ ... نزلت على البواذخ من شمام «1» فما ملك العراق على المعلى ... بمقتدر ولا ملك الشّآم أقرّحشا امريء القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظّلام فسمّي بنو تيم بن ثعلبة: مصابيح الظلام. فمن ثعلبة بن جدعاء: الحر بن مشجعة بن النعمان، كان رئيس جديلة يوم مسيلمة الكذاب؛ ومنهم أوس بن حارثة بن لأم سيد طيء؛ ومنهم حاتم بن عبد الله الجواد؛ وابنه عدي بن حاتم، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم فألقى له وسادة وأجلسه عليها وجلس هو على الأرض. قال عدي: فما رمت حتى هداني الله للإسلام، وسرّني ما رأيت من إكرام رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي بني عمرو بن الغوث بن طيء: ثعل، بطن؛ ونبهان، بطن؛ وبولان، بطن؛

الأشعر

وسلامان، بطن؛ وهنيّ، بطن. فمن هنيّ: إياس بن قبيصة: وأبو زبيد الشاعر، واسمه حرملة بن المنذر. ومن بني سلامان: بنو بحتر، بطن طيء، ومن بني بحتر معترض بن صالح، اجتمعت عليه جديلة والغوث. ومن بني ثعل: عمرو بن عبد المسبّح. كان أرمى العرب، وإياه يعني امرؤ القيس بقوله: ربّ رام من بني ثعل ... مخرج كفّيه من قتره «1» وأدرك النبي عليه الصلاة والسّلام وهو ابن خمس ومائة سنة، فأسلم. ومن بني ثعل: أبو حنبل الذي يعد في الأوفياء نزل به امرؤ القيس ومدحه ومنهم زيد الخيل، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم فسماه زيد الخير، وقال: «ما بلغني عن أحد إلا رأيته دون ما بلغني، إلا زيد الخيل» . وفي طيء: سدوس. وهي مضمومة السين، والتي في ربيعة مفتوحة السين. الأشعر هو الأشعر بن أدد أخو مذحج- ويقال: ابن مذحج، في رواية ابن الكلبي- فولد الأشعر: الجماهر، والأرغم، والأدغم، والأنعم، وجدّة، وعبد شمس، وعبد الثّريا. فمن بطون الأشعريين: مراطة، وصنامة، وأسد، وسهلة، وعكابة، والشراعبة، وعسامة، والدعالج. ومن أشراف الأشعريين: أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس، صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام، ومنهم مالك بن عامر بن هانيء بن خفاف، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم وشهد القادسية، وهو أول من عبر دجلة يوم المدائن، وقال في ذلك:

لخم

امضوا فإنّ البحر بحر مأمور ... والأوّل القاطع منكم مأجور قد خاب كسرى وأبوه سابور ... ما تصنعون والحديث مأثور وابنه سعد بن مالك، كان من أشراف أهل العراق، ومنهم: السائب بن مالك، كان على شرطة المختار وهو الذي قوي أمره؛ ومنهم: أبو مالك الأشعري، زوّجه النبي عليه الصلاة والسّلام إحدى نساء بني هاشم وقال لها: «ما رضيت أن زوجتك رجلا هو وقومه خير مما طلعت عليه الشمس!» وقال النبي عليه الصلاة والسّلام: «يا بني هاشم، زوّجوا الأشعريين وتزوجوا إليهم؛ فإنهم في الناس كصرة المسك وكالأترج الذي إن شممته ظاهرا وجدته طيبا، وإن اختبرت باطنه وجدته طيبا» . فهؤلاء بنو أدد، وهم مذحج وطيء والأشعر، بنو أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان. لخم هو مالك بن عدى بن الحارث بن مرة بن أدد. فولدت لخم: جزيلة، ونمارة؛ ومنهما تفرقت بطون لخم. فمن بني نمارة: بنو الداري، وهو هانيء بن حبيب بن نمارة. منهم تميم الداري صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. وفي نمارة الأجود، وهم بنو مازن بن عمرو بن زياد بن نمارة رهط الطرمّاح بن حكيم الشاعر؛ ويقال إن الطرماح من طيء- ومنهم: قصير بن سعد صاحب جذيمة الأبرش. ومن بني نمارة: ملوك الحيرة اللّخميون. رهط النعمان بن المنذر بن امريء القيس ابن النعمان. وفي جزيلة بن لخم بطون كثيرة، منهم: إراش، وحجر، ويشكر وأدب، وخالفة- وهو راشدة- وغنم، وجديس، بطن عظيم.

جذام

وفي جزيلة بن لخم أيضا العمرّط، وفيهم عباد الحيري منهم رهط عدي بن زيد العبادي. وفيهم بنو منارة، وفيهم جدس بن إدريس بن جزيلة بن لخم منهم مالك بن ذعر بن حجر بن جزيلة بن لخم؛ يقال إنه الذي استخرج يوسف بن يعقوب- صلوات الله وسلامه عليه- من الجب. جذام هو جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد. فولد جذام حراما وحشم؛ ومنهما تفرقت جذام. فمن بني حشم بن جذام: بنو عتيب بن أسلم بن خالد بن شنوءة بن تديل ابن حشم بن جذام، وهم الذين ينسبون في بني شيبان. وفي حرام بن جذام بنو غطفان، وأفصى، ابنا سعد بن إياس بن حرام؛ وفيهما عدد جذام وشرفها؛ ويقال إن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان هو هذا. فمن بني أفصى بن سعد: روح بن زنباع، وزير عبد الملك بن مروان؛ وقيس بن زيد، وفد علي النبي صلّى الله عليه وسلم. ومن بني غطفان بن سعد: عنبس، ونضرة، وأبامة، وعبدة، وحرب، وريث، وعبد الله، بطون كلهم؛ فانتسب ريث وعبد الله في غطفان بن قيس، وغيرهم في جذام. عاملة هم بنو الحارث بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ولد الحارث الزهد ومعاوية وأمهما عاملة بنت مالك بن ربيعة بن قضاعة، فنسبا إلى أمهما؛ ويقال عاملة هو الحارث نفسه. فمن بني معاوية بن عاملة: شعل، وسلبة، وعجل، بطون كلهم. فمن أشراف عاملة قوّال بن عمر؛ وشهاب بن برهم، وكان سيدا؛ وهمام بن

خولان

معقل، وكان شريفا مع مسلمة بن عبد الملك؛ ومنهم عدي بن الرقاع الشاعر؛ ومنهم قعيسيس الذي أسر عدي بن حاتم الطائي فأخذه منه شعيب بن الربيع الكلبي فأطلقه بغير فداء. فهؤلاء بنو عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ؛ وهم لخم وجذام وعاملة، بنو عدي بن الحارث؛ وكندة بن عفير بن عدي بن الحارث. خولان هو خولان بن عمرو بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد. فولد خولان، حبيبا، وعمرا، والأصهب، وقيسا، ونبتا، وبكرا، وسعدا؛ منهم أبو مسلم عبد الرحمن بن مشكم الفقيه. جرهم هو من القبائل القديمة، وهو جرهم بن يقطن بن عابر. وعند عابر تجتمع يمن ومضر؛ لأن مضر كلها بنو فالغ بن عابر، واليمن كلها بنو قحطان بن عابر. حضرموت هو ابن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قصيّ بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير. منهم: ذو مرحب، وذو نحو؛ ومنهم الأعدل؛ ومنهم: بنو مرثد، وبنو ضجع، وبنو حجر، وبنو رحب، وبنو أقرن، وبنو قليان. قول الشعوبية وهم أهل التسوية ومن حجة الشعوبية على العرب أن قالت: إنا ذهبنا إلى العدل والتسوية، وأن الناس كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد.

واحتججنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: المؤمنون إخوة، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. وقوله في حجة الوداع، وهي خطبته التي ودع فيها أمّته وختم نبوّته: «أيها الناس، إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء. كلّكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجميّ فضل إلا بالتقوى» . وهذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام موافق لقول الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» فأبيتم إلا فخرا وقلتم لا تساوينا العجم وإن تقدّمتنا إلى الإسلام، ثم صلت حتى تصير كالحنى، وصامت حتى تصير كأوتار، ونحن نسامحكم ونجيبكم إلى الفخر بالآباء الذي نهاكم عنه نبيكم صلّى الله عليه وسلم، إذ أبيتم إلا خلافه، وإنما نجيبكم إلى ذلك لاتباع حديثه وما أمر به صلّى الله عليه وسلم، فنرد عليكم حجتكم في المفاخرة، ونقول: أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكا أو نبوّة؟ فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: وإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سخّرت له الإنس والجن والطير والريح، وإنما هو رجل منا؟ أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبلغ مطلع الشمس ومغربها وبنى ردما من حديد ساوى به بين الصّدفين، «2» وسجن وراءه خلقا من الناس تربى على خلق الأرض كلها كثرة؛ يقول الله عز وجل: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «3» فليس شيء أدل على كثرة عددهم من هذا، وليس لأحد من ولد آدم مثل آثاره في الأرض؛ ولو لم يكن له إلا منارة الإسكندرية الذي أسسها في قعر البحر وجعل في رأسها مرآة يظهر البحر كله في زجاجتها. وكيف ومنا ملوك الهند الذين كتب أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف

ملك، والذي تحته بنت ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والفوه «1» والجوز والكافور، الذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلا- إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئا. أما بعد، فإني أردت أن تبعث إليّ رجلا يعلمني الإسلام ويوقفني على حدوده والسّلام. وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوّة فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة: هودا وصالحا وإسماعيل وحمدا؛ ومنا المصطفون من العالمين: آدم ونوح، وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر: فنحن الأصل وأنتم الفرع، وإنما أنتم غصن من أغصاننا، فقولوا بعد هذا ما شئتم وادّعوا. ولم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض [لها] ملوك تجمعها، ومدائن تضمها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات: مثل صنعة الديباج، وهي أبدع صنعة؛ ولعب الشطرنج، وهي أشرف لعبة، ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل؛ ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون، والأسطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به علم الأبعاد ودوران الأفلاك، وعلم الكسوف [وغير ذلك من الآثار المتقنة] ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها؛ ولا كان لها قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة، إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم، وذلك أن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن والعروض؛ فما الذي تفخر به العرب على العجم؟ فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حلق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع، فخر بذلك شاعر فقال: والحق ركب المردفات عشيّة فقيل له: ويحك! وأي فخر لك أن تلحق بالعشي وقد نكحن وامتهنّ؟

وقال جرير يعيّر بني دارم بغلبة قيس عليهم يوم رحرحان: وبرحرحان غداة كبّل معبد ... نكحت نساؤكم بغيّر مهور وقال عنترة لامرأته: إنّ الرّجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي وأنا امرؤ إن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى سير الرّكاب وأجنب ويكون مركبك القعود ورحله ... وابن النّعامة عند ذلك مركبي «1» أراد بابن النعامة: باطن القدم. وسبي ابن هبولة الغسّاني امرأة الحارث بن عمرو الكندي. فلحقه الحارث فقتله وارتجع المرأة وقد كان نال منها، فقال لها: هل كان أصابك؟ قالت: نعم والله، فما اشتملت النساء على مثله! فأوثقها بين فرسين ثم استحضرهما «2» حتى قطعاها؛ وقال في ذلك: كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الودّ عهدها خيتعور «3» إنّ من غرّه النساء بودّ ... بعد هند لجاهل مغرور وسبت بنو سليم ريحانة أخت عمرو بن معد يكرب فارس العرب، فقال فيها عمرو: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع وفيها يقول: إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وأغار الحوفزان على بني سعد بن زيد مناة، فاحتمل الزرقاء من بني ربيع بن الحارث، فأعجبته وأعجبها؛ فوقع بها، ثم لحقه قيس بن عاصم، فاستنقذها وردّها إلى أهلها بعد أن وقع بها.

فهذا كان شأن العرب والعجم في جاهليتها. فلما أتى الله بالإسلام كان للعجم شطر الإسلام؛ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث إلى الأحمر والأسود من بني آدم، وكان أوّل من تبعه حرّ وعبد واختلف الناس فيهما، فقال قوم: أبو بكر وبلال، وقال قوم: عليّ وصهيب. ولما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم صهيبا على المهاجرين والأنصار فصلى بالناس وقيل له: استخلف. فقال: ما أجد من أستخلف. فذكر له الستة من أهل حراء، فكلهم طعن «1» عليه، ثم قال: لو أدرك سالما مولى أبي حذيفة حيا لما شككت فيه. فقال في ذلك شاعر العرب: هذا صهيب أمّ كلّ مهاجر ... وعلا جميع قبائل الأنصار لم يرض منهم واحد لصلاتنا ... وهم الهداة وقادة الأخيار هذا ولو كان المثرّم سالم ... حياّ لنال خلافة الأمصار ما بال هذي العجم تحيا دوننا ... إن الغويّ لفي عمى وخسار «2» وقال بجير يعيّر العرب باختلافها في النسب واستلحاقها للأدعياء: زعمتم بأن الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر وديلم من نسّل ابن ضبّة باسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر فقد صار كلّ الناس أولاد واحد ... وصاروا سواء في أصول العناصر بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر «3» أتطمع في صهري دعياّ مجاهرا ... ولم تر سترا من دعيّ مجاهر وتشتم لؤما رهطه وقبيله ... وتمدح جهلا طاهرا وابن طاهر وقد ذكرت هذا الشعر تامّا في كتاب النساء والأدعياء والنجباء. وقال الحسن بن هانيء على مذهب الشعوبية:

رد ابن قتيبة على الشعوبية

وجاورت قوما ليس بيني وبينهم ... أواصر إلا دعوة وبطون «1» إذا ما دعا باسمي العريف أجبته ... إلى دعوة ممّا عليّ يهون لأزدعمان بالمهلّب نزوة ... إذا افتخر الأقوام ثم تلين «2» وبكر يرى أن النّبوة أنزلت ... على مسمع في البطن وهو جنين وقالت تميم لا نرى أنّ واحدا ... كأحنفنا حتّى الممات يكون فلا لمت قيسا بعدها في قتيبة ... إذا افتخروا إنّ الفخار فنون ردّ ابن قتيبة على الشعوبية قال ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب: وأمّا أهل التسوية فإن منهم قوما أخذوا ظاهر بعض الكتاب والحديث، فقضوا به ولم يفتشوا عن معناه، فذهبوا إلى قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «3» وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ «4» وإلى قول النبي عليه الصلاة والسّلام في خطبته في حجة الوداع: أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء. ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب. وقوله: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. وإنما المعنى في هذا أن الناس كلهم من المؤمنين سواء في طريق الأحكام والمنزلة عند الله عز وجل والدار الآخرة. لو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فضل إلا بأمر الآخرة، لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف ولا فاضل ولا مفضول؛ فما معنى قوله صلّى الله عليه وسلم «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» . وقوله صلّى الله عليه وسلم في قيس بن عاصم: «هذا سيد الوبر» . «5» وكانت العرب تقول: لا يزال الناس بخير ما

تباينوا فإذا تساووا هلكوا. تقول: لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وأخيار، فإذا جملوا كلهم جملة واحدة هلكوا. وإذا ذمّت العرب قوما قالوا: سواسية كأسنان الحمار. وكيف يستوي الناس في فضائلهم والرجل الواحد لا تستوي في نفسه أعضاؤه ولا تتكافأ مفاصله، ولكن لبعضها الفضل على بعض، وللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس. وقالوا: القلب أمير الجسد. ومن الأعضاء خادمة، ومنها مخدومة. قال ابن قتيبة: ومن أعظم ما ادعت الشعوبية فخرهم على العرب بآدم عليه السّلام وبقول النبي عليه الصلاة والسّلام: «لا تفضّلوني عليه، فإنما أنا حسنة من حسناته» . ثم فخرهم بالأنبياء أجمعين وأنهم من العجم غير أربعة: هود وصالح وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسّلام؛ واحتجوا بقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» ثم فخروا بإسحاق بن إبراهيم، وأنه لسارة، وأنّ إسماعيل لأمة تسمى هاجر. وقال شاعرهم: في بلدة لم تصل عكل بها طنبا ... ولا خباء، ولا عك وهمدان «2» ولا لجرم ولا بهراء من وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان أرض يبنّي بها كسرى مساكنه ... فما بها من بني اللّخناء إنسان فبنو الأحرار عندهم: العجم؛ وبنو اللخناء عندهم: العرب؛ لأنهم من ولد هاجر وهي أمة، وقد غلطوا في هذا التأويل، وليس كل أمة يقال لها اللخناء إنما اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها وجمع الحطب، وإنما أخذ من اللخن، وهو نتن الريح؛ يقال: لخن السقاء، إذا تغير ريحه؛ فأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وارتضاها للخليل فراشا، وللطّيّبين إسماعيل ومحمد أمّا، وجعلهما سلالة- فهل يجوز لملحد فضلا عن مسلم أن يسميها لخناء!

رد الشعوبية على ابن قتيبة

رد الشعوبية على ابن قتيبة قال بعض من يرى رأي الشعوبية فيما يردّ به على ابن قتيبة في تباين الناس وتفاضلهم، والسيد منهم والمسّود. إننا نحن لا ننكر تباين الناس ولا تفاضلهم، ولا السيد منهم والمسود، والشريف والمشروف؛ ولكنا نزعم أنّ تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم، ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم؛ ألا ترى أنه من كان دنيء الهمة، ساقط المروءة، لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها؛ إنما الكريم من كرمت أفعاله، والشريف من شرفت همته؛ وهو معنى حديث النبي عليه الصلاة والسّلام: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقوله في قيس بن عاصم: «هذا سيد أهل الوبر» . إنما قال فيه لسؤدده في قومه بالذب عن حريمهم، وبذله رفده لهم: ألا ترى أن عامر بن الطفيل كان في أشرف بطن في قيس يقول: وإني وإن كنت ابن سيّد عامر ... وفارسها المشهور في كلّ موكب فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب «1» وقال آخر: إنّا وإن كرمت أوائلنا ... لسنا على الأحساب نتّكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبنى ونفعل مثل ما فعلوا وقال قس بن ساعدة: لأقضينّ بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي ولا يردّها أحد بعدي: أيما رجل رمى رجلا بملامة دونها كرم، فلا لؤم عليه، وأيما رجل ادّعى كرما دونه لؤم فلا كرم له. ومثله قول عائشة أم المؤمنين: كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه

كرم فالكرم أولى به. تعني بقولها، أن أولى الأشياء بالإنسان طبائع نفسه وخصالها، فإذا كرمت فلا يضره لؤم أوّليته، وإن لؤمت فلا ينفعه كرم أوّليته. وقال الشاعر: نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكر والإقداما وصيّرته ملكا هماما وقال آخر: مالي عقلي وهمّتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي إن انتمى منتم إلى أحد ... فإنّني منتم إلى أدبي «1» وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب، فأعجب عبد الملك ما سمع منه، فقال: ابن من أنت يا غلام؟ قال: ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي نلت بها هذا المقعد منك! قال: صدقت!. وقال النبي عليه الصلاة والسّلام: «حسب الرجل ماله، وكرمه دينه» . وقال عمر بن الخطاب: إن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك دين فلك كرم. وما رأيت أعجب من ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب؛ إنه ذهب فيه كل مذهب من فضائل العرب، ثم ختم كتابه بمذهب الشعوبية، فنقض في آخره كل ما بنى في أوله؛ فقال في آخر كلامه؛ وأعدل القول عندي أن الناس كلهم لأب وأمّ، خلقوا من تراب، وأعيدوا إلى التراب، وجروا في مجرى البول، وطرأ عليهم الأقذار؛ فهذا نسبهم الأعلى الذي يرتدع به أهل العقول عن التّعظّم والكبرياء، والفخر بالآباء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب، إلا من كان حسبه التقوى، أو كانت ماتّته «2» طاعة الله.

قول الشعوبية في مناكح العرب

قول الشعوبية في مناكح العرب قالت الشعوبية: إنما كانت العرب في الجاهلية ينكح بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد نكاح ولا استبراء من طمث، فكيف يدري أحدهم من أبوه. وقد فخر الفرزدق ببني ضبة حين يبتزّون العيال في حروبهم في سبيّة سبوها من بني عامر بن صعصعة فقال: فظلّت وظلّوا يركبون هبيرها ... وليس لهم إلا عواليهم ستر والهيبر: المطمئن من الأرض؛ وإنما أراد هاهنا فرجها. وهو القائل في بعض ما يفخر به: ومنا التّميمي الذي قام أيره ... ثلاثين يوما ثم قد زادها عشرا باب المتعصبين للعرب قال أصحاب العصبية من العرب: لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان كما في الأثر: إن قوما يقادون إلى حظوظهم بالسواجير. «1» كما قال: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل. على أنّا تعرّضنا للقتل فيهم: فمن أعظم عليك نعمة ممن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم، وفرض علينا جهادكم ورغبنا في مكاتبتكم. وقدّم نافع بن جبير بن مطعم رجلا من أهل الموالي يصلي به، فقالوا: له في ذلك؛ فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه. وكان نافع بن جبير هذا إذا مرّت به جنازة قال: من هذا؟ فإذا قالوا قرشي؛ قال: واقوماه! وإذا قالوا: عربي؛ قال: وابلدتاه! وإذا قالوا: مولى؛ قال: هو مال

الله، يأخذ ما شاء ويدع ما شاء. قال: وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب أو مولى. وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يتقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاما قاموا على رؤسهم، وإن أطمعوا المولى لسنّه وفضله وعلمه أجلسوه في طرف الخوان؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإن كان الذي يحضر غريرا؛ وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها إلى مواليها؛ فإن رضي زوّج وإلا ردّ، فإن زوّج الأب والأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها كان سفاح غير نكاح. وقال زياد: دعا معاوية الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب فقال إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت، وأراها قد طعنت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان؛ فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق؛ فما ترون؟ فقال الأحنف: أرى أن نفسي لا تطيب؛ أخي لأمي وخالي ومولاي، وقد شاركناهم وشاركونا في النسب. فظننت أني قد قتلت عنهم؛ وأطرق. فقال سمرة بن جندب: اجعلها إلىّ أيها الأمير، فأنا أتولى ذلك منهم وأبلغ منه. فقال: قوموا حتى أنظر في هذا الأمر. قال الأحنف: فقمنا عنه وأنا خائف، وأتيت أهلي حزينا؛ فلما كان بالغداة أرسل إليّ، فعلمت أنه أخذ برأيي وترك رأي سمرة. وروي أن عامر بن عبد القيس في نسكه وزهده وتقشفه وإخباته وعبادته كلّمه حمران مولى عثمان بن عفان عند عبد الله بن عامر صاحب العراق في تشنيع عامر على عثمان وطعنه عليه، فأنكر ذلك، فقال له حمران: لا كثّر الله فينا مثلك! فقال له عامر: بل كثّر الله فينا مثلك! فقيل له: أيدعو وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون

طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحركون ثيابنا. فاستوى ابن عامر جالسا، وكان متكئا، فقال: ما كنت أظنك تعرف هذا الباب، لفضلك وزهادتك. فقال: ليس كل ما ظننت أني لا أعرفه، لا أعرفه. وقالوا: إن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد لما وجّه أخاه عبد العزيز إلى قتال الأزارقة، هزموه وقتلوا صاحبه مقاتل بن مسمع، وسبوا امرأته أم حفص بنت المنذر ابن الجارود العبدي، فأقاموها في السوق حاسرة بادية المحاسن، وغالوا فيها وكانت من أكمل الناس كمالا وحسنا، فتزايدت فيها العرب والموالي وكانت العرب تزيد فيها على العصبية، والموالي تزيد فيها على الولاء، حتى بلّغتها العرب عشرين ألفا، ثم تزايدوا فيها حتى بلّغوها تسعين ألف، فأقبل رجل من الخوارج من عبد القيس من خلفها بالسيف فضرب عنقها، فأخذوه ورفعوه إلى قطري بن الفجاءة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا استهلك تسعين ألفا من بيت المال وقتل أمة من إماء المؤمنين. فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت هؤلاء الإسماعيلية والإسحاقية قد تنازعوا عليها حتى ارتفعت الأصوات واحمرت الحدق، فلم يبق إلا الخبط بالسيوف، فرأيت أن تسعين ألفا في جنب ما خشيت من الفتنة بين المسلمين هينة. فقال قطري: خلّوا عنه، عين من عيون الله أصابتها. قالوا: فأقد منه. قال: لا أقيد من وزعه «1» الله. ثم قدم هذا العبدي بعد ذلك البصرة، فإذا النعمان بن الجارود يستجديه بذلك السبب، فوصله وأحسن إليه. قال: أبو عبيدة: مر عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النحو، فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وخاقان ومؤمل بن خاقان. الأصمعي قال: قدم أبو مهدية الأعرابي من البادية فقال له رجل: أبا مهدية أتتوضئون بالبادية؟ قال: والله يا ابن أخي لقد كنا نتوضأ فتكفينا التوضئة الواحدة

ثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه الحمراء- يعني الموالي- فجعلت تليق استاهها بالماء كما تلاق» الدواة. ونظر رجل من الأعراب إلى رجل من الموالي يستنجي بماء كثير، فقال له: إلى كم تغسلها ويلك! أتريد أن تشرب بها سويقا! وكان عقيل بن علقمة المرّي أشدّ الناس حميّة في العرب، وكان ساكنا في البادية، وكان يصهر إليه الخلفاء؛ وقال لعبد الملك بن مروان وخطب إليه ابنته الجرباء: جنّبني هجناء ولدك. وهو القائل: كنّا بنو غيظ رجالا فأصبحت ... بنو مالك غيظا وصرنا لمالك لحى الله دهرا ذعذع المال كلّه ... وسوّد أشباه الإماء العوارك «2» وقال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال: فما هما؟ قلت: موليان. قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وسعيد ابن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت موالي. فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت من الموالي. فاربدّ وجهه، ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاوس، وابنه وهمام بن منبه. قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا، [ثم] قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى.

فازداد وجهه تربّدا واسودّ اسوادادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى. فازداد تغيّظا وحنقا؛ ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فما كان؟ قلت: مولى. قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فو الله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عيينة، وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم، والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه. وذكر عمرو بن بحر الجاحظ، في كتاب الموالي والعرب: أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود، ولقي ما لقي من قراء أهل العراق وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه، الفقهاء والمقاتلة والموالي من أهل البصرة؛ فلما علم أنهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، أحب أن يسقط ديوانهم ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا ولا يتعاقدوا، فأقبل على الموالي وقال: أنتم علوج «1» وعجم، وقراكم أولى بكم. ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب وصيّرهم كيف شاء، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجّهه إليها؛ وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل ابن لجيم، يقال له خراش بن جابر؛ وقال شاعرهم: وأنت من نقش العجليّ راحته ... وفرّ شيخك حتى عاذ بالحكم يريد: الحكم بن أيوب الثقفي عامل الحجاج على البصرة. وقال آخر، وهو يعني أهل الكوفة، وقد كان قاضيهم رجلا من الموالي يقال له: نوح بن درّاج: إنّ القيامة فيما أحسب اقتربت ... إذ كان قاضيكم نوح بن درّاج

لو كان حيا له الحجّاج ما بقيت ... صحيحة كفّه من نقش حجّاج وقال آخر: جارية لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجاج من كنّ وظلّ «1» لو كان عمرو شاهدا وابن جبل ... ما نقشت كفاك من غير جدل ويروى أن أعرابيا من بني العنبر دخل على سوّار القاضي فقال: إن أبي مات وتركني وأخا لي- وخط خطّين- ثم قال: وهجينا- ثم خط خطا ناحية- فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: هاهنا وارث غيركم؟ قال: لا. قال: فالمال بينكم أثلاثا. قال: ما أحسبك فهمت عني، إنه تركني وأخي وهجينا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل. فغضب الأعرابي ثم أقبل على سوّار فقال: ما علمت والله، إنك قليل الخالات بالدهناء. «2» قال سوار: لا يضرّني ذلك عند الله تعالى شيئا. تم الجزء الثالث من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه؛ ويليه- إن شاء الله تعالى الجزء الرابع. وأوله: كتاب العسجدة: في كلام الأعراب.

الجزء الرابع

الجزء الرابع كتاب العسجدة في كلام الأعراب فرش كتاب العسجدة قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النسب الذي هو سبب التعارف، وسلم إلى التواصل، وفي تفضيل العرب، وفي كلام بعض الشعوبية، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كلام الأعراب خاصة؛ إذ كان أشرف الكلام حسبا، وأكثره رونقا، وأحسنه ديباجا، وأقله كلفة، وأوضحه طريقة؛ وإذ كان مدار الكلام كله عليه، ومنتسبه إليه. خالد بن صفوان وأعرابي: قال رجل من منقر: تكلم خالد بن صفوان بكلام في صلح لم يسمع الناس كلاما قبله مثله، وإذا بأعرابيّ في بت «1» ، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام وددت أني متّ قبل أن أسمعه، فلما رأى خالد ما نزل بي قال لي: ويحك! كيف نجاريهم وإنما نحاكيهم؟ أم كيف نسابقهم وإنما نجري بما سبق إلينا من أعراقهم؟ قلت له: أبا صفوان، والله ما ألومك في الأولى، ولا أدع حمدك على الأخرى. بين أعرابي وربيعة في مثله: وتكلم ربيعة الرأي يوما بكلام في العلم فأكثر، فكأن العجب داخله، فالتفت إلى أعرابي إلى جنبه فقال: ما تعدّون البلاغة يا أعرابيّ؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب. قال: فما تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم. فكأنما ألقمه حجرا «2» .

قول الأعراب في الدعاء

قول الأعراب في الدعاء قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما قوم أشبه بالسلف من الأعراب، لولا جفا فيهم. وقال غيلان: إذا أردت أن تسمع الدعاء فاسمع دعاء الأعراب. قال أبو حاتم: أملى علينا أعرابي يقال له مرثد: اللهم اغفر لي والجلد بارد، والنفس رطبة، واللسان منطلق، والصحف منشورة، والأقلام جارية، والتوبة مقبولة، والأنفس مريحة، والتضرع مرجوّ، قبل أزّ «1» العروق، وحشك «2» النفس، وعلز «3» الصدر، وتزيّل الأوصال، ونصول الشعر، وتحيّف «4» التراب؛ وقبل أن لا أقدر على استغفارك حتى يفنى الأجل، وينقطع العمل. أعنّي على الموت وكربته، وعلى القبر وغمّته، وعلى الميزان وخفّته، وعلى الصراط وزلّته، وعلى يوم القيامة وروعته؛ اغفر لي مغفرة واسعة لا تغادر ذنبا، ولا تدع كربا؛ اغفر لي جميع ما افترضت عليّ ولم أؤدّه إليك؛ اغفر لي جميع ما تبت إليك منه ثم عدت فيه يا رب تظاهرت عليّ منك النعم، وتداركت عندك مني الذنوب؛ فلك الحمد على النعم التي تظاهرت، وأستغفرك الذنوب التي تداركت. أمسيت عن عذابي غنيا، وأصبحت إلى رحمتك فقيرا؛ اللهم إني أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل، اللهم أجعل خير عملي ما وليّ أجلي؛ اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتهم شكروا، وإذا ابتليتهم صبروا، وإذا أذكرتهم ذكروا، واجعل لي قلبا توّابا أوّابا، لا فاجرا ولا مرتابا. اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا، وإذا أساءوا استغفروا، اللهم لا تحقق عليّ العذاب، ولا تقطع بي الأسباب، واحفظني في كل ما تحيط به شفقتي، ويأتي من ورائه سبحتي «5» ، وتعجز عنه قوّتي، أدعوك دعاء ضعيف عمله، متظاهرة ذنوبه، ضنين على نفسه- دعاء من

بدنه ضعيف، ومنّته عاجزة؛ قد انتهت عدّته، وخلقت جدته، وتم ظمؤه؛ لا تخيبني وأنا أرجوك، ولا تعذبني وأنا أدعوك، والحمد لله على طول النسيئة، وحسن التباعة، وتشنج العروق، وإساغة الريق، وتأخر الشدائد؛ والحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ والحمد لله الذي لا يودى قتيله، ولا يخيب سوله، ولا يردّ رسوله. اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك؛ وأعوذ بك أن أقول زورا، أو أغشى فجورا، أو أكون بك مغرورا؛ وأعوذ بك من شماتة الأعداء، وعضال «1» الداء، وخيبة الرجاء، وزوال النعمة، وفجاءة النقمة. دعا أعرابي وهو يطوف بالكعبة فقال: إلهي، من أولى بالتقصير والزلل مني وأنت خلقتني، ومن أولى بالعفو منك عني وعلمك بي ماض، وقضاؤك بي محيط؛ أطعتك بقوتك والمنة لك، وعصيتك بعلمك، فأسألك يا إلهي بوجوب رحمتك، وانقطاع حجّتي، وافتقاري إليك، وغناك عني- أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني. فتجاوز عن الذنوب التي كتبت عليّ، اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك: الشرك بك؛ فاغفر لي ما بين ذلك؛ اللهم إنك آنس المؤنسين لأوليائك، وأحضرهم للمتوكلين عليك. إلهي أنت شاهدهم وغائبهم، والمطلع على ضمائرهم، وسرّي لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف؛ إذا أوحشتني الغربة، آنسني ذكرك؛ وإذا أكبت عليّ الغموم، لجأت إلى الاستجارة بك؛ علما بأن أزمة «2» الأمور كلها بيدك، ومصدرها عن قضائك، فأقللني إليك مغفورا لي، معصوما بطاعتك باقي عمري، يا أرحم الراحمين. الأصمعي قال: حججت فرأيت أعرابيا يطوف بالكعبة ويقول: يا خير موفود سعى إليه الوفد، قد ضعفت قوّتي، وذهبت منتي، وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها الأنهار ولا تحملها البحار؛ أستجير برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، ثم

التفت فقال: أيها المشفقون، ارحموا من شملته الخطايا، وغمرته البلايا، ارحموا من قطع البلاد، وخلف ما ملك من التلاد «1» ؛ ارحموا من وبخته الذنوب، وظهرت منه العيوب؛ ارحموا أسير ضرّ، وطريد فقر. أسألكم بالذي أعملتكم الرغبة إليه، إلا ما سألتم الله أن يهب لي عظيم جرمي. ثم وضع في حلقة الباب خدّه وقال: ضرع خدّي لك، وذل مقامي بين يديك، ثم أنشأ يقول: عظيم الذنب مكروب ... من الخيرات مسلوب وقد أصبحت ذا فقر ... وما عندك مطلوب العتبي قال: سمعت أعرابيا بعرفات عشية عرفة وهو يقول: اللهم إن هذه عشية من عشايا محبتك، وأحد أيام زلفتك، يأمل فيها من لجأ إليك من خلقك، أن لا يشرك بك شيئا بكل لسان فيها يدعى، ولكل خير فيها يرجى؛ أتتك العصاة من البلد السحيق، ودعتك العناة من شعب المضيق؛ رجاء ما لا خلف له من وعدك، ولا انقطاع له من جزيل عطائك؛ أبدت لك وجوهها المصونة، صابرة على وهج السمائم «2» ، وبرد الليالي، ترجو بذلك رضوانك؛ يا غفار، يا مستزادا من نعمه، ومستعاذا من نقمه، ارحم صوت حزين دعاك بزفير وشهيق. ثم بسط كلتا يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كنت بسطت يدي إليك راغبا، فطالما كفيتنيه؛ ساهيا بنعمتك التي تظاهرت عليّ عند الغفلة، فلا أيأس منها عند التوبة: ولا تقطع رجائي منك لما قدمت من افتراف، وهب لي الإصلاح في الولد، والأمن في البلد، والعافية في الجسد، إنك سميع مجيب. ودعا أعرابي فقال: يا عماد من لا عماد له، ويا ركن من لا ركن له، ويا مجير الضعفاء، ويا منقذ الهلكى، ويا عظيم الرجاء، أنت الذي سبح لك سواد الليل وبياض النهار، وضوء القمر وشعاع الشمس، وحفيف الشجر ودوي الماء؛ يا محسن، يا مجمل، يا مفضل، لا أسألك الخير بخير هو عندك، ولكني أسألك برحمتك، فاجعل العافية لي

شعارا ودثارا «1» ، وجنّة دون كل بلاء. الأصمعي قال: خرجت أعرابية إلى منى فقطع بها الطريق، فقالت: يا رب، أخذت وأعطيت وأنعمت وسلبت، وكل ذلك منك عدل وفضل، والذي عظّم على الخلائق أمرك؛ لا بسطت لساني بمسألة أحد غيرك، ولا بذلت رغبتي إلا إليك يا قرة أعين السائلين، أغنني بجود منك أتبحبح في فراديس نعمته، وأتقلب في رواق نضرته، احملني من الرجلة «2» ، وأغنني من العيلة، وأسدل عليّ سترك الذي لا تخرقه الرماح، ولا تزيله الرياح، إنك سميع الدعاء. قال: وسمعت أعرابيا في فلاة من الأرض وهو يقول في دعائه: اللهم إن استغاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع معرفتي بسعة رحمتك لعجز! إلهي كم تحببت إليّ بنعمتك وأنت غنيّ عني، وكم أتبغّض إليك بذنوبي وأنا فقير إليك! سبحان من إذا توعد عفا، وإذا وعد وفى. قال: وسمعت أعرابيا يقول في دعائه: اللهم إن ذنوبي إليك لا تضرّك، وإن رحمتك إياي لا تنقصك؛ فاغفر لي مالا يضرك، وهب لي مالا ينقصك. قال: وسمعت أعرابيا وهو يقول في دعائه: اللهم إني أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعم بترك النعم طمعا فيما وعدت، وخوفا مما أوعدت اللهم أعذني من سطواتك؛ وأجرني من نقماتك؛ سبقت لي ذنوب وأنت تغفر لمن يتوب؛ إليك بك أتوسل، ومنك إليك أفرّ. قال: وسمعت أعرابيا يقول: اللهم إن أقواما آمنوا بك بألسنتهم ليحقنوا دماءهم فأدركوا ما أمّلوا، وقد آمنا بك بقلوبنا لتجيرنا من عذابك فأدرك منا ما أمّلناه. قال: ورأيت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة رافعا يديه إلى السماء وهو يقول رب،

أتراك معذبنا وتوحيدك في قلوبنا، وما إخالك تفعل! ولئن فعلت لتجمعنّا مع قوم طالما أبغضناهم لك. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول في صلاته: الحمد لله حمدا لا يبلى جديده ولا يحصى عديده، ولا يبلغ حدوده؛ اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت نعمره، واجعل ما بعده خيرا لنا منه؛ اللهم إن عينيّ قد اغرورقتا دموعا من خشيتك؛ فاغفر الزلة، وعد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك. الأصمعي قال: وقف أعرابي في بعض المواسم فقال: اللهم إن لك عليّ حقوقا فتصدّق بها عليّ، وللناس قبلي تباعات فتحملها عني؛ وقد وجب لكل ضيف قرى «1» ، وأنا ضيفك الليلة، فاجعل قراي فيها الجنة. قال: ورأيت أعرابيا أخذ بحلقتي باب الكعبة وهو يقول: سائلك عبد بابك ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تباعته فارض عنه، وإن لم ترض عنه فاعف عنه غير راض. قال: ودعا أعرابي عند الكعبة، فقال: اللهم إنه لا شرف إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال؛ فأعطني ما أستعين به على شرف الدنيا والآخرة. قال زيد بن عمر: سمعت طاوسا يقول: بينا أنا بمكة إذا دفعت إلى الحجاج بن يوسف، فثني لي وسادا فجلست، فبينا نحن نتحدث إذ سمعت صوت أعرابي في الوادي رافعا صوته بالتلبية، فقال الحجاج: عليّ بالملبّي. فأتي به، فقال: من الرجل؟ قال: من أفناء «2» الناس. قال: ليس عن هذا سألتك. قال: فعمّ سألتني؟ قال: من أي البلدان أنت؟ قال: من أهل اليمن. قال له الحجاج: فكيف خلفت محمد بن يوسف؟ يعني أخاه، وكان عامله على اليمن؛ قال: خلفته عظيما جسيما خرّاجا ولّاجا. قال: ليس عن هذا سألتك. قال: فعمّ سألتني؟ قال: كيف خلّفت سيرته في الناس؟ قال:

خلفته ظلوما غشوما عاصيا للخالق مطيعا للمخلوق! فازورّ «1» من ذلك الحجاج، وقال: ما أقدمك على هذا وقد تعلم مكانته مني؟ فقال له الأعرابي أفتراه بمكانته منك أعزّ مني بمكانتي من الله تبارك وتعالى، وأنا وافد بيته، وقاضي دينه، ومصدّق نبيه صلّى الله عليه وسلم! قال: فوجم لها الحجاج ولم يجر له جوابا، حتى خرج الرجل بلا إذن. قال طاوس: فتبعته حتى أتى الملتزم فتعلق بأستار الكعبة، فقال: بك أعوذ، وإليك ألوذ، فاجعل لي في اللهف إلى جوارك والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين، وغنى عما في أيد المستأثرين؛ اللهم عد بفرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة. قال طاوس: ثم اختفى في الناس فألفيته بعرفات قائما على قدميه وهو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجّي ونصبي وتعبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم مصيبة أعظم ممن ورد حوضك وانصرف محروما من وجه رحمتك. الأصمعي قال: رأيت أعرابيا يطوف بالكعبة وهو يقول: إلهي عجّت «2» إليك الأصوات بضروب من اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك إلهي أن تذكرني على طول البلاء إذا نسيني أهل الدنيا. اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك، اللهم لا تعيني بطلب ما لم تقدّره لي، وما قدرته لي فيسّره لي. قال: ودعت أعرابية لابن لها وجهته إلى حاجة، فقالت: كان الله صاحبك في أمرك، وخليفتك في أهلك، ووليّ نجح «3» طلبتك. امض مصاحبا مكلوءا، لا أشمت الله بك عدوّا، ولا أرى محبيك فيك سوءا. قال: ومات ابن لأعرابي فقال: اللهم إني وهبت له ما قصر فيه من بري، فهب له ما قصّر فيه من طاعتك، فانك فإنك أجود وأكرم.

قولهم في الرقائق

قولهم في الرقائق العتبي قال: ذكر أعرابي مصيبة فقال: والله تركت سود الرءوس بيضا، وبيض الوجوه سودا، وهوّنت المصائب بعدها. أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال يرثي آل أبي سفيان: رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا «1» فردّ شعورهن السود بيضا ... وردّ وجوههن البيض سودا فإنك إذ سمعت بكاء هند ... ورملة إذ يلطمن الخدودا بكيت بكاء موجعة بحزن ... أصاب الدهر واحدها الفريدا قال: قيل لأعرابية أصيبت بابنها: ما أحسن عزاءك قالت: إنّ فقدي إياه أمّنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هوّنت علي المصائب بعده؛ ثم أنشأت تقول: من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر كنت السواد لمقلتي ... فعليك يبكي الناظر ليت المنازل والدّيا ... ر حفائر ومقابر وقيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: ما ترك همّ الغداء والعشاء لي حزنا! وقيل لأعرابي: ما أذهب شبابك؟ قال: من طال أمده، وكثر ولده، وكثر ولده، وذهب جلده: ذهب شبابه. وقيل لأعرابي: ما أنحل جسمك؟ قال: سوء الغذاء، وجدوبة المرعى، واختلاج الهموم في صدري. ثم أنشأ يقول: الهمّ مالم تمضه لسبيله ... داء تضمّنه الضّلوع عظيم ولرّبما استيأست ثم أقول لا ... إنّ الذي ضمن النجاح كريم

وقيل لأعرابي قد أخذته السن: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت تقيّدني الشعرة، وأعثر في البعرة «1» ؛ قد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره. وقال أعرابي: لقد كنت أنكر البيضاء فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل! وقال أعرابي: إذا الرجال ولدت أولادها ... وجعلت أسقامها تعتادها واضطربت من كبر أعضادها ... فهي زروع قد دنا حصادها وذكر أعرابي قطيعة بعض إخوانه، فقال: صفرت «2» عياب الودّ بعد امتلائها واكفهرت وجوه كانت بمائها؛ فأدبر ما كان مقبلا، وأقبل ما كان مدبرا. وذكر أعرابي منزلا باد أهله، فقال: منزل والله رحلت عنه ربات الخدور وأقامت فيه أثافيّ «3» القدور، وقد اكتسى بالنبات كأنما ألبس الحلل؛ وكان أهله يعفّون فيه آثار الرياح، وأصبحت الريح تعفّي آثارهم فالعهد قريب والملتقى بعيد. ذكر أعرابي قوما تغيرت أحوالهم، فقال: أعين والله كحلت بالعبرة بعد الحبرة «4» ، وأ نفس لبست الحزن بعد السرور. وذكر أعرابي قوما تغيرت حالهم، فقال: كانوا والله في عيش رقيق الحواشي فطواه الدهر بعد سعة، حتى يبست أبدانهم من القر، ولم أر صاحبا أغرّ من الدنيا، ولا ظالما أغشم من الموت؛ ومن عصف به الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه. وقف أعرابي على دار قد باد أهلها، فقال: دار والله معتصرة للدموع، حطت بها

السحاب أثقالها، وجرّت بها الرياح أذيالها. وذكر أعرابي رجلا تغيرت حاله، فقال: طويت صحيفته وذهب رزقه، فالبلاء مسرع إليه، والعيش عنه قابض كفّيه. وذكر أعرابي رجلا ضاق عيشه بعد سعة، فقال: كان والله في ظل عيش ممدود، فقدحت عليه من الدهر زند عين كابية الزند. الأصمعي قال: أنشدني العقيل لأعرابية ترثي ابنها: ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفّين من قنا ونصال في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال «1» كنت أخباك لاعتداء يد الدهر ولم تخطر المنون ببالي وقال أعرابي يرثي ابنه: دفنت بكفي بعض نفسي فأصبحت ... وللنّفس منها دافن ودفين وقال أعرابي: إن الدنيا تنطق بغير لسان فتخبر عما يكون بما قد كان. خرج أعرابي: هاربا من الطاعون؛ فبينا هو سائر إذ لدغته أفعى فمات، فقال فيه أبوه: طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك ليت شعري ضلّة ... أيّ شيء قتلك والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك وذكر أعرابي بلدا فقال: بلد كالتّرس «2» ، ما تمشي فيه الرياح إلا عابرات سبيل، ولا يمر فيها السّفر إلا بأدلّ دليل.

قولهم في الاستطعام

قولهم في الاستطعام معن بن زائدة وأعرابي: قدم أعرابي من بني كنانة على معن بن زائدة وهو باليمن، فقال: إني والله ما أعرف سببا بعد الإسلام والرحم أقوى من رحلة مثلي من أهل السن والحسب إليك من بلاده، بلا سبب ولا وسيلة إلا دعاءك إلى المكارم، ورغبتك في المعروف؛ فإن رأيت أن تضعني من نفسك بحيث وضعت نفسي من رجائك فافعل. فوصله وأحسن إليه. لأعرابي : الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: وقف أعرابي على قوم فقال: إنا- رحمكم الله- أبناء سبيل، وأنضاء طريق وفلّال «1» سنة؛ رحم الله امرأ أعطى عن سعة، وواسى من كفاف. فأعطاه رجل درهما، فقال: آجرك الله من غير أن يبتليك. لآخر : ووقف أعرابي بقوم فقال: يا قوم، تتابعت علينا سنون جماد شداد، لم يكن للسماء فيها رجع، ولا للأرض فيها صدع، فنضب العدّ، ونشف الوشل، وأمحل الخصب، وكلح الجدب، وشف المال، وكسف البال، وشظف المعاش، وذهب الرياش؛ وطرحتني الأيام إليكم غريب الدار، نائي المحل، ليس لي مال أرجع إليه، ولا عشيرة ألحق بها؛ فرحم الله امرأ رحم اغترابي، وجعل المعروف جوابي. المهدي في الطواف: خرج المهدي يطوف بعد هدأة من الليل، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قوم معوزون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ باد

خزيمة في إبل أغير عليها:

رخالهم «1» ، وذهبت أموالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية رسوله صلّى الله عليه وسلم، فهل من آمر بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله؟ فأمر نصيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم. خزيمة في إبل أغير عليها: الأصمعي قال: أغير على إبل خزيمة، فركب بحيرة» ، فقيل له: أتركب حراما؟ قال: يركب الحرام من لا حلال له. وقال أعرابي: بين عتبة بن أبي سفيان وأعرابي: يا ليت لي نعلين من جلد الضّبع ... كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع «3» أبو الحسن قال: اعترض أعرابي لعتبة بن أبي سفيان وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه! قال: اسمعت فقل. قال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة ويختص بالخئولة، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادف ضر، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه فقال عتبة أستغفر الله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك. وسأل أعرابي فقال: رحم الله مسلما لم تمجّ أذناه كلامي، وقدم لنفسه معاذا من مقامي، فإن البلاد مجدية، والدار مضيعة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والعدم عاذر يدعو إلى إخباركم؛ والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرأ يمير وداعيا يجير. فقال له بعض القوم: ممن الرجل؟ فقال: ممن لا تنفعكم معرفته، ولا تضركم جهالته. ذلّ الاكتساب، يمنع من عز الانتساب.

أعرابي أغير على إبله:

أعرابي أغير على إبله: العتبي قال: قدم علينا أعرابي في فشّاش «1» ، قد أطردت «2» الّلصاص إبله، فجمعت له شيئا من أهل المسجد، فلما دفعت إليه الدراهم أنشأ يقول: لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن ما سرّني أنّ إبلي في مباركها ... وأنّ أمرا قضاه الله لم يكن أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال: لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... وأن أنال بنفعي من يرجّيني لما خطبت إلى الدّنيا مطالبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني لكن منافسة الأكفاء تحملني ... على أمور أراها سوف ترديني وقد خشيت بأن أبقى بمنزلة ... لا دين عندي ولا دنيا تواتيني بين خالد القسري وأعرابي: العتبي قال: دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول: أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا أناخ دهر ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا قال: أرسلوك وانتظروا؟ والله لا تجلس حتى تعود إليهم بما يسرهم! فأمر له بأربعة أبعرة موقورة «3» برّا وتمرا وخلع عليه. ابن طوق وأعرابي: الشيباني قال: أقبل أعرابي إلى مالك بن طوق، فأقام بالرحبة حينا، وكان الأعرابي من بني أسد صعلوكا في عباءة صوف وشملة شعر، فكلما أراد الدخول

منعه الحجاب، وشتمه العبيد، وضربه الأشراط؛ فلما كان في بعض الأيام خرج مالك بن طوق يريد التنزه حول الرحبة، فعارضه الأعرابي، فضربوه ومنعوه، فلم يثنه ذلك حتى أخذ بعنان فرسه، ثم قال: أيها الأمير، إني عائذ بالله من أشراطك هؤلاء! فقال مالك: دعوا الأعرابي؛ هل من حاجة يا أعرابي؟ قال: نعم أصلح الله الأمير؛ أن تصغى إليّ بسمعك، وتنظر إليّ بطرفك، وتقبل إليّ بوجهك. قال: نعم. فأنشأ الأعرابي يقول: ببابك دون الناس أنزلت حاجتي ... وأقبلت أسعى حوله وأطوف ويمنعني الحجّاب والسّتر مسبل ... وأنت بعيد والشروط صفوف «1» يدورون حولي في الجلوس كأنهم ... ذئاب جياع بينهنّ خروف فأمّا وقد أبصرت وجهك مقبلا ... فأصرف عنه إنني لضعيف ومالي من الدّنيا سواك ولا لمن ... تركت ورائي مربع ومصيف وقد علم الحيّان قيس وخندف ... ومن هو فيها نازل وحليف تخطّيت أعناق الملوك ورحلتي ... إليك وقد حنّت إليك صروف فجئتك أبغي اليسر منك فمرّ بي ... ببابك من ضرب العبيد صنوف فلا تجعلن لي نحو بابك عودة ... فقلبي من ضرب الشّروط مخوف فاستضحك مالك حتى كاد أن يسقط عن فرسه؛ ثم قال لمن حوله: من يعطيه درهما بدرهمين وثوبا بثوبين؟ فوقعت عليه الثياب والدراهم من كل جانب حتى تحير الأعرابي؛ ثم قال له: هل بقيت لك حاجة يا أعرابي؟ قال: أما إليك فلا! قال: فإلى من؟ قال: إلى الله أن يبقيك للعرب؛ فإنها لا تزال بخير ما بقيت لها. دخل أعرابي إلى هشام بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أتت علينا ثلاثة أعوام: فعام أذاب الشحم، وعام أكل اللحم، وعام انتقى العظم «2» ؛ وعندكم أموال، فإن تكن لله فبثوها في عباد الله، وإن تكن للناس فلم تحجب عنهم، وإن تكن لكم

لبعض الأعراب:

فتصدقوا؛ إن الله يجزي المتصدقين! قال هشام: هل من حاجة غير هذه يا أعرابي؟ قال: ما ضربت إليك أكباد الإبل أدّرع الهجير، وأخوض الدجا لخاصّ دون عام، ولا خير في خير لا يعم. فأمر له هشام بأموال فرّقت في الناس؛ وأمر للأعرابي بمال فرّقه في قومه. لبعض الأعراب: طلب أعرابي من رجل حاجة فوعده قضاءها؛ فقال الأعرابي: إن من وعد قضى الحاجة وإن كثرت؛ والمطل من غير عسر آفة الجود. وقال أعرابي، وأتى رجلا لم تكن بينهما حرمة في حاجة له، فقال: إني امتطيت إليك الرجاء، وسرت على الأمل، ووفدت بالشكر، وتوسلت بحسن الظن: فحقق الأمل، وأحسن المثوبة، وأكرم القصد، وأتم الود، وعجل المراد. وقف أعرابي على حلقة يونس النحوي، فقال: الحمد لله، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، إنا أناس قدمنا هذه المدينة ثلاثون رجلا؛ لا ندفن ميتا؛ ولا نتحول من منزل وإن كرهناه؛ فرحم الله عبدا تصدّق على ابن سبيل، ونضو «1» طريق، ورسل سنة؛ فإنه لا قليل من الأجر؛ ولا غني عن الله، ولا عمل بعد الموت؛ يقول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «2» إن الله لا يستقرض من عوز؛ ولكن ليبلو خيار عباده. وقف أعرابي في شهر رمضان على قوم؛ فقال: يا قوم لقد ختمت هذه الفريضة على أفواهنا من صبح أمس، ومعي بنتان لي، والله ما علمتهما تخلالا بخلال؛ فهل رجل كريم يرحم اليوم مقامنا، ويرد حشاشتنا؛ منعه الله أن يقوم مقامي فإنه مقام ذل وعار وصغار! فافترق القوم ولم يعطوه شيئا! فالتفت إليهم حتى تأملهم جميعا، ثم

لأعرابية مع عبد الرحمن ابن أبي بكر:

قال: أشدّ والله عليّ من سوء حالي وفاقتي، توهّمي فيكم المواساة! انتعلوا الطريق لاصحبكم الله. الأصمعي قال: وقف أعرابيّ علينا فقال: يا قوم، تتابعت علينا سنون بتغير وانتفاص، فما تركت لنا هبعا ولا ربعا «1» ، ولا عافطة ولا نافطة «2» ، ولا ثاغية ولا راغية «3» ؛ فأماتت الزرع، وقتلت الضرع، وعندكم من مال الله فضل نعمة؛ فأعينوني من فضل ما آتاكم الله، وارحموا أبا أيتام، ونضو زمان «4» ؛ فلقد خلفت أقواما يمرضون مريضهم ولا يكفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل إلى منزل وإن كرهوه؛ ولقد مشيت حتى انتعلت الدماء، وجعت حتى أكلت النوى. لأعرابية مع عبد الرحمن ابن أبي بكر: الأصمعي قال: وقفت أعرابية من هوازن على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقالت: إني أتيت من أرض شاسعة، تهيضني هائضة «5» وترفعني رافعة في بواد برين لحمي، وهضن عظمي: وتركنني والهة، قد ضاق بي البلد، بعد الأهل والولد، وكثرة من العدد؛ لا قرابة تؤويني، ولا عشيرة تحميني، فسألت أحياء العرب: من المرتجى سيبه، المأمون عيبه، الكثير نائله، المكفيّ سائله؟ فدللت عليك؛ وأنا امرأة من هوازن، فقدت الولد والوالد، فاصنع في أمري واحدة من ثلاث: إما أن تحسن صفدي، وإما أن تقيم أودي، وإما أن تردّني إلى بلدي. قال: بل أجمعين لك! ففعل ذلك بها أجمع. وقال أعرابي: يا عامل الخير رزقت الجنّة ... أكس بنيّاتي وأمّهنّه وكن لنا من الزمان جنّه ... واردد علينا إنّ إنّ إنّه أقسمت بالله لتفعلنّه

لبعض الأعراب:

لبعض الأعراب: الأصمعي قال: وقفت أعرابية فقالت: يا قوم، سنة جردت وأيد جمدت، وحال أجهدت؛ فهل من فاعل لخير، وآمر بمير؟ رحم الله من رحم، وأقرض من يقرض. الأصمعي قال: أصابت الأعراب أعوام جدبة وشدة وجهد، فدخلت طائفة منهم البصرة وبين أيديهم أعرابي وهو يقول: أيها الناس، إخوانكم في الدين، وشركاؤكم في الإسلام، عابر وسبيل، وفلال «1» بؤس، وصرعى جدب، تتابعت علينا سنون ثلاثة، غيرت النّعم وأهلكت النّعم، فأكلنا ما بقي من جلودها فوق عظامها فلم نزل نعلل بذلك أنفسنا، ونمنّي بالغيث قلوبنا، حتى عاد محنا عظاما، وعاد إشراقنا ظلاما، وأقبلنا إليك يصرعنا الوعر، ويكننا السهل، وهذه آثار مصائبنا، لائحة في سماتنا، فرحم الله متصدقا من كثير، ومواسيا من قليل، فلقد عظمت الحاجة، وكسف البال وبلغ المجهود، والله يجزي المتصدقين. الأصمعي قال: كنت في حلقة بالبصرة إذ وقف علينا أعرابي سائلا، فقال: أيها الناس، إن الفقر يهتك الحجاب، ويبرز الكعاب؛ وقد حملتنا سنو المصائب، ونكبات الدهور، على مركبها الوعر، فواسوا أبا أيتام، ونضو زمان، وطريد فاقة، وطريح هلكة، رحمكم الله. أتى أعرابي عمر بن عبد العزيز فقال: رجل من أهل البادية، ساقته إليك الحاجة، وبلغت به الغاية، والله سائلك عن مقامي هذا. فقال عمر. ما سمعت أبلغ من قائل ولا أوعظ لمقول له من كلامك هذا. سمع عدي بن حاتم رجلا من الأعراب وهو يقول: يا قوم، تصدقوا على شيخ معيل، وعابر سبيل، شهد له ظاهره، وسمع شكواه خالقه، بدنه مطلوب وثوبه

مسلوب! فقال له: من أنت؟ قال: رجل من بني سعد في دية لزمتني، قال: فكم هي؟ قال: مائة بعير. قال: دونكها في بطن الوادي! سأل أعرابي رجلا فأعطاه، فقال: جعل الله للمعروف إليك سبيلا، وللخير عليك دليلا، ولا جعل حظّ السائل منك عذرة صادقة. وقف أعرابي بقوم فقال: أشكو إليكم أيها الملأ زمانا كلح «1» فيّ وجهه، وأناخ عليّ كلكله، بعد نعمة من البال، وثروة من المال، وغبطة من الحال؛ اعتورتني شدائده، بنبل مصائبه، عن قسيّ نوائبه، فما ترك لي ثاغية أجتدي ضرعها، ولا راغية أرتجي نفعها، فهل فيكم من معين على صرفه، أو معد على حتفه؟ فردّ القوم عليه ولم ينيلوه شيئا؛ فأنشأ يقول: قد ضاع من يأمل من أمثالكم ... جودا وليس الجود من فعالكم لا بارك الله لكم في مالكم ... ولا أزاح السوء عن عيالكم فالفقر خير من صلاح حالكم الأصمعي قال: سأل أعرابي فلم يعط شيئا، فرفع يديه إلى السماء وقال: يا ربّ ثقتي وذخري ... لصبية مثل صغار الذّرّ جاءهم البردوهم بشرّ ... بغير لحف وبغير أزر كأنهم خنافس في جحر ... تراهم بعد صلاة العصر وكلّهم ملتصق بصدري ... فاسمع دعائي وتولّ أمري سأل أعرابي ومعه ابنتان له، فلم يعط شيئا؛ فأنشأ يقول: أيا ابنتيّ صابرا أباكما ... إنكما بعين من يراكما الله مولاي وهو مولاكما ... فأخلصا لله في نجواكما تضرّعا لا تذخرا بكاكما ... لعله يرحم من آواكما إن تبكيا فالدهر قد أبكاكما

هشام وأعرابي:

هشام وأعرابي: العتبي قال: كانت الأعراب تنتجع هشام بن عبد الملك بالخطب كل عام، فتقدّم إليهم الحاجب يأمرهم بالإيجاز، فقام أعرابي فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله تبارك وتعالى جعل العطاء محبة؛ والمنه مبغضة؛ فلأن نحبك خير من أن نبغضك! فأعطاه وأجزل له. الأصمعي قال: وقف أعرابي غنويّ على قوم؛ فقال بعد التسليم: أيها الناس، ذهب النّيل؛ وعجف الخيل «1» ؛ وبخس الكيل؛ فمن يرحم نضو سفر، وقل سنة، ويقرض الله قرضا حسنا. لا يستقرض الله من عدم، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. ثم أنشأ يقول: هل من فتى مقتدر معين ... على فقير بائس مسكين أبي بنات وأبي بنين ... جزاه ربّي بالذي يعطيني أفضل ما يجزى به ذو الدّين لبعض الأعراب: الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول لرجل: أطعمك الله الذي أطعمتني له؛ فقد أحييتني بقتل جوعي، ودفعت عني سوء ظني بيومي؛ فحفظك الله على كل جنب، وفرج عنك كل كرب، وغفر لك كل ذنب. وسأل أعرابيّ رجلا فاعتلّ عليه، فقال: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا! وقال أعرابي للمأمون: قل للإمام الذي ترجى فضائله ... رأس الأنام وما الأذناب كالراس إني أعوذ بهرون وخفرته ... وبابن عمّ رسول الله عبّاس: «2» من أن تشدّ رحال العيس راجعة ... إلى اليمامة بالحرمان والياس «3»

أعرابي وزوجه في مجاعة:

أعرابي وزوجه في مجاعة: الأصمعي قال: أصابت الأعراب مجاعة، فمررت برجل منهم قاعد مع زوجته بقارعة الطريق وهو يقول: يا ربّ إني قاعد كما ترى ... وزوجتي قاعدة كما ترى والبطن منّي جائع كما ترى ... فما ترى يا ربّنا فيما ترى! أعرابي في مجاعة: الأصمعي قال: حدّثني بعض الأعراب قال: أصابتنا سنة وعندنا رجل غني وله كلب، فجعل كلبه يعوي جوعا، فأنشأ يقول: تشكّى إليّ الكلب شدّة جوعه ... وبي مثل ما بالكلب أو بي أكثر فقلت: لعلّ الله يأتي بغيثه ... فيضحي كلانا قاعدا يتكبّر كأني أمير المؤمنين من الغنى ... وأنت من النعمى كأنك جعفر أعرابي اسمه عمرو: الأصمعي قال: سأل أعرابيّ رجلا يقال له عمرو، فأعطاه درهمين؛ فردهما عليه وقال: تركت لعمرو درهميه ولم يكن ... ليغني عنّي فاقتي درهما عمرو وقلت لعمرو خذهما فاصطرفهما ... سريعين في نقض المودة والأجر لبعض الأعراب: أبو الحسن قال: وقف علينا أعرابي، فقال: أخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، وطالب خير من رزق الله؛ فهل فيكم من مواس في الله؟. الأصمعي قال: ضجر أعرابي بكثرة العيال والولد، وبلغه أنّ الوباء بخيبر شديد؛ فخرج إليها يعرّضهم للموت، وأنشأ يقول:

مروان وأعرابي:

قلت لحمّى خيبر استعدّي ... هاك عيالي فاجهدي وجدّي وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذي الجند «1» فأخذته الحمى، فمات هو وبقي عياله. مروان وأعرابي: سأل أعرابيّ شيخا من بني مروان وحوله قوم جلوس، فقال: أصابتنا سنة. ولي بضع عشرة بنتا، فقال الشيخ: أمّا السنة فوددت والله أن بينكم وبين السماء صفائح من حديد، ويكون مسيلها مما يليني فلا تقطر عليكم قطرة؛ وأمّا البنات فليت الله أضعفهنّ لك أضعافا كثيرة، وجعلك بينهنّ مقطوع اليدين والرجلين ليس لهنّ كاسب غيرك! قال: فنظر إليه الأعرابي ثم قال: والله ما أدري ما أقول لك، ولكن أراك قبيح المنظر، سيء الخلق، فأعضّك الله ببظر أمّهات هؤلاء الجلوس حولك! طائفي وأعرابي: وقف أعرابيّ على رجل شيخ من أهل الطائف، فذكر له سنة وسأله. فقالت: وددت والله أنّ الأرض خطة لا تنبت شيئا! قال: ذلك أيبس لجفير أمّك في استها. قولهم في المواعظ والزهد هشام وأعرابي: أبو حاتم عن الأصمعي قال: دخل أعرابي على هشام بن عبد الملك فقال له: عظني يا أعرابي. فقال: كفى بالقرآن واعظا، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ

لأعرابي يعظ أخاه:

النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذا جزاء من يطفّف في الكيل والميزان، فما ظنّك بمن أخذه كله؟! لأعرابي يعظ أخاه: وقال أعرابي لأخيه: يا أخي، أنت طالب ومطلوب، يطلبك مالا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، فكأنّ ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، فامهد لنفسك، وأعدّ لغدك، وخذ في جهازك. ووعظ أعرابي أخا له أفسد ماله في الشراب، فقال: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، ولا الشيب يزجرك، والساعات تحصى عليك، والأنفاس تعدّ منك، والمنايا تقاد إليك؛ أحب الأمور إليك أعودها بالمضرة عليك. لبعض الأعراب: وقيل لأعرابي: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لثلاث خلال فيه: لأنه متلف للمال، مذهب للعقل، مسقط للمروءة. وقال أعرابي لرجل: أي أخي، إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فإن لم ترزق غنى» فلا تحرم تقوى، فرب شبعان من النعم، غرثان «2» من الكرم؛ واعلم أن المؤمن على خير، ترحّب به الأرض، وتستبشر به السماء؛ ولن يساء إليه في بطنها، وقد أحسن على ظهرها. وقال أعرابي: الدراهم مياسم «3» تسم حمدا وذمّا؛ فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له؛ وما كلّ من أعطي مالا أعطي حمدا ولا كلّ عديم ذميم. أخذ هذا المعنى الشاعر فقال: أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك

لابن عباس:

لابن عباس: وهذا نظير قول ابن عباس- ونظر إلى درهم في يد رجل- فقال: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. لبعض الأعراب: وقال أعرابي لأخ له: يا أخي، إن مالك إن لم يكن لك، كنت له؛ وإن لم تفنه أفناك، فكله قبل أن يأكلك. وقال أعرابي: مضى لنا سلف أهل تواصل اعتقدوا مننا، واتخذوا الأيادي ذخيرة لمن بعدهم، يرون اصطناع المعروف عليهم فرضا لازما، وإظهار البرّ واجبا ثم جاء الزمان ببنين اتخذوا مننهم بصناعة، وبرّهم مرابحة، وأياديهم تجارة، واصطناع المعروف مقارضة «1» كنقد [السوق] : خذ مني وهات. وقال أعرابي لولده: يا بني، لا تكن رأسا ولا ذنبا، فإن كنت رأسا فتهبأ للنطاح، وإن كنت ذنبا فتهيأ للنكاح. قال: وسمعت أعرابيا يقول لابن عمه: سأتخطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على شك ومن الآخر على يقين؛ ولكن ليتمّ المعروف مني إليك، ولتقوم الحجة لي عليك. قال: وسمعت أعرابيا يقول: إن الموفّق من ترك أرفق الحالات به لأصلحها لدينه، نظرا لنفسه إذا لم تنظر نفسه لها. قال: وسمعت أعرابيا يقول: الله مخلف ما أتلف الناس، والدهر متلف ما أخلفوا، وكم من ميتة عليها طلب الحياة، وكم من حياة سببها التعرض للموت. وقال أعرابي: إن الآمال قطعت أعناق الرجال، كالسراب: غرّ من رآه، وأخلف من رجاه.

وقال أعرابي لصاحب له: اصحب من يتناسى معروفه عندك، ويتذكر حقوقك عليه. وقال أعرابي: لا تسأل عمن يفرّ من أن تسأله، ولكن سل من أمرك أن تسأله، وهو الله تعالى. وقيل لأعرابي في مرضه: ما تشتكي؟ قال: تمام العدّة، وانقضاء المدّة. ونظر أعرابي إلى رجل يشكو ما هو فيه من الضيق والضر، فقال: يا هذا، أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك. وقالت أعرابية لابنها: يا بنيّ، إن سؤالك الناس ما في أيديهم أشد من الافتقار إليهم، ومن افتقرت إليه هنت عليه، ولا تزال تحفظ وتكرم حتى تسأل وترغب فإذا ألحت عليك الحاجة ولزمك سوء الحال، فاجعل سؤالك إلى من إليه حاجة السائل والمسئول، فإنه يعطي السائل. وقالت أعرابية توصي ابنا لها أراد سفرا: يا بنيّ، عليك بتقوى الله فإنه أجدى عليك من كثير غيرك؛ وإياك والنمائم، فإنها تورث الضغائن وتفرق بين المحبين، ومثّل لنفسك مثالا تستحسنه من غيرك فاحذر عليه واتخذه إماما، واعلم أنه من جمع بين السخاء والحياء، فقد أجاد الحلة إزارها ورداءها. قال الأصمعي: لا تكون الحلة إلا ثوبين: ازارا ورداء. أنشد الحسن لأعرابي كان يطوف بأمه على عانقه حول الكعبة: إن تركبي على قذالي «1» فاركبي ... فطالما حملتني وسرت بي في بطنك المطهّر المطيّب ... كم بين هذاك وهذا المركب وأنشد لآخر كان يطوف بأمه: ما حجّ عبد حجّة بأمّه ... فكان فيها منفقا من كدّه

لا استتمّ الأجر عند ربّه قال وسمعت أعرابيا يقول: ما بقاء عمر تقطعه الساعات، وسلامة بدن معرّض للآفات! ولقد عجبت من المؤمن كيف يكره الموت وهو ينقله إلى الثواب الذي أحيا له ليله وأظمأ له نهاره. وذكر أهل السلطان عند أعرابي فقال: أما والله لئن عزّوا في الدنيا بالجور لقد ذلّوا في الآخرة بالعدل، ولقد رضوا بقليل فان عوضا عن كثير باق، وإنما تزل القدم حيث لا ينفع الندم. ووصف أعرابي الدنيا فقال: هي رنقة «1» المشارب، جمة المصائب لا تمتعك الدهر بصاحب. وقال أعرابي: من كان مطيته الليل والنهار سارا به وإن لم يسر، وبلغا به وإن لم يبلغ. قال: وسمعت أعرابيا يقول: الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة والزهادة في الآخرة مفتاح الرغبة في الدنيا. وقيل لأعرابي وقد مرض: إنك تموت! قال: وإذا متّ فإلى أين يذهب بي؟ قالوا: إلى الله! قال: فما كراهتي أن يذهب بي إلى من لم أر الخير إلا منه؟ وقال أعرابي: من خاف الموت بادره الموت، ومن لم ينحّ النفس عن الشهوات أسرعت به إلى الهلكات، والجنة والنار أمامك. وقال أعرابي لصاحب له: والله لئن هملجت «2» إلى الباطل إنك لعطوف عن الحق، وإن أبطأت ليسرعنّ إليك، وقد خسر أقوام وهم يظنون أنهم رابحون؛ فلا تعرّنّك الدنيا، فإن الآخرة من ورائك. وقال أعرابي: خير لك من الحياة ما إذا فقدته أبغضت له الحياة، وشر من الموت

ما إذا نزل بك أحببت له الموت. وقال أعرابيّ: حسبك من فساد الدنيا أنك ترى أسنمة توضع؛ وأخفافا ترقع. والخير يطلب عند غير أهله، والفقير قد حل غير محله. وقدم أعرابي إلى السلطان فقال له: قل الحقّ وإلا أوجعتك ضربا! قال له: وأنت فاعمل به، فو الله ما أوعدك الله على تركه أعظم مما توعّدني به. وقيل لأعرابي: من أحقّ الناس بالرحمة؟ قال الكريم يسلّط عليه اللئيم، والعاقل يسلط عليه الجاهل. وقيل له: أي الداعين أحق بالإجابة؟ قال المظلوم. وقيل له: فأي الناس أغنى عن الناس؟ قال: من أفرد الله بحاجته. ونظر عثمان إلى أعرابي في شملة غائر العينين مشرف الحاجبين ناتىء الجبهة، فقال له: يا أعرابي، أين ربّك؟ قال: بالمرصاد. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: إذا أشكل عليك أمران فانظر أيهما أقرب من هواك فخالفه، فإن أكثر ما يكون الخطأ مع متابعة الهوى. قال: وسمعت أعرابيا يقول: من نتج الخير أنتج له فراخا تطير بأجنحة السرور؛ ومن غرس الشر أنبت له نباتا مرّا مذاقه، وقضبانه الغيظ، وثمرته الندم. وقال أعرابي: الهوى عاجله لذيذ، وآجله وخيم. وقيل لأعرابي: إنك لحسن الشارة. قال: ذلك عنوان نعمة الله عندي. قال الأصمعي: ورأيت أعرابيا أمامه شاء فقلت له: لمن هذه الشاء؟ قال: هي لله عندي. وقيل لأعرابي: كيف أنت في دينك؟ قال: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار. وقال أعرابي: من كساه الحياء ثوبه خفى على الناس عيبه. وقال: بئس الزاد التعدي على العباد. وقال: التلطف بالحيلة أنفع من الوسيلة. وقال: من ثقل على صديقه خفّ على عدوّه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون.

قال وسمعت أعرابيا يقول لابنه وهو يعاتبه: لا تتوهمن- على من يستدل على غائب الأمور بشاهدها- الغفلة عن أمور يعاينها، فتكون بنفسك أخطأت، وحظّك أخطأت. ونظر أعرابي إلى رجل حسن الوجه بضّه «1» فقال. إني أرى وجها ما علقه برد وضوء السّحر، ولا هو بالذي قال فيه الشاعر: من كلّ مجتهد برى أوصاله ... صوم النهار وسجدة الأسحار الأصمعي قال: سمعت أعرابيا ينشد: وإذا أظهرت أمرا حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسرّ فمسرّ الخير موسوم به ... ومسرّ الشرّ موسوم بشرّ وقول الأعرابي هذا على ما جاء في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما اسر امرؤ سريرة إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر» . قال: وأنشدني أعرابي: وما هذه الأيام إلّا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد فإنك لا تدري بأيّة بلدة ... تموت ولا ما يحدث الله في غد يقولون لا تبعد ومن يك مسدلا ... على وجهه ستر من الأرض يبعد وقال أعرابي: أعجز الناس من قصّر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم. وقال أعرابي لابنه: لا يسرك أن تغلب بالشر؛ فإن الغالب بالشر هو المغلوب. وقال أعرابي لأخ له: قد نهيتك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه. فإن حظك من عطيته السؤال. قال: وسمعت أعرابيا يقول: إن حب الخير خير وإن عجزت عنه المقدرة،

وبغض الشر خير وإن فعلت أكثره. وشهد أعرابي عند سوار القاضي بشهادة، فقال له: يا أعرابي، إن ميداننا لا يجري من العتاق فيه إلا الجياد. قال: لئن كشفت لتجدنّي عثورا! فسأل عنه سوار فأخبر بفضل وصلاح، فقال له: يا أعرابي، أنت ممن يجري في ميداننا. قال: ذلك بستر الله. وقال أعرابي: والله لولا أن المروءة ثقيل محملها، شديدة مؤنتها «1» ، ما ترك اللئام للكرام شيئا. احتضر أعرابي، فقال له بنوه: عظنا يا أبت. فقال: عاشروا الناس معاشرة إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم. ودخل أعرابي على بعض الملوك في شملة شعر، فلما رآه أعرض عنه، فقال له: إن الشملة لا تكلمك وإنما يكلمك من هو فيها. مرّ أعرابي بقوم يدفنون جارية، فقال نعم الصهر ما صهرتم! وأنشد: وفي الأعياص أكفاء ليلى ... وفي لحد لها كفء كريم وقال أعرابي: رب رجل سره منشور على لسانه، وآخر قد التحف عليه قلبه التحاف الجناح على الخوافي. ومرّ أعرابيان برجل صلبه بعض الخلفاء، فقال أحدهما: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية! وقال الآخر: من طلق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحق فالجذع راحلته. العتبي عن زيد بن عمارة، قال: سمعت أعرابيا يقول لأخيه وهو يبني منزلا: يا أخي: أنت في دار شتات ... فتأهّب لشتاتك

لآخر في الوفاء:

واجعل الدّنيا كيوم ... صمته عن شهواتك واجعل الفطر إذا ما ... نلته يوم مماتك واطلب الفوز بعيش الز ... هد من طول حياتك ثم أطرق حينا ورفع رأسه وهو يقول: قائد الغفلة الأمل ... والهوى قائد الزّلل قتل الجهل أهله ... ونجا كلّ من عقل فاغتنم دولة السّلا ... مة واستأنف العمل أيها المبتني القصو ... ر وقد شاب واكتهل أخبر الشّيب عنك أنك في آخر الأجل فعلام الوقوف في ... عرصة العجو والكسل أنت في منزل إذا ... حلّه نازل رحل منزل لم يزل يضيق وينبو بمن نزل فتأهب لرحلة ... ليس يسعى بها جمل رحلة لم تزل على الدهر ... مكروهة القفل وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما جوفي له إلا قبر. لآخر في الوفاء: وقال أعرابي: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل. ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه. لآخر فيما يضيع الأمور: وقال أعرابي: إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه- ضاعت الأمور.

لآخر في القدر:

لآخر في القدر: وسئل أعرابي عن القدر فقال: الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس: يعرف ضوءها ولا يقف على حدودها. وسئل آخر عن القدر فقال: علم اختصمت فيه العقول، وتقاول فيه المختلفون، وحق علينا أن نرد ما التبس علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. وقال أعرابي تكوير «1» الليل والنهار، لا يبقي على الأعمار، ولا لأحد فيه الخيار. الحجاج وأعرابي: أبو حاتم عن الأصمعي قال: خرج الحجاج ذات يوم فأصحر «2» ، وحضر غداؤه فقال: اطلبوا من يتغدّى معنا. فطلبوا، فلم يجدوا إلا أعرابيا في شملة، فأتوه به، قال له: هلم. قال له: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته! قال: ومن هو؟ قال: الله تبارك وتعالى، دعاني إلى الصيام، فأنا صائم. قال: صوم في مثل هذا اليوم على حر؟ قال صمت ليوم هو أحرّ منه! قال فأفطر اليوم وتصوم غدا. قال: ويضمن لي الأمير أن أعيش إلى غدّ! قال: ليس ذلك إلي قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل ليس إليه سبيل! قال: إنه طعام طيب. قال: والله ما طيّبه خبازك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية! قال الحجاج: تا لله ما رأيت كاليوم، أخرجوه عني. لأعرابي: أبو الفضل الرياشي قال: أنشدنا أعرابي: أباكية رزينة إن أتاها ... نعيّ أم يكون لها اصطبار إذا ما أهل ودّي ودّعوني ... وراحوا والأكف بها غبار وغودر أعظمي في لحد قبر ... تعاوره الجنائب والقطار «3»

عمر وأعرابي بالجبانة:

تظلّ الرّيح عاصفة عليه ... ويرعى حوله الّلهق النّوار» فذاك النّأي لا الهجران حولا ... وحولا ثم تجمعنا الدّيار وهذا نظير قول ليلى الأخيلية: لعمرك ما الهجران أن تشحط النّوى ... ولكنما الهجران ما غيّب القبر «2» ونظيره قول خنساء: نأي الخليلين كون الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها رمما «3» وأنشد الآخر: إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حبيبك فاعلم أنها ستعود عمر وأعرابي بالجبانة: الرياشي قال: مرّ عمر بن الخطاب بالجبّانة فإذا هو بأعرابيّ، فقال: ما تصنع هنا يا أعرابي في هذه الديار الموحشة؟ قال: وديعة لي هاهنا يا أمير المؤمنين. قال: وما وديعتك؟ قال: بنيّ لي دفنته، فأنا أخرج إليه كل يوم أندبه. قال: فاندبه حتى أسمع. فأنشأ يقول: يا غائبا ما يؤوب من سفره ... عاجله موته على صغره يا قرّة العين كنت لي سكنا ... في طول ليلي نعم وفي قصره شربت كأسا أبوك شاربها ... لا بدّ يوما له على كبره يشربها والأنام كلّهم ... من كان في بدوه وفي حضره فالحمد لله لا شريك له ... الموت في حكمه وفي قدره قد قسّم العمر في العباد فما ... يقدر خلق يزيد في عمره

قولهم في المدح

قولهم في المدح لبعضهم في المدح: ذكر أعرابي قوما عبادا، فقال: تركوا والله النعيم ليتنعموا؛ لهم عبرات متدافعة، وزفرات متتابعة، لا تراهم إلا في وجه وجيه عند الله. وذكر أعرابيّ قوما فقال: أدّبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب؛ فلم تغرّهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي به قطع الناس مسافة آجالهم: فدلّت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالوجد «1» فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال. وسئل أعرابي عن قوم فقال: كانوا إذا اصطفوا سفرت «2» بينهم السهام؛ وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها؛ فرب يوم عارم «3» قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد ضاحكتها أسنتهم؛ إنما قومي البحر. ما ألقمته التقم. وذكر أعرابي قوما فقال: ما رأيت أسرع [منهم] إلى داع بليل على فرس حسيب «4» وجمل نجيب. ثم لا ينتظر الأول السابق الآخر اللاحن. وذكر أعرابي قوما فقال: جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم. فالخير بهم زائد، والمعروف لهم شاهد؛ فيعطونها بطيبة أنفسهم إذا طلبت إليهم. ويباشرون المعروف بإشراق الوجوه إذا بغي لديهم. وذكر أعرابي قوما فقال: والله ما أنالوا شيئا بأطراف أناملهم إلا وطئناه بأخماص أقدامنا؛ وإن أقصى هممهم لأدنى فعالنا. وذكر أعرابي أميرا فقال: إذا ولى يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه؛ فهو غائب عنهم شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.

ودخل أعرابي على رجل من الولاة فقال: أصلح الله الأمير، اجعلني زماما من أزمتك تجرّبه الأعداء، فإني مسعر حرب، وركّاب نجب، شديد على الأعداء لين على الأصدقاء؛ منطوي الحصيلة، قليل الثميلة «1» ، نومي غرار «2» ، قد غذتني الحرب بأفاويقها، وحلبت الدهر أشطره؛ ولا تمنعك مني الدمامة؛ فإن من تحتها شهامة. وذكر أعرابي رجلا ببراعة المنطق فقال: كان والله بارع المنطق، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان، فصيح البيان، رقيق حواشي الكلام، بليل الريق، قليل الحركات، ساكن الإشارات. وذكر أعرابي رجلا فقال: رأيت له حلما وأناة، يحدثك الحديث على مقاطعه، ينشدك الشعر على مدارجه، فلا تسمع له لحنا ولا إحالة «3» . العتبي قال: ذكر أعرابي قوما، فقال: آلت سيوفهم ألّا تقضي دينا عليهم، ولا تضيّع حقا لهم، فما أخذ منهم مردود إليهم، وما أخذوا متروك لهم. ومدح أعرابي رجلا، فقال: ما رأيت عينا قط أخرق لظلمة الليل من عينه ولحظة أشبه بلهيب النار من لحظته؛ له هزة كهزة السيف إذا طرب، وجرأة كجرأة الليث إذا غضب. ومدح أعرابي رجلا، فقال: كان الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين؛ لم أر أحدا أرتق لخلل الرأي منه، بعيد مسافة العقل ومراد الطرف، إنما يرمي بهمته حيث أشار الكرم. ومدح أعرابيّ رجلا فقال: ذاك والله فسيح النسب، مستحكم الأدب، من أي أقطاره أتيته انتهى إليك بكرم فعال، وحسن مقال. ومدح أعرابي رجلا فقال: كانت ظلمة ليله كضوء نهاره، آمرا بإرشاد، وناهيا

عن فساد، لحديث السوء غير منقاد. وقال أعرابي: إن فلانا «نعم» للسانه قبل أن يخلق لسانه لها: فما تراه الدهر إلا وكأنه لا غنى له عنك وإن كنت إليه أحوج؛ إذا أذنبت إليه غفر وكأنه المذنب، وإذا أسأت إليه أحسن وكأنه المسيء. وذكر أعرابي رجلا فقال: اشترى والله عرضه من الذي؛ فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى بعدها عليه حقوقا، وكان منهاجا للأمور المشكلة إذا تناجز الناس باللائمة. ومدح أعرابيّ رجلا فقال: كان والله يغسل من العار وجوها مسودة، ويفتح من الرأي عيونا منسدة. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك والله ينفع سلمه ولا يستمر ظلمه؛ إن قال فعل، وإن ولى عدل. ومدح أعرابي رجلا فقال: ذاك والله يعني في طلب المكارم، غير ضال في مسالك طرقها، ولا مشتغل عنها بغيرها. وذكر أعرابي رجلا فقال: يفوّق الكلمة على المعنى فتمرق مروق السهم من الرميّة، فما أصاب قتل، وما أخطأ أشوى «1» ، وما عظعظ «2» له سهم منذ تحرك لسانه في فيه. وذكر أعرابي أخاه فقال: كان والله ركوبا للأهوال، غير ألوف لربّات الحجال؛ إذا أرعد القوم من غير كرّ، يهين نفسا كريمة على قومها، غير مبقية لغد ما في يومها. ومدح رجل رجلا فقال: كأن الألسن ريضت «3» فما تنعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا بثنائه.

ومدح أعرابي رجلا فقال: كان والله للإخاء وصولا، وللمال بذولا، وكان الوفاء بهما عليه كفيلا، فمن فاضله كان مفضولا. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: التباعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير. ومدح أعرابي: رجلا فقال: كان والله من شجر لا يخلف ثمره، ومن بحر لا يخاف كدره. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك والله فتى زانه الله بالخير ناشئا، فأحسن لبسه، وزين به نفسه. ومدح أعرابي رجلا فقال: يصم أذنيه عن استماع الخنا «1» ، ويخرس لسانه عن التكلم به؛ فهو الماء الشّريب «2» ، والمصقع الخطيب. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رجل سبق إليّ معروفه قبل طلبي إليه، فالعرض وافر، والوجه بمائه، وما أستقل بنعمة إلا أثقلني بأخرى. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رضيع الجود والمفطوم به، عيّ عن الفحشاء، معتصم بالتقوى؛ إذا خرست الألسن عن الرأي حذف «3» بالصواب كما يحذف الأرنب، فإن طالت الغاية ولم يكن من دونها نهاية تمهل أمام القوم سابقا. وذكر أعرابي رجلا فقال: إن جليسه لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء. وذكر أعرابي رجلا فقال: كان له علم لا يخالطه جهل، وصدق لا يشوبه كذب، كأنه الوبل عند المحل. وذكر أعرابي رجلا فقال: ما رأيت أعشق للمعروف منه، وما رأيت المنكر أبغض لأحد منه.

وقدم أعرابي البادية وقد نال من بني برمك، فقيل له: كيف رأيتهم؟ قال: رأيتهم قد أنست بهم النعمة كأنها من بناتهم. قال: وذكر أعرابي رجلا فقال: ما زال يبني المجد، ويشتري الحمد، حتى بلغ منه الجهد. ودخل أعرابي على بعض الملوك فقال: إن جهلا أن يقول المادح بخلاف ما يعرف من الممدوح، وإني والله ما رأيت أعشق للمكارم في زمان اللؤم منك. ثم أنشد: مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأن بابك مجمع الأسواق حابوك أم هابوك أم شاموا النّدى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق إني رأيتك للمكارم عاشقا ... والمكرمات قليلة العشّاق وأنشد أعرابي في مثل هذا المعنى: بنت المكارم وسط بيتك بيتها ... فتلادها بك للصديق مباح وإذا المكارم أغلقت أبوابها ... يوما فأنت لقفلها مفتاح وأنشد أعرابي في بني المهلّب: قدمت على آل المهلّب شاتيا «1» ... قصيّا بعيد الدار في زمن المحل فما زال بي إلطافهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي وأنشد أعرابي: كأنك في الكتاب وجدت لاء ... محرمة عليك فما تحلّ وما تدري إذا أعطيت مالا ... أتكثر من سماحك أم تقل إذا دخل الشتاء فأنت شمس ... وإن دخل المصيف فأنت ظل وقال أعرابي في مدح عمر بن عبد العزيز: مقابل الأعراق في الطاب الطاب ... بين أبي العاص وآل الخطاب «2»

قولهم في الذم

وأنشد أعرابي: لنا جواد أعار النّيل نائله ... والنّيل يشكر منه كثرة النيل ان بارز الشمس ألقى الشمس مظلمة ... أو زاحم الصّم ألجاها إلى الميل أهدى من النّجم إن تأتيه مشكلة ... وعند إمضائه أمضى من السيل والموت يرهب أن يلقى منيّته ... في شدّه عند لفّ الخيل بالخيل قولهم في الذمّ الأصمعي قال: ذكر أعرابي قوما فقال: أولئك سلخت أقفاؤهم بالهجاء، ودبغت وجوههم باللؤم؛ لباسهم في الدنيا الملامة، وزادهم إلى الآخرة الندامة. قال: وذكر أعرابي قوما فقال: لهم بيوت تدخل حبوا إلى غير نمارق «1» ولا وسائد، فصح الألسن بردّ السائل؛ جعد الأكف عن النائل. قال: وسمعت أعرابيا يقول: لقد صغّر فلانا في عيني عظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل إذا أتاه، ملك الموت إذا رآه. وسئل أعرابي عن رجل، فقال: ما ظنكم بسكّير لا يفيق، يتهم الصديق، ويعصى الشفيق، لا يكون في موضع إلا حرمت فيه الصلاة، ولو أفلتت كلمة سوء لم تصر إلا إليه، ولو نزلت لعنة من السماء لم تقع إلا عليه. وذكر أعرابي قوما فقال: أقل الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم تجرّما على أصدقائهم؛ يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء. وذكر أعرابي رجلا فقال: إن فلانا ليعدي بإثمه من تسمّى باسمه، ولئن خيبني فلرب باقية قد ضاعت في طلب رجل كريم. وذكر أعرابي رجلا فقال: تغدو إليه مراكب الضلالة فترجع من عنده ببدور «2»

لشاعر في الهجاء:

الآثام، معدم ما تحب، مثر مما تكره. وصاحب السوء قطعة من النار. وقال أعرابي لرجل: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، وإذا حدّث حلف، وإذا وعد أخلف؛ تنظر نظر حسود، وتعرض إعراض حقود. وسافر أعرابي إلى رجل فحرّمه، فقال لما سئل عن سفره: ما ربحنا في سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا؛ فأمّا الذي لقينا من الهواجر، ولقيت منا الأباعر، فعقوبة لنا فيما أفسدنا من حسن ظننا. ثم أنشأ يقول: رجعنا سالمين كما خرجنا ... وما خابت سريّة سالمينا لشاعر في الهجاء: وقال أعرابي: لمّا رأيتك لا فاجرا ... قويّا ولا أنت بالزاهد ولا أنت بالرجل المتّقي ... ولا أنت بالرجل العابد عرضتك في السّوق سوق الرقيق ... وناديت هل فيك من زائد على رجل خان ودّ الصديق ... كفور بأنعمه جاحد فما جاءني رجل واحد ... يزيد على درهم واحد سوى رجل زادني دانقا ... ولم يك في ذاك بالجاهد «1» فبعتك منه بلا شاهد ... مخافة ردّك بالشاهد وأبت إلي منزلي غانما ... وحلّ البلاء على الناقد لبعض الأعراب: قال: وذكر أعرابي رجلا، قال: كان إذا رآني قرّب من حاجب حاجبا، فأقول له: لا تقبّح وجهك إلى قبحه، فوالله ما أتيتك لطمع راغبا، ولا لخوف راهبا.

وذم أعرابي رجلا فقال: عبد الفعال، حر المقال؛ عظيم الرواق، دنيء الأخلاق؛ الدهر يرفعه، ونفسه تضعه. وذمّ أعرابي رجلا فقال: ضيق الصدر، صغير القدر، عظيم الكبر، قصير الشبر، لئيم النّجر «1» ، كثير الفخر. وقال أعرابي: دخلت البصرة فرأيت ثياب أحرار على أجساد عبيد؛ إقبال حظهم إدبار حظ الكرام، شجر أصوله عند فروعه، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك يتيم، أعيا ما يكون عند جلسائه أبلغ ما يكون عند نفسه. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذلك إلى من يداوي عقله من الجهل، أحوج منه إلى من يداوي بدنه من المرض؛ إنه لا مرض أوجع من قلة عقل. وذكر أعرابي رجلا لم يدرك بثأره، فقال: كيف يدرك بثأره من في صدره من اللؤم حشو مرفقته؛ ولو دقّت بوجهه الحجارة لرضّها «2» ، ولو خلا بالكعبة لسرقها. وذكر أعرابي رجلا فقال: تسهر والله زوجته جوعا إذا سهر الناس شبعا؛ ثم لا يخاف مع ذلك عاجل عار، ولا آجل نار؛ كالبهيمة أكلت ما جمعت، ونكحت ما وجدت. وسمع أعرابي رجلا يزعق، فقال: ويحك! إنما يستجاب لمؤمن أو مظلوم، ولست بواحد منهما؛ وأراك يخف عليك ثقل الذنوب فيحسّن عندك مقابح العيوب. وذكر أعرابي رجلا بضعف فقال: سيء الروية، قليل التقية «3» ، كثير السعاية، ضعيف النكاية. وذكر أعرابي رجلا فقال: عليه كل يوم من فعله شاهد بفسقه؛ وشهادات الأفعال أعدل من شهادات الرجال.

وذكر أعرابي رجلا بذلة فقال: عاش خاملا ومات موتورا. وذكر قوما فقال: ألبسوا نعمة ثم عرّوا منها فقال: ما كانت النعمة إلا طيفا لما انتبهوا لها ذهبت عنهم. وذم أعرابي رجلا فقال: هو كعبد القنّ «1» يسرك شاهدا ويسوءك غائبا. ودعت أعرابية على رجل فقالت: أمكن الله منك عدوّا حسودا، وفجع بك صديقا ودودا؛ وسلط عليك همّا يضنيك، وجارا يؤذيك. وقال أعرابي لرجل شريف البيت دنيء الهمة: ما أحوجك أن يكون عرضك لمن يصونه، فتكون فوق ما أنت دونه. وذكر أعرابي رجلا فقال: إن حدّثته يسابقك إلى ذلك الحديث، وإن سكتّ عنه أخذ في الترّهات. وذكر أعرابي أميرا فقال: يصل النشوة، ويقضي بالعشوة «2» ، ويقبل الرشوة. وذكر أعرابي رجلا راكبا هواه، فقال: والله لهو أسرع إلى ما يهواه، من الأسن «3» إلى راكد المياه، أفقره ذلك أو أغناه. وقال أعرابي: ليت فلانا أقالني من حسن ظني به، فأختم بصواب إذ بدأت بخطأ؛ ولكن من لم تحكمه التجارب أسرع بالمدح إلى من يستوجب الذم، وبالذم إلى من يستوجب المدح. وقال أعرابي لرجل: هل أنت إلا أنت لم تغير! ولو كنت من كنت حديد وضعت على أتون محمىّ لم تذب. وسمعت أعرابيا يقول لأخيه: قد كنت نهيتك أن تدنس عرضك بعرض فلان، وأعلمتك أنه سمين المال، مهزول المعروف، من المرزوقين فجأة، قصير عمر الغنى، طويل عمر الفقر.

أقبل أعرابي إلى سوّار فلم يصادف عنده ما أحب، فقال فيه: رأيت لي رؤيا وعبّرتها ... وكنت للأحلام عبّارا بأنني أخبط في ليلتي ... كلبا فكان الكلب سوّارا وقال أعرابي في ابن عم له يسمى زيادا: من يبادلني قريبا ... ببعيد من أياد؟ من يقادر، من يطافس ... من يناذل بزياد «1» في هجاء ابن سلم: وقال سعيد بن سلم الباهلي: مدحني أعرابيّ، فاستبطأ الثواب فقال: لكلّ أخي مدح ثواب يعدّه ... وليس لمدح الباهليّ ثواب مدحت سعيدا والمديح مهزّة ... فكان كصفوان، عليه تراب «2» وقال أيضا: وإنّ من غاية حرص الفتى ... طلابه المعروف في باهله كبيرهم وغد ومولودهم ... تلعنه في قبحه القابله وقال أيضا: سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد وقال فيه: لمّا رآنا فرّ بوّابه ... وانسدّ في غير يد بابه وعنده من مقته حاجب ... يحجبه إن غاب حجّابه

في هجاء مساور:

في هجاء مساور: دخل أعرابي على المساور بن هند وهو على الريّ، فلم يعطه شيئا؛ فخرج وهو يقول: أتيت المساور في حاجة ... فما زال يسعل حتى ضرط وحكّ قفاه بكرسوعه ... ومسّح عثنونه وامتخط «1» فأمسكت عن حاجتي خيفة ... لأخرى تقطّع شرج السّفط «2» فأقسم لو عدت في حاجتي ... للطّخ بالسلح وجه النّمط «3» وقال غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضّرط جاء الغلط وكان كلما ركب صاح الصبيان: من الضرط جاء الغلط. حتى هرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان. في رجل قصير: أبو حاتم عن أبي زيد، قال: أنشدنا أعرابي في رجل قصير: يكاد خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد استه وهو قائم في امرأة قبيحة: وذكر أعرابي امرأة قبيحة، فقال: ترخي ذيلها على عرقوبي نعامة، وتسدل خمارها على وجه كالجعالة» .

لبعض الأعراب:

لبعض الأعراب: العتبي قال: سمعت أعرابيا يقول: لا ترك الله مخّا في سلامى «1» ناقة حملتني إليك وللدّاعي عليها أحق بالدعاء عليه؛ إذ كلفها المسير إليك. وقال أعرابي لابن الزبير لا بوركت ناقة حملتني إليك. قال: إنّ وصاحبها. قوله: إنّ، يريد «نعم» . قال قيس الرقيات: وتقول شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنّه يريد: نعم. وذكر أعرابي، رجلا، فقال: لا يؤنس جارا، ولا يؤهل دارا، ولا يثقب «2» نارا. وسأل أعرابي رجلا فحرمه، فقال له أخوه؛ نزلت والله بواد غير ممطور، وبرجل غير مبرور؛ فارتحل بندم، أو أقم بعدم. ودخلت أعرابية على حمدونة بنت المهدي؛ فلما خرجت سئلت عنها، فقالت: والله لقد رأيتها فما رأيت طائلا؛ كأن بطنها قربة، وكأن ثديها دبّة «3» ، وكأن استها رقعة، وكأن وجهها وجه ديك قد نفش عفريته «4» يقاتل ديكا. وصاحب أعرابي امرأة فقال لها: والله إنك لمشرفة الأذنين، جاحظة العينين، ذات خلق متضائل، يعجبك الباطل، إن شبعت بطرت، وإن جعت صخبت، وإن رأيت حسنا دفنتيه، وإن رأيت سيئا أذعتيه؛ تكرمين من حقرك، وتحقرين من أكرمك. وهجا أعرابي امرأته فقال: يا بكر حوّاء من الأولاد ... وأمّ آلاف من العباد عمرك ممدود إلى التّنادي ... فحدّثينا بحديث عاد

في عجوز:

والعهد من فرعون ذي الأوتاد ... يا أقدم العالم في الميلاد إني من شخصك في جهاد في عجوز: وقال أعرابي في امرأة تزوجها، وقد خطبها شابة طرية ودسّوا إليه عجوزا: عجوز ترجّي أن تكون فتيّة ... وقد نحل الجنبان واحدودب الظّهر تدسّ إلى العطّار سلعة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر «1» تزوجتها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقا كله ذلك الشهر وما غرّني إلا خضاب بكفّها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصّفر وقال فيها: ولا تستطيع الكحل من ضيق عينها ... فإن عالجته صار فوق المحاجر وفي حاجبيها حزّة كغرارة ... فإن حلقا كانا ثلاث غرائر «2» وثديان أمّا واحد فهو مزود ... وآخر فيه قربة للمسافر «3» وقال فيها: لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح وتبرق عيناها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضّجيع وتكلح لها مضحك كالحشّ تحسب أنها ... إذا ضحكت في أوجه القوم تسلح «4» وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته ... توهّمته بابا من النار يفتح إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوّذ منها حين يمسي ويصبح وقال أعرابي في سوداء: كأنها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها

أعرابي وعامل:

وقال فيها: أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده وقال كثيّر في نصيب بن رباح، وكان أسود: رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم تراه على مالاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم «1» أعرابي وعامل: وقال رجل من العمال لأعرابي: ما أحسبك تعرف كم تصلي في كل يوم وليلة! فقال له: فإن عرفت أتجعل لي على نفسك مسألة؟ قال: نعم. قال: إنّ الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع ثم صلاة الفجر لا تضيّع قال: صدقت، هات مسألتك؟ قاله له: كم فقار ظهرك؟ قال: لا أدري. قال: فتحكم بين الناس وتجهل هذا من نفسك؟ قولهم في الغزل لبعض الأعراب: ذكر أعرابي امرأة فقال: لها جلد من لؤلؤ مع رائحة المسك، وفي كل عضو منها شمس طالعة. وذكر أعرابي امرأة، فقال: كاد الغزال أن يكونها لولا ما تم منها وما نقص منه. وقال أعرابي في امرأة ودّعها للمسير: والله ما رأيت دمعة ترقرق من عين بإثمد «2» على ديباجة خدّ، أحسن من عبرة أمطرتها عينها فأعشب لها قلبي.

قال: سمعت أعرابيا يقول: إن لي قلبا مروعا، وعينا دموعا؛ فماذا يصنع كل واحد منهما بصاحبه، مع أن داءهما، دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما؟ وقال أعرابي: دخلت البصرة، فرأيت أعينا دعجا، وحواجب زجّا «1» ، يسحبن الثياب، ويسلبن الألباب. وذكر أعرابي امرأة فقال: خلوت بها ليلة يزينها القمر، فلما غاب أرتنيه قلت له: فما جرى بينكما؟ فقال: أقرب ما أحل الله مما حرّم الإشارة بغير باس، والتقرب من غير مساس. وذكر أعرابي امرأة فقال: هي أحسن من السماء، وأطيب من الماء. قال: وسمعت أعرابيا يقول: ما أشد جولة الرأي عند الهوى، وفطام النفس عن الصبا؛ ولقد تقطعت كبدي للعاشقين. لوم العاذلين قرطة «2» في آذانهم، ولوعات الحب جبرات على أبدانهم، مع دموع على المغاني، كغروب السواني «3» . وذكر أعرابي امرأة فقال: لقد نعمت عين نظرت إليها، وشفي قلب تفجع عليها؛ ولقد كنت أزورها عند أهلها؛ فيرحب بي طرفها، ويتجهّمني لسانها. قيل له: فما بلغ من حبك لها؟ قال: إني ذاكر لها وبيني وبينها عدوة الطائر، فأجد لذكرها ريح المسك. وذكر أعرابي نسوة خرجن متنزهات، فقال: وجوه كالدنانير، وأعناق كأعناق اليعافير «4» ، وأوساط كأوساط الزناببر، أقبلن إلينا بحجول تخفق، وأوشحة تعلق، وكم أسير لهنّ وكم مطلق. قال: وسمعت أعرابيا يقول اتبعت فلانة إلى طرابلس الشام؛ والحريص جاحد،

والمضل ناشد؛ ولو خضت إليها النار ما ألمتها. قال: وسمعت أعرابيا يقول: الهوى هوان ولكن غلط باسمه، وإنما يعرف من يقول، من أبكته المنازل والطول. وقال أعرابي: كنت في شباب أعضّ على الملام، عضّ الجواد على اللجام، حتى أخذ الشيب بعنان شبابي. وذكر أعرابي امرأة فقال: إن لساني لذكرها لذلول، وإن حبّها لقلبي لقتول، وإن قصير الليل بها ليطول. وصف أعرابي نساء ببلاغة وجمال، فقال: كلامهنّ أقتل من النبل، وأوقع بالقلب من الوبل بالمحل؛ فروعهنّ أحسن من فروع النخل. ونظر أعرابي إلى امرأة حسناء جميلة تسمى ذلفاء، ومعها صبي يبكي، فكلما بكى قبلته؛ فأنشأ يقول: يا ليتني كنت صبيّا مرضعا ... تحملني الذّلفاء حولا أكتعا «1» إذا بكيت قبّلتني أربعا ... فلا أزال الدهر أبكى أجمعا وأنشد أبو الحسن علي بن عبد العزيز بمكة لأعرابي: جارية في سفوان دارها ... تمشي الهوينا مائلا خمارها «2» قد أعصرت أو قد دنا إعصارها ... يطير من غلمتها إزارها «3» العتبي قال: وصف أعرابي امرأة حسناء، فقال: تبسم عن خمش اللثات «4» ، كأفاحي النبات، فالسعيد من ذاقه، والشقي من راقه. وقال العتبي: خرجت ليلة حين انحدرت النجوم وشالت أرجلها؛ فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر، فإذا بجارية كأنها علم، فجعلت أغازلها، فقالت: يا هذا، أمالك ناه من كرم، إن لم يكن لك زاجر من عقل! قلت: والله ما يراني إلا

الكواكب. قالت: فأين مكوكبها. ذكر أعرابي امرأة فقال: هي السقيم الذي لا برء معه، والبرء الذي لا سقم معه؛ وهي أقرب من الحشا، وأبعد من السما. وقال أعرابي وقد نظر إلى جارية بالبصرة في مأتم: بصريّة لم تبصر العين مثلها ... غدت ببياض في ثياب سواد غدوت إلى الصحراء تبكين هالكا ... فأهلكت حيا، كنت أشأم عاد! فيا ربّ خذ لي رحمة من فؤادها ... وحل بين عينيها وبين فؤادي وقال في جارية ودّعها: مالت تودّعني والدمع يغلبها ... كما يميل نسيم الريح بالغصن ثم استمرّت وقالت وهي باكية ... ياليت معرفتي إيّاك لم تكن العتبي قال: أنشد أعرابي: يا زين من ولدت حواء من ولد ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب أنت التي من أراه الله صورتها ... نال الخلود فلم يهرم ولم يشب وأنشد الرياشي لأعرابي: من دمنة خلقت عيناك في هتن ... فما يردّ البكا جهلا من الدّمن «1» ما كنت للقلب إلا فتنة عرضت ... يا حبّذا أنت من معروضة الفتن تسيء سلمى وأجزيها به حسنا ... فمن سواي يجازي السّوء بالحسن قال وسمعت أعرابيا يصف امرأة؛ فقال: بيضاء جعدة «2» ، لا يمس الثوب منها إلا مشاشة «3» كتفيها، وحلمتي ثدييها، ورضفتي «4» ركبتيها، ورانفتي «5» أليتيها: وأنشد:

أبت الرّوادف والثّديّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا وإذا الرّياح مع العشيّ تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا وقال أعرابي: ليت فلانة حظي من أملي، ولرب يوم سرته إليها حتى قبض الليل بصري دونها؛ وإن من كلام النساء فقال: تلك شمس باهت الأرض شمس سمائها، وليس لي شفيع في اقتضائها، وإن نفسي لكتوم لدائها، ولكنها تفيض عند امتلائها. أخذ هذا المعنى حبيب فقال: ويا شمس أرضيها التي تم نورها ... فباهت بها الأرضون شمس سمائها شكوت وما الشّكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النّفس عند امتلائها. وقيل لأعرابي: ما بال الحب اليوم على غير ما كان عليه قبل اليوم؟ قال: نعم، كان الحب في القلب فانتقل إلى المعدة؛ إن أطعمته شيئا أحبها، وإلا فلا: كان الرجل يحب المرأة، يطيف بدارها حولا، ويفرح إن رأى من رآها، وإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار؛ وإنه اليوم يشير إليها وتشير إليه، ويعدها وتعده فإذا اجتمعا لم يشكوا حبا، ولم ينشدا شعرا، ولكن يرفع رجليها ويطلب الولد. وقال أعرابي: شكوت! فقالت: كلّ هذا تبرّما ... بحبي! أراح الله قلبك من حبّي فلمّا كتمت الحبّ قالت: لشدّ ما ... صبرت! وما هذا بفعل شجي القلب! وأدنو فتقصيني، فأبعد طالبا ... رضاها، فتعتدّ التّباعد من ذنبي فشكواي تؤذيها، وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشّكر من ربي

قولهم في الخيل

قولهم في الخيل الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: خرجت علينا خيل مستطيرة النقع «1» ، كأنّ هواديها «2» أعلام. وآذانها أطراف أقلام؛ وفرسانها أسود آجام. أخذ هذا المعنى عدي بن الرقاع فقال: يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام وقال أعرابي: خرجنا حفاة حين انتعل كلّ شيء بظلّه، وما زادنا إلا التوكل ولا مطايانا إلا الأرجل؛ حتى لحقنا القوم. وذكر أعرابي فرسا وسرعته؛ فقال: لما خرجت الخيل أقبل شيطانا في أشطان، فلما أرسلت لمع لمع البرق؛ فكان أقربها «3» إليه الذي تقع عينه [من بعد] عليه. وقال أعرابي في فرس الأعور السلمي: مرّ كلمع البرق سام ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره فما يمسّ الأرض منه حافره سئل أعرابي عن سوابق الخيل، فقال: الذي إذا مشى ردى «4» ، وإذا عدا دحا «5» ؛ وإذا استقبل أقعى، وإذا استدبر جبّى «6» ، وإذا اعترض استوى. وذكر أعرابي خيلا؛ فقال: والله ما انحدرت في واد إلا ملأت بطنه، ولا ركبت بطن جبل إلا أسهلت حزنه. وقال أعرابي: خرجت على فرس يختال اختيال النّشوان، نسوف للحزام؛ مهارش للجام؛ فما متع «7» النهار حتى أمتعنا برف ورفاهة.

قولهم في الغيث

قولهم في الغيث لامرىء القيس وعبيد بن الأبرص: الأصمعي قال: قلت لأعرابي: أي الناس أوصف للغيث؟ قال: الذي يقول- يعني امرأ القيس-: ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرّي وتدرّ «1» قلت: فبعده من؟ قال: الذي يقول- يعني عبيد بن الأبرص-: يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض مكفهرّ المزن دلّاح» دان مسفّ فويقّ الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح سليمان وأعرابي: ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك، فقال: أصابتك سماء في وجهك يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، غير أنها سحاء طخياء «3» وطفاء؛ كأن هواديها الدّلاء، مرجحنّة النواحي، موصولة بالآكام، تكاد تمس هام الرجال؛ كثير زجلها، قاصف رعدها، خاطف برقها، حثيث ودقها، بطيء سيرها؛ مثعنجر قطرها، مظلم نوؤها؛ قد لجأت الوحش إلى أوطانها، تبحث عن أصوله بأظلافها، متجمعة بعد شتاتها؛ فلولا اعتصامنا يا أمير المؤمنين بعضاة الشجر، وتعلقنا بقنن الجبال، لكنا جفاء «4» في بعض الأودية ولقم «5» الطريق، فأطال الله للأمة بقاءك، ونسألها في أجلك، فهذا ببركتك وعادة الله بك على رعيتك، وصلى الله على سيدنا محمد. فقال سليمان: لعمر أبيك، لئن كانت بديهة لقد أحسنت وإن كانت محبرة لقد أجدت. قال: بل محبرة مزوّرة يا أمير المؤمنين. قال: يا غلام أعطه؛ فو الله لصدقه أعجب إلينا من صفنه.

لابن مطير:

قيل لأعرابي: أي الألوان أحسن؟ قال: قصور بيض في حدائق خضر. وقيل لآخر: أي الألوان أحسن؟ قال: بيضة «1» في روضة غبّ سارية والشمس مكبّدة «2» . وقال أعرابي: لقد رأيت بالبصرة برودا كأنها صبغت بأنوار الربيع، فهي تروع واللابس لها أروع. العتبي قال: سمعت أعرابيا يقول: مررت ببلد ألقى بها الصيّف «3» بعاعه، فأظهر غديرا يقصر الطرف عن أرجائه، وقد نفت الريح القذى عن مائه؛ فكأنه سلاسل درع ذات فضول. وأنشد أبو عثمان الجاحظ لأعرابي: أين إخواننا على السّرّاء ... أين أهل القباب والدهناء «4» جاورنا والأرض ملبسة نو ... ر إقاح يجاد بالأنواء كلّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء لابن مطير: ابن عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي واليا على المدينة من قريش، وعنده أعرابي يقال له ابن مطير، وإذا مطر جود؛ فقال له الوالي: صفه؛ فقال: دعني أشرف وأنظر. فأشرف ونظر، ثم قال: كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلّب فاضت الأطباء «5» وله رباب هيدب لرقيقه ... قبل التّبعّق ديمة وطفاء «6» وكأنّ بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه وعرفج وألاء «7»

هشام وأعرابي يصف له السحاب:

وكأنّ ريّقه ولمّا يحتفل ... ودق السماء عجاجة طخياء «1» مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء فله بلا حزن ولا بمسرّة ... ضحك يؤلّف بينه وبكاء حيران متّبع صباه تقوده ... وجنوبه كف له ورهاء «2» ثقلت كلاه فبهّرت أصلابه ... وتبعّجت عن مائه الأحشاء «3» غدق تبعّج بالأباطح مزّقت ... تلك السّيول ومالها أشلاء غرّ محجّلة دوالج ضمّنت ... حمل الّلقاح وكلّها عذراء «4» سحم فهنّ إذا عبسن فواحم ... سود، وهنّ إذا ضحكن وضاء لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء هشام وأعرابي يصف له السحاب: قال هشام بن عبد الملك لأعرابي: اخرج فانظر كيف ترى السحاب. فخرج فنظر، ثم انصرف فقال: سفائن، وإن اجتمعت فعين. قولهم في البلاغة والإيجاز قيل لأعرابي: من أبلغ الناس؟ قال: أحسنهم لفظا وأسرعهم بديهة. الأصمعي قال: خطب رجل في نكاح فأكثر وطوّل، فقيل: من يجيبه؟ قال أعرابي: أنا. قيل له: أنت وذاك؟ فالتفت إلى الخاطب فقال: إني والله ما أنا من تخطيطك وتمطيطك «5» في شيء، قد متتّ بحرمة، وذكرت حقا، وعظّمت مرجوّا، فحبلك موصول، وفرضك مقبول، وأنت لها كفء كريم، وقد أنكحناك وسلّمنا.

شبيب وأعرابي:

ربيعة الرأي وأعرابي: وتكلم ربيعة الرأي يوما فأكثر، فكأن العجب داخله، وأعرابي إلى جنبه، فأقبل على الأعرابي فقال: ما تعدّون البلاغة يا أعرابي؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب. قال: فما تعدون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم! فكأنما ألقمه حجرا. شبيب وأعرابي: شبيب بن شيبة قال: لقيت أعرابيا في طريق مكة، فقال لي: تكتب؟ قلت: نعم. قال: ومعك دواة؟ قلت: نعم. فأخرج قطعة جراب من كمه، ثم قال: اكتب ولا تزد حرفا ولا تنقص: هذا كتاب كتبه عبد الله بن عقيل الطائي لأمته لؤلؤة: إني أعتقتك لوجه الله واقتحام العقبة، فلا سبيل لي ولا لأحد عليك إلا سبيل الولاء، والمنة عليّ وعليك من الله وحده، ونحن في الحق سواء ثم قال: اكتب شهادتك. روي أن أعرابيا حضر مجلس ابن عباس، فسمع عنده قارئا يقرأ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها «1» ؛ فقال الأعرابي: والله ما أنقذكم منها وهو يرجعكم إليها. فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه. قولهم في حسن التوقيع وحسن التشبيه قيل لأعرابي: ما لك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لأعرابي: كم بين كذا وبلد كذا؟ قال: عمر ليلة وأديم يوم. وقال آخر: سواد ليلة وبياض يوم. وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما صدري له إلا قبر. معاوية وأعرابية: قال معاوية لأعرابية: هل من قرى؟ قالت: نعم. قال: وما هو؟ قالت: خبز خمير، ولبن فطير، وماء نمير.

وقيل لأعرابي: فيم كنتم؟ قال: كنا بين قدر تفور، وكأس تدور، وحديث لا يحور «1» . وقيل لأعرابي: ما أعددت للبرد؟ قال: شدة الرعدة، وقرفصاء القعدة، وذرب المعدة «2» . وقيل لأعرابي: ما لك من الولد؟ قال: قليل خبيث. قيل له: ما معناه؟ قال: إنه لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى! وقال: أضل أعرابي الطريق ليلا، فلما طلع القمر اهتدى؛ فرفع رأسه إليه متشكرا فقال: ما أدري ما أقول لك وما أقول فيك؛ أأقول رفعك الله! فقد رفعك: أم أقول: نوّرك الله! فقد نوّرك! أم أقول: حسّنك الله! فقد حسّنك؛ أم أقول: عمرك الله! فقد عمرك؛ ولكني أقول: جعلني الله فداك! وقيل لأعرابي: ما تقول في ابن العم؟ قال: عدوّك وعدوّ عدوّك. وقيل لأعرابي وقد أدخل ناقته في السوق ليبيعها: صف لنا ناقتك. قال: ما طلبت عليها قط إلا أدركت، وما طلبت إلا فتّ. قيل له: فلم تبيعها؟ قال: لقول الشاعر: وقد تخرج الحاجات يا أمّ عامر ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين وقيل لأعرابي: كيف ابنك؟ وكان به عاقا؛ قال: عذاب لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر، فليتني قد استودعته القبر. قيل لشريح القاضي: هل كلمك أحد قط فلم تطق له جوابا؟ قال ما أعلمه إلا أن يكون أعرابيا خاصم عندي ويشير بيديه، فقلت له: أمسك، فإن لسانك أطول من يدك! قال: أسامريّ أنت لا تمس

قولهم في المناكح

وقيل لأعرابي: ما عندكم في البادية طبيب؟ قال: حمر الوحش لا تحتاج إلى بيطار. وقال أعرابي يصف خاتما- فقال: سيّف «1» تدوير حلقته، ودوّر كرسيّ قضته «2» ، وأحكم تركيبه، وأتقن تدبيره، فبه يتمّ الملك، وينفذ الأمر، ويكرم الكتاب ويشرف المكتوب إليه. وقال آخر يصف خاتما: وأبيض أمّا جسمه فمنوّر ... نقيّ وأمّا رأسه فمعار ولم يكتسب إلا لتسكن وسطه ... بزيعة رأس ما عليه خمار «3» لها أخوات أربع هنّ مثلها ... ولكنها الصّغرى وهنّ كبار «4» قولهم في المناكح بين جاريتين: يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوج رجل من الأعراب امرأة جديدة على امرأة قديمة، وكانت جارية الجديدة تمر على باب القديمة فتقول: وما يستوي الرّجلان رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلّت ثم مرت بعد أيام فقالت: .. وما يستوي الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد فخرجت إليها جارية القديمة فقالت: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما القلب إلّا للحبيب الأوّل

أعرابي وولي امرأة:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل أعرابي وولي امرأة: الأصمعي قال: أخبرني أعرابي قال: خطب منا رجل مغموز امرأة مغموزة «1» فزوّجوه؛ فقال رجل لوليّ المرأة: تعمّم لكم فلان فزوجتموه! فقالوا: ما تعمم لنا حتى تبرقعنا له. لأعرابية تنصح بنات عمها: أبو حاتم عن الأصمعي قال: قالت أعرابية لبنات عم لها: السعيدة منكم من يتزوجها ابن عمها، فيمهرها بتيسين وكلبين وعيرين ورحيين، فينبّ «2» التيسان، وينهق العيران، وينبح الكلبان، وتدور الرحيان، فيعج الوادي؛ والشقية منكن من يتزوجها الحضري، فيكسوها الحرير، ويطعمها الخمير، ويحملها ليلة الزفاف على عود- تعني: سرجا. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يشارّ امرأته، فقالت لها أخته. أما والله أيام شرخه «3» إذ كان ينكتك كما ينكت العظم عن مخه، لقد كنت له تبوعا، ومنه سموعا؛ فلما لان منه ما كان شديدا، وأخلق منه ما كان جديدا، تغيرت له! وايم الله لئن كان تغير منه البعض لقد تغير منك الكل. لأعرابي في زوجته: وقيل لأعرابي: كيف حبك لزوجتك؟ قال: ربما كنت معها على الفراش فمدّت يدها إلى صدري، فوددت والله أن آجرّة خرّت من السقف فقدّت يدها وضلعين من أضلاع صدري! ثم أنشأ يقول: لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السّوء باق معمّر

لآخر في مثله:

فياليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذّبها فيه نكير ومنكر لآخر في مثله: وتزوّج أعرابي امرأة، فطالت صحبتها له، فتغير لها وقد طعنت في السنّ، فقالت له: ألم تكن ترضي إذا غضبت، وتعتب إذا عتبت، وتشفق إذا أبيت؛ فما بالك الآن؟ قال: ذهب الذي كان يصلح بيننا. الأصمعي وأعرابي طلق زوجته: الأصمعي قال: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة، إيذني له. فتقول: ادخل. فاستأذنت عليه مرارا فلم أسمعه يذكر أمامة؛ فقلت له: يرحمك الله، ما أسمعك تذكر أمامة منذ حين! قال: فوجم وجمة ندمت على ما كان مني؛ ثم قال: ظعنت أمامة بالطلاق ... ونجوت من غلّ الوثاق بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تدمع مآقي ودواء ما لا تشتهيه ... النفس تعجيل الفراق والعيش ليس يطيب بي ... ن اثنين في غير اتّفاق لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالإباق «1» لأعرابي طلق امرأته: الأصمعي قال: تزوج أعرابي امرأة فآذته وافتدى منها بحمار وجبة، فقدم عليه ابن عمّ لها من البادية فسأله عنها؛ فقال: خطت إلى الشيطان للحين بنته ... فأدخلها من شقوتي في حباليا فأنقذني منها حماري وجبّتي ... جزى الله خيرا جبتي وحماريا

لأعرابي بين يدي زياد:

لأعرابي بين يدي زياد: الأصمعي قال: خاصم أعرابي امرأته إلى زياد، فشدّد على الأعرابي؛ فقال: أصلح الله الأمير؛ إن خير عمر الرجل آخره؛ يذهب جهله ويثوب حلمه، ويجتمع رأيه؛ وإن شر عمر المرأة آخره؛ يسوء خلقها، ويحدّ لسانها، وتعقم رحمها! قال له: صدقت، اسفع «1» بيدها. لبعض الأعراب في مثله: قال: وذكرت أعرابية زوجها وكان شيخا! فقالت: ذهب ذفره «2» ، وبقى بخره، وفتر ذكره. الأصمعي قال: كان أعرابي قبيح طويل خطب امرأة؛ فقيل له: أيّ ضرب تريدها؟ قال: أريدها قصيرة جميلة، فيأتي ولدها في جمالها وطولي. فتزوجها على تلك الصفة، فجاء ولدها في قصرها وقبحه! قدم أعرابي من طيء فاحتلب لبنا ثم قعد مع زوجته ينتجعان، فقالت له: من أنعم عيشا، أنحن أم بنو مروان؟ قال لها: بنو مروان أطيب منا طعاما، إلا أنّا أردأ منهم كسوة؛ وهم أظهر منا نهارا إلا أنا نحن أظهر منهم ليلا. الأصمعي قال: خاصم أعرابي امرأته إلى السلطان، فقيل له: ما صنعت؟ قال: خيرا، كبها الله لوجهها ولو أمر بي إلى السجن! الأصمعي قال: استشارت أعرابية في رجل تتزوجه، فقيل لها: لا تفعلي فإنه وكلة تكلة، يأكل خلله أي يأكل ما يخرج من بين أسنانه إذا تخلل. قال أبو حاتم: هو الخلالة. ووكلة تكلة: إذا كان يكل أمره إلى الناس ويتكل عليهم. العتبي قال: خطب إلى أعرابي رجل موسر إحدى ابنتيه. وكان للخاطب امرأة،

لأعرابية ترقص طفلا:

فقالت الكبرى: لا أريده! قال أبوها: ولم؟ قالت: يوم عتاب، ويوم اكتئاب، يبلى فيما بين ذلك الشباب! قالت الصغرى: زوّجنيه! قال لها: على ما سمعت من أختك؟ قالت: نعم، يوم تزيّن، ويوم تسمّن، وقد تقر فيما بين ذلك الأعين. لأعرابية ترقص طفلا: الأصمعي قال: رأيت امرأة ترقّص طفلا لها، وتقول: أحبّه حبّ الشحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثمّ ناله إذا أراد بذله بدا له أعرابية فقدت زوجها: الأصمعي قال: هلك أعرابي، فأدمنت امرأته البكاء عليه. فقال بعض بنيها: أتفقدين من أبينا غيره ... أتفقدين نفعه وخيره أراك ما تبكين إلا أيره فأمسكت عن البكاء. أعرابية وأعرابي ينظر إلى ابنتها: جلس أعرابي إلى أعرابية، فعلمت أنه ما جلس إلا لينظر إلى ابنتها، فأنشأت تقول: وما نلت منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك خائب الرياشي قال: أنشدني العتبي لأعرابي: ماذا تظن بسلمى إن ألّم بها ... مرجّل الرأس ذو بردين مزّاح حلو فكاهته خزّ عمامته ... في كفّه من رقى إبليس مفتاح! أعرابي وامرأة خطبها: أبو حاتم عن الأصمعي قال: خطب أعرابي امرأة، فقالت: سل عني بني فلان

أعرابي خاطب:

وبني فلان. قال لها: وما علمهم بذلك؟ قالت: في كلهم نكحت وكنت، قال: أراك جلنفعة «1» قد خزمتك الخزائم، قالت: لا، ولكن جوّالة بالرجل عنتريس «2» . تزوج رجل من الأعراب امرأة منهم عجوزا ذات مال، فكان يصبر عليها لمالها، ثم ملّها وتركها، وكتبت إليه تستردّه، فكتب إليها يقول: ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلا وضرب الرّقاب فكتبت إليه: إنه والله ما يريد قيس غير طعن الكلا! أعرابي خاطب: المفضل الضبي قال: خطب أعرابي امرأة، فجعل يخطبها وينعظ، فضرب ذكره بيده وقال: مه! إليك يساق الحديث. فأرسلها مثلا. أبو البيداء: علي بن عبد العزيز قال: كان أبو البيداء عنّينا، وكان يتجلد ويقول لقومه: زوّجوني امرأتين! فيقال له: إن في واحدة كفاية. فيقول: أمّا لي فلا! فقالوا: نزوّجك واحدة، فإن كفتك وإلا زوّجناك أخرى. فزوّجوه أعرابية، فلما دخل بها أقام معها أسبوعا، فلما كان في اليوم السابع أتوه، فقالوا له: يا أبا البيداء، ما كان أمرك في اليوم الأول؟ قال: عظيم جدا! قالوا: ففي الثاني؟ قال: أجلّ وأعظم! قالوا: ففي الثالث؟ قال: لا تسألوا! فأجابت المرأة من وراء الستر، فقالت: كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا أدخل في بيت أبق «3» فيه غزال حسن الدّلّ خرق ... مارسه حتى إذا ارفضّ العرق» انكسر المفتاح وانسدّ الغلق

لأعرابي في امرأته:

لأعرابي في امرأته: كانت لأعرابي امرأة لا تردّ يد لامس؛ فقيل له؛ مالك لا تفارقها؟ قال: إنها حسناء فلا تفرك، وأم بنين فلا تترك. قال الشيخ من الأعراب: أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز تريد أنيكها في كلّ يوم ... وذلك عند أمثالي عزيز وقالت دقّ أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها بل اتّسع القفيز الأصمعي قال: قال أعرابي في امرأة تزوّجها، وقد تزوّجت قبله خمسة، وتزوّج هو قبلها أربعا، فلاحته يوما، فقال فيها: لو لابس الشيطان ما ألابس ... أو مارس الغول التي أمارس لأصبح الشيطان وهو عابس ... زوّجها أربعة عمارس «1» فانفلتوا منها ومات الخامس ... وساقني الحين فهانا السادس وقال فيها: بويزل أعوام أذاعت بخمسة ... وتعتدّني- إن لم يق الله- ساديا «2» ومن قبلها غيّبت في الترب أربعا ... وأعتدّها مذ جئتها في رجائيا كلانا مطلّ مشرف لغنيمة ... يراها ويقضي الله ما كان قاضيا وقال أعرابي: أشكو إلى الله عيالا دردقا ... مقرقمين وعجوزا شملقا «3» الدردق: الصغار. والمقرقم: البطيء الشباب. والشملق السيئة الخلق.

قولهم في الإعراب

قولهم في الإعراب لبعض الأعراب في معنى هذا العنوان: الأصمعي قال: قلت لأعرابي: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذا لرجل سوء! قلت له: أفتجرّ فلسطين؟ قال: إني إذا لقوي. وسمع أعرابي إماما يقرأ: ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، قال. ولا إن آمنوا أيضا، لا ننكحهم. فقيل له: إنه يلحن، وليس هذا يقرأ. فقال: أخّروه قبحه الله! ولا تجعلوه إماما؛ فإنه يحلّ ما حرّم الله. وسمع أعرابي أبا المكنون النحوي وهو يقول في دعائه يستسقي: اللهم ربّنا وإلهنا وسيدنا ومولانا، صلّ على محمد نبينا؛ [اللهم] ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثم أرسخه على هامسته كرسوخ السّجّيل «1» على هام أصحاب الفيل، اللهم اسقنا غيثا مريئا مريعا «2» مجلجلا «3» مسحنفرا «4» هزجا «5» سحّا سفوحا طبقا «6» غدقا مثعنجرا «7» صخبا نافعا لعامّتنا وغير ضارّ بخاصّتنا. فقال الأعرابي: يا خليفة نوح، [هذا] الطوفان وربّ الكعبة، دعني حتى آوي إلى جبل يعصمني من الماء. الأصمعي قال: أصابت الأرض مجاعة؛ فلقيت رجلا منهم خارجا من الصحراء كأنه جذع محترق فقلت: أتقرأ في كتاب الله شيئا؟ قال: لا. قلت: فأعلمك؟ قال: ما شئت. قلت: اقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «8» . قال: كل يا أيها الكافرون. قلت: [قل] قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ كما أقول لك. قال: ما أجد لساني ينطق بذلك.

قولهم في الدين

قال: ورأيت أعرابيا ومعه بنيّ له صغير ممسك بفم قربة، وقد خاف أن تغلبه القربة؛ فصاح: يا أبت، أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها! قولهم في الدين قال أعرابي: الدّين ذل بالنهار وهمّ بالليل. وقال أعرابي في غرماء له يطلبونه بدين: جاءوا إليّ غضابا يلغطون معا ... فقلت موعدكم دار ابن هبّار وما أواعدهم إلّا لأدرأهم ... عني فيحرجني نقضي وإمراري «1» وما جلبت إليهم غير راحلة ... تخدي برحلي وسيف جفنه عاري «2» إنّ القضاء سيأتي دونه زمن ... فاطو الصحيفة واحفظها من النار الأصمعي قال: كان لرجل من يحصب على رجل من باهلة دين؛ فلما حل دينه هرب الأعرابي وأنشأ يقول: إذا حلّ دين اليحصبيّ فقل له ... تزوّد بزاد واستعن بدليل سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا ... بقالي قلا أو من وراء دبيل «3» قال الأصمعي: اختصم أعرابيان إلى بعض الولاة في دين لأحدهما على صاحبه؛ فجعل المدّعى عليه يحلف بالطلاق والعتاق، فقال له المدعي: دعني من هذه الأيمان واحلف بما أقوله لك: لا ترك الله لك خفا يتبع خفا ولا ظلفا يتبع ظلفا؛ وحتّك من أهلك ومالك حتّ «4» الورق من الشجر، إن لم يكن لي هذا الحق قبلك! فأعطاه حقه ولم يحلف له. الهيثم بن عدي قال: يمين لا يحلف بها أعرابي أبدا: لا أورد الله لك صادرة، ولا أصدر لك واردة، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك.

قولهم في النوادر والملح

قولهم في النوادر والملح أبو العباس وأعرابي: الشيباني قال: خرج أبو العباس أمير المؤمنين متنزها بالأنبار، فأمعن في نزهته وانتبذ من أصحابه؛ فوافى خباء لأعرابي، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة. قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة. قال: فأنت إذا من قريش! قال: نعم. قال: فمن أي قريش! قال: من أبغض قريش إلى قريش، قال: فأنت إذا من ولد عبد المطلب! قال: نعم. قال: فمن أي ولد عبد المطلب؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المطلب. قال: فأنت إذا أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين! ووثب إليه، فاستحسن ما رأى منه وأمر له بجائزة. الشيباني قال: خرج الحجاج متصيدا بالمدينة، فوقف على أعرابي يرعى إبلا له، فقال له: يا أعرابي، كيف رأيت سيرة أميركم الحجاج؟ قال له الأعرابي: غشوم ظلوم! لا حيّاه الله! فقال: فلم لا شكوتموه إلى أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: فأظلم وأغشم! فبينا هو كذلك إذ أحاطت به الخيل، فأومأ الحجاج إلى الأعرابي، فأخذ وحمل؛ فلما صار معه قال: من هذا؟ قالوا له: الحجاج! فحرك دابته حتى صار بالقرب منه، ثم ناداه: يا حجاج! قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون مكتوما! قال: فضحك الحجاج وأمر بتخلية سبيله. يوسف بن عمر ووال: الأصمعي قال: ولّى يوسف بن عمر صاحب العراق أعرابيّا على عمل له؛ فأصاب عليه خيانة فعزله، فلما قدم عليه قال له: يا عدوّ الله! أكلت مال الله! قال الأعرابي: فمال من آكل إذا لم آكل مال الله؟ لقد راودت إبليس أن يعطيني فلسا واحدا فما فعل. فضحك منه وخلى سبيله.

ابن جعفر وأعرابية:

ابن جعفر وأعرابية: الشيباني قال: نزل عبد الله بن جعفر إلى خيمة أعرابية ولها دجاجة وقد دجنت عندها، فذبحتها وجاءت بها إليه فقالت: يا أبا جعفر، هذه دجاجة لي كنت أدجنها وأعلفها من قوتي! وألمسها في آناء الليل فكأنما ألمس بنتي زلّت عن كبدي، فنذرت لله أن أدفنها في أكرم بقعة تكون، فلم أجد تلك البقعة المباركة إلا بطنك، فأردت أن أدفنها فيه. فضحك عبد الله بن جعفر وأمر لها بخمسمائة درهم. بين أعرابي وقوم في الهلال: ونظر أعرابي إلى قوم يلتمسون هلال شهر رمضان، فقال: والله لئن أريتموه لتمسكنّ منه بذناب «1» عيش أغبر. بين الأصمعي وأعرابي في ماء: الأصمعي قال: رأيت أعرابيا واقفا على ركيّة «2» ملحة، فقلت: كيف هذا الماء يا أعرابي؟ قال: يخطىء القلب ويصيب الاست. بينه وبين أعرابي سمين: ونظر أعرابي إلى رجل سمين فقال: أرى عليك قطيفة «3» من نسج أضراسك. «4» قال: وسمعت أعرابيا يقول: اللهم إني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة أكل بذجا، وشرب معسّلا، ونام في الشمس، فمات دفآن شبعان ريان. النبي صلّى الله عليه وسلم وبعض الأعراب: محمد بن وضاح يرفعه إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل أعرابي المسجد والنبيّ صلّى الله عليه وسلم جالس، فقام يصلي؛ فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا

لبعض الأعراب:

أحدا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لقد حجّرت واسعا يا أعرابي» . لبعض الأعراب: قال: وسمعت أعرابيا وهو يقول في الطواف: اللهم اغفر لأمي. فقلت له: مالك لا تذكر أباك؟ فقال: أبي رجل يحتال لنفسه، وأما أمي فبائسة ضعيفة. أبو حاتم عن أبي زيد قال: رأيت أعرابيا كأنّ أنفه كوز «1» من عظمه؛ فرآنا نضحك منه؛ فقال: ما يضحككم؟ فوالله لقد كنت في قوم ما كنت فيهم إلا أفطس. قال: وجيء بأعرابي إلى السلطان ومعه كتاب قد كتب فيه قصته وهو يقول: هاؤم اقرءوا كتابيه. فقيل له: يقال هذا يوم القيامة. قال: هذا والله شر من يوم القيامة؛ إن يوم القيامة يؤتى بحسناتي وسيئاتي، وأنتم جئتم بسيئاتي وتركتم حسناتي. وقيل لأبي المخش الأعرابي: أيسرك أنك خليفة وأن أمتك حرّة؟ قال: لا والله ما يسرني! قيل له: ولم؟ قال: لأنها كانت تذهب الأمة وتضيع الأمّة. اشترى أعرابي غلاما، فقيل للبائع: هل فيه من عيب؟ قال: لا، إلا أنه يبول في الفراش. قال: هذا ليس بعيب، إن وجد فراشا فليبل فيه. الحجاج وأعرابي لص: أخذ الحجّاج أعرابيا لصا بالمدينة فأمر بضربه؛ فلما قرعه بسوط قال: يا رب شكرا! حتى ضربه سبعمائة سوط، فلقيه أشعب، فقال له: أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: لماذا؟ قال: لكثرة شكرك؛ إن الله تعالى يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «2» قال: وهذا في القرآن؟ قال: نعم. فقال الأعرابي: يا ربّ لا شكر فلا تزدني ... أسأت في شكري فاعف عني

أعرابي ينشد غلاما:

باعد ثواب الشاكرين مني أعرابي ينشد غلاما: مرّ أعرابي بقوم وهو ينشد ابنا له، فقالوا له: صفه. قال: كأنه دنينير! قالوا: لم نره. ثم لم يلبث القوم أن أقبل الأعرابي وعلى عنقه جعل، فقالوا: هذا الذي قلت فيه كأنه دنينير؟ فقال: القرنبي في عين أمّها حسناء. والقرنبى: دويبة من خشاش الأرض إذا مسّها أحد تقبّضت فصارت مثل الكرة. لبعض الأعراب في الغزو: قيل لأعرابي: ما يمنعك أن تغزو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أن أمضي إليه ركضا. وغزا أعرابي مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فقيل له: ما رأيت مع رسول الله في غزاتك هذه؟ قال: وضع عنا نصف الصلاة، وأرجو في الغزاة الأخرى أن يضع النصف الباقي! السختياني وبعض الأعراب: جلس أعرابي إلى مجلس أيوب السّختياني، فقيل له: يا أعرابي، لعلك قدريّ؟ قال: وما القدري؟ فذكر له محاسن قولهم؛ قال: أنا ذاك. ثم ذكر له ما يعيب الناس من قولهم؛ فقال: لست بذاك. قال: فلعلك مثبت؟ قال: وما المثبت؟ فذكر محاسنهم؛ فقال: أنا ذاك. ثم ذكر له ما يعيب الناس منهم؛ فقال: لست بذاك. قال أيوب: هكذا يفعل العاقل؛ يأخذ من كل شيء أحسنه. جرير وأعرابي: الأصمعي قال: سمع أعرابي جريرا ينشد: كاد الهوى يوم سلمانين يقتلني ... وكاد يقتلني يوما بنعمان «1»

أعرابية وابنها:

وكاد يقتلني يوما بذي خشب ... وكاد يقتلني يوما بسلمان فقال: هذا رجل أفلت من الموت أربع مرات! لا يموت هذا أبدا. الشيباني قال: بلغني أن أعرابيين ظريفين من شياطين العرب حطمتهما سنة، فانحدار إلى العراق؛ فبينما هما يتماشيان في السوق- واسم أحدهما خندان- إذا فارس قد أوطأ دابته رجل خندان، فقطع إصبعا من أصابعه، فتعلقا به حتى أخذا أرش «1» الإصبع، وكانا جائعين مقرورين، فلما صار المال بأيديهما قصدا إلى بعض الكرايج «2» ، فابتاعا من الطعام ما اشتهيا، فلما شبع صاحب خندان أنشأ يقول: فلا غرثة ما دام في الناس كربج ... وما بقيت في رجل خندان إصبع «3» أعرابية وابنها: وهذا شبيه قول أعرابية في ابنها، وكان لها ابن شديد العرام «4» ، كثير القتال للناس، مع ضعف أسر ورقة عظم، فواثب مرة فتى من الأعراب، فقطع الفتى أنفه، فأخذت أمّه دية أنفه؛ فحسن حالها بعد فقر مدقع؛ ثم واثب آخر، فقطع أذنه؛ ثم أخذت دية أذنه فزادت في المال وحسن الحال؛ ثم واثب آخر فقطع شفته؛ ثم أخذت دية شفته؛ فلما رأت ما صار عندها من الإبل والبقر والغنم والمتاع بجوارح ابنها، ذكرته في أرجوزة لها تقول فيها: أحلف بالمروة حقّا والصّفا ... أنك خير من تفاريق العصا فقلت لأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورا، ثم يقطع الساجور أوتادا، ثم تقطع الأوتاد أشظّة. لبعض الأعراب في الحج: الأصمعي قال: خرج أعرابي إلى الحج مع أصحاب له، فلما كان ببعض الطريق

لأعرابي في الأولاد:

راجعا يريد أهله، لقيه ابن عم له، فسأله عن أهله ومنزله، فقال: اعلم أنك لما خرجت وكانت لك ثلاثة أيام، وقع في بيتك الحريق. فرفع الأعرابي يديه إلى السماء، وقال: ما أحسن هذا يا رب! تأمرنا بعمارة بيتك أنت وتخرب بيوتنا. وخرجت أعرابية إلى الحج، فلما كانت ببعض الطريق عطبت راحلتها، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: يا رب، أخرجتني من بيتي إلى بيتك، فلا بيتي ولا بيتك! الأصمعي قال: عرضت السجون بعد هلاك الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب؛ وفيهم أعرابي أخذ يبول في أصل سور مدينة واسط؛ فكان فيمن أطلق؛ فأنشأ يقول: إذا ما خرجنا من مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا لأعرابي في الأولاد: ذكر عند أعرابي الأولاد والانتفاع بهم؛ فقال: زوّجوني امرأة أولدها ولدا أعلمه الفروسية حتى يجري الرهان؛ والنزع عن القوس حتى يصيب الحدق، ورواية الشعر حتى يفحم الفحول. فزوّجوه امرأة فولدت له ابنة، فقال فيها: قد كنت أرجو أن تكون ذكرا ... فشقّها الرّحمن شقّا منكرا شقّا أبى الله له أن يجبرا ... مثل الذي لأمّها أو أكبرا ثم حملت حملا آخر، فدخل عليها وهي في الطلق- وكانت تسمى ربابا- فقال: أيا ربابي طرّقي بخير ... وطرّقي بخصية وأير «1» ولا ترينا طرف البظير ثم ولدت له أخرى، فهجر فراشها وكان يأتي جارة لها، فقالت فيه- وكان يكنى أبا حمزة-؛ ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظلّ في البيت الذي يلينا

لأعرابي يدعو:

غضبان أن لا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما أعطينا! فألانه قولها ورجع إليها. لأعرابي يدعو: وقال سعيد بن أبي الفرج: سمعت أعرابيا يطوف بالبيت وهو يقول: لا همّ ربّ الناس حين لبّبوا ... وحين راحوا من منى وحصّبوا «1» لا سقيت عثبثب وغلب ... والمستزار لا سقاه الكوكب فقلت: يا أعرابي، ما لهذه المواضع تدعو عليها في هذا الموضع؟ فنظر إليّ كالغضبان فقال: من أجل حماهن ماتت زينب قولهم في التلصص أبو حاتم قال: أنشدنا أبو زيد الأعرابي، وكان لصا: ثلاث خلال لست عنهنّ تائبا ... وإن لا منى فيهن كلّ خليل فمنهن أني لا أزال معانقا ... حمائل ماضي الشّفرتين صقيل به كنت أستعدي وأعدي صحابتي ... إذا صرخ الزحفان باسم قتيل ومنهنّ سوق النهب في ليلة الدّجى ... يحار بها في الليل كل دليل ومنهن تجريد الكعاب ثيابها ... وقد مال جنح الليل كلّ مميل وهذا المعنى سبقه إليه الأول: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام رامس «2» فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأنّ أخاها مطلع الشمس ناعس

قولهم في الطعام

ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الصفي الفوارس «1» ومنهنّ تجريد الكواعب كالدّمى ... إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس «2» وأول من قال هذا المعنى طرفة حيث يقول: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا نبّهته المتورد» وتقصير يوم الدجن والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد «4» قولهم في الطعام شيخ وحدث: الأصمعي قال: اصطحب شيخ وحدث في سفر، وكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ منخلع الأضراس بطيء الأكل، وكان الحدث يطيش «5» بالقرص ثم يجلس يشتكي العشق، ويتضوّر الشيخ جوعا، وكان يسمى الحدث جعفرا، فقال الشيخ: لقد رابني من جعفر أن جعفرا ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له لو مسّك الحبّ لم نبت ... بطينا ونسّاك الهوى شره الأكل الأصمعي قال: أنشدني أعرابي لنفسه: ألا ليت لي خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد «6» فأطلب فيما بينهنّ شهادة ... بموت كريم لا يعدّ له لحد

لأعرابي في ثريدة:

لأعرابي في ثريدة: الشيباني عن أبيه قال: قال أعرابي: كنت أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين من اللحم، لها جناحان من العراق «1» ، أضرب فيها كما يضرب وليّ السوء في مال اليتيم! بين أعرابيين: وقال رجل لأعرابي: ما يسرني لو بتّ ضيفا لك! فقال له الأعرابي: لو بتّ ضيفا لي لأصبحت أبطن من أمك قبل أن تلدك بساعة. أعرابي على مائدة سليمان: حضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فجعل يمرّ إلى ما بين يديه، فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي. فقال: من أجدب انتجع. فشق ذلك على سليمان، وقال للحاجب: إذا خرج عنا فلا يعد إلينا. وشهد بعد هذا سفرته أعرابي آخر، فمر إلى ما بين يديه أيضا، فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي. قال: من أخصب تخيّر. فأعجب ذلك سليمان، فقرّبه وأكرمه وقضى حوائجه. أعرابي وقوم من الكتبة: مر أعرابي بقوم من الكتبة في متنزه لهم وهم يأكلون، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم، فقالوا: أعرفت فينا أحدا؟ قال: بلى، عرفت هذا! وأشار إلى الطعام، فقال بعض الكتاب يصف أكله: لم أر مثل ثرطه ومطّه «2» قال الثاني: وأكله دجاجه ببطّه قال الثالث: ولفّه رقاقه بإقطه «3»

مديني وأعرابي:

قال الرابع: كأنّ جالينوس تحت إبطه فقالوا للرابع: أما الذي وصفنا من فعله فمفهوم؛ فما يصنع جالينوس من تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارش كلما خاف عليه التخمة، يهضم بها طعامه! مديني وأعرابي: وقال رجل من أهل المدينة لأعرابي: ما تأكلون وما تعافون؟ قال له الأعرابي: نأكل كل ما دب وهب، إلا أم حبين «1» . قال المدني: ليهنيء أمّ حبين العافية. أعرابي وولده: قال رجل من الأعراب لولده: اشتروا لي لحما. فاشتروا وطبخوا له حتى تهرّأ، فأكل منه حتى انتهى، ولم يبق إلا عظمه؛ وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحدا منكم إلا من أحسن أكله. فقال له الأكبر: ألوكه يا أبت حتى لا أدع فيه للذرّة مقيلا. قال: لست بصاحبه. قال الآخر: ألوكه حتى لا يدري ألعامه هو أو لعام أوّل؟ قال: لست بصاحبه. قال له الأصغر: أدقّه يا أبت وأجعل إدامه المخ. قال: أنت صاحبه، هو لك. لعذري في حضر المسلمين: بلغني عن محمد بن يزيد بن معاوية، أنه كان نازلا بحلب على الهيثم بن عدي، فبعث إلى ضيف له من عذرة أعرابيّ، فقال له: حدّث أبا عبد الله بما رأيت في حضر المسلمين من الأعاجيب. قال: نعم، رأيت أمورا معجبة. منها أنني دخلت قرية بكر بن عاصم الهلالي، وإذا أنا بدور متباينة، وإذا خصاص «2» بيض بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون، وعليهم ثياب حكوا بها أنواع الزهر؛

فقلت لنفسي: هذا أحد العيدين: الفطر أو الأضحى. ثم رجع إليّ ما عزب من عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في عقب صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك! فبينا أنا واقف أتعجب إذا أتاني رجل فأخذ بيدي فأدخلني بيتا قد نجّد، وفي وجهه فرش ممهدة، وعليها شاب ينال فرع شعره كتفيه، والناس حوله سماطين «1» ، فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي يحكي لنا جلوسه وجلوس الناس حوله. فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله! قال: فجذب رجل بيدي وقال: ليس بالأمير، آجلس. قلت فمن هو؟ قال: عروس. قلت: وا ثكل أمّاه! لربّ عروس بالبادية قد رأيته أهون على أصحابه من هن أمه! فلم ألبث أن أدخلت الرجال عليها هنات مدوّرات من خشب، أما ما خف منها فيحمل حملا، وأما ما ثقل فيد حرج؛ فوضعت أما منا وتحلّق القوم عليها حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت عليها؛ فهممت والله أن أسأل القوم خرقة منها أرقع بها قميصي، وذلك أني رأيت لها نسجا متلاحما لا يتبين له سدى ولا لحمة؛ فلما بسط القوم أيديهم، إذا هو يتمزق سريعا، وإذا صنف من الخبز لا أعرفه؛ ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض، وحارّ وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعلم ما في عقبه من التخم والبشم «2» ؛ ثم أتينا بشراب أحمر في عساس «3» بيض؛ فلما نظرت إليه قلت: لا حاجة لي به؛ لأني أخاف أن يقتلني! وكان إلى جانبي رجل ناصح لي- أحسن الله عني جزاءه! - كان ينصحني بين أهل المجلس؛ فقال لي: يا أعرابي، إنك قد أكثرت من الطعام فإن شربت الماء همى «4» بطنك. فلما ذكر البطن، ذكرت شيئا أوصاني به الأشياخ، قالوا: لا تزال حيا ما دام بطنك شديدا، فإذا اختلفت فأوص. فلم أزل أتداوى بذلك الشراب ولا أملّه، حتى داخلني به صلف لا أعرفه من نفسي ولا عهد لي به، واقتدار على أمري؛ وكان إلى جانبي الرجل الناصح لي؛ فجعلت نفسي تحدثني بهتم أسنانه مرة، وهشم أنفه أخرى؛ وأهم أحيانا أن أقول له: يا ابن الزانية! فبينا نحن كذلك، إذ هجم علينا شياطين أربعة:

لأعرابي في تمر:

أحدهم قد علق جعبة فارسية منتفخة الطرفين قد شبكت بالخيوط، وقد ألبست قطعة فرو، كأنهم يخافون عليها القر؛ ثم بدا الثاني فاستخرج من كمه هنة كفيشلة الحمار، فوضع طرفها في فيه فضرط فيها، ثم حسب على جحرة فاستخرج منها صوتا مشاكلا بعضه بعضا؛ ثم بدا الثالث وعليه قميص وسخ، وقد غرق رأسه بالدهن معه مرآتان، فجعل يمري إحداهما على الأخرى؛ ثم بدأ الرابع عليه قميص قصير وسراويل قصيرة، فجعل يقفز صلبه، ويهز كتفيه، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه وربّ الكعبة. ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم. فبعثوا بهم إليهن، وبقيت الأصوات تدور في آذاننا؛ وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة في يده، عينها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من جوانبها عودا فوضعه على أذنه، ثم زمّ الخيوط الظاهرة، فلما أحكمها عرك أذنها فنطق فوها، فإذا هي أحسن قينة رأيتها قط [وغنّى عليها] فاستخفّني حتى قمت من مجلسي فجلست إليه فقلت: بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة؟ قال: يا أعرابي، هذا البربط «1» . قلت: فما هذه الخيوط؟ قال: أما الأسفل فزير، والذي يليه مثنى، والذي يليه مثلث. والذي يليه بمّ. فقلت: آمنت بالله. لأعرابي في تمر: وقال أعرابي. تمرنا خنس فطس، يغيب فيهن الضرس، كأن فاها ألسن الطير، تقع التمرة منها في فيك، فتجد حلاوتها في كعبك. أعرابي على سفرة سليمان: وحضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فلما أتي بالفالوذج «2» جعل يسرع فيه، فقال سليمان: أتدري ما تأكل يا أعرابي؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريقا

لأعرابي غير صائم:

هنيئا، ومزدردا لينا، وأظنه الصراط المستقيم الذي ذكره الله في كتابه! قال: فضحك سليمان وقال: أزيدك منه يا أعرابي، فإنهم يذكرون أنه يزيد في الدماغ، قال: كذبوك يا أمير المؤمنين لو كان كذلك لكان رأسك مثل رأس البغل. لأعرابي غير صائم: قال: ومررت بأعرابي يأكل في رمضان، فقلت له: ألا تصوم يا أعرابي؟ فقال: وصائم هبّ يلحاني فقلت له ... اعمد لصومك واتركني وإفطاري واظما فإني سأروى ثم سوف ترى ... من ذا يصير إذا متنا إلى النّار لأعرابي على سفرة سليمان أيضا: وحضر سفرة سليمان أعرابي، فنظر إلى شعرة في لقمة الأعرابي؛ فقال: أرى شعرة في لقمتك يا أعرابي! قال: وإنك لتراعيني مراعاة من يبصر الشعرة في لقمتي؟ والله لا واكلتك أبدا! فقال: استرها يا أعرابي، فإنها زلة ولا أعود إلى مثلها. أخبار أبي مهدية الأعرابي أبو عثمان المازني قال: قال أبو مهدية: بلغني أن الأعراب والأعزاب هجاهما واحد. قلت: نعم. قال: فاقرأ: «الأعزاب أشدّ كفرا ونفاقا» ولا تقرأ: الأعراب. ولا يغرّك العزب وإن صام وصلى. وتوفي بنيّ لأبي مهدية صغير، فقيل له: أبشر أبا مهدية؛ فإنا نرجو أن يكون شفيع صدق يوم القيامة! قال: لا وكلنا الله إلى شفاعته، إذا والله يكون أعيانا لسانا وأضعفنا حجة؛ ليته المسكين كفانا نفسه! وقيل لأبي مهدية: أكنتم تتوضؤن بالبادية؟ قال: نعم والله؛ لقد كنا نتوضأ فتكفي التوضئة الواحدة الرجل منا الثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه

الحمر- يعني الموالي- فجعلت تليق أستاهها كما تلاق الدواة «1» . وقيل لأبي مهدية: أتقرأ من كتاب الله شيئا؟ قال: نعم. ثم افتتح يقرأ: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى «2» حتى انتهى إلى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «3» فالتفت إلى صاحب له فقال: إن هؤلاء العلوج «4» يقولون: ووجدك ضالا فهدى. والله لا أقولها أبدا. ولما سن أبو مهدية ولي جانبا من اليمامة، وكان به قوم من اليهود أهل عطاء وجدة، فأرسل إليهم فقال: ما عندكم من المسيح؟ قالوا: قتلناه وصلبناه! قال: فهل غرمتم ديته؟ قالوا: لا. قال: إذا والله لا تبرحوا حتى تغرموا ديته! فأرضوه حتى كف عنهم. وقيل لأبي مهدية: ما أصبركم معشر الأعراب على البدو؛ قال: كيف لا يصبر على البدو من طعامه الشمس وشرابه الريح!؟ ونظر أبو مهدية إلى رجل يستنجي ويكثر من الماء، فقال له: إلى كم تغسلها ويحك! أتريد أن تشرب فيها سويقا! ومات طفل لأبي مهدية، فقيل له: اصبر يا أبا مهدية؛ فإنه فرط افترطته «5» ، وخير قدمته، وذخر أحرزته. فقال: بل ولد دفنته، وثكل تعجلته؛ والله لئن لم أجزع للنقص، لا أفرح للمزيد. قال أبو عبيدة: سمع أبو مهدية رجلا يقول بالفارسية: زود زود. فقال: ما يقول هذا؟ فقيل له يقول: عجل عجل. فقال: أفلا يقول: حيهلا.

خبر أبي الزهراء

خبر أبي الزهراء المعلي بن المثني الشيباني قال: حدثنا سويد بن منجوف قال: أقبل أعرابي من بني تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جبانة السبيع، تحته أتان «1» له تخب، وعليها ذلاذل «2» وأطمار من سحق صوف، قد اعتم بما يشبه ذلك؛ من أشوه الناس منظرا وأقبحهم شكلا؛ وهو يهدر كما يهدر البعير وهو يقول ألاسبد، ألا لبد «3» ألا مؤو ألا مقر، ألا سعديّ ألا يربوعيّ، ألا دارميّ! هيهات هيهات! وما يغني أصل حوض الماء صاديا معنى! قال سويد: فدخل علينا في درب الكناسة فلم يجد منفذا وقد تبعه صبيان كثير وسواد من سواد الحي، قال: فسمعت سواديا يقول له: يا عماه، يا إبليس! متى أذن لك بالظهور؟ فالتفت إليهم، فقال منذ سروا آباءكم وفشّوا أمهاتكم! قال: وكان معنا أبو حماد الخياط، وكان من أطلب الناس لكلام الأعراب وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي، فدخل علينا وكان مع ذلك مولى بني تميم، فأتيته فأخبرته؛ فخرج مبادرا كأني قد أفدته فائدة عظيمة؛ وقد نزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحيطان وأخذ قوسه بيده؛ فتارة يشير بها إلى الصبيان، وتارة يذبّ الشذا عن الأتان- وهو يقول لأتانه: قد كنت بالأمعز في خصب خصب ... ما شئت من حمض وماء منسكب «4» فربّك اليوم ذليل قد نصب ... يرى وجوها حوله ما ترتقب ولا عليها نور إشراف الحسب ... كأنها الزّنج وعبدان العرب إلى عجيل كالرعيل والسرب ... ولو أمنت اليوم من هذا اللّجب «5» رميت أفواقا قويمات النّصب ... الرّيش أولاها وأخراها العقب قال: فلم يزل أبو حماد يلطفه ويتلطف به ويبجله، إلى أن أدخله منزله؛ فمهد له

وحطه عن أتانه، ودعا بالعلف؛ فجعل الأعرابي يقول: أين الليف والنّئيف «1» والوساد والنجاد؟ يعني بالليبف: الحصير؛ وبالنئيف عشبة عندهم يقال لها البهمى «2» والوساد: جلد عنز يسلخ ولا يشق ويحشى وبرا وشعرا ويتّكأ عليه؛ والنجاد: مسح شعر يستظل تحته. قال: فلما نزع القتب عن الأتان إذا ظهرها قد دبر حتى أضرّت بنا رائحته: فجعل الأعرابي يتنهد ويقول: إن تنحضي أو تدبري أو تزجري ... فذاك من دءوب ليل مسهر «3» أنا أبو الزهراء من آل السّري ... مشمّخ الأنف كريم العنصر إذا أتيت خطّة لم أقسر «4» وكان يسمى الأعرابي صلتان بن عوسجة من بني سعد بن دارم، ويكنى بأبي الزهراء، وما رأيت أعرابيا أعجب منه؛ كان أكثر كلامه شعرا؛ وأمثل أعرابي سمعته كلاما؛ إلا أنه ربما جاء باللفظة بعد الأخرى لانفهمها؛ وكان من أضجر الناس وأسوئهم خلقا، وإذا نحن سألناه عن الشيء قال: ردّوا عليّ القوس والأتان! يظن أنا نتلاعب به، وكنا نجتمع معه في مجلس أبي حماد، وما منا إلا من يأتيه بما يشتهيه، فلا يعجبه ذلك؛ حتى أتيناه يوما بخربز «5» ، وكانت أمامه، فلما أبصرها تأملها طويلا وجعل يقول: بدّلت والدهر قديما بدّلا ... من قيض بيض القفر فقعا حنظلا «6» أخبث ما تنبت أرض مأكلا فكنا نقول له: يا أبا الزهراء، إنه ليس بحنظل، ولكنه طعام هنيء مريء، ونحن نبدؤك فيه إن شئت. قال: فخذوا منه حتى أرى! فبدأنا نأكل وهو ينظر لا

يطرف، فلما رأى ذلك بسط يده فأخذ واحدة، فنزع أعلاها وقوّر أسفلها، فقلنا له: ما تريد أن تصنع يا أبا الزهراء؟ فقال: إن كان السم يا ابن أخي ففيما ترون! فلما طعمه استخفّه واستعذبه واستحلاه، فلم يكن يؤثر عليه شيئا، وما كنا نأتيه بعد بغيره، وجعل في خلال ذلك يقول: هذا طعام طيّب يلين ... في الجوف والحلق له سكون الشّهد والزبد به معجون فلما كان إلى أيام، قلت له: يا أبا الزهراء، هل لك في الحمام؟ قال: وما الحمام يا ابن أخي؟ قلنا له: دار فيها أبيات: حارّ، وفاتر، وبارد؛ تكون في أيها شئت يذهب عنك قشف السفر ويسقط عنك هذا الشعر. قال: فلم نزل به حتى أجابنا، فأتينا به الحمام، وأمرنا صاحب الحمام أن لا يدخل علينا أحدا، فدخل وهو خائف مترقب، لا ينزع يده من يد أحدنا، حتى صار في داخل الحمام، فأمرنا من طلاه بالنّورة «1» ، وكان جلده أشعر كجلد عنز، فقلق ونازع للخروج، وبدأ شعره يسقط؛ فقلنا أحين طاب الحمام وبدأ شعرك يسقط تخرج؟ قال: يا بن أخي، وهل بقي إلا أن أنسلخ كما ينسلخ الأديم في احتدام القيظ! وجعل يقول: وهل يطيب الموت يا إخواني ... هل لكم في القوس والأتان خذوهما منّي بلا أثمان ... وخلّصوا المهجة يا صبيان فاليوم لو أبصرني جيراني ... عريان بل أعرى من العريان قد سقط الشّعر من الجثمان ... حسبت في المنظر كالشّيطان! قال: ثم خرج مبادرا، واتبعه أحداث لنا، لولاهم لخرج بحاله تلك ما يستره شيء؛ ولحقناه في وسط البيوت، فأتيناه بماء بارد، فشرب وصب على رأسه، فارتاح واستراح، وأنشأ يقول: الحمد للمستحمد القهّار ... أنقذني من حرّ بيت النار

إلى ظليل ساكن الأوار» ... من بعد ما أيقنت بالدّمار قال: فدعونا له بكسوة غير كسوته فألبسناه، وأتينا به مجلس أبي حماد؛ وكان أبو حماد يبيع الحنطة والتمر وجميع الحبوب؛ وكان يجاوره قوم يبيعون أنبذة التمر وكان أبو الحسن التّمّار ماهرا؛ فإذا خضنا في النحو وذكرنا الرؤاسي والكسائي وأبا زيد، جعل ينظر، يفقه الكلام ولا يفهم التأويل؛ فقلنا له: ما تقول يا أبا الزهراء؟ فقال: يا ابن أخي، إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له. فقال أبو الحسن: إن بهذا تعرف العرب صوابها من خطئها. فقال له: ثكلت وأثكلت! وهل تخطيء العرب؟ قال: بلى. قال: على أولئك لعنة الله وعلى الذين أعتقوا مثلك! قال سويد: وكنت أحدثهم سنا (قال) فقلت: جعلت فداك، وأنا رجل من بني شيبان وربيعة؛ ما تعلم أنّا على مثل الذي أنت عليه من الإنكار عليهم؛ فقال فيهم: يسائلني بيّاع تمر وجردق ... ومازج أبوال له في إنائه «2» عن الرّفع بعد الخفض، لا زال خافضا ... ونصب وجزم صيغ من سوء رائه فقلت له هذا كلام جهلته ... وذو الجهل يروي الجهل عن نظرائه فقال بهذا يعرف النحو كلّه ... يرى أنني في العجم من نظرائه فأمّا تميم أو سليم وعامر ... ومن حلّ غمر الضّالّ أو في إزائه ففيهم وعنهم يؤثر العلم كلّه ... ودع عنك من لا يهتدي لخطائه فمن ذا الرّؤاسي الذي تذكرونه ... ومن ذا الكسائي سالح في كسائه ومن ثالث لم أسمع الدهر باسمه ... يسمّونه من لؤمه سيبوائه فكيف يخلّ القول من كان أهله ... ويهدى له من ليس من أوليائه فلست لبيّاع التّميرات مغضيا ... على الضّيم إن واقفت بعد عشائه ولقد قلنا له: يا أبا الزهراء، هل قرأت من كتاب الله شيئا؟ قال: أي وأبيك، آيات مفصلات أردّدهن في الصلوات، آباء وأمهات، وعمات وخالات ثم أنشأ يقول:

قرأت قول الله في الكتاب ... ما أنزل الرّحمن في الأحزاب لعظم ما فيها من الثّواب ... الكفر والغلظة في الأعراب وأنا فاعلم من ذوي الألباب ... أومن بالله بلا ارتياب في عرشه المستور بالحجاب ... والموت والبعث وبالحساب وجنّة فيها من الثياب ... ما ليس بالبصرة في حساب وجاحم يلفح بالتهاب ... أوجه أهل الكفر والسّباب «1» ودفع رحل الطارق المنتاب ... في ليلة ساكتة الكلاب ولما أحضرناه ذات يوم جنازة، فقلنا له: يا أبا الزهراء، كيف رأيت الكوفة؟ قال: يا ابن أخي، حضرا حاضرا؛ ومحلا آهلا؛ أنكرت من أفعالكم الأكيال والأوزان، وشكل النسوان. ثم نظر إلى الجبانة فقال: ما هذا التلال يا ابن أخي؟ قلت له: أجداث الموتي، فقال: أماتوا أم قتلوا؟ فقلت: قد ماتوا بآجالهم ميتات مختلفات. قال: فماذا ننتظر نحن يا ابن أخي؟ قلت: مثل الذي صاروا إليه: فاستعبر وبكى؛ وجعل يقول: يا لهف نفسي أن أموت في بلد ... قد غاب عني الاهل فيه والولد وكلّ ذي رحم شفيق معتقد ... يكون ما كنت سقيما كالرمد يا ربّ يا ذا العرش وفّق للرّشد ... ويسّر الخير لشيخ مختضد «2» ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى أخذته الحمى والبرسام «3» ؛ فكنا لا نبارحه عائدين متفقدين؛ فبينا نحن عنده ذات يوم وقد اشتد كربه وأيقن بالموت، جعل يقول: أبلغ بناتي اليوم بالصّوى ... قد كنّ يأملن إيابي بالغنى «4» وقد تمنّين وما يغني المنى ... بأنّ نفسي وردت حوض الرّدى يا ربّ يا ذا العرش في أعلا السّما ... إليك قدّمت صيامي في الظّما

ومن صلاتي في صباح ومسا ... فعد على شيخ كبير ذي انحنا يكفيه ما لاقاه في الدّنيا كفى قلنا له: يا أبا الزهراء، ما تأمرنا في القوس والأتان، وفيما قسم الله لك عندنا من رزق؟ فقال: يا ابن أخي، أما ما قسم الله لي عندكم فمردود إليكم، وأما القوس والأتان فبيعوهما وتصدقوا بثمنهما في فقراء صلبة «1» بني تميم، وما بقي في مواليهم. ثم جعل يقول: اللهم اسمع دعاء عبدك إليك، وتضرعه بين يديك، واعرف له حق إيمانه بك، وتصديقه برسلك، صليت عليهم وسلمت؛ اللهم إني جان مقترف وهائب معترف، لا أدعي براءة، ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي، وتجاوزك عني؛ اللهم إنك كتبت على الدنيا التعب والنصب، وكان في قضائك، وسابق علمك قبض روحي في غير أهلي وولدي، اللهم فبدل لي التعب والنصب روحا وريحانا وجنة نعيم؛ إنك مفضل كريم. ثم صار يتكلم بما لا نفقهه ولا نفهمه حتى مات، رحمه الله؛ فما سمعت دعاء أبلغ من دعائه، ولا شهدت جنازة أكثر باكيا وداعيا من جنازته؛ رحمه الله. وقال أعرابي يصف كساء: من كان ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظ مصيّف مشتي «2» نسجته من نعجات ست وقال أعرابي: قالت سليمى: ليت لي بعلا بمن ... يغسل رأسي ويسلّيني الحزن «3» وحاجة ليس لها عندي ثمن ... مشهورة قضاؤها منه وهن «4» قلن جواري الحيّ: يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما؟ قالت وإن! وقال أعرابي: جاريتان حلفت أمّاهما ... أن ليس مغبونا من اشتراهما

الرشيد والأصمعي:

والله لا أخبركم إسماهما ... إلا بقولي هكذا هما هما هما اللتان صادني سهماهما ... حيّا وحيّا الله من حيّاهما أمات ربّي عاجلا أباهما ... حتى تلاقي منيتي مناهما إنّ لنا لكنّه ... معنّة مفنّه «1» سمعنّة نظرنّه ... إلا تره تظنّه السمعنة النظرنة: المرأة التي إذا سمعت أو نظرت فلم تر شيئا تظنّت تظنيا. وأنشد أبو عبد الله بن لبانة الأعرابي: كريمة يحبها أبوها ... مليحة العينين عذبا فوها لا تحسن السّبّ وإن سبّوها الرشيد والأصمعي: الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه بدرة، فقال: يا أصمعي، إن حدثتني بحديث في العجز فأضحكتني وهبتك هذه البدرة. قلت: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا في صحارى الأعراب، إذ أنا بأعرابي قاعد على أجمة، «2» قد احتملت الريح كساءه فألقته على الأجمة، وهو عريان؛ فقلت له: يا أعرابي، ما أجلسك ههنا على هذه الحالة؟ فقال: جارية واعدتها يقال لها سلمى، أنا منتظر لها. فقلت: وما يمنعك من أخذ كسائك؟ قال: العجز يوقفني عن أخذه. فقلت له: فهل قلت في سلمى شيئا؟ قال: نعم. قلت له: أسمعني لله أبوك! قال لا أسمعك حتى تأخذ كسائي تلقيه عليّ! قال: فأخذته فألقيته عليه، فأنشأ يقول: لعلّ الله أن يأتي بسلمى ... فيبطحها ويلقيني عليها ويأتي بعد ذاك سحاب مزن ... تطهّرنا ولا نسعى إليها «3»

فاستضحك هارون حتى استلقى على ظهره، وقال. خذ البدرة لا بورك لك فيها. ذكروا أن أعرابيا أتى عينا من ماء صاف في شهر رمضان، فشرب حتى روى، ثم أومأ بيده إلى السماء فقال. إن كنت قدّرت الصيا ... م فأعفنا من شهر آب أو لا فإنّا مفطرو ... ن وصابرون على العذاب خلا أعرابي بامرأة ليفسق بها فلم ينتشر له؛ فقالت له. قم خائبا! فقال. الخائب من فتح فم الجراب ولم يكل له دقيق. فخجلت ولم تردّ جوابا.

كتاب المجنبة في الأجوبة

كتاب المجنبة في الأجوبة فرش الكتاب قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في كلام الأعراب خاصة، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الجوابات التي هي أصعب الكلام كلّه مركبا، وأعزه مطلبا، وأغمضه مذهبا، وأضيقه مسلكا؛ لأن صاحبه يعجل مناجاة الفكرة، واستعمال القريحة، يروم في بديهته نقض ما أبرم القائل في رويته، فهو كمن أخذت عليه الفجاج، وسدّت عليه المخارج، قد اعترض الأسنة، واستهدف للمرامي، لا يدري ما يقرع له فيتأهب له، ولا ما يفجأه من خصمه فيقرعه بمثله، ولا سيما إذا كان القائل قد أخذ بمجامع الكلام فقاده بذمامه بعد أن روّى فيه واحتفل، وجمع خواطره واجتهد، وترك الرأي يغبّ حتى يختمر؛ فقد كرهوا الرأي الفطير «1» ، كما كرهوا الجواب الدّبريّ «2» ، فلا يزال في نسج الكلام واستئناسه، حتى إذا اطمأن شارده، وسكن نافره، صك به خصمه جملة واحدة ثم إذا قيل له: أجب ولا تخطيء، وأسرع ولا تبطيء، تراه يجاوب من غير أناة ولا استعداد، يطبّق المفاصل، وينفذ إلى المقاتل، كما يرمي الجندل بالجندل، ويقرع الحديد بالحديد، فيحل به عراه، وينقض به مرائره، ويكون جوابه على كلامه كسحابة لبّدت عجاجة «3» ؛ فلا شيء أعضل من الجواب الحاضر، ولا أعز من الخصم الألد الذي يقرع صاحبه، ويصرع منازعه بقول كمثل النار في الحطب الجزل.

للنبي صلى الله عليه وسلم في الزبرقان

قال أبو الحسن: أسرع الناس جوابا عند البديهة قريش، ثم بقية العرب. وأحسن الجواب كله ما كان حاضرا، مع إصابة معنى وإيجاز لفظ. وكان يقال: اتقوا جواب عثمان بن عفان. للنبي صلّى الله عليه وسلم في الزّبرقان : وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن الأهتم: «أخبرني عن الزّبرقان» ، قال: مطاع في أدانيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره، قال الزبرقان: والله يا رسول الله، لقد علم مني أكثر من هذا، ولكن حسدني. قال عمرو ابن الأهتم: أما والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، «1» ضيق العطن، «2» أحمق الوالد، لئيم الخال؛ والله يا رسول الله، ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى؛ رضيت عن ابن عمي فقلت فيه أحسن ما فيه ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما فيه ولم أكذب! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنّ من البيان لسحرا» . جواب عقيل بن أبي طالب لمعاوية وأصحابه لما قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية، أكرمه وقرّبه وقضى حوائجه وقضى عنه دينه، ثم قال له في بعض الأيام، والله إن عليا غير حافظ لك، قطع قرابتك وما وصلك ولا اصطنعك، قال له عقيل: والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنّه بالله، إذ ساء به ظنّك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته، إذ خنتم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أبالك، فإنه عما تقول بمعزل. وقال له معاوية يوما: أبا يزيد، أنا لك خير من أخيك علي. قال: صدقت، إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك؛ فأنت خير لي من أخي، وأخي خير لنفسه منك.

وقال له ليلة الهدير: أبا يزيد، أنت الليلة معنا، قال: نعم؛ ويوم بدر كنت معكم. وقال رجل لعقيل: إنك لخائن حيث تركت أخاك وترغب إلى معاوية، قال: أخون مني والله من سفك دمه بين أخي وابن عمي، أن يكون أحدهما أميرا! ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره، فأجلسه معاوية على سريره ثم قال له: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم! قال: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم! ودخل عتبة بن أبي سفيان، فوسع له معاوية بينه وبين عقيل فجلس بينهما، فقال عقيل: من هذا الذي أجلس أمير المؤمنين بيني وبينه؟ قال: أخوك وابن عمك عتبة. قال: أما إنه إن كان أقرب إليك مني، إني لأقرب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم منك ومنه، وأنتما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرض ونحن سماء. قال عتبة: أبا يزيد، أنت كما وصفت، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمير المؤمنين عالم بحقك، ولك عندنا مما تحب أكثر مما لنا عندك مما تكره. ودخل عقيل على معاوية، فقال لأصحابه: هذا عقيل عمه أبو لهب! قال له عقيل، وهذا معاوية عمته حمّالة الحطب! ثم قال: يا معاوية، إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار، فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب؛ فانظر أيهما خير، الفاعل أو المفعول به. وقال له يوما: ما أبين الشّبق «1» في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم أبين يا بني أمية! وقال له معاوية يوما: والله إنّ فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم. قال: وما هي؟ قال: لين فيكم. قال: لين ماذا؟ قال: هو ذاك «2» . قال: إيانا تعيّر يا معاوية؟

بين عقيل وامرأة

أجل، والله إن فينا للينا من غير ضعف، وعزا من غير جبروت؛ وأما أنتم يا بني أمية فإن لينكم غدر، وعزكم كفر، قال معاوية: ما كلّ هذا أردنا يا أبا يزيد. قال عقيل: لذي اللّبّ «1» قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما قال معاوية: وإنّ سفاه الشيخ لا حلم بعده ... وإن الفتى بعد السّفاهة يحلم وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: لم جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول: إني آمرؤ مني التكرّم شيمة ... إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا ثم قال: وآيم الله يا معاوية، لئن كانت الدنيا مهّدتك مهادها، وأظلتك بحذافيرها «2» ومدت عليك أطناب سلطانها- ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة، ولا تخشّعا لرهبة. قال معاوية نعتّها أبا يزيد نعتا هشّ لها قلبي؛ وإني لأرجو أن يكون الله تبارك وتعالى ما ردّاني برداء ملكها، وحباني بفضيلة عيشها، إلا لكرامة ادّخرها لي؛ وقد كان داود خليفة، وسليمان ملكا؛ وإنما هو المثال يحتذى عليه، والأمور أشباه؛ وايم الله يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريما، وإلينا حبيبا، وما أصبحت أضمر لك إساءة. بين عقيل وامرأة : ويقال إن امرأة عقيل وهي بنت عتبة بن ربيعة خالة معاوية قالت لعقيل: يا بني هاشم، لا يحبكم قلبي أبدا؛ أين أبي؟ أين أخي؟ أين عمي؟ كأن أعناقهم أباريق فضة. قال عقيل: إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك. جواب ابن عباس رضي الله عنهما لمعاوية وأصحابه اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس؛ وكان جريئا

على معاوية حقّارا له، فبلغه عنه بعض ما غمّه؛ فقال معاوية: رحم الله أبا سفيان والعباس، كانا صفيّين دون الناس، فحفظت الميت في الحي والحيّ في الميّت؛ استعملك عليّ يا ابن عباس على البصرة، واستعمل أخاك عبيد الله على اليمن، واستعمل أخاك تمّاما على المدينة؛ فلما كان من الأمر ما كان، هنأتكم ما في أيديكم، ولم أكشفكم عما وعت غرائركم، وقلت: آخذ اليوم وأعطي غدا مثله. وعلمت أن بدء اللؤم يضر بعاقبة الكرم، ولو شئت لأخذت بحلاقيمكم وقيّأتكم ما أكلتم. ولا يزال يبلغني عنكم ما تبرك له الإبل، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم: خذلتم عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني بصفين، ولعمري لبنو تيم وعدي أعظم ذنوبا منا إليكم؛ إذ صرفوا عنكم هذا الأمر، وسنوا فيكم هذه السنة؛ فحتى متى أغضي الجفون على القذى، وأسحب الذيول على الأذى، وأقول: لعل الله وعسى ... ما تقول يا ابن عباس؟!. قال: فتكلم ابن عباس فقال: رحم الله أبانا وأباك، كانا صفيين متفاوضين «1» ؛ لم يكن لأبي من مال إلا ما فضل أباك، وكان أبوك كذلك لأبي؛ ولكن من هنّأ أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنأ أبي بإخاء أبيك؛ نصر أبي أباك في الجاهلية، وحقن دمه في الإسلام، وأما استعمال عليّ إيانا فلنفسه دون هواه وقد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرميّ على البصرة فقتل، وابن بشر بن أرطاة على اليمن فخان، وحبيب بن مرة على الحجاز فردّ، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصب؛ ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا، وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسّنها. وأما خذلنا عثمان فلو لزمنا نصره لنصرناه، وأما قتلنا أنصاره يوم الجمل فعلى خروجهم مما دخلوا فيه وأما حربنا إياك بصفين فعلى تركك الحقّ وادعائك الباطل، وأما إغراؤك إيانا بتيم وعدي فلو أردناها ما غلبونا عليها.

لابن أبي مليكة في ابن عباس

وسكت، فقال في ذلك ابن أبي لهب: كان ابن حرب عظيم القدر في الناس ... حتى رماه بما فيه ابن عباس ما زال يهبطه طورا ويصعده ... حتى استقاد وما بالحقّ من باس لم يتركن خطة مما يذلله ... إلا كواه بها في فروة الراس لابن أبي مليكة في ابن عباس : وقال ابن أبي مليكة: ما رأيت مثل ابن عباس، إذا رأيته رأيت أفصح الناس، وإذا تكلم فأعرب الناس «1» ، وإذا أفتى فأفقه الناس ما رأيت أكثر صوابا ولا أحضر جوابا من ابن عباس. بين ابن عباس ومعاوية : ابن الكلبي قال: أقبل معاوية يوما على ابن عباس فقال: لو وليتمونا ما أتيتم إلينا ما أتينا إليكم، من الترحيب والتقريب، وإعطائكم الجزيل، وإكرامكم على القليل، وصبري على ما صبرت عليه منكم، إني لا أرد أمرا إلا أظمأتم صدره «2» ولا آتي معروفا إلا صغّرتم خطره وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها؛ تقولون: قد نقص الحق دون الأمل! فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسرّ بإعطائها منه بأخذها؟ والله لئن انخدعت لكم في مالي وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي كرما وذلي حلما. ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف، ولا نسألكم أموالكم، لعلمنا بحالكم وحالنا؛ ويكون أبغضها إلينا أحبها إليكم أن نعفيكم. فقال ابن عباس: لو ولينا أحسنّا المواساة، وما ابتلينا بالاثرة؛ «3» ثم لم نغشم الحي، ولم نشتم الميت؛ فلستم بأجود منا أكفا، ولا أكرم أنفسا، ولا أصون لأعراض

المروءة؛ ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا، وأعطى في الحق منكم في الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى؛ والقسم بالسوية والعدل في الرعية يأتيان على المنى والأمل، ما أرضاكم منا بالكفاف، فلو رضيتم منا لم ترض أنفسنا به لكم؛ والكفاف رضا من لا حق له؛ فلا تبخلونا حتى تسألونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا. أبو عثمان الحزامي قال: اجتمعت بنو هاشم عند معاوية، فأقبل عليهم فقال: يا بني هاشم، والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح؛ فلا يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بابي دونكم مسألة؛ ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرا مختلفا: إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم قلتم أعطانا دون حقنا، وقصّر بنا عن قدرنا؛ فصرت كالمسلوب، والمسلوب لا حمد له؛ وهذا مع إنصاف قائلكم، وإسعاف سائلكم. قال: فأقبل عليه ابن عباس فقال: والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه، ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه؛ ولئن قطعت عنا خيرك لله أوسع منك ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفّنّ أنفسنا عنك، وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة، «1» وحق في الفيء؛ «2» فالغنيمة ما غلبنا عليه، والفيء ما اجتبيناه، ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خف ولا حافر. كفاك أم أزيدك؟ قال: كفاني، فإنك تهرّ ولا تنبح. وقال معاوية يوما وعنده ابن عباس: إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها، وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها، وبنو تيم بصدّيقها «3» وجوادها، وبنو عدي بفاروقها «4» ومتفكّرها، وبنو سهم بآرائها ودهائها، وبنو جمح

ابن عباس وابن العاص

بشرفها وأنوفها، وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها، «1» فمن ذا يجلى في مضمارها ويجري إلى غايتها؟ ما تقول يابن عباس؟ قال: أقول: ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم، إلا قريشا فإنهم يفخرون بالنبوّة التي لا يشاركون فيها ولا يساوون بها ولا يدفعون عنها، وأشهد أن الله لم يجعل محمدا من قريش إلا وقريش خير البرية، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم، يريد أن يفخر عليكم إلّا بما تفخرون به؛ إن بنا فتح الأمر وبنا يختم، ولك ملك معجّل ولنا ملك مؤجل، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين. ابن عباس وابن العاص : أبو محنف قال: حج عمرو بن العاص فمرّ بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا ابن عباس، مالك إذا رأيتني ولّيتني القصرة، «2» وكان بين عينيك دبرة، وإذا كنت في ملأ من الناس كنت الهوهاة» الهمزة. فقال ابن عباس: لأنك من اللئام الفجرة! وقريش الكرام البررة لا ينطقون بباطل جهلوه، ولا يكتمون حقا علموه، وهم أعظم الناس أحلاما، وأرفع الناس أعلاما، دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في بني هاشم رحلك، ولا في بني عبد شمس راحلتك، فأنت الأثيم الزنيم، «4» الضال المضلّ، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحلمه، وتسمو بكرمه. فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟ قال ابن عباس: حيث مال الحق ملنا، وحيث سلك قصدنا.

المدائني قال: قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أميّة، وتناول بني هاشم، وذكر مشاهده بصفّين، واجتمعت قريش، فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو، فقال. يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية، وأعطيته ما بيدك، ومنّاك ما بيد غيره فكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، وكلّ راض بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصر في يدك كدّرها عليك بالعدل والتنقص، وذكرت مشاهدك بصفّين، فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك ولقد كشفت فيها عورتك، وإن كنت فيها لطويل اللسان، قصير السنان آخر الخيل إذا أقبلت، وأولها إذا أدبرت، لك يدان، يد لا تبسطها إلى خير، وأخرى لا تقبضها عن شر، ولسان غادر ذو وجهين، ووجهان وجه موحش ووجه مؤنس، ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحريّ أن يطول عليها ندمه، لك بيان وفيك خطل، «1» ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك. فأجابه عمرو بن العاص: والله ما في قريش أثقل عليّ مسألة، ولا أمّر جوابا منك، ولو استطعت أن لا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية، ولكن بعت الله نفسي ولم أنس نصيبي من الدنيا، وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته، فإنه لا تعلّم العوان «2» الخمرة، وأما ما اتى إلى معاوية في مصر فإن ذلك لم يغيّرني له، وأما خفة وطأتي عليكم بصفين فلما استثقلتم حياتي، واستبطأتم وفاتي، وأما الجبن، فقد علمت فريش أني أول من يبارز، وآخر من ينازل وأما طول لساني فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رضي الله عنه: لساني طويل فاحترس من شذاته ... عليك وسيفي من لساني أطول «3»

مجاوبة بني هاشم وبني عبد شمس لابن الزبير

وأما وجهاي ولساناي، فإني ألقي كلّ ذي قدر بقدره، وأرمي كلّ نابح بحجره، فمن عرف قدره كفاني نفسه، ومن جهل قدره كفيته نفسي، ولعمري ما لأحد من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية، فما ينفعني ذلك عندك. وأنشأ عمرو يقول: بني هاشم مالي أراكم كأنكم ... بي اليوم جهال وليس بكم جهل ألم تعلموا أني جسور على الوغى ... سريع إلى الدّاعي إذا كثر القتل وأوّل من يدعو نزال طبيعة ... جبلت عليها والطّباع هو الجبل «1» وأني فصلت الأمر بعد اشتباهه ... بدومة إذ أعيا على الحكم الفصل «2» وأني لا أعيا بأمر أريده ... وأني إذا عجّت بكاركم فحل محمد بن سعيد عن إبراهيم بن حويطب قال: قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباس بعد قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن هذا الأمر الذي نحن فيه وأنتم، ليس بأول أمر قاده البلاء، وقد بلغ الأمر بنا وبكم إلى ما ترى، أبقت لنا هذه الحرب حياء ولا صبرا، ولسنا نقول: ليت الحرب عادت! ولكنّا نقول: ليتها لم تكن كانت! فانظر فيما بقي بعين ما مضى؛ فإنك رأس هذا الأمر بعد عليّ، فإنك أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو. مجاوبة بني هاشم وبني عبد شمس لابن الزبير الشعبي قال: قال ابن الزبير لعبد الله بن عباس: قاتلت أمّ المؤمنين، وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وأفتيت بتزويج المتعة. فقال: أمّا أم المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سمّيت أم المؤمنين وكنا لها خير بنين؛ فتجاوز الله عنها؛ وقاتلت أنت أبوك عليا، فإن كان عليا مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان عليّ كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزحف؛ وأما المتعة فإن عليا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخّص

مناظرة في مجلس معاوية

فيها، فأفتيت بها: ثم سمعته ينهى [عنها] فنهيت عنها؛ وأول مجمر «1» سطع في المتعة مجمر آل الزبير. مناظرة في مجلس معاوية : دخل الحسن بن عليّ على معاوية وعنده ابن الزبير وأبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب؛ فلما جلس الحسن قال معاوية: يا أبا محمد، أيهما كان أكبر، عليّ أم الزبير؟ قال: فقال: ما أقرب ما بينهما، عليّ كان أسنّ من الزبير؛ رحم الله عليا فقال ابن الزبير: رحم الله الزبير، فتبسم الحسن؛ فقال أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب: دع عنك عليا والزبير؛ إن عليا دعا إلى أمر فاتّبع وكان فيه رأسا، ودعا الزبير إلى أمر كان فيه الرأس امرأة، فلما تراءت الفئتان والتقى الجمعان نكص الزبير على عقبيه وأدبر منهزما قبل أن يظهر الحق فيأخذه، أو يدحض الباطل فيتركه، فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه وأخذ سلبه وجاء برأسه، ومضى عليّ قدما كعادته مع ابن عمه ونبيه صلّى الله عليه وسلم؛ فرحم الله عليا ولا رحم الزبير! فقال ابن الزبير: أما والله لو أنّ غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم ... قال: إنّ الذي تعرّض به يرغب عنك. وأخبرت عائشة بمقالتهما، فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا؛ فقال: إن الشيطان ليراك من حيث لا تراه! فضحكت عائشة وقالت: لله أبوك! ما أخبث لسانك. الحسين ومعاوية : الشعبي قال: دخل الحسين بن عليّ يوما على معاوية ومعه مولى له يقال له ذكوان، وعند معاوية جماعة من قريش فيهم ابن الزبير، فرحب معاوية بالحسين وأجلسه على سريره، وقال: ترى هذا القاعد- يعني ابن الزبير- فإنه ليدركه الحسد لبني عبد مناف.

فقال ابن الزبير لمعاوية: قد عرفنا فضل الحسين وقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لكن إن شئت أعلمك فضل الزبير على أبيك أبي سفيان فعلت، فتكلم ذكوان مولى الحسين بن علي فقال: يا ابن الزبير، إن مولاي ما يمنعه من الكلام أن لا يكون طلق اللسان رابط الجنان؛ فإن نطق نطق بعلم؛ وإن صمت صمت بحلم؛ غير أنه كفّ «1» الكلام، وسبق إلى السنان، فأقرت بفضله الكرام؛ وأنا الذي أقول: فيم الكلام لسابق في غاية ... والناس بين مقصّر ومبلّد «2» إنّ الذي يجري ليدرك شأوه ... ينمي بغير مسوّد ومسدّد بل كيف يدرك نور بدر ساطع ... خير الأنام وفرع آل محمد فقال معاوية: صدق قولك يا ذكوان؛ أكثر الله في موالي الكرام مثلك. فقال ابن الزبير: إن أبا عبد الله سكت وتكلم مولاه، ولو تكلم لأجبناه، أو لكففنا عن جوابه إجلالا له؛ ولا جواب لهذا العبد. قال ذكوان: هذا العبد خير منك؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم» ؛ فأنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنت ابن العوام ابن خويلد؛ فنحن أكرم ولاء وأحسن فعلا. قال ابن الزبير: إني لست أجيب هذا! فهات ما عندك. فقال معاوية: قاتلك الله يابن الزبير. ما أعياك وأبغاك. أتفخر بين يدي أمير المؤمنين وأبي عبد الله؟ إنك أنت المتعدي لطورك «3» ، الذي لا تعرف قدرك؛ فقس شبرك بفترك؛ ثم تعرّف كيف تقع بين عرانين «4» بني عبد مناف؛ وأما والله لئن دفعت في بحور بني هاشم وبني عبد شمس لقطّعتك بأمواجها، ثم لترميّن بك في

لججها؛ فما بقاءك في البحور إذا غمرتك، وفي الأمواج إذا بهزتك «1» ؟ هنالك تعرف نفسك؛ وتندم على ما كان من جرأتك، وتمسّي ما أصبحت فيه من أمان وقد حيل بين العير والنّزوان. فأطرق ابن الزبير مليا ثم رفع رأسه فالتفت إلى من حوله، ثم قال أسألكم بالله: أتعلمون أن أبي حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن أباه أبا سفيان حارب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأمه هند آكلة الأكباد؟ وجدي الصدّيق، وجده المشدوخ ببدر ورأس الكفر؟ وعمتي خديجة ذات الخطر والحسب، وعمته أم جميل حمالة الحطب؟ وجدتي صفية، وجدته حمامة؟ وزوج عمتي خير ولد آدم محمد صلّى الله عليه وسلم، وزوج عمته شر ولد آدم أبو لهب سيصلي نارا ذات لهب؟ وخالتي عائشة أم المؤمنين، وخالته أشقى الأشقين؟ وأنا عبد الله، وهو معاوية؟ وقال له معاوية: ويحك يابن الزبير كيف تصف نفسك بما وصفتها؟ والله مالك في القديم من رياسة، ولا في الحديث سياسة، ولقد قدناك وسدناك قديما وحديثا، لا تستطيع لذلك إنكارا، ولا عنه فرارا، وإن هؤلاء الحضور ليعلمون أن قريشا قد اجتمعت يوم الفخار على رياسة حرب بن أمية وأن أباك وأسرتك تحت رايته راضون بإمارته غير منكرين لفضله ولا طامعين في عزله، إن أمر أطاعوا، وإن قال أنصتوا، فلم تزل فينا القيادة وعزّ الولاية؛ حتى بعث الله عز وجل محمدا صلّى الله عليه وسلم، فانتخبه من خير خلقه، من أسرتي لا أسرتك، وبني أبي لابني أبيك، فجحدته قريش أشدّ الجحود؛ وأنكرته أشدّ الإنكار وجاهدته أشدّ الجهاد، إلا من عصم الله من قريش؛ فما ساد قريشا وقادهم إلا أبو سفيان بن حرب، فكانت الفئتان تلتقيان ورئيس الهدى منا ورئيس الضلالة منا؛ فمهديّكم تحت راية مهدّينا، وضالّكم تحت راية ضالّنا؛ فنحن الأرباب، وأنتم الأذناب؛ حتى خلّص الله أبا سفيان بن حرب بفضله من عظيم شركه؛ وعصمه بالإسلام من عبادة الأصنام؛ فكان ما لم يعط في

الجاهلية عظيما شأنه، وفي الإسلام معروفا مكانه؛ ولقد أعطي يوم الفتح ما لم يعط أحد من آبائك، وإن منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم نادى: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ وكانت داره حرما، لا دارك ولا دار أبيك؛ وأما هند فكانت امرأة من قريش في الجاهلية عظيمة الخطر؛ وفي الإسلام كريمة الخبر، وأما جدك الصّديق فبتصديق عبد مناف سمى صديقا لا بتصديق عبد العزّى، وأما ما ذكرت من جدي المشدوخ ببدر، فلعمري لقد دعا إلى البراز هو وأخوه وابنه فلو برزت إليه أنت وأبوك ما بارزوكم ولا رأوكم لهم أكفاء، كما قد طلب ذلك غيركم فلم يقبلوهم، حتى برز إليهم أكفاؤهم من بني أبيهم، فقضى الله مناياهم بأيديهم فنحن قتلنا ونحن قتلنا. وما أنت وذاك؟ وأما عمتك أم المؤمنين فبنا شرفت وسميت أمّ المؤمنين، وخالتك عائشة مثل ذلك، وأما صفية فهي أدنتك من الظل، ولولا هي لكنت ضاحيا؛ وأمّا ما ذكرت من عمك وخال أبيك سيد الشهداء، فكذلك كانوا رحمهم الله، وفخرهم وإرثهم لي دونك، ولا فخر لك فيهم ولا إرث بينك وبينهم؛ وأمّا قولك: أنا عبد الله وهو معاوية، فقد علمت قريش أيّنا أجود في الإزم «1» ، وأحزم في القدم، وأمنع للحرم؛ لا والله ما أراك منتهيا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك، فقد طالبهم بالذّحول «2» وقدّم إليهم الخيول، وخدعتم أمّ المؤمنين ولم تراقبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ مددتم على نسائكم السّجوف «3» وأبرزتم زوجته للحتوف ومقارعة السيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربا فلم ينجه ذلك أن طحنه أبو الحسين بكلكله طحن الحصيد بأيدي العبيد، وأمّا أنت فأفلتّ بعد أن خمشتك براثينه ونالتك مخاليبه، وايم الله ليقوّمنّك بنو عبد مناف بثقافها، أو لتصبحنّ منها صباح أبيك بوادي السّباع، وما كان أبوك المرهوب جانبه، ولكنه كما قال الشاعر: أكيلة سرحان فريسة ضيغم ... فقضقضه بالكفّ منه وحطّما «4»

ابن الزبير ومعاوية:

ابن الزبير ومعاوية: نازع مروان بن الحكيم يوما ابن الزبير عند معاوية، فكان هوى معاوية مع مروان؛ فقال ابن الزبير: يا معاوية، إنّ لك حقا وطاعة، وإن لك صلة وحرمة؛ فأطع الله نطعك؛ فإنه لا طاعة لك علينا إن لم تطع الله؛ ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السّخبر «1» . وقال معاوية يوما وعنده ابن الزبير وذكر له مروان- فقال: إن يطلب هذا الأمر فقد يطمع فيه من هو دونه، وإن يتركه يتركه لمن هو فوقه؛ وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا تعطفه قرابة، ولا ترده مودّة، يسومكم خسفا ويوردكم تلفا. قال ابن الزبير: إذا والله نطلق عقال الحرب بكتائب تمور كرجل «2» الجراد، حافاتها الأسل، «3» لها دويّ كدوي الريح، تتبع غطريفا من قريش لم تكن أمّه براعية ثلّة «4» . قال معاوية: أنا ابن هند، أطلقت عقال الحرب، وأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع «5» ، وليس للآكل بعدي إلا الفلذة، ولا للشارب إلا الرّنق «6» . مجاوبة الحسن بن علي لمعاوية وأصحابه ابن العاص والحسن: وفد الحسن بن عليّ على معاوية، فقال عمرو لمعاوية، يا أمير المؤمنين، إن الحسن لفهّ «7» ، فلو حملته على المنبر فتكلم وسمع الناس كلامه عابوه وسقط من عيونهم. ففعل، فصعد المنبر وتكلم وأحسن؛ ثم قال: أيها الناس، لو طلبتم ابنا لنبيّكم ما بين لابتيها لم تجدوه غيري وغير أخي. وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. فساء ذلك

مروان والحسن:

عمرا وأراد أن يقطع كلامه، فقال له: أبا محمد، أتصف الرّطب؟ فقال: أجل، تلقحه الشمال وتخرّجه الجنوب، وتنضجه الشمس، ويصبغه القمر. قال: أبا محمد، هل تنعت الخراءة؟ قال: نعم، تبعد المشي في الأرض الصّحصح «1» حتى تتوارى من القوم، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستنج بالقمّة والرّمة- يريد الروث والعظم- ولا تبل في الماء الراكد. مروان والحسن: بينما معاوية بن أبي سفيان جالس في أصحابه إذ قيل له: الحسن بالباب. فقال معاوية: إن دخل أفسد علينا ما نحن فيه! فقال له مروان بن الحكم: ائذن له؛ فإني أسأله ما ليس عنده فيه جواب. قال معاوية: لا تفعل فإنهم قوم قد ألهموا الكلام وأذن له؛ فلما دخل وجلس قال له مروان: أسرع الشيب إلى شاربك يا حسن، ويقال إنّ ذلك من الخرق! فقال الحسن: ليس كما بلغك، ولكنا معشر بني هاشم أفواهنا عذبة شفاهها فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهنّ وقبلهنّ؛ وأنتم معشر بني أمية فيكم بخر شديد، فنساؤكم يصرفن أفواههنّ وأنفاسهنّ عنكم إلى أصداغكم؛ فإنما يشيب منكم موضع العذار من أجل ذلك. قال مروان: إن فيكم يا بني هاشم خصلة سوء. قال: وما هي؟ قال: الغلمة «2» . قال: أجل، نزعت الغلمة من نسائنا ووضعت في رجالنا، ونزعت الغلمة من رجالكم ووضعت في نسائكم، فما قام لأموية إلا هاشمي! فغضب معاوية وقال: قد كنت أخبرتكم فأبيتم حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم وأفسد عليكم مجلسكم. فخرج الحسن وهو يقول: ومارست هذا الدهر خمسين حجّة ... وخمسا أزجّي قائلا بعد قائل «3»

الحسن وحبيب الفهري:

فلا أنا في الدنيا بلغت جسيمها ... ولا في الذي أهوى كدحت بطائل وقد أشرعت فيّ المنايا أكفّها ... وأيقنت أني رهن موت بعاجل الحسن وحبيب الفهري: قال الحسن بن علي لحبيب بن مسلمة الفهري: ربّ مسير لك في غير طاعة الله! قال: أما مسيري إلى أبيك فلا! قال: بلى، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك، ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كنت كما قال الله عز وجل: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً «1» ، ولكنك كما قال الله: بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «2» . ابن جعفر وابن الحكم في مجلس عبد الملك: قدم عبد الله بن جعفر على عبد الله بن مروان، فقال له يحيى بن الحكم: ما فعلت خبيثة؟ فقال: سبحان الله! يسميها رسول الله صلّى الله عليه وسلم طيبة وتسميها خبيثة؟ لقد اختلفتما في الدنيا وستختلفان في الآخرة! قال يحيى: لأن أموت بالشام أحب إليّ من أن أموت بها! قال: اخترت جوار النصارى على جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم! قال يحيى: ما تقول في عليّ وعثمان؟ قال: أقول ما قاله من هو خير مني فيمن هو شر منهما: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» . مجاوبة بين معاوية وأصحابه معاوية والضحاك وابن العاص: قال معاوية يوما وعنده الضحاك بن قيس، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟

معاوية وقوم من قريش:

قال الضحاك بن قيس: إكداء العاقل وإجداء الجاهل. وقال سعيد بن العاص: أعجب الأشياء ما لم ير مثله. وقال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء غلبة من لا حقّ له ذا الحقّ على حقه. وقال معاوية: أعجب من هذا أن تعطي من لا حق له ما ليس له بحق من غير غلبة. معاوية وقوم من قريش: حضر قوم من قريش مجلس معاوية، فيهم عمرو بن العاص، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام؛ فقال عمرو: أحمد الله يا معشر قريش إذ جعل أمركم إلى من يغضي على القذى، ويتصام عن العوراء، ويجرّ ذيله على الخدائع. قال عبد الله: لو لم يكن كذلك لمسّنا إليه الضر أو دببنا إليه الخمر، ورجونا أن يقوم بأمرنا من لا يطعمك مال مصر. قال معاوية: يا معشر قريش، حتى متى لا تنصفون من أنفسكم؟ قال عبد الرحمن بن الحارث: إن عمرا أفسدك علينا وأفسدنا عليك. لو أغضبت عن هذه. قال: إن عمرا لي ناصح. قال عبد الرحمن: فأطعمنا مثل ما أطعمته، وخذنا بمثل نصيحته؛ إنا رأيناك يا معاوية تضرب عوامّ قريش بأيديك في خواصها، كأنك ترى أن بكرامها جاروك دون لئامها، وإنا والله لنفرغ من إناء فعم في إناء ضخم، وكأنك بالحرب قد حل عقالها عليك من لا ينظر لك. قال معاوية: يا بن أخي، ما أحوج أهلك إليك! فلا تفجعهم بنفسك! ثم أنشد: أعزّ رجالا من قريش تتابعوا ... على سفه، مني الحيا والتكرم «1» معاوية وابن الزبير: وقال معاوية لابن الزبير: تنازعني هذا الأمر كأنك أحق به مني! قال: لم لا أكون أحق به منك يا معاوية، وقد اتبع أبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الإيمان واتبع الناس أباك على الكفر؟ قال له معاوية: غلطت يا ابن الزبير بعث الله ابن عمي نبيا فدعا أباك فأجابه؛ فما أنت إلا تابع لي، ضالا كنت أو مهديّا.

معاوية ومروان وابن العاص في الحسين:

معاوية ومروان وابن العاص في الحسين: العتبي قال: دعا معاوية مروان بن الحكم فقال له: أشر عليّ في الحسين. قال: تخرجه معك إلى الشام، فتقطعه عن أهل العراق وتقطعهم عنه. قال: أردت والله أن تستريح منه وتبتليني به، فإن صبرت عليه صبرت على ما أكره، وإن أسأت إليه كنت قد قطعت رحمه! فأقامه وبعث إلى سعيد بن العاص، فقال له: يا أبا عثمان، أشر عليّ في الحسين. فقال: والله إنك ما تخاف الحسين إلا على من بعدك، وإنك لتخلف له قرنا إن صارعه ليصرعنه، وإن سابقه ليسبقنّه؛ فذر الحسين منبت النخلة، يشرب من الماء، ويصعد في الهواء، ولا يبلغ إلى السماء! قال: فما غيّبك عني يوم صفّين؟ قال: تحملت الحرم، وكفيت الحزم، وكنت قريبا لو دعوتنا لأجبناك، ولو ثلمت لرقعناك! قال معاوية: يا أهل الشام؛ هؤلاء قومي وهذا كلامهم. مجاوبة بين بني أمية ابن سعيد وابن عتبة في حضرة معاوية: قال: لما أخرج أهل المدينة عمرو بن سعيد الأشدق، وكان وليهم بعد الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، قال عمر بن سعيد لمعاوية: إن الوليد بن عتبة هو الذي أمر أهل المدينة باخراجي؛ فأرسل إليه وتوثّقه. فأرسل إليه معاوية، فلما دخل عليه قال له عمرو: أوليد، أنت أمرت بإخراجي؟ قال لا ورحمك أبا أمية، ولا أمرت أهل الكوفة بإخراج أبيك؛ بل كيف أطاعني أهل المدينة فيك، إلا أن تكون عصيت الله فيهم؟ إنك لتحل عرى ملك شديدة عقدتها، وتمتري «1» أخلاف فيقة» سريعة درتها؛ وما جعل الله صالحا مصلحا كفاسد مفسد! معاوية وخالد بن عبد الله في أموال العراق: جلس يوما عبد الملك بن مروان وعند رأسه عبد الله بن خالد بن أسيد، وعند

خالد بن يزيد ومحمد بن عمرو:

رجليه أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه، فقال: هذا والله التوفير، وهذه الأمانة؛ لا ما فعل هذا- وأشار إلى خالد- استعملته على العراق فاستعمل كل ملطّ «1» فاسق فأدّوا إليه العشرة واحدا، وأدّى إليّ من العشرة واحدا! واستعملت هذا على خراسان- وأشار إلى أمية- فأهدى إليّ برذونين حطمين «2» ، فإن استعملتكم ضيعتم وإن عزلتكم قلتم استخف بنا وقطع أرحامنا! فقال خالد بن عبد الله: استعملتني على العراق وأهله رجلان: سامع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح؛ فأما السامع المطيع المناصح فإنا جزيناه ليزداد ودّا إلى ودّه، وأما المبغض المكاشح، فإنا داريناه ضغنه وسللنا حقده، وكثرنا لك المودة في صدور رعيتك؛ وإن هذا جبى الأموال وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال؛ فيوشك أن تنبت البغضاء فلا أموال ولا رجال! فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: هو والله ما قال خالد. خالد بن يزيد ومحمد بن عمرو: قدم محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص الشام، فأتى عمته آمنة بنت سعيد بن العاص، وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل عليه فرآه فقال له: ما يقدم علينا أحد من أهل الحجاز إلا اختار المقام عندنا على المدينة. فظن محمد أنه يعرّض به، فقال: وما يمنعهم وقد قدم من المدينة قوم على النواضح «3» ، فنكحوا أمّك، وسلبوك ملكك، وفرّغوك لطلب الحديث وقراءة الكتب ومعالجة ما لا تقدر عليه. يعني الكيميا، وكان يعملها. عثمان وابن العاص بعد عزله عن مصر: لما عزل عثمان بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن أبي سرح، دخل عليه عمرو وعليه جبة، فقال له: ما حشو جبّتك يا عمرو؟ قال: أنا! قال: قد علمت أنك فيها. ثم قال: أشعرت يا عمرو أن الّلقاح درّت بعدك ألبانها بمصر؟ قال: لأنكم أعجفتم «4» أولادها.

ابن لعمر بن عبد العزيز وابن لسليمان:

ابن لعمر بن عبد العزيز وابن لسليمان: وقع بين ابن لعمر بن عبد العزيز وابن لسليمان بن عبد الملك كلام. فجعل ابن عمر يذكر فضل أبيه، قال له ابن سليمان؛ إن شئت فأقلل وإن شئت فأكثر؛ ما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي! لأن سليمان هو ولي عمر ابن عبد العزيز. العباس بن الوليد والوليد بن يزيد: ذكروا أن العباس بن الوليد وجماعة من بني مروان كانوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيد، فحمّقوه وعابوه، وكان هشام يبغضه؛ ودخل الوليد، فقال له العباس بن الوليد: كيف حبّك للروميات؟ قال: إن أباك كان مشغوفا بهنّ. قال: إني لا أحبهن. [قال] : وكيف لا يحببن وهن يلدن مثلك؟ قال: اسكت، فلست بالفحل يأتي عسبه «1» بمثلي. قال له هشام: يا وليد، ما شرابك؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين. وقام فخرج، فقال هشام: هذا الذي تزعمون أنه أحمق. الوليد بن يزيد وولد لهشام: وقرّب إلى الوليد بن يزيد فرسه، فجمع جراميزه «2» ووثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد لهشام بن عبد الملك، فقال: يحسن أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا! فقال الناس: لم ينصفه في الجواب. عبد الملك ويحيى بن الحكم وبنت لعبد الرحمن بن هشام: خطب عبد الملك بن مروان بنت عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فقالت: والله لا تزوجني أبو الذباب! فتزوجها يحيى بن الحكم؛ فقال عبد الله ليحيى: أما والله لقد تزوجت أسود أفوه «3» ! قال يحيى: أما إنها أحبّت مني ما كرهت منك! وكان عبد الملك رديء الفم، يدمي فيقع عليه الذباب، فسمي أبا الذباب.

الجواب القاطع

الجواب القاطع ثابت بن عبد الله وسعيد بن عثمان: نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام، فقال: إني لأبغض هذه الوجوه. قال له سعيد بن عثمان: تبغضهم لأنهم قتلوا أباك! قال: صدقت، ولكن الأنصار والمهاجرون قتلوا أباك! الحجاج وخارجي: وقال الحجاج لرجل من الخوارج: والله إنك من قوم أبغضهم! قال له: أدخل الله أشدّنا بغضا لصاحبه الجنة. عمرو بن معديكرب وباهلي: وقال ابن الباهلي لعمرو بن معديكرب: إن مهرك لمقرف «1» . قال: هجين عرف هجينا «2» مثله. الحجاج وخارجية: وقال الحجاج لامرأة من الخوارج: والله لأعدّنكم عدّا ولأحصدنّكم حصدا! قالت له: الله يزرع وأنت تحصد، فأين قدرة المخلوق من الخالق. وأتي الحجاج بامرأة من الخوارج، فقال لأصحابها: ما تقولون فيها؟ قالوا: عاجلها القتل أيها الأمير، قالت الخارجية: لقد كان وزراء صاحبك خيرا من وزرائك يا حجاج! قال لها: ومن صاحبي؟ قالت: فرعون؛ استشارهم في موسى فقالوا: أرجه «3» وأخاه!

زياد وخارجي:

زياد وخارجي: وأتي زياد برجل من الخوارج، فقال له: ما تقول فيّ وفي أمير المؤمنين؟ قال أما الذي تسميه أمير المؤمنين فهو أمير المشركين، وأما أنت فما أقول في رجل أوله لزنية وآخره لدعوة! فأمر به فقتل وصلب. الأشعث وشريح: قال الأشعث بن قيس لشريح القاضي: لشدّ ما ارتفعت! قال: فهل رأيت ذلك ضرك؟ قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله عليك وتجهلها على غيرك. ابن الفضل وبعض قرابته: نازع محمد بن الفضل بعض قرابته في ميراث، فقال له: يا بن الزنديق! قال له: إن كان أبي كما تقول وأنا مثله، فلا يحل لك أن تنازعني في هذا الميراث؛ إذ كان لا يرث دين دينا. الحجاج وخارجية: وأتي الحجاج بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه، فقيل لها الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه! قالت: إني لأستحي أن أنظر من لا ينظر الله إليه! فأمر بها فقتلت. عثمان وعلي: لقي عثمان بن عفان عليّ بن أبي طالب، فعاتبه في شيء بلغه عنه، فسكت عنه علي؛ فقال له عثمان: مالك لا تقول؟ قال: له علي: ليس لك عندي إلا ما تحب وليس جوابك إلا ما تكره. وتكلم الناس عند معاوية في يزيد ابنه إذ أخذ له البيعة، وسكت الأحنف؛ فقال له: مالك لا تقول أبا بحر؟ قال: أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت!

مجاوبة الأمراء والرد عليهم

قال معاوية يوما: أيها الناس، إن الله فضّل قريشا بثلاث: فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» ، فنحن عشيرته؛ وقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» ، فنحن قومه؛ وقال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «3» ، ونحن قريش! فأجابه رجل من الأنصار فقال: على رسلك يا معاوية، فإن الله يقول: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ «4» ، وأنتم قومه؛ وقال: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ «5» ، وأنتم قومه، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً «6» ، وأنتم قومه؛ ثلاثة بثلاثة، ولو زدتنا لزدناك! فأفحمه. وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «7» ، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه. مجاوبة الأمراء والردّ عليهم قال معاوية لجارية بن قدامة: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية. قال: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية، وهي الأنثى من الكلاب. قال: لا أمّ لك! قال: أمي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا. قال: إنك لتهدّدني! قال: إنك لم تفتتحنا قسرا ولم تملكنا عنوة، ولكنك أعطيتنا عهدا وميثاقا وأعطيناك سمعا وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن فزعت إلى غير ذلك، فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا وألسنة حدادا.

معاوية والأحنف:

قال له معاوية: لا كثّر الله في الناس أمثالك. قال جارية: قل معروفا وراعنا؛ فإن شر الدعاء المحتطب. معاوية والأحنف: عدّد معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبا، فقال: يا أمير المؤمنين، لم تردّ الأمور على أعقابها؛ أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا؛ ولئن مددت فترا من غدر لنمدّن باعا من ختر؛ «1» ولئن شئت لنستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك. قال: فإني أفعل!. معاوية وعدي: قال معاوية لعدي بن حاتم: ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟ يعني أولاده؛ قال: قتلوا! قال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قتل بنوك معه وبقي له بنوه! قال: لئن كان ذلك لقد قتل هو وبقيت أنا بعده! قال له معاوية: ألم تزعم أنه لا يخنق في قتل عثمان عنز؟ قال: قد والله خنق فيه التيس الأكبر. قال معاوية: أما إنه قد بقيت من دمه قطرة ولا بد أن أتبعها! قال عدي: لا أبا لك! شم «2» السيف، فإنّ سلّ السيف يسلّ السيف. فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة فقال: أجعلها في كتابك فإنها حكمة. الأحنف وشامي لعن عليا: الشيباني عن أبي الجناب الكندي عن أبيه، أن معاوية بن أبي سفيان بينا هو جالس وعنده وجوه الناس، إذ دخل رجل من أهل الشام فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليا؛ فأطرق الناس وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين لعنهم، فاتق الله ودع عنك عليا، فقد لقي

معاوية وعقيل في أمر علي:

ربّه، وأفرد في قبره، وخلا بعمله؛ وكان والله- ما علمنا- المبرّز بسبقه، الطاهر خلقه، الميمون نقيبته «1» ، العظيم مصيبته فقال له معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت ما ترى! وايم الله لتصعدنّ المنبر فتلعننّه طوعا أو كرها، فقال له الأحنف يا أمير المؤمنين، إن تعفني فهو خير لك، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري فيه شفتاي أبدا! قال: قم فاصعد المنبر. قال الأحنف: أما والله مع ذلك لأنصفنك في القول والفعل. قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني؟ قال: أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله، وأصلّ على نبيه صلّى الله عليه وسلم، ثم أقول: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا، وإن عليا ومعاوية اختلفا فاقتتلا، وادّعى كلّ واحد منهما أنه بغي عليه وعلى فئته؛ فإذا دعوت فأمّنوا رحمكم الله. ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغيّ منهما على صاحبه؛ والعن الفئة الباغية؛ اللهم العنهم لعنا كبيرا! أمّنوا رحمكم الله. يا معاوية، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه حرفا ولو كان فيه ذهاب نفسي؛ فقال معاوية: إذا نعفيك يا أبا بحر. معاوية وعقيل في أمر علي: وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قطعك ووصلتك؛ ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر! قال: أفعل، فأصعد، فصعد، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب فالعنوه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ثم نزل، فقال له معاوية إنك لم تبين أبا يزيد من لعنت بيني وبينه. قال: والله لازدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام إلى نية المتكلم. الهيثم بن عدي قال: قال معاوية لأبي الطفيل: كيف وجدك على عليّ؟ قال: وجد ثمانين مثكلا! قال: فكيف حبّك له؟ قال: حب أم موسى، وإلى الله أشكو التقصير!

معاوية وابن الخطل:

وقال مرة أخرى: أبا الطفيل! قال: نعم. قال: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكني ممن حضره ولم ينصره. قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار، فلم أنصره. قال: لقد كان حقّه واجبا وكان عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك من نصرته يا أمير المؤمنين وأنت ابن عمه؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل وقال: مثلك ومثل عثمان كما قال الشاعر: لأعرفنّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادا معاوية وابن الخطل: العتبي قال: صعد معاوية المنبر فوجد من نفسه رقة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن عمر ولاني أمرا من أمره، فوالله ما غششته ولا خنته ثم ولاني الأمر من بعده ولم يجعل بيني وبينه أحدا؛ فأحسنت والله وأسأت، وأصبت وأخطأت؛ فمن كان يجهلني فإني أعرّفه بنفسي. فقام إليه سلمة بن الخطل العرجيّ؛ فقال: أنصفت يا معاوية وما كنت منصفا. قال فغضب معاوية وقال: ما أنت وذاك يا أحدب؟ والله لكأني أنظر إلى بيتك بمهيعة، «1» وبطنب «2» تيس، وبطنب بهمة، بفنائه أعنز عشر، يحتلبن في مثل قوارة حافر العير، «3» تهفو الريح منه بجانب، كأنه جناح نسر. قال: رأيت والله ذاك في شر زماننا إلينا، وو الله إن حشوه يومئذ لحسب غير دنس؛ فهل رأيتني يا معاوية أكلت مالا حراما أو قتلت امرأ مسلما؟ قال: وأين كنت أراك وأنت لا تدبّ إلا في خمر؟ وأي مسلم يعجز عنك فتقتله؟ أم أي مال تقوى عليه فتأكله؟ اجلس لا جلست. قال: بل أذهب حتى لا تراني. قال إلى أبعد الأرض لا إلى أقربها فمضى، ثم قال معاوية: ردّوه عليّ، فقال الناس: يعاقبه! فقال له: أستغفر الله منك يا أحدب، والله لقد بررت في قرابتك، وأسلمت فحسن إسلامك، وإن أباك لسيّد قومه؛ ولا أبرح أقول بما تحب فاقعد.

معاوية وخريم الناعم:

معاوية وخريم الناعم: الأوزاعي قال: دخل خريم الناعم على معاوية، فنظر إلى ساقيه فقال: أيّ ساقين. لو أنهما على جارية. قال في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. قال معاوية: واحد بأخرى والبادي أظلم. عبد الملك وعطاء: دخل عطاء المضحك على عبد الملك بن مروان، فقال له: أما وجدت لك أمك اسما إلا عطاء؟ قال: لقد استكثرت من ذلك ما استكثرته يا أمير المؤمنين، ألا سمتني باسم المباركة، صلوات الله عليها، مريم. معاوية وصحار: قال معاوية لصحار بن العباس العبدي: يا أزرق. قال: البازي أزرق. قال: يا أحمر. قال: الذهب أحمر. قال: ما هذه البلاغة فيكم عبد القيس؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا كما يقذف البحر الزّبد. قال: فما البلاغة عندكم؟ قال: أن نقول فلا نخطىء، ونجيب فلا نبطىء. ابن عامر وابن حازم: وقال عبد الله بن عامر بن كريز لعبد الله بن حازم يا بن عجلى. قال: ذاك اسمها. قال: يا بن السوداء. قال: ذاك لونها. قال: يا بن الأمة. قال: كل أنثى أمة فاقصد بذرعك لا يرجع سهمك عليك؛ إن الإماء قد ولدنك. عبد الملك وابن ظبيان: دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما هذا الذي يقول الناس؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون إنك لا تشبه أباك قال: والله لأنا أشبه به من الماء بالماء، والغراب بالغراب؛ ولكن أدلك على من لم يشبه أباه.

هشام وزيد ابن علي:

قال: من هو؟ قال: من لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمي سويد بن منجوف. وإنما أراد عبد الملك ابن مروان، وذلك لأنه ولد لستة أشهر. هشام وزيد ابن علي: دخل زيد بن عليّ على هشام بن عبد الملك، فلم يجد موضعا يقعد فيه: فعلم أن ذلك فعل به على عمد؛ فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله. قال: أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؟ قال زيد: إنه لا يكبر أحد فوق تقوى الله، ولا يصغر دون تقوى الله. قال له هشام: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها؛ إنك ابن أمة. قال: زيد: أما قولك إني أحدّث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله؛ وأما قولك إني ابن أمة، فهذا إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ابن أمة من صلبه خير البشر محمد صلّى الله عليه وسلم، وإسحاق ابن حرة. أخرج من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوّت. قال له: قم. قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره. فلما خرج من عنده قال: ما أحب أحد قط الحياة إلا ذل. قال له حاجبه: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وقال زيد بن علي: سرّده الخوف وازرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد «1» محتفي الرّجلين يشكو الوجا ... تقرعه أطراف مرو حداد «2» قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد ثم خرج بخراسان، فقتل وصلب في كناسة. وفيه يقول سديف بن ميمون في دولة بني العباس: واذكروا مقل الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس «3»

عبد الملك ورجل من قيس:

يريد حمزة بن عبد المطلب المقتول بأحد. عبد الملك ورجل من قيس: دخل رجل من قيس على عبد الملك بن مروان؛ فقال: زبيري. والله لا يحبك قلبي أبدا. قال: يا أمير المؤمنين، إنما يجزع من الحب النساء، ولكن عدل وإنصاف. عمر بن الخطاب وأبو مريم: وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم الحنفي قاتل زيد بن الخطاب: والله لا يحبك قلبي أبدا حتى تحب الأرض الدم. قال: يا أمير المؤمنين، فهل تمنعني لذلك حقا؟ قال: لا. قال: فحسبي. سليمان ويزيد ابن أبي مسلم: دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، فقال: على امريء أوطأك رسنه وسلّطك على الأمة لعنة الله. فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمر مدبر عني ولو رأيتني والأمر مقبل عليّ لعظم في عينك ما استصغرت مني. قال: أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك، وأخيك فضعه من النار حيث شئت. مروان وزفر: وقال مروان بن الحكم لزفر بن الحارث: بلغني أن كندة تدّعيك. قال: لا خير فيمن لا يتّقي رهبة ولا يدّعي رغبة. مروان وابن ولجة: قال مروان بن الحكم للحسن بن دلجة: إني أظنك أحمق. قال: [أحمق] ما يكون الشيخ إذا عمل بظنّه.

مروان وحويطب:

مروان وحويطب: وقال مروان لحويطب بن عبد العزّى، وكان كبيرا مسنا. أيها الشيخ، تأخر إسلامك حتى سبقك الأحداث. فقال: الله المستعان، والله لقد هممت بالإسلام غير مرة، وكل ذلك يعوقني عنه أبوك وينهاني، ويقول: يضع من قدرك أن تترك دين آبائك لدين محدث، وتصير تابعا فسكت مروان. عبد الملك وثابت بن عبد الله: قال عبد الملك بن مروان لثابت بن عبد الله بن الزبير: أبوك ما كان أعلم بك حيث كان يشتمك. قال: يا أمير المؤمنين، إنما كان يشتمني أني كنت أنهاه أن يقاتل بأهل المدينة وأهل مكة؛ فإن الله لا ينصر بهما؛ أما أهل مكة فأخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلم وأخافوه، ثم جاءوا إلى المدينة فآذوه حتى سيرهم- يعرّض بالحكم بن أبي العاص طريد النبي صلّى الله عليه وسلم-؛ وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قتل بين أظهرهم ولم يدفعوا عنه. قال له: عليك لعنة الله. معاوية والبراءة من علي: جلس معاوية يبايع الناس على البراءة من عليّ؛ فقال له رجل من بني تميم: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نبرأ من موتاكم. فالتفت معاوية إلى زياد فقال: هذا رجل فاستوص به. معاوية والأنصار: قال معاوية يوما: يا معشر الأنصار، بم تطلبون ما عندي؟ فوالله لقد كنتم قليلا معي كثيرا معي عليّ، ولقد فللتم حدّي يوم صفين حتى رأيت المنايا تتلظى من أسنتكم، ولقد هجوتموني [في أسلافي] بأشدّ من وخز الأسل، «1» حتى إذا أقام الله

سليمان وابن المهلب:

منّا ما حاولتم ميله، قلتم ارع فينا وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم. هيهات. يأبى الحقين العذرة. «1» فأجابه قيس بن سعد، قال أما قولك جئناك نطلب ما عندك، فبالإسلام الكافي به الله ما سواه، لا بما نمتّ إليك به من الأحزاب؛ وأما استقامة الأمر، فعلى كره منا كان؛ وأما فلّنا حدّك يوم صفين، فأمر لا نعتذر منه؛ وأما عداوتنا لك، فلو شئت كففتها عنك؛ وأما هجاؤنا إياك، فقول يثبت حقّه ويزول باطله؛ وأما وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمن يؤمن بها يحفظها من بعده؛ وأما قولك يأبى الحقين العذرة، فليس دون الله يد تحجزك منا؛ فدونك أمرك يا معاوية؛ فإنما مثلك كما قال الشاعر: يا لك من قبّرة بمعمر ... خلالك الجوّ فبيضي واصفري «2» سليمان وابن المهلب: وقال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: فيمن العزّ بالبصرة؟ قال: فينا وفي حلفائنا من ربيعة. قال سليمان: الذي تحالفتما عليه أعزّ منكما. عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير: مرّ عمر بن الخطاب بالصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير، ففرّوا وثبت ابن الزبير؛ قال له عمر: كيف لم تفرّ مع أصحابك؟ قال: لم أجترم «3» فأخافك، ولم يكن بالطريق من ضيق فأوسّع لك! عبد الله بن الزبير وعدي بن حاتم: وقال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك؟ قال: يوم قتل أبوك، وهربت عن خالتك، وأنا للحقّ ناصر، وأنت له خاذل. وكان فقئت عينه يوم الجمل.

الرشيد وابن مزيد:

الرشيد وابن مزيد: وقال هارون الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة؟ قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع. يزيد بن معاوية والمسود: كان المسور بن مخرمة جليلا نبيلا، وكان يقول في يزيد بن معاوية إنه يشرب الخمر؛ فبلغه ذلك؛ فكتب إلى عامله بالمدينة أن يجلده الحدّ، ففعل، فقال المسور في ذلك: أيشربها صرفا يفضّ ختامها ... أبو خالد ويجلد الحد مسور المأمون وابن أكثم: قال المأمون ليحيى بن أكثم القاضي: أخبرني من الذي يقول: قاض يرى الحدّ في الزّناء ولا ... يرى على من يلوط من باس قال: يقوله يا أمير المؤمنين الذي يقول: لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمّة وال من آل عبّاس قال: ومن يقوله؟ قال: أحمد بن نعيم. قال: ينفى إلى السند. وإنما مزحنا معك. سليمان وابن الرقاع: قال سليمان بن عبد الملك لعدي بن الرقاع: أنشدني قولك في الخمر: كميت إذا شجّت، وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب «1» فأنشده؛ فقال له سليمان: شربتها ورب الكعبة! قال عدي: والله يا أمير المؤمنين، لئن رابك وصفي لها قد رابني معرفتك بها! فتضاحكا وأخذا في الحديث.

بلال وخالد بن صفوان:

بلال وخالد بن صفوان: الأصمعي قال: لما ولي بلال بن أبي بردة البصرة بلغ ذلك خالد بن صفوان، فقال: سحابة صيف عن قليل تقشّع فبلغ ذلك بلالا فدعا به، فقال؛ أنت القائل؟ سحابة صيف عن قليل تقشع؟ أما والله لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب» برد! فضربه مائة سوط. وكان خالد يأتي بلالا في ولايته، ويغشاه في سلطانه، ويغتابه إذا غاب عنه. ويقول ما في قلب بلال من الإيمان إلا ما في بيت أبي الزرد الحنفي من الجوهر. وأبو الزرد رجل مفلس. عتبة وخالد القسري: دخل عتبة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على خالد بن عبد الله القسري بعد حجاب شديد، وكان عتبة رجلا سخيا، فقال له خالد يعرّض به: إن هاهنا رجالا يداينون في أموالهم، فإذا فنبت يداينون في أعراضهم! فعلم القرشي أنه يعرّض به؛ فقال: أصلح الله الأمير، إن رجالا تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم، فأولئك تبقى أموالهم؛ ورجالا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم، فإذا نفدت ادانوا على سعة ما عند الله! فخجل خالد وقال: أما إنك منهم ما علمت. شريك والربيع: كان شريك القاضي يشاحن الربيع صاحب شرطة المهدي فحمل الربيع المهديّ عليه، فدخل شريك يوما على المهدي، فقال له المهدي: بلغني أنك ولدت في

عمر بن الخطاب وابن العاص:

قوصرة. «1» فقال: ولدت يا أمير المؤمنين بخراسان، والقواصر هناك عزيزة، قال: إني لأراك فاطميا خبيثا! قال: والله لإني لأحب فاطمة وأبا فاطمة. صلّى الله عليه وسلم؛ قال: وأنا والله أحبهما؛ ولكني رأيتك في منامي مصروفا وجهك عني، وما ذاك إلا لبغضك لنا؛ وما أراني إلا قاتلك لأنك زنديق! قال: يا أمير المؤمنين؛ إن الدماء لا تسفك بالأحلام؛ وليست رؤياك رؤيا يوسف النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وأمّا قولك بأني زنديق، فإنّ للزنادقة علامة يعرفون بها. قال: وما هي؟ قال: بشرب الخمر والضرب بالطنبور، قال: صدقت أبا عبد الله، وأنت خير من الذي حملني عليك. عمر بن الخطاب وابن العاص: قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص لما قدم عليه من مصر: لقد سرت سيرة عاشق. قال: والله ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرات المآلي! «2» قال عمر: والله ما هذا جواب كلامي الذي سألتك عنه، وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل، والبيضة منسوبة إلى طرقها. «3» وقام عمر فدخل، فقال عمرو: لقد فحش علينا أمير المؤمنين! بين عبد الله بن مسلم والحضين بن المنذر: وتزعم الرواة أنّ قتيبة بن مسلم لما افتتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وإلى آلات لم ير مثلها، وأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليهم، ويعرّفهم أقدار القوم الذين ظهروا عليهم، فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور أشتات ترتقى بالسلالم؛ فإذا الحصين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير؛ فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في كلامه. فقال: لا تردّه فإنه خبيث الجواب. فأبي عبد الله إلا أن يأذن له. وكان

عبد الله يضعّف، «1» وكان قد تسوّر حائطا إلى امرأة قبل ذلك؛ فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، ضعف عمّك عن تسوّر الحيطان! قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها. قال: أجل، ولا عيلان؛ ولو كان رآها سمّي شعبان، ولم يسمّ عيلان! قال له عبد الله: أتعرف الذي يقول: عزلنا وأمّرنا، وبكر بن وائل ... تجرّ خصاها تبتغي من تحالف قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: وخيبة من يخيب على غنيّ ... وباهلة بن يعصر والرّباب يريد: يا خيبة من يخيب. قال: أتعرف الذي يقول: كأنّ فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل «2» قال: نعم، وأعرف الذي يقول: قوم قتيبة أمّهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل قال: أمّا الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، أقرأ منه الأكثر: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً . «3» قال: فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أنّ امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره! قال: فما تحرّك الشيخ عن هيئته الأولى؛ ثم قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاما على فراشي فيقال فلان بن الحضين، كما يقال عبد الله بن مسلم! فأقبل قتيبة على عبد الله فقال: لا يبعد الله غيرك! والحضين هذا هو الحضين بن منذر الرقاشي، ورقاش أمّهم، وهو من بني شيبان

ابن الجارود وابن العاص:

ابن بكر بن وائل، وهو صاحب لواء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بصفين على ربيعة كلها. وله يقول علي بن أبي طالب: لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما يقدّمها في الصفّ حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السّمّ والدّما جزى الله عني والجزاء بفضله ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما ابن الجارود وابن العاص: وقال المنذر بن الجارود العبدي لعمرو بن العاص: أيّ رجل أنت لو لم تكن أمّك! ممن هي؟ قال: أحمد الله إليك؛ لقد فكرت فيها البارحة، فجعلت أنقلها في قبائل العرب فما خطرت لي عبد القيس ببال. ابن صفوان وداري: قال خالد بن صفوان لرجل من بني عبد الدار وسمعه يفخر بموضعه من قريش- فقال له خالد: لقد هشمتك هاشم، وأمّتك «1» أميّة، وخزمتك مخزوم، وجمحتك جمح، وسهمتك «2» سهم؛ فأنت ابن عبد دارها، تفتح الأبواب إذا أغلقت، وتغلقها إذا فتحت. جواب في هزل المغيرة وأعرابي يؤكله: كان للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة، جدي يوضع على مائدته، فحضره أعرابي، فمد يده إلى الجدي وجعل يسرع فيه؛ فقال له المغيرة: إنك لتأكله بحرد «3» كأن أمه نطحتك! قال: وإنك لمشفق عليه كأنّ أمه أرضعتك.

ابن عنبسة وإبراهيم في حضرة هشام:

ابن عنبسة وإبراهيم في حضرة هشام: كان إبراهيم بن عبد الله بن مطيع جالسا عند هشام، إذ أقبل عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص، أحمر الجبة والمطرف والعمامة؛ فقال إبراهيم؛ هذا ابن عنبسة قد أقبل في زينة قارون! قال: فضحك هشام؛ قال له عبد الرحمن: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ فأخبره بقول إبراهيم؛ قال له عبد الرحمن: لولا ما أخاف من غضبه عليك وعليّ وعلى المسلمين لأجبته! قال: وما تخاف من غضبه؟ قال: بلغني أن الدجال يخرج من غضبة يغضبها. وكان إبرهيم أعور! قال إبراهيم لولا أن له عندي يدا عظيمة لأجبته! قال: وما يده عندك؟ قال: ضربه غلام له بمدية فأصابه، فلما رأى الدم فزع، فجعل لا يدخل عليه مملوك إلا قال له: أنت حر! فدخلت عليه عائدا له، فقلت له: كيف تجدك؟ قال لي: أنت حر! قلت له: أنا إبراهيم! قال لي: أنت حر، فضحك هشام حتى استلقى. ابن حسان وعطاء: قال عبد الرحمن بن حسان لعطاء بن أبي صيفي بن ثابت: لو أصبت ركوة مملوءة خمرا بالبقيع ما كنت صانعا؟ قال: كنت أعرّفها بين التجار، فإن لم تكن لهم فهي لك! لكن أخبرني عن الفريعة أهي أكبر أم ثابت، وقد تزوجها قبله أربعة، كلهم يلقاها بمثل ذراع البكر ثم يطلقها عن قلي، «1» فقيل لها: يا فريعة، لم تطلقين وأنت جميلة حلوة؟ قالت: يريدون الضيق ضيّق الله عليهم ... ! جارية وقرشي: ولقي رجل من قريش كان به وضح «2» جارية من بدر وكان مغرما بالشراب؛ فقال لها: أشعرت أنه بعث نبيّ لهذه الأمة يحل الخمر للناس؟ قالت: إذا لا نصدّق به حتى يبرىء الأكمه والأبرص!.

الزبرقان وزياد:

الزبرقان وزياد: ودخل الزبرقان بن بدر على زياد، فسلّم تسليما جافيا، فأدناه زياد وأجلسه معه؛ ثم قال له: يا أبا عباس الناس يضحكون من جفائك! قال: ولم ضحكوا؟ فو الله إن منهم رجل إلا ودّ أنّي أبوه دون أبيه، لغيّة كان أو لرشدة! دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة يضحكون، فقال: يا أبا فراس، أتدري ممّ يضحكون؟ قال: لا أدري. قال: من جفائك. قال: أصلح الله الأمير. حججت فإذا رجل على عاتقه الأيمن صبي، وامرأة اخذة بمئزره وهو يقول: أنت وهبت زائدا ومزيدا ... وكهلة أولج فيها الأجردا! وهي تقول: إذا شئت. فسألت: ممن الرجل؟ قال: من الأشعريين. فأنا أجفي من ذلك الرجل؟ قال: لا حياك الله! فقد علمت أنا لا نفلت منك. كوسج ومسبل: اجتمع كوسج «1» مع رجل مسبل، فقال المسبل «2» : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً «3» ! قال الكوسج: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ «4» . مسلمة وموسوس: مر مسلمة بن عبد الملك، وكان من أجمل الناس، بموسوس على مزبلة؛ فقال الموسوس: لو رآك أبوك آدم لقرّت عينه بك. قال له مسلمة: لو رآك أبوك آدم لأذهب سخنة عينه بك قرة عينه بي. وكان مسلمة من أحضر الناس جوابا.

النخعي والأعمش:

النخعي والأعمش: خرج إبراهيم النخعي، وقام سليمان الأعمش يمشي معه؛ فقال إبراهيم: إن الناس إذا رأونا قالوا: أعور وأعمش! قال: وما غلبك أن يأثموا ونؤجر؟ قال: وما عليك أن يسلموا ونسلم؟ شداد وأسود: وقال شداد الحارثي: لقيت أسود بالبادية فقلت: لمن أنت يا أسود؟ قال: لسيد الحي يا أصلع! قلت: ما أغضبك من الحق؟ قال لي: الحق أغضبك. قلت: أولست بأسود؟ قال: أولست بأصلع. ابن أسماء في سجن الكوفة: أدخل مالك بن أسماء السجن، سجن الكوفة؛ فجلس إليه رجل من بني مرة فاتكأ عليه المري يحدثه؛ ثم قال: أندري كم قتلنا منكم في الجاهلية؟ قال: أما في الجاهلية فلا، ولكن أعرف من قتلتم منا في الإسلام! قال: ومن قتلنا منكم في الإسلام! قال: أنا، قد قتلتني بنتن إبطيك! نميرية في يوم ريح: مرت امرأة من بني نمير على مجلس لهم في يوم ريح، فقال رجل منهم: إنها لرسحاء «1» ! قالت: والله يا بني نمير ما أطعتم الله ولا أطعتم الشاعر؛ قال الله تبارك وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ «2» . وقال الشاعر: فغضّ الطّرف إنّك من نمير

لشريح:

لشريح: قيل لشريح: أيهما أطيب: الجوزنيق أم اللّوزنيق «1» ؟ قال: لست أحكم على غائب. هشام والفرزدق: هشام بن القاسم قال: جمعني والفرزدق مجلس، فتجاهلت عليه فقلت: من الكهل؟ قال: وما تعرفني؟ قلت: لا! قال: أبو فراس. قلت: ومن أبو فراس قال: الفرزدق. قلت: ومن الفرزدق؟ قال: وما تعرف الفرزدق؟ قلت: لا أعرف الفرزدق إلا شيئا يفعله النساء عندنا يتشهّون به كهيئة السويق. قال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم يتشهون بي! هشام والأبرش الكلبي: قال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبي: زوّجني امرأة من كلب. فزوّجه؛ فقال له ذات يوم: لقد وجدنا في نساء كلب سعة! قال: يا أمير المؤمنين، نساء كلب خلقن لرجال كلب. وقال له يوما وهو يتغذى معه: يا أبرش، إن أكلك أكل معدّي قال: هيهات، تأبى ذلك قضاعة. عمارة وشيطان الطاق: عمارة عن محمد بن أبي بكر البصري قال: لما مات جعفر بن محمد قال أبو حنيفة لشيطان الطاق: مات إمامك. وذلك عند المهدي؛ فقال شيطان الطاق: لكن إمامك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم! فضحك المهدي من قوله، وأمر له بعشرة آلاف درهم.

نساء كندة

نساء كندة : العتبي قال: حدثني أبي لما افتتح النجير، وهي مدينة باليمن: سمع رجل من كندة رجلا وهو يقول: وجدنا في نساء كندة سعة! فقال له: إن نساء كندة مكاحل فقدت مراودها «1» . بن صفوان والفرزدق : لقي خالد بن صفوان الفرزدق، وكان كثيرا ما يداعبه، وكان الفرزدق دميما؛ فقال له. يا أبا فراس، ما أنت بالذي لما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ «2» قال له: ولا أنت أبا صفوان بالذي قالت فيه الفتاة لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ «3» . بين رجلين : باع رجل ضيعة من رجل، فلما انتقد المال قال للمشتري: أما والله لقد أخذتها كثيرة المئونة قليلة المعونة. قال له المشتري: وأنت والله أخذتها بطيئة الاجتماع سريعة الافتراق! واشترى رجل من رجل دارا، فقال لصاحبها: لو صبرت لاشتريت منك الذراع بعشرة دنانير! قال له البائع: وأنت لو صبرت لاشتريت منك الذراع بدرهم! بقرة بني إسرائيل : وكان بالرقة رجل يحدّث بأخبار بني إسرائيل، فقال له الحجاج بن حنتمة: كيف كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال حنتمة! فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: أين وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص.

للشعبي

للشعبي : وقال رجل للشعبي: ما كان اسم امرأة إبليس؟ قال: إن ذلك نكاح ما شهدناه! ودخل رجل على الشعبي، فوجده قاعدا مع امرأة؛ فقال: أيكما الشعبي؟ قال الشعبي: هذه! وأشار إلى المرأة. معن بن زائدة : كان معن بن زائدة ظنينا في دينه، فبعث إلى ابن عياش المنتوف بألف دينار وكتب إليه: قد بعثنا إليك بألف دينار، اشتريت بها منك دينك؛ فاقبض المال واكتب إليّ بالتسليم. فكتب إليه: قد قبضت المال وبعتك به ديني خلا التوحيد لما علمت من زهدك فيه! ابن أبي بردة والممرور : بعث بلال بن أبي بردة إلى ابن أبي علقمة الممرور، فلما أتى قال: أتدري لم بعثت إليك؟ قال لا أدري. قال: بعثت إليك لأضحك بك! قيل: لقد ضحك أحد الحكمين من صاحبه- يعرّض له بجده أبي موسى- فغضب بلال وأمر به إلى الحبس، فكلّمه الناس وقالوا: إن المجنون لا يعاقب ولا يحاسب. فأمر بإطلاقه وأن يؤتى به إليه، فأتي به في يوم سبت وفي كمه طرائف أتحف بها في الحبس؛ فقال له بلال: ما هذا الذي في كمك؟ قال: من طرائف الحبس. قال: ناولني منها. قال: هو يوم سبت، ليس يعطى فيه ولا يؤخذ! يعرّض بعمة كانت له من اليهود. حسان وعائشة : دخل حسان بن ثابت على عائشة رضي الله عنها فأنشدها: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1»

ابن الأحوز وأزدي:

قالت له: لكنك لست كذلك! وكان حسان من الذين جاءوا بالإفك. ابن الأحوز وأزدي: نظر رجل من الأزد إلى هلال بن الأحوز حين قدم من قندابيل وقد أطافت به بنو تميم، فقال: انظروا إليهم وقد أطافوا به إطافة الحواريين بعيسى. فقال له محمد بن عبد الملك المازني: هذا ضدّ: عيسى كان يحيى الموتى، وذا يميت الأحياء. ربيعة وبعض النساء: لما حلقت لحية ربيعة بن أبي عبد الرحمن كانت امرأة من المسجد تقف عليه كل يوم في حلقته، وتقول: الله لك يا أبا عبد الرحمن! من حلق لحيتك؟ فلما أبرمته قال لها: يا هذه، إن ذلك حلقها في جزّة واحدة، وأنت تحلقينها في كل يوم. سعيد بن هشام وبعض الرجال: خرج سعيد بن هشام بن عبد الملك يوما بحمص في يوم مطر، عليه طيلسان وقد كاد يمس الأرض، فقال له رجل وهو لا يعرفه: أفسدت ثوبك أبا عبد الله! قال: وما يضرك؟ قال: وددت أنك وهو في النار! قال: وما ينفعك؟ الحجاج وابن ظبيان: قال: لما قدم الحجاج العراق واليا عليها خرج عبيد الله بن زياد بن ظبيان متوكئا على مولى له وقد ضربه الفالج، فقال قدم العراق رجل على ديني. فقال له حصين بن المنذر الرقاشي: فهو إذا منافق! قال عبيد الله: إنه يقتل المنافقين! قال له حصين: إذا يقتلك. خالد بن يزيد والحجاج: ولما قدم عبد الملك بن مروان المدينة نزل دار مروان، فمر الحجاج بخالد بن يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجاج سيف محلى وهو يخطر متبخترا

وهب بن منبه ولهبي:

في المسجد، فقال له رجل من قريش: من هذا التّخطارة؟ فقال خالد: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص! فسمعه الحجاج، فمال إليه فقال: قلت: هذا عمرو بن العاص، والله ما سرني أن العاص ولدني ولا ولدته، ولكن إن شئت أخبرتك من أنا! أنا ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل من قريش، والذي ضرب مائة ألف بسيفه هذا كلهم يشهد على أبيك بالكفر وشرب الخمر، حتى أقروا أنه خليفة! ثم ولى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص. وهب بن منبه ولهبي: قال رجل من بني أبي لهب لوهب بن منبّه: ممن الرجل؟ قال: رجل من اليمن. قال: فما فعلت أمكم بلقيس؟ قال: هاجرت مع سليمان لله رب العالمين، وأمكم حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد «1» ! وقال رجل لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم إليكم. قال: نعم، ثم لم يرجع إليكم. يزيد بن منصور وابن مزيد: نظر يزيد بن منصور خال المهدي إلى يزيد بن مزيد وعليه رداء يمان وهو يسحبه، فقال: ليس عليك عزله، فاسحب وجرّ! قال له: على آبائك عزله وعليّ سحبه! فشكاه إلى المهدي، فقال: لم تجد أحدا تتعرض له إلا يزيد بن مزيد! أبو يقظان وابن حاتم: دخل أبو يقظان القيسي على يزيد بن حاتم وهو والي مصر وعنده هاشم بن حديج، فقال له يزيد: حرّكه! وعلي أبي اليقظان حلّة وشي وكساء خز، فقال له هشام: الحمد لله أبا اليقظان، لبستم الوشى بعد العباء! قال: أجل، تحوكون ونلبس، فلا عدمتم هذا منا، ولا عدمنا هذا منكم.

الفرزدق وعبد الجبار:

الفرزدق وعبد الجبار: كتب الفرزدق إلى عبد الجبار بن سلمى المجاشعي يستهديه جارية وهو بعمان فكتب إليه: كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظت من بلد بعيد «1» ! وقال رجل من العرب: رأيت البارحة الجنة في منامي، فرأيت جميع ما فيها من القصور، فقلت: لمن هذه؟ فقيل لي: للعرب! قال له رجل من الموالي: أصعدت الغرف؟ قال: لا. قال: تلك لنا. ابن صفوان وابن جعفر: قال عبد الله بن صفوان- وكان أمّيا- لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب أبا جعفر، لقد صرت حجة لفتياننا علينا؛ إذا نهيناهم عن الملاهي قالوا: هذا ابن جعفر سيد بني هاشم يحضرها ويتخذها! قال له: وأنت أبا صفوان صرت حجة لصبياننا علينا؛ إذا لمناهم في ترك المكتب قالوا: هذا أبو صفوان سيد بني جمح لا يقرأ آية ولا يخطّها. معاوية وابن عامر: قال معاوية لعبد الله بن عامر. إن لي إليك حاجة! قال بحاجة أقضيها يا أمير المؤمنين؛ فسل حاجتك. قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك بالطائف. قال: قد فعلت! قال: وصلتك رحم! فسل حاجتك. قال: حاجتي إليك أن تردّها عليّ يا أمير المؤمنين! قال: قد فعلت! ثمامة وبعض الرجال: وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجة! قال: وأنا لي إليك حاجة. قال:

جواب في فخر

وما حاجتك؟ قال: فتقضيها؟ قال: نعم. فلما توثق منه قال: فإن حاجتي إليك أن لا تسألني حاجة. جواب في فخر عمرو بن سعيد وخالد بن يزيد في حضرة عبد الملك: سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: تفاخر عمرو بن سعيد بن العاص وخالد بن يزيد بن معاوية، عند عبد الملك بن مروان؛ فقال عبد الملك لشيخ من موالي قريش: اقض بينهما. فقال الشيخ: كان سعيد بن العاص لا يعتمّ أحد في البلد الحرام بلون عمامته؛ وكان حرب بن أمية لا يبكى على أحد من بني أمية ما كان في البلد شاهدا؛ فلما مات سعيد وحرب شاهد لم يبك عليه. الأبرش وخالد ابن صفوان: قال الأبرش الكلبي لخالد بن صفوان: هلم أفاخرك- وهما عند هشام بن عبد الملك- قال له خالد: قل. فقال له الأبرش: لنا ربع البيت- يريد الركن اليماني- ومنا حاتم طيء، ومنا المهلب بن أبي صفرة! فقال خالد بن صفوان: منا النبي المرسل، وفينا الكتاب المنزل، ولنا الخليفة المؤمّل! قال الأبرش: لا فاخرت مضريّا بعدك. هشام وقوم من اليمن: ونزل بأبي العباس قوم من اليمن من أخواله من كعب، ففخروا عنده بقديمهم وحديثهم؛ فقال أبو العباس لخالد بن صفوان: أجب القوم. فقال: أخوال أمير المؤمنين. قال لا بد أن تقول. قال: وما أقول يا أمير المؤمنين، وما أقول لقوم هم بين حائك برد، ودابغ جلد، وسائس قرد؛ ملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد، وغرقتهم فأرة؟ فلم يقم بعدها ليمانيّ قائمة.

الحجاج وعبد الملك:

الحجاج وعبد الملك: قال عبد الملك بن الحجاج: لو كان رجل من ذهب لكنته. قال له رجل من قريش وكيف ذلك؟ قال: لم تلدني أمة بيني وبين آدم ما خلا هاجر. فقال له: لولا هاجر لكنت كلبا من الكلاب. دخل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الملك بن مروان، وعليه حبرة «1» صدآء عليها أثر الحمائل، فقال له أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: يا أبا حفص، أيّ رجل أنت لو كنت من غير من أنت منه من قريش! قال: ما أحب أني من غير من أنا منه! إن منا لسيد الناس في الجاهلية، عبد الله بن جدعان؛ وسيد الناس في الإسلام، أبا بكر الصديق؛ وما كانت هذه يدي عندك. إني استنقذت أمهات أولادك من عدوك ابن فديك بالبحرين وهن حبالى، فولدن في حجابك. عبد الرحمن بن خالد ومعاوية: قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة لمعاوية: أما والله لو كنا بمكة على السواء لعلمت. قال معاوية: إذا كنت أكون معاوية بن أبي سفيان، منزلي الأبطح «2» ينشق عني سيله؛ وكنت عبد الرحمن بن خالد، منزلك أجياد «3» أعلاه مدرة «4» ، وأسفله عذرة. لزبير وعثمان: تنازع الزّبير بن العوام وعثمان بن عفان في بعض الأمر؛ فقال الزبير: أنا ابن صفية. قال عثمان: هي أدنتك من الظل، ولولا ذاك لكنت ضاحيا. حمد بن يوسف وابن الفضل: قال أحمد بن يوسف الكاتب لمحمد بن الفضل: يا هذا، إنك تتطاول بهاشم كأنك

زياد ومعاوية:

جمعتها، وهي تعتدّ في أكثر من خمسة آلاف. قال له: محمد بن الفضل: إن كثرة عددها ليس يخرج من عنقك فضل واحدها. زياد ومعاوية: فخر مولى زياد بزياد عند معاوية؛ فقال له معاوية: اسكت، فوالله ما أدرك صاحبك شيئا بسيفه إلا أدركت أكثر منه بلساني. الأحوص ومخزومي: وقال رجل من مخزوم للأحوص بن عبد الله الأنصاري: أتعرف الذي يقول: ذهبت قريش بالمكارم كلّها ... والذلّ تحت عمائم الأنصار؟ قال: لا، ولكني أعرف الذي يقول: الناس كنّوه أبا حكم ... والله كنّاه أبا جهل أبقت رياسته لأسرته ... لؤم الفروع ورقّة الأصل قريش وقيس: سأل رجل من قريش رجلا من بني قيس بن ثعلبة: ممن أنت؟ قال: من ربيعة. قال له القرشي: لا أثر لكم ببطحاء مكة. قال القيسي: آثارنا في أكناف الجزيرة مشهورة، ومواقفنا في يوم ذي قار معروفة؛ فأما مكة فسواء العاكف فيه والباد كما قال الله تبارك وتعالى. فأفحمه. الأشعث وشريح: قال الأشعث بن قيس لشريح القاضي: لشدّ ما ارتفعت. قال: فهل ضرّك؟ قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك. سليمان ويزيد ابن المهلب: قال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: فيمن العزّ بالبصرة؟ قال: فينا وفي

عتبة وأعرابي:

أحلافنا من ربيعة. قال له سليمان بن عبد الملك: الذي تحالفتما عليه أعز منكما. عتبة وأعرابي: قدم أعرابي البصرة فدخل المسجد الجامع وعليه خلقان وعمامة قد كوّرها على رأسه، فرمي بطرفه يمنة ويسرة، فلم ير فتية أحسن وجوها ولا أظهر زيا من فتية حضروا حلقة عتبة المخزومي فدنا منهم وفي الحلقة فرجة فطبقها «1» ؛ فقال له عتبة: ممن أنت يا أعرابي؟ قال: من مذحج. قال: من زيدها الأكرمين، أو من مرادها الأطيبين؟ قال لست من زيدها ولا من مرادها. قال: فمن أيها؟ قال: فإني من حماة أعراضها، وزهرة رياضها، بني زبيد. قال: فأفحم عتبة حتى وضع قلنسوته عن رأسه، وكان أصلع؛ فقال له الأعرابي: فأنت يا أصلع، ممن أنت؟ قال: أنا رجل من قريش. قال: فمن بيت نبوّتها، أو من بيت مملكتها؟ قال: إني من ريحانتها بني مخزوم. قال: والله لو تدري لم سمّيت بنو مخزوم ريحانة قريش، ما فخرت بها أبدا؛ إنما سميت ريحانة قريش لخور «2» رجالها ولين نسائها! قال عتبة: والله لا نازعت أعرابيّا بعدك أبدا. فيروز ونميلة: وضع فيروز بن حصين يده على رأس نميلة بن مالك بن أبي عكابة عند زياد، فقال: من هذا العبد؟ قال: أنت والله العبد؛ ضربناك فما انتصرت، ومننّا عليك فما شكرت. مالك بن مسمع وابن ظبيان: اجتمعت بكر بن وائل إلى مالك بن مسمع لأمر أراده مالك؛ فأرسل إلى بكر بن وائل، وأرسل إلى عبيد الله زياد بن ظبيان؛ فأتى عبيد الله فقال: يا أبا مسمع، ما

ابن مسمع وشقيق:

منعك أن ترسل إليّ؟ قال: يا أبا مطر، ما في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك. قال: وإني لفي كنانتك؟ أما والله لئن كنت فيها قائما لأطولنّها، ولئن كنت فيها قاعدا لأخرقنّها. ابن مسمع وشقيق: نازع مالك بن مسمع شقيق بن ثور، فقال له مالك: إنما شرّفك قبر بتستر. قال شقيق: لكن وضعك قبر بالمشقر. وذلك أن مسمعا أبا مالك جاء إلى قوم بالمشقر، فنبحه كلبهم، فقتله، فقتلوه به؛ فكان يقال له: قتيل الكلاب، وأراد مالك قبر مجزءة بن ثور أخي شقيق، وكان استشهد بتستر مع أبي موسى الأشعري. قتيبة بن مسلم وهبيرة: قال قتيبة بن مسلم لهبيرة بن مسروح: أيّ رجل أنت لو كانت أخوالك من غير سلول. فبادل بهم. قال: أصلح الله الأمير، بادل بهم من شئت وجنّبني باهلة. وكان قتيبة من باهلة. جواب ابن أبي دؤاد ابن أبي دؤاد وابن الزيات: قال أحمد بن أبي دؤاد لمحمد بن عبد الملك الزيات عند الواثق: أضوى، أي اسكت، بالنبطية؛ فقال له: لماذا؟ والله ما أنا بنبطي، ولا بدعي. قال له: ليس فوقك أحد يفضلك، ولا دونك أحد تنزل إليه؛ فأنت مطّرح في الحالتين جميعا. هو وأشناس: دخل أحمد بن أبي دواد على أشناس، فقال له: بلغني أنك فاسدت هذا الرجل يعني محمد بن عبد الملك، وهو لنا صديق؛ فأحب أن لا يأتينا. قال له ابن أبي داود أنت رجل صنعتك هذه الدولة، فإن أتيناك فلها، وإن تركناك فلنفسك.

هو والواثق:

هو والواثق: قال أحمد بن أبي داود: دخلت على الواثق؛ فقال: ما زال قوم اليوم في ثلبك ونقصك. فقلت: يا أمير المؤمنين لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» ؛ فالله ولي جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه؛ وما ضاع امرؤ أنت حائطه، ولا ذلّ من كنت ناصره؛ فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال أبا عبد الله: وسعى إليّ بعيب عزّة نسوة ... جعل المليك خدودهنّ نعالها هو وأبو العيناء: وقال أبو العيناء الهاشمي: قلت لابن أبي داود: إن قوما تضافروا عليّ. قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ » قلت إنهم جماعة. قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «3» قلت: إن لهم مكرا. قال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «4» قال أبو العيناء: فحدثت به أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي دواد إلا أن القرآن إنما أنزل عليه. جواب في تفحش خالد القسري وبدوي: خطب خالد بن عبد الله القسري فقال: يا أهل البادية، ما أخشن بلدكم، وأغلظ معاشكم، وأجفى أخلاقكم؛ لا تشهدون جمعة، ولا تجالسون عالما. فقام إليه رجل منهم دميم، فقال: أمّا ما ذكرت من خشونة بلدنا وغلظ طعامنا فهو كذلك، ولكنكم معشر أهل الحضر فيكم ثلاث خصال هي شر من كل ما ذكرت. قال له خالد: وما هي؟ قال: تنقبون الدّور، وتنبشون القبور، وتنكحون الذّكور! قال: قبحك الله

موسى بن مصعب وامرأة:

وقبح ما جئت به! موسى بن مصعب وامرأة: أبو الحسن قال: أتى موسى بن مصعب منزل امرأة مدنية لها قينة تعرضها؛ فإذا امرأة جميلة لها هيئة؛ فنظر إلى رجل دميم يجيء ويذهب ويأمر وينهى في الدار؛ فقال لها: من هذا الرجل؟ قالت: هو زوجي! قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «1» أما وجدت من الرجال غير هذا وبك من الجمال ما أرى؟ قالت: والله يا أبا عبد الله، لو استدبرك بمثل ما يستقبلني به لعظم في عينك. بنت الملاءة ورائض خيل: أبو الحسن قال: قالت عاتكة بنت الملاءة لرائض دواب زوجها في طريق مكة: ما وجدت عملا شرّا من عملك؛ إنما كسبك باستك! فقال لها! جعلت فداك! ما بين ما أكتسب به وما تكتسبين به أنت إلا إصبعان! قالت: ويلي عليك! خذوا الخبيث. فطلبه حشمها؛ ففاتهم ركضا. يونس النحوي وأزدي: أبو الحسن قال: قال رجل من الأزد في مجلس يونس النحوي؛ وددت والله أن بني تميم جميعا في جوفي؛ على أن يضرب وسطي بالسيف! قال له شيخ في ناحية المجلس، حرمازيّ «2» من بني تميم: ما هذا، يكفيك من ذاك كمرة «3» حماريّة تملأ بها استك إلى لهاتك! بين أعرابيين: وسأل أعرابي شيخا من بني مروان وحوله قوم جلوس فقال: أصابتنا سنة ولي

بضع عشرة بنتا! فقال الشيخ: أما السنة فوددت والله أن بينكم وبين السماء صفيحة من حديد؛ وأما البنات فليت الله أضعفهن لك أضعافا كثيرة، وجعلك بينهن مقطوع اليدين والرجلين ليس لهن كاسب غيرك! قال: فنظر الأعرابي مليا ثم قال: ما أدرى ما أقول لك، ولكني أراك قبيح المنظر، لئيم المخبر؛ فأعضّك الله ببظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك. وسأل أعرابيّ شيخا من الطائف وشكا إليه سنة أصابته، فقال: وددت والله أن الأرض حصّاء لا تنبت شيئا! قال: ذلك أيبس لجعر أمك في استها. قال: عبيد الله بن زياد بن ظبيان لزرعة بن ضمرة الضمري: إني لو أدركتك يوم الأهواز لقطعت منك طابقا «1» شحيما، قال: أفلا أدلك على طابق شحيم هو أولى بالقطع؟ قال: بلى! قال: البظر الذي بين إسكتي أمك! قال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك؟ قال يوم طعنتك في استك وأنت مولّ. وقال الفرزدق: ما عييت بجواب أحد قطّ ما عييت بجواب امرأة وصبي ونبطي؛ فأما المرأة فإني ذهبت ببغلتي أسقيها في النهر، فإذا معشر نسوة، فلما همزت البغلة حبقت «2» ؛ فاستضحك النسوة، فقلت لهن: ما أضحككن؟ فوالله ما حملتني أنثى قط إلا فعلت مثلها! فقالت امرأة منهن: فكيف كان ضراط أمك مقبرة، فقد حملتك في بطنها تسعة أشهر! فما وجدت لها جوابا. وأما الصبي، فإني كنت أنشد بجامع البصرة، وفي حلقتي الكميت بن زيد وهو صبي، فأعجبني حسن استماعه، فقلت له: كيف سمعت يا بنيّ؟ قال لي: حسن! قلت: فسرّك أني أبوك؟ قال: أما أبي فلا أريد به بديلا، ولكن وددت أن تكون أمي! قلت: استرها عليّ يا ابن أخي، فما لقيت مثلها وأما النبطي، فإني لقيت نبطيا بيثرب، فقال لي: أنت الفرزدق؟ قلت:

بين جرير والفرزدق:

نعم. قال أنت الذي يخاف الناس لسانك؟ قلت: نعم. قال: فأنت الذي إذا هجوتني يموت قرسي هذا؟ قلت: لا. قال: فيموت ولدي؟ قلت: لا. قال: فأموت أنا؟ قلت: لا. قال: فأدخلني الله في حرام الفرزدق، من رجلي إلى عنقي! قلت: ويلك! ولم تركت رأسك؟ قال: حتى أرى ما تصنع الزانية! بين جرير والفرزدق: ولقي جرير الفرزدق بالكوفة، فقال أبا فراس: تحتمل عني مسألة؟ قال: أحتملها بمسألة. قال: نعم. قال: فسل عما بدا لك. قال: أي شيء أحب إليك يتقدمك الخير أو تتقدمه؟ قال: لا يتقدمني ولا أتقدمه، ولكن أكون معه في قران. قال: هات مسألتك. قال له الفرزدق: أي شيء أحبّ إليك إذا دخلت على امرأتك: أن تجد يدها على أير رجل أو يد رجل على حرها قال: قاتلك الله! ما أقبح كلامك وأرذل لسانك. الفرزدق ومسجد الأحامرة: أبو الحسن قال: مر الفرزدق يوما بمسجد الأحامرة وفيه جماعة فيهم أبو المزرد الحنفي، فقال له الفرزدق: يا أخا بني حنيفة، ما شيء لم يكن، ولا يكون ولو كان لا يستقيم؟ قال: لا أدري! قال: يا أبا المزرد، إنه سفيه؛ فإن لم تغضب أخبرتك. قال: فإني لا أغضب. فقال: حرامك: لم تكن له أسنان، ولا تكون، ولو كان لم يستقم! الفرزدق وابن عفراء: أبو الحسن قال: لقي الفرزدق عمرو بن عفراء، فعاتبه في شيء بلغه عنه؛ فقال له ابن عفراء وهو بالمربد: ما شيء أحبّ إليّ من أن آتي كلّ شيء تكرهه! قال له الفرزدق: بالله إنك تأتي كل شيء أكرهه؟ قال: نعم! قال: فإني أكره أن تأتي أمك فأتها.

بين الجماز وضيف:

بين الجماز وضيف: ضاف «1» رجل قبيح الوجه دنيّ الحسب، أبا عبد الله الجمّاز: فجعل يفخر ببيته؛ فقال له الجماز: اسكت، فقباحة وجهك، ودناءة لفظك، يمنعاننا من سبّك! فأبى إلا التمادي في اللجاج؛ فقال له الجماز: لو كنت ذا عرض هجوناكا ... أو حسن الوجه لنكناكا جمعت مع قبحك لؤما فلل ... قبح أو اللؤم تركناك!

كتاب الواسطة في الخطب

كتاب الواسطة في الخطب فرش الكتاب قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأجوبة وتباين الناس فيها بقدر عقولهم، ومبلغ فطنهم، وحضور أذهانهم؛ ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الخطب التي يتخير لها الكلام، وتفاخرت بها العرب في مشاهدهم، ونطقت بها الأئمة على منابرهم، وشهرت بها في مواسمهم، وقامت بها على رءوس خلفائهم؛ وتباهت بها في أعيادهم ومساجدهم. ووصلتها بصلواتهم، وخوطب بها العوام، واستجزلت لها الألفاظ، وتخيرت لها المعاني. اعلم أن جميع الخطب على ضربين: منها الطوال، ومنها القصار؛ ولكل ذلك موضع يليق به، ومكان يحسن فيه؛ فأول ما نبدأ به من ذلك خطب النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم السلف المتقدمين، ثم الجلة من التابعين والجلة من الخلفاء الماضين والفصحاء المتكلمين، على ما سقط إلينا ووقع عليه اختيارنا؛ ثم نذكر بعض خطب الخوارج؛ لجزالة ألفاظهم، وبلاغة منطقهم، كخطبة قطري بن الفجاءة في ذم الدنيا؛ فإنها معدومة النظير، منقطعة القرين؛ وخطبة أبي حمزة التي سمعها مالك بن أنس فقال: خطبنا أبو حمزة بالمدينة خطبة شكك فيها المستبصر، وردّد فيها المرتاب، ثم نسمح بصدر من خطب البادية وقول الأعراب خاصة؛ لمعرفتهم بداء الكلام ودوائه، وموارده ومصادره. عبد الملك وابن سلمة: قال عبد الملك بن مروان لخالد بن سلمة القرشي المخزومي: من أخطب الناس؟

لمعاوية في زياد:

قال: أنا! قال: ثم من؟ قال: شيخ جذام. يعني روح بن زنباع، قال: ثم من؟ قال: أخيّفش ثقيف. يعني الحجاج، قال: ثم من؟ قال: أمير المؤمنين! لمعاوية في زياد: وقال معاوية لما خطب الناس عنده فأكثروا: والله لأرمينّكم بالخطيب المصقع. قم يا زياد! لأبي دواد: وقال محمد كاتب المهدي- وكان شاعرا راوية، وطالبا للنحو علامة- قال: سمعت أبا دواد يقول- وجرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام- فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، والنظر في عيوب الناس عيّ، ومسح اللحية هلك، والخروج عما بني عليه الكلام إسهاب. قال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وحليها الإعراب. وبهاؤها تخيّر اللفظ. والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه. وأنشدني بيتا له في خطباء إياد. يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء وأنشدني في عيّ الخطيب واستعانته بمسح العثنون وفتل الأصابع: مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع «1» بشر بن المعتمر وابن جبلة: مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة؛ فوقف بشر يستمع، فظنّ إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو يكون رجلا من النظارة؛ فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا. ثم دفع إليهم صحيفة من تنميقه وتحبيره، فيها:

خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإنّ قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الاستماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين من لفظ شريف، ومعنى بديع؛ واعلم أنّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه؛ وإياك والتوعّر، فإنّ التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإنّ حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما؛ فكن في ثلاثة منازل: فأوّل ذلك أن يكون لفظك رشيقا عذبا، أو فخما سهلا؛ ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إمّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإمّا عند العامّة إن كنت للعامّة أردت؛ والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامّة؛ وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال؛ وكذلك اللفظ العامي والخاصي؛ فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة لفظك، ولطف مداخلك، وقدرتك في نفسك- أن تفهم العامّة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام. فقال له إبراهيم بن جبلة: جعلت فداك، أنا أحوج إلى تعلمي هذا الكلام من هؤلاء الغلمة. خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضللّ فلا هادي له،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و [أشهد] أن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله، بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذي هو خير. أمّا بعد: أيها الناس، اسمعوا مني أبّين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا! أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت، اللهم اشهد! فمن كانت عنده أمانة فيلؤدّها إلى الذي ائتمنه عليها؛ وإن ربا الجاهلية موضوع «1» ، وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب؛ وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية، والعمد قود «2» ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النّسيء «3» زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم الله. وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان. ألا هل بلغت، اللهم اشهد!

خطب أبي بكر

أيها الناس، إنّ لنسائكم عليكم حقا، وإنّ لكم عليهنّ حقا: لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة؛ فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهن «1» وتهجروهنّ في المضاجع وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح؛ فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف؛ وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله؛ فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا [ألا هل بلّغت، اللهم اشهد!] . أيها الناس؛ إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لآمريء مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت، اللهم اشهد! فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلّوا [بعده] كتاب الله وأهل بيتي، ألا هل بلغت اللهم اشهد. أيها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد؛ كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم؛ ليس لعربيّ على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إنّ الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث؛ ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثّلث؛ والولد للفراش وللعاهر الحجر «2» ؛ من دعي إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. خطب أبي بكر وخطب أبو بكر يوم السقيفة: أراد عمر الكلام، فقال له أبو بكر: على رسلك.

ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، نحن المهاجرون، أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسّهم رحما برسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ أسلمنا قبلكم، وقدّمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ «1» ؛ فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدوّ؛ آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله. وخطب أيضا. حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني؛ أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إنّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القويّ حتى آخذ الحق منه! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وخطب أخرى. فلما حمد الله بما هو أهله، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام، قال: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك! فرفع الناس رءوسهم، فقال: ما لكم أيها الناس؟ إنكم لطعانون عجلون، إن من الملوك من إذا ملك زهّده الله فيما بيده، ورغّبه فيما بيد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويسخط على الكثير، ويسأم الرخاء وتنقطع عنده لذة البهاء، لا

يستعمل العبرة، ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسيّ «1» والسراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه، ونصب عمره، وضحا ظله، حاسبه الله، فأشدّ حسابه، وأقلّ عفوه. ألا وإن الفقراء هم المرحومون! ألا إن من آمن بالله حكم بكتابه وسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة نبوة، ومفرق محجة، وسترون بعدي ملكا عضوضا، «2» وملكا عنودا، وأمة شعاعا، ودما مباحا؛ فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر، ويموت لها الخبر، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن واعتصموا بالطاعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر، أي بلاد خرشنة «3» إن الله سيفتح لكم أقصاها كما فتح عليكم أدناها. وخطب أيضا فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأومن به، وأتوكل عليه وأستهدي الله بالهدى، وأعوذ به من الضلالة والردى، ومن الشك والعمى؛ من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون- إلى الناس كافة، رحمة لهم وحجة عليهم، والناس حينئذ على شر حال في ظلمات الجاهلية، دينهم بدعة، ودعوتهم فرية، فأعز الله الدين بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وألف بين قلوبكم أيها المؤمنون، فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم عى شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون؛ فأطيعوا الله ورسوله، فإنه قال عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «4» . أما بعد أيها الناس: إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حال

ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم؛ فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر؛ وما فخر من خلق من تراب وإلى التراب يعود، هو اليوم حي وغدا ميّت! فاعلموا وعدوّا أنفسكم في الموتى، وما أشكل عليكم فردّوا علمه إلى الله، وقدّموا لأنفسكم خيرا تجدوه محضرا، فإنه قال عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «1» فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لا بدّ من لقاء ربكم والجزاء بأعمالكم، صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله، إنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، أفضل ما صليت على أحد من خلقك؛ وزكّنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه اللهم أعنّا على طاعتك، وانصرنا على عدوّك. وخطب أيضا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة؛ فإن الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ «3» ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، وعوّضكم بالقليل الفاني الكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فثقوا بقوله، وانتصحوا كتابه واستبصروا فيه ليوم الظلمة، فإنه خلقكم لعبادته، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون. ثم اعلموا عباد الله أنكم

خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه

تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم أن [لا] تنقضي الآجال [إلا] وأنتم في عمل لله [فافعلوا] ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله- فسابقوا في مهل بأعمالكم، قبل أن تنقضي آجالكم فتردّكم إلى سوء أعمالكم، فإن أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم [ونسوا أنفسهم] ، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم؛ فالوحي الوحي والنجاء النجاء «1» ، فإن وراءكم طالبا حثيثا مرّه، سريعا سيره. خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخطب عمر؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله جعلني له خازنا وقاسما: إني باديء بأزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، أنا وأصحابي ثم بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، ثم من أسرع إلى الهجرة أسرع إليه العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء، فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته. إني قد بقيت فيكم بعد صاحبي، فابتليت بكم وابتليتم بي، وإني لن يحضرني من أموركم شيء فأكله إلى غير أهل الجزاء والأمانة، فلئن أحسنوا لأحسننّ إليهم، ولئن أساءوا لأنكلنّ بهم. وخطب أيضا فقال: الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه صلّى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة، وجمعنا به من الشتات، وألف بين قلوبنا، ونصرنا على عدونا، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخوانا متحابين؛ فاحمدوا الله على هذه النعمة، واسألوه المزيد

فيها والشكر عليها، فإن الله قد صدقكم الوعد بالنصر على من خالفكم؛ وإياكم والعمل بالمعاصي وكفر النعمة، فقلما كفر قوم بنعمة ولم ينزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزّهم وسلّط عليهم عدوّهم. أيها الناس: إن الله قد أعز دعوة هذه الأمة وجمع كلمتها وأظهر فلحها ونصرها وشرفها، فاحمدوه عباد الله على نعمه، واشكروه على آلائه؛ جعلنا الله وإياكم من الشاكرين. وخطب فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس: تعلموا القرآن [تعرفوا به] ، واعملوا به تكونوا من أهله؛ واعلموا أنه لم يبلغ من حق مخلوق أن يطاع في معصية الخالق [ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، وإن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرّم «1» البهمة الأعرابية] ، القضم «2» دون الخضم «3» . وخطبة له أيضا: أيها الناس: إنه قد أتى عليّ زمان وأنا أرى أن قراءة القرآن [إنما] تريدون به الله عز وجل وما عنده: [ألا وإنه قد] خيّل إليّ أن قوما قرءوه إذ يتنزل الوحي وإذ رسول الله بين أظهرنا ينبئنا من أخباركم؛ فقد انقطع الوحي وذهب النبي، فإنما نعرفكم بما أقول لكم؛ ألا من رأينا منه خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه، ومن رأينا منه شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه؛ سرائركم بينكم وبين ربكم؛ ألا وإني إنما أبعث عمالي ليعلّموكم دينكم وسنّتكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ويأخذوا أموالكم؛ ألا من رابه شيء من ذلك فليرفعه اليّ، فوالذي نفسي بيده لأقصّنّكم منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت أن بعثت عاملا من عمالك

فأدب رجلا من رعيتك فضربه، أتقّصه منه؟ قال: نعم، والذي نفس عمر بيده لأقصنه منه؛ فقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه. وخطب أيضا فقال: أيها الناس اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضعه يخرقه، فنظر إليه أصحابه فمنعوه، فقال: هو موضعي ولي أن أحكم فيه، فإن أخذوا على يده سلم وسلموا، وإن تركوه هلك وهلكوا معه! وهذا مثل ضربته لكم. رحمنا الله وإياكم. وخطب عام الرّمادة بالعباس رحمه الله: حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس، استغفروا ربكم إنه كان غفارا، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك اللهم إنا نتقرب إليك بعمّ نبيك وبقية آبائه وكبار رجال، فإنك تقول وقولك الحق وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً «1» ؛ فحفظتهما لصلاح أبيهما؛ فاحفظ اللهم نبيّك في عمه؛ اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارا، اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالّة، ولا تدع الكسيرة بمضيعة، اللهم قد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السرّ وأخفى؛ اللهم أغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. فما برحوا حتى علّقوا الحذاء، وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعباس يقولون: هنيئا لك يا ساقي الحرمين. وخطب إذ ولي الخلافة:

خطبة عثمان بن عفان رضي الله عنه

صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إني داع فأمّنوا: اللهم إني غليظ فليّنّي لأهل طاعتك بموافقة الحق ابتغاء وجهك والدار الآخرة، وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق، من غير ظلم مني لهم، ولا اعتداء عليهم؛ اللهم إني شحيح فسخّني في نوائب المعروف، قصدا من غير سرف ولا تبذير، ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة؛ اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين، اللهم إني كثير الغفلة والنسيان، فألهمني ذكرك على كل حال، وذكر الموت في كل حين؛ اللهم إني ضعيف عن العمل بطاعتك، فارزقني النشاط فيها والقوة عليها بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعونك وتوفيقك؛ اللهم ثبّتني باليقين والبرّ والتقوى، وذكر المقام بين يديك والحياء منك، وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني؟ والمحاسبة لنفسي، وإصلاح الساعات، والحذر من الشبهات؛ اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك، والفهم له، والمعرفة بمعانيه، والنظر في عجائبه، والعمل بذلك ما بقيت؛ إنك على كل شيء قدير. وكان آخر كلام أبي بكر الذي إذا تكلم به عرف أنه قد فرغ من خطبته: اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك. وكان آخر كلام عمر الذي إذا تكلم به عرف أنه فرغ من خطبته: اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني على غرّة، ولا تجعلني من الغافلين. خطبة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولما ولي عثمان بن عفان قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وتشهد، ثم أرتج عليه «1» ؛ فقال:

خطب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

أيها الناس، إن أول كل مركب صعب، وإن أعش فستأتيكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. خطب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه أول خطبة خطبها بالمدينة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم قال: أيها الناس: كتاب الله وسنّة نبيكم صلّى الله عليه وسلم، أما بعد: فلا يدّعين مدّع إلا على نفسه، شغل من الجنة والنار أمامه. ساع نجا، وطالب يرجو، ومقصّر في النار: [ثلاثة؛ واثنان] : ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيده، لا سادس. هلك من ادّعى، وردي من اقتحم. اليمين والشمال مضلة، والوسطى والجادّة: منهج عليه أم الكتاب والسنة وآثار النبوة؛ إن الله داوى هذه الأمة بدواءين: السوط والسيف، فلا هوادة عند الإمام فيهما، استتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم؛ فالموت من ورائكم. من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور لم تكونوا فيها محمودين. أما اني لو أشاء أن أقول لقلت. عفا الله عما سلف. سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب، همته بطنه، ويله! لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له! انظروا، فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فارووا. حق وباطل، ولكلّ أهل؛ ولئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قل الحق لربما ولعل؛ ولقلما أدبر شيء فأقبل، ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فترة، وما علينا إلا الاجتهاد. وروى فيها جعفر بن محمد رضوان الله عليه: ألا إن الأبرار عترتي، وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا؛ ألا وإنا أهل البيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا؛ فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، (وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا) معنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق. ألا وبنا تدرك ترة كل مؤمن وبنا تخلع

ربقة الذل من أعناقكم، وبنا فتح وبنا فتح وبنا يختم. وخطبة له أيضا: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وتقديم العمل، وترك الأمل؛ فإنه من فرّط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله، أين التّعب بالليل والنهار، المقتحم للجج البحار ومفاوز القفار، يسير من وراء الجبال وعالج الرمال «1» ، يصل الغدو بالرواح، والمساء بالصباح، في طلب محقرات الأرباح؛ هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيته؛ فصار ما جمع بورا، وما اكتسب غرورا، ووافى القيامة محسورا: أيها اللاهي الغارّ بنفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك، لا يقرع لك بابا، ولا يهاب لك حجابا، ولا يقبل منك بديلا، ولا يأخذ منك كفيلا، ولا يرجم لك صغيرا، ولا يوقر فيك كبيرا، حتى يؤديك إلى قعر مظلمة، أرجاؤها موحشة، كفعله بالأمم الخالية والقرون الماضية! أين من سعى واجتهد؛ وجمع وعدّد، وبنى وشيّد؛ وزخرف ونجّد، وبالقليل لم يقنع، وبالكثير لم يمتع؟ أين من قاد الجنود، ونشر البنود؟ أضحوا رفاتا! تحت الثرى أمواتا، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون. عباد الله! فاتقوا الله وراقبوه، واعملوا لليوم الذي تسير فيه الجبال، وتشقّق السماء بالغمام، وتطاير الكتب عن الأيمان والشمائل؛ فأي رجل يومئذ تراك؟ أقائل هاؤم اقرءوا كتابيه! أم: يا ليتني لم أوت كتابيه! نسأل من وعدنا بإقامة الشرائع جنته أن يقينا سخطه؛ إنّ أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وخطبة له أيضا:

الحمد لله الذي استخلص الحمد لنفسه، واستوجبه على جميع خلقه، الذي ناصية كلّ شيء بيده، ومصير كل شيء إليه، القويّ في سلطانه، اللطيف في جبروته، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، خالق الخلائق بقدرته، ومسخّرهم بمشيئته، وفيّ العهد، صادق الوعد، شديد العقاب، جزيل الثواب؛ أحمده وأستعينه على ما أنعم به مما لا يعرف كنهه غيره؛ وأتوكل عليه توكّل المتسلم لقدرته، المتبري من الحول والقوّة إليه؛ وأشهد شهادة لا يشوبها شك أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، إلها واحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيرا، وهو على كل شيء قدير، قطع ادعاء المدّعي بقوله عز وجل: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» . وأشهد أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم صفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بالمعروف آمرا. وعن المنكر ناهيا، وإلى الحق داعيا؛ على حين فترة من الرسل، وضلالة من الناس، واختلاف من الأمور، وتنازع من الألسن، حتى تمم به الوحي، وأنذر به أهل الأرض. أوصيكم عباد الله بتقوى الله؛ فإنها العصمة من كل ضلالة، والسبيل إلى كل نجاة؛ فكأنكم بالجثث قد زايلتها أرواحها، وتضمنها أجداثها، فلن يستقبل معمّر منكم يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله، وإنما دنياكم كفيء الظل أو زاد الراكب؛ وأحذركم دعاء العزيز الجبار عبده، يوم تعفي آثاره، وتوحش منه دياره، وييتم صغاره، ثم يصير إلى حفير من الأرض، متعفرا على خدّه، غير موسد ولا ممهد: أسأل الذي وعدنا على طاعته جنته، أن يقينا سخطه، ويجنّبنا نقمته، ويهب لنا رحمته. إنّ أبلغ الحديث كتاب الله. وخطبة له رضي الله عنه: أمّا بعد؛ فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطّلاع، وإنّ المضمار اليوم والسباق غدا، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل؛

فمن أخلص في أيام أمله حضور أجله، نفعه عمله ولم يضره أمله؛ ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله وضره أمله؛ ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها؛ [ألا وإنه من لا ينفعه الحقّ يضرره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الردى] ؛ ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. وخطبة له: قالوا ولما أغار سفيان بن عوف الأزدي على الأنبار في خلافة علي رضي الله عنه، وعليها [ابن] حسان البكري، فقتله وأزال تلك الخيل عن مسالحها «1» ، فخرج علي رضي الله عنه حتى جلس على باب السّدّة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء، وألزمه الصغار، وسامه الخسف، ومنعه النّصف» ؛ ألا وإني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليك قولي فاتخذتموه وراءكم ظهريا؛ حتى شنّت عليكم الغارات؛ وهذا أخو غامد قد بلغت خيله الأنبار، وقتل ابن حسان البكري؛ وأزال خيلكم عن مسالحها؛ وقتل منكم رجالا صالحين، وقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها وقلبها «3» ورعاثها «4» ، ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منهم؛ فلو أنّ رجلا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان به عندي جديرا؛ فواعجبا من جدّ هؤلاء في باطلهم وفشلكم عن حقكم؛ فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى؛ يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون؛ فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيام الحرّ، قلتم: حمارّة

القيظ؛ أملهنا حتى ينسلخ عنا الحرّ! وإذا أمرتكم بالمسير إليهم ضحى في الشتاء، قلتم: [صبارّة القرّ] «1» أمهلنا حتى ينسلخ عنا هذا القرّ! كل هذا فرارا من الحرّ والقرّ؛ فأنتم والله من السيف أفرّ! يا أشباه الرجال ولا رجال! ويا أحلام «2» أطفال وعقول ربات الحجال! وددت أنّ الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، وأني لم أركم ولم أعرفكم! معرفة والله جرّت وهنا! [لقد ملأتم قلبي قيحا] ووريتم والله صدري غيظا، وجرعتموني الموت أنفاسا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب! لله أبوهم! وهل منهم أحد أشدّ لها مراسا وأطول تجربة مني؟ لقد مارستها وأنا ابن عشرين، فها أنا ذا الآن قد نيّفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع! وخطبة له رضي الله عنه، قام فيهم فقال: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم! كلامكم يوهي الصم الصّلاب وفعلكم يطمع فيكم عدوّكم؛ تقولون في المجالس كيت وكيت؛ فإذا جاء القتال قلتم: [حيدي] «3» حياد ما عزت دعوة من دعاكم؛ ولا استراح قلب من قاساكم؛ أعاليل بأباطيل؛ وسألتموني التأخير؛ دفاع ذي الدّين الممطول؛ ألا [لا] يدفع الضيم الذليل، ولا يدرك الحقّ إلا بالجدّ. أيّ دار بعد داركم تمنعون؟ أم مع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه؛ ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب! أصبحت والله لا أصدّق قولكم؛ ولا أطمع في نصرتكم؛ فرّق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي منكم! وددت والله أن لي بكل عشرة منكم رجلا من بني فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم! وخطب إذا استنفر أهل الكوفة لحرب الجمل، فأقبلوا إليه مع ابنه الحسن رضي الله عنهم، فقام فيهم خطيبا فقال:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين، أمّا بعد؛ فإنّ الله بعث محمدا عليه الصلاة والسلام إلى الثقلين كافة، والناس في اختلاف، والعرب بشرّ المنازل، مستضيئون للثاءات «1» بعضهم على بعض، فرأب الله به الثّأي، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمّن به السبل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الواغرة للقلوب، والضغائن المخشنة للصدور؛ ثم قبضه الله عز وجل مشكورا سعيه، مرضيّا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند ربه نزله؛ فيا لها مصيبة عمّت المسلمين، وخصّت الأقربين؛ وولى أبو بكر، فسار بسيرة رضيها المسلمون؛ ثم ولى عمر، فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما؛ ثم ولي عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم لي: بايعنا! فقلت لكم: لا أفعل! وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك! وتداككتم «2» عليّ تداكك الإبل الهيم «3» على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعض؛ فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني للعمرة فسارا إلى البصرة فقتلا بها المسلمين وفعلا الأفاعيل، وهما يعلمان والله أني لست بدون واحد ممن مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت؛ اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي، وألبا عليّ عدوّي؛ اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا! ومما حفظ عنه بالكوفة على المنبر: قال نافع بن كليب: دخلت الكوفة للتسليم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإني لجالس تحت منبره، وعليه عمامة سوداء، وهو يقول: انظروا هذه الحكومة، فمن دعا إليها فاقتلوه وإن كان تحت عمامتي هذه! فقال له عدي بن حاتم: قلت لنا أمس: من أبى عنها فاقتلوه. وتقول لنا اليوم: من دعا إليها فاقتلوه! والله ما ندري ما نصع بك؟ وقام إليه رجل أحدب من أهل العراق فقال: أمرت بها أمس وتنهى عنها اليوم، فأنت كما قال الأول: آكلك وأنا أعلم ما أنت. فقال علي: إلي يقال هذا.

أصبحت أذكر أرحاما وآصرة ... بدلت منها هويّ الرّيح بالقصب «1» أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به، ونهيتكم عما نهيتكم عنه، حملتكم على المكروه الذي جعل الله عاقبته خيرا إذا كان فيه، لكانت الوثقى التي لا تقلع، ولكن بمن؟ وإلى من؟ [أريد أن] أداوي بكم [وأنتم دائي] ؛ إني والله بكم كناقش «2» الشّوكة بالشوكة، يا ليت لي بعض قومي وليت لي من بعد خير قومي، اللهم إن دجلة والفرات نهران أعجمان أصمان أبكمان، اللهم سلط عليهما بحرك، وانزع منهما بصرك؛ ويل للنّزعة «3» يا أشطان الرّكيّ «4» ! [أين الذين] دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحسنوه، ونطقوا بالشعر فأحكموه وهيجوا إلى الجهاد فولهوا [وله] اللقاح [إلى] أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها ضربا ضربا، [وأخذوا بأطراف الأرض] زحفا زحفا، لا يتباشرون بالأحياء، ولا يعزّون على القتلى ولا يغيرون على العلي. أولئك إخواني الذاهبون ... فحقّ البكاء لهم أن يطيبا رزقت حبيبا على فاقة ... وفارقت بعد حبيب حبيبا! ثم نزل تدمع عيناه؛ فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون على ما صرت إليه! فقال: نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون! أقوّمهم والله غدوة ويرجعون إلى عشية مثل ظهر الحية، حتى متي؟ وإلى متى؟ حسبي الله ونعم الوكيل! وهذه خطبته الغراء، رضي الله عنه: الحمد لله الأحد الصمد، الواحد المنفرد، الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق إلا وهو خاضع له؛ قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه، فليست له صفة تنال، ولا حدّ يضرب له فيه الأمثال، كلّ دون صفته تحبير اللغات، وضلت هناك تصاريف الصفات وحارت دون ملكوته مذاهب التفكير، وانقطعت دون علمه

جوامع التفسير، وحالت دون غيبه حجب تاهت في أدنى دنوّها طامحات العقول؛ فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن؛ وتعالى الذي ليس له نعت موجود، ولا وقت محدود، وسبحان الذي ليس له أول مبتدأ، ولا غاية منتهى، ولا آخر يفنى؛ وهو سبحانه كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته؛ أحاط بالأشياء كلها علمه وأتقنها صنعه، وذللها أمره، وأحصاها حفظه؛ فلا يعزب عنه غيوب الهوى، ولا مكنون صلم الدجى، ولا ما في السموات العلى إلى الأرض السابعة السفلى؛ فهو لكل شيء منها حافظ ورقيب، أحاط بها الأحد الصمد الذي لم تغيّره صروف الأزمان، ولا يتكاءده «1» صنع شيء منها كان؛ قال لما شاء أن يكون: كن! فكان؛ ابتدع ما خلق بلا مثال سبق، ولا تعب ولا نصب؛ وكل عالم من بعد جهل يعلم، والله لم يجهل ولم يتعلم؛ أحاط بالأشياء كلها علما، ولم يزدد بتجربتها خبرا؛ علمه بها قبل كونها كعمله بها بعد تكوينها؛ لم يكوّنها لتسديد سلطان، ولا خوف زوال ولا نقصان، ولا استعانة على ضد مناويء، ولا ند مكاثر، ولكن خلائق مربوبون، وعباد آخرون، فسبحان الذي لا يئوده «2» خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما برأ، خلق ما علم، وعلم ما أراد، ولا يتفكر على حادث أصاب، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد، لكن قضاء متقن، وعلم محكم، وأمر مبرم، توحّد بالربوبية، وخص نفسه بالوحدانية، فلبس العز والكبرياء، واستخلص المجد والسناء، واستكمل الحمد والثناء؛ فانفرد بالتوحيد، وتوحد بالتمجيد؛ فجل سبحانه وتعالى عن الأبناء وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء؛ فليس له فيما خلق ندّ، ولا فيما ملك ضدّ، هو الله الواحد الصمد، الوارث للأبد الذي لا يبيد ولا ينفد، ملك السموات العلى، والأرضين السفلى، ثم دنا فعلا. وعلا فدنا، له المثل الأعلى، والأسماء الحسنى، والحمد لله رب العالمين؛ ثم إن الله تبارك وتعالى- سبحانه وبحمده- خلق الخلق بعلمه ثم اختار منهم صفوته، واختار من كل خيار صفوته أمناء على وحيه، وخزنة له على أمره، إليهم ينتهي رسله، وعليهم ينزل وحيه، جعلهم أصفياء، مصطفين

أنبياء، مهديين نجباء؛ استودعهم وأقرهم في خير مستقر، تناسختهم أكارم الأصلاب، إلى مطهّرات الأمهات، كلما مضى منهم سلف انبعث لأمره منهم خلف، حتى انتهت نبوّة الله وأفضت كرامته إلى محمد صلّى الله عليه وسلم؛ فأخرجه من أفضل المعادن محتدا، وأكرم المغارس منبتا، وأمنعها ذروة، وأعزها أرومة، وأوصلها مكرمة من الشجرة التي صاغ منها أمناء، وانتخب منها أنبياء، شجرة طيبة العود، معتدلة العمود، باسقة الفروع، مخضرة الأصول والغصون، يانعة الثمار، كريمة المجتنى، في كرم نبتت، وفيه بسقت وأثمرت، وعزت فامتنعت، حتى أكرمه الله بالروح الأمين، والنور المبين، فختم به النبيين، وأتم به عدة المرسلين، [وجعله] خليفته على عباده، وأمينه في بلاده؛ زينه بالتقوى وآثار الذكرى؛ وهو إمام من اتقى، ونصر من اهتدى، سراج لمع ضوءه، وزند برق لمعه، وشهاب سطع نوره؛ فاستضاءت به العباد، واستنارت به البلاد؛ وطوى به الأحساب فأزجى به السحاب، وسخر له البراق حتى صافحته الملائكة، وأذعنت له الألسنة، وهدم به أصنام الآلهة، سيرته القصد، وسنته الرشد؛ وكلامه فصل، وحكمه عدل؛ فصدع صلّى الله عليه وسلم بما أمره به، حتى أفصح بالتوحيد دعوته؛ وأظهر في خلقه لا إله إلا الله، حتى أذعن له [الخلق] بالربوبية، وأقرّ له بالعبودية والواحدانية؛ اللهم فخصّ محمدا بالذكر المحمود. والحوض المورود. اللهم آت محمدا الوسيلة والرفعة والفضيلة، واجعل في المصطفين محلته، وفي الأعلين درجته، وشرّف بنيانه وعظّم برهانه، واسقنا بكأسه، وأوردنا حوضه، واحشرنا في زمرته، غير حزايا ولا ناكثين ولا شاكين ولا مرتابين ولا ضالين ولا مفتونين ولا مبدلين ولا حائدين ولا مضلين؛ اللهم أعط محمدا من كل كرامة أفضلها، ومن كل نعيم أكمله، ومن كل عطاء أجزله، ومن كل قسم أتمه؛ حتى لا يكون أحد من خلقك أقرب منك مكانا، ولا أحظى عندك منزلة ولا أقرب إليك وسيلة، ولا أعظم عليك حقا- ولا شفاعة، من محمد؛ واجمع بيننا وبينه في ظل العيش، وبرد الرّوح «1» ، وقرة الأعين، ونضرة السرور، وبهجة النعيم؛ فإنا نشهد أنه قد بلغ

الرسالة، وأدى الأمانة والنصيحة، واجتهد للأمة. وجاهد في سبيلك. وأوذي في جنبك ولم يخف لومة لائم في دينك. وعبدك حتى أتاه اليقين، إمام المتقين، وسيد المرسلين، وتمام النبين، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين، اللهم رب البيت الحرام، ورب البلد الحرام، ورب الركن والمقام، ورب المشعر الحرام؛ بلّغ محمدا منا السلام؛ اللهم صل على ملائكتك المقربين، وعلى أنبيائك المرسلين، وعلى الحفظة الكرام الكاتبين، وصلى الله على أهل السموات وأهل الأرضين من المؤمنين. وخطبته الزهراء: الحمد لله الذي هو أول كل شيء ووليه، وكل شيء خاشع له، وكل شيء قائم به، وكل شيء ضارع إليه، وكل شيء مستكين له؛ خشعت له الأصوات، وكلّت دونه الصفات، وضلت دونه الأوهام، وحارت دونه الأحلام، وانحسرت دونه الأبصار لا يقضي في الأمور غيره، ولا يتم شيء دونه، سبحانه ما أجل شأنه، وأعظم سلطانه! تسبح له السموات العلى، ومن في الأرض السفلى، له التسبيح والعظمة والملك والقدرة، والحول والقوة، يقضي بعلم ويعفو بحلم؛ قوة كلّ ضعيف، ومفزع كل ملهوف وعزّ كلّ ذليل، ووليّ كل نعمة، وصاحب كلّ حسنة، وكاشف كل كربة المطّلع على كل خفيّة، المحصي كلّ سريرة، يعلم ما تكنّ الصدور، وما ترخى عليه الستور؛ الرحيم بخلقه، الرؤوف بعباده؛ من تكلم منهم سمع كلامه، ومن سكت منهم علم ما في نفسه، ومن عاش منهم فعليه رزقه، ومن مات منهم فإليه مصيره؛ أحاط بكل شيء علمه وأحصى كل شيء حفظه، اللهم لك الحمد عدد ما تحيي وتميت، وعدد أنفاس خلقك ولفظهم ولحظ أبصارهم، وعدد ما تجري به الريح وتحمله السحاب، ويختلف به الليل والنهار، ويسير به الشمس والقمر والنجوم- حمدا لا ينقضي عدده، ولا يفنى أمده: اللهم أنت قبل كل شيء، وإليك مصير كل شيء، وتكون بعد هلاك كل شيء وتبقى ويفنى كلّ شيء، وأنت وارث كلّ شيء، أحاط علمك بكلّ شيء، وليس يعجزك شيء، ولا يتوارى عنك شيء، ولا يقدر أحد قدرتك، ولا يشكرك أحد حقّ شكرك، ولا تهتدي العقول لصفتك، ولا تبلغ

الأوهام حدّك؛ حارت الأبصار دون النظر إليك، فلم ترك عين فتخبر عنك كيف أنت وكيف كنت. لا نعلم اللهم كيف عظمتك، غير أنا نعلم أنك حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر، ولا يقدر قدرتك ملك ولا بشر؛ أدركت الأبصار، وكتمت الآجال، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام، لم تخلق الخلق لحاجة ولا لوحشة ملأت كلّ شيء عظمة، فلا يردّ ما أردت، ولا يعطى ما منعت، ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيد في ملكك من أطاعك؛ كلّ سرّ عندك علمه، وكل غيب عندك شاهده؛ فلم يستتر عنك شيء، ولم يشغلك شيء عن شيء، وقدرتك على ما تقضي، كقدرتك على ما قضيت، وقدرتك على القوي كقدرتك على الضعيف وقدرتك على الأحياء كقدرتك على الأموات؛ فإليك المنتهى وأنت الموعد، لا منجى إلا إليك؛ بيدك ناصية كل دابة، وبإذنك تسقط كلّ ورقة؛ لا يعزب «1» عنك مثقال ذرة؛ أنت الحيّ القيوم؛ سبحانك! ما أعظم ما يرى من خلقك! وما أعظم ما يرى من ملكوتك! وما أقلهما فيما غاب عنا منه! وما أسبغ نعمتك في الدنيا وأحقرها في نعيم الآخرة! وما أشدّ عقوبتك في الدنيا وما أيسرها في عقوبة الآخرة! وما الذي نرى من خلقك، ونعتبر من قدرتك. ونصف من سلطانك فيما يغيب عنا منه مما قصرت أبصارنا عنه وكانت عقولنا دونه، وحالت الغيوب بيننا وبينه، فمن قرع سنه وأعمل فكره كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء سمواتك، وكيف مددت أرضك- يرجع طرفه حاسرا، وعقله مبهورا، وسمعه والها، وفكره متحيرا؛ فكيف يطلب علم ما قبل ذلك من شأنك إذ أنت وحدك في الغيوب التي لم يكن فيها غيرك، ولم يكن لها سواك؟ لا أحد شهدك حين فطرت «2» الخلق، ولا أحد حضرك حين ذرأت «3» النفوس، فكيف لا يعظم شأنك عند من عرفك، وهو يرى من خلقك ما ترتاع به عقولهم، ويملأ قلوبهم، من رعد تفزع له القلوب، وبرق يخطف الأبصار، وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سمواتك، وليست فيهم فترة، ولا عندهم غفلة، ولا بهم معصية؛

هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقومهم بطاعتك، ليس يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول؛ لم يسكنوا الأصلاب، ولم تضمّهم الأرحام؛ أنشأتهم إنشاء، وأسكنتهم سمواتك، وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهم على وحيك، وجنبتهم الآفات، ووقيتهم السيئات، وطهرتهم من الذنوب؛ فلولا تقويتك لم يقووا، ولولا تثبيتك لم يثبتوا، ولولا رهبتك لم يطيعوا، ولولاك لم يكونوا؛ أما إنهم على مكانتهم منك، ومنزلتهم عندك، وطول طاعتهم إياك- لو يعانون ما يخفي عليهم لاحتقروا أعمالهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حقّ عبادتك؛ فسبحانك خالقا ومعبودا ومحمودا، بحسن بلائك عند خلقك! أنت خلقت ما دبرته مطعما ومشربا، ثم أرسلت داعيا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغّبتنا فيه رغبنا، ولا إلى ما شوّقتنا إليه اشتقنا؛ أقبلنا كلنا على جيفة نأكل منها ولا نشبع وقد زاد بعضنا على بعض حرصا لما يرى بعضنا من بعض، فافتضحنا بأكلها واصطلحنا على حبها، فأعمت أبصار صالحينا وفقهائنا، فهم ينظرون بأعين غير صحيحة، ويسمعون بآذان غير سميعة، فحيثما زالت زالوا معها، وحيثما مالت أقبلوا إليها، وقد عاينوا المأخوذين على الغرّة كيف فجأتهم الأمور، ونزل بهم المحذور، وجاءهم من فراق الأحبة ما كانوا يتوقعون، وقدموا من الآخرة ما كانوا يوعدون: فارقوا الدنيا وصاروا إلى القبور، وعرفوا ما كانوا فيه من الغرور، فاجتمعت عليهم حسرتان: حسرة الفوت «1» وحسرة الموت، فاغبرت لها وجوههم وتغيرت بها ألوانهم، وعرقت بها جباههم، وشحصت أبصارهم، وبردت أطرافهم، وحيل بينهم وبين المنطق، وإن أحدهم لبين أهله، ينظر ببصره، ويسمع بأذنه؛ ثم زاد الموت في جده حتى خالط بصره، فذهبت من الدنيا معرفته، وهلكت عند ذلك حجته، وعاين هول أمر كان مغطى عليه فأحدّ لذلك بصره؛ ثم زاد الموت في جده حتى بلغت نفسه الحلقوم، ثم خرج من جسده فصار جسدا ملقى لا يجيب داعيا، ولا يسمع باكيا؛ فنزعوا ثيابه وخاتمه، ثم وضّئوه وضوء الصلاة، ثم غسلوه وكفنوه إدراجا في أكفانه وحنطوه، ثم حملوه إلى قبره، فدلوه في حفرته، وتركوه

مخلى بمفظعات من الأمور، وتحت مسألة منكر ونكير، مع ظلمة وضيق ووحشة قبر، فذاك مثواه حتى يبلى جسده ويصير ترابا؛ حتى إذا بلغ الأمر إلى مقداره، وألحق آخر الخلق بأوله، وجاءه أمر من خالقه، أراد به تجديد خلقه- أمر بصوت من سمواته فمارت السموات مورا «1» ، وفزع من فيها، وبقي ملائكتها على أرجائها، ثم وصل الأمر إلى الأرض، والخلق رفات لا يشعرون فأرج أرضهم وأرجفها وزلزلها، وقلع جبالها ونسفها وسيّرها، ودكّ بعضها بعضا من هيبته وجلاله، وأخرج من فيها فجدّدهم بعد بلائهم، وجمعهم بعد تفرّقهم، يريد أن يحصيهم ويميزهم، فريقا في ثوابه، وفريقا في عقابه، فخلد الأمر لأبده، دائما خيره وشره، ثم لم ينس الطاعة من المطيعين، ولا المعصية من العاصين، فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء، وينتقم من هؤلاء، فأثاب أهل الطاعة بجواره، وحلول داره، وعيش رغد، وخلود أبد، ومجاورة للرب، وموافقة محمد صلّى الله عليه وسلم، حيث لا ظعن ولا تغيّر؛ وحيث لا تصيبهم الأحزان، ولا تعترضهم الأخطار؛ ولا تشخصهم «2» الأسفار؛ وأما أهل المعصية فخلدهم في النار، وأوثق منهم الأقدام وغلّ منهم الأيدي إلى الأعناق؛ في لهب قد اشتد حره، ونار مطبقة على أهلها لا يدخل عليها بها روح، همّهم شديد، وعذابهم يزيد، ولا مدة للدار تنقضي، ولا أجل للقوم ينتهي. اللهم إني أسألك بأن لك الفضل والرحمة بيدك، فأنت وليهما لا يليهما أحد غيرك، وأسألك باسمك لمخزون المكنون، الذي قام به عرشك وكرسيّك وسمواتك وأرضك، وبه ابتدعت خلقك- الصلاة على محمد، والنجاة من النار برحمتك، آمين؛ إنك وليّ كريم. وخطب أيضا فقال: أيها الناس احفظوا عني خمسا فلو شددتم إليها المطايا حتى تنضوها لم تظفروا بمثلها: ألا لا يرجونّ أحدكم إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه ولا يستحي أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم، وإذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ألا وإن

خطب معاوية

الخامسة الصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ من لا صبر له لا إيمان له، ومن لا رأس له لا جسد له: ولا خير في قراءة إلا بتدبّر ولا في عبادة إلا بتفكّر، ولا في حلم إلا بعلم؛ ألا أنبئكم بالعالم كل العالم؟ من لم يزين لعباد الله معاصي الله، ولم يؤمّنهم مكره، ولم يؤيسهم من روحه. لا تنزلوا المطيعين الجنة ولا المذنبين الموحدين النار حتى يضي الله فيهم بأمره؛ ولا تأمنوا على خير هذه الأمة عذاب الله؛ فإنه يقول: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «1» ولا تقنطوا شر هذه الأمة من رحمة الله، ف إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «2» . ومن كلامه رضوان الله عليه: قال ابن عبّاس: لما فرغ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من وقعة الجمل، دعا بآجرّتين فعلاهما، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أنصار المرأة وأصحاب البهيمة! رغا فأجبتم وعقر فهربتم؛ دخلت شرّ بلاد [أقربها من الماء، و] أبعدها من السماء. بها يغيض كل ماء، ولها شرّ أسماء: هي البصرة، والبصيرة، والمؤتفكة، وتدمر. أين ابن عبّاس؟ فدعيت. فقال لي: مر هذه المرأة فلترجع إلى بيتها الذي أمرت أن تقرّ فيه. وتمثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الحكمين: زللت فيكم زلّة فأعتذر ... سوف أكيس بعدها وأشتمر «3» وأجمع الأمر الشّتيت المنتشر خطب معاوية قال القحذمي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقّاه رجال قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلى كعبك. قال: فوالله ما ردّ عليهم شيئا حتى صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

خطبة أيضا لمعاوية

أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرّة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة، ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارا شديدا؛ وأردتها مثل ثنيّات «1» عثمان، فأبت عليّ؛ فسلكت بها طريق لي ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة؛ فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفى به القائل بلسانه، فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي؛ وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه، فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا زاد عنّى، وإذا قلّ أغنى «2» ؛ وإياكم والفتنة، فإنها تفسد المعيشة، وتكدّر النعمة. ثم نزل. خطبة أيضا لمعاوية حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، إنا قدمنا عليكم، وإنما قدمنا على صديق مستبشر، أو على عدو مستتر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ «3» ولست واسعا كلّ الناس؛ فإن كانت محمدة فلا بدّ من مذمة، فلونا هونا إذا ذكر غفر؛ وإياكم والتي إن أخفيت أو بقت، وإن ذكرت أوثقت. ثم نزل. وخطبة أيضا لمعاوية صعد منبر المدينة، فحمد الله وأثنى، ثم قال: يا أهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق؛ يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرىء منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شرّ لكم، وإن

وخطبة لمعاوية أيضا

معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى فالرّتق خير من الفتق، وفي كلّ بلاغ، ولا مقام على الرزية. وخطبة لمعاوية أيضا قال العتبي: خطب معاوية الجمعة في يوم صائف شديد الحر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الله عز وجل خلقكم فلم ينسكم، ووعظكم فلم يهملكم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» . قوموا إلى صلاتكم. ومما ذكر لعبيد الله بن زياد عند معاوية قال ابن دأب: لما قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهيا عنه أنكره، فجعل يتصدّى له بخلوة ليسبر من رأيه ما كره أن يشرك به عمله، فاستأذن عليه بعد انصداع الطّلاب وإشغال «2» الخاصة وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه، ففطن معاوية لما أراد، فبعث إلى ابنه يزيد، وإلى مروان بن الحكم، وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص، فلما أخذوا مجالسهم أذن له، فسلم ووقف واجما يتصفح وجوه القوم، ثم قال: صريح العقوق مكاتمة الأدنين، لا خير في اختصاص وإن وفر «3» ، أحمد الله إليكم على الآلاء «4» ، وأستعينه على اللأواء» ، وأستهديه من عمى مجهد، وأستعينه على عدو مرصد، وأشهد أن لا إله إلا الله المنقذ بالأمين الصادق من شقاء هاو، ومن غواية غاو، وصلوات الله على الزكي، نبيّ الرحمة، ونذير الأمّة، وقائد الهدى؛ أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فقد عسف بنا ظنّ فرّع «6» ، وفزع صدّع، حتى طمع السحيق،

وبئس الرفيق، ودب الوشاة بموت زياد، فكلهم متحفّز للعداوة، وقد قلّص الإزرة «1» ، وشمّر عن عطافه «2» ، ليقول؛ مضى زياد بما استلحق به، وولّى على الدنية من مستلحقه. فليت أمير المؤمنين سلم في دعته، وأسلم زيادا في ضعته، فكان ترب عامّته، وواحد رعيّته، فلا تشخص إليه عين ناظر ولا أصبع مشير، ولا تذلق «3» عليه ألسن كلمته حيا ونبشته ميتا، فإن تكن يا أمير المؤمنين حاببت زيادا بولاء رفات، ودعوة أموات، فقد حاباك زياد بجدّ هصور وعزم جسور، حتى لانت شكائم الشّرس، وذلت صعبة الأشوس، وبذل لك يا أمير المؤمنين يمينه ويساره، تأخذ بهما المنيع، وتقهر بهما البزيع «4» ، حتى مضى والله يغفر له؛ فإن يكن زياد أخذ بحق فأنزلنا منازل الأقربين يا أمير المؤمنين نمشي الضّرّاء «5» وندبّ الخفاء «6» ، ولنا من خيرك أكمله، وعليك من حوبنا «7» أثقله، وقد شهد القوم، وما ساءني قربهم ليقرّوا حقا، ويردّوا باطلا؛ فإنّ للحقّ منارا واضحا، وسبيلا قصدا؛ فقل يا أمير المؤمنين بأي أمريك شئت، فما نأرز «8» إلى غير جحرنا، ولا نستكثر بغير حقنا، وأستغفر الله لي ولكم. قال: فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفّحهم بلحظه رجلا رجلا وهو متبسم، ثم اتجه تلقاءه وعقد حبوته وحسر عن يده وجعل يوميء بها نحوه، ثم قال معاوية: الحمد لله على ما نحن فيه؛ فكل خير منه، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ فكل شيء خاضع له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، دلّ على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يأتوا بمثله، فهو خاتم النبيين، ومصدّق المرسلين، وحجة رب العالمين، صلوات الله عليه وسلامه وبركاته، أمّا بعد، فرب خير مستور، وشر مذكور، وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به، والحظ المرغب لمن فاز به، فيهما التفاضل، وفيهما التغابن، وقد

صفقت يداي في أبيك صفقة «1» ذي الخلة من ضوارع «2» الفصلان، عامل اصطناعي له بالكفر لما أوليته، فما رميت به إلا انتصل «3» ، ولا انتضيته إلا غلّق جفنه، وزلّت شفرته، ولا قلت إلا عاند، ولا قمت إلا قعد، حتى اخترمه الموت، وقد أوقع بختره «4» ، ودل على حقده، وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، والتبس به الزلل، فأخذ مني بحظ الغفلة، وما أبريء نفسي، إنّ النفس لأمّارة بالسوء؛ فما برحت هناة أبيك تحطب في جبل القطيعة حتى انتكث المبرم. وانحل عقد الوداد. فيا لها توبة تؤتنف من حوبة «5» أورثت ندما أسمع بها الهاتف وشاعت للشامت؛ فليهنأ الواصم «6» ما به احتقر؛ وأراك تحمد من أبيك جدا وجسورا: هما أوفيا به على شرف التقحم. وغمط النعمة؛ فدعهما فقد أذكرتنا منه ما زهّدنا فيك من بعده، وبهما مشيت الضرّاء ودببت الخفاء؛ فاذهب إليك، فأنت نجل الدّغل «7» ، وعترة النّغل؛ والأخر شرّ. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنّ للشاهد غير حكم الغائب، وقد حضرك زياد، وله مواطن معدودة بخير، لا يفسدها التظنّي ولا تغّيرها التهم، وأهلوه أهلوك التحقوا بك، وتوسطوا شأنك، فسافرت به الرّكبان، وسمعت به أهل البلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشك فيه العالم، فلا يتحجّر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكثرت فيه الشهادات، وأعانك عليه قوم آخرون. فانحرف معاوية إلى من معه فقال: هذا، وقد نفس عليه «8» ببيعته، وطعن في إمرته، يعلم ذلك كما أعلمه؛ يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا وبذّهم يزيد وحده. ثم نظر إلى عبيد الله فقال: يا ابن أخي، إني لأعرف بك من أبيك، وكأني بك

وخطبة لمعاوية أيضا

في غمرة لا يخطوها السابح؛ فالزم ابن عمك، فإنّ لما قال حقا. فخرجوا، ولزم عبيد الله يزيد يرد مجلسه ويطأ عقبه أياما، حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليا عليها. ثم لم تزل توكسه أفعاله حتى قتله الله بالخازر «1» . وخطبة لمعاوية أيضا قال الهيثم بن عدي: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا بمسلم بن عقبة المرّي، والضحاك بن قيس الفهري، وقال لهما: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر أهل الحجاز فهم عصابتك وعترتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومن قعد عنك فتعاهده؛ وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله عنهم، فإن عزل عامل واحد أهون عليك من سلّ مائة ألف سيف، ثم لا ندري علام أنت عليه منهم؛ ثم انظر أهل الشام، فاجعلهم الشعار دون الدّثار، فإن رابك من عدوّ ريب فارمه بهم فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم، لا يقيموا في غير بلادهم فيتأدبوا بغير آدابهم؛ ولست أخاف عليك غير عبد لله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. والحسين بن علي؛ فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه «2» الورع، وأما الحسين فأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه وأما ابن الزبير فإنه خب ضب «3» ، فإن ظفرت به فقطعه إربا إربا. ومات معاوية؛ فقام الضحاك بن قيس خطيبا فقال: إن أمير المؤمنين كان أنف العرب، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومخلّون بينه وبين ربه: فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضر. وصلى عليه الضحاك. ثم قدم يزيد؛ فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام فأنشأ يقول:

وخطبة أيضا لمعاوية

اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا لارزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبى كعقباكا أصبحت راعي أهل الدين كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا وفي معاوية الباقي لنا خلف ... أمّا نعيت فلا يسمع بمنعاكا قال فانفتح الخطباء بالكلام. وخطبة أيضا لمعاوية ولما مرض معاوية مرض وفاته قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك! قال: ويحك! لم؟ فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم وأذن للناس فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه وأوجز، ثم قال: أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم فيه عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوّف قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده، ونضيض وفره؛ ومنهم المصلت لسيفه، المجلب برجله، المعلن بشرّه؛ قد أشرط «1» نفسه، وأوبق دينه «2» : لحطام ينتهزه، أو مقنب «3» يقوده، أو منبر يفرعه «4» ؛ ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا- ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا؛ قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر عن ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية؛ ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن أمله؛ فتحلى باسم القناعة، وتزيّا بلباس الزهادة؛ وليس من ذلك في مراح ولا مغدى؛ وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم

وليزيد بن معاوية بعد موت أبيه

خوف المضج؛ فهم بين شريد باد، وبين خائف منقمع وساكت مكعوم «1» ، وداع مخلص، وموجع ثكلان؛ قد أخملتهم التّقيّة، وشملتهم الذلة؛ فهم في بحر أجاج؛ أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة؛ قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا؛ وقتلوا حتى قلّوا؛ فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ «2» ، وقراضة الجلمين؛ واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فقد رفضت من كان أشغف بها منكم. وليزيد بن معاوية بعد موت أبيه الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن أمير المؤمنين كان حبلا من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين أراد أن يقطعه؛ وكان دون من قبله، وخيرا مما يأتي بعد، ولا أزكّيه عند ربه وقد صار إليه؛ فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبه فبذنبه؛ وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا أني على طلب علم؛ وعلى رسلكم «3» إذا كره الله شيئا غيره؛ وإذا أحب شيئا يسّره. وخطبة ليزيد أيضا الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، اصطفاه لوحيه، واختاره لرسالته، بكتاب فصّله وفضّله، وأعزّه وأكرمه، ونصره وحفظه؛ ضرب فيه الأمثال، وحلّل فيه الحلال وحرّم فيه الحرام وشرع فيه الدين إعذارا وإنذارا: لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل، ويكون بلاغا لقوم عابدين. أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدأ الأمور بعلمه وإليه يصير معادها،

خطب بني مروان

وانقطاع مدتها، وتصرم دارها. ثم إني أحذّركم الدنيا. فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وأينعت بالفاني، وتحببت بالعاجل. لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجيعتها، أكّالة عوّالة غرّارة. لا تبقي على حال. ولا يبقى لها حال. لن تعدو الدنيا- إذا تناهت إلى أمنّية أهل الرغبة فيها. والرضا بها- أن تكون كما قال الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً «1» . نسأل الله ربّنا وإلهنا وخالقنا ومولانا أن يجعلنا وإياكم من فزع يومئذ آمنين. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «2» . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «3» . خطب بني مروان خطبة عبد الملك بن مروان وكان عبد الملك بن مروان يقول في آخر خطبته: اللهم إن ذنوبي قد عظمت وجلّت أن تحصى، وهي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني. وخطب بمكة شرفها الله تعالى فقال في خطبته: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف- يعني عثمان- ولا بالخليفة المداهن يعني معاوية- ولا بالخليفة المأفون- يعني يزيد. قال أبو إسحاق النظام: أما والله لولا نسبك من هذا المستضعف، وسببك من

خطبة الوليد بن عبد الملك

هذا المداهن؛ لكنت منها أبعد من العيّوق «1» . والله ما أخذتها بوراثة، ولا سابقة ولا قرابة، ولا بدعوى شورى، ولا بوصية. خطبة الوليد بن عبد الملك لما مات عبد الملك بن مروان، رجع الوليد من دفن عبد الملك لم يدخل منزله حتى دخل المسجد، ونادى في الناس: الصلاة جامعة! فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، لا مؤخّر لما قدّم الله، ولا مقدّم لما أخّر الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه من الموت، موت وليّ هذه الأمة، ونحن نرجو أن يصير إلى منازل الأبرار، للذي كان عليه من الشدة على المريب، واللين على أهل الفضل والدين، مع ما أقام من منار الإسلام وأعلامه، وحجّ هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشنّ الغارات على أعداء الله؛ فلم يكن فيها عاجزا، ولا وانيا، ولا مفرطا؛ فعليكم أيها الناس بالطاعة ولزوم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الفذ» ، وهو من الجماعة أبعد واعلموا أنه من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل. وخطب سليمان بن عبد الملك فقال: الحمد لله، ألا إنّ الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، تضحك باكيا، وتبكي ضاحكا، وتخيف آمنا، وتؤمّن خائفا، وتفقر مثريا، وتثري مقترا ميّالة، غرارة، لعّابة بأهلها. عباد الله، فاتخذوا كتاب الله إماما، وارتضوا به حكما. واجعلوه لكم قائدا. فإنه ناسخ لما كان قبله، ولم ينسخه كتاب [بعده] واعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس «3» . وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه قال العتبي: أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: أيها الناس

وخطبة له رحمه الله

أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، وأصلحوا آخرتكم تصلح دنياكم، وإن امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق في الموت. وخطبة له رحمه الله وإن لكل سفر زادا لا محالة. فتزودوا [لسفركم] من دنياكم لآخرتكم التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فرهبوا ورغبوا. ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم. فإنه ما بسط أمل من لا يدري لعله لا بصبح بعد إمسائه أو يمسي بعد إصباحه. وربما كانت بين ذلك خطرات المنايا، وإنما يطمئن إلى الدنيا من أمن عواقبها. فإنّ من يداوي من الدنيا كلما أصابته جراحة من ناحية أخرى، فكيف يطمئن إليها؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي؛ فنخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق. ثم بكى وبكى الناس معه. خطبة لعمر بن عبد العزيز أيضا شبيب بن شيبة عن أبي عبد الملك قال كنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فكنا نقوم لهم ونبدؤهم بالسلام؛ فخرج علينا عمر رضي الله عنه في يوم عيد وعليه قميص كتان وعمامة على قلنسوة لاطئة «1» ، فمثلنا بين يديه وسلمنا عليه، فقال: مه! أنتم جماعة وأنا واحد؛ السلام عليّ والردّ عليكم، وسلم، فرددنا، وقرّبت له دابته، فأعرض عنها، ومشى ومشينا حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: وددت أنّ أغنياء الناس اجتمعوا فردّوا على فقرائهم، حتى نستوي نحن بهم، وأكون أنا أولهم. ثم قال: مالي وللدنيا؟ أم مالي ولها وتكلم فأرقّ حتى بكى الناس جميعا يمينا وشمالا، ثم قطع كلامه ونزل؛ فدنا منه رجاء بن حيوة

خطبة عبد الله بن الأهتم بين يدي عمر بن عبد العزيز

فقال له: يا أمير المؤمنين، كلمت الناس بما أرقّ قلوبهم وأبكاهم، ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه؛ فقال: يا رجاء، اني أكره المباهاة. خطبة عبد الله بن الأهتم بين يدي عمر بن عبد العزيز ودخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز مع العامة، فلم يفجأ إلا وهو قائم بين يديه يتكلم؛ فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإن الله خلق الخلق غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم؛ والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشر تلك المنازل؛ أهل الوبر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاهة عيشها؛ ميّتهم في النار وحيهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه والمزهود فيه؛ فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، بعث إليهم رسولا منهم عزيزا عليه ما عنتوا حريصا عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم؛ فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق، لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار؛ فلما أمر بالعزيمة أسفر لأمر الله لونه، فأفلج الله حجته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته. وفارق الدنيا تقيا صلّى الله عليه وسلم. ثم قام من بعده أبو بكر رضي الله عنه، فسلك سنّته وأخذ سبيله؛ وارتدّت العرب فلم يقبل منهم إلا الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبله؛ فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران في شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الباب الذي خرجوا منه، وقرّرهم بالأمر الذي نفروا منه؛ وقد كان أصاب من مال الله بكرا «1» يرتوي عليه. وحبشية ترضع ولدا له؛ فرأى ذلك غصّة في حلقه عند موته، وثقلا على كاهله، فأدّاه إلى الخليفة من بعده وبريء إليهم منه، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه. ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فمصر الأمصار، وخلط الشدة

وخطبة أيضا لعمر بن عبد العزيز

باللين، وحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، واعد للأمور أقرانها وللحرب آلتها، فلما أصابه قنّ «1» المغيرة بن شعبة، أمر ابن العباس أن يسأل الناس هل يثبتون قاتله؟ فلما قيل له قنّ المغيرة استهل «2» بحمد الله أن لا يكون أصابه من له حق في الفيء، فيستحل دمه بما استحل من حقه؛ وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثمانين ألفا فكسر بها رباعه «3» ، وكره بها كفالة أهله وولده، فأدّى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه. ثم إنّا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوج، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها، فلما وليتها ألقيتها وأحببت لقاء الله وما عنده؛ فالحمد لله الذي جلا بك حوبتنا، وكشف بك كربتنا. امض ولا تلتفت، فإنه لا يغني عن الحق شيء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين وللمؤمنات. ولما قال: ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوع. سكت الناس كلهم غير هشام، فإنه قال: كذبت! وخطبة أيضا لعمر بن عبد العزيز قال أبو الحسن: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة «4» خطبة لم يخطب بعدها حتى مات، رحمه الله. حمد الله وأثني عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى؛ وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف اليوم وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلّفها من بعدكم الباقون [كذلك] حتى تردوا إلى خير الوارثين؛ ثم إنكم في كل يوم تشيّعون غاديا ورائحا

خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد

إلى الله، قد قضى نحبه، وبلغ أجله، ثم تغيّبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسّد ولا ممهّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب وواجه الحساب، [مرتهنا بعمله] ، غنيا عما ترك، فقيرا إلى ما قدّم؛ وايم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم [من الذنوب] أكثر مما عندي، فأستغر الله لي ولكم، وما تبلغنا [عن أحد منكم] حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا ووددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم؛ وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه؛ ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى عن معصيته. ثم بكى، فتلقى دموع عينيه بردائه؛ فلم ير بعدها على تلك الأعواد حتى قبضه الله تعالى. خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد بقيّ بن مخلد قال: حدّثني خليفة بن خياط، قال: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدّثني إبراهيم بن إسحق أن يزيد بن الوليد لما قتل الوليد بن يزيد قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، إني ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك؛ وما بي إطراء نفسي ولا تزكية عملي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى كتابه وسنة نبيه، حين درست «1» معالم الهدى، وطفيء نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحيل الحرمة، والراكب البدعة والمغيّر السنة، فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقتلع، على كثير من ذنوبكم وقسوة من قلوبكم. وأشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه، فيجيبه من أجابه منكم؛ فاستخرت الله في

خطب بني العباس

أمري، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي؛ وهو ابن عمي في نسبي، وكفئي في حسبي؛ فأراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، ولاية من الله وعونا بلا حول منا ولا قوة، ولكن بحول الله وقوته وولايته وعونه. أيها الناس. إن لكم عليّ إن وليت أموركم أن لا أضع لبنة على لبنة ولا حجرا على حجر، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد فقره [وخصاصة أهله] ، وأقيم مصالحه، بما يحتاجون إليه ويقوون به؛ فإن فضل شيء رددته إلى البلد الذي يليه وهو من أحوج البلدان إليه، حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين وتكونوا فيه سواء، ولا أجمّركم «1» في بعوثكم فتفتقدوا وتفتتن أهاليكم؛ فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم؛ وإن رأيتم أحدا أقوى عليها مني فأردتم بيعته، فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. خطب بني العباس العتبي قال: قيل لمسلمة بن هلال العبدي: خطبنا جعفر بن سليمان الهاشمي خطبة لم يسمع أحسن منها، وما درينا أوجهه كان أحسن أم كلامه! قال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون، وبلسان النّبوة ينطقون. خطبة أبي العباس السفاح بالشام خطب أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي، لما قتل مروان بن محمد قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ «2» نكص بكم يا أهل الشام آل حرب وآل مروان، يتسكعون بكم الظلم، ويتهوّرون بكم مداحض الزلق، يطئون بكم حرم الله وحرم رسوله. ماذا يقول

خطب المنصور

زعماؤكم غدا؟ يقولون: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ «1» إذا يقول الله عز وجل: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ «2» أما أمير المؤمنين فقد ائتنف «3» بكم التوبة، واغتفر لكم الزّلة، وبسط لكم الإقامة، وعاد بفضله على نقصكم وبحلمه على جهلكم، فلتفرخ روعكم ولتطمئن به داركم، وليقطع مصارع أوائلكم فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا. خطب المنصور خطب أبو جعفر المنصور، واسمه عبد الله بن محمد بن علي. لما قتل الأمويين، فقال: أحرز لسان رأسه. انتبه امرؤ لحظه. نظر امرؤ في يومه لغده؛ فمشى القصد وقال الفصل، وجانب الهجر. ثم أخذ بقائم سيفه، فقال: أيها الناس، إن بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه؛ فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به: فإنما بعد الوعيد الإيقاع وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله. خطبة المنصور حين خروجه إلى الشام شنشنة «4» أعرفها من أخزم ... من يلق أبطال الرجال يكلم مهلا مهلا زوايا الإرجاف «5» وكهوف النفاق عن الخوض فيما كفيتم، والتخطي إلى ما حذّرتم، قبل أن تتلف نفوس، ويقلّ عدد، ويدول عز؛ وما أنتم وذاك؟ ألم تجدوا ما وعد ربّكم من إيراث المستضعفين من مشارق الأرض ومغاربها حقا؟ والجحد «6»

وخطب أيضا

الجحد، ولكن خب كامن، وحسد مكمد، فبعدا للقوم الظالمين. وخطب أيضا قال يعقوب بن السكيت: خطب أبو جعفر المنصور يوم جمعة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس اتقوا الله ... فقام إليه رجل فقال: أذكّرك من ذكرتنا به يا أمير المؤمنين. قال أبو جعفر: سمعا سمعا لمن فهم عن الله وذكّر به، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم؛ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. وأما أنت- والتفت إلى الرجل فقال- والله ما الله أردت بها، ولكن ليقال: قام فقال فعوقب فصبر! وأهون بها! [ويلك] لو كانت العقوبة [فاهتبلها إذ عفرت] ؛ وأنا أنذركم أيها الناس أختها؛ فإن الموعظة علينا نزلت، وفينا انبثت. ثم رجع إلى موضعه من الخطبة. وخطبة أيضا للمنصور بمكة وخطب بمكة فقال أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده؛ وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم؛ فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني؛ فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» أن يوفقني للرساد وللصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وخطبة لسليمان بن علي

وخطبة لسليمان بن علي وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ «1» قضاء مبرم، وقول فصل، ما هو بالهزل؛ الحمد لله الذي صدق عبده، وأنجز وعده، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة غرضا، والفيء إرثا، والدين هزوا، وجعلوا القرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكائن ترى من بئر معطّلة وقصر مشيد؛ ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد؛ أمهلوا والله حتى نبذوا الكتاب، واضطهدوا العترة، ونبذوا السّنة، [وعندوا] واعتدوا، واستكبروا، وخاب كل جبار عنيد ثم أخذهم، فهل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ خطبة عبد الملك بن صالح بن علي أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «2» يا أهل الشام: إن الله وصف إخوانكم في الدين وأشباهكم في الأجسام، فحذرهم نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم فقال: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «3» . فقاتلكم الله أني تصرفون! جثث مائلة، وقلوب طائرة، تشبّون الفتن وتولون الدّبر إلا عن حرم الله فإنه دريئتكم، وحرم رسوله فإنه مغزاكم؛ أما وحرمة النبوة والخلافة، لتنفرن خفافا وثقالا، أو لأوسعنّكم إرغاما ونكالا. وخطب صالح بن علي يا أعضاد النفاق وعبد الضلالة، أغركم لين إبساسي وطول إيناسي «4» ؛ حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حدّ، وفتور جدّ، وخور قناة! كذبت الظنون؛ إنها العترة

وخطب داود بن علي بالمدينة

بعضها من بعض، فإذا قد استوليتم العافية فعندي فصال وفطام وسيف يقدّ الهام، وإني أقول: أغرّكم أنّي بأكرم شيمة ... رفيق وأنّي بالفواحش أخرق ومثلي إذا لم يجز أحسن سعيه ... تكلم نعماه بديها فتنطق لعمري! لقد فاحشتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالفحش أرفق وخطب داود بن علي بالمدينة فقال: أيها الناس. حتّام يهتف بكم صريخكم؟ أما آن لراقدكم أن يهب من نومه؟ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» ! أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال؟ هيهات منكم وكيف بكم والسوط في كفي والسيف مشهر: حتى يبيد قبيلة فقبيلة ... ويعضّ كلّ مثقف بالهام «2» ويقمن ربات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام «3» خطبة داود بن علي بمكة وخطب داود بن علي بمكة: شكرا شكرا! والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهرا ولا لنبتني فيكم قصرا، أظنّ عدوّ الله أن لن يظفر به، إذ مدّ له في عنانه، حتى عثر في فضل زمامه! فالآن عاد الأمر في نصابه، وطلعت الشمس من مشرقها، والآن تولّى القوس باريها، وعادت النبل إلى النّزعة، ورجع الأمر إلى مستقرّه، في أهل بيت نبيكم أهل الرأفة والرحمة، فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، ولا تجعلوا النّعم التي أنعم الله عليكم سببا إلى أن تتيح هلكتكم، وتزيل النّعم عنكم. خطبة المهدي الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه، أحمده على آلائه،

وأمجّده لبلائه، وأستعينه وأومن به، وأتوكل عليه توكّل راض بقضائه، وصابر لبلائه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه؛ أرسله بعد انقطاع الرجاء، وطموس العلم، واقتراب من الساعة، إلى أمّة جاهلية، مختلفة أمية، أهل عداوة وتضاغن، وفرقة وتباين، قد استهوتهم شياطينهم، وغلب عليهم قرناؤهم، فاستشعروا الرّدى، وسلكوا العمى، يبشّر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها، وينذر من عصاه بالنار وأليم عقابها لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» . أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة؛ وأحثّكم على إجلال عظمته، وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرّب من رحمته وينجي من سخطه، وينال به ما لديه من كريم الثواب؛ وجزيل المآب؛ فاجتنبوا ما خوّفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب؛ يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار يوم لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «2» ؛ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ «3» ؛ يوم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ «4» ؛ يوم لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً؛ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ «5» ؛ فإن الدنيا دار غرور، وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلّب وانتقال؛ قد أفنت من كان قبلكم، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم؛ من ركض إليها صرعته، ومن وثق بها خانته؛ ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذتله؛ عزّها وغناها فقر؛ والسعيد من تركها، والشقيّ فيها من آثرها،

خطبة هارون الرشيد

والمغبون فيها من باع حظّه من دار آخرته بها؛ فالله عباد الله والتوبة مقبولة، والرحمة مبسوطة؛ وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم «1» ، وتندموا فلا تقالون بالندم، في يوم حسرة وتأسّف وكآبة وتلهّف؛ يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام، إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله؛ يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «2» . أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم! بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ » . أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه، وأرضى لكم طاعة الله، وأستغفر الله لي ولكم. خطبة هارون الرشيد الحمد لله؛ نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقا، ونتوكل عليه مفوّضين إليه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. بعثه الله على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وإدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة؛ بشيرا بالنعيم المقيم؛ ونذيرا بين يدي عذاب أليم، فبلّغ الرسالة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله، فأدّى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين؛ فعلى النّبي من الله صلاة ورحمة وسلام. أوصيكم عباد الله بتقوى الله؛ فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزا بالجنة، ونجاة من النار؛ وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار، وتبلى فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن، ويوم التلاقي ويوم التنادي، يوم لا يستعتب من سيئة ولا يزداد من حسنة؛ يَوْمَ الْآزِفَةِ، إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما

لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ؛ ... وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ «1» . عباد الله؛ إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى؛ حصّنوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة؛ فقد جاء في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا زكاة له» . إنكم سفر مجتازون وأنتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء؛ فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة، وإلى الرحمة بالتقوى، وإلى الهدى بالأمانة، فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين، ومغفرته للتائبين، وهداه للمنيبين؛ قال الله عز وجل وقوله الحق: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «2» . وقال: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى . وإياكم والأماني، فقد غرّت وأوردت وأبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا «3» التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون؛ فأخبركم ربّكم عن المثلات فيهم، وصرّف الآيات، وضرب الأمثال، فرغّب بالوعد وقدّم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم، ومن بين أظهركم، لا تدفعون عنهم، ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فأسلمتهم إلى أعمالهم عند الموقف والحساب والعقاب لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «4» . إنّ أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله؛ يقول الله عز وجل: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «5» . أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم، بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «6» . آمركم بما أمركم الله به، وأنهاكم عما نهاكم

خطب المأمون

الله عنه، وأستغفر الله لي ولكم. [خطب المأمون] خطبة المأمون في يوم الجمعة الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبه على خلقه؛ أحمده وأستعينه؛ وأومن به وأتوكل عليه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجّز لوعده، والخوف لوعيده؛ فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه. فاتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم؛ وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم ويفنى، وترحلوا عن الدنيا، فقد جدّ بكم، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم، وكونوا كقوم صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا؛ فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثا، ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة الواحدة لجديرة بقصر المدّة، وإن غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار لجدير بسرعة الأوبة، وإن قادما يحل بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدّة، فاتقى عبد ربه ونصح نفسه وقدّم توبته وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكّل به يزيّن له المعصية ليركبها، ويمنّيه التوبة ليسوّفها، حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤدّيه أيامه إلى شقوة؛ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربه غفلة، ولا يحل به بعد الموت فزعة، إنه سميع الدعاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فعّال لما يريد. خطبة المأمون يوم الأضحى قال بعد التكبير والتحميد: إن يومكم هذا يوم أبان الله فضله، وأوجب تشريفه، وعظّم حرمته، ووفّق له من خلقه صفوته، وابتلى فيه خليله، وفدى فيه من الذبح

وخطبة المأمون في الفطر

العظيم نبيّه، وجعله خاتم الأيام المعلومات من العشر، ومقدّم الأيام المعدودات من النفر «1» ، يوم حرام من أيام عظام في شهر حرام، يوم الحج الأكبر، يوم دعا الله إلى مشهده، ونزل القرآن العظيم بتعظيمه، قال الله عز وجل: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ «2» فتقرّبوا إلى الله في هذا اليوم بذبائحكم، وعظّموا شعائر الله، واجعلوها من طيّب أموالكم، وبصحة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ «3» . ثم التكبير والتحميد، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم والوصية بالتقوى ثم ذكر الموت، ثم قال: وما من بعده إلا الجنة أو النار، عظم قدر الدارين، وارتفع جزاء العملين وطالت مدة الفريقين؛ الله الله، فوالله إنه الجدّ لا الّلعب، والحقّ لا الكذب. وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب. فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كلّه في الجنة، والشرّ كله في النار. وخطبة المأمون في الفطر قال بعد التكبير ولتحميد: ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنّة، وابتهال ورغبة، يوم ختم الله به صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله [خاتمة الشهر، و] أول أيام شهور الحج، وجعله معقّبا لمفروض صيامكم، ومتنفّل قيامكم، أحلّ الله لكم في الطعام، وحرم عليكم فيه الصيام، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه بتفريطكم. فإنه يقال: لا كبير مع ندم واستغفار، ولا صغير مع تماد وإصرار.

ثم كبّر وحمد وذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأوصى بالبر والتقوى، ثم قال: اتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم ولم يحضر الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عثرة، ولا تحظر قبله توبة؛ واعلموا أنه لا شيء [قبله إلا دونه، ولا شيء] بعده إلا فوقه: ولا يعين على جزعه وعلزه «1» وكربة، وعلى القبر وظلمته ووحشته وضيقه وهول مطلعه ومسألة ملكيه- إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يقبل منه؛ فالله الله عباد الله، كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم، إلا هذا الأجل المبسوط لكم؛ فاحذروا ما حذركم الله فيه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به وما يملي في صحيفته الحافظة لما عليه وله؛ فقد حكى الله لكم ما قال المفرّطون عندما طال إعراضهم عنها؛ قال جل ذكره: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «2» . وقال: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ «3» ! ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذّر منها وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها، ذمّ كتاب الله لها والنهي عنها؛ فإنه يقول تبارك وتعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ «4» . وقال: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «5» . فانتفعوا

خطبة عبد الله بن الزبير حين قدم بفتح أفريقية

بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها وأدركوا الجنة بما يتركون منها. خطبة عبد الله بن الزبير حين قدم بفتح أفريقية قدم عبد الله بن الزبير على عثمان بن عفان بفتح إفريقية، فأخبره مشافهة وقص عليه كيف كانت الوقعة، فأعجب عثمان ما سمع منه، فقال له: يا بنيّ، أتقوم بمثل هذا الكلام على الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهيب لك مني لهم! فقام عثمان في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم إفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم خبرها إن شاء الله، وكان عبد الله بن الزبير إلى جانب المنبر، فقام خطيبا، وكان أول من خطب إلى جانب المنبر، فقال: الحمد لله الذي ألفّ بين قلوبنا وجعلنا متحابين بعد البغضة، الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه؛ له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله، انتخب محمدا صلّى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه، وائتمنه على وحيه، واختار له من الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه ومحبّته، فآمنوا به وعزّزوه ووقّروه وجاهدوا في الله حق جهاده، فاستشهد في الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي، لا تأخذهم في الله لومة لائم. أيها الناس، رحمكم الله! إنا خرجنا للوجه الذي علمتم، فكنا مع وال حافظ، حفظ وصية أمير المؤمنين، كان يسير بنا الأبردين «1» ، ويخفض «2» بنا في الظهائر، ويتخذ الليل جملا، يعجل الرّحلة من المنزل الجدب، ويطيل اللبث في المنزل الخصب، فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربنا، حتى انتهينا إلى إفريقية، فنزلنا منها حيث يسمعون صهيل الخيل، ورغاء الإبل، وقعقعة السلاح فأقمنا أياما نجمّ كراعنا «3» !

خطبة للامام علي كرم الله وجهه

ونصلح سلاحنا؛ ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخول فيه، فأبعدوا منه، فسألناهم الجزية عن صغار أو الصلح، فكانت هذه أبعد؛ فأقمنا عليهم ثلاث عشرة ليلة، نتأنّاهم وتختلف رسلنا إليهم، فلما يئس منهم، قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، وذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب، ثم نهضنا إلى عدونا وقاتلناهم أشدّ القتال يومنا ذلك، وصبر فيه الفريقان، فكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد الله فيهم رجالا من المسلمين، فبتنا وباتوا وللمسلمين دويّ بالقرآن كدويّ النحل، وبات المشركون في خمورهم وملاعبهم؛ فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس، فزحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره وأنزل علينا نصره، ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، وفيئا واسعا، بلغ فيه الخمس خمسمائة ألف؛ فصفق «1» عليها مروان بن الحكم، فتركت المسلمين قد قرت أعينهم وأغناهم النفل، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين أبشّره وإياكم بما فتح الله من البلاد، وأذلّ من الشّرك؛ فاحمدوا الله عباد الله على آلائه وما أحل بأعدائه من بأسه الذي يردّ عن القوم المجرمين. ثم سكت فنهض إليه أبوه الزبير فقبل بين عينيه وقال: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. يا بنّي: ما زلت تنطق بلسان أبي بكر حتى صمتّ. خطبة للامام علي كرم الله وجهه جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال: يا أمير المؤمنين، صف لنا ربنا، لنزداد له محبة، وبه معرفة. فغضب عليّ كرّم الله وجهه، ثم نادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إليه حتى غص المسجد بأهله؛ ثم صعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم صلى على النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: والحمد لله الذي لا يفره المنع، ولا يكديه الإعطاء، بل كل معط ينقص سواه؛

هو المنان بفرائد النعم، وعوائد المزيد؛ وبجوده ضمنت عياله «1» الخلق، ونهج سبيل الطلب للراغبين إليه، وليس بما يسأل أجود منه بما لا يسأل، وما اختلف عليه دهر فتختلف فيه حال، ولو وهب ما انشقت عنه معادن الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، من فلزّ اللجين «2» ، وسبائك العقيان، وشذر الدر «3» ، وحصيد المرجان- لبعض عباده- ما أثر ذلك في ملكه ولا في جوده ولا أنفذ ذلك سعة ما عنده، فعنده من الأفضال ما لا ينفده مطلب وسؤال، ولا يخطر لكم على بال؛ لأنه الجواد الذي لا ينقصه المواهب، ولا يبرمه إلحاح الملحين بالحوائج وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، فما ظنّكم بمن هو كذا ولا هكذا غيره، سبحانه وبحمده. أيها السائل، أعقل ما سألتني عنه «4» ، ولا تسأل أحدا بعدي؛ فإني أكفيك مئونة الطلب، وشدة التعمق في المذهب؛ وكيف يوصف الذي سألتني عنه، وهو الذي عجزت الملائكة على قربهم من كرسي كرامته، وطول ولهم إليه، وتعظيمهم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوته- أن يعلموا من علمه إلّا ما علمهم، وهو من ملكوت العرش بحيث هم من معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. فمدح الله اعترافهم بالعجز عما لم يحيطوا به علما، وسمّي تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه رسوخا؛ فاقتصر على هذا ولا تقدّر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين؛ واعلم أن الله الذي لم يحدث فيمكن فيه التغير والانتقال، ولم يتغير في ذاته بمرور الأحوال. ولم يختلف على تعاقب الأيام والليالي- هو الذي خلق الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه من خالق كان قبله. بل أرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ربوبيته مما نطقت به آثار حكمته، واضطرار الحاجة من الخلق إلى أن يفهمهم مبلغ قوّته- ما دلنا بقيام الحجة له بذلك علينا على معرفته.

خطبة عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل المصعب

ولم تحط به الصفات بإدراكها إياه بالحدود متناهيا، وما زال إذ هو الله الذي ليس كمثله شيء عن صفة المخلوقين متعاليا، انحسرت العيون عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا، وبالذات التي لا يعلمها إلا هو عند خلقه معروفا؛ وفات لعوّه عن الأشياء مواقع وهم المتوهمين؛ وليس له مثل فيكون بالخلق مشبها، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأنداد منزّها، وكيف يكون من لا يقدر قدره مقدرا في رويّات الأوهام، وقد ضل في إدراك كيفيته حواسّ الأنام: لأنه أجل من أن تحدّه ألباب البشر بنظير، فسبحانه وتعالى عن جهل المخلوقين وسبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين «1» . ألا وإن لله ملائكة صلّى الله عليه وسلم. لو أن ملكا هبط منهم إلى الأرض لما وسعته لعظم خلقه وكثرة أجنحته؛ ومن ملائكته من سد الآفاق بجناح من أجنحته دون سائر بدنه؛ ومن ملائكته من السموات إلى حجزته «2» وسائر بدنه في جرم الهوام الأسفل، والأرضون إلى ركبته ومن ملائكته من لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يصفوه ما وصفوه، لبعد ما بين مفاصله، ولحسن تركيب صورته؛ وكيف يوصف من سبعمائة عام مقدار ما بين منكبيه إلى شحمة أذنيه؟ ومن ملائكته من لو ألقيت السّفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين؛ فأين أين بأحدكم؟ وأين أين أن يدرك ما لا يدرك؟ خطبة عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل المصعب صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم سكت؛ فجعل لونه يحمرّ مرة ويصفر مرة؛ فقال رجل من قريش لرجل إلى جانبه: ماله لا يتكلم؟ فوالله إنه للبيب الخطباء! قال: لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب، فيشتد ذلك عليه، وغير ملوم! ثم تكلم فقال: الحمد لله، له الخلق والأمر والدنيا والآخرة؛ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك

خطب زياد

ممّن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء. أما بعد: فإنه لم يعزّ الله من كان الباطل معه، وإن كان معه الأنام طرّا؛ ولم يذل من كان الحقّ معه، وإن كان فردا. ألا وإن خبرا من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا، فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه، ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصبر وكريم العزاء؛ وأما الذي أفرحنا فإن قتل المصعب له شهادة ولنا ذخيرة، أسلمه النّعام المصلم «1» الآذان؛ ألا وإنّ أهل العراق باعوه بأقل من الثمن الذي الذي كانوا يأخذون منه؛ فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه، وكانوا الخيار الصالحين. وإنا والله لا نموت حتفا، ولكن قعصا «2» بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف؛ ليس كما يموت بنو مروان! ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يبيد ذكره. ولا يزول سلطانه؛ فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها أخذ الأشر البطر؛ وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرق المهين ثم نزل. [خطب زياد] خطبة زياد البتراء قال أبو الحسن المدائني عن مسلمة بن محارب عن أبي بكر الهذلي قال: قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان وضم إليه خراسان وسجستان؛ والفسق بالبصرة ظاهر فاش. فخطب خطبة بتراء، لم يحمد الله فيها؛ وقال غيره بل قال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا. أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والعمى الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير؛ كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا بما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب العظيم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول.

أتكونون كمن طرفت «1» عينيه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من تركتكم هذه المواخير «2» المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل. ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج «3» الليل وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة، وباعدتم الدّين؛ تعتذرون بغير العذر؛ وتغضون على المختلس؛ كلّ امريء منكم يذبّ عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا؛ ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا «4» وراءكم، كنوسا في مكانس «5» الرّيب؛ حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله،: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم؛ حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد! أو تستقيم لي قناتكم. إنّ كذبة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي. من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له؛ فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم؛ وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا لم تكم وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنّاه فيه حيا. فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم، أكفّ يدي ولساني؛ ولا يظهرنّ من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامّتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين قوم إحن» فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي؛ فمن كان محسنا فليزدد في

إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته؛ إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلّ من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته. فإن فعل ذلك لم أنظره؛ فاستأنفوا أموركم، واستعينوا على أنفسكم؛ فرب مبتئس بقدومنا سيسرّ؛ ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس: إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة؛ نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بقيء الله الذي خوّلنا؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا؛ ولكم علينا العدل فيما ولينا؛ فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا؛ واعلموا أني مهما أقصّر عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقا بلبل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبّانه، ولا مجمّرا لكم بعثا؛ فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدّبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون؛ ومتى يصلحوا تصلحوا؛ ولا تشربوا قلوبكم بغضهم؛ فيشتد لذلك أسفكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم؛ مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم. أسأل الله أن يعين كلا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم أمرا فأنفذوه على أذلاله «1» ، وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي. ثم نزل. فقام إليه عبد الله بن الأهتم، فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب! قال له: كذبت! ذاك داود صلّى الله عليه وسلم. فقام الأحنف بن قيس فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلي. قال له زياد: صدقت! فقام أبو بلال [مرداس بن أديّة] وهو يهمس ويقول: أنبأنا الله تعالى بخلاف ما قلت؛ قال الله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «2» . فسمعها زياد، فقال: إنا لا نبلغ من أصحابك ما

وخطبة لزياد

تريد حتى نخوض إليهم الباطل خوضا. وخطبة لزياد استوصوا بثلاث منكم خيرا: الشريف، والعالم، والشيخ، فوالله لا يأتيني شيخ بحدث استخفّ به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالم بجاهل استخفّ به إلا أثكلت به ولا يأتيني شريف بوضيع استخفّ به إلا ضربته. وخطبة لزياد خطب زياد على المنبر فقال: أيها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تستمعون منا، فإن الشاعر يقول: اعمل بقولي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري وخطبة لزياد العتبي قال: لما شهدت الشهود لزياد قام في أعقابهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهدت الشهود بما سمعتم، فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيّعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو كافل مشكور. خطبة لجامع المحاربي وكان شيخا صالحا خطيبا لسنا، وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط: بنيتها في غير بلدك، وأورثتها غير ولدك! وشكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق ونقم «1» مذهبهم وتسخّط طريقتهم، فقال له

جامع: أما إنهم لو أحبّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك «1» لنسبك، ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف! قال له: أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج: الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله. وغضب الحجاج فقال: يا هناه، إنك من محارب. فقال جامع: وللحرب سمّينا وكنّا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا والبيت للخضري. قال الحجاج: والله لقد هممت أن أقطع لسانك فأضرب به وجهك! قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله! قال: أجل. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع «2» ، فمر بين صفوف خيل الشام حتى جاوز إلى خيل أهل العراق- وكان الحجاج لا يخلطهم- فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق، وتميم العراق، وأزد العراق؛ فلما رأوه اشرأبّوا «3» إليه وبلغهم خروجه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك! فقال: ويحكم! عمّوه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التّعادي ما عداكم، فإذا ظفرتم [به] تراجعتم وتعاقبتم. أيها التميمي، هو أعدى لك من الأزدي؛ وأيها القيسي، هو أعدى لك من التّغلبيّ؛ وليس يظفر بمن ناوأه منك إلا بمن بقي معه. وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث.

خطب الحجاج

[خطب الحجاج] خطبة للحجاج بن يوسف خطب الحجاج فقال: اللهم أرني الغيّ غياّ فأجتنبه، وأرني الهدى هدى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فاضلّ ضلالا بعيدا! والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء. وخطبة للحجاج قال الهيثم بن عدي: خرج الحجاج بن يوسف يوما من القصر بالكوفة، فسمع تكبيرا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق ومساويء الأخلاق، وبني اللكيعة «1» ، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفقه «2» بالقرقر «3» إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله وإنما يراد به الشيطان؛ وإنما مثلي ومثلكم ما قال ابن براقة الهمداني: وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم؟ متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم! «4» أما والله لا تقرع عصا بعصا إلا جعلتها كأمس الدابر. «5» خطبة الحجاج بعد دير الجماجم خطب أهل العراق فقال: يأهل العراق، إن الشيطان استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف «6» : ثم أفضى إلى المخانخ «7» والصمائخ «8» ، ثم ارتفع فعشش؛ ثم باض وفرخ، فحشاكم شقاقا ونفاقا، أشعركم خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه،

ومؤامرا تستشيرونه، فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو يردكم إيمان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر؛ وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله تعالى يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا؛ وتنهزمون سراعا؛ ثم يوم الزاوية «1» ؛ وما يوم الزاوية؟ بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليّكم عنكم؛ إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها؛ لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم يوم دير الجماجم: وما دير الجماجم؟ بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله «2» ، ويذهل الخليل عن خليله. يأهل العراق والكفرات بعد الفجرات؛ والغدرات بعد الخترات، والنّزوة بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم؛ لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة! يأهل العراق: هل استخفّكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزكم عاص أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع- إلا وثقتموه وآويتموه وعزّرتموه ونصرتموه ورضيتموه. يأهل العراق؛ هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو نعق ناعق، أو زفر زافر، إلا كنتم أتباعه وأنصاره. يأهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يأهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم «3» الذابّ عن فراخه؛ ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر ويكنّها من المطر، ويحميها من الضباب؛ ويحرسها من الذئاب؛ يأهل الشام، أنتم الجنّة والرداء، وأنتم العدة والحذاء.

وخطبة للحجاج

وخطبة للحجاج قال مالك بن دينار: غدوت للجمعة، فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج ثم قال: امرؤ حاسب نفسه؛ امرؤ راقب ربه؛ امرؤ زوّر «1» عمله امرؤ فكر فيما يقرؤه غدا في صحيفته ويراه في ميزانه: امرؤ كان عند همه آمرا، وعند هواه زاجرا؛ امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام «2» جمله، فإن قاده إلى حق تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفّه. إننا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار. خطبة الحجاج بالبصرة اتقوا الله ما استطعتم. فهذه لله وفيها مثوبة. ثم قال: «واسمعوا وأطيعوا» . فهذه لعبد الله وخليفة الله وحبيب الله عبد الملك بن مروان، والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد وأخذوا في باب غيره، لكانت دماؤهم لي حلالا من الله، ولو قتل ربيعة ومضر لكان لي حلالا. عذيري «3» من هذه الحمراء «4» ، يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول: يكون إلى أن يقع هذا خير. والله لأجعلنّهم كأمس الدابر؛ عذيري من عبد هذيل، إنه زعم أنه آمن عند الله، يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب؛ والله لو أدركته لقتلته. خطبة للحجاج بالبصرة حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله كفانا مئونة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا. مالي أرى علماءكم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون، وشراركم لا يتوبون؟ مالي أراكم تحرصون على ما كفيتم، وتضيّعون ما به

وخطبة للحجاج

أمرتم، إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء. ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس: الذين لا يقرؤن القرآن إلا هجرا «1» ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا «2» ؛ ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر؛ ألا وإن الآخرة أجل مستأخر يحكم فيه ملك قادر؛ ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم ملاقوه لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «3» ألا وإن الخير كلّه بحذافيره في الجنة؛ ألا وإن الشرّ كلّه بحذافيره في النار؛ ألا وإنّ من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرا يره وأستغفر الله لي ولكم. وخطبة للحجاج خطب الحجاج أهل العراق فقال: يأهل العراق إني لم أجد لكم دواء أدوى «4» لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب وفرحة القفل، فإنها تعقب راحة وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم ولا الرّاحة بكم؛ وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، أنا والله لرؤيتكم أكره، ولولا ما أريد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم ما حمّلت نفسي مقاساتكم والصبر على النظر إليكم؛ والله أسأل حسن العون عليكم! ثم نزل. خطبة الحجاج حين أراد الحج يأهل العراق، إني أردت الحج، وقد استخلفت عليك ابني محمدا، وما كنتم له بأهل. وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأنصار؛ فإنه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأنا. أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم! ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم. من إظهارها إلا خوفي، تقولون: لا أحسن الله له الصحابة! وإني أعجّل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة! ثم نزل.

خطبة للحجاج

خطبة للحجاج خرج الحجاج يريد العراق واليا عليها في اثنى عشر راكبا على النجائب «1» ، حتى دخل الكوفة [فجأة] حين انتشر النهار، وقد كان بشر بن مروان بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو ملثّم بعمامة خزّ، فقال: عليّ بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج، فهمّوا به، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد، قام، ثم كشف عن وجهه، ثم قال: أنا ابن جلا وطلاع الثّايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «2» صليب العود من سلفي رياح ... كنصل السيف وضّاح الجبين وماذا يبتغي الشّعراء مني ... وقد جاوزت حدّ الأربعين أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّذني مداورة الشّئون «3» وإني لا يعود إليّ قرني ... غداة العبء إلا في قرين أما والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله؛ وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها؛ وإني لأنظر الدّماء بين العمائم والّلحى تترقرق. قد شمّرت عن ساقها فشمّر «4» ثم قال: هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «5» ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم «6» ثم قال:

خطبة الحجاج لما مات عبد الملك

قد لفها الليل بعصلبيّ ... أروع خرّاج من الدويّ» مهاجر ليس بأعرابيّ ثم قال: قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... ما علّتي وأنا شيخ إد «2» والقوس فيها وتر عردّ ... مثل ذراع البكر أو أشدّ «3» إني والله يأهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوى الأخلاق، لا يغمز جانبي كتغماز التّين، ولا يقعقع «4» لي بالشنان «5» ؛ ولقد فررت عن ذكاء. وفتّشت عن تجربة، وأجريت إلى الغاية القصوى؛ وإنّ أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا وأشدّها مكسرا، فوجهني إليكم، ورماكم بي، فإنكم قد طالما أوضعتم «6» في الفتن وسننتم سنن الغيّ؛ وايم الله لألحونّكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة «7» ، ولأعصبنكم عصب السّلمة «8» ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، أما والله لا أعد إلا وفيت؛ ولا أخلق إلا فريت «9» ؛ فإياي وهذه الشفعاء، والزرافات والجماعات، وقالا وقيلا. وما يقولون؛ وفيم أنتم وذاك؟ والله لتستقيمنّ على طريق الحق، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا في جسده! من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه وانتهبت ماله وهدمت منزله. فشمّر الناس بالخروج إلى المهلب؛ فلما رأى المهلب ذلك قال: لقد ولي العراق خير ذكر. خطبة الحجاج لما مات عبد الملك قا خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

خطبة الحجاج

أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى نعى نبيّكم صلّى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» ؛ وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ «2» ؟ فمات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون، منهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان الشهيد المظلوم، ثم تبعهم معاوية؛ ثم وليكم البازل الذكر الذي جرّبته الأمور، وأحكمته التجارب مع الفقه وقراءة القرآن، والمروءة الظاهرة، واللين لأهل الحق، والوطء لأهل الزيغ؛ فكان رابعا من الولاة المهديين الراشدين؛ فاختار الله له ما عنده، وألحقه بهم، وعهد إلى شبهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته؛ فاسمعوا له وأطيعوه. أيها الناس؛ إياكم والزّيغ «3» ؛ فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله، ورأيتم سيرتي فيكم، وعرفت خلافكم، وقبلتكم على معرفتي بكم؛ ولو علمت أنّ أحدا أقوى عليكم مني، أو أعرف بكم، ما وليتكم؛ فإياي وإياكم؛ من تكلم قتلناه؛ ومن سكت مات بدائه غما! ثم نزل. خطبة الحجاج لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد: أيها الناس، محمّدان في يوم واحد! أما والله لقد كنت أحبّ أنهما معي في الدنيا مع ما أرجو لهما من ثواب الله في الآخرة؛ وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى، والجديد مني ومنكم أن يلي، والحيّ مني ومنكم أن يموت؛ وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها؛ فتأكل من لحومنا؛ وتشرب من دمائنا؛ كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها؛ ثم يكون كما قال الله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ «4» . ثم تمثل بهذين البيتين:

خطبة للحجاج

عزائي نبيّ الله من كلّ ميّت ... وحسبي ثواب الله من كلّ هالك إذا ما لقيت الله عني راضيا ... فإنّ سرور النفس فيما هنالك خطب الحجاج في يوم جمعة فأطال الخطبة؛ فقام إليه رجل فقال: إن الوقت لا ينتظرك، والرب لا يعذرك! فأمر به إلى الحبس! فأتاه آل الرجل وقالوا: إنه مجنون! فقال: إن أقرّ على نفسه بما ذكرتم خليت سبيله. فقال الرجل: لا والله لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني. خطبة للحجاج ذكروا أن الحجاج مرض ففرح أهل العراق؛ وقالوا: مات الحجاج! فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال: يا أهل الشقاق والنفاق! نفخ إبليس في مناخركم فقلتم: مات الحجاج، ومات الحجاج فمه؟ والله ما أحب أن لا أموت! وما أرجو الخير كلّه إلا بعد الموت، وما رأيت الله عز وجل رضي الخلود لأحد من خلقه، إلا لأهونهم عليه: إبليس؛ ولقد رأيت العبد الصالح سأل ربّه فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ «1» . ففعل؛ ثم اضمحل كأن لم يكن. خطبة للحجاج خطب فقال في خطبته: سوطي سيفي، ونجاده في عنقي، وقائمه في يدي؛ وذبابه «2» قلادة لمن اغترني! فقال الحسن: بؤسا لهذا! ما أغرّه بالله. وحلف رجل بالطلاق أن الحجاج في النار، ثم أتى زوجته، فمنعته نفسها فأتى ابن شبرمة يستفتيه؛ فقال: يا بن أخي امض فكن مع أهلك، فإن الحجاج إن لم يكن من

خطبة طاهر بن الحسين

أهل النار، فلا يضرّك أن تزني. هذا ما ذكرناه في كتابنا من الخطب للحجاج، وما بقي منها فهي مستقصاة في كتاب اليتيمة الثانية، حيث ذكرت أخبار زياد والحجاج، وإنما مذهبنا في كتابنا هذا أن نأخذ من كل شيء أحسنه ونحذف الكثير الذي يجتزأ منه بالقليل. خطبة طاهر بن الحسين لما افتتح مدينة السلام صعد المنبر وأحضر جماعة من بني هاشم والقواد وغيرهم فقال: الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء؛ ولا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين؛ إنّ ظهور غلبتنا لم يكن من أيدنا ولا كيدنا، بل اختار الله لخلافته- إذ جعلها عمودا لدينه، وقواما لعباده- من يستقل بأعبائها، ويضطلع بحملها. خطبة عبد الله بن طاهر خطب الناس وقد تيسر لقتال الخوارج؛ فقال: إنكم فئة الله المجاهدون عن حقه، الذابّون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره، الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام المسلمين فاستنجزوا موعود الله ونصره بمجاهدة عدوّه وأهل معصيته، الذين أشروا «1» وتمردوا وشقوا العصا، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادا، فإنه يقول تبارك وتعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ «2» فليكن الصبر معقلكم الذي إليه تلجئون، وعدتكم التي تستظهرون؛ فإنه الوزر المنيع الذي دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التي أمركم الله بلباسها؛ غضوا أبصاركم، وأخفتوا أصواتكم في مصافّكم، وامضوا قدما على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به كما أمركم الله؛ فإنه

خطب لقتيبة بن مسلم

يقول: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1» . أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر. [خطب لقتيبة بن مسلم] خطبة قتيبة بن مسلم قام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أتدرون من تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن ثروان- يعني هبنّقة القيسي- كأني بأمير مزجاء وحكم قد أتاكم يحكم في أموالكم ودمائكم وفروجكم وأبشاركم. ثم قال: الأعراب! وما الأعراب؟ لعن الله الأعراب! جمعتهم كما يجمع فرخ الخريق «2» من منابت الشيخ والقيصوم «3» ومنابت الفلفل، يركبون البقر؛ ويأكلون الهبيد «4» ، فحملتهم على الخيل، وألبستهم السلاح حتى منع الله بهم البلاد، وجبى بهم الفيء. قالوا: مرنا بأمرك. قال: غرّوا غيري. وخطبة لقتيبة بن مسلم يأهل العراق، ألست أعلم الناس بكم؟ أما هذا الحي من أهل العالية فنعم الصدقة، وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعلجة «5» بظراء لا تمنع رجليها، وأما هذا الحيّ من عبد القيس فما ضرب العير «6» بذنبه، وأما هذا الحي من الأزد فعلوج خلق الله وأنباطه؛ وايم الله لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم، وأما هذا الحي من تميم فإنهم كانوا يسمون الغدر في الجاهلية كيسان. وقال الشاعر: إذا كنت من سعد وخالك منهم ... بعيدا فلا يغرك خالك من سعد

وخطبة لقتيبة بن مسلم

إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد وخطبة لقتيبة بن مسلم يأهل خراسان، قد جرّبتم الولاة قبلي؛ أتاكم أمية فكان كاسمه أمية الرأي، وأمية الدين فكتب إلى خليفته: إن خراج خراسان لو كان في مطبخه لم يكفه؛ ثم أتاكم بعده أبو سعيد ثلاثا، لا تدرون أفي طاعة الله أنتم أم في معصيته؟ ثم لم يجب فيئا، ولم يبل عدوا؛ ثم أتاكم بنوه بعده مثل أطباء «1» الكلبة؛ منهم ابن رحمة، حصان يضرب في عانة؛ لقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده! ثم أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد [وأمّن لكم السّبل] حتى إنّ الظعينة لتخرج من مرو إلى سمرقند في غير جوار. قوله أبو سعيد، يريد المهلب بن أبي صفرة. وقوله: ابن رحمة: يريد يزيد بن المهلب. خطبة ليزيد بن المهلب حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، إني أسمع قول الرعاع، قد جاء العباس، قد جاء مسلمة، قد جاء أهل الشام. وما أهل الشام إلا تسعة أسياف: منها سبعة معي، واثنان عليّ، وما مسلمة إلا جرادة صفراء وأما العباس فبسطوس بن بسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة وجرامقة وأقباط وأنباط وأخلاط؛ أقبل إليكم الفلاحون والأوباش كأشلاء اللحم، والله ما لقوا قط حدّا كحدكم، ولا حديدا كحديدكم، أعيروني سواعدكم ساعة تصفقوا «2» بها خراطيمهم «3» ؛ فإنما هي غدوة أو روحة حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. خطبة قس بن ساعدة الإيادي ابن عباس قال: قدم وفد إياد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: أيكم يعرف قسّ بن

خطبة عائشة أم المؤمنين رحمها الله يوم الجمل

ساعدة الإيادي؟ قالوا: كلنا يعرفه قال: فما فعل؟ قالوا: هلك! قال: ما أنساه بسوق عكاظ في الشهر الحرام على جمل له أحمر وهو يخطب الناس ويقول: اسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت؛ إنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا، سحائب تمور، ونجوم تغور، في فلك يدور. يقسم قسّ قسما: إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا. ثم قال: مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تركوا فناموا. أيكم يروي من شعره؟ فأنشد بعضهم: في الذّاهبين الأوّلين ... من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تمضي: الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر خطبة عائشة أم المؤمنين رحمها الله يوم الجمل قالت: أيها الناس صه صه؛ إنّ لي عليكم حق الأمومة، وحقّ الموعظة؛ لا يتهمني إلا من عصى ربّه؛ مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحري «1» ونحري؛ فأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادّخرني ربي وخلّصني من كلّ بضع «2» ؛ وبي ميّز مؤمنكم من منافقكم، وبي أرخص الله لكم في صعيد الأبواء «3» ؛ ثم أبي ثاني اثنين الله ثالثهما؛ وأول من سمّي صدّيقا، مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم راضيا عنه؛ وطوّقه أعباء الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين بعده؛ فمسك أبي بطرفيه، ورتق لكم فتق النفاق، وأغاض «4» نبع الردة،

خطبة عبد الله بن مسعود

وأطفأ ما حشّت «1» يهود؛ وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون العدوة «2» ، وتسمعون الصيحة؛ فرأب الثّأي، وأوّد» من الغلظة، وامتاح «4» من الهوّة؛ حتى اجتحى دفين الداء؛ وحتى أعطن الوارد، وأورد الصادر، وعلى الناهل؛ فقبضه الله إليه واطئا على هامات النفاق، مذكيا نار الحرب للمشركين؛ فانتظمت طاعتكم بحبله؛ فولى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيدا ما بين اللابتين إذا ضلّ، عركة للأذاة بجنبه صفوحا عن أذاة الجاهلين، يقظان الليل في نصرة الإسلام؛ فسلك مسلك السابقيه؛ ففرق شمل الفتنة، وجمّع أعضاد ما جمّع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا؛ لم ألتمس إثما، ولم أورّث فتنة أوطئكموها: أقول قولي هذا صدقا وعدلا، وإعذارا وإنذارا؛ وأسأل الله أن يصلي على محمد، وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين. خطبة عبد الله بن مسعود أصدق الحديث كتاب الله. وأوثق العرى كلمة التقوى، خير زاد؛ وأكرم الملل ملة إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، وخير السنن سنّة محمد صلّى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وخير الأمور أوساطها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، لنفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها. خير الغنى غنى النفس. خير ما ألقي في القلب اليقين. الخمر جماع الآثام. النساء حبائل الشيطان. الشباب شعبة من الجنون. حبّ الكفاية مفتاح المعجزة. شرّ من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا «5» ، ولا يذكر الله إلا هجرا «6» . سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية؛ من يتألّ «7» على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له. مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه. الشقيّ شقي في بطن أمه. السعيد من وعظ بغيره. الأمور بعواقبها. ملاك الأمر خواتيمه. أحسن الهدي هدي الأنبياء. أقبح الضلالة الضلالة بعد الهدى. أشرف الموت الشهادة. من يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره.

خطبة لعتبة بن مروان بعد فتح الأبلة

خطبة لعتبة بن مروان بعد فتح الأبلة حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وقال: إن الدنيا قد تولّت [حذّاء مدبرة] ، وقد آذنت أهلها منها بصرم، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء يصطبّها صاحبها؛ ألا وإنكم مفارقوها لا محالة، ففارقوها بأحسن ما يحضركم؛ ألا إنّ من العجب أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الحجر الضخم يرمى به في شفير جهنم فيهوي في النار سبعين خريفا، ولجهنّم سبعة أبواب، بين كل بابين منها مسيرة خمسمائة عام، وليأتين عليها ساعة وهي كظيظ «1» بالزحام» ؛ ولقد كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام إلا ورق البشام، حتى قرحت أشداقنا؛ فوجدت أنا وسعد بن مالك تمرة فشققتها بيني وبينه نصفين، وما منا أحد اليوم إلا وهو أمير على مصر وإنه لم يكن نبوة قطّ إلا تناسخت «2» ؛ وأنا أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وفي أعين الناس صغيرا. خطب عمرو بن سعيد الأشدق لما عقد معاوية ليزيد البيعة، قام الناس يخطبون؛ فقال [معاوية] لعمرو بن سعيد: قم يا أبا أمية. فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه، وأجل تأمنونه؛ إن استضفتم إلى حلمه وسعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم؛ جذع «3» قارح «4» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع؛ فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه. فقال له معاوية: أوسعت أبا أمية فاجلس.

وخطبة لعمرو بن سعيد بالمدينة

وخطبة لعمرو بن سعيد بالمدينة قال أبو العباس بن الفرج الرياشي: حدّثنا ابن عائشة قال: قدم عمرو بن سعيد ابن العاص الأشدق المدينة أميرا، فخرج إلى منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقعد عليه وغمض عينيه وعليه جبة خزّ قرمز، ومطرف خز قرمز، وعمامة خز قرمز؛ فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجابا بها، ففتح عينيه فإذا الناس ينظرون إليه؛ فقال: ما بالكم يا أهل المدينة ترفعون إليّ أبصاركم، كأنكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم؟ أغرّكم أنكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم؟ أما إنه لو أثبتم بالأولى ما كانت الثانية؛ أغرّكم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم «1» ثائرنا منا رفيقا، قد فنى غضبه وبقي حلمه؟ اغتنموا أنفسكم، فقد والله ملكناكم بالشباب المقتبل، البعيد الأمل الطويل الأجل، حين فرغ من الصغر، ودخل في الكبر، حليم حديد، ليّن شديد رقيق كثيف، رفيق عنيف، حين اشتد عظمه. واعتدل جسمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله بأشره، فهو إن عض نهس «2» ، وإن سطا فرس «3» ، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا، ولا يمشي السّهّمى «4» . قال: فما بقي بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر، حتى قصمه الله. خطبة لعمرو بمكة العتبي قال: استعمل سعيد بن العاص وهو وال على المدينة ابنه عمرو بن سعيد واليا على مكة، فلما قدم لم يلقه قرشي ولا أموي إلا أن يكون الحرث بن نوفل، فلما لقيه قال له: يا حار، ما الذي منع قومك أن يلقوني كما لقيتني؟ قال: ما منعهم من ذلك إلا ما استقبلتني به؛ والله ما كنيتني، ولا أتممت اسمي، وإنما أنهاك عن التكبّر على أكفائك، فإن ذلك لا يرفعك عليهم ولا يضعهم لك. قال: والله ما أسأت الموعظة، ولا أتهمك على النصيحة، وإن الذي رأيت مني لخلق. فلما دخل مكة قام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

خطبة للأحنف بن قيس

أما بعد، معشر أهل مكة، فإنا سكناها حقبة، وخرجنا عنها رغبة، ولذلك كنا إذا رفعت لنا لهوة بعد لهوة «1» أخذنا أسناها، ونزلنا أعلاها؛ ثم شدخ «2» أمر بين أمرين، فقتلنا وقتلنا؛ فو الله ما نزعنا ولا نزع عنا، حتى شرب الدم دما، وأكل اللحم لحما، وقرع العظم عظما؛ فولي رسول الله صلّى الله عليه وسلم برسالة الله إياه، واختياره له؛ ثم ولي أبو بكر لسابقته وفضله؛ ثم ولي عمر؛ ثم أجيلت قداح نزعن من شعب «3» حول نبعة، ففاز بحظّها أصلبها وأعتقها، فكنا بعض قداحها؛ ثم شدخ أمر بين أمرين، فقتلنا وقتلنا، فوالله ما نزعنا ولا نزع عنا حتى شرب الدم دما، وأكل اللحم لحما، وقرع العظم عظما، وعاد الحرام حلالا، وأسكت كل ذي حسن عن ضرب مهنّد، عركا عركا، وعسفا عسفا، وخزا ونهسا، حتى طابوا عن حقنا نفسا، والله ما أعطوه عن هوادة، ولا رضوا فيه بالقضاء؛ أصبحوا يقولون: حقّنا غلبنا عليه، فجزيناه هذا بهذا، وهذا في هذا. يا أهل مكة، أنفسكم أنفسكم! وسفهاءكم سفهاءكم! فإن معي سوطا نكالا، وسيفا وبالا، وكلّ منصوب على أهله. ثم نزل. خطبة للأحنف بن قيس قال بعد حمد الله والثناء عليه: يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الصّهر «4» ، وأشقّاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو، والله لأزد البصرة أحبّ إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام؛ فإن استشرف شنآنكم وأبي حسد صدوركم، ففي أحلامنا وأموالنا سعة لنا ولكم. خطبة ليوسف بن عمر قام خطيبا فقال: اتقوا الله عباد الله: فكم مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا

خطبة لشداد بن أوس الطائي

يأكله، ومانع عما سوف يتركه؛ ولعله من باطل جمعه، ومن حقّ منعه أصابه حراما، وأورثه عدوّا حلالا، فاحتمل إصره «1» ، وباء بوزره، وورد على ربه أسفا لهفا، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. خطبة لشداد بن أوس الطائي حمد الله وأثنى عليه وقال: ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر؛ ألا إن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر؛ ألا إن الخير كلّه بحذافيره في الجنة؛ ألا إن الشرّ كله بحذافيره في النار، فاعملوا ما عملتم وأنتم في يقين من الله، واعلموا أنكم معروضة أعمالكم على الله، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «2» وغفر الله لنا ولكم. خطبة لخالد بن عبد الله القسري صعد المنبر يوم جمعة وهو والي مكة، فذكر الحجاج فأحمد طاعته وأثنى عليه خيرا؛ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتم الحجاج وذكر عيوبه وإظهار البراءة منه: فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلا، وكان قد علم الله من غشه وخبثه ما خفى على ملائكته فلما أراد فضيحته ابتلاه بالسجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه؛ وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي عنا؛ فلما أراد [الله] فضيحته أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين، [فلعنه] ، فالعنوه لعنه الله! خطبة لمصعب بن الزبير قدم العراق فصعد المنبر ثم قال:

خطبة للنعمان بن بشير بالكوفة

بسم الله الرحمن الرحيم. طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ «1» وأشار بيده نحو الشام وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «2» وأشار بيده نحو الحجاز وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «3» وأشار بيده نحو العراق. خطبة للنعمان بن بشير بالكوفة قال: إني والله ما وجدت مثلي ومثلكم إلا الضبع والثعلب: أتيا الضبّ في جحره فقالا: أبا حسل. قال: أجبتكما. قالا: جئناك نختصم. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت الضبع: فتحت عيني. قال: فعل النساء فعلت. قالت: فلقطت تمرة. قال: حلوا اجتنيت. قالت: فاختطفها ثعالة! قال: لنفسه بغى [الخير] . قالت. فلطمته لطمة! قال: حقّا قضيت. قالت: فلطمني أخرى. قال: كان حرّا فانتصر. قالت: فاقض الآن بيننا. قال: حدث امرأة حديثين، فإن أبت فاربع، أي: اسكت. خطبة شبيب بن شيبة قيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له، فلو أمرته أن يصعد المنبر لرجوت أن يفتضح، قال: فأمر رسولا فأخذ بيده إلى المسجد، فلم يفارقه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم حق الصلاة عليه؛ ثم قال: ألا إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر فأشبه منه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه. ثم نزل عن المنبر وأنشأ يقول:

خطب لعتبة بن أبي سفيان

وموقف مثل حدّ السّيف قمت به ... أحمي الذّمار وترميني به الحدق «1» فما زلقت وما ألقيت كاذبة ... إذا الرّجال على أمثاله زلقوا «2» خطب لعتبة بن أبي سفيان بلغه عن أهل مصر شي فأغضبه، فقام فيهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أهل مصر، إياكم أن تكونوا للسيف حصيدا، فإن لله فيكم ذبيحا لعثمان أرجو أن يوليني نسكه «3» ؛ إن الله جمعكم بأمير المؤمنين بعد الفرقة، فأعطى كلّ ذي حقّ حقه وكان الله فيكم، ومنّة منه عليكم؛ وقد بلغنا عنكم نجم قول، أظهره تقدّم عفو منا، فلا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق، بإحياء الفتنة وإماتة السّنن؛ فأطأكم وطأة لا رمق معها؛ حتى تنكروا مني ما كنتم تعرفون، وتستخشنوا ما كنتم تستلينون؛ وأنا أشهد عليكم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وخطبة لعتبة بن أبي سفيان يا حاملي الأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسّي إياكم، وسألتكم صلاحكم؛ إذ كان فسادكم راجعا عليكم، فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الولاة، والتنقّص للسلف، فوالله لأقطعن على ظهوركم بطون السّياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم؛ ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أؤيسكم من مراجعة الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبرّ وأتقى. وخطبة لعتبة بن أبي سفيان لما اشتكى شكاته التي مات فيها، تحامل إلى المنبر فقال: يا أهل مصر، لا غنى عن الرب، ولا مهرب من ذنب؛ إنه قد تقدّمت مني

وخطبة لعتبة

إليكم عقوبات كنت ارجو يومئذ الأجر فيها، وأنا أخاف اليوم الوزر منها، فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي، فأصلحتكم بفسادي؛ وأنا أستغفر الله منكم، وأتوب إليه فيكم؛ فقد خفت ما كنت أرجو نفعا عليه، ورجوت ما كنت أخاف اغتيالا به، وقد شقي من هلك بين رحمة الله وعفوه؛ والسلام عليكم، سلام من لا ترونه عائدا إليكم. قال: فلم يعد. وخطبة لعتبة العتبي: قال سعد القصر: احتبست عنا كتب معاوية بن أبي سفيان حين أرجف أهل مصر بموته، ثم قدم علينا كتابه بسلامته؛ فصعد عتبة المنبر والكتاب في يده، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات «1» السيوف، حتى صرنا شجى في لهواتكم ما تسيغه حلوقكم، وأقذاء في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم، أفحين اشتدّت عرى الحق عليكم عقدا واسترخت عقد الباطل منكم حلا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم تهوين الخلافة، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث، فاربحوا أنفسكم إذا خسرتم دينكم؛ فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السارّ عنه والعهد القريب منه؛ واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم؛ فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن؛ وأظهروا خيرا وإن أضمرتم شرا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون؛ وعلى الله أتوكل وبه أستعين. ثم نزل. خطبة عتبة في الموسم سعد القصر قال: قال مولى عتبة بن أبي سفيان: دفع عتبة بن أبي سفيان بالموسم سنة إحدى وأربعين، والناس حديث عهدهم بالفتنة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

خطبة لعتبة بن أبي سفيان

إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضعف الله فيه للمحسنين الأجر، وللمسيئين الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا له، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع من دوننا؛ ورب متمنّ حتفه في أمنيته، اقبلونا ما قبلنا العافية فيكم وقبلناها منكم، وإياكم ولوّا «1» فإن لوّا قد أتعبت من قبلكم، ولن تريح من بعدكم؛ فأسأل الله أن يعين كلّا على كل. فناداه أعرابي من ناحية المسجد: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد فقال: يا أخاه! فقال: أسمعت فقل. فقال: والله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنّا فإن كان الإحسان لكم فما أحقّكم باستتمامه، وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا. رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة، ويختص إليكم بالخئولة، وقد كثر عياله، ووطئه زمانه، وبه فقر، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستغفر الله منكم؛ وأسأله العون عليكم، وقد أمرت لك بغناك؛ فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك. خطبة لعتبة بن أبي سفيان سعد القصر قال: وجّه عتبة بن أبي سفيان ابن أخي أبي الأعور السلمي إلى مصر فمنعوه الخراج، فقدم عليهم عتبة فقام خطيبا فقال: يأهل مصر، قد كنتم تعتذرون لبعض المنع منكم ببعض الجور عليكم؛ فقد وليكم من يقول ويفعل، ويقول؛ فإن رددتم ردّكم بيده، وإن استعصيتم ردّكم بسيفه، ثم رجا في الآخر ما أمّل في الأوّل؛ إن البيعة مشايعة «2» ، فلنا عليكم السمع والطاعة،

وخطبة لعتبة

ولكم علينا العدل؛ فأيّنا غدر فلا ذمّة له عند صاحبه، والله ما انطلقت بها ألسنتنا حتى عقدت عليها قولبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم، ناجزا بناجز، ومن حذّر كمن بشّر. قال فنادوه: سمعا سمعا، فناداهم: عدلا عدلا عدلا. وخطبة لعتبة قدم كتاب معاوية إلى عتبة بمصر: إنّ قبلك قوما يطعنون على الولاة ويعيبون السلف. فخطبهم فقال: يأهل مصر، خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذمّ الباطل وأنتم تأتونه، كالحمار يحمل أسفارا أثقله حملها ولم ينفعه ثقلها، وايم الله لا أداويكم بالسيف ما صلحتم على السوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدّرة، ولا أبطيء عن الأولى ما لم تسرعوا إلى الأخرى؛ فالزموا ما أمركم الله به، تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا؛ وإياكم وقال ويقول، قبل أن يقال فعل ويفعل؛ وكونوا خير قوس سهما. فهذا اليوم الذي ليس قبله عقاب، ولا بعده عتاب. خطب الخوارج خطبة لقطري بن الفجاءة في ذمّ الدنيا صعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة- وهو أحد بني مازن بن عمرو بن تميم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وغمرت بالآمال، وتحلّت بالأماني وزيّنت بالغرور؛ لا تدوم حسرتها، ولا تؤمن فجعتها؛ غدّارة ضرارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة؛ لا تعدو- إذا [هي] تناهت إلى أمنيّة أهل الرغبة فيها والرضا عنها- أن تكون كما قال الله عز وجل: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً

تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً «1» . مع أن امرءا لم يكن منها في حيرة، إلا أعقبته بعدها عبرة؛ ولم يلق من سرائها بطنا، إلا منحته من ضرائها ظهرا؛ ولم تطلّه منها ديمة رخاء، إلا هطلت عليه مزنة «2» بلاء؛ وحريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة؛ وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب فأوبا؛ وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعما، أرهقته من نوائبها غمّا؛ ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن، إلا أصبح منها في قوادم خوف؛ غرّارة، غرور ما فيها؛ باقية، فان ما عليها؛ لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقلّ منها استكثر مما يؤمّنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه «3» ، وزال عما قليل عنه، استكثر مما يوبقه؛ كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وكم من ذي اختيال فيها قد خدعته؛ وكم من ذي أبّهة فيها قد صيّرته حقيرا وذي نخوة فيها قد ردّته ذليلا، وذي تاج قد كبّته «4» لليدين والفم؛ سلطانها دول» ، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها مرّ، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام «6» وقطافها سلع «7» ؛ حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام؛ مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وصحيحها وسليمها منكوب؛ وحائزها وجامعها محروب؛ مع أنّ من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته، وهول المطّلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل؛ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألستم في مساكن من كان أطول أعمارا، وأوضح آثارا، وأعدّ عديدا، وأكثف جنودا، وأعتد عتادا، وأطول عمادا؟ تعبّدوا للدنيا أيّ تعبد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكرّة والصّغار؛ فهل بلغكم أنّ الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، وأغنت عنهم فيما أمّلتهم به بخطب! بل أثقلتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعفّرتهم

للمناخر، وأعانت عليهم ريب المنون، وعقرتهم بالمصائب؛ وقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها، حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر الأمد. هل زوّدتهم إلا الشقاء، وأحلّتهم إلا الضنك، أو نوّرت لهم إلا الظلمة، وأعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أم عليها تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله تبارك وتعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» ؛ فبئست الدار لمن لم يتّهمها، ولم يكن فيها على وجل منها؛ اعملوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ؛ فإنما هي كما نعت الله عز وجل: لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «2» . فاتّعظوا فيها بالذين يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وبالذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً «3» ؛ واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا [الأجداث] فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرّفات جيران؛ فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن أخصبوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جمع وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد، متناءون وهم يزارون ولا يزورون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، وهم كمن لم يكن، قال الله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ «4» استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالآل غربة، وبالنور ظلمة، فجاءوها حفاة عراة فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى خلود الأبد يقول الله تبارك وتعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ «5» ، فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم

خطب لأبي حمزة بمكة

بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقه. ثم نزل. خطب لأبي حمزة بمكة خطبهم أبو حمزة الشاري بمكة، فصعد المنبر متوكئا على قوس عربية، فخطب خطبة طويلة، ثم قال: يأهل مكة، تعيّرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا شبابا؟ نعم الشباب مكتهلين، عمية عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر الله إليهم في آناء الليل منثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم، أنضاء عبادة، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة الصيام وطول القيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، [حتى] إذا رأوا سهام العدوّ قد فوّقت «1» ، ورماحهم قد أشرعت، وسيوفهم قد انتضيت، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت- استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، فمضى لشاب منهم قدما حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه، قد رمّلت «2» محاسن وجهه الدماء، وعفّر جبينه بالثرى، وأسرع إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير سماء؛ فكم من مقلة في منقار طائر، طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف بانت رقيق، قد فلق بعمد الحديد! رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان. ثم قال: الناس منا ونحن منهم، إلا عابد وثن، أو كفرة أهل الكتاب، وإماما جائرا، أو شادّا على عضده. وخطبة أبي حمزة بالمدينة قال مالك بن أنس رحمه الله: خطبنا أبو حمزة خطبة شك فيها المستبصر وردّت المرتاب، قال:

أوصيكم بتقوى الله وطاعته، والعمل بكتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، وصلة الرحم، وتعظيم ما صغرت الجبابرة من حق الله، وتصغير ما عظّمت من الباطل، وإماتة ما أحيوا من الجور، وإحياء ما أماتوا من الحقوق، وأن يطاع الله ويعصى العباد في طاعته؛ فالطاعة لله ولأهل طاعة الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ ندعو إلى كتاب الله وسنة نبيه، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها؛ إنا والله ما خرجنا أشرا «1» ولا بطرا «2» ولا لهوا ولا لعبا؛ ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيها ولا لثأر قد نيل منّا؛ ولكنا لمّا رأينا الأرض قد أظلمت، ومعالم الجور قد ظهرت، وكثر الادّعاء في الدين، وعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وقتل القائم بالقسط «3» ، وعنّف القائل بالحق- سمعنا مناديا ينادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فأجبنا داعي الله، فأقبلنا من قبائل شتى، قليلين مستضعفين في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا بنعمته إخوانا، وعلى الدين أعوانا. يأهل المدينة، أوّلكم خير أوّل، وآخركم شرّ آخر؛ إنكم أطعتم قراءكم وفقهاءكم فاختانوكم عن كتاب غير ذي عوج، بتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين؛ فأصبحتم عن الحق ناكبين «4» ، أمواتا غير أحياء وما تشعرون. يأهل المدينة، يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ما أصح أصلكم، وأسقم فرعكم! كان آباؤكم أهل اليقين، وأهل المعرفة بالدين، والبصائر النافذة، والقلوب الواعية؛ وأنتم أهل الضلالة والجهالة؛ استعبدتكم الدنيا فأذلتكم والأمانيّ فأضلتكم؛ فتح الله لكم باب الدّين فسددتموه، وأغلق عنكم باب الدنيا ففتحتموه؛ سراع إلى الفتنة، بطاء عن السّنّة «5» ؛ عمي عن البرهان، صمّ عن العرفان؛

عبيد الطمع، حلفاء الجزع؛ نعم ما ورّثكم آباؤكم لو حفظتموه، وبئس ما تورّثون أبناءكم إن تمسكوا به! نصر الله آباءكم على الحق، وخذلكم على الباطل؛ كان عدد آبائكم قليلا طيّبا وعددكم كثير خبيث؛ اتبعتم الهوى فأرداكم واللهو فأسهاكم، ومواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون، وتعبّركم فلا تعتبرون، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فقلتم: والله ما فيهم الذي يعدل؛ أخذوا المال من غير حلّه، فوضعوه في غير حقه؛ وجاروا في الحكم، فحكموا بغير ما أنزل الله؛ واستأثروا بفيئنا؛ فجعلوه دولة بين الأغنياء منهم، وجعلوا مقاسمنا وحقوقنا في مهور النساء وفروج الإماء. وقلنا لكم: تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم، وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله. فقلتم: لا نقوى على ذلك، ووددنا أنا أصبنا من يكفينا، فقلنا: نحن نكفيكم. ثم الله راع علينا وعليكم، إن ظفرنا لنعطينّ كلّ ذي حق حقه؛ فجئنا فاتقينا الرماح بصدورنا، والسيوف بوجوهنا، فعرضتم لنا دونهم، فقاتلتمونا، فأبعدكم الله؛ فوالله لو فلتم لا نعرف الذي تقول ولا نعلمه لكان أعذر؛ مع أنه لا عذر للجاهل، ولكن أبى الله إلا أن ينطق بالحق على ألسنتكم ويأخذكم به في الآخرة. ثم قال: الناس منا ونحن منهم، إلا ثلاثة: حاكما جاء بغير ما أنزل الله، أو متبعا له، أو راضيا بعمله. أسقطنا في هذه الخطبة ما كان من طعنه على الخلفاء، فإنه طعن فيها على عثمان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهما، وعمر بن عبد العزيز، ولم يترك من جميع الخلفاء إلا أبا بكر وعمر، وكفّر من بعدهما، فلعنة الله عليه؛ إلا أنه ذكر من الخلفاء رجلا أصغى إلى الملاهي والمعازف وأضاع أمر الرعية فقال: كان فلان ابن فلان من عدد الخلفاء عندكم، وهو مضيّع للدين والدنيا، اشتري له بردان بألف دينار ائتزر بأحدهما والتحف بالآخر، وأقعد حبّابة عن يمينه، وسلامة عن يساره، فقال: يا حبابة غنيني، ويا سلامة استقيني؛ فإذا امتلأ سكرا وازدهى طربا شق ثوبيه وقال: ألا أطير؟ فطر إلى النار وبئس المصير! فهذه صفة خلفاء الله تعالى.

وخطبة لأبي حمزة

وخطبة لأبي حمزة أما بعد، فإنك في ناشيء فتنة، وقائم ضلالة قد طال جثومها، واشتدّ عليك غمومها، وتلوّت مصايد عدوّ الله، وما نصب من الشرك لأهل الغفلة عما في عواقبها، فلن يهدّ عمودها، ولن ينزع أوتادها، إلا الذي بيده ملك الأشياء وهو الله الرحمن الرحيم: ألا وإن لله بقايا من عباده لم يتحيروا في ظلمها، ولم يشايعوا أهلها على شبهها؛ مصابيح النور في أفواههم تزهو، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق؛ ركبوا منهج السبيل، وقاموا على العلم الأعظم، هم خصماء الشيطان الرجيم، بهم يصلح الله البلاد، ويدفع عن العباد؛ طوبى لهم وللمستصبحين بنورهم، وأسأل الله أن يجعلنا منهم. من أرتج «1» عليه في خطبته أول خطبة خطبها عثمان بن عفان أرتج عليه؛ فقال: أيها الناس، إن أول كلّ مركب صعب؛ وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها؛ وسيجعل الله بعد عسر يسرا إن شاء الله. ولما قدم يزيد بن أبي سفيان الشام واليا عليها لأبي بكر، خطب الناس فأرتج عليه؛ فعاد إلى الحمد لله، ثم أرتج عليه فعاد إلى الحمد ثم أرتج عليه فقال: يأهل الشام عسى الله أن يجعل بعد عسر يسرا، وبعد عيّ بيانا؛ وأنتم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل. ثم نزل، فبلغ ذلك عمرو بن العاص فاستحسنه. صعد ثابت قطنة منبر سجستان، فقال: الحمد لله. ثم أرتج عليه؛ فنزل وهو يقول: فإن لا أكن فيهم خطيبا فإنني ... بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب فقيل له: لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.

وخطب معاوية بن أبي سفيان لما ولي، فحصر «1» ، فقال: أيها الناس، إني كنت أعددت مقالا أقوم به فيكم فحجبت عنه؛ فإن الله يحول بين المرء وقلبه؛ كما قال في كتابه؛ وأنتم إلى إمام عدل، أحوج منكم إلى إمام خطيب؛ وإني آمركم بما أمر الله به ورسوله، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم. وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه، فمكث مليا لا يتكلم؛ ثم تهيأ له الكلام فتكلم، فقال: أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب «2» أحيانا، فيسح عند مجيئه سيبه «3» ، ويعزّ عند عزوبه طلبه؛ ولربما كوبر فأبى، وعولج فنأى؛ فالتأني لمجيّه، خير من التعاطي لأبيّه، وتركه عند تنكره، أفضل من طلبه عند تعذره؛ وقد يرتج على البليغ لسانه، ويخلج من الجريّ جنانه؛ وسأعود فأقول إن شاء الله. وصعد أبو العنبس منبرا من منابر الطائف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ... فأرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا. قال: فما ينفعني ما أريد أن أقول لكم؟ ثم نزل. فلما كان في الجمعة الثانية صعد المنبر وقال: أما بعد؛ فأرتج عليه؛ فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: نعم. قال: فما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما علمتم؟ ثم نزل. فلما كانت الجمعة الثالثة قال: أما بعد؛ فأرتج عليه، قال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: بعضنا يدري، وبعضنا لا يدري. قال: فليخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري! ثم نزل. وأتى رجل من بني هاشم اليمامة، فلم اصعد المنبر أرتج عليه؛ فقال: حيّا الله هذه الوجوه وجعلني فداءها: قد أمرت طائفي بالليل ألا يرى أحدا إلا أتاني به؛ وإن

خطب النكاح

كنت أنا هو! ثم نزل. وكان خالد بن عبد الله إذ تكلم يظنّ الناس أنه يصنع الكلام، لعذوبة لفظه وبلاغة منطقه؛ فبينا هو يخطب يوما إذ وقعت جرادة على ثوبه، فقال: سبحان من الجرادة من خلقه، أدمج قوائمها وطرفها وجناحيها، وسلطها على ما هو أعظم منها. خطب عبد الله بن عامر بالبصرة في يوم أضحى، فأرتج عليه، فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عيّا ولؤما. من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها عليّ. قيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك المشيب يا أمير المؤمنين. فقال: كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين. خطب النكاح خطب عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان إلى عتبة بن أبي سفيان ابنته، فأقعده على فخذه، وكان حدثا، فقال: أقرب قريب، خطب أحبّ حبيب، لا أستطيع له ردّا، ولا أجد من إسعافه بدّا؛ وقد زوّجتكها وأنت أعز عليّ منها، وهي ألصق بقلبي منك؛ فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك؛ وقد قرّبتك مع قربك. فلا تبعد قلبي من قلبك. وخطبة نكاح سوار القاضي: العتبي قال: زوّج شبيب بن شيبة ابنه بنت سوار القاضي، فقلنا: اليوم يعبّ عبابه! فلما اجتمعوا تكلم فقال: الحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أمّا بعد، فإن المعرفة منا ومنكم بنا وبكم، تمنعنا من الإكثار، وإن فلانا ذكر فلانة.

وخطبة نكاح

وخطبة نكاح العتبي قال: كان الحسن البصري يقول في خطبة النكاح، بعد الحمد لله والثناء عليه: أمّا بعد، فإن الله جمع بهذا النكاح الأرحام المنقطعة، والأنساب المتفرقة، وجعل ذلك في سنّة من دينه ومنهاج [واضح] من أمره؛ وقد خطب إليكم فلان، وعليه من الله نعمة، وهو يبذل من الصداق كذا فاستخيروا الله وردّوا خيرا يرحمكم الله. وخطبة نكاح العتبي قال: حضرت ابن الفقير خطب على نفسه امرأة من باهلة، فقال: وما حسن أن يمدح المرء نفسه ... ولكن أخلاقا تذمّ وتمدح وإن فلانة ذكرت لي. وخطبة نكاح عمر بن عبد العزيز: العتبي قال: يستحب للخطاب إطالة الكلام، وللمخطوب إليه تقصيره؛ فخطب محمد بن الوليد [بن عتبة بن أبي سفيان] إلى عمر بن عبد العزيز أخته، فتكلم محمد بكلام طويل، فأجابه عمر: الحمد لله ذي الكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، أمّا بعد، فإن الرغبة منك دعتك إلينا، والرغبة فيك أجابتك منا، وقد أحسن بك ظنّا من أودعك كريمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوّجتها على كتاب الله: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وخطبة نكاح خطب بلال إلى قوم من خثعم لنفسه ولأخيه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

نكاح العبد

أنا بلال وهذا أخي، كنا ضالّين فهدانا الله، عبدين فأعتقنا الله، فقيرين فأغنانا الله؛ فإن تزوّجونا فالحمد لله، وإن تردّونا فالمستعان الله. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زوّجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة. قال: جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فقد أجزلت العطية، وكفيت المسألة. نكاح العبد الأصمعي قال: زوّج خالد بن صفوان عبده من أمته، فقال له العبد: لو دعوت الناس وخطبت! قال: ادعهم أنت. فدعاهم العبد، فلما اجتمعوا تكلم خالد بن صفوان فقال: إن الله أعظم وأجلّ من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين! وأنا أشهدكم أني زوّجت هذه الزانية، من هذا ابن الزانية. خطب الأعراب الأصمعي قال: خطب أعرابي فقال: أمّا بعد، فإن الدنيا دار ممرّ، والآخرة دار مقرّ؛ فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم، ولغيرها خلقتم، اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل، إنّ الرجل إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ فقدّموا بعضا يكون لكم قرضا، ولا تتركوا كلا فيكون عليكم كلّا، أقول قولي هذا والمحمود الله والمصلّى عليه محمد والمدعوّ له الخليفة، ثم إمامكم جعفر. قوموا إلى صلاتكم. وخطبة لأعرابي الحمد لله الحميد المستحمد، وصلى الله على النبي محمد، أمّا بعد، فإنّ التعمق في

خطبة أعرابي لقومه

ارتجال الخطب لممكن، والكلام لا يثني حتى ينثنى عنه، والله تبارك وتعالى لا يدرك واصف كنه صفته، ولا يبلغ خطيب منتهى مدحته، له الحمد كما مدح نفسه، فانهضوا إلى صلاتكم. ثم نزل فصلى. خطبة أعرابي لقومه الحمد لله، وصلى الله على النبي المصطفى، وعلى جميع الأنبياء، ما أقبح بمثلي أن ينهى عن أمر ويرتكبه، ويأمر بشيء ويجتنبه، وقد قال الأوّل: ودع ما لمت صاحبه عليه ... فذمّ أن يلومك من تلوم ألهمنا الله وإياكم تقواه، والعمل برضاه.

كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور واخبار الكتبة

كتاب المجنّبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور واخبار الكتبة فرش الكتاب قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الخطب وفضائلها وذكر طوالها وقصارها، ومقامات أهلها؛ ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في التوقيعات، والفصول، والصدور، وأدوات الكتابة، وأخبار الكتاب، وفضل الإيجاز؛ إذ كان أشرف الكلام كلّه حسنا وأرفعه قدرا، وأعظمه من القلوب موقعا، وأقلّه على اللسان عملا: ما دل بعضه على كله، وكفى قليله عن كثيره، وشهد ظاهره على باطنه، وذلك أن تقلّ حروفه وتكثر معانيه؛ ومنه قولهم: ربّ إشارة أبلغ من لفظ. أليس أن الإشارة تبين ما لا يبينه الكلام، وتبلغ ما يقصر عنه اللسان؟ ولكنها إذا قامت مقام اللفظ وسدت مسدّ الكلام، كانت أبلغ؛ لخفة مؤنتها، وقلة محملها. قال ابرويز لكاتبه: اجمع الكثير مما تريد من المعنى، في القليل مما تقول. يحضّه على الإيجاز. وينهاه عن الإكثار في كتبه، ألا تراهم كيف طعنوا على الإسهاب والإكثار، حتى كان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من الإسهاب؛ قيل له: وما الإسهاب؟ قال: المسهب الذي يتخلل بلسانه تخلّل الباقر «1» ، ويشول به شولان الروق «2» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أبغضكم إليّ الثرثارون المتشدقون» يريد: أهل الإكثار والتقعير في الكلام.

العرب والإيجاز:

العرب والإيجاز: ولم أجد أحدا من السلف يذمّ الإيجاز ويقدح فيه، ولا يعيبه ويطعن عليه وتحب العرب التخفيف والحذف، ولهربها من التثقيل والتطويل، كان قصر الممدود أحب إليها من مدّ المقصور، وتسكين المتحرك أخفّ عليها من تحريك الساكن لأن الحركة عمل والسكون راحة. ومن كلام العرب الاختصار والإطناب، والاختصار عندهم أحمد في الجملة، وإن كان للإطناب موضع لا يصلح إلا له، وقد توميء إلى الشيء فتستغني عن التفسير بالإيماء، كما قالوا: لمحة دالّة. جعفر وكتابه لابن مسعدة: كتب عمرو بن مسعدة إلى ضمرة الحروري كتابا، فنظر فيه جعفر بن يحيى فوقع في ظهره؛ إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيّا. مروان وكتاب لقائد: وبعث إلى مروان بن محمد قائد من قواده بغلام أسود، فأمر عبد الحميد الكاتب أن يكتب إليه يلحاه «1» ويعنفه، فكتب وأكثر، فاستثقل ذلك مروان، وأخذ الكتاب فوقع في أسفله: أما إنك لو علمت عددا أقل من واحد، ولونا شرّا من أسود، لبعثت به. ربيعة الرأي وأعرابي: وتكلم ربيعة الرأي فأكثر، وأعجبه إكثاره، فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه فقال له: ما تعدون البلاغة عندكم يا أعرابي؟ قال له: حذف الكلام، وإيجاز الصواب. قال: فما

أول من وضع الكتابة

تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم! فكأنما القمه حجرا أول من وضع الكتابة آدم عليه السلام: أول من وضع الخط العربي والسرياني وسائر الكتب، آدم صلّى الله عليه وسلم، قبل موته بثلاثمائة سنة؛ كتبه في الطين ثم طبخه؛ فلما انقضى ما كان أصاب الأرض من الغرق، وجد كلّ قوم كتابهم فكتبوا به، فكان إسماعيل عليه الصلاة والسلام وجد كتاب العرب. وروي عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن إدريس أول من خط بالقلم بعد ادم صلّى الله عليه وسلم. إسماعيل عليه السلام: وعن ابن عباس أن أول من وضع الكتابة العربية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وكان أول من نطق بها، فوضعت على لفظه ومنطقه. قوم من القدماء: وعن عمرو بن شبة بأسانيده، أن أول من وضع الخط العربي، أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت؛ وهم قوم من الجبلّة «1» الآخرة، وكانوا نزولا مع عدنان ابن أدد، وهم من طسم وجديس. وحكى أنهم وضعوا الكتب على أسمائهم، فلما وجدوا حروفا في الألفاظ ليست في أسمائهم ألحقوها بهم وسموها الروادف، وهي: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين، على حسب ما يلحن في حروف الجمّل.

بنو إسماعيل:

بنو إسماعيل: وعنه أن أول من وضع الخط: نفيس، ونصر، وأتيما، وبنو إسماعيل بن إبراهيم، ووضعوه متصل الحروف بعضها ببعض حتى فرقه نبت وهميسع وقيذر. طيء: وحكوا أيضا أن ثلاثة نفر من طيء اجتمعوا ببقعة، وهم مرامر بن مرة، وأسلم ابن سدرة، وعامر بن جدرة؛ فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه قوم من الأنبار. في الإسلام: وجاء الإسلام وليس أحد يكتب بالعربية غير سبعة عشر إنسانا، وهم: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، وعثمان، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبان بن سعيد بن العاص، وخالد بن سعيد أخوه، وأبو حذيفة ابن عتبة، ويزيد بن أبي سفيان، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية ولده، وجهيم بن الصلت بن مخرمة. استفتاح الكتب إبراهيم بن محمد الشيباني قال: لم تزل الكتب تستفتح: باسمك اللهم، حتى أنزلت سورة هود وفيها: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها «1» فكتب بسم الله؛ ثم نزلت بسورة بني إسرائيل: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «2» ، فكتب بسم الله الرحمن؛ ثم نزلت بسورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3» فاستفتح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصارت سنّة.

ختم الكتاب وعنوانه

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكتب إلى أصحابه وأمراء جنوده: من محمد رسول الله إلى فلان. وكذلك كانوا يكتبون إليه: يبدءون بأنفسهم، فممن كتب إليه وبدأ بنفسه أبو بكر، والعلاء بن الحضرمي، وغيرهما؛ وكذلك كتب الصحابة والتابعين؛ ثم لم تزل حتى ولى الوليد بن عبد الملك، فعظم الكتاب وأمر أن لا يكاتبه الناس بمثل ما يكاتب به بعضهم بعضا، فجرت به سنة الوليد إلى يومنا هذا، إلا ما كان من عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل، فإنهما عملا بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد، والقوم عليه إلى اليوم. ختم الكتاب وعنوانه سبب ذلك: وأما ختم الكتاب وعنوانه فإن الكتب لم تزل مشهورة غير معنونة ولا مختومة حتى كتبت صحيفة المتلمس، فلما قرأها ختمت الكتب وعنونت؛ وكانت يؤتى بالكتاب فيقال: من عني به؟ فسمى عنوانا. وقال حسان بن ثابت في قتل عثمان: ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا «1» وقال آخر: وحاجة دون أخرى قد سمحت بها ... جعلتها للذي أحببت عنوانا وقال أهل التفسير في قول الله تعالى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ «2» : أي مختوم؛ إذ كانت كرامة الكتاب ختمه.

تأريخ الكتاب

تأريخ الكتاب سبب ذلك: لا بد من تأريخ الكتاب؛ لأنه لا يدل على تحقيق الأخبار وقرب عهد الكتاب وبعده إلا بالتأريخ، فإذا أردت أن تؤرّخ كتابك فانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه، فإن كان ما بقي أكثر من نصف الشهر، كتبت: لكذا وكذا ليلة مضت من شهر كذا؛ وإن كان الباقي أقل من النصف جعلت مكان مضت: بقيت. وقد قال بعض الكتاب: لا تكتب إذا أرّخت إلا بما مضى من الشهر؛ لأنه معروف وما بقي منه مجهول؛ لأنك لا تدري أيتم الشهر أم لا. سحاءة الكتاب وطريقة لابن طاهر: ولا تجعل سحاءة «1» كتابك غليظة، إلا في كتب العهود والسجلات التي يحتاج إلى بقاء خواتمها وطوابعها؛ فإن عبد الله بن طاهر كتب إليه بعض عمّاله على العراق كتابا، وجعل سحاءته غليظة، فأمر بإشخاص الكاتب إليه، فلما ورد عليه قال له عبد الله بن طاهر: إن كانت معك فأس فاقطع ختم كتابك ثم ارجع إلى عملك، وإن عدت إلى مثلها عدنا إلى إشخاصك لقطعها؛ ولا تعظم الطينة «2» جدا، وطن كتبك بعد كتبك عناوينها، فإن ذلك من أدب الكاتب، فإن طينت قبل العنوان فأدب منتحل. تفسير الأمي فأما الأمّيّ فمجازه على ثلاثة وجوه: قولهم أمي؛ منسوب إلى أمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويقال: رجل أمّي؛ إذا كان من أمّ القرى، قال الله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ

المأمون والمنقرى:

حَوْلَها «1» ، وأما قوله تعالى: النَّبِيَّ الْأُمِّيَ «2» ، فإنما أراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب، والأمّيّة في النبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة: لأنها أدلّ على صدق ما جاء به أنه من عند الله لا من عنده، وكيف يكون من عنده وهو لا يكتب ولا يقرأ ولا يقول الشعر ولا ينشده؟ المأمون والمنقرى: قال المأمون لأبي العلاء المنقرى: بلغني أنك أمّيّ، وأنك لا تقيم الشعر. وأنك تلحن في كلامك! فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه، وأما الأمّيّة وكسر الشعر فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أمّيّا، وكان لا ينشد الشعر. فقال المأمون: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا، وهو الجهل، أما علمت يا جاهل أن ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة وفيك وفي أمثالك نقيصة. شرف الكتاب وفضلهم فمن فضلهم قول الله تعالى على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلم: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » ، وقوله تعالى: كِراماً كاتِبِينَ «4» ، وقوله: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ «5» . وللكتّاب أحكام بيّنة كأحكام القضاة يعرفون بها وينسبون إليها ويتقلدون التدبير وسياسة الملك دون غيرهم، وبهم يقام أود الدين وأمور العالمين. كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم: فمن أهل هذه الصناعة: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان مع شرفه ونبله وقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكتب الوحي، ثم أفضت عليه الخلافة بعد الكتابة،

وعثمان بن عفان- كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتب أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يشهد واحد منهما، كتب غيرهما. وكان خالد بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان المغيرة بن شعبة، والحصين بن نمير، يكتبان ما بين الناس، وكانا ينوبان عن خالد ومعاوية إذا لم يحضرا. وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وكان ربما كتب عبد الله بن الأرقم إلى الملوك عن النبي صلّى الله عليه وسلم وعلى آله. وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص «1» ثمار الحجاز. وكان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي؛ وقيل إنه تعلم بالفارسية من رسول كسرى، وبالرومية من حاجب النبي صلّى الله عليه وسلم، وبالحبشية من خادم النبي صلّى الله عليه وسلم، وبالقبطية من خادمه عليه الصلاة والسلام. وروي عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما، فقام لحاجة، فقال لي: ضع القلم على أذنك، فإنه أذكر للمملي وأفضى للحاجة. وكان معيقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم النبي صلّى الله عليه وسلم. وكان حنظلة بن الربيع بن المرقع بن صيفي، ابن أخي أكثم بن صيفي الأسيّدي، خليفة كل كاتب من كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم إذا غاب عن عمله؛ فغلب عليه اسم الكاتب، وكان يضع عنده خاتمه، فقال له: الزمني وأذكرني بكل شيء أنا فيه؛ وكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام إلا أذكره؛ فلا يبيت صلّى الله عليه وسلم وعنده منه شيء.

ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما بامرأة مقتولة يوم فتح مكة، فقال لحنظلة: الحق خالدا وقل له، لا تقتلنّ ذرية ولا عسيفا «1» . ومات حنظلة بمدينة الرّها، فقالت فيه امرأة؛ وحكي أنه من قول الجن وهذا محال: يا عجب الدهر لمحزونة ... تبكي على ذي شيبة شاحب إن تسأليني اليوم ما شفّني ... أخبرك قيلا ليس بالكاذب إن سواد العين أودى به ... وجدي على حنظلة الكاتب لما وجّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعدا إلى العراق وكتب إليه أن يسبّع القبائل أسباعا، ويجعل على كل سبع رجلا، فعل سعد ذلك، وجعل السّبع الثالث تميما وأسدا وغطفان وهوازن، وأميرهم حنظلة بن الربيع الكاتب. وكان أحد من سيّر إلى يزدجرد يدعوه إلى الإسلام. وكان الحصين بن نمير من بني عبد مناة شهد بيعة الرضوان، ودعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليكتب صلح الحديبية فأبى ذلك سهيل بن عمرو، وقال: لا يكتب إلا رجل منا. فكتب علي بن أبي طالب. وروي عنه عليه السلام أنه قال: لما جاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحديبية، حين صالح قريشا، كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتد ولحق بالمشركين، وقال: إن محمدا يكتب بما شئت! فسمع ذلك رجل من الأنصار، فحلف بالله إن أمكنه الله منه ليضربنّه ضربا بالسيف؛ فلما كان يوم فتح مكة جاء به عثمان- وكان بينهما رضاع- فقال: يا رسول الله هذا عبد الله قد أقبل تائبا. فأعرض عنه، والأنصاري مطيف به ومعه سيفه، فمدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده وبايعه، وقال للأنصاري: لقد تلوّمتك «2» أن توفي بنذرك! فقال: هلا أو مضت إليّ! فقال صلّى الله عليه وسلم: لا ينبغي لي أن أومض «3» .

أيام أبي بكر رضي الله عنه

أيام أبي بكر رضي الله عنه كان يكتب لأبي بكر عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت. وروي أن عبد الله بن الأرقم كتب له، وأن حنظلة بن الربيع كتب له أيضا. ولما تقلد الخلافة دعا يزيد بن ثابت، وقال له: أنت شاب عاقل لا نتهمك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكنت تكتب الوحي: فتتبع القرآن فاجمعه وفيه يقول حسان بن ثابت: فمن للقوافي بعد حسّان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب لعمر بن الخطاب: زيد بن ثابت، وعبد الله بن أرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي- أبو طلحة الطلحات- على ديوان البصرة. وكتب له على ديوان الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك، فلم يزل عليه إلى أن ولى عبيد الله بن زياد، فعزله وولى مكانه حبيب بن سعد القيسي. أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يكتب لعثمان مروان بن الحكم، وكان عبد الملك بن مروان يكتب له على ديوان المدينة، وأبو حبترة على ديوان الكوفة، وعبد الله بن الأرقم على بيت المال، وكان أبو غطفان بن عوف بن سعد بن دينار من بني همدان، من قيس بن عيلان- يكتب له أيضا، وكان يكتب له أهيب مولاه، وحمران مولاه. أيام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كان يكتب له سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولي قضاء الكوفة لابن الزبير؛ وكان عبد الله بن جعفر يكتب له؛ وروي أن عبد الله بن حسن كتب له؛ وكان عبد الله ابن أبي رافع يكتب له، وسماك بن حرب.

[أيام بني أمية]

[أيام بني أمية] كتاب بني أمية: وكان يكتب لمعاوية بن أبي سفيان: سعيد بن أنس الغساني. وكاتب يزيد بن معاوية: سرجون بن منصور. وكاتب مروان بن الحكم: حميد بن عبد الرحمن بن عوف. وكانت عبد الملك بن مروان: سالم مولاه، ثم كتب له عبد الحميد بن يحيى. وهو عبد الحميد الأكبر. وكاتب الوليد بن عبد الملك: جناح مولاه. وكاتب سليمان بن عبد الملك: عبد الحميد الأصغر. وكاتب عمر بن عبد العزيز: الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم؛ وكتب له رجاء ابن حيوة وخص به؛ وإسماعيل بن أبي حكم مولى الزبير؛ وسليمان بن سعد الحسني على ديوان الخراج. وكان عمر يكتب كثيرا بيده. وكاتب يزيد بن عبد الملك: عبد الحميد أيضا، ثم لم يزل كاتبا لبني أمية إلى أيام مروان بن محمد وانقضاء دولة بني أمية؛ وكان عبد الحميد أول من فتق أكمام البلاغة، وسهّل طرقها، وفكّ رقاب الشعر. ثم جاءت الدولة العباسية كتاب بني العباس: فكان كاتب أبي العباس وأبي جعفر: أبا أيوب المورياني الأهوازي. وكاتب محمد المهدي بن المنصور: معاوية بن عبيد الله، ثم يعقوب بن داود. وكاتب موسى الهادي بن محمد المهدي: إبراهيم بن ذكوان الحراني. وكاتب هارون الرشيد محمد المهدي: يحيى بن خالد البرمكي، ثم الفضل بن الربيع، ثم إبراهيم بن صبيح.

وكاتب محمد- بن زبيدة- الأمين: الفضل بن الربيع. وكاتب عبد الله المأمون بن هارون الرشيد: الفضل بن سهل، ثم الحسن بن سهل، ثم عمرو بن مسعدة، ثم أحمد بن يوسف. وكاتب أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وهو المعروف بابن ماردة: الفضل بن مروان، ومحمد بن عبد الملك الزيات. وكاتب الواثق هارون بن محمد المعتصم: محمد بن الملك الزيات أيضا. وكاتب المتوكل جعفر بن محمد المعتصم: إبراهيم بن العباس بن صول، مولى لبني العباس. وكاتب المنتصر محمد، ويكنى أبا جعفر، ابن المتوكل: أحمد بن الخصيب. ثم كتب للمستعين: أحمد بن محمد المعتصم، فظهر من عجزه وعيّه ما أسخطه عليه، ثم جعل وزارته إلى أوتامش، وقام بخدمته شجاع بن القاسم كاتبه، ثم سخط عليهما فقتلهما واستوزر أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، ثم صرفه وقلد وزارته محمد بن الفضل الجرجاني، ثم كانت الفتنة بين المستعين والمعتز، وزارته جعفر بن عفر بن محمود الجرجاني، فلما استقام الأمر رد وزارته إلى أحمد بن إسرائيل. وكاتب المهتدي محمد بن الواثق: جعفر بن محمود الجرجاني، ثم استوزر بعده أيا أيوب سليمان بن وهب. واستوزر المعتمد أحمد بن المتوكل: عبيد الله بن يحيى بن خافان، فلما توفى استوزر بعده الحسن بن مخلد؛ وكان سبب موته أنه صدمه غلام له في الميدان يقال له رشيق، فحمل إلى منزله فمات بعد ثلاث ساعات. وتقلد الوزارة للمعتضد: أحمد بن طلحة. وللموفق بن جعفر المتوكل: عبيد الله بن سليمان بن وهب. وتقلد الوزارة للمكتفي بالله أبي محمد علي بن المعتضد بالله: القاسم بن عبيد الله ابن سليمان.

أسماء من كتب لغير الخليفة

وتقلد الوزارة لجعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله: علي بن محمد بن الفرات، ثم محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ثم علي بن عيسى ثم حامد بن العباس، ثم محمد ابن علي بن مقلة، الذي يوصف خطه بالجودة؛ ثم سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم عبد الله بن أحمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، ولقّب بعميد الدولة، وكان يكتب على كتبه: «من عميد الدولة أبي علي بن ولي الدولة» وذكر لقبه على الدنانير والدراهم؛ ثم الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات. وتقلد الوزارة للقاهر بالله منصور محمد بن المعتضد: محمد بن علي بن مقلة ثم محمد ابن القاسم بن عبيد الله، ثم القاسم بن عبيد الله الحصيني. وتقلد الوزارة للراضي بالله أبي العباس محمد بن جعفر المقتدر: محمد بن علي بن مقلة، ثم عبد الرحمن بن عيسى، أخو الوزير علي بن عيسى، ثم محمد بن القاسم الكرخي؛ ثم الفضل بن جعفر بن الفرات، ثم محمد بن يحيى بن شيرزاد. وتقلد الوزارة للمتّقي بالله إبراهيم بن جعفر بن المقتدر؛ كاتبه أحمد بن محمد بن الأفطس، ثم أبو إسحق القراريطي، ثم علي بن محمد بن مقلة. وتقلد الوزارة للمستكفي بالله أبي القاسم عبد الله بن علي المكتفي بالله: الحسين بن محمد بن أبي سليمان، ثم محمد بن علي السامري المكنى أبا الفرج؛ ثم ولي للمطيع بالله الفضل بن المقتدر، فوزر له الحسن بن هارون. أسماء من كتب لغير الخليفة كان المغيرة بن شعبة كاتبا لأبي موسى الأشعري. وكان سعيد بن جبير كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان قاضيا بعد ذلك. وكان الحسن بن أبي الحسن البصري- مع نبله وفقهه وورعه وزهده- كاتبا للربيع بن زياد الحارثي بخراسان، ثم ولي قضاء البصرة لعمر بن عبد العزيز فقيل له: من ولّيت القضاء بالبصرة؟ فقال: وليت سيد التابعين الحسن بن أبي الحسن البصري.

أشراف الكتاب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم

وكان محمد بن سيرين- مع علمه وورعه- كاتبا لأنس بن مالك بفارس. وكان زياد بن أبيه- مع رأيه ودهائه، وما كان من معاوية في ادعائه- يكتب للمغيرة بن شعبة، ثم لعبد الله بن عامر بن كريز، ثم لعبد الله بن عباس، ثم لأبي موسى الأشعري؛ فوجّهه أبو موسى من البصرة لعمر بن الخطاب ليرفع إليه حسابه، فأمر له عمر بألف درهم، لما رأى فيه من الذكاء، وقال له: لا ترجع لأبي موسى. فقال: يا أمير المؤمنين، أعن خيانة صرفتني أم عن تقصير؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعية! قم ولي بعد الكتابة العراق. وكان عامر الشعبي- مع فقهه وعلمه ونبله- كاتبا لعبد الله بن مطيع، ثم لعبد الله ابن يزيد عامل عبد الله بن الزبير على الكوفة، ثم ولي قضاء الكوفة بعد الكتابة. وكان قبيصة بن ذؤيب كاتبا لعبد الملك على ديوان الخاتم. وكان عبد الرحمن كاتب نافع بن الحارث، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عبد الله بن خلف الخزاعي، أبو طلحة الطلحات، كاتبا على ديوان البصرة لعمرو بن عثمان، ثم قتل يوم الجمل مع عائشة رضي الله عنهما. وكان خارجة بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها. وكان يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى كاتبا على ديوان المدينة زمن يزيد بن معاوية، وكان بعده حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. أشراف الكتاب كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم: كتب له عشرة كتّاب: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وخالد بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد بن العاص، ولدا سعيد بن العاص؛

من أشراف الكتاب:

وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، وزيد بن ثابت، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان: ولم يزل يكتب له حتى مات عليه الصلاة والسلام. من أشراف الكتاب: وكان عثمان بن عفان كاتبا لأبي بكر، ثم صار خليفة. وكان مروان بن الحكم كاتبا لعثمان بن عفان، ثم صار خليفة. وكان عمرو بن سعيد بن العاص كاتبا على ديوان المدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها. وكان المغيرة بن شعبة كاتبا لأبي موسى الأشعري. وكان الحسن بن أبي الحسن البصري كاتبا للربيع بن زياد الحارثي بخراسان. وكان سعيد بن جبير كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان فاضلا. وكان زياد كاتبا للمغيرة بن شعبة، ثم لأبي موسى الأشعري، ثم لعبد الله بن عامر ابن كريز، ثم لعبد الله بن عباس. وكان عامر الشعبي كاتبا لعبد الله بن مطيع، وهو والي الكوفة لعبد الله ابن الزبير. وكان محمد بن سيرين كاتبا لأنس بن مالك بفارس. وكان قبيصة بن ذؤيب كاتبا لعبد الملك على ديوان الخاتم. وكان عبد الرحمن بن أبزي كاتب نافع بن الحارث الخزاعي، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عبيد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام كاتب معاوية. وكان سعيد بن نمران الهمداني سيد همدان كاتب علي بن أبي طالب، ثم ولي بعد ذلك قضاء الكوفة لابن الزبير. وكان عبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات كاتبا على ديوان البصرة لعمر وعثمان، وقتل يوم الجمل مع عائشة.

من نبل بالكتابة وكان قبل خاملا

وكان خارجة بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة من قبل عبد الملك. وكان يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى على ديوان المدينة زمان يزيد بن معاوية؛ وكان بعد حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم. من نبل بالكتابة وكان قبل خاملا سرجون بن منصور الرومي: كتب لمعاوية، ويزيد ابنه، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان؛ إلى أن أمره عبد الملك بأمر فتوانى فيه، ورأى منه عبد الملك بعض التفريط، فقال لسليمان بن سعد كاتبه على الرسائل: إن سرجون يدلّ علينا بصناعته، وأظن أنه رأى ضرورتنا إليه في حسابه، فما عندك فيه حيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحوّلت الحساب من الرومية إلى العربية. قال: افعل، قال: أنظرني أعاني ذلك. قال: لك نظرة ما شئت. فحوّل الديوان، فولاه عبد الملك جميع ذلك. وحسان النّبطي كاتب الحجاج، وسالم مولى هشام بن عبد الملك، وعبد الحميد الأكبر، وعبد الصمد، وجبلة بن عبد الرحمن، وقحذم، جدّ الوليد بن هشام القحذمي؛ وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية. ومنهم الفراء، كاتب خالد بن عبد الله القسري. ومنهم: الربيع، والفضل بن الربيع، ويعقوب بن داود، ويحيى بن خالد، وجعفر ابن يحيى، وأبو محمد عبد الله بن المقفع، والفضل بن سهل، والحسن بن سهل، وجعفر ابن محمد بن الأشعث، وأحمد بن يوسف، وأبو عبد السلام الجند يسابوري، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وإبراهيم بن العباس الصولي، ونجاح بن سلمة، وأحمد بن محمد بن المدبر؛ فهؤلاء نبلوا بالكتابة واستحقوا اسمها. من أدخل نفسه في الكتابة ولم يستحقها صالح بن شيرزاد، وجعفر بن سابور كاتب الأفشين، والفضل بن مروان، وداود

صفة الكتاب

ابن الجراح، وأبو صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وأحمد بن الخصيب؛ فهؤلاء لطخوا أنفسهم بالكتابة وما دانوها. وقال بعض الشعراء في صالح بن شيرزاد: حمار في الكتابة يدّعيها ... كدعوى آل حرب في زياد فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرّقت ثوبك في المداد ومنهم أبو أيوب ابن أخت أبي الوزير. وهو القائل يرثي أمّ سليمان بن وهب الكاتب: لأمّ سليمان علينا مصيبة ... مفلّقة مثل الحسام البواتر وكنت سراج البيت يا أمّ سالم ... فأضحى سراج البيت وسط المقابر فقال سليمان بن وهب: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي: ماتت أمي فرثيت بمثل هذا الشعر، ونقل اسمي من سليمان إلى سالم. صفة الكتاب قال إبراهيم بن محمد الشّيباني: من صفة الكاتب: اعتدال القامة، وصغر الهامة، وخفّة اللهازم «1» ، وكثاثة اللحية، صدق الحسّ، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل، وحسن الإشارة، وملاحة الزّيّ؛ حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيّوا بزيّ الكتّاب؛ فإنّ فيهم أدب الملوك وتواضع السّوقة. وقال إبراهيم بن محمد الكاتب: من كمال آل الكتابة، أن يكون الكاتب نقيّ الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحس، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسالك،

ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه

مستقرّ التركيب، ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثّة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية، عظيم الهامة؛ فإنهم زعموا أنّ هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة. وأنشد سعيد بن حميد في إبراهيم بن العباس. رأيت لهازم الكتّاب خفت ... ولهزمتاك شانهما الفدامه «1» وكتّاب الملوك لهم بيان ... كمثل الدّرّ قد رصفوا نظامه وأنت إذا نطقت كأنّ عيرا ... يلوك بما يفوه به لجامه وقال آخر: عليك بكاتب لبق رشيق ... زكيّ في شمائله جداره تناجيه بطرفك من بعيد ... فيفهم رجع لحظك بالإشاره ونظر أحمد بن الخصيب إلى رجل من الكتاب فدم المنظر «2» ، مضطرب الخلق، طويل العثنون؛ فقال: لأن يكون هذا فنطاس «3» مركب، أشبه من أن يكون كاتبا. فإذا اجتمعت للكاتب هذه الخلال، وانتظمت فيه هذه الخصال، فهو الكاتب البليغ، والأديب النّحرير؛ وإن قصرت به آلة من هذه الآلات، وقعدت به أداة من هذه الأدوات، فهو منقوص الجمال، منكسف الحس، منحوس النصيب. ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه قال إبراهيم الشيباني: أوّل ذلك حسن الخط، الذي هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور.

ولست أجد لحسن الخط حدّا أقف عليه، أكثر من قول علي بن ربن النصراني الكاتب في الكاتب، فإني سألته واستوصفته الخط، فقال. أعلمك الخط في كلمة واحدة؟ فقلت له: تفضل بذلك. فقال: لا تكتب حرفا حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف، وتجعل في نفسك أنك لا تكتب غيره حتى تعجز عنه ثم تنتقل إلى ما بعده. وإياك والنقط والشكل في كتابك، إلا أن تمرّ بالحرف المعضل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه؛ فإني سمعت سعيد بن حميد بن عبد الحميد الكاتب يقول: لأن يشكل الحرف على القارىء أحب إليّ من أن يعاب الكتاب بالشكل. وكان المأمون يقول: إياكم والشّونيز «1» في كتبكم. يعني النقط والإعجام. ومن ذلك: أن يصلح الكاتب آلته التي لابدّ منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلا بها، مثل دواته، فلينعم ربّها «2» وإصلاحها، وليتخيّر من أنابيب القصب أقله عقدا، وأكثفه لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء؛ ويجعل لقرطاسه سكينا حادّا؛ لتكون عونا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة؛ واعلم أنّ محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس. قال العتابي: سألني الأصمعي يوما في دار الرشيد: أي الأنابيب للكتابة أصلح، وعليها أصبر؟ فقلت له: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره عن تلويحه غشاؤه، من التّبريّة القشور، الدّرّيّة الظهور؛ الفضّيّة الكسور. قال: فأيّ نوع من البري أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطة، التي عن يمين سنها قرنة «3» تؤمن معها المجة عند المذة والمطة، للهواء في شقها فتيق، والريح في جوفها خريق «4» ، والمداد في

من صفات الكاتب:

خرطومها رقيق. قال العتابي: فبقي الأصمعي باهتا إليّ ضاحكا لا يحير مسألة ولا جوابا. من صفات الكاتب: ولا يكون الكاتب كاتبا حتى لا يستطيع أحد تأخير أوّل كتابه وتقديم آخره. وأفضل الكتاب ما كان في أول كتابه دليل على حاجته، كما أن أفضل الأبيات ما دل أول البيت على قافيته؛ فلا تطيلنّ صدر كتابك إطالة تخرجه عن حدّه، ولا تقصر به دون حدّه؛ فإنهم قد كرهوا في الجملة أن تزيد صدور كتب الملوك على سطرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك. وقيل للشعبي: أي شيء تعرف به عقل الرجل؟ قال: إذا كتب فأجاد. وقال الحسن بن وهب: الكاتب نفس واحدة، تجزأت في أبدان متفرقة. فأمّا الكاتب المستحقّ اسم الكتابة، والبليغ المحكوم له بالبلاغة، من إذا حاول صيغة كتاب، سالت عن قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت معادنها وندرت من مواطنها من غير استكراه ولا اغتصاب. بين العتابي وصديق له: بلغني أن صديقا لكلثوم العتابي أتاه يوما فقال له: اصنع لي رسالة. فاستمد مدة ثم علق القلم؛ فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردة عنك. فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت عليّ المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه؛ ثم أجتني لك أحسنّها. بين يزيد وكاتب له: قال أحمد بن محمد: كنت عند يزيد بن عبد الله أخي ذبيان، وهو يملي على كاتب له؛ فأعجل الكاتب ودارك في الإملاء عليه، فتلجلج لسان قلم الكاتب عن تقييد

ما يحتاج إليه الكاتب:

إملائه؛ فقال له: اكتب يا حمار! فقال له الكاتب: أصلح الله الأمير، إنه لما هطلت شآبيب الكلام، وتدافعت سيوله على حرف القلم، كلّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده. فكان حضور جواب الكاتب أبلغ من بلاغة يزيد. وقال له يوما وقد مط حرفا في غير موضعه: ما هذا؟ قال: طغيان في القلم. ما يحتاج إليه الكاتب: فإن كان لابد لك من طلب أدوات الكتابة، فتصفح من رسائل المتقدمين ما يعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما يرجع إليه، ومن نوادر الكلام ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسمار ما يتسع به منطقك، ويطول به قلمك؛ وانظر في كتب المقامات والخطب، ومجاوبة العرب، ومعالى العجم، وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم، وسيرهم، ووقائعهم، ومكايدهم في حروبهم بعد أن تكون متوسطا علم النحو والغريب، والوثائق والسور، وكتب السجلات والأمانات؛ لتكون ماهرا، تنتزع آي القرآن في مواضعها؛ واختلاف الأمثال في أماكنها؛ وقرض الشعر الجيد وعلم العروض؛ فإن تضمين المثل السائر، والبيت الغابر البارع، مما يزين كتابك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكا جليل القدر فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء عيب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له، فإن ذلك يزيد في أبّهته. خبر حائك الكلام أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال: لما رجع المعتصم من الثغر وصار بناحية الرقة، قال لعمرو بن مسعدة: ما زلت تسألني في الرّخّجي «1» حتى وليته

الأهواز، فقعد في سرة الدنيا يأكلها خضما وقضما، ولم يوجه إلينا بدرهم واحد؛ اخرج إليه من ساعتك. فقلت في نفسي: أبعد الوزارة أصبر مستحثا على عامل خراج؟ ولكن لم أجد بدّا من طاعة أمير المؤمنين، فقلت: أخرج إليه يا أمير المؤمنين. فقال: احلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوما واحدا. فحلفت له، ثم انحدرت إلى بغداد، فأمرت ففرش لي زورق بالطبري وغشّي بالسّلخ «1» ، وطرح عليه الكز «2» ، ثم خرجت، فلما صرت بين دير هزقل ودير العاقول، إذا رجل يصيح: يا ملاح، رجل منقطع! فقلت للملاح: قرّب إلى الشطّ. فقال: يا سيدي، هذا شحاذ، فإن قعد معك آذاك. فلم ألتفت إلى قوله، وأمرت الغلمان فأدخلوه، فقعد في كوثل «3» الزورق، فلما حضر وقت الغذاء عزمت أن أدعوه إلى طعامي، فدعوته، فجعل يأكل أكل جائع بنهامة، إلا أنه نظيف الأكل؛ فلما رفع الطعام، أردت أن يستعمل معي ما يستعمل العوام مع الخواص: أن يقوم فيغسل يده في ناحية؛ فلم يفعل، فغمزه الغلمان، فلم يقم فتشاغلت عنه ثم قلت: يا هذا ما صناعتك؟ قال: حائك! فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى. فقال لي: جعلت فداك، قد سألتني عن صناعتي فأخبرتك، فما صناعتك أنت؟ قال: فقلت في نفسي: هذه أعظم من الأولى، وكرهت أن أذكر له الوزارة فقلت: أقتصر له على الكتابة؛ فقلت: كاتب. قال: جعلت فداك، الكتّاب على خمسة أصناف: فكاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفصل من الوصل والصدور والتهاني والتعازي والترغيب والترهيب والمقصور والممدود وجملا من العربية؛ وكاتب خراج، يحتاج أن يعرف الزرع والمساحة والأشوال والطّسوق «4» والتقسيط والحساب؛ وكاتب جند، يحتاج أن يعرف مع الحساب الأطماع «5» وشيات الدواب وحلي الناس؛ وكاتب قاض، يحتاج أن يكون عالما بالشروط والأحكام والفروع والناسخ والمنسوخ والحلال والحرام والمواريث؛ وكاتب

شرطة، يحتاج أن يكون عالما بالجروح والقصاص والعقول «1» والديات؛ فأيهم أنت أعزك الله؟ قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني، إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب، فتزوّجت أمّه، فكيف تكتب له: أتهنيه أم تعزيه؟ قلت: والله ما أقف على ما تقول. قال: فلست بكاتب رسائل، فأيّهم أنت؟ قلت: كاتب خراج. قال: فما تقول- أصلحك الله- وقد ولاك السلطان عملا فبثثت عمالك فيه فجاءك قوم يتظلمون من بعض عمالك؛ فأردت أن تنظر في أمورهم وتنصفهم؛ إذ كنت تحب العدل والبر، وتؤثر حسن الأحدوثة وطيب الذكر، وكان لأحدهم قراح «2» كيف كنت تمسحه؟ قال: كنت أضرب العطوف في العمود وأنظركم مقدار ذلك. قال: إذا تظلم الرجل. قلت: فأمسح العمود على حدة. قال: إذا تظلم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب خراج، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب جند. قال: فما تقول في رجلين، اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مقطوع الشفة العليا، والآخر مقطوع الشفة السفلى، كيف كنت تكتب حليتهما؟ قال: كنت أكتب: أحمد الأعلم، وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورزق هذا مائتا درهم ورزق هذا ألف درهم، فيقبض هذا على دعوة هذا، فتظلم صاحب الألف. قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب جند؛ فأيهم أنت؟

قلت: كاتب قاض. فقال: فما تقول- أصلحك الله- في رجل توفي وخلف زوجة وسريّة «1» . وكان للزوجة بنت وللسرية ابن، فلما كان في تلك الليلة أخذت الحرة ابن السّرية فادّعته وجعلت ابنتها مكانه، فتنازعتا فيه، فقالت هذه: هذا ابني. وقالت هذه: هذا ابني. كيف تحكم بينهما وأنت خليفة القاضي؟ قلت: والله لست أدري! قال: فلست بكاتب قاض، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب شرطة. قال فما تقول- أصلحك الله- في رجل وثب على رجل فشجه شجة موضحة «2» ، فوثب عليه المشجوج فشجّه شجة مأمومة «3» ؟ قلت ما أعلم. ثم قلت: أصلحك الله، ففسّر لي ما ذكرت. قال: أما الذي تزوجت أمه، فتكتب إليه: أما بعد، فإن أحكام الله تجري بغير محابّ المخلوقين، والله يختار للعباد، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبر أكرم لها! والسلام. وأما القراح، فتضرب واحدا في مساحة العطوف، فمن ثمّ بابه. وأما أحمد وأحمد، فتكتب حلية المقطوع الشفة العليا: أحمد الأعلم؛ والمقطوع الشفة السفلى: أحمد الأشرم. وأما المرأتان، فيوزن لبن هذه ولبن هذه، فأيهما كان [لبنها] أخفّ فهي صاحبة البنت. وأما الشجة، فإن في الموضحة خمسا من الإبل، وفي المأمومة ثلاثا وثلاثين وثلثا، فيرد صاحب المأمومة ثمانية وعشرين وثلثا. قلت: أصلحك الله، فما نزع بك إلى هنا؟ قال: ابن عم لي كان عاملا على ناحية، فخرجت إليه فألفيته معزولا، فقطع بي، فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلت: ألست ذكرت أنك حائك؟ قال: أنا أحوك الكلام، ولست بحائك الثياب.

فضائل الكتابة

قال: فدعوت المزين فأخذ من شعره. وأدخل الحمام فطرحت عليه شيئا من ثيابي، فلما صرت إلى الأهواز، كلمت الرّخّجيّ، فأعطاه خمسة آلاف درهم. ورجع معي، فلما صرت إلى أمير المؤمنين، قال: ما كان من خبرك في طريقك؟ فأخبرته خبري، حتى حدثته حديث الرجل، فقال لي: هذا لا يستغنى عنه، فلأي شيء يصلح؟ قلت: هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أمير المؤمنين البناء والمرمّة «1» : فكنت والله ألقاه في الموكب النبيل، فينحطّ عن دابته، فأحلف عليه فيقول: سبحان الله! إنما هذه نعمتك وبك أفنيتها. فضائل الكتابة قال أبو عثمان الجاحظ: ما رأيت قوما أنفذ طريقة في الأدب من هؤلاء الكتاب؛ فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا. وقال بعض المهالبة لبنيه، تزيّوا بزي الكتاب فإنهم جمعوا أدب الملوك وتواضع السّوقة. المنصور وقوم من الكتاب: وعتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكتاب فأمر بحبسهم؛ فرفعوا إليه رقعة ليس فيها إلا هذا البيت: ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا فعفا عنهم وأمر بتخلية سبيلهم. وقال المؤيد: كتّاب الملوك عيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة؛

ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها

والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة، وهي صناعة جليلة تحتاج إلى آلات كثيرة. وقال سهل بن هارون: الكتابة أول زينة الدنيا، التي إليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة. ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها قال إبراهيم بن محمد الشيباني: إذا احتجت إلى مخاطبة الملوك، والوزراء، والعلماء، والكتّاب. والخطباء، والأدباء، والشعراء، وأوساط الناس وسوقتهم؛ فخاطب كلا على قدر أبّهته وجلالته، وعلوّه وارتفاعه، وفطنته؛ واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام: منها الطبقات العلية أربع، والطبقات الأخر وهي دونها أربع. ولكل طبقة منها درجة، ولكلّ قسمة لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها ويقلب معناها إلى غيرها. فالحدّ الأول الطبقات العليا، وغايتها القصوى الخلافة، التي أجلّ الله قدرها، وأعلى شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير. والطبقة الثانية لوزرائها وكتابها، الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم. الطبقة الثالثة أمراء ثغورهم وقواد جنودهم؛ فإنه يجب مخاطبة كل أحد منهم على قدره وموضعه وحظه، وغنائه وجزائه، واضطلاعه بما حمل من أعباء أمورهم، وجلائل أعمالهم. والرابعة القضاة؛ فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء، وجلية الفضلاء، فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء.

وأما الطبقات الأربع الأخر، فهم الملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب إليهم، وأفضالهم تفضيلهم فيها. والثانية وزراؤهم وكتّابهم وأتباعهم، الذين تقرع أبوابهم، وبعناياتهم تستباح أموالهم. والثالثة هم العلماء، الذين يجب توقيرهم في الكتب بشرف العلم وعلوّ درجة أهله. والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة، والحلاوة والطلاوة، والظرف والأدب، فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم، وشدّة تمييزهم وانتقادهم، وأدبهم وتصفحهم، إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم. واستغنينا عن الترتيب للسوقة والعوام والتجار، باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهنتهم عن هذه الأدوات. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه؛ فإنك متى أهملت ذلك وأضعته، لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه؛ فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا لائقا بمن كاتبته، وملامسا لمن راسلته، فإن إلباسك المعنى- وإن صحّ وشرف- لفظا متخلفا عن قدر المكتوب إليه، لم تجر به عادته، تهجين للمعنى وإخلال بقدره. وظلم بحق المكتوب إليه، ونقص ما يجب له؛ كما أن في اتباع تعارفهم، وما انتشرت به عاداتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجة أدبهم.

فمن الألفاظ المرغوب عنها، والصدور المستوحش منها في كتب السادات والملوك والأمراء، على اتفاق المعاني، مثل: أبقاك الله طويلا، وعمّرك مليا. وإن كنا نعلم أنه لا فرق بين قولهم: أطال الله بقاك، وبين قولهم: أبقاك الله طويلا؛ ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزنا، وأنبه قدرا في المخاطبة؛ كما أنهم جعلوا: أكرمك الله وأبقاك، أحسن منزلا في كتب الفضلاء والأدباء، من: جعلت فداك، على اشتراك معناه واحتمال أن يكون فداه من الخير، كما يحتمل أن يكون فداه من الشر؛ ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: ارم فداك أبي وأمي، لكرهنا أن يكتب بها أحد؛ على أن كتّاب العسكر وعوامهم قد ولعوا بهذه اللفظة، حتى استعملوها في جميع محاوراتهم، وجعلوها هجّيراهم «1» في مخاطبة الشريف والوضيع، والكبير والصغير. ولذلك قام محمود الوراق: كلّ من حلّ سرّ من رامن الناس ... ومن قد يداخل الأملاكا لو رأى الكلب مائلا بطريق ... قال للكلب: يا جعلت فداكا! وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل: أبقاك الله، وأمتع بك؛ إلا في الابن والخادم المنقطع إليك، وأما في كتب الإخوان فغير جائز، بل مذموم مرغوب عنه؛ ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكا فتهت في كتبك أم قد ترى أنّ في ملاطفة الإخوان ... نقصا عليك في أدبك أكان حقّا كتاب ذي مقة ... يكون في صدره: وأمتع بك!؟ أتعبت كفّيك في مكاتبتي ... حسبك ممّا لقيت في تعبك فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات: كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكل شيء أنال من سببك

أنكرت شيئا فلست فاعله ... ولن تراه يخطّ في كتبك إن يك جهل أتاك من قبلي ... فعد بفضل علىّ من حسبك فاعف فدتك النّفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك ولكل مكتوب إليه قدر ووزن، ينبغي للكاتب أن لا يجاوزه عنه ولا يقصر به دونه، وقد رأيتهم عابوا الأحوص حين خاطب الملوك خطاب العوام في قوله: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق «1» الحديث يقول ما لا يفعل وهذا معنى صحيح في المدح، ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يمدحو بما تمدح به العوام؛ لأنّ صدق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح، فهو واجب على العامة، والملوك لا يمدحون بالفرائض الواجبة، إنما يحسن مدحهم بالنوافل لأن المادح لو قال لبعض الملوك: إنك لا تزني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استودعت، وإنك لتصدق في وعدك وتفي بعهدك؛ فكأنه قد أثنى بما يجب؛ ولو قصد بثنائه إلى مقصده كان أشبه في الملوك. ونحن نعلم أن كل أمير يتولى من أمير المؤمنين شيئا فهو أمير المؤمنين؛ غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا في الخلفاء خاصة. ونحن نعلم أن الكيس هو العقل، ولكن لو وصفت رجلا فقلت: إنه لعاقل كنت مدحته عند الناس، وإن قلت: إنه لكيّس كنت قد قصّرت به عن وصفه، وصغّرت من قدره، إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة. ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر؛ إذ كان استعمال العامة لهذه الكلمة مع الحداثة والغرة وخساسة القدر وصغر السن. وقد روينا عن علي كرم الله وجهه أنه تسمى بالكيّس حين بنى سجن الكوفة، فقال في ذلك:

أما تراني كيّسا مكيّسا ... بنيت بعد نافع مخيّسا «1» حصنا حصينا وأميرا كيّسا وقال الشاعر: ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس وكذلك تعلم أن الصلاة رحمة، غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء. كذلك روينا عن ابن عباس. وسمع سعد بن أبي وقاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تلبيته: لبّيك ياذا المعارج. فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج، ولكن ليس كذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إنما كنا نقول: لبّيك اللهم لبيك. وكان أبو إبراهيم المزني يقول في بعض ما خطب به داود بن خلف الأصبهاني: «فإن قال كذا فقد خرج عن الملة والحمد لله» فنقض ذلك عليه داود، وقال فيما ردّ عليه: نحمد الله على أن يخرج امرأ مسلما من الإسلام؟ وهذا موضع استرجاع، وللحمد مكان يليق به، وإنما يقال في المصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «2» . فامتثل هذه المذاهب، واجر على هذه القواعد، وتحفظ في صدور كتبك وفصولها [وافتتاحها] وخواتمها وضع كلّ معنى في موضع يليق به، وتخيّر لكل لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل: نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه؛ وأشباه هذا؛ وفي موضع ذكر المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون وفي موضع ذكر النعمة: الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا، [وما يشاكل ذلك] ؛ فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظّ فيها؛ فإنّ الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كل معنى في موضعه، ويعلّق كل لفظة على طبقتها من المعنى.

واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمال ما أتت به آي القرآن من الاختصار والحذف، ومخاطبة الخاص بالعام والعام بالخاص؛ لأن الله جل ثناؤه [إنما] خاطب بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه- جل ثناؤه- أمره ونهيه ومراده؛ والرسائل إنما يخاطب بها أقوام دخلاء على اللغة، لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي للكاتب أن يجتنب اللفظ المشترك، والمعنى الملتبس؛ فإنه إن ذهب يكاتب على مثل معنى قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها «1» ، وكقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ » ، احتاج الكاتب أن يبيّن معناه: اسأل أهل القرية وأهل العير، وبل مكركم بالليل والنهار، ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره. وكذلك لا يجوز أيضا في الرسائل والبلاغات المنثورة ما يجوز في الأشعار الموزونة؛ لأن الشاعر مضطر، والشعر مقصور مقيّد بالوزن والقوافي؛ فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها؛ واغتفروا فيه سوء النظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار؛ وذلك كله غير سائغ في الرسائل، ولا جائز في الملاغات، فمّما أجيز في الشعر من الحذف مثل قول الشاعر: قواطنا مكّة من ورق الحما يعني الحمام؛ وقول الآخر: صفر الوشاحين صموت الخلخل يريد الخلخال؛ وكقول الآخر: دار لسلمى إذه من هواكا

يريد إذ هي؛ وكقول الحطيئة: فبها الرّماح وفيها كلّ سابغة ... جدلاء مسرودة من نسج سلّام يريد سليمان؛ وقول الآخر: وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق «1» وأراد ثعلبة بن سيّار؛ وكما قال الآخر: ولست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل أراد ولكن. وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يصغر الاسم في موضع التعظيم، وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: «دويهية» تصغير داهية، «وجذيل» تصغير جذل، «وعذيق» تصغير عذق. وقال الشاعر، وهو لبيد: وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل وقال الحباب بن المنذر يوم سقيفة بني ساعدة: أنا عذيقها «2» المرجّب، وجذيلها «3» المحكّك، وقد شرحه أبو عبيد. ومما لا يجوز في الرسائل وكرهوه في الكلام أيضا، مثل قولهم: كلمت إياك، وأعني إياك، وهو جائز في الشعر: وأحسن وأجمل في أسيرك إنّه ... ضعيف ولم يأسر كإيّاك اسر وقال الراجز: إيّاك حتى بلغت إيّاك

فتخيّر من الألفاظ أرجحها لفظا وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا وأكرمها حسبا، وأليقها في مكانها، وأشكلها في موضعها؛ فإن حاولت صنعة رسالة فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنحت؛ فإنه ربما مر بك موضع يكون مخرج الكلام إذا كتبت: أنا فاعل، أحسن من أن تكتب: أنا أفعل، وموضع آخر، يكون فيه: استفعلت، أحلى من: فعلت؛ فأدر الكلام على أماكنه، وقلّبه على جميع وجوهه؛ فأيّ لفظة رأيتها أخفّ في المكان الذي ندبتها إليه، وأنزع إلى الموضع الذي راودتها عليه فأوقعها فيه؛ ولا تجعل اللفظة قلقة في موضعها، نافرة عن مكانها؛ فإنك متى فعلت [ذلك] هجّنت الموضع الذي حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذي أردت إصلاحه؛ فإن وضع الألفاظ في غير أماكنها، وقصدك بها إلى غير مصابها، إنما هو كترقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حد الجدّة وتغيّر حسنه، كما قال الشاعر: إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبيّن الناس أنّ الثّوب مرقوع «1» كذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخفّ على الأفواه؛ لا سيما إن كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف ومعايرا بكلام عذب لم يسمه التكلف بميسمه ولم يفسده التعقيد باستغلافه. وكتب عيسى بن لهيعة إلى أخيه أبي الحسن، وزوّر كلامه وجاوز المقدار في التنطع «2» ؛ فوقّع في أسفل كتابه: أنّى يكون بليغا ... من اسمه كان عيّا وثالث الحرف منه ... أذ كفيت مسيّا قال: وبلغني أن بعض الكتاب عاد بعض الملوك فوجده يئن من علة، فخرج عنه بباب الطاق، فإذا بطير يدعى الشفانين، فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابا يتنطع

في بلاغته، وذكر: إنه يقال له شفانين، أرجو أن يكون شفاء من أنين! فوقع في أسفل الكتاب: والله لو عطست ضبّا ما كنت عندنا إلا نبطيا، فأقصر عن تنطّعك وسهّل كلامك. قوله: لو عطست ضبّا، يريد: أن الضّباب من طعام الأعراب وفي بلدهم يقال: لو عطست فنثرت صبّا من عطاسك، لم يلحق بالأعراب ولم تكن إلا نبطيا.. وقد جاء في بعض الحديث: أن القط من نثرة عطسة الأسد، وأن الفأر من نثرة عطسة الخنزير، فقال هذا: لو أن الضب من نثرتك لم تكن إلا نبطيا. وفي هذا المعنى قال مخلد الموصلي يهجو حبيبا: أنت عندي عربي ... ليس في ذاك كلام شعر ساقيك وفخ ... ذيك خزامى وثمام «1» وقذى عينيك صمغ ... ونواصيك ثغام «2» وضلوع الصّدر من شل ... وك نبع وبشام «3» لو تحرّكت كذا لا ... ن جفلت منك نعام وظباء راتعات ... ويرابيع عظام «4» وحمام يتغنى ... حبّذا ذاك الحمام أنا ما ذنبي لأن ... كذبني فيك الأنام؟ وفتى يحلف ما إن ... عرّقت فيه الكرام «5» ثم قالوا جاسمي ... من بني الأنّباط حام كذبوا ما أنت إلا ... عربيّ والسّلام!

وقد رأيتهم شبهوا المعنى الخفّي بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر؛ وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف الجزل لفظ شريف جزل، لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام متسقا، وتضاءل المعنى الحسن تحت المعنى القبيح، كتضاءل الحسناء في الأطمار الرثة. وإنما يدل على المعنى أربعة أصناف: لفظ، وإشارة، وعقد، وخط؛ وقد ذكر له أرسطاطاليس صنفا خامسا في كتاب المنطق، وهو الذي يسمى النّصيبة «1» ، والنّصيبة الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة، وهي الناطقة بغير لفظ، والمشيرة إليك بغير يد؛ وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المعاني وسافرة عن وجوهها. وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف صنفان: هما القلم واللسان، وكلاهما للقلب ترجمان! فأمّا اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام، إلى حدّ الإنسانية بالكلام؛ ولذلك قال صاحب المنطق: حدّ الإنسان، الحيّ الناطق. وقال هشام بن عبد الملك: إن الله رفع درجة اللسان فأنطقه بين الجوارح. وقال علي بن عبيدة: إنما يبين عن الإنسان، اللسان وعن المودّة العينان. وقال آخر: الرجل مخبوء تحت لسانه. وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. وقال الشاعر: وما المرء إلا الأصغران: لسانه ... ومعقوله، والجسم خلق مصوّر «2» فإن طرّة راقتك يوما فربّما ... يمرّ مذاق العود والعود أخضر وللخط صورة معروفة، وحلية موصوفة، وفضيلة بارعة. ليست لهذه الأصناف؛ لأنه يقوم مقامه في الإيضاح عند المشهد ويفضله عند المغيب؛ لأنّ الكتب تقرأ في

البلاغة

الأماكن المتباينة، والبلدان المتفرّقة، وتدرس في كل عصر وزمان، وبكلّ لسان؛ واللسان وإن كان ذلقا فصيحا لا يعدو سامعه ولا يجاوزه إلى غيره. البلاغة قال سهل بن هارون: سياسة البلاغة أشدّ من البلاغة. وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى البعيد، والدلالة بالقليل على الكثير. وقيل لابن المقفع: ما البلاغة؟ قال: قلة الحصر، والجراءة على البشر. قيل له: فما العيّ؟ قال: الإطراق من غير فكرة، والتنحنح من غير علة. وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: تطويل القصير، وتقصير الطويل. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: حذف الفضول، وتقريب البعيد. وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ فقال: حسن الاستعارة. وقيل لجالينوس: ما البلاغة؟ فقال: إيضاح المعضل، وفك المشكل. وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه. وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى، والقصد للحجة. وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: تصوير الحق في صورة الباطل، وتصوير الباطل في صورة الحق. وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ فقال: الجزالة والإصابة. تضمين الأسرار في الكتب وأمّا تضمين الأسرار في الكتب حتى لا يقرؤها غير المكتوب إليه، ففيه أدب يجب معرفته، وقد تعلقت العامّة بكتاب القمّيّ والأصبهانيّ. الأصبهاني: وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي منه أشياء جليلة من تبديل

قولهم في الأقلام

الحروف، وذلك ممكن لكل إنسان، غير أنّ اللطيف من ذلك أن تأخذ لبنا حليبا فتكتب به في القرطاس، فيذرّ المكتوب له عليه رمادا سخنا من رماد القراطيس، فيظهر ما كتبت به إن شاء الله؛ وإن شئت كتبت بماء الزاج الأبيض، فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمرّ عليه شيئا من غبار الزاج. وإن أحببت أن لا يقرأ الكتاب بالنهار ويقرأ بالليل، فاكتبه بمرارة السّلحفاة. قولهم في الأقلام قالوا: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرائر القلوب على لغات مختلفة، من معان معقودة بحروف معلومة مؤلّفة، متباينات الصور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكر، ونتاجها التدبر، تخرس منفردات، وتنطق مزدوجات، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة، خلا قلم حرّف باريه قطّته ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر عنه إليه، وشق رأسه ليحتبس المداد عليه، فهنالك استمدّ القلم بشقه، ونثر في القرطاس بخطه حروفا أحكمها التفكر، وجرى على أسلته الكلام الذي سداه العقل، وألحمه اللسان، ونهسته اللهوات، وقطعته الأسنان، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، عن أنحاء شتى من صفات وأسماء. وقال الشاعر وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي: وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق ... له ذملان في بطون المهارق «1» إذا استعجلته الكفّ أمطر وبله ... بلا صوت إرعاد ولا ضوء بارق إذا ما حدا غرّ القوافي رأيتها ... مجلّلة تمضي أمام السّوابق كأنّ عليه من دجى الليل حلّة ... إذا ما استهلّت مزنه بالصّواعق كأن الّلآلي والزبرجد نطقه ... ونوم الخزامى في عيون الحدائق «2»

وقال العلوي في صفة القلم: وعريان من خلعة مكتس ... يميس من الوشي في يلمق «1» تحدّر من رأسه ريقة ... تسيل على ذروة المفرق فكم من أسير له مطلق ... وكم من طليق له موثق يقيم ويوطن غرب البلاد ... وينهى ويأمر بالمشرق قليل كثير ضروب الخطو ... ط وأخرس مستمع المنطق يسير بركب تلال عجال ... إذا ما حدا الفكر في مهرق وقال آخر في القلم: لك القلم المطيعك غير أنّا ... وجدنا وسمه غير المطاع له ذوقان من أري هني ... ومن شري وبيّ ذي امتناع «2» أحدّ اللفظ ينطق عن سواه ... فيسمع وهو ليس بذي استماع إذا استسقى بلاغتك استهلّت ... عليه سماء فكرك باندفاع وقال: وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... بأسمر مشقوق الخياشيم يرعف كأنّ عليه ملبسا جلد حية ... مقيم فما يمضي ولا يتخلّف جليل شئون الخطب، ما كان راكبا ... يسير، وإن أرجلته فمضعّف وقال حبيب بن أوس، وهو من أحسن ما قيل فيه: لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصل لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجني اشتارته أيد عواسل له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل «3» فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل

إذا ما امتطى الخمس الّلطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل إذا استغزر الذّهن الجليّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى، وسمينا خطبه وهو ناحل ولما قال حبيب هذا الشعر حسده الخثعمي، فقال لابن الزيات: ما خطبة القلم التي أنبيتها ... وردت عليك لشاعر مجدود وأنشد البحتري لنفسه يصف قلم الحسن بن وهب: وإذا تألق في النّديّ كلامه ال ... مصقول خلت لسانه من عضبه وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدّجى في كتبه باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منّا، ويبعد نيله في قربه حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفّق وقليبها في قلبه وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبّه وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بعض الكتّاب ويصف القلم: قلم الكتابة في يمينك آمن ... مما يعود عليه فيما يكتب قلم به ظفر العدوّ مقلّم ... وهو الأمان لما يخاف ويرهب يبدي السرائر وهو عنها محجب ... ولسان حجّته بصمت يعرب ومن قولنا في القلم: بكفّه ساحر البيان إذا ... أداره في صحيفة سحرا ينطق في عجمة بلفظته ... نصمّ عنه ويسمع البصرا نوادر تقرع القلوب بها ... إن تستبنها وجدتها صورا نظام درّ الكلام ضمّنه ... سلكا لخطّ الكتاب مستطرا «1»

إذا امتطى الخنصران أذكر من ... سحبان فيما أطال واختصرا يخاطب الغائب البعيد بما ... يخاطب الشاهد الذي حضرا ترى المقادير تستدفّ له ... وتنفذ الحادثات ما أمرا «1» شخب ضئيل لفعله خطر ... أعظم به في ملمّة خطرا تمجّ فكاه ريقة صغرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا يواقع النفس منه ما حذرت ... وربما جنّبت به الحذرا مهفهف تزدهي به صحف ... كأنما حلّيت به دررا «2» كأنها ترفع العيون بها ... خلال روض مكلل زهرا إن قرّبت مرّطت طوابعها ... ما فضّ طين لها ولا كسرا يكاد عنوانها لروعته ... ينبيك عن سرّها الذي استترا ومن أحسن ما شبهت به الأقلام وشبه بها، قول ذي الرّمّة: كأنّ أنوف الطير في عرصاتها ... خراطيم أقلام تخط وتعجم ومثله قول عدي بن الرقاع: يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام ومن قوله في ولد البقرة: تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها ومنه قول المأمون: كأنما قابل القرطاس إذ مشقت ... منها ثلاثة أقلام على قلم «3» ومثله قولنا فيه: إذا أدارت بنانه قلما ... لم تدر للشّبه أيّها القلم ومن قولنا في الأقلام:

ومعشر تنطق أقلامهم ... بحكمة تلقنها الأعين تلفظها في الصكّ أقلامهم ... كأنما أقلامهم ألسن ومن قولنا في الأقلام: يا كاتبا نقشت أنامل كفّه ... سحر البيان بلا لسان ينطق إلا صقيل المتن ملموم القوى ... حزّت لهازمه وشق المفرق فإذا تكلم رغبة أو رهبة ... في مغرب أصغى إليه المشرق يدلي بريقة أريه أو شريه ... يبكي ويضحك من نداه المهرق «1» ولعبد الله بن المعتز كلام يصف القلم. القلم يخدم الإرادة؛ ولا يمل الاستزادة؛ يسكت واقفا، وينطق ساكتا؛ على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء. وقال سليمان بن وهب وزير المهدي: كل قلم تطيل جلفته؛ فإن الخط يخرج به أوقص «2» . وكتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط، فكتب إليه: أما بعد، فليكن قلمك بحريا لا سمينا ولا رقيقا، ما بين الرقة والغلظ، ضيق النقب، فأبره بريا مستويا كمنقار الحمامة: أعطف قطته، ورقق شفرته؛ وليكن مدادك صافيا خفيفا، إذا استمددت منه ليلة ثم صفه في الدواة؛ وليكن قرطاسك رقيقا مستوي النسج، تخرج السحاة مستوية من أحد الطرفين إلى آخره؛ فليست تستقيم السطور إلا فيما كان كذلك، وليكن أكثر تمطيطك في طرف القرطاس الذي في يسارك، وأقله في الوسط ولا تمطّ في الطرف الآخر، ولا تمط كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مط، فإنك إذا فرّقت القليل كان قبيحا، وإذا جمعت الكثير كان سمجا؛ ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله، واخططه بعرضه، واختمه بأسفله؛ واكتب الباء والتاء والسين والشين، والمطة العليا من الصاد والضاد

والطاء والظاء والكاف والعين والغين، ورأس كل مرسل برأس القلم؛ واكتب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء، والمطة السفلى من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين، بالسن السفلى من القلم وامطط بعرض القلم، والمط نصف الخط، ولا يقوى عليه إلا العاقل، ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضا إلا بالنظر إلى اليد في استعمالها الحركة. والسلام. وقال ابن طاهر لكاتبه: ألق دواتك، وأطل سنّ قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط «1» بين الحروف. وقال إبراهيم بن جبلة: مر بي عبد الحميد وأنا أخط خطاّ رديئا، فقال لي: أ [لا] تحب أن يجود خطّك؟ قلت: بلى. قال: أطل جلفة القلم وأسمنها؛ وحرّف قطّتك وأيمنها. ففعلت فجاد خطي. وقال العتابي: ببكاء القلم تبتسم الكتب. وقال بعض الحكماء: أمر الدين والدنيا تحت سنان السيف والقلم. وقال حبيب الطائي: لولا مناشدة القربى لغادركم ... حصائد المرهفين: السيف والقلم وقال أرسطا طاليس: عقول الرجال تحت سنّ أقلامهم. وقال أبو حكيمة: كنت أكتب المصاحف، فمر بي عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقال: أجلل قلمك. فقصمت من قلمي قصمة، فقال: هكذا نوره كما نوره الله. وكان ابن سيرين يكره أن يكتب القرآن مشقا «2» ، وقال: أجود الخط أبينه. وقال سليمان بن وهب: زيّنوا خطوطكم بإسبال ذوائبها.

وقال عمرو بن مسعدة: الخط صورة ضئيلة، لها معان جليلة، وربما ضاق عن العيون، وقد ملأ أقطار الظنون. وذكر علي بن عبيدة القلم فقال: أصمّ يسمع النّجوى؛ أعيا من باقل، وأبلغ من سحبان وائل؛ يجهل الشاهد، ويخبر الغائب؛ ويجعل الكتب بين الإخوان ألسنا ناطقة، وأعينا لاحظة، وربما ضمنها من ودائع القلوب ما لا تبوح به الألسن عند المشاهدة. وقال أحمد بن يوسف الكاتب: ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام في خدود الكتب. وقال العتابي: الأقلام مطايا الفطن. وتخاير «1» غلامان في بعض الدواوين، فقاما إلى أستاذهما يعرضان عليه خطوطهما، فكره أن يفضّل أحدهما على الآخر؛ فقال لأحدهما: أما خطّك أنت فوشي محوك. وقال للآخر: وأما خطك أنت فذهب مسبوك؛ تكافأتما في غاية، وتوافيتما في نهاية. وقال آخر: دخلت الديوان، فنظرت إلى غلام بيده فلم كأنه قضيب عقيان، وعليه مكتوب: وا بأبي! وا بأبي ... من كفّ من يكتب بي وقال أبو هفان يصف القلم: وإذا أمرّ على المهارق كفّه ... بأنامل يحملن شختا مرهفا «2» ومقصّرا ومطوّلا ومقطّعا ... وموصّلا ومشتّتا ومؤلّفا كالحية الرّقشاء إلا أنه ... يستنزل الأروى إليه تلطّفا «3» يهفو به قلم يمجّ لعابه ... فيعود سيفا صارما ومثقّفا وقال آخر في وصف الدواة:

ومسودّة الأرجاء قد خضت جالها ... وروّيت من قعر لها غير منبط خميص الحشا يروى على كلّ مشرب ... أمينا على سرّ الأمين المسلّط وقال بعض الكتّاب: وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأسحار يأرج بالغداة بأضوع أو بأسطع من نسيم ... تؤدّيه الألاقة من دواة وقال آخر في وصف محبرة: ولجّة بحر أجمّ العباب ... باد وأمواجه تزخر إذا غاص فيه أخو غوصة ... سريع السّباحة ما يفتر فأنفس بذلك من غائص ... بديع الكلام له جوهر وأكرم ببحر له لجّة ... جواهرها حكم تنثر وقال ثمامة بن أشرس: ما أثرته الأقلام، لم تطمع في درسه الأيام. ونظر المأمون إلى جارية من جواريه تخطّ خطاّ حسنا، فقال فيها: وزادت لدينا حظوة حين أطرقت ... وفي إصبعيها أسمر اللون أهيف أصمّ سميع، ساكن متحرّك ... ينال جسيمات المنى وهو أعجف «1» وقال بعض الكتاب: إذا ما التقينا وانتضينا صوارما ... يكاد يصم السامعين صريرها تساقط في القرطاس منها بدائع ... كمثل اللآلي نظمها ونثيرها قال بشر بن المعتمر: القلب معدن، والحلم «2» جوهر، واللسان مستنبط، والقلم صائغ، والخط صيغة. وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضمير، إذا رعف «3» أعلن أسراره وأبان آثاره.

وقالوا: حسن الخط يناضل عن صاحبه، ويوضح الحجة، ويمكّن له درك البغية. وقال آخر: الخط الرديء زمانة» الأديب. وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: منها جودة بري القلم، وإطالة جلفته، وتحريف قطّته، وحسن التأني لامتطاء الأنامل، وإرسال المدّة بقدر اتساع الحروف، والتحرز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطأ والإعجام على التصحيف، واستواء الرسوم، وحلاوة المقاطع. وقال سعيد بن حميد: من أدب الكاتب أن يأخذ قلمه في أحسن أجزائه، وأبعد ما يتمكن المداد فيه، ويعطيه من القرطاس حقه. وقال عبد الله بن عباس: كلّ كتاب غير مختوم فهو غفل. وفي تفسير قول الله تعالى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ «2» قال: مختوم. ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة قد أكثر صاحبها إعجامها، فقال: ما أحسن ما كتبت إلا أنك أكثرت شونيزها «3» . وقال أبو عبيدة: لا يقال كأس إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة، ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خوان؛ ولا قلم إلا إذا بري، وإلا فهي قصبة. وقال آخر: جلوس الأدباء عند الوراقين، وجلوس المخّمنين عند النخاسين، وجلوس الطفيليين عند الطباخين. وكتب علي بن الأزهر إلى صديق له يسأله أقلاما يبعث بها إليه: أما بعد، فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم

قولهم في الحبر

الوسم؛ فحلت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصّحريّة أسرع في الكواغد، وأمرّ في الجلود، كما أن البحرية منها أساس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشدّ لتصريف الخط فيها؛ ونحن في بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت أن تتقدم في اختيار أقلام بحرية، وتتأنق في انتقائها قبلك، وتطلبها في مظانّها ومنابتها، من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمم في اختيارك منها الشديد المحص «1» ، الصلبة المقصّ، النقية الجلود، القليلة الشحوم، المكتنزة اللحوم، الضيقة الأجواف، الرزينة المحمل؛ فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الجفاء، وأن تقصد بانتقائك الرّقاق القضبان، المقومات المتون، الملس المعاقد، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا وهي قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبّان ينعها، ولم يؤخّر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر الشتاء «2» ؛ وعفن الأنداء؛ فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا، قطعا رقيقا؛ ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، ووجهتها مع من يؤدي الأمانة في حراستها وحفظها وإيصالها، وكتبت معه رقعة بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى. قولهم في الحبر قال بعض الكتّاب: عطّروا دفاتر آدابكم بجيّد الحبر، فإن الأدب غواني والحبر غوالي. ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثر المداد وهو يستره، فقال له: لا تجزعنّ من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتّاب

وكيع وقريب له:

وكيع وقريب له: وأتى وكيع بن الجراح رجل يمت إليه بحرمة، فقال له: وما حرمتك؟ قال له: كنت تكتب من محبرتي عند الأعمش. فوثب وكيع ودخل منزله، ثم أخرج له بضعة دنانير، وقال له: اعذر فما أملك غيرها. وفي الأقلام أهدى ابن الحرون إلى رجل من إخوانه من الكتّاب أقلاما؛ فكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة- أبقاك الله- أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة؛ خصصتك من آلتها بما يخفّ محمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه ويجلّ خطره؛ وهي أقلام من القصب النابت في الصّحر «1» الذي نشف في حر الهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ فهي كاللآليء المكنونة في الصّدف، والأنوار المحجوبة في السّدف: تبرية القشور دريّة الظهور، فضية الكسور؛ قد كستها الطبيعة جوهرا كالوشي المحبر، وفرند «2» الديباج المنيّر. قولهم في الصحف نعم الأنيس إذا خلوت كتاب ... تلهو به إن ملّك الأحباب لا مفشيا سراّ إذا استودعته ... وتفاد منه حكمة وصواب وقال آخر: ولكلّ صاحب لذّة متنزّه ... أبدا، ونزهة عالم كتبه وقال حبيب: مداد مثل خافية الغراب ... وقرطاس كرقراق السّراب

وألفاظ كألفاظ المثاني ... وخطّ مثل وشم يد الكعاب كتبت ولو قدرت هوى وشوقا ... إليك لكنت سطرا في الكتاب وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وهب: لقد جلّى كتابك كل بثّ ... جو وأصاب شاكلة الرّميّ «1» فضضت ختامه فتبلّجت لي ... غرائبه عن الخبر الجليّ وكان أغضّ في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجنيّ وأحسن موقعا عندي ومنّى ... من البشرى أتت بعد النّعيّ وضمّن صدره ما لم تضمّن ... صدور الغانيات من الحليّ فكائن فيه من معنى خطير ... وكائن فيه من لفظ بهيّ فيا ثلج الفؤاد وكان رضفا ... ويا شبعي برونقه وريّي فكم أفصحت عن بر جليل ... به ووأيت من وأي سنيّ كتبت به بلا لفظ كريه ... على أذن ولا خّط قميّ «2» رسالة من تمتّع منذ حين ... ومتّعنا من الأدب الرّضيّ لئن غربتها في أرض بكر ... لقد زفّت إلى قلب وفيّ وإن يك من هداياك الصّفايا ... فربّ هديّة لك كالهديّ «3» وقال ابن أبي طاهر في ابن ثوابة: في كلّ يوم صدور الكتب صادرة ... من رأيه وندى كفّيه عن منل من خطّ أقلامه خطّ القضاء على ال ... أعداء والموت بين البيض والأسل لعابها علل في الصدر تنفثه ... وربما كان فيه النّقع للغلل كأنّ أسطارها في بطن مهرقها ... نور يضاحك دمع الواكف الخضل «4» وقال البحتري في محمد بن عبد الملك الزيات:

قد تصرفت في الكتابة حتى ... عطّل الناس فنّ عبد الحميد في نظام من البلاغة ما ش ... كّ امرؤ أنّه نظام فريد وبديع كأنه الزهر الضّا ... حك في رونق الربيع الجديد ما اغتدت منه في بطون القراطي ... س وما حمّلت ظهور البريد حجج تخرس الألدّ بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنّبن ظلمة التّعقيد كالعذارى غدون في الحلل البي ... ض إذا رحن في الخطوب السّود وقال عليّ بن الجهم في رقعة جاءته بخط جيّد: ما رقعة جاءتك مثنية ... كأنها خدّ على خدّ ساهمة الأسطر مصروفة ... عن جهة الهزل إلى الجدّ يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليك، حسبي منك ما عندي! وقال محمد بن إبراهيم بن محمد الشيباني: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد، رقعة بأبيات له يصف فيها قامته، وكثافة لحيته، وحلاوة شمائله، وبراعة أدبه، وبلاغة قلمه؛ فقال: أنا من بغية الأمير وكنز ... من كنوز الأمير ذو أرباح كاتب حاسب أديب لبيب ... ناصح زائد على النّصّاح شاعر مفلق أخف من الرّي ... شة ممّا يكون تحت الجناح لي في النّحو قطنة ونفاذ ... أنا فيه قلادة بوشاح «1» لو رمى بي الأمير أصلحه الله ... رماحا صدمت حدّ الرّماح ثم أروى من ابن سيرين في الفق ... هـ بقول منوّر الإفصاح لست بالضّخم في روائي ولا الفد ... م ولا بالمجعّد الدّحداح «2» لحية كثّة وأنف طويل ... واتّقاد كشعلة المصباح

وكثير الحديث من ملح النا ... س بصير بخافيات ملاح كم وكم قد خبأت عندي حديثا ... هو عند الأمير كالتّفاح أيمن الناس طائرا يوم صيد ... في غدوّ أو بكرة أو رواح أعلم الناس بالجوارح والصّي ... د وبالخرد الحسان الملاح كلّ هذا جمعت والحمد ... لله على أنني ظريف المزاح لست بالنّاسك المشمّر ثوبي ... هـ ولا الفاتك الخليع الوقاح لو دعاني الأمير عاين منّي ... شمّرياّ كالبلبل الصدّاح «1» قال: فدعاه فلما دخل عليه أتاه كتاب من أرمينية، فرمى به إليه، وقال له: أجب. فأجاب بما في غرضه وأحسن، فأمر له بألف ألف درهم؛ وكنا نراه أول داخل وآخر خارج؛ وكان إذا ركب فركابه مع ركابه. قال محمد بن يزيد: فبلغ هذا الشعر أبا نواس، فقال: أنت أولى بقلّة الحظّ منّي ... يا مسمّى بالبلبل الصدّاح قد رأوا منه حين غنّى لديهم ... أخرس القول غير ذي إفصاح ثم بالرّيش شبّه النّفس في الخ ... فّة ممّا يكون تحت الجناح فإذا الشّم من شماريخ رضوى ... خفّة عنده نوى المسباح «2» لم يكن فيك غير شيئين ممّا ... قلت في نعت خلقك الدّحداح لحية جعدة وأنف طويل ... وسوى ذاك ذاهب في الرياح فيك ما يحمل الملوك على السّخ ... ف ويزري بالماجد الجحجاح «3» بارد الطرف، مظلم الّلبّ، تيا ... هـ، معيد الحديث، سمج المزاح قال: فبعث إليه أبان بأن لا تذيعها وخذ الألف ألف درهم! فبعث إليه أبو نواس: لو أعطيتني مائة ألف ألف درهم لم أجد بداّ من إذاعتها. فيقال: إن الفضل

توقيعات الخلفاء

ابن يحيى لما سمع شعر أبي نواس قال: لا حاجة لي في أبان، لقد رمي بخمس في بيت لا يقبله على واحدة منهن إلا جاهل. فقيل له: كذب عليه. فقال: قد قيل ذاك. فأقصاه؛ وإنما أغرى أبا نواس بهذا الكاتب: أبان بن عبد الحميد اللاحقي، أن الفضل بن يحيى أعطاه مالا يفرّقه في الشعراء، ويعطي كل واحد على قدره؛ فبعث إلى أبي نواس بدرهم زائف ناقص، وقال: إني أعطيت كل شاعر على مقدار شعره، وكان هذا أوفر نصيبك عندي. فهجاه لذلك. توقيعات الخلفاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه سعد بن أبي وقاص في بنيان يبنيه، فوقّع في أسفل كتابه: ابن ما يكنّك «1» من الهواجر وأذى المطر. ووقع إلى عمرو بن العاص: كن لرعيتك كما تحبّ أن يكون لك أميرك. عثمان بن عفان رضي عنه وقع في قصة قوم تظلموا من مروان بن الحكم وذكروا أنه أمر بوجء «2» أعناقهم: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ «3» . ووقع في قصة رجل شكا علية عليه: قد أمرنا لك بما يقيمك، وليس في مال الله فضل للمسرف. علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقع إلى طلحة بن عبيد الله: في بيته يؤتى الحكم.

معاوية بن أبي سفيان

ووقع في كتاب جاءه من الحسن بن علي رضي الله عنه: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام. ووقع في كتاب سلمان الفارسي- وسأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة؟ -: يحاسبون كما يرزقون.. ووقع في كتاب الحصين بن المنذر إليه يذكر أنّ السيف قد أكثر في ربيعة: بقية السيف أنمى عددا. وفي كتاب جاءه من الأشتر النخعي فيه بعض ما يكره: من لك بأخيك كلّه؟ وفي كتاب صعصعة بن صوحان يسأله في شيء: قيمة كلّ امرىء ما يحسن. معاوية بن أبي سفيان كتب إليه عبد الله بن عامر في أمر عاتبه فيه، فوقع في أسفل كتابه: بيت أمية في الجاهلية أشرف من بين حبيب في الإسلام، فأنت تراه. وفي كتاب عبد الله بن عامر يسأله أن يقطعه مالا بالطائف: عش رجبا «1» تر عجبا. وفي كتاب زياد يخبره بطعن عبد الله بن عباس في خلافته: إن أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهلية في مسلاخ «2» واحد، وذلك حلف لا يحله سوء أدبك. وكتب إليه ربيعة بن عسل اليربوعي يسأله أن يعينه في بناء داره بالبصرة باثنى عشر ألف جذع: أدارك في البصرة، أم البصرة في دارك؟ يزيد بن معاوية وقع في كتاب عبد الله بن جعفر إليه يستميحه لرجال من خاصته: احكم لهم

عبد الملك بن مروان

بآمالهم إلى منتهى آجالهم. فحكم [لهم] بتسعمائة ألف؛ فأجازها. وكتب إليه مسلم بن عقبة المري بالذي صنع أهل الحرّة، فوقع في أسفل كتابه: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «1» . وفي كتاب مسلم بن زياد عامله على خراسان وقد استبطأه في الخراج: قليل العتاب يحكم مرائر الأسباب، وكثيره يقطع أواخي الانتساب. ووقع إلى عبد الرحمن بن زياد وهو عامله على خراسان: القرابة واشجة، والأفعال متباينة؛ فخذ لرحمك من فعلك. وإلى عبيد الله بن زياد: أنت أحد أعضاء ابن عمك، فاحرص أن تكون كلّها. عبد الملك بن مروان وقع في كتاب أتاه من الحجاج [يشكو إليه نفرا من بني هاشم ويغريه بهم] جنّبني دماء بني عبد المطلب، فليس فيها شفاء من الطلب. وكتب إليه الحجاج يخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم، فوقع له: إنّ من يمن السائس أن يأتلف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المؤتلفون. وفي كتاب الحجاج يخبره بقوّة ابن الأشعث: بضعفك قوي، وبخرقك طلع. ووقع في كتاب ابن الأشعث: فما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظا، وينوي من سفاهته كسرى؟ ووقع أيضا في كتاب: كيف يرجون سفاطي بعدما ... شمل الرأس مشيب وصلع

الوليد بن عبد الملك

الوليد بن عبد الملك كتب إليه الحجاج لما بلغه أنه خرق فيما خلّف له عبد الملك، ينكر ذلك عليه ويعرّفه أنه على غير صواب، فوقع في كتابه: لأجمعنّ المال جمع من يعيش. أبدا، ولا فرّقنّه تفريق من يموت غدا. ووقع إلى عمر بن عبد العزيز، قد رأب الله بك الداء، وأوذم «1» بك السّقاء. سليمان بن عبد الملك كتب قتيبة بن مسلم إلى سليمان يتهدّده بالخلع، فوقع في كتابه: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع ووقع في كتابه أيضا: العاقبة للمتقين. وإلى قتيبة أيضا جواب وعيده: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً «2» . عمر بن عبد العزيز كتب بعض العمال إليه يستأذنه في مرمّة مدينته، فوقع أسفل كتابه: ابنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظلم. وإلى بعض عماله في مثل ذلك: حصّنها ونفسك بتقوى الله. وإلى رجل ولاه الصدقات، وكان دميما فعدل وأحسن: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً «3» . وكتب إليه صاحب العراق يخبره عن سوء طاعة أهلها، فوقع له: ارض لهم ما ترضى لنفسك، وخذ بجرائهم بعد ذلك. وإلى عدي بن أرطاة في أمر عاتبه عليه: إنّ آخر آية أنزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «4» .

يزيد بن عبد الملك

وإلى عامله على الكوفة- وكتب إليه أنه فعل في أمر كما فعل عمر بن الخطاب-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» . وإلى الوليد بن عبد الملك- وعمر عامله على المدينة- فوقع في كتابه: الله أعلم أنك لست أوّل خليفة تموت. وأتاه كتاب عديّ يخبره بسوء طاعة أهل الكوفة، فوقع في كتابه: لا تطلب طاعة من خذل عليّا، وكان إماما مرضيا. وإلى عامله بالمدينة وسأله أن يعطيه موضعا يبنيه، فوقع: كن من الموت على حذر. وفي قصة متظلم: العدل أمامك. وفي رقعة محبوس: تب تطلق. وفي رقعة رجل قتل: كتاب الله بيني وبينك. وفي رقعة متنصّح: لو ذكرت الموت شغلك عن نصيحتك. وفي رقعة رجل شكا أهل بيته: أنتما في الحق سيّان. وفي رقعة امرأة حبس زوجها: الحقّ حبسه. وفي رقعة رجل تظلم من ابنه: إن لم أنصفك منه فأنا ظلمتك. يزيد بن عبد الملك وقع إلى صاحب خراسان: لا يغرنّك حسن رأي، فإنما تفسده عثرة. وإلى صاحب المدينة: عثرت فاستقل. وفي قصة متظلم: سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «2» . وفي قصة متظلم شكا بعض أهل بيته: ما كان عليك لو صفحت عنه واستوصلتني.

هشام بن عبد الملك

هشام بن عبد الملك في قصة متظلم: أتاك الغوث إن كنت صادقا، وحلّ بك النكال إن كنت كاذبا؛ فتقدّم أو تأخر. وفي قصة قوم شكوا أميرهم: إن صح ما ادّعيتم عليه عزلناه وعاقبناه. وإلى صاحب خراسان حين أمره بمحاربة الترك: احذر ليالي البيات «1» . وإلى صاحب المدينة وكتب يخبره بوثوب أبناء الأنصار: احفظ فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهبهم له. وقع في رقعة محبوس لزمه الحدّ: نزل بحدّك الكتاب. ووقع في قصة رجل شكا إليه الحاجة وكثرة العيال، وذكر أن له حرمة: لعيالك في بيت مال المسلمين سهم، ولك بحرمتك منّا مثلاه. وإلى عامله على العراق في أمر الخوارج: ضع سيفك في كلاب النار، وتقرب إلى الله بقتل الكفار. وإلى جماعة يشكون تعدي عاملهم عليهم: لنفوّضنّكم في خصمكم دونكم. وفي كتاب عامله يخبره فيه بقلة الأمطار في بلده: مرهم بالاستغفار. وإلى سهل بن سيار: خف الله وإمامك، فإنه يأخذك عند أول زلة. يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وقع إلى مروان [بن محمد] : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت. وإلى صاحب خراسان في المسوّدة: نجم أمر أنت عنه نائم، وما أراك منه أو منّي بسالم. مروان بن محمد كتب إلى نصر بن سيار في أمر أبي مسلم: تحوّل الظاهر يدل على ضعف الباطن، والله المستعان.

توقيعات بني العباس

ووقع إلى ابن هبيرة أمير خراسان: الأمر مضطرب، وأنت نائم، وأنا ساهر. وإلى حوثرة بن سهيل حين وجهه إلى قحطبة: كن من بيات المارقة على حذر. ووقع حين أتاه غرق قحطبة وانهزام ابن هبيرة: هذا والله الإدبار، وإلا فمن رأى ميّتا هزم حيّا؟ وفي جواب أبيات نصر بن سيار إذ كتب إليه. أرى خلل الرّماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام «1» الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول «2» . فكتب نصر: الثّؤلول قد امتدت أغصانه، وعظمت نكايته. فوقع إليه: يداك أوكتا وفوك نفخ. توقيعات بني العباس السفاح كتب إليه جماعة من أهل الأنبار يذكرون أن منازلهم أخذت منهم وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يعطوا أثمانها، فوقع: هذا بناء أسّس على غير تقوى ثم أمر بدفع قيم منازلهم إليهم. ووقع في كتاب أبي جعفر وهو يحارب ابن هبيرة بواسط: إن حلمك أفسد علمك، وتراخيك أثر في طاعتك، فخذلي منك، ولك من نفسك. ووقع إليه في ابن هبيرة بعد أن راجعه فيه غير مرة: لست منك ولست منّي إن لم تقتله. وجاءه كتاب من أبي مسلم يستأذنه في الحجّ وفي زيارته، فوقع إليه: لا أحول بينك وبين زيارة بيت الله الحرام أو خليفته، وإذنك لك. ووقع في كتاب جماعة من بطانته يشكون احتباس أرزاقهم: من صبر في الشدة شارك في النعمة. ثم أمر بأرزاقهم.

أبو جعفر

وإلى عامل تظلّم منه: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «1» . وفي قوم شكوا غرق ضياعهم في ناحية الكوفة: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » . أبو جعفر وقع في كتابه إلى عبد الله بن علي عمه: لا تجعل للأيام فيّ وفيك نصيبا من حوادثها. ووقع إليه أيضا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «3» فاجعل الحظ لك دوني يكن لك. ووقع إلى عبد الحميد صاحب خراسان: شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثم خرجت عن العامّة فتأهب لفراق السلامة. وإلى أهل الكوفة وشكوا عاملهم: كما تكونون يؤمّر عليكم. وإلى قوم تظلموا من عاملهم: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «4» . وفي قصة رجل شكا علية: سل الله من رزقه. وفي قصة رجل سأله أن يبني بقربه مسجدا فإن مصلاه على بعد: ذلك أعظم لثوابك. وفي قصة رجل قطعت عنه أرزاقه: وما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «5» وفي قصة رجل شكا الدين: إن كان دينك في مرضاة الله قضاه. وإلى صارورة سأله أن يحج: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «6» .

المهدي

وإلى صاحب مصر حين كتب يذكر نقصان النيل: طهّر عسكرك من الفساد يعطك النيل القياد. وإلى عامله على حمص، وجاء منه كتاب فيه خطأ: استبدل بكاتبك وإلا استبدل بك. وإلى صاحب أرمينية: إن لي في قفاك عينا، وبين عينيك عينا؛ ولهما أربع آذان. وإلى رجل استوصله: لا مانع لما أعطاه الله. وفي كتاب أتاه من صاحب الهند يخبره أن جندا شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال فأخذوا أرزاقهم منه: لو عدلت لم يشغبوا ولو وفيت لم ينتهبوا. المهدي وقّع في قصة متظلمين شكوا بعض عماله: لو كان عيسى عاملكم قدناه إلى الحق كما يقاد الجمل المخشوش. يريد عيسى ولده. ووقع إلى صاحب أرمينية وكتب إليه يشكو سوء طاعة رعاياه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «1» . وإلى صاحب خراسان في أمر جاءه: أنا ساهر وأنت نائم. وفي قصة قوم أصابهم قحط: يقدّر لهم قوت سنة القحط، والسنة التي تليها. وإلى شاعر- أظنه مروان بن أبي حفصة-: أسرفت في مديحك فقصّرنا في حبائك. وفي قصة رجل من الغارمين، خذ من بيت مال المسلمين ما تقضي به دينك وتقر به عينك. وفي قصة رجل شكا الحاجة: أتاك الغوث. وإلى رجل من بطانته استوصل: ليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.

موسى الهادي

وفي قصة قوم تظلموا من عاملهم وسألوا إشخاصه إلى بابه: قد أنصف القارة «1» من راماها. وفي قصة رجل حبس في دم: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «2» . وإلى صاحب خراسان وكتب إليه يخبره بغلاء الأسعار: خذهم بالعدل في المكيال والميزان. وإلى يوسف البرم حين خرج بخراسان: لك أماني ومؤكّد أيماني. موسى الهادي كتب إلى الحسن بن قحطبة في أمر راجعه فيه: قد أنكرناك منذ لزمت أبا حنيفة؛ كفاناه الله. وإلى صاحب أفريقية في أمر فرط منه: يا بن اللخناء أني تتمرس «3» . هارون الرشيد وقع إلى صاحب خراسان: داو جرحك لا يتسع. وإلى عامله على مصر: احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف فيأتيك مني ما لا قبل لك به، ومن الله أكثر منه. ووقع في قصة رجل من البرامكة: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية. وإلى عامله على فارس: كن مني على مثل ليلة البيات. وإلى عامل خراسان: إن الملوك يؤثر عنهم الحزم. وإلى خزيمة بن خازم إذ كتب إليه أنه وضع السيف حين دخل أرض أرمينية: لا أمّ لك! تقتل بالذنب من لا ذنب له؟ وفي قصة محبوس: من لجأ إلى الله نجا. وفي قصة متظلم: لا يجاوز بك العدل، ولا يقصر بك دون الإنصاف.

وإلى صاحب السّند إذ ظهرت العصبية: كل من دعا إلى الجاهلية تعجّل إلى المنية. وإلى عامله على خراسان: كل من رفع رأسه فأزله عن بدنه. وفي رقعة متظلم من عامله على الأهواز، وكان بالمتظلم عارفا: قد ولّيناك موضعه، فتنكب سيرته. وفي كتاب بكار الزّبيري إليه؛ يخيره بسرّ من أسرار الطالبيّين: جزى الله الفضل خير الجزاء في اختياره إياك وقد أثابك أمير المؤمنين مائة ألف بحسن نيتك. وإلى محفوظ صاحب خراج مصر: يا محفوظ، اجعل خرج مصر خرجا واحدا، وأنت أنت. وإلى صاحب المدينة: ضع رجليك على رقاب أهل هذا البطن فإنهم قد أطالوا ليلي بالسهاد، ونفوا عن عيني لذيذ الرقاد. ووقع إلى السندي بن شاهك: خف الله وإمامك، فهما نجاتك. وإلى سليمان بن أبي جعفر في كتاب ورد عليه منه يذكر فيه وثوب أهل دمشق استحيت بشيخ ولده المنصور، أن يهرب عمن ولده كندة وطيء؛ فهلا قابلتهم بوجهك، وأبديت لهم صفحتك، وبذلت لهم نصيحتك، وكنت كمروان ابن عمك أذ خرج مصلتا سيفه متمثلا ببيت الجحاف بن حكيم: متقلّدين صفائحا هنديّة ... يتركن من ضربوا كمن لم يولد فجالد به حتى قتل؛ لله أمّ ولدته؛ وأب أنهضه. وكتب متملك الروم إلى هارون الرشيد: إني متوجه نحوك بكل صليب في مملكتي، وكلّ بطل في جندي. فوقع في كتابه: وَسَيَعْلَمُ (الْكُفَّارُ) لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ «1» . وكتب إليه يحيى بن خالد من الحبس حين أحبس بالموت: قد تقدم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت بالأثر، والله الحكم العدل، وستقدم فتعلم. فوقع فيه الرشيد:

المأمون

الحكم الذي رضيته في الآخرة لك، هو أعدى الخصم في الدنيا عليك، وهو من لا يردّ حكمه، ولا يصرف قضاؤه. المأمون وقع إلى علي بن هشام في أمر تظلم: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه، ويظلمه من دونه؛ فأي الرجلين أنت؟ وإلى هشام: لا أدنيك ولك ببابي خصم. وإلى الرستمي في قصة من تظلم منه: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة، وغريمك خاو وجارك طاو «1» . وفي قصة متظلم من عمرو بن مسعدة: يا عمرو، عمّر نعمتك بالعدل؛ فإن الجور يهدمها. وفي قصة متظلم من أبي عباد: يا ثابت، ليس بين الحق والباطل قرابة. وفي قصة متظلم من أبي عيسى أخيه: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «2» . وفي قصة لمتظلم من حميد الطوسي: يا أبا غانم، لا تغتّر بموضعك من إمامك، فإنك وأخسّ عبيده في الحق سيّان. وإلى طاهر صاحب خراسان: احمد أبا الطيب، إذ أحلك الخليفة محل نفسه فمالك موضع تسمو إليه نفسك إلا وأنت فوقه عنده. وفي كتاب بشر بن داود: هذا أمان عاقدت الله في مناجاتي إياه. وفي كتاب إبراهيم بن جعفر في فدك «3» حين أمره بردّها؛ قد أرضيت خليفة الله في فدك، كما أرضى الله رسوله فيها. وفي قصة متظلم من محمد بن الفضل الطوسي: قد احتملنا بذاءك وشكاسة خلقك، فأما ظلمك للرعية فإنا لا نحتمله.

توقيعات الأمراء والكبراء

ووقع إلى بعض عماله: طالع كلّ ناحية من نواحيك وقاصية من أقاصيك بما فيه استصلاحها. وكتب إليه إبراهيم بن المهدي في كلام له: إن غفرت فبفضلك، وإن أخذت فبحقك. فوقع في كتابه: القدرة تذهب الحفيظة، والندم جزء من التوبة وبينهما عفو الله. ووقع في رقعة مولى طلب كسوة: لو أردت الكسوة للزمت الخدمة، ولكنك آثرت الرّقاد فحظّك الرؤيا. ووقع في يوم عاشوراء لبعض أصحابه وقد وافته الأموال: يؤمر له بخمسمائة ألف لطول همته، ولثمامة بن أشرس بثلاثمائة ألف لتركه ما لا يعنيه، ولأبي محمد اليزيدي يؤمر له بخمسمائة ألف لكبره، وللمعلي بخمسمائة ألف لصحيح سنته، ولإسحاق بن إبراهيم بخمسمائة ألف لصدق لهجته، وللعباس بخمسمائة ألف لفصاحة منطقه، ولأحمد ابن أبي خالد بألف ألف لمخالفة شهوته، ولإبراهيم بن بويه كذلك لسرعة دمعته، وللمريسي بثلاثمائة ألف لإسباغ وضوئه، ولعبد الله بن بشر بمثلها لحسن وجهه. توقيعات الأمراء والكبراء زياد وقّع إلى بعض عماله: قد كنت على الذّعّار وإخالك ذاعرا. وكتبت إليه عائشة في وصاة برجل، فوقع في كتابها: هو بين أبويه. وإلى صاحب خراسان في أمر خالفه فيه: استر بعض دينك ببعض، وإلا ذهب كله. وإلى عامله بالكوفة أمط الحدود عن ذوي المروءات. وفي قصة متظلم: أنا معك. وفي قصة قوم رفعوا على عامل رفيعة «1» : من أماله الباطل قوّمه الحق.

الحجاج بن يوسف

وفي قصة مستمنح: لك المواساة. وإلى عامله في خوارج خرجوا بالبصرة: النساء تحاربهم دونك. وفي قصة سارق: القطع جزاؤك. وفي قصة امرأة حبس زوجها: حكمه إلى الله. وفي قصة قوم نقبوا: تنقب ظهورهم. وفي قصة نبّاش: يدفن حيّا في قبره. وفي قصة متظلم: الحقّ يسعك. وفي قصة متنصح: مهلا فقد أبلغت إسماعي. وفي قصة متظلم: كفيت. وفي قصة رجل شكا إليع عقوق ابنه: ربما كان عقوق الولد من سوء تأديب الوالد! وفي قصة رجل شكا الحاجة: لك في مال الله نصيب أنت آخذه. وفي قصة رجل جارح: الجروح قصاص. وفي قصة محبوس: التائب من الذّنب كمن لا ذنب له. وفي قصة قوم شكوا غرق ضياعهم: لا تعرّض فيما تفرّد الله به. وفي قصة قوم اشتكوا اجتياح الجراد لزروعهم: لا حكم فيما استأثر الله به. الحجاج بن يوسف وقع في كتاب أتاه من قتيبة بن مسلم يشكو كثرة الجراد، وذهاب الغلات، وما حل بالناس من القحط: إذا أزف خراجك فانظر لرعيتك في مصالحها، فبيت المال أشدّ اطلاعا لذلك من الأرملة واليتيم وذي العيلة. وفي كتاب قتيبة إليه أنه على عبور النهر ومحاربة الترك: لا تخاطر بالمسلمين حتى تعرف موضع قدمك، ومرمى سهامك. وفي كتاب صاحب الكوفة يخبره بسوء طاعتهم وما يقاسي من مداراتهم: ما ظنّك

أبو مسلم

بقوم قتلوا من كانوا يعبدونه؟ وفي قصة محبوس ذكروا أنه تاب: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «1» . وإلى قتيبة: خذ عسكرك بتلاوة القرآن، فإنه أمنع من حصونك. وفي كتابه إلى بعض عماله: إياك والملاهي حتى تستنظف «2» خراجك. وفي كتاب إلى ابن أخيه: ما ركب يهوديّ قبلك منبرا. وفي كتابه إلى يزيد بن أبي مسلم: أنت أبو عبيدة هذا القرن. أبو مسلم وقع في كتاب سليمان بن كثير الخزاعي: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «3» . وإلى أبي العباس في يزيد بن عمر بن هبيرة: قلّ طريق سهل تلقى فيه الحجارة إلا عاد وعرا؛ والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة أبدا. وإلى ابن قحطبة: لا تنس نصيبك من الدنيا. وإليه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ «4» . وإليه: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «5» . وإلى محمد بن صول وكتب إليه بسلامة أطرافه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «6» . وكتب إليه قحطبة: إن بعض قوّاده خرج إلى عسكر بن ضبارة راغبا فوقّع في كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ «7» . وإلى عامله ببلخ: لا تؤخر عمل اليوم لغد. وإلى أبي سلمة الخلال حين أنكر نيته: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «8» .

جعفر بن يحيى

جعفر بن يحيى وقع في قصة محبوس: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ «1» . وفي مثله: العدل يوبقه، والتوبة تطلقه. وفي قصة متنصح: بعض الصدق قبيح. وفي رجل شكا بعض عمّاله: قد كثر شاكوك، وقل شاكروك؛ فإما عدلت، وما اعتزلت. وفي قصة رجل شكا بعض خدمه: خذ بأذنه ورأسه فهو مالك. وإلى عامل فارس في رجل كتب إليه بالوصاة: كن له كأبيه لو كان مكانك. وإلى عامل مصر في رجل من بطانته يوصيه: إنه رغب إلى شعبك فارغب في اصطناعه. وفي قصة متظلم من بعض عماله: إني ظلمتك دونه. وفي قصة محبوس: الجناية حبسته والتوبة تطلقه. وإلى قوم: عين الخليفة تكلؤكم ونظره يعمّكم. وفي رقعة صرورة استأذنه في الحج: من سافر إلى الله أنجح. وفي قصة رجل شكا عزوبة: الصوم لك وجاء «2» . وفي رقعة رجل سأل ولاية: لا أولي بعض الظالمين بعضا. وفي قصة رجل سأل أن يقفل ابنه فقد طالت غيبته عنه: غيبة يوسف صلّى الله عليه وسلم كانت أطول. وفي قصة رجل تظلم من عماله: إنّا لمثله حتى ننصفك. وفي قصة مستمنح قد كان وصله مرارا: دع الضرع يدرّ لغيرك كما در لك. وإلى الفضل بن الربيع وجاءه منه كتاب غمّه وكربه: كثرة ملاحاة الأودّاء، ربما أراقت الدماء. وإلى منصور بن زياد في أمر عاتبه فيه: لم نزرعك لنحصدك.

الفضل بن سهل

وإلى بعض عماله: اجعل وسيلتك إلينا ما يزيدك عندنا. وإلى بعض ندمائه: لا تبعد من ضمّك. ووقع إلى متنصل من ذنب: حكم الفلتات خلاف حكم الاصرار. الفضل بن سهل كتب إلى أخيه الحسن: احمد الله يا أخي، فما يبيت خليفة الله إلا على ذكرك وإلى طاهر: لخير ما اتضعت. وإليه: لشرّما سموت. وإلى هرثمة وأشار عليه برأي: لا يحلّ ما عقدت. وفي قصة متظلم: كفى بالله للمظلوم: ناصرا. وفي قصة نقب بيت المال: يدرأ عنه الحد إن كان له فيه سهم. ووقع إلى حاجبه: تمهّل وتسهّل. وإلى صاحب الشرطة: ترفّق توفّق. وإلى رجل شكا غلبة الدّين: قد أمرنا لك بثلاثين ألفا وسنشفعها بمثلها، ليرغب المستمنحون. وفي قصة متظلم: طب نفسا فإنّ الله مع المظلوم. وإلى رجل شكا إليه الدّين: الدّين سوء يهيض الأعناق، وقد أمرنا بقضائه. وفي قصة قوم قطعوا الطريق: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» .

الحسن بن سهل ذو الرياستين

وفي امريء قاتل شهد عليه العدول فشفع فيه: كتاب الله أحقّ أن يتبع. وفي قصة رجل شهد عليه أنه شتم أبا بكر وعمر: يضرب دون الحدّ ويشهر ضربه. الحسن بن سهل ذو الرياستين وقّع في قصة متظلم: ينظر فيما رفع، وإنّ الحق منيع، وإلّا فشفاء السقيم دواء السقم. وفي قصة قوم تظلموا من واليهم: الحقّ أولى بنا، والعدل بغيتنا، وإن صح ما ادّعيتم عليه صرفناه وعاقبناه. وفي قصة امرأة حبس زوجها: الحق يحبسه والإنصاف يطلقه. وفي رقعة رائد: قد أمرنا لك بشيء هو دون قدرك في الاستحقاق، وفوق الكفاية مع الاقتصاد. وكتب إليه رجل من الشعراء يقول له: رأيت في النوم أني راكب فرسا ... ولي وصيف وفي كفّي دنانير فقال قوم لهم فهم ومعرفة ... رأيت خيرا وللأحلام تعبير رؤياك فسّر غدا عند الأمير تجد ... تعبير ذاك وفي النوم التّباشير فوقع في أسفل كتابه أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ «1» وأطلق له ما التمسه. ودخل بعض الشعراء على عبد الملك بن بشر بن مروان فأنشده: أغفيت عند الصبح نوم مسهّد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها فرأيت أنك رعتني بوليدة ... رعبوبة حسن عليّ قيامها «2»

طاهر بن الحسين

وببدرة حملت إليّ وبغلة ... دهماء مشرفة يصلّ لجامها فدعوت ربي أن يثيبك جنة ... عوضا يصيبك بردها وسلامها تلك المنابر يا بن مروان النّدى ... أضحت وأنت خطيبها وإمامها فقال له: أبشر في كل شيء أصبت إلا البغلة، فإني لا أملك إلا شهبا، فقال له: امرأتي طالق إن كنت رأيتها إلا شهبا، إلا أني غلطت. طاهر بن الحسين وقّع في كتاب رجل تظلم من أصحاب نصر بن شبيب: طلب الحق في دار الباطل. وفي قصة رجل طلب قبالة «1» بعض أعماله: القبالة مفتاح الفساد، ولو كانت صلاحا ما كنت لها موضعا. وإلى السّندي بن شاهك وجاءه منه كتاب يستعطفه فيه: عش ما لم أراك. وإلى خزيمة بن خازم: الأعمال بخواتيمها، والصنيعة باستدامتها وإلى الغاية ما جرى الجواد، فحمد السابق وذم الساقط. وإلى العباس بن موسى الهادي واستبطأه في خراج ناحيته: وليس أخو الحاجات من بات نائما ... ولكن أخوها من يبيت على رحل وفي رقعة متنصح سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ «2» . وفي قصة محبوس: يطلق ويعتق. وفي رقعة مستوصل: يقام أوده. وكتب أبو جعفر إلى عمرو بن عبيد: أبا عثمان، أعنّي بأصحابك، فإنهم أهل

توقيعات العجم

العدل وأصحاب الصدق والمؤثرون له. فوقع في كتابه: ارفع علم الحق يتبعك أهله. توقيعات العجم وقّع أردشير في أزمة عمت المملكة: من العدل أن لا يفرح الملك ورعيّته محزونون. ثم أمر ففرّق في الكور جميع ما في بيوت الأموال. ورفع رجل إلى كسرى بن قباذ رقعة يخبره فيها أنّ جماعة من بطانته قد فسدت نيّاتهم وخبثت ضمائرهم، منهم فلان وفلان؛ فوقع في أسفل كتابه: إنما أملك ظاهر الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. ووقع كسرى في رقعة مدح: طوبي للممدوح إذا كان للمدح مستحقا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلا. وكتب إليه متنصح أنّ قوما من بطانته اجتمعوا للمنادمة، فعابوه وثلموه، فوقّع: لئن كانوا نطقوا بألسنة شتى لقد اجتمعت مساويها على لسانك فجرحك أرغب «1» ، ولسانك أكذب. ورفع إليه جماعة من بطانته رقعة يشكون فيها سوء حالهم، فوقع: ما أنصفكم من إلى الشّكيّة أحوجكم. ثم فرّق بينهم ما وسعهم وأغناهم. ووقع أنو شروان إلى صاحب خراجه: ما استغزر الخراج بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور. ووقع في قصة رجل تظلم منه: لا ينبغي للملك الظّلم ومن عنده يلتمس العدل، ولا يبخل ومن عنده يتوقع الجود. ثم أمر بإحضار الرجل وقعد معه بين يدي الموبذ «2» . ووقع في قصة محبوس: من ركب ما نهي عنه حيل بينه وبين ما يشتهي.

فصول في المودة

ودفع إليه بعض خدمه رقعة يخبره فيها بكثرة عياله، وسوء حاله، فعرف كذبه، فوقع: إن الله خفف ظهرك فثقّلته، وأحسن إليك فكفرته فتب إلى الله يتب عليك. ووقع في قصة رجل سعى إليه بباطل: باللسان احفظ رأسك. ووقّع في قصة رجل ذكر أن بعض قرابة الملك ظلمه وأخذ ماله: لا تصلح العامة إلا ببعض الحيف على الخاصة؛ فإن كنت صادقا أبحتك جميع ما يملكه. فلم يتظلم بعدها أحد من قرابته. فصول في المودّة كتب عبد الرحمن بن أحمد الحراني إلى محمد بن سهل: أعزك الله، إن كل مجازاة قاصرة عن حق السابق إلى افتتاح الود، وقد علمت أني استقبلتك من الإقبال عليك بما لم تستدعه، واعتمدتك من الرغبة فيك بما لم توله. وفصل لأبي علي البصير: قد أكد الله بيننا من الودّ ما نأمن الدهر على حل عقده ونقض مراره، وما يستوي منه ثقتنا بأنفسنا لك وثقتنا بما عندك. وفصل له: الحال فيما بيننا يحتمل الدالة، ويوجب الأنس والثقة، وبسط اللسان بالاستزادة؛ وأنا أمت إليك بالحرمة المتقدمة، والأسباب المؤكدة، التي تحل صاحبها محل خاصة الأهل والقرابة. وفصل لإبراهيم بن العباس: المودّة يجمعنا حبلها، والصناعة تؤلفنا أسبابها، وما بين ذلك من تراخ في لقاء، أو تخلف في مكاتبة، موضوع بيننا، يوجب العذر فيه. وفصل لسعيد بن عبد الملك: أنا صبّ «1» إليك، سامي الطرف نحوك، وذكرك ملصق بلساني، واسمك حلو على لهواتي، وشخصك ماثل بين عينيّ، وأنت أقرب الناس من قلبي، وآخذهم بمجامع هواي.

فصول في الزيارة

وفصل له: لنحن أحقّ بابتدائك بما ابتدأتنا به من الصلة، إلا أنك أحق بالفضل الذي سبقت إليه. وفصل لسعيد بن حميد: إني أهديت مودّتي رغبة إليك، ورضيت بالقبول منك مثوبة، فصرت بقبولها قاضيا لحق، ومالكا لرق، وصرت بالتسرع إلى الهدية، والتنظّر للمثوبة، مرتهن اللسان بالجزاء، واليدين بالوفاء. وفصل له: إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام، لأن النفس يقودها بعضها بعضا. وقال أبو العتاهية: وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه وللناس من الناس ... مقاييس وأشباه وفصل له: لساني رطب بذكرك، و [مكانك من قلبي] معمور بمحبتك، حضرت أو غبت، سرت أو أقمت. كقول أخي أبي دلف: لعمري لئن قرّت بقربك أعين ... لقد سخنت بالبين منك عيون فسر أو فقف، وقف عليك مودّتي ... مكانك من قلبي عليك مصون وفصل لإبراهيم بن المهدي: كتابي إليك كتاب مخبر وسائل، فأما الإخبار فعن تصرّف الخطوب بما يوجب العذر عند صديقي العزيز علي في إبطائي بالتعد له، وأما السؤال فعن إمساك هذا الأخ الودود المودود عن مثل ذلك وإن العذر كاشف ما سلف، مصلح لما استأنف. فصول في الزيارة كتب الحسين بن الحسن بن سهل إلى صديق له: نحن في مأدبة لما تشرف على روضة تضاحك الشمس حسنا، قد باتت السماء

تكلّها، فهي شرقة بمائها، حالية بنوّارها» ، فبادر إلينا لنكون على سواء من استمتاع بعضنا ببعض؛ فكتب إليه: هذه صفة لو كانت في أقاصي الأطراف لوجب انتجاعها «2» ، وحثّ المطيّ في ابتغائها؛ فكيف في موضع أنت تسكنه، وتجمع إلى أنيق منظره، حسن وجهك وطيب شمائلك! وأنا الجواب! وفصل: كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى أحمد بن يوسف في المصير إليه وعند أحمد بن يوسف إبراهيم بن المهدي؛ فكتب: عندي من أنا عنده، وحجّتنا عليك إعلامنا إياك. وفصل: إنه من ظميء شوقه من رؤيتك، استوجب الرّيّ من زيارتك. ثم كتب تحت هذا: سر إلينا تفديك نفسي من السّو ... ء فقد طال عهدنا بالتلاقي واجعلن ذاك- إن رأيت- جوابي ... فلقد خفت سطوة الإشتياق وفصل: إلى الله أشكو شدة الوحشة لغيبتك، وفرط الحزن من فراقك، وظلم الأيام بعدك؛ وأقول كما قال بعض المحدثين: غضارة دنيا أظلم العيش بعدها ... وعند غروب الشمس يعرف فقدها وفصل: الشوق إليك وإلى عهد أيامنا التي حسنت بك كأنها أعياد، وقصرت كأنها ساعات- يفوّت الصفاء؛ ومما يجدّده ويكثر دواعيه، تصاقب الديار، وقرب الجوار، تمم الله لنا النعمة المجددة فيك، بالنظر إلى الغرة المباركة التي لا وحشة معها، ولا أنس بعدها. وفصل: مثلنا أعزك الله في قرب تجاورنا وبعد تزاورنا، ما قيل في أهل القبور: هم جيرة الأحياء، أما مرارهم ... فدان، وأمّا الملتقى فبعيد!

فصول في وصاة

وكل علة معك محتملة، وكل جفوة مغفورة، للشغف بك، والثقة بحسن نيتك؛ وسنأخذ بقول أبي قيس بن الأسلت: ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن إتيانهنّ فتعذر وفصل: كتب حكيم إلى حكيم: يا أخي، إن أيام العمر أقلّ من أن تحتمل الهجر! والسلام. فصل: كتب أحمد بن يوسف: لا تجوز قطيعة الصديق؛ لأنها لا تخلو من أحد وجهين إما ضعف في نفس الاختيار، وإما ملل؛ وكلاهما حجة فيه. وفصل: طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند الالتقاء؛ وقد جعلك الله للسرور نظاما، وللأنس تماما، وجعل المشاهد موحشة إذا خلت منك. وكتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما توالي من هذه الأنواء «1» فسلام الإله أهديه منيّ ... كلّ يوم لسيّد الوزراء لست أدري ماذا أقول وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء غير أني أدعو على تلك بالثّكل ... وأدعو لهذه بالبقاء وقال آخر: أزور محمّدا فإذا التقينا ... تكلمت الضمائر في الصدور فأرجع لم ألمه ولم يلمني ... وقد رضي الضمير عن الضّمير فصول في وصاة كتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوق في ابن أبي الشيص: كتابي إليك خططته بيميني، وفرّغت له ذهني، فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني،

فصول في عتاب

أتراني أقبل العذر فيها، وأقصّر في الشكر عليها؟ وابن أبي الشيص قد عرفته ونسبه وصفاته، ولو كانت أيدينا تنبسط ببرّه ما عدانا إلى غيرنا، فاكتف بهذا منا. وفصل: كتابي إليك كتاب معنيّ بمن كتب له، واثق بمن كتب إليه، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله. وفصل: كتب العتابي فكاد أن يختل بالمعنى من شدة الاختصار، فكتب: حامل كتابي إليك أنا، فكن له أنا! والسلام. وفصل للحسن بن سهل: فلان قد استغنى باصطناعك إياه عن تحريكي إياك في أمره، فإن الصنيعة حرمة للمصنوع إليه ووسيلة إلى مصطنعه، فبسط الله يدك بالخيرات، وجعلك من أهلها، ووصل بك أسبابها. وفصل له: موصّل كتابي إليك أنا، فكن له أنا، وتأمله بعين مشاهدتي وخلّتي، فبلسانه أشكر ما أتيت إليه، وأذم ما قصرت فيه. فصول في عتاب كتب أحمد بن يوسف: لولا حسن الظن بك- أعزّك الله- لكان في إغضائك عني ما يقبضني عن الطّلبة إليك، ولكن أمسك برمق من الرجاء علمي برأيك في رعاية الحق، وبسط يدك إلى الذي لو قبضتها عنه، لم يكن له إلا كرمك مذكّرا، وسوددك شافعا فصل: أما بعد البرء من مريض داؤه في دوائه، وعلّته في حميته! أنا منك كالغاصّ بالماء لا مساغ له. وكما قال الشاعر: كنت من كربتي أفرّ إليهم ... وهم كربتي، فأين الفرار؟ فصل: أنا منتظر واحدة من اثنتين: عتبي تكون منك، أو عقبي تغني عنك!

فصل: أما بعد، فقد كنت لنا كلّك، فاجعل لنا بعضك، ولا نرضى إلا بالكل لك منا. فصل: أنا أبقي على ودّك من عارض يغيّره، أو عتاب يقدح فيه، وآمل عائدا من حسن رأيك، يغني عن اقتضائك. فصل: ألهمك الله من الرشد بحسب ما منحك من الفضل. لو أن كل من نازع إلى الصرم قلّدناه عنان الهجر، لكنّا أولى بالذنب منه ولكن نردّ عليك من نفسك ونأخذ لها منك. فصل: لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين. أما بعد، فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك؛ ابتدأتني بلطف عن غير خبرة، وأعقبته جفاء من غير ذنب؛ فأطمعني أوّلك في إخائك، وآيسني آخرك من وفائك؛ فسبحان من لو شاء لكشف من أمرك عن عزيمة الرأي فيك؛ فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف! فصل: إذا جعلت الظنّ شاهدا تعدل شهادته بعد أن جعلته حكما يحيف في حكومته، فأين الموئل من جورك؟ ولست أسلك طريقا من العتب عليك إلا شدّة ما أنطوى عليه من مودتك، ولا سبيل إلى شكايتك إلا إليك، ولا استعانة إلا بك، وما أحقّ من جعلك على أمر عونا أن تكون له إلى النجاح سببا! وقال الشاعر: عجبت لقلبك كيف انقلب ... ومن طول ودّك، أنى ذهب وأعجب من ذا وذا أنني ... أراك بعين الرّضا في الغضب! وفصل: إن مسألتي إليك حوائجي مع عتبك عليّ من اللؤم وإن إمساكي! عنها في حال ضرورة إليها مع علمي بكرمك في السخط والرضا، لعجز؛ غير أني أعلم أن أقرب الوسائل في طلب رضاك، مساءلتك ما سنح من الحاجة؛ إذ كنت لا تجعل

عتبك سببا لمنع معروفك. وفصل: لو كانت الشكوك تختلجني في صحة مودّتك وكريم إخائك ودوام عهدك، لطال عتبي عليك، في تواتر كتبي واحتباس جواباتها عني؛ ولكن الثقة بما تقدم عندي، تعذرك وتحسن ما يقبّحه جفاؤك، والله يديم نعمته لك ولنا بك. وفصل لابن المدبر: وصل كتابك المفتتح بالعتاب الجميل، والتقريع اللطيف؛ فلولا ما غلب عليّ من السرور بسلامتك، لتقطعت غماّ بعتابك، الذي لطف حتى كاد يخفى عن أهل الرقة والفطنة، وغلظ حتى كاد يفهمه أهل الجهل والبله؛ فلا أعدمني الله رضاك مجازيا به على ما استحقّه عتبك، فأنت ظالم فيه، فهو وليّ المخرج منه. وقال أبو الدرداء: إعتاب الأخ خير من فقده. وقال الشاعر: إذا ذهب العتاب فليس ودّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب وقال آخر في غير هذا المعنى: إذا كنت تغضب من غير ذنب ... وتعتب في كلّ يوم عليّا طلبت رضاك، فإن عزّني ... عددتك ميتا وإن كنت حيّا ولا تعجبنّ بما في يديك ... فأكثر منه الذي في يديّا! وفصل في عتاب: العتاب قبل العقاب؛ فليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. وفصل: قد حميت جانب الأمل فيك، وقطعت أسباب الرجاء منك وقد أسلمني اليأس منك إلى العزاء عنك؛ فإن ترغب من الآن فصفح لا تثريب معه، وإن تماديت فهجر لا وصل بعده.

فصول في التنصل

فصول في التنصل كتب ابن مكرم: لاو عظيم أملي فيك ما أتيت فيما بيني وبينك ذنبا مخطئا ولا متعمّدا، ولعل فلتة لم ألق بالا، فأوطيء لها اعتذارا، وإلا تكن فنفثة حاسد زخرفها على لسان واش، نبذها إليك في بعض غرّاتك، أصابت مني مقتلا وشفت منه غليلا. وفصل: ليس يزيلني عن حسن الظنّ بك فعل حملك الأعداء عليه، ولا يقطعني عن رجائك عتب حدث عليّ منك؛ بل أرجو أن تتقاضى كرمك إنجاز وعدك، إذ كان أبلغ الشفعاء إليك، وأوجب الوسائل لديك. وفصل: أنت- أعزك الله- أعلم بالعفو والعقوبة من أن تجازيني بالسوء على ذنب لم أجنه بيد ولا لسان، بل جناه علي لسان واش، فأما قولك: إنك لا تسهّل سبيل العذر؛ فأنت أعلم بالكرم وأرعى لحقوقه وأعرف بالشرف وأحفظ لذماماته «1» من أن تردّ يد مؤمّلك صفرا من عفوك إذا التمسه، ومن عذرك إذا جعل فضلك شافعا فيه وذريعة له. وفصل لإبراهيم بن العباس: الكريم أوسع ما تكون مغفرته إذا ضاقت بالمذنب معذرته. وفصل: يا أخي، أشكو إلى الله وإليك تحامل الأيام عليّ، وسوء أثر الدهر عندي، وأني معلق في حبائل من لا يعرف موضعي، ولا يحلو عنده موقعي، أطلب منه الخلاص فيزيدني كلفا، وأرتجي منه الحق فيزداد به ضنا، فالثواء ثواء مقيم، والنية نية ظاعن والزّماع «2» زماع مرتحل؛ ما أذهب إلى ناحية من الحيلة إلا وجدت من دونها مانعا من العوائق؛ فأحمل الذنب على الدهر وأرجع إلى الله بالشكوى، وأسأله جميل العقبى وحسن الصبر.

فصول في حسن التواصل

فصول في حسن التواصل للمفضّل أن يخص بفضله من شاء، وله الحمد فيما أعطى، ولا حجة عليه فيما منع، وكن كيف شئت، فإني قد أوليتك خالصة سريرتي، أرى ببقائك بقاء سروري، وبدوام النعمة عندك دوامها عندي. وفصل: قد أغنى الله بكرمك عن الذريعة إليك والاستعانة عليك؛ لأن حسن الظن بالله فيك، وتأميل نجح الرغبة إليك فوق الشفعاء عندك. وفصل: قد أفردتك برجائي بعد الله، وتعجلت راحة اليأس ممن يجود بالوعد ويضن بالإنجاز، ويحب أن يفضّل ويزهد في أن يفضل، ويعيب الكذب ولا يصدق. وفصل: ضعني- أكرمك الله- من نفسك حيث وضعت نفسي من رجائك. أصاب الله بمعروفك مواضعه، وبسط بكل خير يدك. وفصل: لا أزال- أبقاك الله- أسأل الكتاب إليك، فمرة أتوقف توقف المخفف عنك من المئونة، ومرة أكتب كتاب الراجع منك إلى الثقة والمعتمد منك على المقة «1» ؛ لا أعدمنا الله دوام عزّك، ولا سلب الدنيا بهجتها بك ولا أخلانا من الصنع لك؛ فإنا لا نعرف إلا نعمتك، ولا نجد للحياة طعما إلا في ظلك؛ ولئن كانت الرغبة إلى بشر من الناس خساسة وذلا، لقد جعل الله الرغبة إليك كرامة وعزّا؛ لأنك لا تعرف حرّا قعد به دهره، إلا سبقت مسألته بالعطية وصنت وجهه عن الطلب والذّلة. وفصل: لي عليك حق التأميل والشكر، بما ابتدأت من المعروف، ولك عليّ حق الاصطناع والفضل، والتنويه بالاسم والشكر؛ وليس يمنعني علمك بزيادة حقك على ما أبلغه من شكرك، من مساءلتك المزيد؛ إذ كنت قد انتهيت إلى ما بلغه المجهود، وخرجت من منزلة الإضاعة والتقصير، وإذ كنت تسمح بالحق عليك، وتطيب نفسا

فصول في الشكر

عن حقك اليسير، ولا تكلف أحدا شكرك على الكثير. فصل: لك- أصلحك الله- عندي أياد تشفع لي إلى محبتك، ومعروف يوجب عليك الرّبّ «1» والإتمام. فصل: أنا أسأل الله أن ينجز لي ما لم تزل الفراسة «2» تعدنيه فيك. فصل: قد أجلّ الله قدرك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نقنع بما فعلت، ونرضى بما أتيت، وصلت أو قطعت. فصول في الشكر كتب محمد بن عبد الملك الزيات كتابا عن المعتصم إلى عبد الله بن طاهر الخراساني، فكان في فصل منه. لو لم يكن من فضل الشكر إلا أنك لا تراه إلا بين نعمة مقصورة عليك، أو زيادة منتظرة له، لكفى. ثم قال لمحمد بن إبراهيم بن زياد: كيف ترى؟ قال: كأنهما قرطان بينهما وجه حسن. وفصل للحسن بن وهب: من شكرك على درجة رفعته إليها أو ثروة أقدرته إياها؛ فإن شكري لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكت به وقمت بين التلف وبينه؛ فلكل نعمة من نعم الدنيا حد ينتهى إليه، ومدى يوقف عنده، وغاية من الشكر يسمو إليها الطّرف، خلا هذه النعمة التي قد فاقت الوصف، وطالت الشكر وتجاوزت قدر. وأنت من وراء كل غاية، رددت عنا كيد العدو، وأرغمت أن الحسود؛ فنحن نلجأ منك إلى ظل ظليل، وكنف كريم؛ فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهد المجتد؟

فصول في البلاغة

وقال إبراهيم بن المهدي يشكر المأمون: رددت مالي ولم تمنن عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي فأين منك وقد جلّلتني نعما ... هي الحياتان من موت ومن عدم فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسلّ النّعل من قدمي ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم «1» البرّ بي منك وطّي العذر عندك لي ... فيما أتيت فلم تعتب ولم تلم وقام علمك بي يحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم فصول في البلاغة كتب الحسن بن وهب إلى إبراهيم بن العباس: وصل كتابك، فما رأيت كتابا أسهل فنونا، ولا أملس متونا، ولا أكثر عيونا، ولا أحسن مقاطع ومطالع منه: أنجزت فيه عدة الرأي، وبشرى الفراسة، وعاد الظنّ يقينا، والأمل مبلوغا، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات. فصل: الكلام كثيرة فنونه، قليلة عيونه؛ فمنه ما يفكّه الأسماع، ويؤنس القلوب، ومنه ما يحمّل الآذان ثقلا، ويملأ الأذهان وحشة. فصول من المدح كتب ابن مكرم إلى أحمد بن المدبر: إنّ جميع أكفائك ونظرائك يتنازعون الفضل، فإذا انتهوا إليك أقروا لك ويتنافسون في المنازل، فإذا بلغوك وقفوا دونك؛ فزادك الله وزادنا بك وفيك وجعلنا ممن يقبله رأيك ويقدّمه اختيارك، ويقع من الأمور بموقع موافقتك، ويجري فيها على سبيل طاعتك.

وفصل له: إن من النعمة على المثني عليك، أن لا يخاف الإفراط، ولا يأمن التقصير، ويأمن أن تلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهي به المدح إلى غاية إلا وجد فضلك تجاوزها، ومن سعادة جدّك أن الداعي لا يعدم كثرة المشايعين «1» له والمؤمّنين معه. وفصل: إن مما يطمعني في بقاء النعمة عندك، ويزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك، أنك أخذتها بحقها، واستوجبتها بما فيك من أسبابها؛ ومن شأن الأجناس أن تتآلف وشأن الأشكال أن تتعارف، وكل شيء يتقلقل «2» إلى معدنه، ويحنّ إلى عنصره، فإذا صادف منبته ونزل في مغرسه، ضرب بعرقه، وسمّق بفرعه، وتمكن تمكن الإقامة. وتفتّك تفتّك الطبيعة. وفصل: إني فيما أتعاطى من مدحك، كالمخبر عن ضوء النهار الزاهر، والقمر الباهر، الذي لا يخفى على كل ناظر؛ وأيقنت أني حيث انتهى بي القول، منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت من الثناء عليك إلى الدعاء لك؛ ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك. وفصل لمحمد بن الجهم: إنك لزمت من الوفاء طريقة محمودة، وعرفت مناقبها وشهرت بمحاسنها؛ فتنافس الإخوان فيك، يبتدرون ودك، ويتمسكون بحبلك؛ فمن أثبت الله له عندك ودّا فقد وضعت خلته موضع حرزها. وفصل لابن مكرم: السيف العتيق إذا أصابه الصدأ استغنى بالقليل من الجلاء، حتى تعود جدّته ويظهر فرنده «3» ، للين طبيعته، وكرم جوهره؛ ولم أضف نفسي لك عجبا، بل شكرا. وفصل له: زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير، وعند الناس مشهور كبير.

فصول في الذم

أخذه الشاعر فقال: زاد معروفك عندي عظما ... أنّه عندك مستور حقير تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير وفصل للعتابي: أنت أيها الأمير وارث سلفك، وبقية أعلام أهل بيتك، المسدود به ثلمهم «1» ، المجدد به قديم شرفهم، والمحيا به أيام سعيهم. وإنه لم يخمل «2» من كنت وراثه، ولا درست آثار من كنت سالك سبيله، ولا امّحت أعلام من خلفته في رتبته. فصول في الذمّ كتب أحمد بن يوسف: أما بعد، فإني لا أعرف للمعروف طريقا أوعر من طريقه إليك، فالمعروف لديك ضائع، والشكر عندك مهجور، وإنما غايتك في المعروف أن تحقره، وفي وليّه أن تكفره. وكتب أبو العتاهية إلى الفضل بن معن بن زائدة: أما بعد، فإني توسلت إليك في طلب نائلك بأسباب الأمل، وذرائع الحمد، فرارا من الفقر، ورجاء للغنى، فازددت بهما بعدا مما فيك تقرّبت، وقربا مما فيه تبعّدت، وقد قسمت اللائمة بيني وبينك؛ لأني أخطأت في سؤالك، وأخطأت في منعي؛ أمرت باليأس من أهل البخل فسألتهم، ونهيت عن منع أهل الرغبة فمنعتهم؛ وفي ذلك أقول: فررت من الفقر الذي هو مدركي ... إلى بخل محظور النّوال منوع فأعطبني الحرمان غبّ مطامعي ... كذلك من يلقاه غير قنوع

فصول في الأدب

وغير بديع منع ذي البخل ماله ... كما بذل أهل الفضل غير بديع إذا أنت كشفت الرّجال وجدتهم ... لأعراضهم من حافظ ومضيع وفصل لإبراهيم بن المهدي: أما بعد، فإنك لو عرفت فضل الحسن لتجنبت شين القبيح، ورأيتك آثر القول عندك ما يضرك فكنت فيما كان منك ومنا، كما قال زهير بن أبي سلمى: وذي خطل في القول يحسب أنّه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله «1» عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله فصل: إن مودة الأشرار متصلة بالذلة والصغار، تميل معهما وتصرّف في آثارهما؛ وقد كنت أحلّ مودّتك بالمحل النفيس، وأنزلها بالمنزل الرفيع، حتى رأيت ذلتك عند القلّة، وضرعتك عند الحاجة، وتغيّرك عند الاستغناء، واطّراحك لإخوان الصفاء؛ فكان ذلك أقوى أسباب عذري في قطيعتك، عند من يتصفح أمري وأمرك بعين عدل لا تميل إلى هوى، ولا ترى القبيح حسنا. فصل للعتابي: تأتّينا إفاقتك من سكرتك، وترقّبنا انتباهك من رقدتك، وصبرنا على تجوّع الغيظ فيك، حتى بان لنا الياس من خيرك، وكشف لنا الصبر عن وجه الغلط فيك؛ فها أنا قد عرفتك حق معرفتك في تعدّيك لطورك، واطراحك حقّ من غلط في اختيارك. فصول في الأدب كتب سعيد بن حميد: إنّ من أمارات الحزم صحة الرأي في الرجل: يترك التماس ما لا سبيل إليه، إذا كان ذلك داعية لغنى لا عزة له، وشقاء لا درك فيه؛ وقد سمحت في أمر تخبرك

فصول إلى عليل

أوائله عن أواخره، وينبيك بدؤه عن عواقبه، لو كان لهذا المخبر الصادق مستمع حازم. ورأيت رائد الهوى قد مال بك إلى هذا الأمر ميلا أيأس من رغب فيك، ودل عدوّك على معايبك، وكشف له عن مقاتلك، ولولا علمي بأنّ غلظ الناصح يؤدّي إلى نفع في اعتقاد صواب الرأي، لكان غير هذا القول أولى بك، والله يوفقك لما يحب، ويوفق لك ما تحب. وفصل: أنت رجل لسانك فوق عقلك، وذكاؤك فوق عزمك؛ فقدّم على نفسك من قدّمك على نفسه. وفصل: من أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يؤخذ بالعين، كان أحرى أن يخطىء في أمر دينه وفيما يؤخذ بالعقل. وفصل: قد حسدك من لا ينام دون الشفاء، وطلبك من لا ينام دون الظفر، فاشدد حيازيمك «1» وكن على حذر. وفصل: قد آن أن تدع ما تسمع لما تعلم، ولا يكن غيرك فيما يبلّغه أوثق من نفسك فيما تعرفه. وفصل: لست بحال يرضى بها حرّ، أو يقيم عليها كريم وليس يرضى لك بهذا إلا من لا ينبغي لك أن ترضى به. وفصل: أنت طالب مغنم، وأنا دافع مغرم «2» ، فإن كنت شاكرا لما مضى، فاعذر فيما بقى. وفصل للعتابي: أما بعد، فإن قريبك من قرب منك خيره، وابن عمك من عمّك نفعه، وعشيرك من أحسن عشرتك، وأهدى الناس إلى مودّتك من أهدى برّه إليك. فصول إلى عليل ليست حالي- أكرمك الله- في الاغتمام بعلتك حال المشارك فيها بأن ينالني

فصول إلى خليفة وأمير

نصيب منها وأسلم من أكثرها، بل اجتمع على منها أني مخصوص بها دونك، مؤلم منها بما يؤلمك؛ فأنا عليل مصروف العناية إلى عليل كأني سليم؛ فأنا أسأل الله الذي جعل عافيتي في عافيتك، أن يخصّني بما فيك، فإنها شاملة لي ولك. وفصل: إنّ الذي يعلم حاجتي إلى بقائك، قادر على الدافعة عن حوبائك «1» ؛ فلو قلت إنّ الحق قد سقط عني في عيادتك لأني عليل بعلتك، لقام بذلك شاهد عدل في ضميرك، وأثر باد في حالي لغيبتك؛ وأصدق الخبر ما حققه الأثر، وأفضل القول ما كان عليه دليل من العقل. وفصل: لئن تخلفت عن عيادتك بالعذر الواضح من العلة، لما أغفل قلبي ذكرك، ولا لساني فحصا عن خبرك فحص من تقسّم جوارحه وصبك «2» ، وزاد في ألمها ألمك؛ ومن تتصل به أحوالك في السراء والضراء، ولما بلغتني إقامتك كتبت مهنئا بالعافية، معفيا من الجواب إلا بخبر السلامة إن شاء الله. ولأحمد بن يوسف: قد أذهب الله وصب العلة ونصبها، ووفّر أجرها وثوابها، وجعل فيها من إرغام العدوّ بعقباها، أضعاف ما كان عنده من السرور يقبح أولاها. فصول إلى خليفة وأمير منها: كتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، إن كل من عنّيت به فكرتك فما هو إلا سعيد يوثر أو شقي يوتر. كتب الحسن بن سهل يصف عقل المأمون: وقد أصبح أمير المؤمنين محمود السيرة، عفيف الطعمة، كريم الشيمة، مبارك الضريبة «3» ، محمود النقيبة، موفّيا بما أخذ الله عليه، مضطلعا بما حمّله منه، مؤدّيا إلى الله حقّه، مقرّا له بنعمته، شاكرا لآلائه، لا

يأمر إلا عدلا؛ ولا ينطق إلا فصلا عبئا لدينه وأمانته؛ كافّا ليده ولسانه. وكتب محمد بن عبد الملك الزيات: إنّ حقّ الأولياء على السلطان: تنفيذ أمورهم، وتقويم أودهم «1» ، ورياضة أخلاقهم، وأن يميز بينهم، فيقدّم محسنهم، ويؤخر مسيئهم؛ ليزداد هؤلاء في إحسانهم، ويزدجر هؤلاء عن إساءتهم. وفصل له: إن من أعظم الحقّ حقّ الدين، وأوجب الحرمة حرمة المسلمين؛ فحقيق لمن راعى ذلك الحق وحفظ تلك الحرمة، أن يراعى له حسب ما راعاه الله، ويحفظ له حسب ما حفظ الله على يديه. وفصل له: إن الله أوجب لخلفائه على عباده حقّ الطاعة والنصيحة، ولعبيده على خلفائه بسط العدل والرأفة، وإحياء السّنن الصالحة؛ فإذا أدّى كلّ إلى كلّ حقّه، كان ذلك سببا لتمام النعمة، واتصال الزيادة، واتساق الكلمة، ودوام الألفة. وفصل: ليس من نعمة يجدّدها الله لأمير المؤمنين في نفسه خاصة، إلا اتصلت برعيته عامّة، وشملت المسلمين كافة، وعظم بلاء الله عندهم فيها، ووجب عليهم شكره عليها: لأن الله جعل بنعمته تمام نعمتهم، وبتدبيره وذبّه «2» عن دينه حفظ حريمهم، وبحياطته حقن دمائهم وأمن سبيلهم؛ فأطال الله بقاء أمير المؤمنين، مؤيّدا بالنصر، معزّزا بالتمكين، موصول البقاء للنعيم المقيم. فصل: الحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين معقود النية بطاعته، منطوي القلب على مناصحتهم، مشحوذ السيف على عدوّه؛ ثم وهب له الظفر، ودوّخ له البلاد، وشرّد به العدو، وخصه بشرف الفتوح شرقا وغربا، وبرا وبحرا. وفصل: أفعال الأمير عندنا معسولة «3» كالأماني، متصلة كالأيام؛ ونحن نواتر الشكر لكريم فعله، ونواصل الدعاء له مواصلة بره؛ إنه الناهض بكلنا، والحامل

لأعبائنا، والقائم بما ناب من حقوقنا. وفصل: أما بعد، فقد انتهى إلى أمير المؤمنين كذا فأنكره، ولا يخلو من إحدى منزلتين، ليس في واحدة منهما عذر يوجب حجة ولا يزيل لائمة: إما تقصير في عملك دعاك للإخلال بالحزم والتفريط في الواجب، وإما مظاهرة لأهل الفساد ومداهنة لأهل الريب؛ وأية هاتين كانت منك لمحلة النكر «1» بك، وموجبة العقوبة عليك، لولا ما يلقاك به أمير المؤمنين من الأناة والنظرة، والأخذ بالحجة، والتقدم في الإعذار والإنذار؛ وفي حسن ما أقلت من عظيم العثرة، ما يوجب اجتهادك في تلافي التقصير والإضاعة، والسلام. وكتب طاهر بن الحسين حين أخذ بغداد إلى إبراهيم بن المهدي: أما بعد، فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى أحد من بيت الخلافة بغير كلام الإمرة وسلامها؛ غير أنه بلغني عنك أنك مائل الهوى والرأي للناكث المخلوع، فإن كان كما بلغني فقليل ما كتبت به كثير لك، وإن يكن غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته؛ وقد كتبت في أسفل كتابي أبياتا فتدبرها: ركوبك الهول مالم تلق فرصته ... جهل رمى بك بالإقحام تغرير «2» أهون بدنيا يصيب المخطئون بها ... حظّ المصيبين، والمغرور مغرور فازرع صوابا وخذ بالحزم حيطته ... فلن يذمّ لأهل الحزم تدبير فإن ظفرت مصيبا أو هلكت به ... فأنت عند ذوي الألباب معذور وإن ظفرت على جهل ففزت به ... قالوا جهول أعانته المقادير! فصل للحسن بن وهب: أما بعد، فالحمد لله متمم النّعم برحمته، الهادي إلى شكره بفضله؛ وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله، الذي جمع له من الفضائل ما فرّقه في الرّسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصه بخلافته، وسلم تسليما.

فصول لعمرو بن بحر الجاحظ

فصول لعمرو بن بحر الجاحظ منها فصول في عتاب. أما بعد، فإن المكافأة بالإحسان فريضة، والتفضل على غير ذوي الإحسان نافلة. أما بعد فليكن السكوت على لسانك إن كانت العافية من شأنك. أما بعد، فلا تزهد فيما رغب إليك، فتكون لحظّك معاندا، وللنعمة جاحدا. أما بعد، فإن العقل والهوى ضدان، فقرين العقل التوفيق، وقرين الهوى الخذلان، والنفس طالبة، فبأيهما ظفرت كانت في حزبه. أما بعد، فإن الأشخاص كالأشجار، والحركات كالأغصان، والألفاظ كالثمار. أما بعد، فإن القلوب أوعية والعقول معادن، فما في الوعاء ينفد إذا لم يمدّه المعدن. أما بعد، فكفى بالتجارب تأديبا، وبتقلب الأيام عظة، وبأخلاق من عاشرت معرفة، وبذكرك الموت زاجرا. أما بعد، فإن احتمال الصبر على لذع الغضب، أهون من إطفائه بالشتم والقذع. أما بعد، فإن أهل النظر في العواقب أولو الاستعداد للنوائب؛ وما عظمت نعمة امريء إلا استغرقت الدنيا همّته، ومن فرّغ لطلب الآخرة شغله جعل الأيام مطايا عمله والآخرة مقيل مرتحله. أما بعد، فإن الاهتمام بالدنيا غير زائد في الرزق والأجل، والاستغناء غير ناقص للمقادير. أما بعد، فإنه ليس كل من حلم أمسك، وقد يستجهل «1» الحليم حتى يستخفه الهجر. أما بعد، فإن أحببت أن تتم لك المقة «2» في قلوب إخوانك فاستقل كثيرا مما توليهم.

أما بعد، فإن أنظر الناس في العاقبة، من لطف حتى كف حرب عدوه بالصفح والتجاوز، واستلّ حقده بالرفق والتحبب. وكتب إلى أبي حاتم السجستاني وبلغه عنه أنه نال منه: أما بعد، فلو كففت عنا من غربك لكنا أهلا لذلك منك، والسلام. فلم يعد أبو حاتم إلى ذكره بقبيح. وله فصول في وصاة: أما بعد، فإن أحق من أسعفته في حاجته، وأجبته إلى طلبته، من توسل إليك بالأمل، ونزع نحوك بالرجاء. أما بعد، فما أقبح الأحدوثة من مستمنح حرمته، وطالب حاجة رددته، ومثابر حجبته، ومنبسط إليك قبضته، ومقبل إليك بعنانه لويت عنه، فتثّبت في ذلك ولا تطع كل حلاف مهين، همّاز «1» مشاء بنميم. أما بعد، فإن فلانا أسبابه متصلة بنا، يلزمنا ذمامه وبلوغ موافقته من أياديك عندنا، وأنت لنا موضع الثقة من مكافأته، فأولنا فيه ما نعرف موقعنا من حسن رأيك، ويكون مكافأة لحقّه علينا. أما بعد، فقد أتانا كتابك في فلان، وله لدينا من الذمام ما يلزمنا مكافأته ورعاية حقه، ونحن من العناية بأمره على ما يكافىء حرمته ويؤدّي شكره. وله فصول في استنجاز وعد: أما بعد، فقد رسفنا «2» في قيود مواعيدك، وطال مقامنا في سجون مطلك «3» ، فأطلقنا- أبقاك الله- من ضيقها وشديد غمّها بنعم منك مثمرة أو [لا] مريحة. أما بعد، فإن شجر مواعيدك قد أورقت، فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل.

أما بعد، فإن سحائب وعدك قد برقت، فليكن وبلها «1» سالما من صواعق المطل والاعتدال. وله فصول في الاعتذار. أما بعد، فنعم البديل من الزّلة الاعتذار، وبئس العوض من التوبة الإصرار. أما بعد، فإن أحق ما عطفت عليه بحلمك من لم يتشفّع إليك بغيرك. أما بعد، فإنه لا عوض من إخائك، ولا خلف من حسن رأيك، وقد انتقمت مني في زلتي بجفائك، فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك. أما بعد، فإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية عفوك، ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك. أما بعد، فإن من جحد إحسانك بسوء مقالته فيك، مكذّب نفسه بما يبدو للناس منه. أما بعد، فقد مسني من الألم ما لم يشفه غير مواصلتك، مع حبسك الاعتذار من هفوتك؛ ولكن ذنبك تغتفره مودّتك، فامنن علينا بصلتك، تكن بدلا من مساءتك، وعوضا من هفوتك. أما بعد، فلا خير فيمن استغرقت موجدته «2» عليك قدرك عنده ولم يتسع لهنات» الإخوان. أما بعد، فإن أولى الناس عندي بالصفح، من أسلمه إلى ملكك التماس رضاك من غير مقدرة منك عليه. أما بعد، فإن كنت ذممتني على الإساءة، فلم رضيت لنفسك المكافأة! وله فصول التعازي: أما بعد، فإن الماضي قبلك الباقي لك، والباقي بعدك المأجور فيك: وإِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «4» .

صدور إلى خليفة

أما بعد، فإن في الله العزاء من كل هالك، والخلف من كل مصاب، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تنقطع نفسه من الدنيا حسرة. أما بعد، فإن الصبر يعقبه الأجر، والجزع يعقبه الهلع؛ فتمسك بحظك من الصبر، تنل به الذي تطلب، وتدرك به الذي تأمل. أما بعد، فقد كفى بكتاب الله واعظا، ولذوي الألباب زاجرا؛ فعليك بالتلاوة تنج مما أوعد الله به أهل المعصية. صدور إلى خليفة وفق الله أمير المؤمنين بالظفر فيما قلّده، وأيده وأصلح به، وعلى يديه. أكرم الله أمير المؤمنين بالظفر، وأيده بالنصر في دوام نعمته، وحاط الرعية بطول مدّته. صدور إلى ولي عهد متّع الله أمير المؤمنين بطول مدّة الأمير، وأجرى على يديه فعل الجميل، وانس بولايته المؤمنين. مدّ الله للأمير النعمة، وأسعد بطول عمره الأمّة، وجعله غياثا ورحمة. أكمل الله له الكرامة، وحاطه بالنعمة والسلامة، ومتّع به الخاصة والعامة. متع الله بسلامتك أهل الحرمة، وجمع لك شمل الأمّة، واستعملك بالرأفة والرحمة. صدور إلى والي شرطة أنصف الله بك المظلوم، وأغاث بك الملهوف، وأيّدك بالتثبت، ووفّقك للصواب.

صدور إلى قاض

أرشدك الله بالتوفيق، وأنطقك بالصواب، وجعلك عصمة للدين، وحصنا للمسلمين. أعانك الله على ما قلدك، وحفظك لما استعملك بما يرضى من فعلك. سدّدك الله وأرشدك، وأدام لك فضل ما عوّدك. رادك الله شرفا في المنزلة، وقدرا في قلوب الأمّة، وزلفة «1» عند الخليفة. نصر الله بعدلك المظلوم، وكشف بك كربة الملهوف، وأعانك على أداء الحقوق. صدور إلى قاض ألهمك الله الحجة، وأيّدك بالتثبت وردّ بك الحقوق. ألهمك الله الاعتصام بحبله بالعلم، والتثبت في الحكم. ألهمك الله الحكمة وفصل الخطاب، وجعلك إماما لذوي الألباب. زيّن الله بفضلك الزمان، وأنطق بشكرك اللسان، وبسط يدك في اصطناع المعروف. أدام الله لك الإفضال، وحقق فيك الآمال. صدور إلى عالم جعل الله لك العلم نورا في الطاعة، وسببا إلى النجاة، وزلفة عند الله. نفع الله بعلمك المستفيدين، وقضى بك حوائج المتحرّمين «2» ، وأوضح بك سنن الدين، وشرائع المسلمين. أدام الله لك التطول بإسعاف الراغب، وأنجح بك حاجة الطالب، وأمّنك مكروه العواقب.

صدور إلى إخوان

صدور إلى إخوان متّع الله أبصارنا برؤيتك، وقلوبنا بدوام ألفتك، ولا أخلانا من جميل عشرتك، ووهب لك من كريم نفسك، بحسب ما تنطوي عليه مودتك، وأبهج الله إخوانك بقربك وجمع ألفتهم بالأنس بك، وصرف الله عن ألفتنا عواقب القدر، وأعاذ صفو إخائنا من المكدر، وجعلنا ممن أنعم الله عليه فشكر. منّ الله علينا بطول مدّتك، وآنس أيامنا بمواصلتك، وهنأنا النعمة بسلامتك. قرّب الله منا ما كنا نأمل منك، وجمع شمل السرور بك. نزّه الله بقربك القلوب، وبرؤيتك الأبصار، وبحديثك الأسماع. أقبل الله بك على أودّائك. ولا ابتلاهم بطول جفائك. أزال الله حردنا من فتورك عنا، ورغبتنا عنك من تقصيرك في أمورنا. حفظ الله لنا منك ما أوحشنا فقده، وردّ إلينا ما كنا نألفه ونعهده. رحم الله فاقة الحنين إليك، وما بي من تباريح الحزن عليك، وجعل حرمتنا منك الشفيع لديك. يسّر الله لنا من صفحك ما يسع تقصيرنا، ومن حلمك ما يردّ سخطك عنا. زين الله ألفتنا بمعاودة صلتك، واجتماعنا بزيارتك. أعاد الله علينا من إخائك وجميل رأيك ما يكون معهودا منك بالوفاء لك. صدور في عتاب أنصف الله شوقنا إليك من جفائك لنا، وأخذ لبرّنا بك من تقصيرك عنا. وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص وبلغه عنه أمر: وفّقك الله لرشدك؛ بلغني كلامك، فإذا أوّله بطر «1» ، وآخره خور «2» ؛ ومن أبطره الغنى أذلّه الفقر، وهما

ضدان مخادعان للمرء من عقله، وأولى الناس بمعرفة الدواء من يبين له الداء، والسلام. فأجابه: طاولتك النعم وطاولت بك؛ علو إنصافك يؤمن سطوة جورك؛ ذكرت أني نطقت بما تكره وأنا مخدوع، وقد علمت أني ملت إلى محبتك ولم أخدع، ومثلك شكر مسعى معتذر، وعفا زلّة معترف. تم الجزء الرابع من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، ويليه إن شاء الله الجزء الخامس وأوله: كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم.

الجزء الخامس

الجزء الخامس كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في التوقيعات والفصول والصدور والكتابة؛ وهذا كتاب ألفناه في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم وأسماء كتّابهم وحجّابهم. [المصطفى صلّى الله عليه وسلم] نسب المصطفى صلّى الله عليه وسلم روى أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن أشياخه: هو محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأمّه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب. مولد النبي صلّى الله عليه وسلم قالوا: ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ وقال بعضهم: لليلتين خلتا منه؛ وقال بعضهم: بعد الفيل بثلاثين يوما؛ فهذا جمع ما اختلفوا في مولده. وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين عاما، وأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا؛ وقال ابن عباس: أقام بمكة خمس عشرة، وبالمدينة عشرا؛ والمجمع عليه أنه أقام بمكة ثلاث عشرة وبالمدينة عشرا.

اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلى الله عليه وسلم

اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلّى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول. مات يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول، اليوم والشهر الذي هاجر فيه، صلّى الله عليه وسلم، وجعلنا ممن يرد حوضه، وينال مرافقته في أعلى عليين من درجات الفردوس، وأسأل الله الذي جعلنا من أمّته ولم نره أن يتوفانا على ملته، ولا يحرمنا رؤيته في الدنيا والآخرة. صفة النبي صلّى الله عليه وسلم ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبيض مشربا حمرة، ضخم الرأس، أزج «1» الحاجبين، عظيم العينين، أدعج «2» ، أهدب، شثن «3» الكفين والقدمين، إذا مشى تكفأ كأنما ينحطّ في صبب ويمشي في صعد كأنما يتقلّع من صخر، إذا التفت التفت جميعا، ليس بالجعد «4» القطط ولا السّبط؛ ذا وفرة إلى شحمة أذنيه، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتطامن، عرفه أطيب من ريح المسك الأذفر، لم تلد النساء قبله ولا بعده مثله، بين كتفيه خاتم النّبوّة كبيض الحمام، لا يضحك إلا تبسّما، في عنفقته شعرات بيض لا تكاد تبين. وقال أنس بن مالك: لم يبلغ الشيب الذي كان برسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرين شعرة؛ وقيل له: يا رسول الله، عجل عليك الشيب! قال: «شيبتي هود وأخواتها» . هيئة النبي صلّى الله عليه وسلم كان صلّى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض، ويمشي في الأسواق، ويلبس

شرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم

العباءة، ويجالس المساكين، ويقعد القرفصاء ويتوسّد يده، ويلعق أصابعه ويقضي من نفسه، ولا يأكل متكئا، ولم ير قط ضاحكا ملء فيه وكان يقول: «إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، ولو دعيت إلى ذراع «1» لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع «2» لقبلت» . شرف بيت النبي صلّى الله عليه وسلم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنا سيّد البشر ولا فخر، وأنا أفصح العرب، وأنا أوّل من يقرع باب الجنة، وأنا أوّل من ينشقّ عنه التراب؛ دعا لي إبراهيم، وبشّر بي عيسى، ورأت أمّي حين وضعتني نورا أضاء لها ما بين المشرق والمغرب» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم أفراقا فجعلني في خيرهم فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خير بيت؛ فأنا خيركم بيتا وخيركم نسبا» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «أنا ابن الفواطم والعواتك من سليم، واسترضعت في بني سعد بن بكر» . وقال: «نزل القرآن بأعرب اللغات، فلكل العرب فيه لغة ولبني سعد بن بكر سبع لغات» . وبنو سعد بن بكر بن هوازن أفصح العرب، فهم من الأعجاز، وهي قبائل من مضر متفرّقة، وكانت ظئر «3» النبي صلّى الله عليه وسلم التي أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب من بني ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن. وإخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وخذامة بنت

أبو النبي صلى الله عليه وسلم

الحارث، وهي التي أتي بها النبيّ صلّى الله عليه وسلم في أسرى حنين فبسط لها رداءه ووهب لها أسرى قومها. والعواتك من سليم ثلاث: عاتكة بنت مرة بن هلال ولدت هاشما وعبد شمس ونفلا؛ وعاتكة بنت الأوقص بن هلال، ولدت وهب بن عبد مناف بن زهرة؛ وعاتكة بنت هلال بن فالج. وقال عليّ للأشعث إذ خطب إليه: أغرك ابن أبي قحافة إذ زوّجك أمّ فروة؟ وإنها لم تكن من الفواطم من قريش ولا العواتك من سليم. أبو النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد المطلب، ولم يكن له ولد غيره صلّى الله عليه وسلم، وتوفى وهو في بطن أمه، فلما ولد كفله جدّه عبد المطلب إلى أن توفى فكفله عمّه أبو طالب، وكان أخا عبد الله لأمه وأبيه، فمن ذلك كان أشفق أعمام النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأولاهم به. أعمامه وعماته وأما أعمام النبي صلّى الله عليه وسلم وعماته، فإن عبد المطلب بن هاشم كان له من الولد لصلبه عشرة من الذكور وستّ من الإناث، وأسماء بنيه: عبد الله، والد النبي عليه الصلاة والسلام؛ والزبير؛ وأبو طالب، واسمه عبد مناف؛ والعباس؛ وضرار؛ وحمزة؛ والمقوّم؛ وأبو لهب، واسمه عبد العزى؛ والحارث والغيداق، واسمه حجل، ويقال نوفل. أسماء بناته عمات النبي صلّى الله عليه وسلم: عاتكة، والبيضاء، وهي أم حكيم وبرّة؛ وأميمة؛ وأروى؛ وصفية.

ولد النبي صلى الله عليه وسلم

ولد النبي صلّى الله عليه وسلم ولد له من خديجة: القاسم، والطيب، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم. وولد له من مارية القبطية: إبراهيم، فجميع ولده من خديجة، غير إبراهيم. أزواجه صلّى الله عليه وسلم وأزواجه صلّى الله عليه وسلم: أوّلهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ولم يتزوج عليها حتى ماتت؛ ثم تزوّج سودة بنت زمعة، وكانت تحت السكران بن عمرو، وهو من مهاجرة الحبشة، فمات ولم يعقب فتزوّجها النبي صلّى الله عليه وسلم بعده، ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر بكرا، ولم يتزوج بكرا غيرها، وهي ابنة ست، وابتنى عليها وهي ابنة تسع، وتوفى عنها وهي ابنة ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده إلى أيام معاوية، وماتت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين، ودفنت ليلا بالبقيع وأوصت إلى عبد الله بن الزبير، وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت تحت خنيس بن حذافة السهمي وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى، ولا عقب له، ثم تزوج زينب بنت خزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، أول شهيد كان ببدر، ثم تزوّج زينب بنت جحش الأسدية، وهي بنت عمة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر، ثم تزوّج أم حبيبة- واسمها رملة- ابنة أبي سفيان، وهي أخت معاوية وكانت تحت عبيد الله بن جحش الأسدي، فتنصر ومات بأرض الحبشة، وتزوّج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، وكانت تحت أبي سلمة، فتوفى عنها وله منها أولاد، وبقيت إلى سنة تسع وخمسين وتزوّج ميمونة بنت الحارث من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت أبي سبرة بن أبي رهم العامري، وتزوّج صفيّة بنت حييّ بن أخطب النّضرية، وكانت تحت رجل من يهود خيبر، يقال له كنانة فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنقه وسبى أهله، وتزوّج جويرية بنت الحارث، وكانت من سبى بني المصطلق، وتزوّج خولة بنت حكيم، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم، وتزوّج امرأة يقال لها عمرة، فطلقها ولم يبن بها، وذلك

كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وخدامه

أن أباها قال له: وأزيدك أنها لم تمرض قط! فقال: ما لهذه عند الله من خير! فطلقها، وتزوّج امرأة يقال لها: أميمة بنت النعمان، فطلقها قبل أن يطأها، وخطب امرأة من بني مرة بن عوف، فرده أبوها وقال: إن بها برصا! فلما رجع إليها وجدها برصاء! كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم وخدّامه كتاب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن ربيعة الأسدي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ارتد ولحق بمكة مشركا. وحاجبه: أبو أنسة مولاه. وخادمه: أنس بن مالك الأنصاري، ويكنى أبا حمزة. وخازنه على خاتمه: معيقيب بن أبي فاطمة. ومؤذّناه: بلال، وابن أم مكتوم. وحراسه: سعد بن زيد الأنصاري، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص. وخاتمة فضة، وفصه حبشي، مكتوب عليه: محمد رسول الله، في ثلاثة أسطر: محمد، سطر؛ ورسول؛ سطر؛ والله، سطر. وفي حديث أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلم: وبه تختّم أبو بكر وعمر، وتختم به عثمان ستة أشهر، ثم سقط منه في بئر ذي أروان «1» ، فطلب فلم يوجد. وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم وسنه توفي صلّى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وحفر له تحت فراشه في بيت عائشة، وصلّى عليه المسلمون جميعا بلا إمام الرجال ثم النساء ثم الصبيان، ودفن ليلة الأربعاء في جوف الليل، ودخل القبر عليّ، والفضل وقثم ابنا

أبي بكر الصديق رضي الله عنه

العباس، وشقران مولاه، ويقال: أسامة بن زيد: وهم تولوا غسله وتكفينه وأمره كلّه، وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية «1» ليس فيها قميص ولا عمامة؛ واختلف في سنّه. فقال عبد الله بن عباس وعائشة، وجرير بن عبد الله، ومعاوية: توفي وهو ابن ستين سنة. وقال عروة ابن الزبير وقتادة: اثنتين وستين سنة. [أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه] نسب أبي بكر الصدّيق وصفته رضي الله عنه هو عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة: عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة. وأمّه أمّ الخير ابنة صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وكاتبه عثمان بن عفان؛ وحاجبه: رشيد مولاه، وقيل كتب له زيد بن ثابت أيضا؛ وعلى أمره كله وعلى القضاء عمر بن الخطاب، وعلى بيت المال أبو عبيدة بن الجراح ثم وجهه إلى الشام؛ ومؤذنه سعد القرظ مولى عمار بن ياسر. قيل لعائشة: صفي لنا أباك. قالت: كان أبيض، نحيف الجسم، خفيف العارصين، أجنأ «2» ، لا يستمسك إزاره، معروق الوجه، غائر العينين، ناتيء الجبهة، عاري الأشاجع، أفرع. وكان عمر بن الخطاب أصلع، وكان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم. وقال أبو جعفر الأنصاري: رأيت أبا بكر كأن لحيته ورأسه جمر الغضى. وقال أنس بن مالك: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة وليس في أصحابه أشمط «3» غير أبي بكر، فغلفها بالحناء والكتم «4» .

خلافة أبي بكر رضي الله عنه

وتوفي مساء ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ، فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وكان نقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله. خلافة أبي بكر رضي الله عنه شعبة بن سعد بن إبراهيم عن عروة عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر. ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مه! إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» . أبو جعدة عن الزبير قال: قالت حفصة يا رسول الله، إنك مرضت فقدمت أبا بكر. قال: لست الذي قدّمه، ولكن الله قدمه. أبو سلمة عن إسماعيل بن مسلم عن أنس قال: صلّى أبو بكر بالناس ورسول الله صلّى الله عليه وسلم مريض ستة أيام. النضر بن إسحاق عن الحسن قال: قيل لعلي: علام بايعت أبا بكر؟ فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمت فجأة، كان يأتيه بلال في كل يوم في مرضه يؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي الناس، وقد تركني وهو يرى مكاني؛ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم رضي المسلمون لدنياهم من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لدينهم، فبايعوه وبايعته. ومن حديث الشعبي قال: أوّل من قدم مكة بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر: عبد ربّه بن قيس بن السائب المخزومي؛ فقال له أبو قحافة: من ولي الأمر بعده؟ قال: أبو بكر ابنك. قال: فرضي بذلك بنو عبد مناف؟ قال: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله!

سقيفة بني ساعدة

جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو سفيان غائب في مسعاة أخرجه فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما انصرف لقي رجلا في بعض طريقه مقبلا من المدينة، فقال له: مات محمد؟ قال: نعم، قال: فمن قام مقامه؟ قال: أبو بكر. قال أبو سفيان: فما فعل المستضعفان: عليّ والعباس؟ قال: جالسين. قال: أما والله لئن بقيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما؛ ثم قال إني أرى غبرة لا يطفئها إلا دم! فلما قدم المدينة جعل يطوف في أزقّتها ويقول: بني هاشم لا تطمع الناس فيكم ... ولا سيّما تيم بن مرّة أو عديّ فما الأمر إلا فيكم وإليكم ... وليس لها إلا أبو حسن عليّ فقال عمر لأبي بكر: إن هذا قد قدم، وهو فاعل شرا، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتألّفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة! ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه. سقيفة بني ساعدة أحمد بن الحارث عن أبي الحسن عن أبي معشر عن المقبري: أن المهاجرين بينما هم في حجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد قبضه الله إليه، إذ جاء معن بن عديّ وعويم بن ساعدة، فقالا لأبي بكر: باب فتنة إن يغلقه الله بك؛ هذا سعد بن عبادة والأنصار يريدون أن يبايعوه. فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، حتى جاءوا سقيفة بني ساعدة، وسعد على طنفسة «1» متكئا على وسادة، وبه الحمّى، فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت؟ قال: أنا رجل منكم. فقال حباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجريّ في الأنصاري شيئا رد عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئا ردّ عليه، وإن لم تفعلوا، فأنا جذيلها «2» المحكّك وعذيقها «3» المرجّب، لنعيدنّها جذعة «4» ! قال عمر: فأردت أن أتكلم، وكنت زوّرت كلاما في

نفسي، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر. فما ترك كلمة كنت زوّرتها في نفسي إلا تكلم بها، وقال: نحن المهاجرون؛ أوّل الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأمسّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحما؛ وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحيّ من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به؛ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. يعني عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة بن الجراح. فقال عمر: يكون هذا وأنت حي؟ ما كان أحد ليؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم ضرب على يده فبايعه، وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر، فقال الأنصار: قتلتم سعدا! فقال عمر: اقتلوه قتله الله فإنه صاحب فتنة! فبايع الناس أبا بكر، وأتوا به المسجد يبايعونه، فسمع العباس وعلى التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال علي: ما هذا؟ قال العباس: ما رؤي مثل هذا قط ما قلت لك. ومن حديث النعمان بن بشير الأنصاري: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكلم الناس فيمن يقوم بالأمر بعده، فقال قوم: أبو بكر، وقال قوم: أبي بن كعب. قال النعمان بن بشير: فأتيت أبيا فقلت: يا أبيّ، الناس قد ذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستخلف أبا بكر أو إياك، فانطلق حتى تنظر في هذا الأمر، فقال: إن عندي في هذا أمر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا ما أنا بذاكره حتى يقبضه الله إليه. ثم انطلق وخرجت معه حتى دخلنا على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد الصبح، وهو يحسو حسوا في قطعة مشعوبة «1» ، فلما فرغ

الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر

أقبل على أبيّ فقال: هذا ما قلت لك قال: فأوص بنا. فخرج يخط برجليه حتى صار على المنبر ثم قال: يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار كما هي لا تزيد، ألا وإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي من أمرهم شيئا فليقبل من محسنهم ويعف عن مسيئهم. ثم دخل، فلما توفي، قيل لي: هاتيك الأنصار مع سعد بن عبادة يقولون: نحن أولى بالأمر. والمهاجرون يقولون: لنا الأمر دونكم! فأتيت أبيا فقرعت بابه، فخرج إليّ ملتحفا، فقلت: ألا أراك قاعدا ببيتك مغلقا عليك بابك، وهؤلاء قومك في بني ساعدة ينازعون المهاجرين، فأخرج إلى قومك فخرج، فقال: إنكم والله ما أنتم من هذا الأمر في شيء، وإنه لهم دونكم؛ يليها من المهاجرين رجلان، ثم يقتل الثالث، وينزع الأمر فيكون ههنا- وأشار إلى الشام- وإن هذا الكلام لمبلول بريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغلق بابه ودخل. ومن حديث حذيفة قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إنّي لا أدري ما بقائي فيكم؛ فاقتدوا باللذين من بعدي- وأشار إلى أبي بكر وعمر- واهتدوا بهدى عمّار، وما حدثكم ابن مسعود فصدّقوه. الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر عليّ، والعباس، والزبير، وسعد بن عبادة، فأما علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة! فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا، ولكني آليت أن لا أرتدي بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وسلم

فضائل أبي بكر رضي الله عنه

حتى أحفظ القرآن، فعليه حبست نفسي. ومن حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم يبايع عليّ أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك لستة أشهر من موت أبيها صلّى الله عليه وسلم، فأرسل علي إلى أبي بكر، فأتاه في منزله فبايعه، وقال: والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئا فاستبددت به دوننا، وما ننكر فضلك. وأما سعد بن عبادة فإنه رحل إلى الشام. أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي قال: «بعث عمر رجلا إلى الشام، فقال: ادعه إلى البيعه واحمل له بكل ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن الله عليه، فقدم الرجل الشام، فلقيه بحوران في حائط، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع قرشيا أبدا! قال فإني أقاتلك! قال وإن قاتلتني! قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال: أما من البيعة فأنا خارج. فرماه بسهم فقتله. ميمون بن مهران عن أبيه قال: رمي سعد بن عبادة في حمّام بالشام فقتل. سعيد ابن أبي عروبة عن ابن سيرين قال: رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده فمات، فبكته الجن، فقالت: وقتلنا سيّد الخزرج ... سعد بن عبادة ورميناه بسهمين ... فلم نخطيء فؤاده فضائل أبي بكر رضي الله عنه محمد بن المنكدر قال: نازع عمر أبا بكر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركون لي صاحبي؟ إن الله بعثني بالهدى ودين الحقّ إلى الناس كافة فقالوا: جميعا كذبت. وقال أبو بكر صدقت!» . وهو صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجليسه في الغار، وأول من صلّى معه وآمن به واتّبعه.

وقال عمر بن الخطاب: أبو بكر سيدنا. وأعتق سيدنا، يريد بلالا، وكان بلال عبدا لأمية بن خلف، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وكان من مولدي مكة، أبوه رباح، وأمه حمامة. وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم. من أول من قام معك في هذا الأمر؟ قال: حرّ وعبد؛ يريد بالحرّ أبا بكر، وبالعبد بلالا. وقال بعضهم: عليّ وخبّاب. أبو الحسن المدائني قال: دخل هارون الرشيد مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبعث إلى مالك بن أنس فقيه المدينة، فأتاه وهو واقف بين قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمنبر؛ فلما قام بين يديه وسلم عليه بالخلافة، قال: يا مالك، صف لي مكان أبي بكر وعمر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا. فقال: مكانهما منه يا أمير المؤمنين كمكان قبريهما من قبره. فقال: شفيتني يا مالك. الشعبي عن محمد أبي سلمة، أن عليا سئل عن أبي بكر وعمر، فقال: على الخبير سقطت. كانا والله إمامين صالحين مصلحين، خرجا من الدنيا خميصين «1» . وقال علي بن أبي طالب: سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وثنّى أبو بكر وثلّث عمر؛ ثم خبطتنا فتنة عمياء [يعفو الله فيها] عمن يشاء. وقالت عائشة. توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهدّها، أشرأبّ النفاق، وارتدت العرب؛ فو الله ما طاروا في نقطة إلا طار أبي بحظها وغنائها في الإسلام. عمرو بن عثمان عن أبيه عن عائشة أنه بلغها أن أناسا ينالون من أبيها. فأرسلت إليهم، فلما حضروا قالت: إن أبي والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود منيف وظل ممدود، أنجح «2» إذ

وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

أكديتم «1» ، وسبق إذ ونيتم، سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئا، وكهفها «2» كهلا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب صدعها ويلمّ شعثها، فما برحت شكيمته في ذات الله تشتد، حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان وقيد الجوانح غزير الدمعة، شجيّ النشيج، وأصفقت «3» إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزؤن به، والله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، فأكبرت ذلك رجالات قريش فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا قناة؛ حتى ضرب الحقّ بجرانه، وألقى بركه «4» ، ورست أوتاده. فلما قبض الله نبيّه ضرب الشيطان رواقه، ومدّ طنبه؛ ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله؛ فقام الصّديق حاسرا مشمّرا، فردّ نشر الإسلام على غرّه وأقام أوده بثقافه، فابذعرّ «5» النفاق بوطئه، وانتاش «6» الناس بعدله، حتى أراح الحقّ على أهله، وحقن الدماء في أهبها؛ ثم أتته منيته؛ فسدّ ثلمته نظيره في المرحمة، وشقيقه في المعدلة؛ ذلك ابن الخطاب، لله درّ أم حفلت له ودرّت عليه! ففتح الفتوح، وشرّد الشرك، وبعج «7» الأرض فقاءت أكلها، ولفظت جناها، ترأمه ويأباها، وتريده ويصدف عنها، ثم تركها كما صحبها؛ فأروني ما ترتابون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحرث بن كلدة، فأكلا منه؛ فقال الحرث: أكلنا سمّ سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول! فماتا جميعا في يوم واحد عند انقضاء السنة، وإنما سمّته يهود كما سمت النبي صلّى الله عليه وسلم بخيبر في ذراع الشاة؛ فلما حضرت النبي صلّى الله عليه وسلم الوفاة قال: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى

قطعت أبهري» ! وهذا مثل ما قال الله تعالى: ... ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ » والأبهر والوتين: عرقان في القلب إذا انقطع أحدهما مات صاحبه. الزهري عن عروة عن عائشة قالت: اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خلون من جمادي الآخرة، وكان يوما باردا، فحمّ خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر أن يصلي بالناس؛ وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ؛ وغسلته امرأته أسماء بنت عميس وصلى عليه عمر بن الخطاب بين القبر والمنبر، وكبّر أربعا. الزهري عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح فبلغ ذلك عمر فنهاهنّ، فأبين فقال لهشام بن الوليد: أخرج إليّ بنت أبي قحافة. فأخرج إليه أمّ فروة؛ فعلاها بالدّرّة «2» ضربا، فتفرّق النوائح. وقالت عائشة وأبوها يغمض، رضي الله عنه: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل قالت عائشة: فنظر إليّ وقال: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغمي عليه، فقالت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر فنظر إليّ كالغضبان وقال: قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ «3» . ثم قال: انظروا ملاءتين خلقين فاغسلوهما وكفّنوني فيهما؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. عروة بن الزبير والقاسم بن محمد، قالا: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فلما توفى حفر له وجعل رأسه بين كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر، وبقي في البيت موضع قبر؛ فلما حضرت الوفاة الحسن بن

علي، أوصى بأن يدفن مع جده في ذلك الموضع؛ فلما أراد بنو هاشم أن يحفروا له منعهم مروان- وهو والي المدينة في أيام معاوية- فقال أبو هريرة: علام تمنعه أن يدفن مع جده؟ فأشهد لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» قال له مروان: لقد ضيّع الله حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا لم يروه غيرك. قال: أنا والله لقد قلت ذلك؛ لقد صحبته حتى عرفت من أحبّ ومن أبغض، ومن نفى ومن أقرّ، ومن دعا له ومن دعا عليه. قال: وسطح قبر أبي بكر كما سطّح قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، ورشّ بالماء. هشام بن عروة عن أبيه: أن أبا بكر صلّي عليه ليلا ودفن ليلا. ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، ولها مات النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهرا وأياما، ووهب نصيبه في ميراثه لولد أبي بكر وكان نقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله. ولما قبض أبو بكر سجّي بثوب، فارتجّت المدينة من البكاء، ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: «رحمك الله أبا بكر! كنت والله أول القوم إسلاما، وأصدقهم إيمانا، وأشدهم يقينا وأعظمهم غنى، وأحفظهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول الله خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا؛ صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا وسمّاك الله في كتابه صدّيقا فقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ «1» ، يريد محمدا ويريدك؛ كنت والله للإسلام حصنا، وللكافرين ناكبا، لم تفلل «2» حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن

نفسك؛ كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف، ولا تزيله القواصف؛ كنت كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ضعيفا في بدنك؛ قويّا في دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيف عندك قوي، والقويّ عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي وتردّه للضعيف، فلا حرمك الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك. القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي توفي فيه، فقالت: يا أبت، اعهد إليّ خاصّتك، وأنفذ رأيك في عامتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك؛ إنك محضور ومنصل بي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك، وانتقاع لونك؛ فإلى الله تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك؛ أرقأ فلا أرقأ «1» وأشكو فلا أشكى. قال: فرفع رأسه وقال: يا أمه، هذا يوم يخلّى لي عن غطائي، وأشاهد جزائي، إن فرحا فدائم، وإن ترحا فمقيم، إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم، حين كان النكوص إضاعة، والخزل «2» تفريطا، فشهيدي الله ما كان بقلبي إلا إياه؛ فتعلقت بصحفتهم وتعللت بدرّة لقحتهم، وأقمت صلاي معهم، لا مختالا أشرا، ولا مكاثرا بطرا، ولم أعد سدّ الجوعة، ووري العورة «3» ، وقواته القوام؛ من طوى ممعض «4» تهفو منه الأحشاء، وتجف له الأمعاء، واضطررت إلى ذلك اضطرار الجرض «5» إلى الماء المعيف الآجن؛ فإذا أنا متّ فردّي إليهم صحفتهم وعبدهم ولقحتهم ورحاهم، ودثارة ما فوقي اتقيت بها البرد، ودثارة ما تحتي اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوها قطع السعف.

استخلاف أبي بكر لعمر

قال: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول الله لقد كلفت القوم بعدك تعبا، ووليتهم نصبا، فهيهات من شق غبارك فكيف اللحاق بك. استخلاف أبي بكر لعمر عبد الله بن محمد التيمي عن محمد بن العزيز، أن أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاة كتب عهده وبعث به مع عثمان بن عفان ورجل من الأنصار ليقرآه على الناس فلما اجتمع الناس قاما فقالا: «هذا عهد أبي بكر فإن تقرّوا به نقرأه، وإن تنكروه نرجعه» فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا عهد أبي بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويتقي الفاجر، ويصدق الكاذب، أمّرت عليكم عمر بن الخطاب، فإن عدل واتقى فذاك ظني به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر، فالخير أردت، ولا يعلم الغيب إلا الله. قال أبو صالح: أخبر محمد بن وضاح، قال: حدثني محمد بن رمح بن مهاجر التّجيبي، قال: حدثني الليث بن سعد عن علوان عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه، أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فأصابه مفيقا، فقال: أصبحت بحمد الله بارئا. قال أبو بكر: أتراه؟ قال: نعم. قال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولمّا لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عليّ من وجعي؛ إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون له الأمر من دونه، ورأيتم الدنيا مقبلة ولن تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمنّ الاضطجاع على الصوف الأذربيّ «1» ،

كما يألم أحدكم الاضطجاع على شوك السعدان، والله لأن يقدّم أحدكم فيضرب عنقه في غير حدّ، خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، ألا وإنكم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق جرت، إنما هو الفجر أو البحر. قال: فقلت له: خفّض عليك يرحمك الله، فإن هذا يهيضك «1» على ما بك؛ إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو يشير عليك برأيه، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحا مصلحا، مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا. فقال: أجل، إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن، وودت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وودت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهن: فأما الثلاث التي فعلتهن ووددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء؛ وإن كانوا أغلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرّقت الفجاءة السلمى، وأني قتلته سريحا أو خليته نجيحا «2» ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قدفت الأمر في عنق أحد الرجلين، فكان أحدهما أميرا وكنت له وزيرا. يعني بالرجلين: عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة بن الجراح. وأما الثلاث التي تركتهن ووددت أني فعلتهن: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا ضربت عنقه، فإنه يخيل إليّ أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه؛ ووددت أني يوم سيّرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصّة «3» ؛ فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن انهزموا كنت بصدد لقاء أو مدد؛ ووددت أني وجهت خالد بن الوليد

عمر بن الخطاب

إلى الشام، ووجّهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فأكون قد بسطت يديّ كلتيهما في سبيل الله. وأما الثلاث التي وددت أني سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهن: فإني وددت أني سألته: لمن هذا الأمر من بعده؟ فلا ينازعه أحد؛ وأني سألته: هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ فلا يظلموا نصيبهم منه؛ ووددت أني سألته عن بنت الأخ والعمة، فإن في نفسي منهما شيئا. [عمر بن الخطاب] نسب عمر بن الخطاب وصفته أبو الحسن علي بن محمد قال: هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهاشم هو ذو الرمحين. قال أبو الحسن: كان عمر رجلا آدم مشربا حمرة طويلا أصلع، له حفافان حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، مجدول اللحم، حسن الخلق، ضخم الكراديس «1» ، أعسر يسر «2» ، إذا مشى كأنه راكب. ولي الخلافة يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ. وطعن لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من التاريخ، فعاش ثلاثة أيام، ويقال سبعة أيام. معدان بن أبي حفصة، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة في رواية الشعبي؛ ولها مات أبو بكر، ولها مات النبي صلّى الله عليه وسلم.

فضائل عمر بن الخطاب

فضائل عمر بن الخطاب أبو الأشهب عن الحسن، قال: عاتب عيينة عثمان، فقال له: كان عمر خيرا لنا منك، أعطانا فأغنانا وأخشانا فأتقانا. وقيل لعثمان: مالك لا تكون مثل عمر؟ قال: لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم. القاسم بن عمر قال: كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة. وقيل إن عمر خطب امرأة من ثقيف، وخطبها المغيرة؛ فزوجوها المغيرة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ألا زوّجتم عمر، فإنه خير قريش أوّلها وآخرها، إلا ما جعل الله لرسوله؟» . الحسن بن دينار عن الحسن، قال: ما فضل عمر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان أطولهم صلاة وأكثرهم صياما، ولكنه كان أزهدهم في الدنيا وأشدّهم في أمر الله. وتظلم رجل من بعض عمال عمر وادعى أنه ضربه وتعدّى عليه، فقال: اللهم إني لا أحل لهم أشعارهم ولا أبشارهم «1» ؛ كل من ظلمه أميره فلا أمير عليه دوني. ثم أقاده «2» منه. عوانة عن الشعبي قال: كان عمر يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. وقال المغيرة بن شعبة وذكر عمر، فقال: كان والله له فضل يمنعه من أن يخدع، وعقل يمنعه من أن ينخدع. وقال عمر: لست بخبّ ولا الخب «3» يخدعني.

عكرمة عن ابن عباس، قال: بينما أنا أمشي مع عمر بن الخطاب في خلافته وهو عامد لحاجة له وفي يده الدّرّة «1» وأنا أمشي خلفه وهو يحدث نفسه ويضرب وحشي «2» قدميه بدرّته، إذ التفت إليّ فقال: يا ابن عباس، أتدري ما حملني على مقالتي التي قلت يوم توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قال: الذي حملني على ذلك أني كنت أقرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «3» ؛ فو الله إن كنت لأظن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد علينا بأحنف أعمالنا؛ فهو الذي دعاني إلى ما قلت. ابن دأب قال: قال ابن عباس: خرجت أريد عمر في خلافته، فألفيته راكبا على حمار قد أرسنه بحبل أسود، وفي رجليه نعلان مخصوفتان. وعليه إزار قصير، وقميص قصير قد انكشفت منه ساقاه؛ فمشيت إلى جنبه وجعلت أجبذ الإزار عليه، فجعل يضحك ويقول: إنه لا يطيعك. حتى أتى العالية، فصنع له قوم طعاما من خبز ولحم فدعوه إليه، وكان عمر طائما، فجعل ينبذ «4» إليّ الطعام ويقول: كل لي ولك! ومن حديث ابن وهب عن الليث بن سعد، أن أبا بكر لم يكن يأخذ من بيت المال شيئا ولا يجري عليه من الفيء درهما، إلا أنه استلف منه مالا، فلما حضرته الوفاة أمر عائشة بردّه. وأما عمر بن الخطاب فكان يجري على نفسه درهمين كل يوم. فلما ولي عمر بن عبد العزيز قيل له: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب! قال: كان عمر لا مال له، وأنا مالي يغنيني. فلم يأخذ منه شيئا. أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال عمر وقام على الرّدم «5» : أين حقّك يا أبا سفيان مما هنا؟ قال: ما تحت قدميك إليّ. قال: طالما كنت قديم الظلم! ليس لأحد فيما وراء قدمي حق، وإنما هي منازل الحاج

مقتل عمر

قال الأصمعي: وكان رجل من قريش قد تقدم صدر من داره عن قدمي عمر، فهدمه وأراد أن يغوّر البئر، فقيل له: البئر للناس منفعة. فتركها. قال الأصمعي: إذا ودع الحاج ثم بات خلف قدمي عمر، لم أر عليه أن يرجع يقول: قد خرج من مكة. مقتل عمر أبو الحسن: كان للمغيرة بن شعبة غلام نصراني يقال له فيروز أبو لؤلؤة، وكان نجارا لطيفا، وكان خراجه ثقيلا، فشكا إلى عمر ثقل الخراج وسأله أن يكلم مولاه أن يخفف عنه من خراجه، فقال له: وكم خراجك؟ قال: ثلاثة دراهم في كل شهر. قال: وما صناعتك؟ قال نجار. قال: ما أرى هذا ثقيلا في مثل صناعتك. فخرج مغضبا فاستلّ خنجرا محدود الطرفين، وكان عمر قد رأى في المنام ديكا أحمر ينقره ثلاث نقرات؛ فتأوّله رجل من العجم يطعنه ثلاث طعنات، فطعنه أبو لؤلؤة بخنجره ذلك في صلاة الصبح ثلاث طعنات، إحداها بين سرته وعانته، فخرقت الصفاق «1» ، وهي التي قتلته؛ وطعن في المسجد معه ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة، فأقبل رجل من بني تميم يقال له حطان، فألقى كساء عليه ثم احتضنه فلما علم العلج «2» أنه مأخوذ طعن نفسه وقدّم عمر صهيبا يصلي بالناس، فقرأ بهم في صلاة الصبح: قل هو الله أحد، في الركعة الأولى؛ وقل يا أيها الكافرون، في الركعة الثانية؛ واحتمل عمر إلى بيته، فعاش ثلاثة أيام ثم مات، وقد كان استأذن عائشة أن يدفن في بيتها مع صاحبيه، فأجابته وقالت: والله لقد كنت أردت ذلك المضجع لنفسي، ولأوثرنّ به اليوم على نفسي! فكانت ولاية عمر عشر سنين. صلى عليه صهيب بين القبر والمنبر، ودفن عند غروب الشمس.

أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان

كاتبه: زيد بن ثابت وكتب له معيقيب أيضا. وحاجبه: يرفأ مولاه. وخازنه: يسار. وعلى بيت ماله: عبد الله بن أرقم. وقال الليث بن سعد: كان عمر أوّل من جنّد الأجناد، ودوّن الدواوين، وجعل الخلافة شورى بين ستّة من المسلمين، وهم: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف؛ ليختاروا منهم رجلا يولونه أمر المسلمين، وأوصى أن يحضر عبد الله بن عمر معهم، وليس له من أمر الشورى شيء. أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان صالح بن كيسان قال: قال ابن عباس: دخلت على عمر في أيام طعنته وهو مضطجع على وسادة من أدم «1» ، وعنده جماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقال له رجل؛ ليس عليك بأس! قال: لئن لم يكن عليّ اليوم ليكونن بعد اليوم. وإن للحياة لنصيبا من القلب، وإن للموت لكربة، وقد كنت أحبّ أن أنجّي نفسي وأنجو منكم، وما كنت من أمركم إلا كالغريق يرى الحياة فيرجوها ويخشى أن يموت دونها، فهو يركض بيديه ورجليه، وأشدّ من الغريق الذي يرى الجنة والنار وهو مشغول. ولقد تركت زهرتكم كما هي ما لبستها فأخلقتها، وثمرتكم يانعة في أكمامها ما أكلتها، وما جنيت ما جنيت إلا لكم، وما تركت ورائي درهما ما عدا ثلاثين أو أربعين درهما. ثم بكى وبكى الناس معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أبشر، فو الله لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ومات أبو بكر وهو عنك راض، وإن المسلمين رضوان عنك.

قال: المغرور والله من غررتموه؛ أما والله لو أن لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطّلع. داود بن أبي هند عن قتادة قال: لما ثقل عمر قال لولده عبد الله: ضع خدّي على الأرض. فكره أن يفعل ذلك، فوضع عمر خدّه على الأرض وقال: ويل لعمر، ولأمّ عمر، إن لم يعف الله عنه! أبو أمية بن يعلى عن نافع قال: قيل لعبد الله بن عمر: تغسّل الشهداء؟ قال: كان عمر أفضل الشهداء، فغسّل وكفن وصلّي عليه. يونس عن الحسن وهشام بن عروة عن أبيه قالا: لما طعن عمر بن الخطاب قيل له: يا أمير المؤمنين، لو استخلفت! قال: إن تركتكم فقد ترككم من هو خير مني، وإن استخلفت فقد استخلف عليكم من هو خير مني؛ ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيّك يقول: إن سالما ليحبّ الله حبّا لو لم يخفه ما عصاه. قيل له: فلو أنك عهدت إلى عبد الله، فإنه لها أهل في دينه وفضله وقديم إسلامه؟ قال: بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد عن أمّة محمد-[ولوددت أني نجوت من هذا الأمر كفافا لا لي ولا عليّ. ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولّي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحق- وأشار إلى عليّ- ثم رأيت أن لا أتحمّلها حيّا وميّتا؛ فعليكم بهؤلاء الرهط الذين قال فيهم النبي صلّى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة. منهم: سعيد بن زيد بن

عمرو بن نفيل، ولست مدخله فيهم؛ ولكن الستة: علي، وعثمان ابنا عبد مناف؛ وسعد، وعبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ والزبير حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمته، وطلحة الخير؛ فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوكم واليا فأحسنوا مؤازرته. فقال العباس لعليّ: لا تدخل معهم. قال: أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره! فلما أصبح عمر دعا عليا وعثمان وسعدا والزبير وعبد الرحمن، ثم قال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وإني لا أخاف الناس عليكم، ولكني أخافكم على الناس؛ وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فاجتمعوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاوروا واختاروا منكم رجلا، وليصلّ بالناس صهيب ثلاثة أيام، ولا يأت اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضركم عبد الله مشيرا ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم. ومن لي بطلحة؟ فقال سعد: أنا لك به إن شاء الله. ثم قال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله قد أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار وكونوا مع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. وقال للمقداد بن الأسود الكندي: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. وقال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن وطلحة إن حضر، بيت عائشة، واحضر عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، وقم على رءوسهم؛ فإن اجتمع خمسة على رأي واحد وأبي واحد فاشدخ «1»

رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة فرضوا وأبي اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكّموا عبد الله بن عمر؛ فإن لم يرضوا بعبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين، إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس. وخرجوا. فقال عليّ لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم فلن يؤمّركم أبدا. وتلقاه العباس فقال له: عدلت عنا؟ قال له وما أعلمك؟ قال: قرن بي عثمان ثم قال ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا إن رضي فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف؛ فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون فلو كان الآخران معي ما نفعاني. فقال العباس: لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستاخرا بما أكره: أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تسأله: فيمن هذا الأمر؟ فأبيت؛ وأشرت عليك بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تعاجل الأمر، فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم، فأبيت؛ فاحفظ عني واحدة: كل ما عرض عليك القوم فأمسك، إلى أن يولوك؛ واحذر هذا الرهط؛ فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا. فلما مات عمر واخرجت جنازته، تصدى علي وعثمان، أيهما يصلي عليه؛ فقال عبد الرحمن: كلا كما يحب الإمرة!، لستما من هذا في شيء؛ هذا صهيب استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثا حتى يجتمع الناس على إمام. فصلى عليه صهيب. فلما دفن عمر جمع المقداد بن الأسود أهل الشورى في بيت عائشة بإذنها، وهم خمسة معهم ابن عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة فحجبهم؛ وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما «1» سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا من أهل الشورى!

فتنافس القوم في الأمر، وكثر بينهم الكلام، كل يرى أنه أحق بالأمر؛ فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها! لا والذي ذهب بنفس عمر، لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمرو أو أجلس في بيتي. فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه، ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم فلم يجبه أحد؛ فقال. فأنا أنخلع منها. قال عثمان. أنا أول من رضي؟ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول. عبد الرحمن أمين في الأرض، أمين في السماء. فقال القوم: رضينا. وعليّ ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن: قال. أعطني موثقا لتؤثرنّ الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نصحا. قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من نكل، وأن ترضوا بما أخذت لكم فتوثق بعضهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن، فخلا بعلي فقال: إنك أحقّ بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك، ولم تبعد؛ فمن أحق بها بعدك من هؤلاء؟ قال: عثمان. ثم خلا بعثمان فسأله عن مثل ذلك؛ فقال: علي. ثم خلا بسعد فقال: عثمان. ثم خلا بالزبير فقال: عثمان، فقال عمار بن ياسر لعبد الرحمن: إن أردت. أبو الحسن قال: لما خاف عليّ بن أبي طالب عبد الرحمن بن عوف والزبير وسعدا أن يكونوا مع عثمان، لقي سعدا ومعه الحسن والحسين، فقال له: أسألك برحم ابنيّ هذين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبرحم عمي حمزة منك ألّا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا عليّ لعثمان؛ فإني أولي إليك بما لا يدلي به عثمان. ثم دار عبد الرحمن لياليه تلك على مشايخ قريش يشارهم، فكلهم يشير بعثمان؛ حتى إذا كان في الليلة التي استكمل في صبيحتها الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد هجعة من الليل، فأيقظه فقال: ألا أراك إلا نائما ولم أذق في هذه الليالي نوما! فانطلق فادع لي الزبير وسعدا. فدعا بهما؛ فبدأ بالزبير في مؤخرة المسجد، فقال له: خلّ ابني عبد مناف لهذا الأمر. فقال: نصيبي لعليّ. فقال لسعد: أنا وأنت كلالة «1» ، فاجعل نصيبك لي فأختار. قال: أما إن اخترت نفسك فنعم، وأما إن

اخترت عثمان فعليّ أحبّ إليّ منه. قال: يا أبا إسحق، إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار، ولو لم أفعل وجعل إليّ الخيار ما أردتها؛ إني رأيت كأني في روضة خضراء كثيرة العشب؛ فدخل فحل لم أر قطّ فحلا أكرم منه، فمرّ كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها؛ ودخل بعير يتلوه فاتبع أثره حتى خرج من الروضة، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه «1» يلتفت يمينا وشمالا ويمضي قصد الأولين، حتى خرج من الروضة؛ ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة؛ ولا والله لا أكون البعير الرابع؛ ولا يقوم بعد أبي بكر وعمر أحد فيرضى الناس عنه! ثم أرسل المسوّر إلى عليّ فناجاه طويلا، وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم أرسل المسور إلى عثمان فناجاه طويلا حتى فرق بينهما أذان الصبح. فلما صلوا الصبح جمع إليه الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين والأنصار، وإلى أمراء الأجناد، حتى ارتج المسجد بأهله؛ فقال: أيها الناس إن الناس قد أحبوا أن تلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال عمار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليا، قلنا: سمعنا وأطعنا! قال ابن أبي سرح إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبي ربيعة صدق؛ إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا! فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية. فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنبيه، وأعزنا بدينه فأنّى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم؟ فقال له رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتتن الناس.

فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت؛ فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا. ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال أعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ثم دعا عثمان فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم! فبايعه؛ فقال علي: حبوته محاباة، ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا؛ أما والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون! فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين. ثم قال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم؛ إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم منه، ولا أقضى بالعدل، ولا أعرف بالحق؛ أما والله لو أجد أعوانا! فقال له عبد الرحمن: يا مقداد، اتق الله فإني أخشى عليك الفتنة! قال: وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه عثمان، فقيل له: إن الناس قد بايعوا عثمان. فقال: أكل قريش رضوا به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت عن رأس أمرك. قال طلحة: فإن أبيت أتردّها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيت، لا أرغب عما اجتمعت الناس عليه. وبايعه. وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبت إذا بايعت عثمان، ولو

بايعت غيره ما رضيناه. قال: كذبت يا أعور! لو بايعت غيره لبايعته وقلت هذه المقالة. وقال عبد الله بن عباس: ما شيت عمر بن الخطاب يوما، فقال لي: يا بن عباس، ما يمنع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاصة؟ قلت: لا أدري! قال: لكني أدري؛ إنكم فضلتموهم بالنبوة، فقالوا: إن فضلوا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا شيئا، وإنّ أفضل النصيبين بأيدكم، بل ما إخالها إلا مجتمعة لكم وإن نزلت على رغم قريش. فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلة «1» من أصحاب محمد، قيل لعبد الرحمن: هذا عملك! قال: ما ظننت هذا! ثم مضى، ودخل عليه وعاتبه، وقال: إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخلفتهما وحابيت أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين. فقال: إن عمر كان يقطع قرابته في الله، وأنا أصل قرابتي في الله. قال عبد الرحمن: لله عليّ ألا أكلّمك أبدا! فلم يكلمه أبدا حتى مات. ودخل عليه عثمان عائدا» له في مرضه، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يكلمه. ذكروا أن زيادا أوفد ابن حصين على معاوية، فأقام عنده ما أقام، ثم إن معاوية بعث إليه ليلا فخلا به، فقال له: يا ابن حصين، قد بلغني أن عندك ذهنا وعقلا؛ فأخبرني عن شيء أسألك عنه قال: سلني عما بدا لك. أخبرني ما الذي شتّت أمر المسلمين وفرّق أهواءهم وخالف بينهم؟ قال: نعم، قتل النّاس عثمان قال: ما صنعت شيئا. قال: فمسير عليّ إليك وقتاله إياك. قال: ما صنعت شيئا قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إياهم قال ما صنعت شيئا. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر؛ وذلك أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثم قبضه

الله إليه، وقدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمر دينهم، فعمل بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسار بسيره حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه: ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف. وقال المغيرة بن شعبة: إني لعند عمر بن الخطاب ليس عنده أحد غيري، إذ أتاه آت فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يزعمون أن الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له، وأنه كان بغير مشورة ولا مؤامرة؟ وقالوا تعالوا نتعاهد ألا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: في دار طلحة. فخرج نحوهم وخرجت معه وما أعلمه يبصرني من شدّة الغضب، فلما رأوه كرهوه وظنوا الذي جاء له، فوقف عليهم وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان، يغويه وهو يلعنه؛ والنار والماء يطفئها وهي تحرقه؛ ولم يأن لكم بعد وقد آن ميعادكم ميعاد المسيح متى هو خارج. قال: فتفرقوا فسلك كل واحد منهم طريقا؛ قال المغيرة: ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحبسه عليّ. فقلت: لا يفعل أمير المؤمنين وهو مغدّ «1» ، فقال: أدركه وإلا قلت لك يا بن الدباغة. قال: فأدركته فقلت له: قف مكانك لإمامك واحلم، فإنه سلطان وسيندم وتندم. قال: فأقبل عمر فقال: والله ما خرج هذا الامر إلا من تحت يدك. قال عليّ: اتق أن لا تكون الذي نعطيك فنفتنك. قال: وتحب أن تكون هو؟ قال: لا، ولكننا نذكرك الذي نسيت. فالتفت إليّ عمر فقال: انصرف فقد سمعت منا عند الغضب ما كفاك. فتنحيت قريبا، وما وقفت إلا خشية أن يكون بينهما شيء فأكون قريبا، فتكلما كلاما غير غضبانين ولا راضين ثم رأيتهما يضحكان وتفرّقا؛ وجاءني عمر، فمشيت معه وقلت: يغفر الله لك، أغضبت؟ قال: فأشار إلى عليّ وقال: أما والله لولا دعابة فيه ما شككت في ولايته وإن نزلت على رغم أنف قريش.

العتبي عن أبيه: أن عتبة بن أبي سفيان قال: كنت مع معاوية في دار كندة، إذ أقبل الحسن والحسين ومحمد، بنو علي بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين إن لهؤلاء القوم أشعارا وأبشارا، وليس مثلهم كذب، وهم يزعمون أن أباهم كان يعلم. فقال: إليك من صوتك فقد قرب القوم، فإذا قاموا فذكرني بالحديث، فلما قاموا قلت: يا أمير المؤمنين ما سألتك عنه من الحديث؟ قال: كل القوم كان يعلم وكان أبوهم من أعلمهم. ثم قال: قدمت على عمر بن الخطاب، فإني عنده إذ جاءه عليّ وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا وهم يتدافعون ويضحكون، فلما رآهم عمر نكس «1» ، فعلموا أنه على حاجة، فقاموا كما دخلوا؛ فلما قاموا أتبعهم بصره فقال: فتنة أعوذ بالله من شرّهم، وقد كفاني الله شرهم! قال: ولم يكن عمر بالرجل يسأل عما لا يفسّر؛ فلما خرجت جعلت طريقي على عثمان؛ فحدثته الحديث وسألته الستر، قال: نعم، على شريطة. قلت: هي لك. قال: تسمع ما أخبرك به وتسكت إذا سكتّ. قلت: نعم. قال: ستة يقدح بينهم زناد الفتنة، يجري الدم منهم على أربعة. قال: ثم سكت، وخرجت إلى الشام، فلما قدمت على عمر فحدث من أمره ما حدث- فلما مضت الشورى- ذكرت الحديث؛ فأتيت بيت عثمان وهو جالس وبيده قضيب فقلت: يا أبا عبد الله، تذكر الحديث الذي حدثتني؟ قال: فأزم «2» على القضيب عضّا؛ ثم أقلع عنه وقد أثر فيه، فقال: ويحك يا معاوية! أي شيء ذكرتني! لولا أن يقول الناس: خاف أن يؤخذ عليه، لخرجت إلى الناس منها! قال: فأبى قضاء الله إلا ما ترى. ومما نقم الناس على عثمان: أنه آوى طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص- ولم يؤوه أبو بكر ولا عمر- وأعطاه مائة ألف؛ وسيّر أبا ذرّ إلى الرّبذة، وسيّر عامر ابن عبد قيس من البصرة إلى الشام؛ وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف؛ وتصدّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمهزون- موضع سوق المدينة- على

عثمان

المسلمين، فأقطعها الحرث بن الحكم أخا مروان؛ وأقطع فدك مروان، وهي صدقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وافتتح أفريقية؛ فأخذ خمس الفيء فوهبه لمروان؛ فقال عبد الرحمن بن حسل الجمحي: فأحلف بالله ربّ الأنا ... م ما ترك الله شيئا سدى ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو تبتلى فإنّ الأمينين قد بيّنا ... منارا لحقّ عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة ... وما تركا درهما في هوى وأعطيت مروان خمس العبا ... د هيهات شأوك ممّن شأى [عثمان] نسب عثمان وصفته هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس: وأمها [أمّ حكيم] البيضاء ابنة عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلّى الله عليه وسلم. وكان عثمان أبيض مشربا صفرة، كأنه فضة وذهب؛ حسن القامة، حسن الساعدين، سبط «1» الشعر، أصلع الرأس، أجمل الناس إذا اعتمّ، مشرف الأنف، عظيم الأرنبة، كثير شعر الساقين والذراعين، ضخم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. ولما أسنّ شدّ أسنانه بالذهب، وسلسل بوله فكان يتوضأ لكل صلاة. ولي الخلافة منسلخ ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وقتل يوم الجمعة صبيحة عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين. وفي ذلك يقول حسان: ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا «2» لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا

فضائل عثمان

فكانت ولايته اثنتي عشرة سنة وستة عشر يوما، [ومات] وهو ابن أربع وثمانين سنة. وكان على شرطته- وهو أول من اتخذ صاحب شرطة- عبيد الله بن قنفذ، وعلى بيت المال، عبد الله بن أرقم، ثم استعفاه؛ وكاتبه مروان، وحاجبه حمران مولاه. فضائل عثمان سالم بن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال: أصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك، فاشترى عثمان طعاما على ما يصلح العسكر، وجهز به عيرا «1» ؛ فنظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى سواد مقبل. فقال: هذا جمل أشقر قد جاءكم بميرة. فأنيخت الركائب «2» ، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارض عنه! وكان عثمان حليما سخيا محبّبا إلى قريش، حتى كان يقال: أحبّك والرحمن ... حبّ قريش لعثمان وزوّجه النبي صلّى الله عليه وسلم رقية ابنته، فماتت عنده؛ فزوّجه أم كلثوم ابنته أيضا. الزهري عن سعيد بن المسيّب، قال: لما ماتت رقية جزع عثمان عليها، وقال: يا رسول الله، انقطع صهري منك! قال: إن صهرك مني لا ينقطع، وقد أمرني جبريل أن أزوّجك أختها بأمر الله. عبد الله بن عباس قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا البيت، فرآني ضجيعا لأم كلثوم، فاستعبر، فقلت: والذي بعثك بالحق ما أضجعت عليه أنثى بعدها! فقال: ليس لهذا استعبرت؛ فإن الثياب للحي وللميت الحجر؛ ولو كن يا عثمان عشرا لزوّجتكهن واحدة بعد واحدة.

مقتل عثمان بن عفان

وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان، فأبى منها؛ فشكاه عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «سيزوّج الله ابنتك خيرا من عثمان، ويزوّج عثمان خيرا من ابنتك» ! فتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، وزوّج ابنته عثمان بن عفان. ومن حديث الشعبي أن النبي عليه السلام دخل عليه عثمان فسوّى ثوبه عليه، وقال: «كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة» . مقتل عثمان بن عفان الرياشي عن الأصمعي قال: كان القواد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أربعة: عبد الرحمن بن عديس البلويّ، وحكيم بن جبلة العبدي، والأشتر النخعي، وعبد الله بن بديل الخزاعي، فقدموا المدينة فحاصروه، وحاصره معهم قوم من المهاجرين والأنصار حتى دخلوا عليه فقتلوه والمصحف بين يديه، وهو يقرأ يوم الجمعة صبيحة النحر، وأرادوا أن يقطعوا رأسه ويذهبوا به، فرمت نفسها عليه امرأتاه: نائلة بنت الفرافصة، و [رملة] ابنة شيبة بن ربيعة، فتركوه وخرجوا. فلما كان ليلة السبت انتدب لدفنه رجال، منهم جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبد الله بن الزبير، فوضعوه على باب صغير، وخرجوا به إلى البقيع، ومعهم نائلة بنت الفرافصة بيدها السراج، فلما بلغوا به البقيع منعهم من دفنه فيه رجال من بني ساعدة، فردّوه إلى حشّ كوكب، فدفنوه فيه. وصلى عليه جبير بن مطعم؛ ويقال: حكيم بن حزام؛ ودخلت القبر نائلة بنت الفرافصة، وأم البنين بنت عيينة، زوجتاه، وهما دلّتاه في القبر. والحش: البستان. وكان حش كوكب اشتراه عثمان، فجعله أولاده مقبرة للمسلمين. يعقوب بن عبد الرحمن، عن محمد بن عيسى الدمشقي، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن محمد بن شهاب الزهري، قال: قلت لسعيد بن المسيب: هل

أنت مخبري كيف قتل عثمان: ما كان شأن الناس وشأنه، ولم خذله أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: قتل عثمان مظلوما، ومن قتله كان ظالما، ومن خذله كان معذورا. قلت: وكيف ذاك؟ قال: إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيرا ما يولّي بني أمية، ممن لم يكن له من رسول الله صلّى الله عليه وسلم صحبة، وكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد، فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم؛ فلما كان في الحجج الآخرة استأمر بني عمه فخرجوا، فولاهم وأمرهم بتقوى الله وولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه. ومن قبل ذلك كانت من عثمان هناة إلى عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكانت هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان بما نال عمار بن ياسر، وجاء أهل مصر يشكون من ابن سرح، فكتب إليه عثمان كتابا يتهدد، فأبى ابن سرح أن يقبل ما نهاه عثمان عنه، وضرب رجلا ممن أتى عثمان فقتله، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح؛ فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بكلام شديد، وأرسلت إليه عائشة: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت أن تعزله، فهذا قد قتل منهم رجلا؛ فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه عليّ وكان متكلّم القوم. فقال: إنما سألوك رجلا مكان رجل، وقد ادّعوا قبله دما؛ فاعزله عنهم، واقض بينهم، وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا رجلا أولّه عليكم مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر فقالوا: استعمل علينا محمد بن أبي بكر. فكتب عهده وولّاه، وأخرج معهم عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح، فخرج محمد ومن معه؛ فلما كان

على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط الأرض خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب! فقال: أنا غلام أمير المؤمنين، وجّهني إلى عامل مصر. فقالوا: هذا عامل مصر معنا. قال: ليس هذا أريد. وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه فأتي به؛ فقال له: غلام من أنت؟ قال: فأقبل مرة يقول: غلام أمير المؤمنين، ومرة: غلام مروان؛ حتى عرفه رجل منهم أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر. قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: معك كتاب؟ قال: لا. ففتشوه فلم يوجد مع شيء إلا إداوة «1» قد يبست فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقّوا الإداوة، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا جاءك محمد وفلان فاحتل لقتلهم، وأبطل كتابهم، وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي، واحتبس من جاء يتظلم منك، ليأتيك في ذلك رأيي إن شاء الله. فلما قرءوا الكتاب فزعوا وعزموا على الرجوع إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتم القوم الذين أرسلوا معه، ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة، فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، وأقرءوهم الكتاب فلم يبق أحد في المدينة إلا حنق على عثمان، وازداد من كان منهم غاضبا لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر، غضبا وحنقا؛ وقام أصحاب النبي عليه السلام فلحقوا منازلهم، ما منهم أحد إلا وهو مغتمّ بما قرءوا في الكتاب، وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمّد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم وأعانه طلحة بن عبيد الله على ذلك، وكانت عائشة تحرّضه كثيرا، فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار، ونفر من

أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كلّهم بدريّ؛ ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، وقال له عليّ: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعير بعيرك؟ قال: نعم والخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت الكتاب؟ قال: لا! وحلف بالله: ما كتبت الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجهت الغلام إلى مصر قطّ. وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، فشكّوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان؛ فأبى؛ وكان مروان عنده في الدار؛ فخرج أصحاب محمد من عنده غضابا، وشكوا في أمر عثمان وعلموا أنه لا يحلف باطلا، إلا أن قوما قالوا: لا نبريء عثمان، إلا أن يدفع إلينا مروان، حتى نمتحنه ونعرف أمر هذا الكتاب، وكيف يأمر بقتل رجال من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمان كتبه عزلناه، وإن يك مروان كتبه على لسانه نظرنا في أمره. ولزموا بيوتهم، وأبي عثمان أن يخرج إليهم مروان وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء؛ فأشرف عليهم؛ فقال: أفيكم عليّ؟ قالوا: لا. قال: فيكم سعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح من سببها عدة من موالي بن هاشم وبني أمية حتى وصل إليه الماء؛ فبلغ عليا أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا. وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه. وبعث الزبير ولده، وبعث طلحة ولده على كره منه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبناءهم ليمنعوا الناس أن يدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مروان. ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بالدماء على بابه، وأصاب مروان سهم في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشجّ قنبر مولى عليّ، وخشي محمد بن أبي بكر أن تغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها فأخذ بيدي رجلين فقال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن والحسين كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد، ولكن مروا بنا حتى نتسوّر «1» عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد.

فتسوّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال: من دار عمرو ابن حزم الأنصاري، ومما يدل على ذلك قول الأحوص: لا ترثينّ لحزميّ ظفرت به ... طرّا ولو طرح الحزمي في النار الباخسين «1» بمروان بذي خشب ... والمدخلين على عثمان في الدار فدخلوا عليه وليس معه إلا امرأته نائلة بنت الفرافصة؛ والمصحف في حجره، ولا يعلم أحد ممن كان معه، لأنهم كانوا على البيوت، فتقدّم إليه محمد [ابن أبي بكر] وأخذ بلحيته. فقال له عثمان: أرسل لحيتي يا بن أخي، فلو رآك أبوك لساءه مكانك! فتراخت يده عن لحيته، وغمز الرجلين فوجآه بمشاقص «2» معهما حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا؛ وخرجت امرأته فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل! فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحا؛ فأكبّوا عليه يبكون. وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة: فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا؛ فاسترجعوا؛ وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسين وضرب صدر الحسن، وشتم محمد ابن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير؛ ثم خرج عليّ وهو غضبان، يرى أن طلحة أعان عليه، فلقيه طلحة فقال: مالك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال عليك وعليهما لعنة الله! يقتل أمير المؤمنين ورجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم بدريّ ولم تقم بينة ولا حجة؟ فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل. فقال: لو دفع مروان قتل قبل أن تثبت عليه حجة! وخرج عليّ فأتى منزله؛ وجاءه القوم كلهم يهرعون إليه: أصحاب محمد وغيرهم، يقولون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فقال: ليس ذلك إلا لأهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليا، فقالوا: ما نرى أحدا أولى بها منك، فمدّ يدك نبايعك. فقال: أين طلحة والزبير؟ فكانا. أول من بايعه، طلحة بلسانه، وسعد بيده.

القواد الذين أقبلوا إلى عثمان

فلما رأى ذلك عليّ خرج إلى المسجد فصعد المنبر؛ فكان أول من صعد طلحة فبايعه بيده، وكانت أصبعه شلّاء، فتطير منها عليّ، وقال: ما أخلقه أن ينكث! ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب النبي جميعا؛ ثم نزل، ودعا الناس، وطلب مروان فهرب منه. وخرجت عائشة باكية تقول: قتل عثمان مظلوما! فقال لها عمار: أنت بالأمس تحرضين عليه، واليوم تبكين عليه! وجاء عليّ إلى امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل رجلان لا أعرفهما إلا أن أرى وجوههما، وكان معهما محمد بن أبي بكر. وأخبرته بما صنع محمد بن أبي بكر؛ فدعا عليّ بمحمد، فسأله عما ذكرت امرأة عثمان، فقال محمد: لم تكذب؛ وقد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمت وأنا تائب، والله ما قتلته ولا أمسكته! فقالت امرأة عثمان: صدق، ولكنه أدخلهما. المعتمر عن أبيه عن الحسن، أن محمد بن أبي بكر أخذ بلحية عثمان، فقال له: يا ابن أخي؛ لقد قعدت مني مقعدا ما كان أبوك ليقعده! وفي حديث آخر أنه قال: يابن أخي، لو رآك أبوك لساءه مكانك! فاسترخت يده. وخرج محمد فدخل عليه رجل والمصحف في حجره، فقال له: بيني وبينك كتاب الله! فخرج وتركه، ثم دخل عليه آخر، فقال: بيني وبينك كتاب الله! فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها؛ فقال: أما إنها أول يد خطّت المفصّل «1» . القوّاد الذين أقبلوا إلى عثمان الأصمعي عن أبي عوانة قال: كان القواد الذين أقبلوا إلى عثمان: علقمة بن عثمان، وكنانة بن بشر، وحكيم بن جبلة، والأشتر النخعي، وعبد الله بن بديل. وقال أبو الحسن: لما قدم القواد قالوا لعليّ: قم معنا إلى هذا الرجل. قال: لا

والله لا أقوم معكم. قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم كتابا قط. قال: فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وخرج عليّ من المدينة. الأعمش عن عيينة عن مسروق قال: قالت عائشة: مصتموه موص «1» الإناء حتى تركتموه كالثوب الرخيض «2» ، نقيّا من الدنس؛ ثم عدوتم فقتلتموه! قال مروان: فقلت لها: هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه! فقالت: والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسواد في بياض، حتى جلست في مجلسي هذا. فكانوا يرون أنه كتب على لسان عليّ، وعلى لسانها، كما كتب أيضا على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر؛ فكان اختلاق هذه الكتاب كلها سببا للفتنة. وقال أبو الحسن: أقبل أهل مصر عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوى، وأهل البصرة عليهم حكيم بن جبلة العبدي، وأهل الكوفة عليهم الأشتر- واسمه مالك بن الحارث النخعي- في أمر عثمان، حتى قدموا المدينة. قال أبو الحسن: لما قدم وفد أهل مصر، دخلوا على عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا؟ قال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت؛ وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم. قالوا: قد أحل الله دمك! وحصروه في الدار، فأرسل عثمان إلى الأشتر فقال: ما يريد الناس مني؟ قال: واحدة من ثلاث ليس عنها بدّ. قال: ما هي؟ قال: يخيّرونك بين أن تخلع لهم أمرهم، فتقول: هذا أمركم فقلّدوه من شئتم؛ وإما أن تقتص من نفسك؛ فإن أبيت [هاتين] فالقوم قاتلوك. قال: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سر بلنيه الله فتكون سنة من بعدي، كلما كره القوم إمامهم خلعوه: وأما أن أقتص من نفسي فو الله لقد علمت أن صاحبي بين

يدي قد كانا يعاقبان، وما يقوى بدني على القصاص؛ وأما أن تقتلوني، فلئن قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون بعدي جميعا أبدا. وقال أبو الحسن: فو الله لن يزالوا على النوى «1» جميعا وإن قلوبهم مختلفة. وقال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان وقال: إنه لا يحل سفك دم امريء مسلم إلا في إحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس؛ فهل أنا في واحدة منهن؟ فما وجد القوم له جوابا. ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان على أحد ومعه تسعة من أصحابه أنا أحدهم فتزلزل الجبل حتى همت أحجاره أن تتساقط، فقال: اسكن أحد فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ قالوا: اللهم نعم. قال: شهدوا لي ورب الكعبة. قال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان فقال: السلام عليكم. فما ردّ أحد عليه السلام، فقال: أيها الناس، إن وجدتم في الحق أن تضعوا رجلي في القبر فضعوها فما وجد القوم له جوابا؛ ثم قال: أستغفر الله إن كنت ظلمت وقد غفرت إن كنت ظلمت! يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعا وطاعة أن يكفّ يده ويلقي سلاحه. فألقى القوم أسلحتهم. ابن أبي عروبة عن قتادة، أن زيد بن ثابت دخل على عثمان يوم الدار، فقال: إن هذه الأنصار بالباب وتقول: إن شئت كنا أنصار الله مرتين! قال: لا حاجة لي في ذلك؛ كفوا. ابن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم عن نافع، أن عبد الله بن عمر لبس درعه وتقلد سيفه يوم الدار، فعزم عليه عثمان أن يخرج ويضع سلاحه ويكف يده، ففعل.

ما قالوا في قتلة عثمان

محمد بن سيرين قال: قال سليط: نهانا عثمان عنهم، ولو أذن لنا عثمان فيهم لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارنا. ما قالوا في قتلة عثمان العتبي: قال رجل من بني ليث: لقيت الزبير قادما، فقلت: أبا عبد الله، ما بالك؟ قال: مطلوب مغلوب، يغلبني ابني ويطلبني ذنبي! قال: فقدمت المدينة فلقيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: أبا إسحق، من قتل عثمان؟ قال: قتله سيف سلّته عائشة، وشحذه طلحة، وسمّه علي! قلت: فما حال الزبير؟ قال: أشار بيده، وصمت بلسانه. وقالت عائشة: قتل الله مذمّما بسعيه على عثمان- تريد محمدا أخاها- وأهرق دم ابن بديل على ضلالته، وساق إلى أعين بني تميم هوانا في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه لا يشوى: قال: ما منهم أحد إلا أدركته دعوة عائشة. سفيان الثوري قال: لقي الأشتر مسروقا فقال له: أبا عائشة، مالي أراك عضبان على ربك من يوم قتل عثمان بن عفان؟ لو رأيتنا يوم الدار ونحن كأصحاب عجل بني إسرائيل. وقال سعد بن أبي وقاص لعمار بن ياسر: لقد كنت عندنا من أفاضل أصحاب محمد، حتى [إذا] لم يبق من عمرك إلا ظمء «1» الحمار فعلت وفعلت! يعرض له بقتل عثمان، قال عمار: أي شيء أحب إليك: مودة على دخل أو هجر جميل قال: هجر جميل! قال: فلله عليّ أن لا أكلّمك أبدا! دخل المغيرة بن شعبة على عائشة فقالت: يا أبا عبد الله لو رأيتني يوم الجمل قد نفذت النصال هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي! قال لها المغيرة: وددت والله أن بعضها كان قتلك! قالت يرحمك الله! ولم تقول هذا؟ قال: لعلها تكون كفّارة في سعيك على عثمان! قالت: أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أردت قتله، ولكن

علم الله أني أردت أن يقاتل فقوتلت، وأردت أن يرمى فرميت، وأردت أن يعصى فعصيت؛ ولو علم مني أني أردت قتله لقتلت. وقال حسان بن ثابت لعلي: إنك تقول: ما قتلت عثمان ولكن خذلته، ولم آمر به ولكن لم أنه عنه. فالخاذل شريك القاتل، والساكت شريك القائل. أخذ هذا المعنى كعب بن جعيل التغلبي وكان مع معاوية يوم صفين، فقال في علي بن أبي طالب: وما في عليّ لمستحدث ... مقال سوى عصمة المحدثينا وإثاره لأهالي الذنوب ... ورفع القصاص عن القاتلينا إذا سيل عنه زوى وجهه ... وعمّى الجواب على السائلينا «1» فليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الآمرينا ولا هو ساه ولا سرّه ... ولا آمن بعض ذا أن يكونا وقال رجل من أهل الشام في قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه: خذلته الأنصار إذ حضر المو ... ت وكانت ثقاته الأنصار ضربوا بالبلاء فيه مع النّا ... س وفي ذاك للبرية عار حرمة بالبلاء من حرمة الله ... ووال من الولاة وجار أين أهل الحياء إذ منع الما ... ء فدته الأسماع والأبصار من عذيري من الزبير ومن طلحة ... هاجا أمرا له إعصار «2» تركوا الناس دونهم عبرة العجل ... فشبت وسط المدينة نار هكذا زاغت اليهود عن الحقّ ... بما زخرفت لها الأحبار ثم وافى محمد بن أبي بكر ... جهارا وخلفه عمّار وعليّ في بيته يسأل النا ... س ابتداء وعنده الأخبار!

في مقتل عثمان بن عفان

باسطا للتي يريد يديه ... وعليه سكنة ووقار يرقب الأمر أن يزفّ إليه ... بالذي سبّبت له الأقدار قد أرى كثرة الكلام قبيحا ... كل قول يشينه إكثار وقال حسان يرثي عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: من سره الموت صرفا لا مزاح له ... فليأت مأسدة في دار عثمانا «1» صبرا فدى لكم أمّي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا لعلكم أن تروا يوما بمغيظة ... خليفة الله فيكم كالذي كانا إني لمنهم وإن غلبوا وإن شهدوا ... ما دمت حيّا وما سمّيت حسّانا «2» يا ليت شعري وليت الطّير تخبرني ... ما كان شأن عليّ وابن عفّانا لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا في مقتل عثمان بن عفان أبو الحسن عن مسلمة عن ابن عون قال: كان ممن نصر عثمان سبعمائة، فيهم الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير؛ ولو تركهم عثمان لضربوهم حتى يخرجوهم من أقطارها. أبو الحسن عن جبير بن سيرين قال: دخل ابن بديل على عثمان وبيده سيف، وكانت بينهما شحناء «3» ، فضربه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها، فقال: أما إنها أول كف خطّت المفصّل. أبو الحسن قال: يوم قتل عثمان يقال له يوم الدار. وأغلق على ثلاث من القتل: غلام أسود كان لعثمان، وكنانة بن بشر، وعثمان.

أبو الحسن قال: قال سلامة بن روح الخزاعي لعمرو بن العاص: كان بينكم وبين الفتنة باب فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نخرج الحق من حفيرة الباطل، وأن يكون الناس في الحق سواء. مجالد عن الشعبي قال: كتب عثمان إلى معاوية: أن امددني. فأمدّه بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كرز البجلي. فتلقاه الناس بقتل عثمان، فانصرف، فقال: لو دخلت المدينة وعثمان حي ما تركت بها مختلفا إلا قتلته؛ لأن الخاذل والقاتل سواء. قيس بن رافع قال: قال زيد بن ثابت: رأيت عليّا مضطجعا في المسجد، فقلت. أبا الحسن، إن الناس يرون أنك لو شئت رددت الناس عن عثمان. فجلس ثم قال: والله ما أمرتهم بشيء ولا دخلت في شيء من شأنهم. قال: فأتيت عثمان فأخبرته، فقال: وحرّق قيس عليّ البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما «1» الفضل عن كثير عن سعيد المقبري قال. لما حصروا عثمان ومنعوه الماء، قال الزبير: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ «2» ! ومن حديث الزهري قال: لما قتل مسلم بن عقبة أهل المدينة يوم الحرّة، قال عبد الله بن عمر: بفعلهم في عثمان وربّ الكعبة! ابن سيرين عن ابن عباس قال: لو أمطرت السماء دما لقتل عثمان لكان قليلا له! أبو سعيد مولى أبي حذيفة قال: بعث عثمان إلى أهل الكوفة: من كان يطالبني بدينار أو درهم أو لطمة فيأت يأخذ حقه أو يتصدق، فإن الله يجزي المتصدقين. قال: فبكى بعض القوم، وقالوا: تصدّقنا! ابن عون عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أشدّ على عثمان من طلحة!

أبو الحسن قال: كان عبد الله بن عباس يقول: ليغلبنّ معاوية وأصحابه عليا وأصحابه؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً «1» . أبو الحسن قال: كان ثمامة الأنصاري عاملا لعثمان، فلما أتاه قتله بكى وقال: اليوم انتزعت خلافة النّبوّة من أمّة محمد، وصار الملك بالسيف، فمن غلب على شيء أكله. أبو الحسن: عن أبي مخنف عن نمير بن وعلة عن الشعبي، أن نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان بن عفان كتبت إلى معاوية كتابا مع النعمان بن بشير، وبعثت إليه بقميص عثمان مخضوبا بالدماء، وكان في كتابها: «من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان؛ أما بعد، فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة؛ وأنشدكم الله، وأذكّركم حقّه وحق خليفته أن تنصروه بعزم الله عليكم؛ فإنه قال: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «2» . وإن أمير المؤمنين بغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حقّ الولاة، [ثم أتي إليه ما أتي] لحقّ على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب [داعي] الله وصدّق كتابه واتّبع رسوله، والله علم به إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة. وإني أقص عليكم خبره؛ إني شاهدة أمره كلّه. إن أهل المدينة حصروه في داره، ويحرسونه ليلهم ونهارهم قياما على أبوابه بالسلاح، يمنعونه كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء؛ فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا

أمرهم إلى علي، ومحمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وطلحة والزبير، فأمروهم بقتله؛ وكان معهم من القبائل: خزاعة، وسعد بن بكر، وهذيل، وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب؛ فهؤلاء كانوا أشدّ الناس عليه. ثم إنه حصر فرشق بالنّبل والحجارة، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر معه، فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال، فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم، فردّوها عليهم، فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة، وفي الأمر إلا إغراقا؛ فحرّقوا باب الدار؛ ثم جاء [ثلاثة] نفر من أصحابه فقالوا: إن [في المسجد] ناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل، فاخرج إلى المسجد يأتوك. فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مظلة عليه من كل ناحية، فقال: ما أرى اليوم أحدا يعدل! فدخل الدار، وكان معه نفر ليس على عامتهم سلاح فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم فكلمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقا في صحيفة وبعث بها إلى عثمان: عليكم عهد الله وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلموه وتخرجوا. فوضع السلاح، ولم يكن إلا وضعه ودخل عليه القوم يقدمهم محمد ابن أبي بكر، فأخذوا بلحيته ودعوه باللقب؛ فقال: أبا عبد الله وخليفته عثمان. فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم؛ فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به، فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي [عليه] ، فوطئنا وطأ شديدا، وعرّينا من حلينا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم؛ فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهورا على فراشه، وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه، وإنه والله إن كان أثم من قتله لما سلم من خذله، فانظروا أين أنتم من الله، وأنا أشتكي على ما مسنا إلى الله عز وجل، وأستصرخ بصالحي عباده؛ فرحم الله عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة، وشفى منهم الصدور» . فحلف رجال من أهل الشام ألا يمسوا غسلا حتى يقتلوا عليا أو تفنى أرواحهم

تبرؤ علي من دم عثمان

وقال الفرزدق في قتل عثمان: إنّ الخلافة لمّا أظعنت ظعنت ... عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا «1» صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا السّافكي دمه ظلما ومعصية ... أيّ دم لا هدوا من غيّهم سفكوا وقال حسان: إن تمس دار بني عثمان خاوية ... باب صريع وبيت محرق خرب «2» فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فيها ويأوي إليها المجد والحسب يا معشر الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الحقّ عند الله والكذب تبرؤ عليّ من دم عثمان قال علي بن أبي طالب على المنبر: والله لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا دخلتها أبدا، ولئن لم يدخل النار إلا من قتل عثمان لا دخلتها أبدا. وأشرف عليّ من قصر له بالكوفة، فنظر إلى سفينة في دجلة فقال: والذي أرسلها في بحره مسخرة بأمره، ما بدأت في أمر عثمان بشيء، ولئن شاءت بنو أمية لأباهلنّهم «3» عند الكعبة خمسين يمينا ما بدأت في حق عثمان بشيء. فبلغ هذا الحديث عبد الملك بن مروان، فقال: إني لأحسبه صادقا. وقال معبد الخزاعي: لقيت عليا بعد الجمل، فقلت له إني سائلك عن مسألة كانت منك ومن عثمان، فإن نجوت اليوم نجوت غدا إن شاء الله. قال: سل عما بدا لك. قلت: أخبرني، أي منزلة وسعتك إذ قتل عثمان ولم تنصره؟ قال: إنّ عثمان كان إماما، وإنه نهى عن القتال وقال: من سلّ سيفه فليس مني! فلو قاتلنا دونه عصينا. قال: فأي منزلة وسعت عثمان إذ استسلم حتى قتل؟ قال: المنزلة التي وسعت ابن آدم،

إذ قال لأخيه: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ «1» . قلت: فهلا وسعتك هذه المنزلة يوم الجمل؟ قال: إنا قاتلنا يوم الجمل من ظلمنا، قال الله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «2» . فقاتلنا نحن من ظلمنا، وصبر عثمان؛ وذلك من عزم الأمور. ومن حديث بكر بن حماد: أنّ عبد الله بن الكواء سأل عليّ بن أبي طالب يوم صفين، فقال له: أخبرني عن مخرجك هذا تضرب الناس بعضهم ببعض، أعهد عهده إليك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أم رأي ارتأيته؟ قال عليّ: اللهم إني كنت أول من آمن به، فلا أكون أول من كذب عليه؛ لم يكن عندي فيه عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولو كان عندي فيه عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما تركت أخا تيم وعديّ على منابرها، ولكن نبينا صلّى الله عليه وسلم كان نبيّ رحمة، مرض أياما وليالي، فقدّم أبا بكر على الصلاة، وهو يراني ويرى مكاني، فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، رضيناه لأمر دنيانا إذ رضيه رسول الله لأمر ديننا، فسلمت له وبايعت، وسمعت وأطعت؛ فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه؛ ثم أتنه منيته، فرأى أن عمر أطوق «3» لهذا الأمر من غيره، وو الله ما أراد به المحاباة ولو أرادها لجعلها في أحد ولديه، فسلمت له وبايعت، وأطعت وسمعت؛ فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه: ثم أتته منيته، فرأى أنه من استخلف رجلا فعمل بغير طاعة الله عذبه الله به في قبره، فجعلها شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكنت أحدهم، فأخذ عبد الرحمن مواثيقنا وعهودنا على أن يخلع نفسه وينظر لعامّة المسلمين؛ فبسط يده إلى

عثمان فبايعه؛ اللهم إن قلت إني لم أجد في نفسي فقد كذبت، ولكنني نظرت في أمري فوجدت طاعتي قد تقدمت معصيتي، ووجدت الأمر الذي كان بيدي قد صار بيد غيري، فسلمت وبايعت، وأطعت وسمعت: فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزوا إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه، ثم نقم الناس عليه أمورا فقتلوه، ثم بقيت اليوم أنا ومعاوية، فأرى نفسي أحقّ بها من معاوية؛ لأني مهاجري وهو أعرابي، وأنا ابن عمّ رسول الله وصهره، وهو طليق ابن طليق» . قال له عبد الله بن الكواء: صدقت، ولكن طلحة والزبير، أما كان لهما في هذا الأمر مثل الذي لك؟ قال: إن طلحة والزبير بايعاني في المدينة، ونكثا بيعتي بالعراق؛ فقاتلتهما على نكثهما ولو نكثا بيعة أبي بكر وعمر لقاتلاهما على نكثهما كما قاتلتهما. قال: صدقت. ورجع إليه. واستعمل عبد الملك بن مروان نافع بن علقمة بن صفوان على مكة، فخطب ذات يوم وأبان بن عثمان قاعد عند أصل المنبر، فنال من طلحة والزبير، فلما نزل قال لأبان: أرضيتك من المدهنين «2» في أمر أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنك سؤتني، حسبي أن يكونا بريئين من أمره. وعلى هذا المعنى قال إسحاق بن عيسى: أعيذ عليّا بالله أن يكون قتل عثمان وأعيذ عثمان أن يكون قلته عليّ! وهذا الكلام على مذهب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا أو قتله نبيّ. سعيد بن جبير عن أبي الصهباء، أن رجالا ذكروا عثمان، فقال رجل من القوم:

ما نقم الناس على عثمان

إني أعرف لكم رأي عليّ فيه فدخل الرجل على عليّ فنال من عثمان، فقال على: دع عنك عثمان، فو الله ما كان بأشرّنا، ولكنه ولي فاستأثر، فحرمنا فأساء الحرمان. وقال عثمان بن حنيف: إني شهدت مشهدا اجتمع فيه علي وعمار ومالك الأشتر وصعصعة، فذكروا عثمان، فوقع فيه عمار، ثم أخذ مالك فحذا حذوه، ووجه عليّ يتمعّر «1» ، ثم تكلم صعصعة. فقال: ما على رجل يقول: كان والله أول من وليّ فاستأثر، وأول من تفرقت عنه هذه الأمة! فقال علي: إليّ أبا اليقظان. لقد سبقت عثمان سوابق لا يعذّبه الله بها أبدا. محمد بن حاطب قال: قال لي عليّ يوم الجمل، انطلق إلى قومك فأبلغهم كتبي وقولي. فقلت إن قومي إذا أتيتهم يقولون: ما قول صاحبك في عثمان؟ فقال: أخبرهم أن قولي في عثمان أحسن القول؛ إن عثمان كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتّقوا وأحسنوا، والله يحبّ المحسنين. جرير بن حازم عن محمد بن سيرين قال: ما علمت أنّ عليا اتّهم في دم عثمان حتى بويع، فلما بويع اتهمه الناس. محمد بن الحنفية قال: إني عن يمين علي يوم الجمل، وابن عباس عن يساره، إذ سمع صوتا، فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تلعن قتلة عثمان. فقال عليّ: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل والبحر والبر. ما نقم الناس على عثمان ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا، من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلّة الأكابر من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، قالوا لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملك واختيارك لأمة محمد! قال: لم أظن هذا به! ودخل على عثمان فقال له: إني إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، وقد خالفتهما. فقال: عمر كان

يقطع قرابته في الله، وأنا أصل قرابتي في الله، فقال له: لله عليّ أن لا أكلّمك أبدا! فمات عبد الرحمن وهو لا يكلّم عثمان. ولما رد عثمان الحكم بن أبي العاص طريد النبي صلّى الله عليه وسلم وطريد أبي بكر وعمر إلى المدينة، تكلم الناس في ذلك، فقال عثمان: ما ينقم الناس مني؟ إني وصلت رحما وقرّبت قرابة. حصين بن زيد بن وهب قال: مررنا بأبي ذرّ بالرّبذة، فسألناه عن منزله، فقال: كنت بالشام، فقرأت هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب. فقلت: إنها لفينا وفيهم فكتب إليّ عثمان: أقبل. فلما قدمت ركبتني الناس كأنهم لم يروني قط، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال: لو اعتزلت فكنت قريبا! فنزلت هذا المنزل، فلا أدع قولي، ولو أمّروا عليّ عبدا حبشيا لأطعت. الحسن بن أبي الحسن عن الزبير بن العوام في هذه الآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «2» . قال: لقد نزلت وما ندري من يختلف لها. فقال بعضهم: يا أبا عبد الله، فلم جئت إلى البصرة؟ قال: ويحك إننا ننظر ولا نبصر! أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: إن ناسا كانوا عند فسطاط «3» عائشة وأنا معهم بمكة، فمرّ بنا عثمان، فما بقي أحد من القوم إلا لعنه غيري؛ فكان فيهم رجل من أهل الكوفة، فكان عثمان على الكوفي أجرأ منه على غيره، فقال: يا كوفي، أتشتمني؟ فلما قدم المدينة كان يتهدده؛ قال: فقيل له: عليك بطلحة. قال: فانطلق معه حتى دخل على عثمان، فقال عثمان: والله لأجلدنه مائة سوط! قال طلحة: والله لا تجلده مائة إلا أن يكون زانيا. قال: والله لأحرمنّه عطاءه! قال: الله يرزقه. ومن حديث ابن أبي قتيبة عن الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن

مسعود ونحن في المسجد وكان على بيت مال الكوفة، و [أمير] الكوفة الوليد بن عقبة ابن أبي معيط، فقال: يا أهل الكوفة، فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال: فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك، فنزعه عن بيت المال. ومن حديث الأعمش يرويه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة، فقالوا: من يذهب بها إليه؟ قال عمار: أنا. فذهب بها إليه، فلما قرأها قال: أرغم الله أنفك، قال: وبأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوطئه حتى عشي عليه، ثم ندم عثمان، وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث: إما أن تعفو، وإما أن تأخذ الأرش «1» ، وإما أن تقتص. فقال: والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى الله! قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح، فقال: ما كان على عثمان أكثر مما صنع. ومن حديث الليث بن سعد قال: مرّ عبد الله بن عمر بحذيفة، فقال: لقد اختلف الناس بعد نبيهم، فما منهم أحد إلا أعطى من دينه، ما عدا هذا الرجل. وسئل سعد بن أبي وقاص عن عثمان، فقال: أما والله لقد كان أحسننا وضوءا وأطولنا صلاة، وأتلانا لكتاب الله، وأعظمنا نفقة في سبيل الله ثم ولي فأنكروا عليه شيئا، فأتوا إليه أعظم مما أنكروا. وكتب عثمان إلى أهل الكوفة حين ولاهم سعيد بن العاص: أما بعد، فإني كنت وليتكم الوليد بن عقبة غلاما حين ذهب شرهه وثاب حلمه، وأوصيته بكم ولم أوصكم به، فلما أعيتكم علانيته طعنتم في سريرته؛ وقد وليتكم سعيد بن العاص وهو خير عشيرته، وأوصيكم به خيرا، فاستوصوا به خيرا. وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وكان عامله على الكوفة، فصلى بهم الصبح

ثلاث ركعات وهو سكران، ثم التفت إليهم فقال: وان شئتم زدتكم! فقامت عليه البينة بذلك عند عثمان، فقال لطلحة: قم فاجلده. قال لم أكن من الجالدين. فقام إليه عليّ فجلده. وفيه يقول الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ... لجمعت بين الشّفع والوتر «1» مسكوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا، اجتمعوا إلى علي وسألوه أن يلقى لهم عثمان، فأقبل حتى دخل عليه فقال: إن الناس ورائي قد كلموني أن أكلمك؛ والله ما أدري ما أقول لك؛ ما أعرف شيئا تنكره، ولا أعلمك شيئا تجهله، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك؛ وما نبصّرك من عمى، وما نعلّمك من جهل، وإن الطريق لبيّن واضح، تعلم يا عثمان أن أفضل الناس عند الله إمام عدل هدي وهدى، فأحيا سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة؛ وأن شر الناس عند الله إمام ضلالة ضلّ وأضلّ، فأحيا بدعة مجهولة، وأمات سنة معلومة؛ وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالإمام الجائر يوم القيامة ليس معه ناصر ولا له عاذر، فيلقى في جهنم فيدور دور الرحى «2» ، يرتطم في غمرة النار إلى آخر الأبد. وأنا أحذرك أن تكون إمام هذه الأمّة المقتول، [فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام] يفتح به باب القتل والقتال إلى يوم القيامة يمرج بهم أمرهم ويمرجون. فخرج عثمان، ثم خطب خطبته التي أظهر فيها التوبة. وكان عليّ كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان، أرسل ابنه الحسن إليه، فلما أكثر

عليه قال له: إن أباك يرى أن أحدا لا يعلم ما يعلم، ونحن أعلم بما نفعل، فكف عنا! فلم يبعث عليّ ابنه في شيء بعد ذلك. وذكروا أن عثمان صلى العصر ثم خرج إلى عليّ يعوده في مرضه ومروان معه، فرآه ثقيلا؛ فقال: أما والله لولا ما أرى منك ما كنت أتكلم بما أريد أن أتكلم به، والله ما أدري أي يوميك أحبّ إليّ أو أبغض، أيوم حياتك أو يوم موتك! أما والله لئن بقيت لا أعدم شامتا يعدّك كنفا «1» ، ويتخذك عضدا «2» ؛ ولئن مت لأفجعن بك؛ فحظي منك حظ الوالد المشفق من الولد العاق: إن عاش عقه، وإن مات فجعه! فليتك جعلت لنا من أمرك علما نقف عليه ونعرفه، إمّا صديق مسالم، وإمّا عدوّ معان، ولم تجعلني كالمختنق بين السماء والأرض، لا يرقى بيد، ولا يهبط برجل! أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خلفا، ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفا: وما أحب أن أبقى بعدك!. قال مروان: إي والله، وأخرى، إنه لا ينال ما وراء ظهورنا حتى تكسر رماحنا وتقطع سيوفنا؛ فما خير العيش بعد هذا؟ فضرب عثمان في صدره وقال: ما يدخلك في كلامنا؟ فقال عليّ: إني والله في شغل عن جوابكما، ولكني أقول كما قال أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ «3» . وقال عبد الله بن العباس: أرسل إليّ عثمان فقال لي: اكفني ابن عمّك! فقلت: إن ابن عمي ليس بالرجل يرى له ولكنه يرى لنفسه، فأرسلني إليه بما أحببت. قال: قل له فليخرج إلى ماله بينبع، فلا أغتم به ولا يغتم بي فأتيت عليا فأخبرته، فقال: ما اتّخذني عثمان إلا ناصحا. ثم أنشد يقول: فكيف به أنّي أداوي جراحه ... فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء أما والله إنه ليختبر القوم، فأتيت عثمان، فحدّثته الحديث كله إلا البيت الذي أنشده وقوله إنه ليختبر القوم؛ فأنشد عثمان:

علي بن أبي طالب رضي الله عنه

فكيف به أنّي أداوي جراحه ... فيدوى فلا ملّ الدواء ولا الداء وجعل يقول: يا رحيم انصرني! يا رحيم انصرني! يا رحيم انصرني! قال: فخرج عليّ إلى ينبع، فكتب إليه عثمان حين اشتدّ الأمر: أمّا بعد، فقد بلغ السيل الزّبى «1» وجاوز الحزام الطّبيين، وطمع فيّ من كان يضعف عن نفسه: وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب فأقبل إليّ على أيّ أمريك أحببت، وكن لي أو عليّ، صديقا كنت أو عدوّا. فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولمّا أمزّق [علي بن أبي طالب رضي الله عنه] خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما قتل عثمان بن عفان، أقبل الناس يهرعون إلى علي بن أبي طالب، فتراكمت عليه الجماعة في البيعة، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بدر ليبايعوا. فقال: أين طلحة والزبير وسعد؟ فأقبلوا فبايعوا، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، ثم بايعه الناس، وذلك يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكان أول من بايعه طلحة، وكانت أصبعه شلّاء «2» ، فتطير منها عليّ وقال: ما أخلقه أن ينكث! فكان كما قال عليّ رضي الله عنه. نسب علي بن أبي طالب هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف؛ وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.

صفته

صفته كان أصلع بطينا حمش الساقين «1» . صاحب شرطته: معقل بن قيس الرياحي، ومالك بن حبيب اليربوعي. وكاتبه سعيد بن نمران، وحاجبه: قنبر مولاه. وقتل يوم الجمعة بالكوفة، وهو خارج إلى المسجد لصلاة الصبح، لسبع بقين من شهر رمضان، فكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وصلى عليه ولده الحسن، ودفن برحبة الكوفة، ويقال: في لحف «2» الحيرة، وعمى قبره. واختلف في سنه، وقال الشعبي: قتل عليّ رحمه الله وهو ابن ثمان وخمسين سنة. وولد عليّ بمكة في شعب بني هاشم. فضائل علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أبو الحسن قال: أسلم عليّ وهو ابن خمس عشرة سنة، وهو أول من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبيّ بعدي. وبهذا الحديث سمت الشيعة علي بن أبي طالب الوصيّ؛ وتأولوا فيه أنه استخلفه على أمته؛ إذ جعله منه بمنزلة هارون من موسى؛ لأنّ هارون كان خليفة موسى على قومه إذا غاب عنهم. وقال السيد الحميري رحمه الله تعالى:

إني أدين بما دان الوصيّ به ... وشاركت كفّه كفّي بصفّينا وجمع النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين، فألقى عليهم كساءه وضمهم إلى نفسه؛ ثم تلا هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» . فتأولت الشيعة الرجس هنا بالخوض في غمرة الدنيا وكدورتها. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله؛ ويحبه الله ورسوله، لا يمسي حتى يفتح الله له. فدعا عليا، وكان أرمد، فتفل «2» في عينيه وقال: اللهم قه داء الحرّ والبرد. فكان يلبس كسوة الصيف في الشتاء، وكسوة الشتاء في الصيف، ولا يضرّه. أبو الحسن قال: ذكر عليّ عند عائشة فقالت: ما رأيت رجلا أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه، ولا رأيت امرأة كانت أحبّ إليه من امرأته. وقال عليّ بن أبي طالب: أنا أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمّه، لا يقولها بعدي إلا كذاب. الشعبي قال: كان عليّ بن أبي طالب في هذه الأمة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل: أحبّه قوم فكفروا في حبه، وأبغضه قوم فكفروا في بغضه! وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما. أبو الحسن قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقسم بيت المال في كل جمعة حتى لا يبقى منه شيئا؛ ثم يفرش له ويقيل «3» فيه، ويتمثل بهذا البيت: هذا جناي وخياره فيه ... إذ كلّ جان يده إلى فيه

يوم الجمل

كان علي بن أبي طالب إذا دخل بيت المال ونظر إلى ما فيه من الذهب والفضة قال: ابيضّي واصفرّي وغرّي غيري ... إني من الله بكلّ خير ودخل رجل على الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد، أنهم يزعمون أنك تبغض عليّا؟ قال: فبكى الحسن حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهما صائبا من مرامي الله على عدوه، وربانيّ هذه الأمة وذا فضلها وسابقتها، وذا قرابة قريبة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن النّومة «1» عن رسول الله، ولا الملولة في ذات الله، ولا السّروقة «2» لمال الله؛ أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، وأعلام بينة، ذلك عليّ بن أبي طالب يا لكع. يوم الجمل أبو اليقظان قال: قدم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين البصرة؛ فتلقاهم الناس بأعلى المربد، حتى لو رموا بحجر ما وقع إلا على رأس إنسان؛ فتكلم طلحة، وتكلمت عائشة، وكثر اللغط؛ فجعل طلحة يقول: أيها الناس، أنصتوا! وجعلوا يرهجون ولا ينصتون، فقال: أف! أف! فراش نار وذباب طمع! وكان عثمان بن حنيف الأنصاري عامل عليّ بن أبي طالب على البصرة، فخرج إليهم في رجاله ومن معه؛ فتواقفوا حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا وكتبوا بينهم كتابا: أن يكفوا عن القتال حتى يقدم عليّ بن أبي طالب، ولعثمان بن حنيف دار الإمارة، والمسجد الجامع، وبيت المال؛ فكفّوا. ووجه علي بن أبي طالب الحسن ابنه، وعمار بن ياسر، إلى أهل الكوفة يستنفرانهم، فنفر معهما سبعة آلاف من أهل الكوفة؛ فقال عمار: أما والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لتتبعوه أو تتبعوها.

وخرج علي في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وراية عليّ مع ابنه محمد بن الحنفية، وعلى ميمنته الحسن، وعلى ميسرته الحسين، وعلى الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرّجالة محمد ابن أبي بكر، وعلى المقدمة عبد الله بن عباس؛ ولواء طلحة والزبير مع عبد الله بن حكيم بن حزام، وعلى الخيل طلحة بن عبيد الله وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير؛ فالتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد في النصف من جمادي الآخرة يوم الخميس، وكانت الوقعة يوم الجمعة. وقالوا: لمّا قدم علي بن أبي طالب البصرة، قال لابن عباس: ائت الزبير ولا تأت طلحة؛ فإن الزبير ألين، وأنت تجد طلحة كالثور عاقصا «1» بقرنه يركب الصعوبة «2» ويقول هي أسهل؛ فأقرئه السلام وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق! فما عدا ما بدا؟. قال ابن عباس: فأتيته فأبلغته، فقال: قل له: بيننا وبينك عهد خليفة ودم خليفة، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد، وأمّ مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، نحلّ ما أحلّت، ونحرّم ما حرّمت. وقال علي بن أبي طالب: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى أدركه ابنه عبد الله فلفته عنا. وقال طلحة لأهل البصرة وسألوه عن بيعة علي، فقال: أدخلوني في حشّ ثم وضعوا اللجّ على قفيّ فقالوا بايع وإلا قتلناك. قوله اللج: يريد السيف، وقوله قفي: لغة طي، وكانت أمه طائية. وخطبت عائشة أهل البصرة يوم الجمل فقالت: أيها الناس، صه صه!

الموعظة؛ لا يتّهمني إلا من عصى ربّه؛ ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحري ونحري؛ فأنا إحدى نسائه في الجنة، [له] ادّخرني ربي وسلّمني من كل بضع «1» ، وبي ميز بين منافقكم ومؤمنكم، وبي أرخص لكم في صعيد الأبواء؛ ثم أبي ثالث ثلاثة من المؤمنين، وثاني اثنين في الغار، وأول من سمّي صدّيقا؛ مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم راضيا عنه، وطوّقه طوق الإمامة؛ ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبي بطرفيه، ورتق «2» لكم أثناءه، فوقم «3» النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشّت «4» يهود؛ وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون، وتسمعون الصيحة، فرأب الثّأي «5» ، وأوذم «6» العطلة، وانتاش «7» من الهوّة، واجتحى «8» دفين الداء، حتى أعطن «9» الوارد، وأورد الصادر، وعلّ الناهل، فقبضه الله واطئا على هامات النفاق مذكيا نار الحرب للمشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله؛ ثم ولّى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيد ما بين اللابتين 1» ، عركة «11» للأذاة بجنبه، يقظان الليل في نصرة الإسلام؛ فسلك مسلك السابقة، ففرق شمل الفتنة وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسئلة عن مسيري هذا، لم ألتمس إثما، ولم أؤرّث «12» فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صدقا وعدلا وإعذارا وإنذارا، وأسأل الله أن يصلي على محمد، وأنه يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين. وكتبت أمّ سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين إذ عزمت على الخروج إلى الجمل:

من أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، إلى عائشة أم المؤمنين: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، إنك سدّة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته، وحجاب مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه «1» وسكّر خفارتك فلا تبتذليها. فالله من وراء هذه الأمة، ولو علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أما علمت أنه قد نهاك عن الفراطة «2» في البلاد فإن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع؟ جهاد النساء؛ غضن الأطراف، وضم الذيول، وقصر الوهازة. ما كنت قائلة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصّة «3» قعودا من منهل إلى منهل؟ وغدا تردين على رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وأقسم لو قيل لي: يا أمّ سلمة ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هاتكة حجابا ضربه عليّ فاجعليه سترك، ووقاعة البيت حصنك؛ فإنك أنصح ما تكونين لهذه الأمة ما قعدت عن نصرتهم؛ ولو أني حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنهشتني نهش الرقشاء «4» المطرقة والسلام. فأجابتها عائشة: من عائشة أم المؤمنين إلى أم سلمة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فما أقبلني لوعظك، وأعرفني لحق نصيحتك، وما أنا بمعتمرة «5» بعد تعريج، ولنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متشاجرتين من المسلمين، فإن أقعد ففي غير حرج، وإن أمض فإلى ما لا غنى بي عن الازدياد منه، والسلام. وكتبت عائشة إلى زيد بن صوحان إذا قدمت البصرة: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان: سلام عليك؛ أما بعد، فإن أباك كان رأسا في الجاهلية، وسيدا في الإسلام وإنك من أبيك بمنزلة المصلّي

من السابق، يقال: كاد أو لحق؛ وقد بلغك الذي كان في الإسلام من مصاب عثمان ابن عفان؛ ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر. فإذا أتاك كتابي هذا فثبّط «1» الناس عن علي بن أبي طالب، وكن مكانك حتى يأتيك أمري، والسلام. فكتب إليها: من زيد بن صوحان إلى عائشة أم المؤمنين، سلام عليك؛ أما بعد، فإنك أمرت بأمر وأمرنا بغيره: أمرت أن تقرّي في بيتك، وأمرنا أن نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة؛ فتركت ما أمرت به؛ وكتبت تنهيننا عما أمرنا به، والسلام. وخطب علي رضي الله عنه بأهل الكوفة يوم الجمل إذا أقبلوا إليه مع الحسن بن علي، فقام فيهم خطيبا فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين؛ أما بعد؛ فإن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم إلى الثقلين كافة، والناس في اختلاف؛ والعرب بشرّ المنازل، مستضعفون لما بهم، فرأب الله به الثأي، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمّن به السبيل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الموغرة للقلوب، والضغائن المشحنة «2» للصدور؛ ثم قبضه الله تعالى مشكورا سعيه. مرضيا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند الله نزله؛ فيا لها مصيبة عمت المسلمين، وخصت الأقربين، وولي أبو بكر، فسار فينا بسيرة رضا، رضي بها المسلمون؛ ثم ولي عمر، فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما؛ ثم ولي عثمان، فنال منكم ونلتم منه؛ ثم كان من أمره ما كان، فأتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم: لو بايعتنا! فقلت: لا أفعل، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك، وتداككتم عليّ تداكك «3» الإبل الهيم «4» على حياضها يوم ورودها، حتى

ظننت أنكم قاتليّ وأن بعضكم قاتل بعضا فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني إلى العمرة، فسارا إلى البصرة فقاتلا بها المسلمين، وفعلا بها الأفاعيل وهما يعلمان والله أني لست بدون من مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت؛ اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي وألّبا عليّ عدوّي؛ اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا وأمّلا! وأملى علي بن محمد عن مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب، عن أبي الأسود عن أبيه، قال: خرجت مع عمران بن حصين وعثمان بن حنيف إلى عائشة فقلنا: يا أمّ المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك هذا: عهد عهده إليك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أم رأى رأيتيه؟ قالت: بل رأي رأيته حين قتل عثمان بن عفان، إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، ومواضع من الحمى حماها، وإمرة سعيد الوليد، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الثلاث الحرم: حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام؛ بعد أن مصتموه كما يماص «1» الإناء فغضبنا لكم من سوط عثمان؛ ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟! قلنا: ما أنت وسيفنا وسوط عثمان، وأنت حبيس رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ أمرك أن تقرّي في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض! قالت: وهل أحد يقاتلني أو يقول غير هذا؟ قلنا: نعم. قالت: ومن يفعل ذلك؟ هل أنت مبلغ عني يا عمران؟ قال: لست مبلغا عنك حرفا واحدا. قلت: لكني مبلّغ عنك، فهات ما شئت قالت: اللهم اقتل مذمّما قصاصا بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عمارا بخفره «2» بعثمان. أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن الأحنف بن قيس، قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحج، فانطلقت فأتيت طلحة والزبير، فقلت: إني لا أرى هذا إلا مقتولا، فمن تأمراني به كما ترضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعليّ. قلت: فتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. قال: ثم انطلقت حتى أتيت مكة، فبينما

مقتل طلحة

نحن بها إذ أتانا قتل عثمان، وبها عائشة أم المؤمنين فانطلقت إليها فقلت: من تأمريني أن أبايع، قالت: علي بن أبي طالب. قلت: أتأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم. قال: فمررت على عليّ بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى البصرة وأنا أرى أن الأمر قد استقام، فما راعنا إلا قدوم عائشة أمّ المؤمنين، وطلحة والزبير، قد نزلوا جانب الخريبة «1» ، قال: فقلت: ما جاء بهم؟ [قالوا] : قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عثمان؛ إنه قتل مظلوما. قال: فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط؛ قلت: إن خذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لشديد! وإن قتال ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أمروني ببيعته لشديد، قال: فلما أتيتهم قالوا: جئناك نستصرخك على دم عثمان، قتل مظلوما! قال: فقلت: يا أم المؤمنين، أنشدك الله أقلت لك: من تأمريني به وترضينه لي؟ فقلت: عليّ! قالت بلى، ولكنه بدل. قلت: يا زبير، يا حواريّ رسول الله، ويا طلحة، نشدتكما بالله، أقلت لكما من تأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما: عليّ! قالا: بلى، ولكنه بدّل. قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين، ولا أقاتل عليّا ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولكن اختاروا مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي باب الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما يقضي، وإما أن ألحق بمكة فأكون بها، أو أعتزل فأكون قريبا. قالوا: نأتمر ثم نرسل إليك قال: فائتمروا. وقالوا: نفتح له باب الجسر فيلحق به المفارق والخاذل! أو يلحق بمكة فيفحشكم في قريش ويخبرهم بأخباركم! اجعلوه ههنا قريبا حيث تنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء من البصرة على فرسخين، واعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم. مقتل طلحة أبو الحسن قال: كانت وقعة الجمل يوم الجمعة في النصف من جمادي الآخرة، التقوا فكان أول مصروع فينا طلحة بن عبيد الله، أتاه سهم غرب «2» فأصاب ركبته

فكان إذا أمسكوه فتر الدم، وإذا تركوه انفجر؛ فقال لهم: اتركوه، فإنما هو سهم أرسله الله! حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: قال طلحة يوم الجمل: ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... طلبت رضا بني حزم برغمي «1» اللهم خذ مني لعثمان حتى يرضى! ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: لما رأى مروان بن الحكم يوم الجمل طلحة بن عبيد الله، قال: لا أنتظر بعد اليوم بثأري في عثمان! فانتزع «2» له سهما فقتله. ومن حديث سفيان الثوري قال: لما انقضى يوم الجمل خرج عليّ بن أبي طالب في ليلة ذلك اليوم ومعه مولاه وبيده شمعة يتصفح وجوه القتلى، حتى وقف على طلحة ابن عبيد الله في بطن واد متعفرا، فجعل يمسح الغبار عن وجهه ويقول: أعزز عليّ يا أبا محمد أن أراك متعفرا تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية، إنا لله وإنا إليه راجعون! أشقيت نفسي، وقتلت معشري! إلى الله أشكو عجري وبجري «3» ! ثم قال: والله إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «4» . وإذا لم نكن نحن فمن هم؟ أبو إدريس عن ليث بن طلحة عن مطرف أن علي بن أبي طالب أجلس طلحة يوم الجمل ومسح الغبار عن وجهه وبكى عليه! ومن حديث سفيان، أن عائشة ابنة طلحة كانت ترى في نومها طلحة، وذلك بعد موته بعشرين يوما؛ فكان يقول لها: يا بنيّة، أخرجيني من هذا الماء الذي يؤذيني! فلما

مقتل الزبير بن العوام

انتبهت من نومها جمعت أعوانها ثم نهضت فنبشته، فوجدته صحيحا كما دفن لم تنحسر له شعرة، وقد اخضر جنبه كالسلق من الماء الذي كان يسيل عليه، فلفته في الملاحف واشترت له عرصة بالبصرة فدفنته فيها وبنت حوله مسجدا. قال: فلقد رأيت المرأة من أهل البصرة تقبل بالقارورة من البان فتصبها على قبره حتى تفرغها، فلم يزلن يفعلن ذلك حتى صار تراب قبره مسكا أذفر. ومن حديث الخشنى قال: لما قتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار «1» من ذهب وفضة- والبهار مزود من جلد عجل. وقع قوم في طلحة عند عليّ بن أبي طالب، فقال: أما والله لئن قلتم فيه إنه لكما قال الشاعر: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر كأنّ الثّريّا علّقت في يمينه ... وفي خدّه الشّعري وفي الآخر البدر «2» مقتل الزبير بن العوّام شريك عن الأسود بن قيس قال: حدثني من رأى الزبير يوم الجمل يقعص الخيل بالرمح قعصا، فنوّه به عليّ: أبا عبد الله، أتذكر يوما أتانا النبي صلّى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال: أتناجيه، والله ليقاتلنّك وهو ظالم لك! قال: فصرف الزبير وجه دابته وانصرف. قال أبو الحسين: لما انحاز الزبير يوم الجمل، مرّ بماء لبني تميم؛ فقيل للأحنف بن قيس: هذا الزبير قد أقبل. قال: وما أصنع به أن جمع بين هذين الغزيين «3» وترك الناس وأقبل؟ - يريد بالغزيّين: المعسكرين-، وفي مجلسه عمرو بن جرموز المجاشعي؛ فلما سمع كلامه قام من مجلسه واتبعه حتى وجده بوادي السباع نائما

فقتله، وأقبل برأسه إلى علي بن طالب، فقال عليّ: أبشر بالنار! سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: بشروا قاتل الزبير بالنار! فخرج عمرو بن جرموز وهو يقول: أتيت عليّا برأس الزّبير ... وكنت أحسبها زلفه فبشّر بالنّار قبل العيان ... فبئس بشارة ذي التحفه ومن حديث ابن أبي شيبة قال: أقبل رجل بسيف الزبير إلى الحسن بن علي فقال: لا حاجة لي به، أدخله إلى أمير المؤمنين. فدخل به إلى عليّ فناوله إياه وقال: هذا سيف الزبير. فأخذه عليّ، فنظر إليه مليا، ثم قال: رحم الله الزبير! لطالما فرّج الله به الكرب عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقالت امرأة الزبير ترثيه: غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم الهياج وكان غير معرّد «1» يا عمرو لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة المعتمّد وقال جرير ينعي علي بن مجاشع قتل الزبير رضي الله تعالى عنه: إني تذكّرني الزبير حمامة ... تدعو ببطن الواديين هديلا «2» قالت قريش ما أذلّ مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا لو كنت حرّا يا ابن قين مجاشع ... شيّعت ضيفك فرسخا أو ميلا أفبعد قتلكم خليل محمّد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا «3» هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: دعاني أبي يوم الجمل فقمت عن يمينه، فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وما أراني إلا سأقتل مظلوما، وإن أكبر همي ديني، فبع مالي ثم اقض ديني؛ فإن فضل شيء فثلثه لولدك، وإن

ومن حديث الجمل

عجزت عن شيء يا بني فاستعن مولاي. قلت: ومن مولاك يا أبت؟ قال: الله! قال عبد الله بن الزبير: فو الله ما بقيت بعد ذلك في كربة من دينه أو عسرة إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه! فيقضيه، قال: فقتل الزبير ونظرت في دينه، فإذا هو ألف ألف ومائة ألف. قال: فبعث ضيعة له بالغابة «1» بألف ألف وستمائة ألف، ثم ناديت: من كان له قبل الزبير شيء فليأتنا نقضه. فلما قضيت دينه أتاني إخوتي فقالوا: اقسم بيننا ميراثنا. قلت: والله لا أقسم حتى أنادي أربع سنين بالمواسم: من كان له على الزبير شيء فليأتنا نقضه. فلما مضت الأربع سنين أخذت الثلث لولدي؛ ثم قسمت الباقي، فصار لكل امرأة من نسائه- وكان له أربع نسوة- في ربع الثمن ألف ألف ومائة ألف، فجميع ما ترك مائة ألف ألف وسبعمائة ألف ألف. ومن حديث ابن أبي شيبة قال: كان عليّ يخرج مناديه يوم الجمل يقول: لا يسلبنّ قتيل، ولا يتّبع مدّبر، ولا يجهز على جريح. قال: وخرج كعب بن ثور من البصرة قد تقلد المصحف في عنقه؛ فجعل ينشره بين الصفين ويناشد الناس في دمائهم، إذ أتاه سهم فقتله وهو في تلك الحال، لا يدري من قتله. وقال علي بن أبي طالب يوم الجمل للأشتر- وهو مالك بن الحرث- وكان على الميمنة: احمل. فحمل فكشف من بإزائه، وقال لهاشم بن عقبة أحد بني زهرة بن كلاب، وكان على الميسرة، أحمل. فحمل فكشف من بإزائه؛ فقال علي لأصحابه: كيف رأيتم ميسرتي وميمنتي. ومن حديث الجمل الخشني عن أبي خاتم السجستاني قال: أنشدني الأصمعي عن رجل شهد الجمل يقول:

شهدت الحروب وشيبنني ... فلم تر عيني كيوم الجمل أضرّ على مؤمن فتنة ... وأفتك منه لخرق بطل «1» فليت الظعينة في بيتها ... وليتك عسكر لم ترتحل وكان جملها يدعى عسكرا، حملها عليه يعلى بن منية، وهبة لعائشة وجعل له هودجا من حديد، وجهز من ماله خمسمائة فارس بأسلحتهم وأزودتهم وكان أكثر أهل البصرة مالا. وكان بن أبي طالب يقول: بليت بأنضّ «2» الناس، وأنطق الناس وأطوع الناس في الناس، يريد بأنضّ الناس: يعلى بن منية، وكان أكثر الناس ناضا، ويريد بأنطق الناس: طلحة بن عبيد الله، وأطوع الناس في الناس: عائشة أم المؤمنين. أبو بكر بن أبي شيبة عن مخلد بن عبيد عن التميمي قال: كانت راية عليّ يوم الجمل سوداء، وراية أهل البصرة كالجمل. الأعمش عن رجل سماه قال: كنت أرى عليا يوم الجمل يحمل فيضرب بسيفه حتى ينثني، ثم يرجع فيقول: لا تلوموني ولوموا هذا! ثم يعود ويقوّمه. ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: قال عبد الله بن الزبير، التقيت مع الأشتر يوم الجمل، فما ضربته ضربة حتى ضربني خمسة أو ستة، ثم جر برجلي فألقاني في الخندق، وقال: والله لولا قربك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما اجتمع فيك عضو إلى آخر. أبو بكر بن أبي شيبة قال: أعطت عائشة الذي بشرّها بحياة ابن الزبير إذ التقى مع الأشتر يوم الجمل، أربعة آلاف. سعيد عن قتادة قال: قتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفا، منهم ثمانمائة من بني ضبة. وقالت عائشة: ما أنكرت رأس جملي حتى فقدت أصوات بني عديّ.

وقتل من أصحاب عليّ خمسمائة رجل، لم يرعف منهم إلا علباء بن الهيثم وهند الجملي، قتلهما ابن اليثربي، وأنشأ يقول: إني لمن يجهلني ابن اليثربيّ ... قتلت علباء وهند الجملي عبد الله بن عون عن أبي رجاء قال: لقد رأيت الجمل حينئذ وهو كظهر القنفذ من النبل، ورجل من بني ضبة آخذ بخطامه «1» وهو يقول: نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل ... الموت أحلى عندنا من العسل ننعي ابن عفّان بأطراف الأسل غندر قال: حدثنا شعبة بن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة- وكان مع علي بن أبي طالب يوم الجمل- والحارث بن سويد- وكان مع طلحة والزبير- وتذاكرا وقعة الجمل؛ فقال الحارث بن سويد: والله ما رأيت مثل يوم الجمل لقد أشرعوا رماحهم في صدورنا، وأشرعنا رماحنا في صدورهم، ولو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت؛ يقول هؤلاء: لا إله إلا الله والله أكبر ويقول هؤلاء: لا إله إلا الله والله أكبر، فو الله لوددت أني لم أشهد ذلك اليوم وأني أعمى مقطوع اليدين والرجلين. وقال عبد الله بن سملة: والله ما يسرني أني غبت عن ذلك اليوم، ولا عن مشهد شهده عليّ بن أبي طالب، بحمر النّعم. علي بن عاصم عن حصين قال: حدثني أبو جميلة البكاء قال: إني في الصف مع عليّ بن أبي طالب. إذ عقر بأم المؤمنين جملها؛ فرأيت محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر يشتدان بين الصفين أيهما يسبق إليها، فقطعا عارضة الرحل واحتملاها في هودجها. ومن حديث الشعبي قال: من زعم أنه شهد الجمل من أهل بدر إلا أربعة فكذّبه:

كان عليّ وعمار في ناحية، وطلحة والزبير في ناحية. أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثني خالد بن مخلد عن يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل إلى عائشة وهي في الهودج، فقال؛ يا أم المؤمنين، أنشدك بالله، أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان، فقلت لك: إن عثمان قد قتل فما تأمرينني؟ فقلت لي الزم عليا! فو الله ما غير ولا بدل، فسكتت، ثم أعاد عليها فسكتت، ثلاث مرات؛ فقال: اعقروا الجمل! فعقروه، فنزلت أنا وأخوها محمد بن أبي بكر فاحتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي عليّ فسرّ به، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل. وقالوا: لما كان يوم الجمل ما كان وظفر علي بن أبي طالب حتى دنا من هودج عائشة، كلمها بكلام، فأجابته: ملكت فأسجح «1» ! فجهزها عليّ بأحسن الجهاز، وبعث معها أربعين امرأة؛ وقال بعضهم: سبعين امرأة، حتى قدمت المدينة. عكرمة عن ابن عباس قال: لما انقضى أمر الجمل، دعا علي بن أبي طالب بآجرّتين فعلاهما، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أنصار المرأة، وأصحاب البهيمة، رغا فجئتم، وعقر فهربتم، نزلتم شرّ بلاد، [أقربها من الماء] وأبعدها من السماء، بها مغيض «2» كل ماء، ولها شر أسماء، هي البصرة، والبصيرة، والمؤتفكة، وتدمر. أين ابن عباس؟ قال: فدعيت له من كل ناحية، فأقبلت إليه، فقال: إيت هذه المرأة فلترجع إلى بيتها التي أمرها الله أن تقرّ فيه. قال: فجئت فاستأذنت عليها، فلم تأذن لي، فدخلت بلا إذن، ومددت يدي إلى وسادة في البيت فجلست عليها، فقالت: تالله يا بن عباس ما رأيت مثلك، تدخل بيتنا بلا إذننا، وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا! فقلت: والله ما هو بيتك، وما بيتك إلا الذي أمرك الله أن تقرّي فيه فلم تفعلي! إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى

بلدك الذي خرجت منه. قالت: رحم الله أمير المؤمنين ذاك: عمر بن الخطاب! قلت: نعم، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قالت: أبيت أبيت! قلت: ما كان إباؤك إلا فواق» ناقة بكيئة «2» ، ثم صرت ما تحلين ولا تمرّين، ولا تأمرين ولا تنهين! قال: فبكت حتى علا نشيجها، ثم قالت: نعم أرجع، فإنّ أبغض البلدان إليّ بلد أنتم فيه! فقلت: أما والله ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أماّ، وجعلنا أباك لهم صدّيقا. قالت: أتمنّ علي برسول الله يا بن عباس؟ قلت: نعم نمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا! قال ابن عباس: فأتيت عليا فأخبرته، فقبّل بين عيني وقال: بأبي ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم. ومن حديث ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب: أنّ قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفظعتني. قال: وما رأيت؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين. قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس. قال عمر بن الخطاب وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «3» . فانطلق، فو الله لا تعمل لي عملا أبدا. قال: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفّين. أبو بكر بن أبي شيبة قال: أقبل سليمان بن صرد، وكانت له صحبة مع النبي صلّى الله عليه وسلم، إلى عليّ بن أبي طالب بعد وقعة الجمل؛ فقال له: تنأنأت «4» وتزحزت وتربصت، فكيف رأيت الله صنع؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ الشّوط بطين «5» ، وقد بقي من الأمور ما تعرف به عدوّك من صديقك.

قولهم في أصحاب الجمل

وكتب عليّ بن أبي طالب إلى الأشعث بن قيس بعد الجمل، وكان واليا لعثمان على أذربيجان: سلام عليك؛ أما بعد، فلولا هنات كنّ منك لكنت أنت المقدّم في هذا الأمر قبل الناس، ولعل أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك، وقد كان طلحة والزبير أول من بايعني ثم نكثا بيعتي من غير حدث ولا سبب، وأخرجا أمّ المؤمنين فساروا إلى البصرة وسرت إليهم فيمن بايعني من المهاجرين والأنصار، فالتقينا فدعوتهم إلى أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه فأبوا، فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقيا، وأمرت أن لا يذفّ «1» على جريح، ولا يتّبع منهزم، ولا يسلب قتيل، ومن ألقى سلاحه وأغلق بابه فهو آمن، واعلم أنّ عملك ليس لك بطعمة، إنما هو أمانة في عنقك، وهو مال من مال الله وأنت من خزّاني عليه حتى تؤدّيه إليّ إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله. فلما بلغ الأشعث كتاب عليّ قام فقال: أيها الناس؛ إنّ عثمان بن عفان ولأني أذربيجان، فهلك وقد بقيت في يدي؛ وقد بايع الناس عليّا، وطاعتنا له واجبة، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما كان، وهو المأمون على ما غاب عن ذلك المجلس، ثم جلس. قولهم في أصحاب الجمل أبو بكر بن أبي شيبة قال: سئل عليّ عن أصحاب الجمل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا. قال: فمنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قال: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا! ومرّ علي بقتلي الجمل فقال: اللهم اغفر لنا ولهم. ومعه محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر؛ فقال أحدهما لصاحبه: أما تسمع ما يقول؟ قال: أسكت لا يزيدك.

وكيع عن مسعد عن عبد الله بن رباح عن عمار قال: لا تقولوا: كفر أهل الشام؛ ولكن قولوا: فسقوا وظلموا. وسئل عمار بن ياسر عن عائشة يوم الجمل، فقال: أما والله إنا لنعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتتبعونه أم تتبعونها!. وقال عليّ بن أبي طالب يوم الجمل: إن قوما زعموا أن البغي كان منا عليهم، وزعمنا أنه منهم علينا؛ وإنما اقتتلنا على البغي ولم نقتتل على التكفير. أبو بكر بن أبي شيبة قال: أول ما تكلمت به الخوارج يوم الجمل قالوا: ما أحلّ لنا دماءهم وحرّم علينا أموالهم! فقال عليّ: هي السّنة في أهل القبلة. قالوا: ما ندري ما هذا؟ قال: فهذه عائشة رأس القوم، أتتساهمون عليها؟ قالوا: سبحان الله! أمنا. قال: فهي حرام؟ قالوا: نعم. قال: فإنه يحرم من أبنائها ما يحرم منها. قال: ودخلت أمّ أوفى العبادية على عائشة بعد وقعة الجمل فقالت لها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار! قالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الاكابر عشرين ألفا في صعيد واحد؟ قالت: خذوا بيد عدوّة الله! وماتت عائشة في أيام معاوية وقد قاربت السبعين؛ وقيل لها: تدفنين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: لا، إني أحدثت بعده حدثا، فادفنوني مع إخوتي بالبقيع. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها: يا حميراء، كأني بك ينبحك كلاب الحوأب، تقاتلين عليا وأنت له ظالمة. والحوأب: قرية في طريق المدينة إلى البصرة، وبعض الناس يسمونها الحوّب، بضم الحاء وتثقيل الواو؛ وقد زعموا أنّ الحوأب: ماء في طريق البصرة، قال في ذلك بعض الشيعة: إني بحبّ آل محمد ... وبني الوصيّ شهودهم والغيّب وأنا البريء من الزبير وطلحة ... ومن التي نبحت كلاب الحوأب

أخبار علي ومعاوية

أخبار عليّ ومعاوية كتب علي بن أبي طالب إلى جرير بن عبد الله، وكان وجّهه إلى معاوية في أخذ بيعته؛ فأقام عنده ثلاثة أشهر يماطله بالبيعة، فكتب إليه عليّ: سلام عليك؛ فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخيّره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين، وإن اختار السّلم فخذ بيعته وأقبل إليّ. وكتب عليّ إلى معاوية بعد وقعة الجمل: سلام عليك؛ أمّا بعد، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني [القوم] الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان، على ما بويعوا عليه؛ فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان ذلك لله رضا، وإن خرج عن أمرهم خارج ردّوه إلى ما خرج عنه، فإن أبي قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولّى، وأصلاه جهنّم وساءت مصيرا. وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردّتهما فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون؛ فادخل فيما دخل فيه المسلمون؛ فإن أحب الأمور إليّ قبولك العافية. وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إليّ، حملتك وإياهم على كتاب الله؛ وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدنّني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك من الطلقاء «1» الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا يدخلون في الشورى؛ وقد بعثت إليك والي من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة؛ فبايعه، ولا قوة إلا بالله.

فكتب إليه معاوية: سلام عليك: أما بعد، فلعمري لو بايعك الذين ذكرت وأنت بريء من دم عثمان، لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بدم عثمان [المهاجرين] وخذّلت [عنه] الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبي أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وإنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحقّ فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، [لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام] ؛ ولا حجتك عليّ كحجتك على طلحة والزبير، لأنهما بايعاك ولم أبايعك أنا، فأما فضلك في الإسلام، وقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلست أدفعه! فكتب إليه عليّ: أما بعد، فقد أتانا كتابك، كتاب امريء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه؛ زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خفوري «1» لعثمان ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا؛ وما كان الله ليجمعهم على ضلالة، ولا ليضربهم بالعمى وما أمرت فلزمتني خطيئة الأمر، ولا قتلت فأخاف على نفسي قصاص القاتل. وأما قولك إن أهل الشام هم حكام أهل الحجاز، فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فإن سمّيت كذّبك المهاجرون والأنصار، ونحن نأتيك به من قريش الحجاز. وأما قولك ادفع إليّ قتلة عثمان، فما أنت وذاك؟ وههنا بنو عثمان، وهم أولى بذلك منك، فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع إلى البيعة التي لزمتك وحاكم القوم إليّ.

وأما تمييزك بين أهل الشام والبصرة، وبينك وبين طلحة والزبير، فلعمري فما الأمر هناك إلا واحد، لأنها بيعة عامة، لا يتأنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار. وأما قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقدمي في الإسلام؛ فلو استطعت دفعه لدفعته! وكتب معاوية إلى علي: أما بعد: فإنك قتلت ناصرك، واستنصرت واترك «1» ، وايم الله لأرمينّك بشهاب تذكيه الريح ولا يطفئه الماء؛ فإذا وقع وقب «2» ، وإذا مسّ ثقب، فلا تحسبنّي كسحيم، أو عبد القيس، أو حلوان الكاهن. فأجابه علي: أما بعد، فو الله ما قتل ابن عمك غيرك، وإني أرجو أن ألحقك به على مثل ذنبه وأعظم من خطيئته؛ وإن السيف الذي ضربت به أهلك لمعي دائم؛ والله ما استحدثت دينا، ولا استبدلت نبيا، وإني على المنهاج الذي تركتموه طائعين، وأدخلتم فيه كارهين. وكتب معاوية [مع أبي مسلم الخولاني] إلى علي بن أبي طالب [قبل مسيره إلى صفين] . أما بعد، فإن الله اصطفى محمدا وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واختار له من المسلمين أعوانا أيده بهم وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله، الخليفة، وخليفة الخليفة، والخليفة الثالث؛ فكلّهم حسدت، وعلى كلهم بغيت؛ عرفنا ذلك في نظرك الشّزر، وتنفسك الصعداء، وإبطائك عن الخلفاء؛ وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد

البعير المخشوش «1» حتى تبايع وأنت كاره؛ ولم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا منك لابن عمك عثمان، وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك به، في قرابته؛ وصهره فقطعت رحمه وقبّحت محاسنه، وألّبت عليه الناس، حتى ضربت إليه آباط «2» الإبل، وشهر عليه السلام في حرم الرسول، فقتيل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة «3» ؛ لا تؤدّي عن نفسك في أمره بقول، ولا فعل برّ، وأقسم قسما صادقا: لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به، من المجانبة لعثمان والبغي عليه؛ وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنين: إيواؤك قتلة عثمان، فهم بطانتك وعضدك وأنصارك؛ وقد بلغني أنك تنتفي من دمه، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيف، والذي نفس معاوية بيده، لأطلبنّ قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر، حتى تقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله!. فأجابه علي: أما بعد، فإن أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلّى الله عليه وسلم، وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحى؛ فالحمد لله الذي صدقه الوعد وتمم له النصر، ومكنه في البلاد، وأظهره على الأعادي من قومه الذين أظهروا له التكذيب، ونابذوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه، وألّبوا عليه العرب، وحزّبوا الأحزاب، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. وذكرت أن الله اختار [له] من المسلمين أعوانا أيده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام، وأنصحهم لله ولرسوله، الخليفة، وخليفة الخليفة من بعده.

ولعمري إن كان مكانهما في الإسلام لعظيما، وإن كان المصاب بهما لجرحا في الإسلام شديدا، فرحمهما الله وغفر لهما. وذكرت أن عثمان كان في الفضل تاليا؛ فإن كان محسنا فسيلقي ربا شكورا يضاعف له الحسنات، ويجزيه الثواب العظيم؛ وإن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب [أن] يغفره. ولعمري إني لأرجو إذا الله أعطى [الناس على قدر فضائلهم في] الإسلام [ونصيحتهم لله ولرسوله] أن يكون سهمنا أهل البيت أوفر نصيب: وايم الله ما رأيت ولا سمعت بأحد كان أنصح لله في طاعة الله ورسوله، ولا أنصح لرسول الله في طاعة الله، ولا أصبر على البلاء والأذى في مواطن الخوف- من هؤلاء النفر من أهل بيته؛ الذين قتلوا في طاعة الله: عبيدة بن الحرث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة؛ وفي المهاجرين خير كثير، جزاهم الله بأحسن أعمالهم. وذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبغي عليهم؛ فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الكراهة لهم فو الله ما أعتذر للناس من ذلك؛ وذكرت بغيي على عثمان وقطعي رحمه، فقد عمل عثمان بما قد علمت وعمل به الناس ما قد بلغك، وقد علمت أني كنت من أمره في عزلة إلا أن تجنّي فتجنّ ما شئت؛ وأما ذكرك قتلة عثمان وما سألت من دفعهم إليك، فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه، فلم يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك. وإن لم تنزع عن غيّك لتعرفنّهم عما قليل يطلبونك ولا يكلّفونك أن تطلبهم في سهل ولا جبل، ولا برّ ولا بحر؛ وقد كان أبوك أبو سفيان أتاني حين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ابسط يدك أبايعك، فأنت أحقّ الناس بهذا الأمر. فكنت أنا الذي أبيت عليه، مخافة الفرقة بين المسلمين لقرب عهد الناس بالكفر؛ فأبوك كان أعلم بحقّي منك؛ فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك وإلا فنستعين الله عليك.

يوم صفين

وكتب عبد الرحمن بن الحكم إلى معاوية: ألا أبلغ معاوية بن حرب ... كتابا من أخي ثقة يلوم فإنك والكتاب إلى عليّ ... كدابغة وقد حلم الأديم «1» يوم صفين أبو بكر بن أبي شيبة قال: خرج عليّ بن أبي طالب من الكوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين ألفا، وخرج معاوية من الشام في بضعة وثمانين ألفا، فالتقوا بصفين؛ وكان عسكر علي يسمى الزحزحة، لشدّة حركته؛ وعسكر معاوية يسمى الخضرية، لاسوداده بالسلاح والدروع. أبو الحسن قال: كانت أيام صفين كلها موافقة ولم تكن هزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرّون. أبو الحسن قال: كان منادي عليّ يخرج كل يوم وينادي: أيها الناس، لا تجهزنّ علي جريح، ولا تتّبعنّ مولّيا «2» ، ولا تسلبنّ قتيلا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أبو الحسن قال: خرج معاوية إلى عليّ يوم صفين، ولم يبايعه أهل الشام بالخلافة، وإنما بايعوه على نصرة عثمان والطلب بدمه؛ فلما كان من أمر الحكمين ما كان، بايعوه بالخلافة؛ فكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان: سلام عليك؛ أما بعد، فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره؛ و [قد] نصره طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر [والشورى] ، ونظيراك في الإسلام؛ وخفّت لذلك أمّ المؤمنين، فلا تكره ما رضوا، ولا تردّ ما قبلوا، وإنما نريد أن نردها شورى بين المسلمين والسلام.

فأجابه سعد: أما بعد، فإن عمر رضي الله عنه لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن عليا كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن؛ وهذا الأمر قد كرهنا أوله، وكرهنا آخره؛ وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما، والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت. وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة: أما بعد، فإنما أنت يهودي بن يهودي، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك؛ وإن ظفر أبغض الفريقين إليك قتلك ونكّل بك؛ وقد كان أبوك أوتر «1» قوسه ورمى غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، ثم مات طريدا بحوران. فأجابه قيس: أما بعد، فأنت وثني، ابن وثني دخلت في الإسلام كرها، وخرجت منه طوعا، لم يقدم إيمانك، ولم تحذر نفاقك؛ ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه وأعداء الدين الذي دخلت فيه! والسلام. وخطب عليّ بن أبي طالب أصحابه يوم صفين، فقال: أيها الناس، إن الموت طالب لا يعجزه هارب، ولا يفوته مقيم؛ اقدموا ولا تنكلوا «2» ، فليس عن الموت محيص «3» ، والذي نفس ابن أبي طالب بيده: إن ضربة سيف أهون من موت الفراش.

أيها الناس، اتقوا السيوف بوجوهكم، والرماح بصدوركم، وموعدي وإياكم الراية الحمراء «1» . فقال رجل من أهل العراق: ما رأيت كاليوم خطيبا يخطبنا، يأمرنا أن نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح بصدورنا، ويعدنا راية بيننا وبينها مائة ألف سيف. قال أبو عبيدة في التاج: جمع علي بن أبي طالب رياسة بكر كلها يوم صفين لحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة، وجعل ألويتها تحت لوائه، وكانت له راية سوداء يخفق ظلّها إذا أقبل، فلم يغن أحد في صفين غناءه؛ فقال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما يقدّمها في الصفّ حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السّمّ والدّما جزى الله عني والجزاء بكفه ... ربيعة خيرا، ما أعفّ وأكرما وكان من همدان في صفين [بلاء] حسن، فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لهمدان أخلاق ودين يزينهم ... وبأس إذا لاقوا وحسن كلام فلو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام أبو الحسن قال: كان عليّ بن أبي طالب يخرج كل غداة لصفين في سرعان الخيل «2» ، فيقف بين الصفين ثم ينادي: يا معاوية، علام يقتتل الناس؟ ابرز اليّ أو أبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب. فقال له عمرو بن العاص: أنصفك الرجل! فقال له معاوية: أردتها يا عمرو! والله لا رضيت عنك حتى تبارز عليّا. فبرز إليه متنكرا؛ فلما غشيه عليّ بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته فضرب عليّ وجه فرسه وانصرف عنه؛ فجلس معه معاوية يوما فنظر إليه يضحك؛ فقال عمرو:

مقتل عمار بن ياسر

أضحك الله سنك؛ ما الذي أضحكك؟ قال: من حضور ذهنك يوم بارزت علياّ إذ اتّقيته بعورتك؛ أما والله لقد صادفت منّانا كريما؛ ولولا ذلك لخرم رفغيك «1» بالرمح. قال عمرو بن العاص: أما والله إني عن يمينك إذ دعاك إلى البراز، فاحولّت عيناك، وربا سحرك «2» وبدا منك ما أكره ذكره لك. وذكر عمرو بن العاص عند علي بن أبي طالب؛ فقال فيه علي: عجبا لابن النابغة يزعم أني بلقائه أعافس «3» وأمارس، أما وشرّ القول أكذبه، إنه يسأل فيلحف ويسأل فيبخل؛ فإذا احمر البأس وحمى الوطيس وأخذت السيوف مأخذها من هام الرجال، لم يكن له هم إلا نزعه ثيابه ويمنح الناس استّه أغصه الله وترّحه. مقتل عمار بن ياسر العتبي قال: لما التقى الناس بصفين، نظر معاوية إلى هاشم بن عتبة، الذي يقال له المرقال لقول النبي صلّى الله عليه وسلم أرقل ليمون، وكان أعور، والراية بيده وهو يقول: أعور يبغي نفسه محلّا ... قد عالج الحياة حتى ملّا لا بدّ أن يفلّ أو يفلّا فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، هذا المرقال؛ والله لئن زحف بالراية زحفا إنه ليوم أهل الشام الأطول، ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه- يعني عمّارا- وفيه عجلة في الحرب، وأرجو أن تقدمه إلى الهلكة. وجعل عمار يقول: أبا عتبة تقدّم، فيقول: يا أبا اليقظان، أنا أعلم بالحرب منك، دعني أزحف بالراية زحفا. فلما أضجره وتقدم، أرسل معاوية خيلا فاختطفوا عمارا، فكان يسمى أهل الشام قتل عمار فتح الفتوح.

أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن العوّام بن حوشب عن أسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد قال: إني لجالس عند معاوية إذ أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار، كل واحد منهما يقول: أنا قتلته! فقال لهما عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول له: «تقتلك الفئة الباغية» !. أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» . أبو بكر قال: حدثنا علي بن حفص عن أبي معشر عن محمد بن عمارة قال: ما زال جدّي خزيمة بن ثابت كافّا سلاحه يوم صفين، حتى قتل عمار، فلما قتل سلّ سيفه وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» . فما زال يقاتل حتى قتل. أبو بكر عن غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: رأيت عمارا يوم صفين شيخا آدم «1» طوالا، أخذ الحربة بيده ويده ترعد، وهو يقول: والذي نفسي بيده، لقد قاتلت بهذه الحربة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة؛ والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات «2» هجر، لعرفت أنّا على حق وأنهم على باطل. ثم جعل يقول: صبرا عباد الله، الجنة تحت ظلال السيوف. أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن حبيب عن أبي البختريّ قال: لما كان يوم صفين واشتدّت الحرب، دعا عمار بشربة لبن وشربها، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. أبو ذرّ عن محمد بن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن جدته أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قالت: لما بني رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب وما

من حرب صفين

يحتاج إليه؛ ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوضع رداءه؛ فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يعملون ويرتجزون ويقولون: لئن قعدنا والنّبيّ يعمل ... ذاك إذا لعمل مضلّل قالت: وكان عثمان بن عفان رجلا نظيفا متنظفا، فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شيء من التراب نفضه؛ فنظر إليه عليّ رضي الله عنه فأنشده: لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها راكعا وساجدا «1» وقائما طورا وطورا قاعدا ... ومن يرى عن التراب حائدا فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني؛ فسمعه عثمان فقال: يا بن سمية، ما أعرفني بمن تعرّض. ومعه جريدة، فقال: لتكفّنّ أو لأعترضنّ بها وجهك! فسمعه النبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل حائط، فقال: عمّار جلدة ما بين عينيّ وأنفي، فمن بلغ ذلك منه؟ وأشار بيده فوضعها بين عينيه، فكف الناس عن ذلك، وقالوا لعمار: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال أنا أرضيه كما غضب. فأقبل عليه فقال يا رسول الله، مالي ولأصحابك؟ قال: ومالك ولهم؟ قال: يريدون قتلي،. يحملون لبنة [لبنة] ويحملون عليّ لبنتين. فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا ابن سمية، لا يقتلك أصحابي؛ ولكن تقتلك الفئة الباغية. فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال معاوية: هم قتلوه؛ لأنهم أخرجوه إلى القتل! فلما بلغ ذلك عليا قال: ونحن قتلنا أيضا حمزة، لأنّا أخرجناه. من حرب صفين أبو الحسن قال: كانت أيام صفين كلها موافقة، ولم تكن هزيمة في أحد الفريقين إلا على حامية ثم يكرّون.

أبو بكر بن أبي شيبة قال: انقضت وقعة صفين عن سبعين ألف قتيل: خمسين ألفا من أهل الشام، وعشرين ألفا من أهل العراق. ولما انصرف الناس من صفين قال عمرو بن العاص: شبّت الحرب فأعددت لها ... مشرّف الحارك محبوك الثّبج «1» يصل الشرّ بشّر فإذا ... وثب الخيل من الشرّ معج «2» جرشع أعظمه جفرته ... فإذا ابتلّ من الماء خرج «3» وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فإن شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفّين يوما شاب منها الذّوائب عشيّة جا أهل العراق كأنهم ... سحاب خريف صفّعته الجنائب «4» وجئناهم تترى كأن صفوفنا ... من البحر مدّ موجه متراكب إذا قلت قد ولّوا سراعا بدت لنا ... كتائب منهم فارجحنّت كتائب فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما تولّى المناكب وقالوا لنا: إنا نرى أن تبايعوا ... علياّ فقلنا: بل نرى أن نضارب وقال السيد الحميري وهو رأس الشيعة، وكانت الشيعة من تعظيمها له تلقى له وسادا بمسجد الكوفة: إني أدين بما دان الوصيّ به ... وشاركت كفّه كفّي بصفّينا في سفك ما سفكت منها إذا احتضروا ... وأبرز الله للقسط الموازينا تلك الدّماء معا يا ربّ في عنقي ... ثم اسقني مثلها آمين آمينا آمين! من مثلهم في مثل حالهم ... في فتية هاجروا في الله شارينا ليسوا يريدون غير الله ربّهم ... نعم المراد توخّاه المريدونا

خبر عمرو بن العاص

وقال النجاشي يوم صفين، وكتب بها إلى معاوية: يأيها الملك المبدي عداوته ... انظر لنفسك أيّ الأمر تأتمر فإن نفست على الأقوام مجدهم ... فابسط يديك فإنّ الخير مبتدر واعلم بأنّ عليّ الخير من نفر ... شمّ العرانين لا يعلوهم بشر «1» نعم الفتى أنت إلّا أن بينكما ... كما تفاضل ضوء الشمس والقمر وما إخالك إلّا لست منتهيا ... حتى ينالك من أظفاره ظفر خبر عمرو بن العاص سفيان بن عيينة قال: أخبرني أبو موسى الأشعري قال: أخبرني الحسن قال: علم معاوية والله، إن لم يبايعه عمرو لم يتم له أمر، فقال له يا عمرو، اتبعني. قال لماذا؟ للآخرة؟ فو الله ما معك آخرة؛ أم للدنيا؟ فو الله لا كان حتى أكون شريكك فيها! قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها «2» . فكتب له مصر وكورها وكتب في آخر الكتاب: وعلى عمرو السمع والطاعة. قال عمرو: واكتب: إن السمع والطاعة لا ينقصان من شرطه شيئا. قال معاوية: لا ينظر الناس إلى هذا. قال عمرو: حتى تكتب. قال: فكتب، والله ما يجد بدا من كتابتها! ودخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلم عمرا في مصر، وعمرو يقول له: إنما أبايعك بها ديني! فقال عتبة: ائتمن الرجل بدينه، فإنه صاحب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وكتب عمرو إلى معاوية: معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع؟ وما الدين والدّنيا سواء وإنّني ... لآخذ ما تعطى ورأسي مقنّع فإن تعطني مصرا فأربح صفقة ... أخذت بها شيخا يضرّ وينفع

أمر الحكمين

وقالوا: لما قدم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن علي بعد أن جعل له مصر طعمة. قال له: إن بأرضك رجلا له شرف واسم، والله إن قام معك استهويت به قلوب الرجال؛ وهو عبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية، فلما أتاه وسّع له بينه وبين عمرو بن العاص، فجلس بينهما، فحمد الله معاوية وأثنى عليه، وذكر فضل عبادة وسابقته، وذكر فضل عثمان وما ناله، وحضّه على القيام معه؛ فقال عبادة: قد سمعت ما قلت، أتدريان لم جلست بينكما في مكانكما؟ قالا: نعم، لفضلك وسابقتك وشرفك. قال: لا والله، ما جلست بينكما لذلك، وما كنت لأجلس بينكما في مكانكما؛ ولكن بينا نحن نسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة تبوك، إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدّثان، فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرّقوا بينهما؛ فإنما لا يجتمعان على خير أبدا! وأنا أنهاكما عن اجتماعكما؛ فأمّا ما دعوتماني إليه من القيام معكما، فإنّ لكما عدوّا هو أغلظ أعدائكما عليكما، وأنا كامن من ورائكم في ذلك العدو، إن اجتمعتم على شيء دخلت فيه. أمر الحكمين أبو الحسن قال: لما كان يوم الهرير، وهو أعظم يوم بصفين، زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم، حتى انتهوا إلى سرادق» معاوية، فدعا بالفرس وهمّ بالهزيمة، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: ما عندك؟ قال: تأمر بالمصاحف فترفع في أطراف الرماح، ويقال: هذا كتاب الله يحكم بيننا وبينكم ... فلما نظر أهل العراق إلى المصاحف، ارتدعوا واختلفوا: قال بعضهم: نحاكمهم إلى كتاب الله، وقال بعضهم: لا نحاكمهم، لأنا على يقين من أمرنا ولسنا على شك. ثم أجمع رأيهم على التحكيم، فهمّ عليّ أن يقدّم أبا الأسود الدؤني، فأبى الناس عليه؛ فقال له ابن عباس: اجعلني أحد الحكمين، فو الله لأفتلنّ لك حبلا لا ينقطع

وسطه، ولا ينشر طرفاه، فقال علي: لست من كيدك ولا من كيد معاوية في شيء؛ لا أعطيه إلا السيف حتى يغلبه الحق. قال: وهو والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلبك الباطل. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك تطاع اليوم وتعصي غدا، وإنه يطاع ولا يعصى!. فلما انتشر عن علي أصحابه قال: لله بلاء ابن عباس، إنه لينظر إلى الغيب بستر رقيق. قال: ثم اجتمع أصحاب البرانس «1» - وهم وجوه أصحاب علي- على أن يقدّموا أبا موسى الأشعري- وكان مبرنسا- وقالوا: لا نرضى بغيره. فقدّمه عليّ، وقدّم معاوية عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: إنك قد رميت برجل طويل اللسان قصير الرأي، فلا ترمه بعقلك كله. فأخلي لهما مكان يجتمعان فيه. فأمهله عمرو بن العاص ثلاثة أيام، ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهّيه بها، حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه عمرو فقال له: يا أبا موسى، إنك شيخ أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، وذو فضلها وذو سابقتها؛ وقد ترى ما وقعت فيه هذه الأمّة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها؛ فهل لك أن تكون ميمون هذه الأمّة فيحقن الله بك دماءها، فإنه يقول في نفس واحدة وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً «2» . فكيف بمن أحيا أنفس هذا الخلق كله؟ قال له: وكيف ذلك؟ قال: تخلع أنت عليّ بن أبي طالب، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان؛ ونختار لهذه الأمّة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمس يده فيها. قال له: ومن يكون ذلك؟

وكان عمرو بن العاص قد فهم رأي أبي موسى في عبد الله بن عمر؛ فقال له: عبد الله بن عمر. فقال: إنه لكما ذكرت، ولكن كيف لي بالوثيقة منك؟ فقال له: يا أبا موسى، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «1» ؛ خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى. ثم لم يبق عمرو بن العاص عهدا ولا موثقا ولا يمينا مؤكدة حتى حلف بها، حتى بقي الشيخ مبهوتا، وقال له: قد أجبت! فنودى في الناس بالاجتماع إليهما فاجتمعوا. فقال له عمرو: قم فأخطب الناس يا أبا موسى، فقال: قم أنت اخطبهم. فقال: سبحان الله! أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحاب محمد! والله لا فعلت أبدا. قال: أو عسى في نفسك امر! - فزاده أيمانا وتوكيدا، حتى قام الشيخ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد اجتمعت أنا وصاحبي على أن أخلع أنا عليّ بن أبي طالب، ويعزل هو معاوية بن أبي سفيان؛ ونجعل هذا الأمر لعبد الله بن عمر؛ فإنه لم يحضر في فتنة، ولم يغمس يده في دم امريء مسلم. ألا وإني قد خلعت عليّ بن أبي طالب كما أختلع سيفي هذا! ثم خلع سيفه من عاتقه وجلس، وقال لعمرو: قم. فقام عمرو بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إنه قد كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم، وإنه قد أشهدكم أنه خلع عليّ بن أبي طالب كما يخلع سيفه؛ وأنا أشهدكم أني قد أثبتّ معاوية بن أبي سفيان كما أثبت سيفي هذا!

وكان قد خلع سيفه قبل أن يقوم إلى الخطبة، فأعاده على نفسه؛ فاضطرب الناس وخرجت الخوارج. وقال أبو موسى لعمرو: لعنك الله! فإنّ مثلك كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث! فقال عمرو: لعنك الله! فإن مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. وخرج أبو موسى من فوره ذلك إلى مكة مستعيذا بها من عليّ، وحلف أن لا يكلمه أبدا؛ فأقام بمكة حينا حتى كتب إليه معاوية: سلام عليك؛ أما بعد، فلو كانت النية تدفع الخطأ، لنجا المجتهد وأعذر الطالب؛ والحق لمن نصب «1» له فأصابه، وليس لمن عرض له فأخطأه؛ وقد كان الحكمان إذا حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختاره القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام، فإني خير لك من على؛ ولا قوّة إلا بالله. فكتب إليه أبو موسى: سلام عليك؛ أما بعد، فإني لم يكن مني في علي، إلا ما كان من عمرو فيك، غير أني أردت بما صنعت ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك، وقد كان بيني وبينه شروط وشورى عن تراض، فلما رجع عمرو رجعت؛ أما قولك إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما؛ فإنما ذلك في الشاة والبعير والدينار والدرهم، فأما أمر هذه الأمة فليس لأحد فيما تكره حكم، ولن يذهب الحقّ عجز عاجز ولا خدعة فاجر، وأما دعاؤك إياي إلى الشام فليس لي رغبة عن حرم إبراهيم. فبلغ عليا كتاب معاوية إلى أبي موسى الأشعري، فكتب إليه: سلام عليك؛ أما بعد، فإنك امرؤ ضلّلك الهوى، واستدرجك الغرور، [فإنه من استقال الله أقاله] ، حقق بك حسن الظنّ لزومك بيت الله الحرام غير حاج ولا

قاطن، فاستل الله يقلك [عثرتك] فإن الله يغفر ولا يغفل، وأحب عباده إليه التوابون. وكتبه سماك بن حرب. فكتب إليه أبو موسى: سلام عليك؛ فإنه والله لولا أني خشيت أن يرفعك مني منع الجواب إلى أعظم مما في نفسك، لم أجبك؛ لأنه ليس لي عندك عذر ينفعني ولا قوّة تمنعني، وأما قولك ولزومي بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن، فإني اعتزلت أهل الشام وانقطعت عن أهل العراق، وأصبت أقواما صغّروا من ذنبي ما عظّمتم، وعظّموا من حقي ما صغّرتم؛ إذ لم يكن لي منكم وليّ ولا نصير. وكان عليّ بن أبي طالب إذ وجه الحكمين قال لهما: إنما حكمنا كما بكتاب الله فتحييا ما أحيا القرآن، وتميتا ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص على أبي موسى، اضطرب الناس على عليّ واختلفوا، وخرجت الخوارج، وقالوا لا حكم إلا لله! فجعل علي يتمثل بهذه الأبيات: لي زلة إليكم فأعتذر ... سوف أكيس بعدها وأنشمر «1» وأجمع الأمر الشتيت المنتشر أبو الحسن قال: لما قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة، قال له معاوية: بلغني يا أبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين؛ فما كنت تحكم به؟ قال: لو جعلني أحدهما لجمعت ألفا من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألف من الأنصار وأبناء الأنصار ثم ناشدتهم الله: آلمهاجرون وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أو الطلقاء؟ قال له معاوية: لله أبوك! أيّ حكم كنت تكون لو حكّمت!

احتجاج علي وأهل بيته في الحكمين

احتجاج علي وأهل بيته في الحكمين أبو الحسن قال: لما انقضى أمر الحكمين واختلف أصحاب علي، قال بعض الناس: ما منع أمير المؤمنين أن يأمر بعض أهل بيته فيتكلم؟ فإنه لم يبق أحد من رؤساء العرب إلا وقد تكلم. قال: فبينما عليّ يوما على المنبر إذ التفت إلى الحسن ابنه فقال: قم يا حسن فقل في هذين الرجلين: عبد الله بن قيس وعمرو ابن العاص. فقام الحسن، فقال: «أيها الناس، إنكم قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنما بعثا ليحكما بالكتاب دون الهوى، فحكما بالهوى دون الكتاب؛ ومن كان هكذا لم يسم حكما، ولكنه محكوم عليه؛ وقد أخطأ عبد الله بن قيس إذ جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة، أنه خالف أباه، إذ لم يرضه لها ولا جعله من أهل الشورى؛ وأخرى، أنه لم يستأمر في نفسه؛ وثالثة، أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الدين يعقدون الإمارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة فقد حكّم النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بما يرضي الله به ولا شك، ولو خالف لم يرضه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم جلس، فقال لعبد الله بن عباس: قم. فقام عبد الله بن عباس، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن للحق أهلا أصابوه بالتوفيق، والناس بين راض به وراغب عنه، فإنه بعث عبد الله بن قيس يهدي إلى ضلالة، وبعث عمرو بضلالة إلى هدى فلما التقيا رجع عبد الله بن قيس عن هداه، وثبت عمرو على ضلالة؛ وايم الله لئن كانا حكما بما سارا به لقد سار عبد الله وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه، فما بعد هذا من غيب ينتظر. فقال عليّ لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: قم. فقام فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

احتجاج علي على أهل النهروان

أيها الناس، إن هذا الأمر كان النظر فيه إلى علي والرضا إلى غيره، فجئتم إلى عبد الله بن قيس مبرنسا فقلتم، لا نرضى إلا به. وايم الله ما استفدنا به علما، ولا انتظرنا منه غائبا، وما نعرفه صاحبا، وما أفسدا بما فعلا أهل العراق، وما أصلحا أهل الشام، ولا رفعا حقّ علي، ولا وضعا باطل معاوية، ولا يذهب الحقّ رقية «1» راق، ولا نفخة شيطان، ونحن اليوم على ما كنا عليه أمس. احتجاج عليّ على أهل النهروان قالوا: إن عليا لما اختلف عليه أهل النهروان والقرى وأصحاب البرانس، ونزلوا قرية يقال لها حروراء، وذلك بعد وقعة الجمل، فرجع إليهم علي بن أبي طالب فقال لهم: يا هؤلاء، من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء. قال: فليبرز إلي. فخرج إليه ابن الكواء، فقال له عليّ: يا بن الكواء، ما أخرجكم علينا بعد رضاكم بالحكمين، ومقامكم بالكوفة؟ قال: قاتلت بنا عدواّ لا نشك في جهاده، فزعمت أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، فبينما نحن كذلك، إذ أرسلت منافقا، وحكّمت كافرا، وكان مما شكك في أمر الله أن قلت للقوم حين دعوتهم: كتاب الله بيني وبينكم، فإن قضى عليّ بايعتكم، وإن قضى عليكم بايعتموني. فلولا شكّك لم تفعل هذا والحقّ في يدك. فقال عليّ: يا بن الكواء، إنما الجواب بعد الفراغ؛ أفرغت فأجيبك؟ قال: نعم. قال علي: أما قتالك معي عدّوا لا تشك في جهاده فصدقت، ولو شككت فيهم لم أقاتلهم؛ وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله في ذلك ما يستغنى به عن قولي؛ وأما إرسالي المنافق وتحكيمي الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسا، ومعاوية حكّم عمرا، أتيت بأبي موسى مبرنسا، فقلت: لا نرضى إلا أبا موسى! فهلا قام إلى رجل منكم فقال: يا علي، لا تعط هذه الدنية فإنها ضلالة؟ وأما قولي لمعاوية: إن جرّني إليك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إليّ تبعتني؛ زعمت أني لم أعط ذلك إلا من شك، فقد علمت أن أوثق ما في يديك هذا الأمر، فحدّثني ويحك عن

اليهودي والنصراني ومشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام؟ قال: بل معاوية وأهل الشام أقرب. قال علي: أفرسول الله صلّى الله عليه وسلم كان أوثق بما في يديه من كتاب الله أو أنا؟ قال: بل رسول الله. قال: أفرأيت الله تبارك وتعالى حين يقول: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» ؛ أما كان رسول الله يعلم أنه لا يؤتي بكتاب هو أهدى مما في يديه؟ قال: بلى. قال: فلم أعطى رسول الله القوم ما أعطاهم؟ قال: إنصافا وحجة. قال: فإني أعطيت القوم ما أعطاهم رسول الله. قال ابن الكواء: فإني أخطأت، هذه واحدة، زدني. قال علي: فما أعظم ما نقمتم عليّ؟ قال تحكيم الحكمين؛ نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمهما شكا وتبذيرا. قال علي: فمتى سمّي أبو موسى حكما: حين أرسل، أو حين حكم؟ قال: حين أرسل قال: أليس قد سار وهو مسلم، وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم. قال عليّ: فلا أرى الضلال في إرساله. فقال ابن الكواء: سمّي حكما حين حكم قال: نعم، إذا فإرساله كان عدلا، أرأيت يابن الكواء لو أن رسول الله بعث مؤمنا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب الله فارتدّ على عقبه كافرا، كان يضرّ نبيّ الله شيئا؟ قال: لا. قال علي: فما كان ذنبي إن كان أبو موسى ضلّ، هل رضيت حكومته حين حكم، أو قولّه إذ قال؟ قال ابن الكواء: لا، ولكنك جعلت مسلما وكافرا يحكمان في كتاب الله.

قال عليّ: ويلك يا ابن الكوّاء! هل بعث عمرا غير معاوية؟ وكيف أحكمّه وحكمه على ضرب عنقي؟ إنما رضي به صاحبه كما رضيت أنت بصاحبك، وقد يجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله؛ أرأيت لو أن رجلا مؤمنا تزوج يهودية أو نصرانية فخافا شقاق بينهما، ففزع الناس إلى كتاب الله وفي كتابه: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها «1» ، فجاء رجل من اليهود ورجل من النصارى ورجل من المسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله، فحكما. قال ابن الكواء: وهذه أيضا، أمهلنا حتى ننظر. فانصرف عنهم علي، فقال له صعصعة بن صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لي في كلام القوم. قال: نعم ما لم تبسط يدا. قال: فنادى صعصعة ابن الكواء؛ فخرج إليه فقال: أنشدكم بالله يا معشر الخارجين، أن لا تكونوا عارا على من يغزو لغيره، وأن لا تخرجوا بأرض تسمّوا بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام خشية ضلال عام قابل. فقال ابن الكواء: إنّ صاحبك لقينا بأمر قولك فيه صغير، فأمسك. قالوا: إن عليا خرج بعد ذلك إليهم فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يا ابن الكواء إنه من أذنب في هذا الدين ذنبا يكون في الإسلام حدثا استتبناه من ذلك الذنب بعينه، وإن توبتك أن تعرف هدى ما خرجت منه، وضلال ما دخلت فيه. قال ابن الكواء: إننا لا ننكر أنا قد فتنّا. فقال له عبد الله بن عمرو بن جرموز: أدركنا والله هذه الآية الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «2» . وكان عبد الله من قراء أهل حروراء، فرجعوا فصلوا خلف عليّ الظهر، وانصرفوا معه إلى الكوفة، ثم اختلفوا بعد ذلك في رجعتهم ولام بعضهم بعضا، فقال زيد بن عبد الله الراسي، وكان من أهل حروراء، يشككهم: شككتم ومن أرسى ثبيرا مكانه ... ولو لم تشكّوا ما انثنيتم عن الحرب وتحكيمكم عمرا على غير توبة ... وكان لعبد الله خطب من الخطب

خروج عبد الله بن عباس على علي

فأنكصّه للعقب لمّا خلا به ... فأصبح يهوي من ذرى حالق صعب «1» وقال الرياحي: ألم تر أنّ الله أنزل حكمه ... وعمرو وعبد الله مختلفان وقال مسلم بن يزيد الثقفي، وكان من عباد حروراء: وإن كان ما عبناه عيبا فحسبنا ... خطايا بأخذ النّصح من غير ناصح وإن كان عيبا فاعظمنّ بتركنا ... عليّا على أمر من الحقّ واضح ونحن أناس بين بين وعلنا ... سررنا بأمر غبّه غير صالح ثم خرجوا على عليّ فقتلهم بالنهروان. خروج عبد الله بن عباس على عليّ قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان عبد الله بن عباس من أحبّ الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، ولم يستعمله قط، فقال له يوما: كدت أستعملك، ولكن أخشى أن تستحل الفيء «2» على التأويل! فلما صار الأمر إلى عليّ استعمله على البصرة، فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى واستحله من قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وروى أبو مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عبيد قال: مرّ ابن عباس على أبي الأسود الدؤلي، فقال له: لو كنت من البهائم لكنت جملا ولو كنت راعيا ما بلغت المرعى فكتب أبو الأسود الدؤلي إلى عليّ: أما بعد، فإنّ الله جعلك واليا مؤتمنا، وراعيا مسئولا، وقد بلوناك رحمك الله

فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحّا للأمة؛ توفّر لهم فيئهم، وتكف نفسك عن دنياهم فلا تأكل أموالهم، ولا ترتشي بشيء في أحكامهم. وابن عمك قد أكل ما تحت يديه من غير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما هنالك، واكتب إليّ برأيك، فما أحببت أتّبعه إن شاء الله، والسلام. فكتب إليه عليّ: أما بعد، فمثلك نصح الإمام والأمة، [وادّى الأمانة] ووالي على الحق، وفارق الجور؛ وقد كتبت لصاحبك بما كتبت إليّ فيه [من أمره] ، ولم أعلمه بكتابك إليّ، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك، مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب لله عليك، والسلام. وكتب عليّ إلى ابن عباس: أما بعد، فإنه قد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت الله، وأخزيت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين. بلغني أنك جردت «1» الأرض وأكلت ما تحت يدك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام. فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فإن كل الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي ضابط، وعليه حافظ، فلا تصدق عليّ الظنين، والسلام. فكتب إليه عليّ: أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية: من أين أخذته؟ وما وضعت منها: أين وضعته؟ فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك إياه، فإن المتاع بما أنت رازمه «2» قليل، وتباعته وبيلة لا تبيد، والسلام. فلما رأى أن عليا غير مقلع عنه كتب إليه: أما بعد، فإنه بلغني تعظيمك عليّ

مرزئة مال بلغك أني رزأته «1» أهل هذه البلاد، وأيم الله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها «2» ومخبئها، وبما على ظهرها من طلاعها «3» ذهبا، أحبّ إليّ من أن ألقى الله وقد سفكت دماء هذه الأمة لأنال بذلك الملك والإمرة. ابعث إلى عملك من أحببت، فإني ظاعن، والسلام. فلما أراد عبد الله المسير من البصرة دعا أخواله بني هلال بن عامر بن صعصعة ليمنعوه، فجاء الضحاك بن عبد الله الهلالي فأجاره، ومعه رجل منهم يقال له عبد الله بن رزين، وكان شجاعا بئيسا «4» ؛ فقالت بنو هلال: لا غنى بنا عن هوازن فقالت هوازن: لا غنى بنا عن سليم. ثم أتتهم قيس، فلما رأى اجتماعهم له حمل ما كان في بيت مال البصرة، وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف، فجعله في الغرائر. قال: فحدثني الأزرق اليشكري، قال: سمعت أشياخنا من أهل البصرة قالوا: لما وضع المال في الغرائر ثم مضى به، تبعته الأخماس كلها بالطفّ «5» ، على أربعة فراسخ من البصرة، فواقفوه، فقالت لهم قيس: والله لا تصلون إليه ومنا عين تطرف. فقال صبرة [بن شيمان] ، وكان رأس الأزد: والله إن قيسا لإخوتنا في الإسلام، وجيراننا في الدار، وأعواننا على العدوّ وإن الذي تذهبون به من المال لو ردّ عليكم لكان نصيبكم منه الأقلّ، وهو [غدا] خير لكم من المال. قالوا: فما ترى؟ قال: انصرفوا عنهم. فقال بكر بن وائل وعبد القيس: نعم الرأي رأي صبرة واعتزلوهم. فقالت بنو تميم: والله لا نفارقهم حتى نقاتلهم عليه. فقال الأحنف بن قيس: أنتم والله أحق أن لا تقاتلوهم عليه، وقد ترك قتالهم من هو أبعد منكم رحما! قالوا: والله لنقاتلنهم! فقال: والله لا أساعدكم على قتالهم. وانصرف عنهم.

فقدموا عليهم ابن مجاعة فقاتلهم، فحمل عليه الضحاك بن عبد الله فطعنه في كتفه فصرعه، فسقط إلى الأرض بغير قتل. وحمل سلمة بن ذؤيب السعدي على الضحاك فصرعه أيضا، وكثرت بينهم الجراح من غير قتل. فقال الأخماس الذين اعتزلوا: والله ما صنعتم شيئا، اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يتشاجرون. فجاؤا حتى صرفوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم: والله إن هذا للؤم قبيح، لنحن أسخى أنفسا منكم حين تركنا أموالنا لبني عمكم وأنتم تقاتلونهم عليها، خلوا عنهم وأرواحهم، فإن القوم فدحوا «1» . فانصرفوا عنهم. ومضى معه ناس من قيس، فيهم الضحاك بن عبد الله، وعبد الله بن رزين، حتى قدموا الحجاز فنزل مكة، فجعل راجز لعبد الله بن عباس يسوق له في الطريق ويقول: صبّحت من كاظمة القصر الخرب ... مع ابن عباس بن عبد المطلب «2» وجعل ابن عباس يرتجز ويقول: آوي إلى أهلك يا رباب ... آوي فقد حان لك الإياب وجعل أيضا يرتجز ويقول: وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن يصدق الطير ننك لميسا «3» فقال له: يا أبا العباس، أمثلك يرفث «4» في هذا الموضع؟ قال: إنما الرفث ما يقال عند النساء. قال أبو محمد: فلما نزل مكة اشترى من عطاء بن جبير مولى بني كعب من جواريه ثلاث مولدات حجازيات يقال لهن: شادن، وحوراء، وفتون، بثلاثة آلاف دينار.

وقال سليمان بن أبي راشد عن عبد الله بن عبيد عن أبي الكنود، قال: كنت من أعوان عبد الله بالبصرة، فلما كان من أمره ما كان أتيت عليا فأخبرته فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ «1» . ثم كتب علي إليه: أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، [وجعلتك شعاري وبطانتي] ، ولم يكن من أهل بيتي رجل أوثق عندي منك، لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة [إليّ] ؛ فلما رأيت الزمان قد كلب على ابن عمك، والعدوّ قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فنكت [وشغرت] ، قلبت لابن عمّك ظهر المجن «2» ، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان وخنته مع من خان، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة إليه أدّيت؛ كأنك لم تكن على بينة من ربّك، و [كأنك] إنما كنت [تكيد] أمة محمد عن دنياهم، و [تنوي] غرّتهم عن فيتهم، فلما أمكنتك الفرصة في خيانة الأمة، أسرعت الغدرة، وعاجلت الوثبة، فاختطفت ما قدرت عليه من أموالهم، وانقلبت بها إلى الحجاز، كأنك إنما حزت على أهلك ميراثك من أبيك وأمك؛ سبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراما، وتشرب حراما، وتشتري الإماء وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين في سبيل الله التي أفاء الله عليهم؟ فاتق الله وأدّ إلى القوم أموالهم: فإنك والله لئن لم تفعل وأمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك: فو الله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما، والسلام. فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فقد بلغني كتابك تعظّم عليّ أمانة المال الذي أصبت من بيت مال

مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

البصرة، ولعمري إنّ حقي في بيت مال الله أكثر من الذي أخذت! والسلام. فكتب إليه عليّ: أما بعد، فإن العجب كل العجب منك إذ ترى لنفسك في بيت مال الله أكثر مما لرجل من المسلمين؛ قد أفلحت إن كان تمنّيك الباطل وادعاءك ما لا يكون، ينجيك من الإثم ويحلّ لك ما حرم الله عليك؛ عمرك الله! إنك لأنت البعيد، وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا، وضربت بها عطنا «1» ، تشتري المولدات من المدينة والطائف، وتختارهن على عينك، وتعطي بهن مال غيرك؛ وإني أقسم بالله وربك ربّ العزة ما أحب أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أدعه ميراثا لعقبى، فما بال اغتباطك به تأكله حراما. ضحّ رويدا، فكأنك قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي فيه المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيّع التوبة والظالم الرجعة! فكتب إليه ابن عباس: والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملّته إلى معاوية يقاتلك به. فكفّ عنه عليّ. مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه سفيان بن عيينة قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج بالليل إلى المسجد، فقال أناس من أصحابه: نخشى أن يصيبه بعض عدوّه، ولكن تعالوا نحرسه. فخرج ذات ليلة فإذا هو بنا، فقال: ما شأنكم؟ فكتمناه، فعزم علينا، فأخبرناه، فقال: تحرسوني من أهل السماء أو من أهل الأرض؟ قلنا: من أهل الأرض. قال: إنه ليس يقضى في الأرض حتى يقضى في السماء! التميمي بإسناد له قال: لما تواعد ابن ملجم وصاحباه بقتل عليّ ومعاوية وعمرو

ابن العاص، دخل ابن ملجم المسجد في بزوغ الفجر الأول، فدخل في الصلاة تطوّعا، ثم افتتح في القراءة وجعل يكرر هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «1» فأقبل ابن أبي طالب بيده مخفقة «2» وهو يوقظ الناس للصلاة ويقول: أيها الناس، الصلاة الصلاة. فمرّ بابن ملجم وهو يردّد هذه الآية، فظن عليّ أنه ينسى فيها، ففتح عليه فقال.. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «3» ثم انصرف علي وهو يريد أن يدخل الدار، فاتبعه فضربه على قرنه «4» ، ووقع السيف في الجدار فأطار فدرة «5» من آخره، فابتدره الناس فأخذوه، ووقع السيف منه، فجعل يقول: أيها الناس، احذروا السيف فإنه مسموم! قال: فأتي به علي، فقال: احبسوه ثلاثا وأطعموه واسقوه، فإن أعش أر فيه رأيي، وإن أمت فاقتلوه ولا تمثّلوا به، فمات من تلك الضربة، فأخذه عبد الله بن جعفر فقطع يديه ورجليه، فلم يفزع، ثم أراد قطع لسانه ففزع؛ فقيل له: لم لم تفزع لقطع يديك ورجليك وفزعت لقطع لسانك؟ قال: إني أكره أن تمرّ بي ساعة لا أذكر الله فيها! ثم قطعوا لسانه وضربوا عنقه. وتوجه الخارجي الآخر إلى معاوية فلم يجد إليه سبيلا. وتوجه الثالث إلى عمرو فوجده قد أغفل تلك الليلة فلم يخرج إلى الصلاة، وقدّم مكانه رجلا يقال له خارجة فضربه الخارجي بالسيف وهو يظنه عمرو بن العاص، فقتله؛ فأخذه الناس فقالوا: قتلت خارجة! قال: أو ليس عمرا؟ قالوا له: لا! قال: أردت عمرا وأراد الله خارجة! وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعلي: ألا أخبرك بأشد الناس عذابا يوم القيامة؟ قال: أخبرني يا رسول الله. قال: فإن أشد الناس عذابا يوم القيامة: عاقر ناقة ثمود، وخاضب لحيتك بدم رأسك!

خلافة الحسن بن علي

وقال كثيّر عزة. ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة العهد أربعة سواء عليّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء «1» فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء تغيّب لا يرى عنهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء قال الحسن بن علي صبيحة الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثني أبي البارحة في هذا المسجد، فقال: يا بني، إني صليت البارحة ما رزق الله، ثم نمت نومة فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال لي: ادع الله أن يريحك منهم. فدعوت الله! قال الحسن صبيحة تلك الليلة: أيها الناس، إنه قتل فيكم الليلة رجل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعثه فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا ينثني حتى يفتح الله له، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم. خلافة الحسن بن علي ثم بويع للحسن بن علي- أمه فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم- في شهر رمضان سنة أربعين من التاريخ، فكتب إليه ابن عباس: إن الناس قد ولّوك أمرهم بعد علي؛ فاشدد عن يمينك وجاهد عدوك، واستر من الظّنين ذنبه بما لا يثلم دينك، واستعمل أهل البيوتات، تستصلح بهم عشائرهم ... ثم اجتمع الحسن بن علي ومعاوية بمسكن من أرض السواد من ناحية الأنبار، واصطلحا، وسلم الحسن الأمر إلى معاوية، وذلك في شهر جمادي الأولى سنة إحدى وأربعين، ويسمى عام الجماعة.

معاوية

فكانت ولاية الحسن سبعة أشهر وسبعة أيام. ومات الحسن في المدينة سنة تسع وأربعين، وهو ابن ست وأربعين سنة؛ وصلى عليه سعيد بن العاص وهو والي المدينة، وأوصى أن يدفن مع جده في بيت عائشة، فمنعه مروان بن الحكم، فردوه إلى البقيع. وقال هريرة لمروان: علام تمنع أن يدفن مع جده؟ فلقد أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة» فقال له مروان: لقد ضيّع حديث نبيه إذ لم يروه غيرك. قال: أما إنك إذ قلت ذلك: لقد صحبته حتى عرفت من أحبّ ومن أبغض، ومن نفى ومن أقرّ، ومن دعا له ومن دعا عليه! ولما بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ خرّ ساجدا لله، ثم أرسل إلى ابن عباس وكان معه في الشام، فعزاه وهو مستبشر، وقال له. ابن كم سنة مات أبو محمد؟ فقال له: سنه كان يسمع في قريش، فالعجب من أن يجهله مثلك. قال: بلغني أنه ترك أطفالا صغارا. قال: كل ما كان صغيرا يكبر، وإن طفلنا لكهل، وإنّ صغيرنا لكبير! ثم قال: ما لي أراك يا معاوية مستبشرا بموت الحسن بن علي؟ فو الله لا ينسأ في أجلك، ولا يسدّ حفرتك؛ وما أقلّ بقاءنا بعده! ثم خرج ابن عباس؛ فبعث إليه معاوية ابنه يزيد، فقعد بين يديه فعزّاه واستعبر لموت الحسن، فلما ذهب أتبعه ابن عباس بصره وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب الحلم من الناس. [معاوية] خلافة معاوية ثم اجتمع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة؛ فبايعه أهل الأمصار كلها، وكتب بينه وبين الحسن كتابا وشروطا، ووصله بأربعين ألفا.

فضائل معاوية

وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة، أنه قال له: والله لأجيزنّك بجائزة ما أجزت بها أحدا قبلك، ولا أجيز بها أحدا بعدك! فأمر له بأربعمائة ألف. هو: معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكنيته أبو عبد الرحمن. وأمه هند ابنة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ومات معاوية بدمشق يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين- وصلّى عليه الضحاك بن قيس- وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، ويقال: ابن ثمانين سنة. كانت ولايته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة وعشرين يوما. صاحب شرطته: يزيد بن الحارث العبسي، وعلى حرسه- وهو أوّل من اتخذ حرسا- رجل من الموالي يقال له المختار، وحاجبه سعد مولاه، وعلى القضاء أبو إدريس الخولاني. وولد له عبد الرحمن وعبد الله، من فاختة بنت قرظة؛ أما عبد الرحمن فمات صغيرا، وأما عبد الله فمات كبيرا، وكان ضعيفا، ولا عقب له من الذكور؛ وكان له بنت يقال لها عاتكة، تزوّجها يزيد بن عبد الملك، وفيها يقول الشاعر: يا بيت عاتكة الذي أتغزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل ويزيد بن معاوية، وأمّه ابنة بحدل، كلبية. فضائل معاوية ذكر عمرو بن العاص معاوية، فقال: احذروا قرم قريش وابن كريمها من يضحك عند الغضب، ولا ينام إلا على الرضا، ويتناول ما فوقه من تحته. سئل عبد الله بن عباس عن معاوية، فقال: سما بشيء أسرّه، واستظهر بشيء أعلنه، فحاول ما أسر بما أعلن فناله، وكان حلمه قاهرا لغضبه، وجوده غالبا على منعه، يصل ولا يقطع، ويجمع ولا يفرّق، فاستقام له أمره وجرى إلى مدته.

قيل: فأخبرنا عن ابنه. قال: كان في خير سبيله، وكان أبوه قد أحكمه؛ وأمره ونهاه، فتعلق بذلك وسلك طريقا مطلّلا له. وقال معاوية: لم يكن في الشباب شيء إلا كان مني فيه مستمتع، غير أني لم أكن صرعة» ولا نكحة «2» ولا سبّا. قال الأصمعي: السّب: كثير السباب. ميمون بن مهران قال: كان أول من جلس بين الخطبتين معاوية، وأول من وضع شرف العطاء ألفين معاوية. وقال معاوية: لا زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معاوية، إذا ملكت فأحسن. العتبي عن أبيه قال: قال معاوية لقريش: ألا أخبركم عني وعنكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنا أطير إذا وقعتم، وأقع إذا طرتم، ولو وافق طيراني طيرانكم سقطنا جميعا. وقال معاوية: لو أنّ بيني وبين الناس عشرة ما انقطعت أبدا. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. وقال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية قطّ إلا في أمر واحد: طلبت رجلا من عمالي كسر عليّ الخراج فلجأ إليه، فكتبت إليه: إنّ هذا فساد عملي وعملك. فكتب إليّ: إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس سياسة واحدة؛ لا نلين جميعا فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتدّ جميعا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدّة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.

أخبار معاوية

أخبار معاوية قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة، فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة ابنة عثمان وبكت ونادت أباها؛ فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلّا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني ابنة عمّ أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس! القحذمي قال: لما قدم معاوية المدينة قال: أيها الناس، إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فنال منها ونالت منها، وأما أنا فمالت بي وملت بها، وأنا ألينها فهي أمّي وأنا ابنها، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم. ثم نزل. قال جويرية بن أسماء: نال بسر بن أرطأة من علي بن أبي طالب عند معاوية، وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلا بسرا ضربا حتى شجه؛ فقال معاوية: يا زيد، عمدت إلى شيخ [من] فريش سيد أهل الشام فضربته! وأقبل على بسر وقال: تشتم عليا وهو جدّه، وأبوه الفاروق، على رءوس الناس! أفكنت تراه يصبر على شتم عليّ؟ وكانت أمّ زيد: أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب. ولما قدم معاوية مكة، وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني إنه قلّما ولدت حرّة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته؟ ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا، فرفعهم سبقهم، وقصّر بنا تأخّرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة؛

وقد قلدوك جسيما من أمرهم، فلا تخالفنّ رأيهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه! قال معاية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ. العتبى عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قدم الشام على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب نبيل، فجاوز عمر حتى أخبر، فرجع إليه، فلما قرب منه نزل [إليه] فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل! فأقبل عليه عمر، فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك؟ قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبهة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. قال: لئن كان الذي قلت حقا فإنه رأي أريب «1» ، ولئن كان باطلا فإنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه. قال: لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشمناه. وقال معاوية لابن الكواء. يا ابن الكواء، أنشدك الله ما علمك فيّ؟ قال: أنشدني الله، ما أعلمك إلا واسع الدنيا ضيّق الآخرة! ولما مات الحسن بن علي، حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقيل له: إن ههنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا، فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك، فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثم لا أعود إليه! فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد، فلما مات لعنه على المنبر

وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا. فكتبت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى معاوية: إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها. وقال بعض العلماء لولده: يا بنيّ، إن الدنيا لم تبن شيئا إلا هدمه الدين، وإن الدّين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، ألا ترى أن قوما لعنوا عليا ليخفضوا منه فكأنما أخذوا بناصيته جرّا إلى السماء! ودخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره، فقال: وسّع له على ترابيّة فيه! فقال صعصعة: إني والله لترابي، منه خلقت، وإليه أعود، ومنه أبعث؛ وإنك لمارج «1» من مارج من نار! العتبي عن أبيه: قال معاوية يوما لعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟ قال: غلبة من لا حقّ له ذا الحق على حقه. قال معاوية: أعجب من ذلك أن يعطى من لا حقّ له ما ليس له بحقّ من غير غلبة! وقال معاوية: أعنت على عليّ بأربعة، كنت أكتم سرّي، وكان رجلا يظهره؛ وكنت في أصلح جند وأطوعه، وكان في أخبث جند وأعصاه؛ وتركته وأصحاب الجمل وقلت: إن ظفروا به كانوا أهون عليّ منه، وإن ظفر بهم اغتر بها في دينه! وكنت أحبّ إلى قريش منه؛ فيالك من جامع إليّ ومفرّق عنه! العتبي قال: أراد معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة «2» ، فكره ذلك يزيد، فأبى معاوية إلا أن يفعل، فكتب إليه يزيد يقول:

نجيّ لا يزال يعد ذنبا ... لتقطع وصل حبلك من حبالي «1» فيوشك أن يريحك من أذاتي ... نزولي في المهالك وارتحالي وتجهز للخروج، فلم يتخلف عنه أحد، حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم. قال العتبي: وحدثني أبو إبراهيم قال: أرسل معاوية إلى ابن عباس، قال: يا أبا العباس، إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقرّبك، وتشير عليه برأيك؛ ولا يدخل الناس بينك وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه؛ وأقلّ من ذكر حقك، فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبا، وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره، مع أنه صائر إليك، وكل آت قريب، ولتجدنّا إذا كان ذلك خيرا لكم منا. فقال ابن عباس: والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد، وأما ما سألتني من الكف عن ذكر حقي، فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني. ولئن صار هذا الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك، لا يرى أهلك إلا ما يحبون. قال: فخرج يزيد، فلما صار على الخليج «2» ثقل أبو أيوب الأنصاري فأتاه يزيد عائدا، فقال: ما حاجتك أبا أيوب؟ فقال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن قدّمني ما استطعت في بلاد العدو، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «يدفن عند سور القسطنطينية رجل صالح؛ أرجو أن أكون هو! ... » . فلما مات أمر يزيد بتكفينه، وحمل على سريره، ثم أخزج الكتائب، فجعل قيصر يرى سريرا يحمل والناس يقتتلون فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أرى؟

طلب معاوية البيعة ليزيد

قال: صاحب نبينا، وقد سألنا أن نقدمه في بلادك، ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله. فأرسل إليه: العجب كل العجب! كيف يدهّي «1» الناس أباك وهو يرسلك فتعمد إلى صاحب نبيك فتدفنه في بلادنا، فإذا ولّيت أخرجناه إلى الكلاب؟ فقال يزيد: إني والله ما أردت أن أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، ولئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثّل به لا تركت بأرض العرب نصرانيا إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها! فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك، فوحقّ المسيح لأحفظنّه بيدي سنة فلقد بلغني أنه بنى على قبره قبّة يسرج فيها إلى اليوم. طلب معاوية البيعة ليزيد أبو الحسن المدائني قال: لما مات زياد، وذلك سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهدا مفتعلا فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وإنما أراد أن يسهل بذلك بيعة يزيد، فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطي الأقارب ويداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس فقال؛ لعبد الله بن الزبير: ما ترى في بيعة يزيد؟ قال: يا أمير المؤمنين إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم، وتفكّر قبل أن تندّم، فإن النظر قبل التقدّم، والتفكر قبل التندم. فضحك معاوية وقال: ثعلب رواغ! تعلمت السجع عن الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك. ثم التفت إلى الأحنف فقال: ما ترى في بيعة يزيد؟

قال: نخافكم إن صدّقناكم، ونخاف الله إن كذبنا. فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم، وكان فيمن وقد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية وقال له: ما ترى في بيعة يزيد؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إليّ رشدا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسطا في الحسب، وإن الله سائل كلّ راع عن رعيته، فاتق الله وانظر من تولّي أمة محمد. فأخذ معاوية بهر «1» حتى تنفس الصعداء وذلك في يوم شات، ثم قال: يا محمد، إنك امرؤ ناصح قلت برأيك، ولم يكن عليك إلا ذاك. قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم؛ اخرج عني! ثم جلس معاوية في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فكان أول من تكلم الضحاك بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك، والأنفس يغدى عليها ويراح، وإن الله قال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «2» ، ولا ندري ما يختلف به العصران؛ ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن معدنه وقصد «3» سيرته، من أفضلنا حلما وأحكمنا علما، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، فإنا قد بلونا الجماعة والألفة، فوجدناها أحقن للدماء، وآمن للسبل، وخيرا في العاقبة والآجلة. ثم تكلم عمرو بن سعيد فقال: أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع إذا صرتم إلى عدله وسعكم، وإن طلبتم رفده أغناكم؛ جدع قارح «4» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه. فقال: اجلس أبا أمية، فلقد أوسعت وأحسنت.

ثم قام يزيد بن المقنّع فقال: أمير المؤمنين هذا- وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا- وأشار إلى يزيد- فمن أبي فهذا- وأشار إلى سيفه: فقال معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء. ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا، ولهذه الأمة، فلا تشاور الناس فيه؛ وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة. قال: فتفرق الناس ولم يذكروا إلا كلام الأحنف. قال: ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية، فقال رجل وقد دعي إلى البيعة: اللهم إني أعوذ بك من شرّ معاوية. فقال له معاوية: تعوّذ من شرّ نفسك، فإنه أشدّ عليك، وبايع. قال: إني أبايع وأنا كاره للبيعة. قال له معاوية: بايع أيها الرجل، فإن الله يقول: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً «1» . ثم كتب إلى مروان بن الحكم عامله على المدينة أن ادع أهل المدينة إلى بيعة يزيد؛ فإن أهل الشام والعراق قد بايعوا. فخطبهم مروان فحضّهم على الطاعة وحذّرهم الفتنة، ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال: سنة أبي بكر الهادية المهدية. فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر: كذبت، إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة وبايع لرجل من بني عدي رضي دينه وأمانته، واختاره لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم. فقال مروان: أيها الناس، إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ

لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي «1» . فقال له عبد الرحمن: يا بن الزرقاء، أفينا تتأوّل القرآن؟ وتكلم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر وأنكروا بيعة يزيد، وتفرق الناس. فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فخرج معاوية إلى المدينة في ألف، فلما قرب منها تلقاه الناس، فلما نظر إلى الحسين قال: مرحبا بسيد شباب المسلمين، قرّبوا دابة لأبي عبد الله. وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبا بشيخ قريش وسيّدها وابن الصدّيق. وقال لابن عمر: مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق. وقال لابن الزبير: مرحبا بابن جواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمته، ودعا لهم بدوابّ فحملهم عليها، وخرج حتى أتى مكة فقضى حجّه. ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله «2» فقدّمت، وأمر بالمنبر فقرّب من الكعبة، وأرسل إلى الحسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير، فاجتمعوا وقالوا لابن الزبير: اكفنا كلامه. فقال: علي أن لا تخالفوني. قالوا: لك ذلك. ثم أتوا معاوية، فرحب بهم وقال لهم قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم؛ ويزيد أخوكم وابن عمّكم، وإنما أردت أن أقدّمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون: فسكتوا، وتكلم ابن الزبير، فقال: نخيّرك بين إحدى ثلاث، أيّها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار: إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبضه الله ولم يستخلف [أحدا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر] ؛ فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم؛ وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه

الأذنين، من كان لها أهلا؛ وإن شئت فما صنع عمر، صيّرها إلى ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا. قال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا. ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير. فقال معاوية: إني أتقدم إليكم وقد أعذر من أنذر إني قائل مقالة، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقي إلا عليها. وأمر أن يقوم على رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يرد بها عليه قوله قتلاه، وخرج وأخرجهم معه حتى رقي المنبر، وحف به أهل الشام واجتمع الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، قالوا: إن حسينا وابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم: لا نبرم أمرا دونهم، ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم؛ وإني دعوتهم فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا وسلّموا وأطاعوا. فقال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ ائذن لنا فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية: فقال معاوية: سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالشرّ، وأحلى دماءهم عندهم! أنصتوا، فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوا، ثم قرّبت رواحله فركب ومضى. فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم! قالوا: لم نفعل. قالوا: بلى، قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟

وفاة معاوية

قالوا: خفنا القتل، وكادكم بنا وكادنا بكم «1» . وفاة معاوية عن الهيثم بن عدي قال: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا الضحاك بن قيس الفهري، ومسلم بن عقبة المري، فقال: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر إلى أهل الحجاز، فهم أصلك وعترتك؛ فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله، فإنّ عزل عامل واحد أهون من سلّ مائة ألف سيف، [ثم] لا تدري على من تكون الدائرة؛ ثم انظر إلى أهل الشام، فاجعلهم الشعار دون الدثار «2» ؛ فإن رابك من عدوّك ريب فارمه بهم، ثم اردد أهل الشام إلى بلدهم ولا يقيموا في غيره فيتأدّبوا بغير أدبهم؛ لست أخاف عليك إلا ثلاثة: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر. فأما الحسين ابن علي فأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه؛ وأما ابن الزبير فإنه خبّ ضب «3» ، فإن ظفرت به فقطّعه إربا إربا؛ وأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذه «4» الورع، فخلّ بينه وبين آخرته يخلّ بينك وبين دنياك. ثم أخرج إلى يزيد بريدا بكتاب يستقدمه ويستحثه، فخرج مسرعا، فتلقاه يزيد فأخبره بموت معاوية، فقال يزيد: جاء البريد بقرطاس يخبّ به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنّ أغبر من أركانها انقلعا ثمّ انبعثنا إلى خوص مزمّمة ... نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا «5»

فما نبالي إذا بلّغن أرحلنا ... ما مات منهنّ بالموماة أو ظلعا أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كذاك كنّا جميعا قاطنين معا أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا لا يرقع الناس ما أوهى ولو جهدوا ... أن يرقعوه، ولا يوهون ما رقعا قال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: سرق هذين البيتين من الأعشى. ابن دأب قال: لما هلك معاوية خرج الضحاك بن قيس الفهري وعلى عاتقه ثياب حتى وقف إلى جانب المنبر، ثم قال: أيها الناس، إن معاوية كان إلف العرب وملكها؛ فأطفأ الله به الفتنة وأحيا به السنة، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها ومخلّون بينه وبين ربه؛ فمن أراد حضوره صلاة الظهر فليحضره. وصلّى عليه الضحاك بن قيس الفهري، ثم قدم يزيد من يومه ذلك، فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فقال: اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا «1» لارزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبي كعقباكا «2» أصبحت راعي أهل الأرض كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا فافتتح الخطباء الكلام. ثم دخل يزيد فأقام ثلاثة أيام لا يخرج للناس، ثم خرج وعليه أثر الحزن، فصعد المنبر، وأقبل الضحاك فجلس إلى جانب المنبر، وخاف عليه الحصر، فقال له يزيد: يا ضحاك، أجئت تعلّم بني عبد شمس الكلام؟ ثم قام خطيبا فقال:

يزيد بن معاوية

الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن معاوية بن أبي سفيان كان حبلا من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمدّه، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه، وكان دون من قبله، وخيرا ممن يأتي بعده، ولا أزكّيه وقد صار إلى ربه، فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعذبه فبذنبه؛ وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا أني عن طلب؛ وعلى رسلكم، إذا كره الله شيئا غيّره وإذا أراد شيئا يسّره. [يزيد بن معاوية] خلافة يزيد بن معاوية وسنه وصفته هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف؛ وأمّه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة أحد بني حارثة بن جناب، وكنيته أبو خالد. وكان آدم جعدا مهضوما، أحور العين، بوجهه آثار جدري، حسن اللحية خفيفها. ولي الخلافة في رجب سنة ستين. ومات في النصف من شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستين، ودفن بحوّارين خارجا من المدينة. وكانت ولايته أربع سنين وأياما. وكان على شرطته: حميد بن حريث بن بحدل. وكاتبه وصاحب أمره: سرجون بن منصور. وعلى القضاء: أبو إدريس الخولاني. وعلى الخراج: مسلمة بن حديدة الأزدي. أولاد يزيد «1» معاوية، وخالد، وأبو سفيان، أمّهم فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة؛ وعبد الله، وعمر، وأمهما أمّ كلثوم ابنة عبد الله بن عباس. وكان عبد الله ولده ناسكا، وولده خالد عالما، لم يكن في بني أمية أزهد من هذا ولا أعلم من هذا.

مقتل الحسين بن علي

الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: أبوها خليفة، وجدّها معاوية خليفة، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة، وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة، وأربّاؤها: الوليد وسليمان وهشام، خلفاء. مقتل الحسين بن علي عليّ بن عبد العزيز قال: قرأ عليّ أبو عبيد القاسم بن سلام وأنا أسمع، فسألته: نروي عنك كما قريء عليك؟ قال: نعم، قال أبو عبيد: لما مات معاوية بن أبي سفيان وجاءت وفاته إلى المدينة، وعليهما يومئذ الوليد بن عتبة، فأرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، فدعاهما إلى البيعة ليزيد، فقالا: بالغد إن شاء الله على رءوس الناس. وخرجا من عنده، فدعا الحسين برواحله فركبها وتوجه نحو مكة على المنهج الأكبر، وركب ابن الزبير برذونا «1» له وأخذ طريق العرج حتى قدم مكة؛ ومر حسين حتى أتى على عبد الله بن مطيع وهو على بئر له، فنزل عليه، فقال للحسين: يا أبا عبد الله، لا سقانا الله بعدك ماء طيبا، أين تريد؟ قال: العراق! قال: سبحان الله! لم؟ قال: مات معاوية، وجاءني أكثر من حمل صحف. قال لا تفعل أبا عبد الله، فو الله ما حفظوا أباك وكان خيرا منك، فكيف يحفظونك؟ وو الله لئن قتلت لا بقيت حرمة بعدك إلا استحلّت! فخرج حسين حتى قدم مكة، فأقام بها هو وابن الزبير. قال: فقدم عمرو بن سعيد في رمضان أميرا على المدينة والموسم، وعزل الوليد بن عتبة؛ فلما استوى على المنبر رعف «2» ، فقال أعرابيّ: مه! جاءنا والله بالدم! قال: فتلقاه رجل بعمامته، فقال: مه! عم الناس والله! ثم قام فخطب، فناولوه عصا لها شعبتان، فقال: تشعب الناس والله! ثم خرج إلى مكة، فقدمها قبل التروية «3» بيوم.

ووفدت الناس للحسين يقولون: يا أبا عبد الله، لو تقدّمت فصليت بالناس فأنزلتهم بدارك! إذ جاء المؤذن فأقام الصلاة، فتقدّم عمرو بن سعيد فكبر، فقيل للحسين: اخرج أبا عبد الله إذ أبيت أن تتقدّم. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل. قال: فصلى، ثم خرج، فلما انصرف عمرو بن سعيد بلغه أنّ حسينا قد خرج، فقال: اطلبوه، اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه! قال: فعجب الناس من قوله هذا، فطلبوه، فلم يدركوه. وأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عونا ومحمدا ليردّا حسينا، فأبى حسين أن يرجع وخرج بابني عبد الله بن جعفر معه. ورجع عمرو بن سعد إلى المدينة، وأرسل إلى ابن الزبير ليأتيه، فأبى أن يأتيه، وامتنع ابن الزبير برجال من قريش وغيرهم من أهل مكة، قال: فأرسل عمرو بن سعد لهم جيشا من المدينة، وامّر عليهم عمرو بن الزبير أخا عبد الله بن الزبير، وضرب على أهل الديوان البعث الى أهل مكة وهم كارهون للخروج، فقال: إما أن تأتوني بأدلّاء وإما أن تخرجوا. قال: فبعثهم إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير، فانهزم عمرو بن الزبير وأسره أخوه عبد الله فحبسه في السجن. وقد كان بعث الحسين بن علي مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى أهل الكوفة ليأخذ بيعتهم، وكان على الكوفة حين مات معاوية، فقال: يأهل الكوفة، ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحبّ إلينا من ابن بنت بحدل. قال: فبلغ ذلك يزيد؛ فقال: يأهل الشام، أشيروا عليّ، من أستعمل على الكوفة؟ فقالوا: ترضى من رضي به معاوية؟ قال: نعم. قيل له: فإنّ الصك بإمارة عبيد الله بن زياد على العراقين قد كتب في الديوان. فاستعمله على الكوفة، فقدمها قبل أن يقدم حسين. وبايع مسلم بن عقيل أكثر من ثلاثين ألفا من أهل الكوفة، وخرجوا معه يريدون

عبيد الله بن زياد، فجعلوا كلما انتهوا إلى زقاق انسل منهم ناس، حتى بقي في شرذمة قليلة. قال: فجعل الناس يرمونه بالآجرّ من فوق البيوت؛ فلما رأى ذلك دخل دار هانيء بن عروة المرادي، وكان له شرف ورأي؛ فقال له هانيء: إن لي من ابن زياد مكانا، وإني سوف أتمارض، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه. قال: فبلغ ابن زياد أنّ هانيء بن عروة مريض يقيء الدم، وكان شرب المغرة «1» فجعل يقيئها، فجاء ابن زياد يعوده وقال هانيء: إذا قلت لكم اسقوني، فاخرج إليه فاضرب عنقه- يقولها لمسلم بن عقيل- فلما دخل ابن زياد وجلس، قال هانيء: اسقوني! فتثبّطوا عليه، فقال: ويحكم! اسقوني ولو كان فيه نفسي! قال: فخرج ابن زياد ولم يصنع الآخر شيئا. قال: وكان أشجع الناس ولكن أخذ بقلبه. وقيل لابن زياد ما أراده هانيء، فأرسل إليه، فقال: إني شاك لا أستطيع. فقال: ائتوني به وإن كا شاكيا. فأسرجت له دابة فركب ومعه عصا. وكان أعرج، فجعل يسير قليلا قليلا، ثم يقف ويقول: ما أذهب إلى ابن زياد، حتى دخل على ابن زياد فقال له: يا هانيء، أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال بلى: قال: ويدي؟ قال: بلى. ثم قال له هانيء: قد كانت له عندي ولأبيك وقد آمنتك في نفسك ومالك. قال: اخرج. فخرج، فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كسرها، ثم قدّمه فضرب عنقه. وأرسل إلى مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بسيفه؛ فما زال يقاتلهم حتى أثخنوه بالجراح، فأسروه. وأتي به ابن زياد فقدمه ليضرب عنقه. فقال له: دعني حتى أوصي. فقال له: أوص. فنظر في وجوه الناس، فقال لعمر بن سعد: ما أرى قريشا هنا غيرك فادن مني حتى أكلمك. فدنا منه، فقال له هل لك أن تكون سيد قريش ما كانت قريش؟ إن حسينا ومن معه- وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة- في الطريق؛

فارددهم واكتب لهم بما أصابني. ثم ضرب عنفه، فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ قال اكتم على ابن عمك! قال: هو أعظم من ذلك قال: وما هو؟ قال: قال لي: إن حسينا أقبل [ومن معه] وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة؛ فارددهم واكتب إليه بما أصابني. فقال له ابن زياد: أما والله- إذ دللت عليه- لا يقاتله أحد غيرك! قال: فبعث معه جيشا وقد جاء حسينا الخبر وهم بشراف «1» ، فهمّ بأن يرجع ومعه خمسة من بني عقيل، فقالوا: ترجع وقد قتل أخونا وقد جاءك من الكتب ما تثق به؟ فقال الحسين لبعض أصحابه: والله مالي على هؤلاء من صبر. قال: فلقيه الجيش على خيولهم وقد نزلوا بكربلاء؛ فقال حسين: أي أرض هذه؟ قالوا: كربلاء. قال: أرض كرب وبلاء!. وأحاطت بهم الخيل، فقال الحسين لعمر بن سعد: يا عمر، اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تتركني أرجع كما جئت، وإما أن تسيّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده، وإما أن تسيّرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت!. فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمّ أن يسيّره إلى يزيد، فقال له شمر بن ذي الجوشن: أمكنك الله من عدوّك فتسيّره! لا، إلا أن ينزل على حكمك فأرسل إليه بذلك؛ فقال الحسين: أنا أنزل على حكم ابن مرجانة؟ والله لا أفعل ذلك أبدا! قال: وأبطأ عمر عن قتاله، فأرسل ابن زياد إلى شمر بن ذي الجوشن، وقال له: إن تقدم عمر وقاتل، وإلا فاتركه وكن مكانه. قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلا من أهل الكوفة؛ فقالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث خصال، فلا تقبلوا منها شيئا؟ فتحولوا مع الحسين فقاتلوا [معه] .

ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن علي وكان من أجمل الناس فقال: لأقتلن هذا الفتى! فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به؟ دعه. فأبى، وحمل عليه فضربه بالسيف فقتله، فلما أصابته الضربة قال: يا عماه! قال: لبيك صوتا قل ناصره، وكثر واتره «1» ! وحمل الحسين على قاتله فقطع يده، ثم ضربه ضربه أخرى فقتله، ثم اقتتلوا. علي بن عبد العزيز قال: حدثني الزبير قال: حدثني محمد بن الحسن قال: لما نزل عمر بن سعد بالحسين وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واشمعلّت «2» ، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء الأخنس «3» عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا ينهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله فإني لا أرى الموت إلا سعادة، و [لا] الحياة مع الظالمين إلا ذلا وبرما «4» ! وقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بالطّف من شاطيء الفرات بموضع يدعى كربلاء. وولد لخمس ليال من شعبان سنة أربع من الهجرة. وقتل وهو ابن ست وخمسين سنة، وهو صابغ بالسواد، قتله سنان بن أبي أنس، وأجهز عليه خولة بن يزيد الأصبحي من حمير، وحزّ رأسه وأتى به عبيد الله وهو يقول: أوقر ركابي فضّة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجّبا خير عباد الله أمّا وأبا

فقال له عبيد الله بن زياد: إذا كان خير الناس أما وأبا وخير عباد الله، فلم قتلته؟ قدّموه فاضربوا عنقه! فضربت عنقه. روح بن زنباع عن أبيه عن الغاز بن ربيعة الجرشي قال: إني لعند يزيد بن معاوية إذ أقبل زحر بن قيس الجعفي حتى وقف بين يدي يزيد، فقال: ما وراءك يا زحر؟ فقال: أبشرك يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، قدم علينا الحسين في سبعة عشر رجلا من أهل بيته، وستين رجلا من شيعته، فبرزنا إليهم وسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير أو القتال، فأبوا إلا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطناهم من كل ناحية، حتى أخذت السيوف مأخذها من هام الرجال فجعلوا يلوذون منا بالآكام والحفر كما يلوذ الحمام من الصقر، فلم يكن إلا نحر جزور أو قوم» قائم، حتى أتينا على آخرهم: فهاتيك أجسامهم مجزّرة «2» ، وهامهم مرمّلة «3» ، وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح بقاع سبسب، زوّارهم العقبان والرخم «4» ! قال: فدمعت عينا يزيد، وقال: لقد كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحسين. لعن الله ابن سمية! أما والله لو كنت صاحبه لتركته، رحم الله أبا عبد الله وغفر له. علي بن عبد العزيز عن محمد بن الضحاك بن عثمان الخزاعي عن أبيه، قال: خرج الحسين إلى الكوفة ساخطا لولاية يزيد بن معاوية، فكتب يزيد إلى عبيد الله ابن زياد وهو واليه بالعراق: إنه بلغني أن حسينا سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت به من بين العمال، وعنده تعتق أو تعود عبدا.

فقتله عبيد الله وبعث برأسه وثقله «1» إلى يزيد، فلما وضع الرأس بين يديه تمثل بقول حصين بن الحمام المري: يفلّقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما فقال له علي بن الحسين، وكان في السبي: كتاب الله أولى بك من الشعر، يقول الله: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «2» . فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته، ثم قال: غير هذا من كتاب الله أولى بك وبأبيك، قال الله. وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «3» ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء. فقال له رجل: لا تتخذ من كلب سوء جروا. قال النعمان بن بشير الأنصاري: انظر ما كان يصنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم لو رآهم في هذه الحالة فاصنعه بهم. قال: صدقت، خلوا عنهم واضربوا عليهم القباب وأمال عليهم المطبخ وكساهم وأخرج إليهم جوائز كثيرة، وقال: لو كان بين ابن مرجانة وبينهم نسب ما قتلهم: ثم ردّهم إلى المدينة. الرياشي قال: أخبرني محمد بن أبي رجاء قال: أخبرني أبو معشر عن يزيد بن زياد عن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أتي بنا يزيد بن معاوية بعد ما قتل الحسين ونحن اثنا عشر غلاما. وكان أكبرنا يومئذ علي بن الحسين، فأدخلنا عليه، وكان كل واحد منا مغلولة يده إلى عنقه، فقال لنا: أحرزت «4» أنفسكم عبيد أهل

العراق، وما علمت بخروج أبي عبد الله ولا بقتله. أبو الحسن المدائني عن إسحاق عن إسماعيل بن سفيان عن أبي موسى عن الحسن البصري، قال: قتل مع الحسين ستة عشر من أهل بيته، والله ما كان على الأرض يومئذ أهل بيت يشبّهون بهم. وحمل أهل الشام بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبايا على أحقاب «1» الإبل. فلما أدخلن على يزيد، قالت فاطمة ابنة الحسين: يا يزيد، أبنات رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبايا؟ قال: بل حرائر كرام، ادخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلن، قالت فاطمة: فدخلت إليهن، فما وجدت فيهن سفيانية إلا متلدّمة «2» تبكي، وقالت بنت عقيل بن أبي طالب ترثي الحسين ومن أصيب معه: عيني أبكي بعبرة وعويل ... واندبي إن ندبت آل الرسول ستة كلهم لصلب عليّ ... قد أصيبوا وخمسة لعقيل ومن حديث أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، قالت: كان عندي النبي صلّى الله عليه وسلم ومعي الحسين، فدنا من النبي صلّى الله عليه وسلم، فأخذته، فبكى فتركته، فدنا منه، فأخذته، فبكى فتركته؛ فقال له جبريل: أتحبه يا محمد؟ قال: نعم! قال: أما إنّ أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها! فبسط جناحه، فأراه منها، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. محمد بن خالد قال: قال إبراهيم النخعي: لو كنت فيمن قتل الحسين ودخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: لقيت رأس الجالوت «3» ، فقال: إن بيني وبين داود سبعين أبا، وإن اليهود إذا رأوني عظموني وعرفوا حقي وأوجبوا حفظي؛ وإنه ليس بينكم وبين نبيكم إلا أب واحد قتلتم ابنه!

ابن عبد الوهاب عن يسار بن عبد الحكم قال: انتهب عسكر الحسين فوجد فيه طيب، فما تطيبت به امرأة إلا برصت «1» . جعفر بن محمد عن أبيه قال: بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وهم صغار، ولم يبايع قطّ صغير إلّا هم. عليّ بن عبد العزيز عن الزبير عن مصعب بن عبد الله قال: حجّ الحسين خمسة وعشرين حجة ملبيا ماشيا. وقيل لعليّ بن الحسين: ما كان أقلّ ولد أبيك، قال العجب كيف ولدت له! كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرغ للنساء؟ يحيى بن إسماعيل عن الشعبي أن سالما قال: قيل لأبي عبد الله بن عمر: إن الحسين توجه إلى العراق. فلحقه على ثلاث مراحل من المدينة- وكان غائبا عند خروجه- فقال: أين تريد؟ فقال: أريد العراق. وأخرج إليه كتب القوم، ثم قال: هذه بيعتهم وكتبهم. فناشده الله أن يرجع، فأبى، فقال: أحدّثك بحديث ما حدّثت به أحدا قبلك: إن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلم يخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة «2» منه، فو الله لا يليها أحد من أهل بيته أبدا؛ وما صرفها الله عنكم إلا لما هو خير لكم؛ فارجع، فأنت تعرف غدر أهل العراق وما كان يلقي أبوك منهم. فأبى، فاعتنقه وقال: استودعتك الله من قتيل. وقال الفرزدق: خرجت أريد مكة، فإذا بقباب مضروبة وفساطيط، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: للحسين. فعدلت إليه فسلمت عليه، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من العراق. قال كيف تركت الناس؟ قلت: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من السماء!

تسمية من قتل مع الحسين بن علي رضي الله عنهما من أهل بيته ومن أسر منهم

تسمية من قتل مع الحسين بن عليّ رضي الله عنهما من أهل بيته ومن أسر منهم قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن أبي معشر قال: قتل الحسين بن علي، وقتل معه عثمان بن علي، وأبو بكر بن علي، وجعفر بن علي، والعباس بن علي. وكانت أمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وإبراهيم بن علي، لأم ولد له، وعبد الله بن حسن، وخمسة من بني عقيل بن أبي طالب، وعون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، وثلاثة من بني هاشم، فجميعهم سبعة عشر رجلا. وأسر اثنا عشر غلاما من بني هاشم: فيهم محمد بن الحسين، وعلي بن الحسين وفاطمة بنت الحسين؛ فلم تقم لبنى حرب قائمة حتى سلبهم الله ملكهم. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: جنّبني دماء أهل هذا البيت، فإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين. حديث الزهريّ في قتل الحسين رضي الله عنه حدثنا أبو محمد عبد الله بن ميسرة قال: حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال: حدثنا حماد بن عيسى الجهني عن عمر بن قيس، قال: سمعت ابن شهاب الزهري يحدث عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ... قال حماد بن عيسى: وحدثني به عباد بن بشر عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . وقالا: قال الزهري: خرجت مع قتيبة أريد المصيصة «1» ، فقدمنا على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإذا هو قاعد في إيوان له، وإذا سماطان «2» من الناس على

باب الإيوان فإذا أراد حاجة قالها للذي يليه، حتى تبلغ المسألة باب الإيوان، ولا يمشي أحد بين السماطين؛ قال الزهري: فجئنا فقمنا على باب الإيوان؛ فقال عبد الملك للذي عن يمينه: هل بلغكم أي شيء أصبح في بيت المقدس ليلة قتل الحسين بن علي؟ قال: فسأل كلّ واحد منهما صاحبه حتى بلغت المسألة الباب، فلم يرد أحد فيها شيئا. قال الزهري: فقلت: عندي في هذا علم. قال: فرجعت المسألة رجلا عن رجل حتى انتهت إلى عبد الملك. قال: فدعيت، فمشيت بين السماطين، فلما انتهيت إلى عبد الملك سلمت عليه: فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، قال: فعرفني بالنسب، وكان عبد الملك طلّابة للحديث، فعرّفته، فقال: ما أصبح ببيت المقدس يوم قتل الحسين بن علي بن أبي طالب؟ - وفي رواية علي بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد الله عن أبي معشر عن محمد بن عبد الله بن سعيد بن العاص عن الزهري، أنه قال: الليلة التي قتل في صبيحتها الحسين بن علي؟ - قال الزهري: نعم، حدّثني فلان- لم يسمّه لنا- أنه لم يرفع تلك الليلة التي صبيحتها قتل الحسين بن علي بن أبي طالب، حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط «1» . قال عبد الملك: صدقت، حدّثني الذي حدّثك، وإني وإياك في هذا الحديث لغريبان. ثم قال لي: ما جاء بك؟ قلت: جئت مرابطا. قال: الزم الباب. فأقمت عنده، فأعطاني مالا كثيرا. قال: فاستأذنته في الخروج إلى المدينة، فأذن لي ومعي غلام لي، ومعي مال كثير في عيبة «2» ، ففقدت العيبة، فاتهمت الغلام، فوعدته وتوعّدته، فلم يقرّ لي بشيء. قال: فصرعته وقعدت على صدره، ووضعت مرفقي على صدره، وغمزته «3» غمزة وأنا لا أريد قتله، فمات تحتي. وسقط في يدي، فقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب، وأبا عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، فكلهم قال: لا نعلم لك توبة!

وقعة الحرة

فبلغ ذلك عليّ بن الحسين، فقال: عليّ به. فأتيته فقصصت عليه القصة، فقال: إنّ لذنبك توبة: ضم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة مؤمنة، وأطعم ستين مسكينا. ففعلت. ثم خرجت أريد عبد الملك وقد بلغه أني أتلفت المال، فأقمت ببابه أياما لا يؤذن لي بالدخول، فجلست إلى معلم لولده، وقد حذق ابن لعبد الملك عنده، وهو يعلّمه ما يتكلم به بين يدي أمير المؤمنين إذا دخل عليه، فقلت لمؤدّبه: ما تأمل من أمير المؤمنين أن يصلك به؛ فلك عندي ذلك على أن تكلّم الصبيّ إذا دخل على أمير المؤمنين، فإذا قال له: سل حاجتك، يقول له: حاجتي أن ترضى عن الزهري. ففعل، فضحك عبد الملك وقال: أين هو؟ قال: بالباب. فأذن لي فدخلت، حتى إذا صرت بين يديه، قلت: يا أمير المؤمنين، حدّثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . وقعة الحرّة أبو اليقظان قال: لما حضرت معاوية الوفاة دعا يزيد، فقال: إن لك من أهل المدينة يوما، فإذا فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفنا نصيحته. فلما كان سنة ثلاث وستين، قدم عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة عاملا عليها ليزيد بن معاوية، وأوفد على يزيد وفدا من رجال المدينة، فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، ومعه ثمانية بنين، فأعطاه مائة ألف، وأعطى بنيه كلّ رجل منهم عشرة آلاف، سوى كسوتهم وحملانهم «1» ؛ فلما قدم عبد الله بن حنظلة المدينة، أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم! قالوا: فإنه قد بلغنا أنه أكرمك وأجازك وأعطاك!

قال: قد فعل، وما قبلت ذلك منه إلا أن أتقوى به عليه. أي على قتال يزيد. وحضّ الناس على يزيد، فأجابوه، فكتب عثمان بن محمد إلى يزيد بما أجمع عليه أهل المدينة من الخلاف، فكتب إليهم يزيد بن معاوية. بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد؛ ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ «1» وإني قد لبستكم فأخلقتكم ورفعتكم على رأسي، ثم على عيني، ثم على فمي، ثم علي بطني؛ والله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقلّ بها عددكم، وأترككم بها أحاديث؛ تنتسخ أخباركم مع أخبار عاد وثمود! فلما أتاهم كتابه حمي القوم، فقدّمت الأنصار عبد الله بن حنظلة على أنفسهم وقدّمت قريش عبد الله بن مطيع؛ ثم أخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة، ومروان بن الحكم، وكلّ من كان بها من بني أمية؛ وكان عبد الله بن عباس بالطائف، فسأل عنهم فقيل له: استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة على الأنصار. فقال: أميران! هلك القوم! ولما بلغ يزيد ما فعلوا، أمر بقبة فضربت له خارجا عن قصره، وقطع «2» البعوث على أهل الشام، فلم تمض ثالثة حتى توافت «3» الحشود، فقدّم عليهم مسلم بن عقبة المري، فتوجه إليهم- وقد عمد أهل المدينة فأخرجوا إلى كل ماء لهم بينهم وبين الشام فصبّوا فيه زقاّ من قطران وغوّروه «4» ؛ فأرسل الله عليهم المطر، فلم يستقوا شيئا حتى وردوا المدينة. قال أبو اليقظان وغيره: إن يزيد بن معاوية ولى مسلم بن عقبة وهو قد اشتكى، فقال له: إن حدث بك حدث فاستعمل حصين بن نمير.

فخرج حتى قدم المدينة، فخرج إليه أهلها في عدة وهيئة وجموع كثيرة لم ير مثلها؛ فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم؛ فأمر مسلم بن عقبة بسريره فوضع بين الصفين وهو عليه مريض وأمر مناديا ينادي: قاتلوا عن أميركم أو دعوه فجدّ الناس في القتال، فسمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، فإذا قد اقتحم عليهم بنو حارثة أهل الشام وهم على الجدّ، فانهزم الناس، وعبد الله بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغط نوما، فلما فتح عينيه فرأى ما صنعوا أمر أكبر بنيه! فتقدم حتى قتل، فلم يزل يقدم واحدا واحدا حتى أتي على آخرهم، ثم كسر غمد سيفه، وقاتل حتى قتل! ودخل مسلم بن عقبة المدينة، وتغلب على أهلها، ثم دعاهم إلى البيعة على أنهم خول «1» ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم؛ فبايعوا حتى أتي بعبد الله بن زمعة، فقال له: بايع على أنك خول لأمير المؤمنين يحكم في مالك ودمك وأهلك! قال: لن أبايع على أني بزعم أمير المؤمنين يحكم في دمي ومالي وأهلي. فقال مسلم بن عقبة: اضربوا عنقه. فوثب مروان بن الحكم فضمّه إليه وقال: نبايعك على ما أحببت. فقال: لا والله لا أقيلها إياه أبدا؛ إن تنّحي وإلّا فاقتلوهما جميعا، فتركه مروان، وضرب عنقه. وهرب عبد الله بن مطيع حتى لحق بمكة، فكان بها حتى قتل مع عبد الله بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان، وجعل يقاتل أهل الشام وهو يقول: أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والشّيخ لا يفرّ إلّا مرّة فاليوم أجزي كرّة بفرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه أبو عقيل الدّورقي قال: سمعت أبا نضرة يحدث، قال: دخل أبو سعيد الخدري يوم الحرّة في غار، فدخل عليه رجل من أهل الشام، وفي عنق أبي سعيد السيف،

فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ «1» بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين! فقال: أبو سعيد الخدريّ أنت؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي! قال: غفر الله لك. وأمر مسلم بن عقبة بقتل معقل بن سنان الأشجعي صبرا، ومحمد بن أبي الجهم العدويّ صبرا. وكان جميع من قتل يوم الحرة من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال، ومن الموالي وغيرهم أضعاف هؤلاء. وبعث مسلم بن عقبة برءوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما ألقيت بين يديه جعل يتمثل بقول ابن الزبعرى يوم أحد: ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلّوا واستهلّوا فرحا ... ولقالوا ليزيد لا فشل فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين! قال: بلى نستغفر الله. قال: والله لا ساكنتك أرضا أبدا. وخرج عنه. ولما انقضى أمر الحرّة توجه مسلم بن عقبة بمن معه من أهل الشام إلى مكة يريد ابن الزبير وهو ثقيل، فلما كان بالأبواء «2» حضره أجله. فدعا حصين بن نمير، فقال له: إني أرسلت إليك، فلا أدري أقدّمك على هذا الجيش، أو أقدمك فأضرب عنقك! قال: أصلحك الله، أنا سهمك، فارم بي حيث شئت. قال: إنك اعرابي جلف «3» جاف، وإنّ هذا الحي من قريش لم يمكنهم أحد قط من أذنه إلا غلبوه على رأيه، فسر بهذا الجيش، فإذا لقيت القوم، فإياك أن تمكنهم من أذنك، لا يكن إلا على الوقاف «4» ، ثم الثقاف «5» ، ثم الانصراف.

وفاة يزيد بن معاوية

ومات مسلم بن عقبة لا رحمه الله، ومضى حصين بن نمير بجيشه ذلك، فلم يزل محاصرا لأهل مكة حتى مات يزيد، لا رحمه الله؛ وذلك خمسون يوما ونصب المجانيق على الكعبة وأحرقها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأوّل سنة أربع وستين، وفيها مات يزيد بن معاوية بحوّارين. وفاة يزيد بن معاوية مات يزيد بن معاوية بحوّارين من بلاد حمص، وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد ابن معاوية ليلة البدر في شهر ربيع الأول. وأم يزيد: ميسون بنت بحدل الكلبي. ومات وهو ابن ثمان وثلاثين سنة. وكانت ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما. خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية واستخلف معاوية بن يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، ومات بعد أبيه بأربعين يوما، ولم يزل مريضا طول ولايته، لا يخرج من بيته، فلما حضرته الوفاة قيل له: لو عهدت إلى رجل من أهل بيتك واستخلفت خليفة! قال: لم أنتفع بها حيّا فلا أقلّدها ميتا؛ لا يذهب بنو أمية بحلاوتها وأتجرّع مرارتها؛ ولكن إذا متّ فليصلّ عليّ الوليد بن عتبة، وليصل بالناس الضحاك بن قيس، حتى يختار الناس لأنفسهم. فلما مات صلى عليه الوليد بن عتبة، وصلى بالناس الضحاك بن قيس بدمشق، حتى قامت دولة بني مروان. فتنة ابن الزبير قال عليّ بن عبد العزيز: حدّثنا أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر، قال: لما مات مسلم بن عقبة سار حصين بن نمير، حتى أتى مكة وابن الزبير بها، فدعاهم إلى الطاعة فلم يجيبوه، فقاتلهم، وقاتله ابن الزبير؛ فقتل المنذر بن الزبير يومئذ ورجلان من

إخوته، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، والمسور بن مخرمة؛ وكان حصين بن نمير قد نصب المجانيق «1» على أبي قبيس وعلى قعيقعان «2» ، فلم يكن أحد يقدر أن يطوف بالبيت؛ فأسند ابن الزبير ألواحا من ساج على البيت، وألقى عليها الفرش والقطائف «3» ، فكان إذا وقع عليها الحجر» نبا عن البيت، فكانوا يطوفون تحت تلك الألواح، فإذا سمعوا أصوات الحجر حين يقع على الفرش والقطائف كبّروا؛ وكان ابن الزبير قد ضرب فسطاطا «5» في ناحية، فكلما جرح رجل من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط، فجاء رجل من أهل الشام بنار في طرف سنانه، فأشعلها في الفسطاط، وكان يوما شديد الحرّ، فتمزق الفسطاط، فوقعت النار على الكعبة فاحترق الخشب والسقف، وانصدع الركن واحترقت الأستار وتساقطت إلى الأرض. قال: ثم اقتتلوا مع أهل الشام أياما بعد حريق الكعبة. قال أبو عبيد: احترقت الكعبة يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين، فجلس أهل مكة في جانب الحجر ومعهم ابن الزبير، وأهل الشام يرمونهم بالنبل والحجارة، فوقعت نبلة بين يدي ابن الزبير، فقال: في هذه خير! فأخذها فوجد فيها مكتوبا: مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة خلت من ربيع الأول. فلما قرأ ذلك قال: يا أهل الشام، يا أعداء الله، ومحرقي بيت الله، علام تقاتلون وقد مات طاغيتكم! فقال حصين بن نمير: موعدك البطحاء «6» الليلة أبا بكر. فلما كان الليل، خرج ابن الزبير بأصحابه، وخرج حصين بأصحابه إلى البطحاء،

ثم ترك كلّ واحد منهما أصحابه، وانفردا فنزلا؛ فقال حصين: يا أبا بكر، أنا سيد أهل الشام لا أدافع، وأرى أهل الحجاز قد رضوا بك؛ فتعال أبايعك الساعة ويهدر كل شيء أصبناه يوم الحرّة، وتخرج معي إلى الشام، فإني لا أحب أن يكون الملك بالحجاز. فقال: لا والله لا أفعل، ولا آمن من أخاف الناس وأحرق بيت الله وانتهك حرمته! قال: بل فافعل على أن لا يختلف عليك اثنان. فأبى ابن الزبير؛ فقال له حصين: لعنك الله ولعن من زعم أنك سيد، والله لا تفلح أبدا! اركبوا يا أهل الشام. فركبوا وانصرفوا. أبو عبيد عن الحجّاج عن أبي معشر قال: حدّثنا بعض المشيخة الذين حضروا قتال ابن الزبير، قال: غلب حصين بن نمير على مكة كلها إلا الحجر، قال: فو الله إني لجالس عنده ومعه نفر من القرشيين: عبد الله بن مطيع، والمختار بن أبي عبيد، والمسور بن مخرمة، والمنذر بن الزبير، إذ هبّت رويحة «1» ؛ فقال المختار: والله إني لأرى في هذه الرويحة النصر، فاحملوا عليهم. فحملوا عليهم حتى أخرجوهم من مكة، وقتل المختار رجلا، وقتل ابن مطيع رجلا. ثم جاءنا على أثر ذلك موت يزيد بعد حريق الكعبة بإحدى عشرة ليلة. وانصرف حصين بن نمير وأصحابه إلى الشام، فوجدوا معاوية بن يزيد قد مات ولم يتسخلف، وقال: لا أتحملها حيا وميتا. فلما مات معاوية بن يزيد، بايع أهل الشام كلهم ابن الزبير، إلا أهل الأردن؛ وبايع أهل مصر أيضا ابن الزبير، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام. فلما رأى ذلك رجال بني أمية وناس من أشراف أهل الشام ووجوههم، منهم روح بن زنباع وغيره، قال بعضهم لبعض: إنّ الملك كان فينا أهل الشام، فانتقل عنا إلى الحجاز؛ لا نرضى بذلك؛ هل لكم أن تأخذوا رجلا منا فينظر في هذا الأمر. فقال [روح بن زنباع] : استخيروا الله. قال: فرأى القوم أنه غلام

دولة بني مروان ووقعة مرج راهط

حدث السنّ فخرجوا من عنده وقالوا: هذا حدث. فأتوا عمرو بن سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر. فرأوه حدثا، فجاءوا إلى خالد بن يزيد ابن معاوية، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر. فرأوه حدثا حريصا على هذا الأمر؛ فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حدث. فأتوا مروان بن الحكم، فإذا عنده مصباح، وإذا هم يسمعون صوته بالقرآن، فاستأذنوا ودخلوا عليه، فقالوا: يا أبا عبد الملك، ارفع رأسك لهذا الأمر. فقال: استخيروا الله، واسألوا أن يختار لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلم خيرها وأعدلها. فقال له روح بن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا آمرهم أن يتقدّموا في المسجد غدا، ومر أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليه؛ فإذ فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت، صدقت! فيظنّ الناس أنّ أمرهم واحد ... فلما اجتمع الناس، قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده، لقد شابت ذراعاه من الكبر. فقال الجذاميون: صدقت صدقت! فقال خالد بن يزيد: أمر دبّر بليل. فبايعوا مروان بن الحكم، ثم كان من أمره مع الضحاك بن قيس بمرج راهط ما سيأتي ذكره بعد هذا في دولة بني مروان. دولة بني مروان ووقعة مرج راهط أبو الحسن قال: لما مات معاوية بن يزيد، اختلف الناس بالشام، فكان أول من خالف من أمراء الأجناد النعمان بن بشير الأنصاري، وكان على حمص فدعا لابن الزبير، فبلغ خبره زفر بن الحرث الكلابي وهو بقنّسرين، فدعا إلى ابن الزبير أيضا بدمشق سرا، ولم يظهر ذلك لمن بها من بني أمية وكلب؛ وبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بحدل الكلبي وهو بفلسطين؛ فقال لروح بن زنباع: إني أرى أمراء الأجناد يبايعون

لابن الزبير، وأبناء قيس بالأردن كثير، وهم قومي، فأنا خارج إليها وأقم أنت بفلسطين، فإنّ جل أهلها قومك من لخم وجذام، فإن خالفك أحد فقاتله بهم. فأقام روح بفلسطين، وخرج حسان إلى الأردن، فقام ناتل بن قيس الجذامي فدعا إلى ابن الزبير، وأخرج روح بن زنباع من فلسطين، ولحق بحسان بالأردن فقال حسان: يا أهل الأردن، قد علمتم أن ابن الزبير في شقاق ونفاق وعصيان لخلفاء الله. ومفارقة لجماعة المسلمين؛ فانظروا رجلا من بني حرب فبايعوه فقالوا: اختر لنا من شئت من بني حرب، وجنّبنا هذين الرجلين الغلامين: عبد الله وخالدا ابني يزيد بن معاوية؛ فإنا نكره أن يدعو الناس إلى شيخ، ونحن ندعو إلى صبيّ. وكان هوى حسان في خالد بن يزيد، وكان ابن أخته؛ فلما رموه بهذا الكلام أمسك، وكتب إلى الضحاك بن قيس كتابا يعظم فيه بني أمية وبلاءهم عنده، ويذم ابن الزبير ويذكر خلافه للجماعة، وقال لرسوله: اقرأ الكتاب على الضحاك بمحضر بني أمية وجماعة الناس. فلما قرأ كتاب حسان، تكلم الناس فصاروا فرقتين، فصارت اليمانية مع بني أيمة، والقيسية زبيرية، ثم اجتلدوا «1» بالنعال، ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف، حتى حجر بينهم خالد بن يزيد، ودخل الضحاك دار الإمارة فلم يخرج ثلاثة أيام. وقدم عبيد الله بن زياد فكان مع بني أمية بدمشق، فخرج الضحاك بن قيس إلى المرج- مرج راهط- فسعكر فيه، وأرسل إلى أمراء الأجناد فأتوه، إلا ما كان من كلب؛ ودعا مروان إلى نفسه، فبايعته بنو أمية، وكلب، وغسان، والسكاسك وطيّ؛ فعسكر في خمسة آلاف، وأقبل عباد بن يزيد من حوران في ألفين من مواليه وغيرهم من بني كلب، فلحق بمروان وغلب يزيد بن أبي نمس على دمشق فأخرج منها عامل الضحاك، وأمر مروان برجال وسلاح كثير. وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد، فقدم عليه زفر بن الحرث من قنسرين وأمده النعمان بن بشير بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، فتوافوا عند الضحاك بمرج

راهط، فكان الضحاك في ستين ألفا، ومروان في ثلاثة عشر ألفا، أكثرهم رجالة، وأكثر أصحاب الضحاك ركبان؛ فاقتتلوا بالمرج عشرين يوما، وصبر الفريقان، وكان على ميمنة الضحاك زياد بن عمرو بن معاوية العقيلي، وعلى ميسرته بكر بن أبي بشير الهلالي: فقال عبيد الله بن زياد لمروان: إنك على حق، وابن الزبير ومن دعا إليه على الباطل، وهم أكثر منا عددا وعددا، ومع الضحاك فرسان قيس؛ واعلم أنك لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة، وإنما الحرب خدعة، فادعهم إلى الموادعة، فإذا أمنوا وكفّوا عن القتال فكرّ عليهم. فأرسل مروان السّفراء إلى الضحاك يدعوه إلى الموادعة ووضع الحرب حتى ننظر. فأصبح الضحاك والقيسية قد أمسكوا عن القتال، وهم يطمعون أن يبايع مروان لابن الزبير، وقد أعد مروان أصحابه، فلم يشعر الضحاك وأصحابه إلا والخيل قد شدت عليهم، ففزع الناس إلى راياتهم من غير استعداد وقد غشيتهم الخيل، فنادى الناس: أبا أنيس، أعجز بعد كيس «1» ، وكنية الضحاك: أبو أنيس، فاقتتل الناس، ولزم الناس راياتهم، فترجّل مروان وقال: قبح الله من ولاهم اليوم ظهره حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين. فقتل الضحاك بن قيس، وصبرت قيس عند راياتها يقاتلون، فنظر رجل من بني عقيل إلى ما تلقى قيس عند راياتها من القتل، فقال: اللهم العنها من رايات! واعترضها بسيفه، فجعل يقطعها، فإذا سقطت الراية تفرق أهلها، ثم انهزم الناس فنادى منادي مروان: لا تتبعوا من ولّاكم اليوم ظهره. فزعموا أن رجالا من قيس لم يضحكوا بعد يوم المرج، حتى ماتوا جزعا على من أصيب من فرسان قيس يومئذ، فقتل من قيس يومئذ ممن كان يأخذ شرف العطاء، ثمانون رجلا، وقتل من بني سليم ستمائة، وقتل لمروان ابن يقال له عبد العزيز، وشهد مع الضحاك يوم مرج راهط عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان، فلما انهزم الناس، قال له عبيد الله بن زياد: ارتدف «2» خلفي. فارتدف، فأراد عمرو بن سعيد أن يقتله،

فقال له عبيد الله بن زياد: ألا تكف يا لطيم الشيطان؟ وقال زفر بن الحارث وقد قتل ابناه يوم المرج: لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعا بيّنا متنائيا «1» فلم تر مني زلة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيّ ورائيا أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا أنترك كلبا لم تنلها رماحنا ... وتذهب قتلى راهط وهي ماهيا وقد تنبت الخضراء في دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا فلا صلح حتى تدعس الخيل بالقنا ... وتثأر من أبناء كلب نسائيا «2» فلما قتل الضحاك وانهزم الناس: نادى مروان أن لا يتّبع أحد، ثم أقبل إلى دمشق فدخلها، ونزل دار معاوية بن أبي سفيان دار الإمارة؛ ثم جاءته بيعة الأجناد فقال له أصحابه: إنا لا نتخوف عليك إلا خالد بن يزيد، فتزوّج أمّه؛ فإنك تكسره بذلك- وأمه ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة- فتزوجها مروان، فلما أراد الخروج إلى مصر قال لخالد: أعرني سلاحا إن كان عندك. فأعاره سلاحا. وخرج إلى مصر، فقاتل أهلها وسبى بها ناسا كثيرا، فافتدوا منه ثم قدم الشام. فقال له خالد بن يزيد: ردّ عليّ سلاحي. فأبى عليه، فألح عليه خالد، فقال له مروان، وكان فحاشا: يا بن رطبة الاست! قال: فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما قاله مروان على رءوس أهل الشام، فقالت له: لا عليك، فإنه لا يعود إليك بمثلها. فلبث مروان بعد ما قال لخالد ما قال أياما، ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها فأمرت جواريها فطرحن عليه الوسائد ثم غطته حتى قتلته، ثم خرجن فصحن وشققن ثيابهن: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين!

ولاية عبد الملك بن مروان

ثم قام عبد الملك بالأمر بعده، فقال لفاخته أم خالد: والله لولا أن يقول الناس إني قتلت بأبي امرأة لقتلتك بأمير المؤمنين. وولد مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بمكة. ومات بالشام لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه ابنه عبد الملك بن مروان. وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما. وكان على شرطته يحيى بن قيس الشيباني. وكاتبه سرجون بن منصور الرومي. وحاجبه أبو سهل الأسود مولاه. ولاية عبد الملك بن مروان هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية، ويكنى؛ أبا الوليد ويقال له أبو الأملاك؛ وذلك أنه ولي الخلافة أربع من ولده: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام. وكان تدمى لثته فيقع عليها الذباب، فكان يلقب: أبا الذباب. أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية. وله يقول ابن قيس الرقيات: أنت ابن عائشة التي ... فضلت أروم نسائها «1» لم نلتفت للداتها ... ومضت على غلوائها ولدت أغرّ مباركا ... كالشمس وسط سمائها وبويع عبد الملك بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين. ومات بدمشق للنصف من شوال سنة ست وثمانين؛ وهو ابن ثلاث وستين سنة، فصلى عليه الوليد بن عبد الملك.

وولد عبد الملك بالمدينة سنة ثلاث وعشرين، ويقال سنة ست وعشرين، ويقال ولد لسبعة أشهر. وكان على شرطته: ابن أبي كبيشة السكسكي، ثم أبو نائل بن رباح بن عبيدة الغساني ثم عبد يزيد الحكمي، وعلى حرسه: الريان. وكاتبه على الخراج والجند: سرجون بن منصور الرومي، وكاتبه على الرسائل: أبو زرعة مولاه، وعلى الخاتم: قبيصة بن ذؤيب، وعلى بيوت الأموال والخزائن: رجاء بن حيوة. وحاجبه أبو يوسف مولاه. ومات عبد الملك سنة ست وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه الوليد ابنه. وكانت ولايته منذ اجتمع عليه ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر. ودفن خارج باب المدينة. وفي أيام عبد الملك حوّلت الدواوين إلى العربية عن الرومية والفارسية حوّلها من الرومية سليمان بن عسد مولى خشين، وحوّلها عن الفارسية صالح بن عبد الرحمن مولى عتبة، امرأة من بني مرة، ويقال حوّلت في زمن الوليد. ابن وهب عن ابن لهيعة قال: كان معاوية فرض للموالي خمسة عشر، فبلغهم عبد الملك عشرين، ثم بلغهم خمسة وعشرين، ثم قام هشام فأتم للأبناء منهم ثلاثين. وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان كتابه إليه يقول: لعبد الملك بن مروان من عبد الله بن عمر، سلام عليك؛ فاني أقررت لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم. وبيعة نافع مولاي على مثل ما بايعتك عليه.

وكتب محمد بن الحنفية ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان في كتابه: إني اعتزلت الأمة عند اختلافها، فقعدت في البلد الحرام الذي من دخله كان آمنا، لأحرز ديني، وأمنع دمي، وتركت الناس قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا «1» . وقد رأيت الناس قد اجتمعوا عليك، ونحن عصابة من أمتنا لا نفارق الجماعة؛ وقد بعثت إليك منا رسولا ليأخذ لنا منك ميثاقا، ونحن أحق بذلك منك، فإن أبيت فأرض الله واسعة، والعاقبة للمتقين. فكتب إليه عبد الملك: قد بلغني كتابك بما سألته من الميثاق لك وللعصابة التي معك، فلك عهد الله وميثاقه أن لا تهاج في سلطاننا، غائبا ولا شاهدا ولا أحد من أصحابك ما وفوا ببيعتهم، فإن أحببت المقام بالحجاز فأقم، فلن ندع صلتك وبرّك؛ وإن أحببت المقام عندنا فاشخص إلينا، فلن ندع مواساتك؛ ولعمري لئن ألجأناك إلى الذهاب في الأرض خائفا لقد ظلمناك وقطعنا رحمك؛ فاخرج إلى الحجاج فبايع، فإنك أنت المحمود عندنا دينا ورأيا، وخير من ابن الزبير وأرضي وأتقى. وكتب إلى الحجاج بن يوسف: لا تعرض لمحمد ولا لأحد من أصحابه. وكان في كتابه: جنّبني دماء بني عبد المطلب؛ فليس فيها شفاء من الحرب «2» ؛ وإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي. فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيين في أيامه. أبو الحسن المدائني قال: كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم.

وخطب الناس عبد الملك فقال: أيها الناس إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف- يريد عثمان بن عفان- ولا بالخليفة المداهن- يريد معاوية بن أبي سفيان- ولا بالخليفة المأفون «1» - يريد يزيد بن معاوية- فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا! ثم نزل. وخطب عبد الملك على المنبر فقال: أيها الناس، إن الله حد حدودا، وفرض فروضا؛ فما زلتم تزدادون في الذنب ونزداد في العقوبة، حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف! أبو الحسن المدائني قال: قدم عمر بن أبي طالب على عبد الملك، فسأله أن يصيّر إليه صدقة علي، فقال عبد الملك متمثلا بأبيات ابن أبي الحقيق: إني إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السّامع للقائل واعتلج الناس بآرائهم ... نقضي بحكم عادل فاصل «2» لا نجعل الباطل حقاّ ولا ... نرضى بدون الحقّ للباطل لا، لعمري لا نخرجها من ولد الحسين إليك. وأمر له بصلة، ورجع. وقال عبد الملك بن مروان لأيمن بن خريم: إن أباك وعمك كانت لهما صحبة؛ فخذ هذا المال فقاتل ابن الزبير. فأبى، فشتمه عبد الملك، فخرج وهو يقول: فلست بقاتل رجلا يصلّي ... على سلطان آخر من قريش له سلطانه وعليّ إثمي ... معاذ الله عن سفه وطيش وقال أيمن بن خريم أيضا: إنّ للفتنة هيطا بيّنا ... فرويد الميل منها يعتدل «3» فإذا كان عطاء فانتهز ... وإذا كان قتال فاعتزل إنما يوقدها فرسانها ... حطب النار فدعها تشتعل

وقال زفر بن الحارث لعبد الملك بن مروان: الحمد لله الذي نصرك على كرّه من المؤمنين. فقال أبو زعيزعة: ما كره ذلك إلا كافر. فقال زفر: كذبت، قال الله لنبيه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ «1» . وبعث عبد الملك بن مروان إلى المدينة حبيش بن دلجة القيني في سبعة آلاف فدخل المدينة وجلس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا بخبز ولحم فأكل، ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر، ثم دعا جابر بن عبد الله صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: تبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعهد الله عليك وميثاقه، وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه في الوفاء، فإن خنتنا فهراق «2» الله دمك على ضلاله. قال: أنت أطوق لذلك مني، ولكن أبايعه على ما بايعت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية، على السمع والطاعة. ثم خرج ابن دلجة من يومه ذلك إلى الربذة، وقدم على أثره من الشام رجلان مع كل واحد منهما جيش، ثم اجتمعوا جميعا في الرّبذة، وذلك في رمضان سنة خمس وستين وأميرهم ابن دلجة. وكتب ابن الزبير إلى العباس بن سهل الساعدي بالمدينة أن يسير إلى حبيش بن دلجة، فصار حتى لقيه بالربذة. وبعث الحراث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وهو عامل ابن الزبير على البصرة، مددا إلى العباس بن سهل: حنيف بن السّجف في تسعمائة من أهل البصرة، فساروا حتى انتهوا إلى الربذة. فبات أهل البصرة وأهل المدينة يقرءون القرآن ويصلّون، وبات أهل الشام في المعازف والخمور؛ فلما أصبحوا غدوا على القتال، فقتل حبيش بن دلجة ومن معه، فتحصن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على عمود الربذة، وهو الجبل الذي عليها،

خبر المختار بن أبي عبيد

وفيهم يوسف أبو الحجاج، فأحاط بهم عياش بن سهل، فطلبوا الأمان، فقال [لهم عياش] انزلوا على حكمي. فنزلوا على حكمه، فضرب أعناقهم أجمعين. ثم رجع عياش بن سهل إلى المدينة. وبعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة عاملا على البصرة، فاستضعفه القوم فبعث أخاه مصعب بن الزبير، فقدم عليهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنه لا يقدم عليكم أمير إلا لقّبتموه، وإني ألقب لكم نفسي: أنا القصاب. خبر المختار بن أبي عبيد ثم أرسل عبد الله بن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة أميرا على الكوفة؛ ثم عزله وأرسل المختار بن أبي عبيد؛ وأرسل عبد الملك عبيد الله بن زياد إلى الكوفة؛ فبلغ المختار إقبال عبيد الله بن زياد، فوجه إليهم إبراهيم بن الاشتر في جيش، فالتقوا بالجازر، وقتل عبيد الله بن زياد، وحصين بن نمير، وذو الكلاع، وعامة من كان معهم، وبعث برءوسهم إلى عبد الله بن الزبير. أبو بكر بن أبي شيبة قال حدّثنا شريك بن عبد الله عن أبي الجويرية الحرمي قال: كنت فيمن سار إلى أهل الشام يوم الجازر مع إبراهيم بن الأشتر فلقيناهم بالزاب، فهبت الريح لنا عليهم فأدبروا، فقتلناهم عشيتنا وليلتنا حتى أصبحوا؛ فقال إبراهيم إني قتلت البارحة رجلا فوجدت عليه ريح طيب، فالتمسوه، فما أراه إلا ابن مرجانة. فانطلقنا، فإذا هو والله معكوس في بطن الوادي. ولما التقى عبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب، قال: من هذا الذي يقاتلني؟ قيل له: إبراهيم بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبيا يلعب بالحمام! قال: ولما قتل ابن زياد بعث المختار برأسه إلى علي بن الحسين بالمدينة، قال الرسول: فقدمت به عليه انتصاف النهار وهو يتغدّى، قال: فلما رآه قال: سبحان الله! ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة؛ لقد أدخل رأس أبي عبد الله على

ابن زياد وهو يتغدى، وقال يزيد بن مفرّغ: إنّ الذي عاش ختّارا بذمّته ... ومات عبدا: قتيل الله بالزّاب «1» ثم إن المختار كتب كتابا إلى ابن الزبير، وقال لرسوله: إذا جئت مكة فدفعت كتابي إلى ابن الزبير، فأت المهدي- يعني محمد بن الحنفية- فاقرأ عليه السلام، وقل له: يقول لك أبو إسحق: إني أحبك وأحب أهل بيتك! قال: فأتاه، فقال له ذلك، فقال: كذبت وكذب أبو إسحق، وكيف يحبني ويحب أهل بيتي، وهو يجلس عمر ابن سعد على وسائده وقد قتل الحسين؟ فلما قدم عليه رسوله وأخبره، قال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه: استأجر لي نوائح يبكين الحسين على باب عمر بن سعد. ففعل، فلما بكين قال عمر لابنه حفص: يا بني، ائت الأمير فقل له: ما بال النوائح يبكين الحسين على بابي؟ فأتاه فقال له ذلك، فقال: إنه أهل أن يبكى عليه! فقال: أصلحك الله، انهنّ عن ذلك! قال: نعم. ثم دعا أبا عمرو صاحب حرسه، فقال له: اذهب إلى عمر بن سعد فأتني برأسه! فأتاه فقال له: قم إليّ أبا حفص. فقام إليه وهو ملتحف بملحفة، فجلله بالسيف فقتله، وجاء برأسه إلى المختار ثم قال: ائتوني بابن عمر. فلما حضره قال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، رحمه الله! قال: أتحب أن نلحقك به؟ قال: لا خير في العيش بعده! فأمر به فضرب عنقه. ثم إن المختار لما قتل ابن مرجانة وعمر بن سعد، جعل يتبع قتلة الحسين بن علي ومن خذله فقتلهم أجمعين، وأمر الحسينية وهم الشيعة أن يطوفوا في أزقة المدينة بالليل ويقولوا: يا ثارات الحسين! فلما أفناهم ودانت له العراق- ولم يكن صادق النية ولا صحيح المذهب، وإنما أراد أن يستأصل الناس- فلما أدرك بغيته أظهر للناس قبح نيته، فادّعى أن جبريل ينزل عليه ويأتيه بالوحي من الله؛ وكتب إلى أهل البصرة:

بلغني أنكم تكذبونني وتكذبون رسلي، وقد كذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم! فلما انتشر ذلك عنه، كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير وهو بالبصرة فخرج إليه، وبرز إليه المختار، فأسلمه إبراهيم بن الأشتر ووجوه أهل الكوفة، فقتله مصعب وقتل أصحابه. أبو بكر بن أبي شيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: إن المختار ليزعم أنه يوحى إليه! قال: صدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم!. وقتل مصعب من أصحاب المختار ثلاثة آلاف، ثم حج في سنة إحدى وسبعين فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير ومعه وجوه أهل العراق، فقال: يا أمير المؤمنين قد جئتك بوجوه أهل العراق، ولم أدع لهم نظيرا؛ فأعطهم من المال. قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم من مال الله! وددت أن لي بكل عشرة منهم رجلا من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم! فلما انصرف مصعب ومعه الوفد من أهل العراق، وقد حرمهم عبد الله بن الزبير ما عنده، فسدت قلوبهم؛ فراسلوا عبد الملك بن مروان حتى خرج إلى مصعب فقتله. علي بن عبد العزيز عن حجّاج عن أبي معشر، قال: لما بعث مصعب برأس المختار إلى عبد الله بن الزبير فوضع بين يديه، قال: ما من شيء حدّثنيه كعب الأحبار إلا قد رأيته، غير هذا؛ فإنه قال لي: يقتلك شابّ من ثقيف. فأراني قد قتلته! وقال محمد بن سيرين لما بلغه هذا الحديث: لم يعلم ابن الزبير أن أبا محمد قد خبيء له. ولما قتل مصعب المختار بن أبي عبيد ودانت له العراق كلها، والكوفة والبصرة، قال فيه عبد الله بن قيس برقيات:

مقتل عمرو بن سعيد الأشدق

كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشام غارة شعواء «1» تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء «2» إنما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظّلماء وتزوّج مصعب لما ملك العراق، عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين؛ ولم يكن لهما نظير في زمانهما. وقتل مصعب امرأة المختار، وهي ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، فقال فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي: إنّ من أعظم المصائب عندي ... قتل حوراء غادة عيطبول «3» قتلت باطلا على غير ذنب ... إنّ لله درّها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول مقتل عمرو بن سعيد الأشدق أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر، قال: لما قدم مصعب بوجوه أهل العراق على أخيه عبد الله بن الزبير فلم يعطهم شيئا، أبغضوا ابن الزبير، وكاتبوا عبد الملك بن مروان، فخرج يريد مصعب بن الزبير فلما أخذ في جهازه وأراد الخروج، أقبلت عاتكة ابنة يزيد بن معاوية في جواريها وقد تزينت بالحلى، فقالت: يا أمير المؤمنين، لو قعدت في ظلال ملكك ووجهت إليه كلبا من كلابك لكفاك أمره! فقال: هيهات، أما سمعت قول الأول: قوم إذا ما غزوا شدّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار فلما أبى عليها وعزم بكت وبكى معها جواريها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي ربيعة، كأنه ينظر إلينا حيث يقول:

إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها نظم در يزينها «1» نهته فلما لم تر النّهي عاقه ... بكت فبكى مما دهاها قطينها «2» ثم خرج يريد مصعب، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، قيل له: ما تصنع؟ أتريد العراق وتدع دمشق؟ أهل الشام أشدّ عليك من أهل العراق! فرجع مكانه فحاصر أهل دمشق حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده وأن له مع كل عامل عاملا، ففتح له دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو بن سعيد، فأرسل إليه عبد الملك أن أخرج للحرس أرزاقهم فقال: إذا كان لك حرس فإن لنا حرسا أيضا! فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أيضا أرزاقهم! فلما كان يوم من الأيام أرسل عبد الملك إلى عمرو بن سعيد نصف النهار أن ائتني أبا أمية حتى أدبر معك أمورا. فقالت له امرأته. يا أبا أمية، لا تذهب إليه؛ فإنني أتخوّف عليك منه! فقال: أبو الذباب! والله لو كنت نائما ما أيقظني! قالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم مسفوح. فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجها، فخرج وخرج معه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يقدر على مثلهم مسلّحين، فأحدقوا بخضراء دمشق وفيها عبد الملك، فقالوا: يا أبا امية، إن رابك ريب فأسمعنا صوتك، قال: فدخل فجعلوا يصيحون: أبا أمية أسمعنا صوتك، وكان معه غلام أسحم شجاع، فقال له: اذهب إلى الناس فقل لهم: ليس عليه بأس. فقال له عبد الملك: أمكرا عند الموت أبا أمية؟ خذوه. فأخذوه. فقال له عبد الملك: إني أقسمت إن أمكنتني منك يد أن أجعل في عنقك جامعة «3» ، وهذه جامعة من فضة أريد أن أبرّ بها قسمي! قال: فطرح في رقبته الجامعة، ثم طرحه إلى الأرض بيده فانكسرت ثنيته «4» ؛ فجعل عبد الملك ينظر إليه، فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر! قال: وجاء المؤذنون فقالوا: الصلاة

يا أمير المؤمنين. لصلاة الظهر، فقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع إليك من الصلاة. فلما أراد عبد العزيز أن يضرب عنقه، قال له عمرو، أنشدتك بالرحم يا عبد العزيز أن لا تقتلني من بينهم! فجاء عبد الملك فرآه جالسا، فقال: مالك لم تقتله؟ لعنك الله ولعن أماّ ولدتك! ثم قال: قدّموه إليّ. فأخذ الحربة بيده فقال: فعلتها يا بن الزرقاء، فقال له عبد الملك: إني لو علمت أنك تبقى ويصلح لي ملكي لفديتك بدم الناظر «1» ، ولكن قلّما اجتمع فحلان في ذود «2» إلا عدا أحدهما على الآخر. ثم رفع إليه الحربة فقتله، وقعد عبد الملك يرعد، ثم أمر به فأدرج في بساط وأدخل تحت السرير. وأرسل إلى قبيصة بن ذؤيب الخزاعي فدخل عليه، فقال: كيف رأيك في عمرو بن سعيد الأشدق؟ قال- وأبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير، فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين! قال: جزاك الله خيرا، ما علمت إنك لموفّق، قال قبيصة: اطرح رأسه وانثر على الناس الدنانير يتشاغلون بها. ففعل. وافترق الناس، وهرب يحيى بن سعيد بن العاص حتى لحق بعبد الله بن الزبير بمكة فكان معه. وأرسل عبد الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر، فقال له: ما ترى ما كان من فعلي بعمرو بن سعيد؟ قال: أمر قد فات دركه «3» . قال: لتقولنّ. قال: حزم لو قتلته وحييت أنت! قال: أو لست بحيّ؟ قال: هيهات، ليس بحيّ من أوقف نفسه موقفا لا يوثق منه بعهد ولا عقد. قال: كلام لو تقدّم سماعه فعلي لأمسكت! ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل عمرو بن سعيد، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

مقتل مصعب بن الزبير

أيها الناس، إنّ عبد الملك بن مروان قتل لطيم الشيطان كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» . مقتل مصعب بن الزبير فلما استقرّت البيعة لعبد الملك بن مروان أراد الخروج إلى مصعب بن الزبير، فجعل يستنفر أهل الشام فيبطئون عليه، فقال له الحجاج بن يوسف: سلّطني عليهم، فو الله لأخرجنّهم معك! قال له: قد سلطتك عليهم. فكان الحجاج لا يمرّ على باب رجل من أهل الشام قد تخلف عن الخروج إلا أحرق عليه داره. فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا. وسار عبد الملك حتى دنا من العراق، وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة، فالتقوا بين الشام والعراق؛ وقد كان عبد الملك كتب كتبا إلى رجال من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نفسه ويجعل لهم الأموال، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك، على أن يخذلوا مصعبا إذا التقوا؛ فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: إنّ عبد الملك قد كتب إليّ هذا الكتاب، وقد كتب إلى أصحابي بمثل ذلك، فادعهم الساعة فاضرب أعناقهم. قال: ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي أمرهم. قال: فأخرى ... قال: ما هي؟ قال: احبسهم حتى يستبين لك ذلك. قال: ما كنت لأفعل. قال: فعليك السلام، والله لا تراني بعد في مجلسك هذا أبدا. وقد كان قال له: دعني أدعو أهل الكوفة بما شرطه الله. فقال: لا والله، قتلتهم أمس وأستنصر بهم اليوم. قال: فما هو إلا أن التقوا فحوّلوا وجوههم وصاروا إلى عبد الملك؛ وبقي مصعب في شرذمة قليلة، فجاءه عبيد الله بن زياد بن ظبيان- وكان مع مصعب- فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق. فرفع عبيد الله السيف ليضرب مصعبا، فبدره مصعب فضربه بالسيف على البيضة «2» ، فنشب السيف في

البيضة؛ فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعبا بالسيف فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول: نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرّم قال: فلما نظر عبد الملك إلى رأس مصعب خرّ ساجدا، فقال عبد الله بن ظبيان؛ وكان من فتّاك العرب: ما ندمت على شيء قطّ ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب فخرّ ساجدا أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد! وقال في ذلك عبيد الله بن زياد بن ظبيان. هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه فأوردتها في النار بكر بن وائل ... والحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه الرياشي عن الأصمعي قال: لما أتي عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، نظر إليه مليا. ثم قال: متى تلد قريش مثلك! وقال: هذا سيد شباب قريش. وقيل لعبد الملك: أكان مصعب يشرب الطلاء «1» ؟ فقال: لو علم مصعب أنّ الماء يفسد مروءته لما شربه! ولما قتل مصعب دخل الناس على عبد الملك يهنئونه، ودخل معهم شاعر فأنشده: الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها.. عنك، ويأبى الله إلا سوقها ... إليك، حتى قلّدوك طوقها فأمر له بعشرة آلاف درهم. وقالوا: كان مصعب أجلّ الناس، وأسخى الناس، وأشجع الناس؛ وكان تحته عقيلتا قريش: عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين.

ولما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة، فأطاف بها أهل العراق، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا أبنة رسول الله! فقالت: لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد! قتلتم أبي وجدّي وعمي وزوجي! أيتمتموني صغيرة، وأرملتموني كبيرة! ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل مصعب، صعد المنبر فجلس عليه، ثم سكت فجعل لونه يحمّر مرة ويصفرّ مرة؛ فقال رجل من قريش لرجل إلى جنبه: ماله لا يتكلم، فو الله إنه للخطيب اللبيب. فقال له الرجل: لعله يريد أن يذكر مقتل سيّد العرب فيشتدّ ذلك عليه، وغير ملوم! ثم تكلم فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، و [ملك] الدنيا والآخرة يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء «1» . أمّا بعد: فإنه لم يعزّ من كان الباطل معه ولو كان معه الأنام طراّ، ولم يذلّ من كان الحقّ معه ولو كان فردا؛ ألا وإنّ خبرا من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا؛ فأمّا الذي أحزننا؛ فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه، ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصبر وكريم الأجر، وأمّا الذي أفرحنا فإن قتل مصعب له شهادة ولنا ذخيرة. أسلمه الطّغام» ، الصم الآذان، أهل العراق، وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه، وكانوا الخيار الصالحين؛ إنّا والله لا نموت حتف «3» أنوفنا كما يموت بنو مروان، ولكن قعصا «4» بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف، فإن تقبل الدنيا عليّ لم آخذها مأخذ الأشر «5» البطر «6» ، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرف الزائل العقل.

ولما توطد لابن الزبير أمره وملك الحرمين والعراقين، أظهر بعض بني هاشم الطعن عليه؛ وذلك بعد موت الحسن والحسين؛ فدعا عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم إلى بيعته، فأبوا عليه، فجعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر، وأسقط ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم من خطبته، فعوتب في ذلك، فقال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لأذكره سرا وأصلي عليه، ولكن رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره سرا وأصلي عليه، ولكن رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إليّ ما يسرّهم، ثم قال لتبايعنّ أو لأحرقنّكم بالنار! فأبوا عليه، فحبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر من بني هاشم في السجن، وكان السجن الذي حبسهم فيه يقال له سجن عارم «1» ؛ فقال في ذلك كثيّر عزة- وكان ابن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت-: تخبّر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم «2» سميّ النّبيّ المصطفى وابن عمّه ... وفكّاك أغلال وقاضي مغارم وكان أيضا يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رملة بنت الزبير: ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحلّ ثم إن المختار بن أبي عبيد وجّه رجالا يثق بهم من الشيعة يكمنون النهار ويسيرون الليل، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم؛ ثم ساروا بهم إلى مأمنهم. وخطب عبد الله بن الزبير بعد موت الحسن والحسين، فقال: أيها الناس، إن فيكم رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، قاتل أمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأفتى بتزويج المتعة.

مقتل عبد الله بن الزبير

وعبد الله بن عباس في المسجد؛ فقام وقال لعكرمة: أقم وجهي نحوه يا عكرمة. ثم قال هذا البيت: إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي فؤادي وعقلي منهما نور وأما قولك يا ابن الزبير: إني قاتلت أم المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سمّيت أمّ المؤمنين، فكنّا لها خير بنين، فتجاوز الله عنها، وقاتلت أنت وأبوك عليا؛ فإن كان عليّ مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزّحف؛ وأما المتعة فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخّص فيها فأفتيت بها، ثم سمعته ينهى عنها [فنهيت عنها] وأول مجمر «1» سطع في المتعة مجمر آل الزبير. مقتل عبد الله بن الزبير أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر قال: لما بايع الناس عبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير ودخل الكوفة، قال له الحجاج: إني رأيت في المنام كأني أسلخ ابن الزبير من رأسه إلى قدميه. فقال له عبد الملك: أنت له فاخرج إليه. فخرج إليه الحجاج في ألف وخمسمائة حتى نزل الطائف، وجعل عبد الملك يرسل إليه الجيوش رسلا «2» بعد رسل، حتى توافى إليه الناس قدر ما يظن أنه يقوى على قتال ابن الزبير، وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين؛ فسار الحجاج من الطائف حتى نزل مني، فحج بالناس وابن الزبير محصور، ثم نصب الحجاج المجانيق على أبي قبيس وعلى قعيقعان ونواحي مكة كلها يرمي أهل مكة بالحجارة. فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها ابن الزبير، جمع ابن الزبير من كان معه من القرشيين؛ فقال: ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم من آل بني ربيعة: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت وإنما هي إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا

فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقال ابن الزبير: لقد كنت عاهدت الله لا يبايعني أحد فأقبله بيعته إلا ابن صفوان، فقال له ابن صفوان: أمّا أنا فإني أقاتك معك حتى أموت بموتك، وإنها لتأخذني الحفيظة أن أسلمت في مثل هذه الحالة! قال له رجل آخر: اكتب إلى عبد الملك بن مروان. فقال له: كيف أكتب: من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟ فو الله لا يقبل هذا أبدا؛ أم أكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟ فو الله لأن تقع الخضراء «1» على الغبراء «2» أحبّ إليّ من ذلك! فقال عروة بن الزبير وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة. قال: من هو؟ قال: حسن بن عليّ، خلع نفسه وبايع معاوية. فرفع ابن الزبير رجله فضرب بها عروة حتى ألقاه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قبلت ما يقولون ما عشت إلا قليلا وقد أخذت الدنيّة، وإن ضربة بسيف في عزّ خير من لطمة في ذل. فلما أصبح دخل عليه بعض نسائه- وهي أم هاشم بنت منصور بن زياد الفزارية- فقال لها: اصنعي لنا طعاما. فصنعت له كبدا وسناما، فأخذ منهما لقمة فلاكها ثم لفظها «3» ؛ ثم قال: اسقوني لبنا. فأتي بلبن، فشرب منه، ثم قال: هيئوا لي غسلا! فاغتسل ثم تحنط وتطيّب، ثم نام نومة وخرج. ودخل على أمه أسماء ابنة أبي بكر ذات النطاقين «4» ، وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة، فقال: يا أماه، ما ترين؟ قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتي! فقالت: لا يلعبنّ بك صبيان بني أمية: عش كريما ومت كريما! فخرج فأسند ظهره إلى الكعبة ومعه نفر يسير فجعل يقاتلهم ويهزمهم وهو يقول: ويلمّه! يا له فتحا لو كان له رجال! فناداه الحجاج: قد كان لك رجال فضيّعتهم!

وجعل ينظر إلى أبواب المسجد والناس يهجمون عليه، فيقول: من هؤلاء؟ فيقال له: أهل مصر. قال: قتلة عثمان! فحمل عليهم، وكان فيهم رجل من أهل الشام، يقال له خلبوب، فقال لأهل الشام. أما تستطيعون إذا ولى «1» ابن الزبير أن تأخذوه بأيديكم؟ قالوا: ويمكنك أنت أن تأخذه بيدك؟ قال: نعم. قالوا: فشأنك. فأقبل وهو يريد أن يحتضنه، وابن الزبير يرتجز ويقول: لو كان قرني واحدا كفيته فضربه ابن الزبير بالسيف فقطع يده، فقال خلبوب: حس! قال ابن الزبير: اصبر خلبوب. قال: وجاءه حجر من حجارة المنجنيق، فأصاب قفاه، فسقط؛ فاقتحم أهل الشام عليه، فما همّوا بقتله حتى سمعوا جارية تبكي وتقول: وا أمير المؤمنيناه! فحزّوا رأسه وذهبوا به إلى الحجاج. وقتل معه: عبد الله بن صفوان، وعمارة بن حزم، وعبد الله بن مطيع. قال أبو معشر: وبعت الحجاج برءوسهم إلى المدينة، فنصبوها للناس، فجعلوا يقرّبون رأس ابن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يسارّه ويلعبون بذلك؛ ثم بعث برؤسهم إلى عبد الملك بن مروان. فخرجت أسماء إلى الحجاج فقالت له: أتأذن لي أن أدفنه، فقد قضيت أربك منه؟ قال: لا! ثم قال لها: ما ظنّك برجل قتل عبد الله بن الزبير؟ قالت: حسيبه «2» الله! فلما منعها أن تدفنه قالت. أما إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يخرج من ثقيف رجلان: الكذاب والمبير! فأما الكذاب فالمختار، وأما المبير «3» فأنت. فقال الحجاج: اللهم مبير لا كذاب.

ومن غير رواية أبي عبيد قال: لما نصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزبير، أظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق؛ ففزع الناس وأمسكوا عن القتال، فقام فيهم الحجاج فقال: أيها الناس، لا يهولنّكم هذا؛ فإني أنا الحجاج ابن يوسف وقد أصحرت «1» لربي، فلو ركبنا عظيما لحال بيننا وبينه ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعق تنزل بها. ثم أمر بكرسي فطرح له، ثم قال: يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات أمير المؤمنين. فكان أهل الشام إذا رموا الكعبة يرتجزون ويقولون هذا: خطّارة مثل الفنيق المزبد ... يرمى بها عواذ أهل المسجد «2» ويقولون أيضا: درّي عقاب «3» ، بلبن وأشخاب «4» . فلما رأى ذلك ابن الزبير خرج إليهم بسيفه فقاتلهم حينا، فناداه الحجاج: ويلك يا بن ذات النطاقين! اقبل الأمان وادخل في طاعة أمير المؤمنين، فدخل على أمه أسماء، فقال لها: سمعت رحمك الله ما يقول القوم، وما يدعونني إليه من الأمان؟ قالت: سمعتهم لعنهم الله، فما أجهلهم واعجب منهم إذ يعيّرونك بذات النطاقين؛ ولو علموا ذلك لكان ذلك أعظم فخرك عندهم. قال: وما ذاك يا أماه؟ قالت: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أسفاره مع أبي بكر فهيأت لهما سفرة، فطلبا شيئا يربطانها بها فما وجداه، فقطعت من مئزري لذلك ما احتاجا إليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما إن لك به نطاقين في الجنة! فقال عبد الله: الحمد لله حمدا كثيرا، فما تأمريني به، فإنهم قد أعطوني الأمان؟ قالت: أرى أن تموت كريما ولا تتبع فاسقا لئيما، وأن يكون آخر نهارك أكرم من أوّله.

فقبّل رأسها وودعها، وضمته إلى نفسها، ثم خرج من عندها فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الموت قد تغشّاكم سحابه، وأحدق بكم ربابه «1» ، واجتمع بعد تفرّق، وارجحنّ بعد تمشّق، ورجس «2» نحوكم رعده، وهو مفرغ عليكم ودقه «3» ، وقائد إليكم البلايا تتبعها المنايا، فاجعلوا السيوف لها غرضا، واستعينوا عليها بالصبر. وتمثل بأبيات، ثم اقتحم يقاتل وهو يقول: قد جدّ أصحابك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب لها على ساق ثم جعل يقاتل وحده ولا يهدّه شيء، كلما اجتمع عليه القوم فرّقهم وذادهم، حتى أثخن بالجراحات ولم يستطع النهوض، فدخل عليه الحجاج فدعا بالنطع فحز رأسه هو بنفسه في داخل مسجد الكعبة، لا رحم الله الحجاج! ثم بعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان، وقتل من أصحابه من ظفر به؛ ثم أقبل فاستأذن على أمه أسماء بنت أبي بكر ليعزيها، فأذنت له، فقالت له: يا حجاج، قتلت عبد الله؟ قال: يا بنة أبي بكر، إني قاتل الملحدين. قالت: بل قاتل المؤمنين الموحدين. قال لها: كيف رأيت ما صنعت بابنك؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، ولا ضير أن أكرمه الله على يديك، فقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل! هشام بن عروة عن أبيه قال: كان عثمان استخلف عبد الله بن الزبير على الدار يوم الدار، فبذلك ادّعى ابن الزبير الخلافة. محمد بن سعيد قال: لما نصب الحجاج راية الأمان وتصرّم الناس عن ابن الزبير، قال لعبد الله بن صفوان: قد أقلتك بيعتي وجعلتك في سعة «4» ، فخذ لنفسك أمانا.

فقال: مه! والله ما أعطيتك إياها حتى رأيتك أهلا لها، وما رأيت أحدا أولى بها منك، فلا تضرب هذه الصلعة فتيان بني أمية أبدا. وأشار إلى رأسه. قال: فحدثت سليمان بن عبد الملك حديثه فقال: إن كنت لأراه أعرج جبانا!. فلما كانت الليلة التي قتل في صباحها ابن الزبير، أقبل عبد الله بن صفوان وقد دنا أهل الشام من المسجد فاستأذن، فقالت الجارية: هو نائم! فقال أو ليلة نوم هذه؟ أيقظيه! فلم تفعل، فأقام ثم استأذن، فقالت: هو نائم! فانصرف، ثم رجع آخر الليل وقد هجم القوم على المسجد؛ فخرج إليه فقال: والله ما نمت منذ عقلت الصلاة نومي هذه الليلة وليلة الجمل! ثم دعا بالسواك «1» فاستاك متمكنا، ثم توضأ متمكنا، ولبس ثيابه؛ ثم قال: أنظرني حتى أودع أمّ عبد الله فلم يبق شيء! وكان يكره أن يأتيها فتعزم عليه أن يأخذ الأمان؛ فدخل عليها وقد كفّ بصرها فسلم، فقالت: من هذا؟ فقال: عبد الله! فتشمّمته ثم قالت: يا بنيّ، مت كريما! فقال لها: إن هذا قد أمّنني. يعني الحجاج. قالت: يا بنيّ لا ترض الدنية، فإن الموت لا بدّ منه! قال: إني أخاف أن يمثّل بي. قالت: إن الكبش إذا ذبح لم يأ [لم] من السلخ! قال: فخرج فقاتل قتالا شديدا، فجعل يهزمهم ثم يرجع ويقول: يا له فتحا لو كان له رجال. لو كان المصعب أخي حيا. فلما حضرت الصلاة صلى صلاته، ثم قال: أين باب أهل مصر؟ حنقا لعثمان فقاتل حتى قتل، وقتل معه عبد الله بن صفوان. وأتي برأسه الحجاج وهو فاتح عينيه وفاه، فقال: هذا رجل لم يكن يعرف القتل ولا ما يصير إليه؛ فلذلك فتح عينيه وفاه. هشام بن عروة عن أبيه، أن عبد الله بن الزبير كان أول مولود ولد في الإسلام، فلما ولد كبّر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ولما قتل كبّر الحجاج بن يوسف، وأهل الشام معه؛ فقال ابن عمرو: ما هذا؟ قالوا: كبّر أهل الشام لقتل عبد الله بن الزبير! قال:

أولاد عبد الملك بن مروان

الذين كبّروا لمولده خير من الذين كبروا لقتله. أيوب عن أبي قلابة قال: شهدت ابنة أبي بكر غسّلت ابنها ابن الزبير بعد شهر، وقد تقطعت أوصاله وذهب برأسه، وكفّنته، وصلت عليه. هشام بن عروة قال: قال عبد الله بن عباس للجائز به: جنّبني خشبة ابن الزبير. فلم يشعر ليلة حتى عثر فيها، فقال: ما هذا؟ فقال: خشبة ابن الزبير. فوقف ودعا له، وقال: لئن علتك رجلاك لطالما وقفت عليهما في صلاتك! ثم قال لأصحابه: أما والله ما عرفته إلا صوّاما قوّاما، ولكنني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته تعجّبه بغلات معاوية الشّهب «1» . قال: وكان معاوية قد حج فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها رحائل «2» الأرجوان، فيها الجواري عليهن الجلابيب والمعصفرات «3» ، ففتن الناس. أولاد عبد الملك بن مروان الوليد، وسليمان بن العبسية، ويزيد، وهشام، وأبو بكر، ومسلمة، وسعد الخير وعبد الله، وعنبسة، والحجاج، والمنذر، ومروان الأكبر، ومروان الأصغر- ولم يعقب مروان الأكبر- ويزيد، ومعاوية، درج «4» . وفاة عبد الملك بن مروان توفي عبد الملك بن مروان بدمشق للنصف من شوال سنة ست وثمانين وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه الوليد بن عبد الملك؛ وولد عبد الملك في المدينة في دار مروان سنة ثلاث وعشرين.

ولاية الوليد بن عبد الملك

وكتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان عامله على المدينة أن يدعو الناس إلى البيعة لابنيه الوليد وسليمان؛ فبايع الناس غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حيّ، فضربه هشام ضربا مبرّحا وألبسه المسوح «1» ، وأرسله إلى ثنية «2» بالمدينة يقتلونه عندها ويصلبونه؛ فلما انتهوا به إلى الموضع ردوه، فقال سعيد: لو علمت أنهم لا يصلبونني ما لبست لهم التّبّان «3» . وبلغ عبد الملك خبره فقال: قبح الله هشاما؛ مثل سعيد بن المسيب يضرب بالسياط! إنما كان ينبغي له أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه. وقال للوليد: إذا أنا متّ فضعني في قبري ولا تعصر عليّ عينيك عصر الأمة، ولكن شمّر وائتزر، والبس جلد النمر؛ فمن قال برأسه كذا، فقل بسيفك كذا! ولاية الوليد بن عبد الملك ثم بويع للوليد بن عبد الملك في النصف من شوال سنة ست وثمانين. وأم الوليد ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي. وكان على شرطته كعب بن حماد، ثم عزله وولى أبا نائل بن رباح بن عبدة الغساني. ومات الوليد يوم السبت في النصف من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وهو ابن أربع وأربعين، وصلى عليه سليمان. وكانت ولايته عشر سنين غير شهور. ولد الوليد عبد العزيز، ومحمد، وعنبسة، ولم يعقبوا؛ وأمهم أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان؛ والعباس، وبه كان يكنى، ويقال إنه كان أكبرهم؛ وعمر، وبشر، وروح،

وتمام، ومبشر، وحزم، وخالد، ويزيد، ويحيى، وإبراهيم، وأبو عبيدة، ومسرور، ومنصور، ومروان، ومحمد، وصدقة، لأمهات أولاد. وأم أبي عبيدة فرارية، وكان أبو عبيدة ضعيفا. وولي الخلافة من ولد الوليد: إبراهيم، شهرين ثم خلع وولي يزيد الكامل شهرا ثم مات. وكان تمام ضعيفا، هجاه رجل فقال: بنو الوليد كرام في أرومتهم ... نالوا المكارم طرّا غير تمّام» ومسرور بن الوليد كان ناسكا، وكانت عنده بنت الحجاج. وكان بشر من فتيانهم، وروح من غلمانهم، والعباس من فرسانهم؛ وفيه يقول الفرزدق: إنّ أبا الحارث العباس نائله ... مثل السّماك الذي لا يخلف المطرا «2» وكان تحته بنت قطريّ بن الفجاءة، سباها وتزوجها، وله منها المؤمل، والحارث؛ وكان عمرو من رجالهم، كان له تسعون ولدا، ستون منهم كانوا يركبون معه إذا ركب. وقال رجل من أهل الشام: ليس من ولد الوليد أحد إلا ومن رآه يحسب أنه من أفضل أهل بيته. ولو وزن بهم أجمعين عبد العزيز لرجحهم، وفيه يقول جرير: وبنو الوليد من الوليد بمنزل ... كالبدر حفّ بواضحات الأنجم وعبد العزيز بن الوليد، أراد أبوه أن يبايع له سليمان، فأبى عليه سليمان. وحدث الهيثم بن عدي عن ابن عباس، قال: لما أراد الوليد أن يبايع لابنه عبد العزيز بعد سليمان، أبى ذلك سليمان وشنع عليه؛ وقيل للوليد: لو أمرت الشعراء أن يقولوا في ذلك، لعله كان يسكت فيشهد عليه بذلك. فدعا الأقبيل القيني فقال له:

أخبار الوليد

ارتجز بذلك وهو يسمع. فدعا سليمان فسايره، والأقبيل خلفه، فرفع صوته وقال: إنّ وليّ العهد لابن أمّه ... ثم ابنه وليّ عهد عمّه قد رضي الناس به فسمّه ... فهو يضمّ الملك في مضمّه يا ليتها قد خرجت من فمّه فالتفت إليه سليمان، وقال: ابن الخبيثة! من رضي بهذا؟ أخبار الوليد أبو الحسن المدائني قال: كان الوليد أسنّ ولد عبد الملك، وكان يحبه، فتراخى في تأديبه لشدة حبه إياه فكان لحّانا «1» . وقال عبد الملك: أضرنا في الوليد حبّنا له فلم نوجّهه إلى البادية. وقال الوليد يوما وعنده عمر بن عبد العزيز: يا غلام، ادع لي صالح. فقال الغلام: يا صالحا! فقال له الوليد: انقص ألفا. فقال له عمر بن عبد العزيز: وأنت يا أمير المؤمنين فزد ألفا!. وكان الوليد عند أهل الشام أفضل خلفائهم وأكثرهم فتوحا وأعظمهم نفقة في سبيل الله، بنى مسجد دمشق، ومسجد المدينة، ووضع المنابر وأعطى المجذومين «2» حتى أغناهم عن سؤال الناس، وأعطى كل مقعد خادما وكلّ ضرير قائدا، وكان يمر بالبقال فيتناول قبضة فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول: زد فيها فإنك تربح.. ومرّ الوليد بمعلم كتّاب فوجد عنده صبيّة، فقال: ما تصنع هذه عندك؟ فقال أعلمها الكتابة والقرآن. قال: فاجعل الذي يعلمها أصغر منها سنّا. وشكا رجل من بني مخزوم دينا لزمه، فقال: نقضه عنك إن كنت لذلك

ولاية سليمان بن عبد الملك

مستحقا. قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقا في منزلتي وقرابتي؟ قال: قرأت القرآن؟ قال. لا! قال: ادن مني. فدنا منه؛ فنزع العمامة عن رأسه بقضيب في يده، ثم قرعه «1» به قرعة، وقال لرجل من جلسائه: ضمّ إليك هذا العلج «2» ولا تفارقه حتى يقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال يا أمير المؤمنين، اقض ديني! فقال له: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. فاستقرأه عشرا من الأنفال وعشرا من براءة؛ فقرأ، فقال: نعم، نقضي دينك وأنت أهل لذلك. وركب الوليد بعيرا وحاد يحدو بين يديه، والوليد يقول: يأيها البكر الذي أراكا ... ويحك تعلم الذي علاكا خليفة الله الذي امتطاكا ... لم يحب بكر مثل ما حباكا ولاية سليمان بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال: ثم بويع سليمان بن عبد الملك في ربيع الأول سنة ست وتسعين. ومات سنة تسع وتسعين بدابق يوم الجمعة لعشر خلون من صفر، وهو ابن ثلاث وأربعين، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكانت ولايته سنتين وعشرة أشهر ونصفا. ولد سليمان بن عبد الملك بالمدينة في بني حديلة، ومات بدابق من أرض قنسرين وكان سليمان فصيحا جميلا وسيما، نشأ بالبادية عند أخواله بني عبس. وكانت ولايته يمنا وبركة، افتتحها بخير وختمها بخير: فأما افتتاحه فيها بخير فردّ المظالم وأخرج المسجونين، وبغزاة مسلمة بن عبد الملك الصائفة حتى بلغ القسطنطينية؛ أما ختمها بخير فاستخلافه عمر بن عبد العزيز.

ولبس يوما واعتم بعمامة، وكانت عنده جارية حجازية، فقال لها: كيف ترين الهيئة؟ فقال: أنت أجمل العرب لولا ... قال: عليّ ذلك لتقولنّ. قالت: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان أنت خلو من العيوب وممّا ... يكره الناس غير أنك فان! قال: فتنغص عليه ما كان فيه، فما لبث بعدها إلا أياما حتى توفي رحمه الله! وتفاخر ولد لعمر بن عبد العزيز وولد لسليمان بن عبد الملك، فذكر ولد عمر فضل أبيه وخاله، فقال له ولد سليمان: إن شئت أقلّ وإن شئت أكثر؛ فما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي. محمد بن سليمان قال: فعل سليمان في يوم واحد ما لم يفعله عمر بن عبد العزيز في طول عمره: أعتق سبعين ألفا ما بين مملوك ومملوكة وبتّتهم- أي كساهم- والبتّ: الكسوة. ولد لسليمان: أيوب، وأمه أم أبان بنت الحكم بن العاص، وهو أكبر ولد سليمان وولي عهده، فمات في حياة سليمان، وله يقول جرير: إنّ الإمام الذي ترجى فواضله ... بعد الإمام وليّ العهد أيّوب وعبد الواحد، وعبد العزيز، أمهما أم عامر بنت عبد الله بن خالد بن أسيد وفي عبد الواحد يقول القطامي: أهل المدينة لا يحزنك حالهم ... إذا تخطّأ عبد الواحد الأجل قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل «1» ولما مات أيوب وليّ عهد سليمان بن عبد الملك؛ قال ابن عبد الأعلى يرثيه، وكان من خواصه: ولقد أقول لذي الشماتة إذ رأى ... جزعي ومن يذق الحوادث يجزع

أخبار سليمان بن عبد الملك

أبشر فقد قرع الحوادث مروتي ... وافرح بمروتك التي لم تقرع «1» إن عشت تفجع بالأحبّة كلّهم ... أو يفجعوا بك إن بهم لم تفجع أيّوب من يشمت بموتك لم يطق ... عن نفسه دفعا وهل من مدفع أخبار سليمان بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال: لما بلغ قتيبة بن مسلم أنّ سليمان بن عبد الملك عزله عن خراسان واستعمل يزيد بن المهلب، كتب إليه ثلاث صحف، وقال للرسول: ادفع إليه هذه، فإن دفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه، فإن شتمني فادفع هذه. فلما سار الرسول إليه دفع الكتاب إليه، وفيه: يا أمير المؤمنين، إنّ من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كيت وكيت. فدفع كتابه إلى يزيد، فأعطاه الرسول الكتاب الثاني، وفيه: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن ابن رحمة على أسرارك وأبوه لم يأمنه على أمّهات أولاده؟ فلما قرأ الكتاب شتمه وناوله ليزيد، فأعطاه الثالث، وفيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد: فو الله لأوثّقن له آخيّة «2» لا ينزعها المهر الأرن «3» ! فلما قرأها قال سليمان: عجلنا على قتيبة! يا غلام، جدّد له عهدا على خراسان. ودخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان، فقال له سليمان: أترى الحجاج استقرّ في قعر جهنم، أم هو يهوي فيها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه من النار حيث شئت! قال: فأمر به إلى الحبس، فكان فيه طول ولايته. قال محمد بن يزيد الأنصاري: فلما ولى عمر بن عبد العزيز، بعثني فأخرجت من السجن من حبس سليمان ما خلا يزيد بن أبي مسلم فقد ردّ ...

فلما مات عمر بن عبد العزيز ولاه يزيد بن عبد الملك أفريقية وأنا فيها، فأخذت فأتي به إليه في شهر رمضان عند الليل، فقال: محمد بن يزيد؟ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي مكنني منك بلا عهد ولا عقد، فطالما سألت الله أن يمكنني منك! قلت: وأنا والله طالما استعذت بالله منك! قال: فو الله ما أعاذك الله مني، ولو أنّ ملك الموت سابقني إليك لسبقته! قال: فأقيمت صلاة المغرب، فصلى ركعة فثارت عليه الجند فقتلوه، وقالوا لي: خذ إلى الطريق أيّ طريق شئت. وأراد سليمان بن عبد الملك أن يحجر على يزيد بن عبد الملك، وذلك أنّه تزوّج سعدى بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان فأصدقها عشرين ألف دينار، واشترى جارية بأربعة آلاف دينار؛ فقال سليمان: لقد هممت أن أضرب على يد هذا السفيه، ولكن كيف أصنع بوصية أمير المؤمنين بابني عاتكة: يزيد ومروان؟ وحبس سليمان بن عبد الملك، موسى بن نصير، وأوحى إليه: اغرم «1» ديتك خمسين مرة! فقال موسى: ما عندي ما أغرمه. فقال: والله لتغرمنّها مائة مرة فحملها عنه يزيد بن المهلب، وشكر ما كان من موسى إلى أبيه المهلب أيام بشر بن مروان؛ وذلك أن بشرا هم بالمهلب؛ فكتب إليه موسى يحذّره، فتمارض المهلب ولم يأته حين أرسل إليه. وكان خالد بن عبد الله القسري واليا على المدينة للوليد ثم أقرّه سليمان؛ وكان قاضي مكة طلحة بن هرم؛ فاختصم إليه رجل من بني شيبة الذين إليهم مفتاح الكعبة يقال له الأعجم، مع ابن أخ له في أرض لهما، فقضى للشيخ على ابن أخيه، وكان متصلا بخالد بن عبد الله، فأقبل إلى خالد فأخبره؛ فحال خالد بين الشيخ وبين ما قضى له القاضي؛ فكتب القاضي كتابا إلى سليمان يشكو له خالدا. ووجّه الكتاب إليه مع محمد بن طلحة؛ فكتب سليمان إلى خالد: لا سبيل لك على الأعجم ولا ولده. فقدم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال لا سبيل لك علينا؛ هذا كتاب أمير

المؤمنين. فأمر به خالد فضرب مائة سوط قبل أن يقرأ كتاب سليمان؛ فبعث القاضي ابنه المضروب إلى سليمان؛ وبعث ثيابه التي ضرب فيها بدمائها؛ فأمر سليمان بقطع يد خالد فكلمه يزيد بن المهلب وقال: إن كان ضربه يا أمير المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تقطع يده، وإن كان ضربه قبل ذلك فعفو أمير المؤمنين أولى بذلك. فكتب سليمان إلى داود بن طلحة بن هرم: إن كان ضرب الشيخ بعد ما قرأ الكتاب الذي أرسلته فاقطع يده، وإن كان ضربه قبل أن يقرأ كتابي فاضربه مائة سوط. فأخذ داود بن طلحة- لما قرأ الكتاب- خالدا فضربه مائة سوط؛ فجزع خالد من الضرب فجعل يرفع يديه؛ فقال له الفرزدق: ضم إليك يديك يا بن النصرانية! فقال خالد: ليهنأ الفرزدق، وضمّ يديه. وقال الفرزدق: لعمري لقد صبّت على متن خالد ... شآبيب لم يصببن من صيّب القطر «1» فلولا يزيد بن المهلّب حلّقت ... بكفّك فتخاء الجناح إلى الوكر «2» فردّت أمّ خالد عليه تقول: لعمري لقد باع الفرزدق عرضه ... بخسف وصلى وجهه حامي الجمر فكيف يساوي خالدا أو يشينه ... خميص من التّقوى بطين من الخمر «3» وقال الفرزدق أيضا في خالد القسري: سلوا خالدا، لا قدّس الله خالدا ... متى ملكت قسر قريشا تدينها؟ أقبل رسول الله أو بعد عهده؟ ... فتلك قريش قد أغثّ سمينها رجونا هداه؛ لا هدى الله قلبه ... وما أمّه بالأمّ يهدى جنينها فلم يزل خالد محبوسا بمكة حتى حج سليمان وكلمه فيه المفضّل بن المهلب؛ فقال سليمان: لاطت «4» بك الرحم أبا عثمان؛ إن خالدا جرّعني غيظا! قال: يا أمير

وفاة سليمان بن عبد الملك

المؤمنين، هبني ما كان من ذنبه. قال: قد فعلت، ولا بدّ أن يمشي إلى الشام راجلا! فمشى خالد إلى الشام راجلا. وقال الفرزدق يمدح سليمان بن عبد الملك: سليمان غيث الممحلين ومن به ... عن البائس المسكين حلّت سلاسله وما قام من بعد النبيّ محمد ... وعثمان فوق الأرض راع يماثله جعلت مكان الجور في الأرض مثله ... من العدل إذ صارت إليك محامله وقد علموا أن لن يميل بك الهوى ... وما قلت من شيء فإنك فاعله زياد عن مالك، أن سليمان بن عبد الملك قال يوما لعمر بن عبد العزيز: كذبت! قال: والله ما كذبت منذ شددت عليّ إزاري، وإن في غير هذا المجلس لسعة! وقام مغضبا فتجهز يريد مصر! فأرسل إليه سليمان فدخل عليه؛ فقال له: يا بن عمي، إن المعاتبة تشقّ عليّ، ولكن والله ما أهمني أمر قط من ديني ودنياي إلا كنت أوّل من أذكره لك. وفاة سليمان بن عبد الملك قال رجاء بن حيوة: قال لي سليمان: إلى من ترى أن أعهد؟ فقلت: إلى عمر بن عبد العزيز! قال: كيف نصنع بوصية أمير المؤمنين بإبني عاتكة من كان منهما حيا؟ قلت: تجعل الأمر بعده ليزيد. قال: صدقت. قال: فكتب عهده لعمر ثم ليزيد بعده. ولما ثقل سليمان قال: ائتوني بقمص بني أنظر إليها! فأتى بها فنشرها فرآها قصارا، فقال: إن بنيّ صبية صغار ... أفلح من كان له كبار فقال له عمر أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى «1» .

وكان سبب موت سليمان بن عبد الملك، أن نصرانيا أتاه وهو بدابق بزنبيل «1» مملوء بيضا وآخر مملوء تينا، فقال: قشّروا. فقشروا، فجعل يأكل بيضة وتينة، حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بقعصة مملوءة مخا بسكر، فأكله، فأتخم فمرض فمات. ولما حج سليمان تأذى بحرّ مكة، فقال له عمر بن عبد العزيز: لو أتيت الطائف! فأتاها، فلما كان بسحق لقيه ابن أبي الزهير، فقال: يا أمير المؤمنين، اجعل منزلك عليّ. قال: كلّ منزلي. فرمى بنفسه على الرمل، فقيل له: يساق إليك الوطاء. فقال: الرمل أحبّ إليّ. وأعجبه برده، فالزق بالرمل بطنه، قال: فأتى إليه بخمس رمانات فأكلها، فقال: أعندكم غير هذه؟ فجعلوا يأتونه بخمس بعد خمس، حتى أكل سبعين رمانة؛ ثم أتوه بجدي وست دجاجات، فأكلهن؛ وأتوه بزبيب من زبيب الطائف فنثر بين يديه، فأكل عامته «2» ؛ ونعس، فلما انتبه أتوه بالغداء، فأكل كما أكل الناس، فأقام يومه: ومن غد قال لعمر: أرانا قد أضررنا بالقوم. وقال لابن أبي الزهير: اتبعني إلى مكة. فلم يفعل، فقالوا له: لو أتيته! فقال: أقول ماذا؟ أعطني ثمن قراي «3» الذي قربته!؟ العتبي عن أبيه عن الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص، قال. لما قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو، قال: فجال في البستان ساعة، ثم قال: ناهيك بمالكم هذا مالا! ثم ألقى صدره على غصن وقال: ويلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، عندي جدي كانت تغدو عليه بقرة وتروح أخرى. قال: عجل به ويحك! فأتيته به كأنه عكّة سمن، فأكله وما دعا عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي الفخذ قال: هلم أبا حفص. قال: أنا صائم. فأتى عليه، ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندل شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، دجاجتان هنديتان كأنهما رألا «4» النعام. فأتيته بهما، فكان يأخذ برجل

خلافة عمر بن عبد العزيز

الدجاجة فيلقي عظامها نقية، حتى أتى عليهما؛ ثم رفع رأسه فقال: ويلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى، عندي حريرة «1» كأنها قراضة ذهب. قال: عجل بها ويلك! فأتيته بعسّ يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقّمها بيده ويشرب، فلما فرغ تجشأ، فكأنما صاح في جب: ثم قال: يا غلام، أفرغت من غذائي؟ قال: نعم. قال: وما هو؟ قال: ثمانون قدرا! قال: ائتني بها قدرا قدرا. قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقلّ ما أكل لقمة؛ ثم مسح يده واستلقى على فراشه، ثم أذن للناس؛ ووضعت الخوانات «2» ، وقعد يأكل فما أنكرت شيئا من أكله. خلافة عمر بن عبد العزيز المدائني قال: هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم. وكنيته أبو حفص. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر الخطاب. وولي الخلافة يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين. ومات يوم الجمعة لست بقين من رجب، بدير شمعان من أرض دمشق، سنة إحدى ومائة. وصلى عليه يزيد بن عبد الملك. علي بن زيد قال. سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: تمت حجة الله على ابن الأربعين. ومات لها. وكان على شرطته يزيد بن بشير الكناني، وعلى حرسه عمرو بن المهاجر، ويقال أبو العباس الهلالي؛ وكان كاتبه على الرسائل ابن أبي رقية، وكاتبه أيضا إسماعيل بن أبي حكيم، وعلى خاتم الخلافة نعيم بن أبي سلامة، وعلى الخراج والجند صالح بن أبي جبير، وعلى إذنه أبو عبيدة الأسود مولاه. يعقوب بن داود الثقفي عن أشياخ من ثقيف قال: قريء عهد عمر بالخلافة وعمر في ناحية، فقام رجل من ثقيف يقال له سالم من أخوال عمر، فأخذ بضبعيه «3»

أخبار عمر بن عبد العزيز

فأقامه؛ فقال عمر: أما والله ما الله أردت بهذا. ولن تصيب بها مني دنيا. أبو بشر الخراساني قال: خطب عمر بن عبد العزيز الناس حين استخلف، فقال: أيها الناس، والله ما سألت الله هذا الأمر قط في سر ولا علانية، فمن كان كارها لشيء مما وليته فالآن. فقال سعيد بن عبد الملك: ذلك أسرع فيما نكره أتريد أن نختلف ويضرب بعضنا بعضا؟ قال رجل: سبحان الله! وليها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يقولوا هذا؛ ويقوله عمر. أخبار عمر بن عبد العزيز بشر بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر يخلو بنفسه ويبكي فنسمع نحيبه بالبكاء وهو يقول: أبعد الثلاثة الذين واريتهم بيدي: عبد الملك، والوليد، وسليمان. وقدم رجل من خراسان على عمر بن عبد العزيز حين استخلف، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي قائلا يقول: إذا ولي الأشجّ «1» من بني أمية يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؛ فولي الوليد، فسألت عنه فقيل لي: ليس بأشج؛ ثم ولي سليمان، فسألت عنه فقيل: ليس بأشج؛ ووليت أنت فكنت الأشج. فقال عمر: تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: فبالذي أنعم عليك به، أحق ما أخبرتني؟ قال: نعم. فأمره أن يقيم في دار الضيافة، فمكث نحوا من شهرين، ثم أرسل إليه عمر فقال: هل تدري لم احتبسناك؟ قال: لا. قال: أرسلنا إلى بلدك لنسأل عنك فإذا ثناء صديقك وعدوّك عليك سواء؛ فانصرف راشدا. وكان عمر بن عبد العزيز لا يأخذ من بيت المال شيئا، ولا يجري على نفسه من الفيء درهما: وكان عمر بن الخطاب يجري على نفسه من ذلك درهمين في كل يوم؛

فقيل لعمر بن عبد العزيز: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب؟ فقال: إن عمر ابن الخطاب لم يكن له مال، وأنا مالي يغنيني!. ولما ولي عمر بن عبد العزيز قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على هذا وأشار إلى رجل، قال: فيم؟ قال: أخذ مالي وضرب ظهري. فدعا به عمر فقال ما يقول هذا؟ قال: صدق، إنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك: «وطاعتكم فريضة» قال: كذبت! لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله. وأمر بالأرض فردّت إلى صاحبها. عبد الله بن المبارك عن رجل أخبره، قال: كنت مع خالد بن يزيد بن معاوية في صحن بيت المقدس، فلقينا عمر بن عبد العزيز ولا أعرفه، فأخذ بيد خالد وقال: يا خالد، أعلينا عين؟ قلت: عليكما من الله عين بصيرة وأذن سميعة! قال: فاستلّ يده من يد خالد وأرعد «1» ودمعت عيناه ومضى، فقلت لخالد: من هذا؟ قال: هذا عمر ابن عبد العزيز، وإن عاش فيوشك أن يكون إماما عدلا. وقال رباح بن عبيدة: اشتريت لعمر قبل الخلافة مطرفا بخمسمائة، فاستخشنه وقال: لقد اشتريته خشنا جدا! واشتريت له بعد الخلافة كساء بثمانية دراهم، فاستلانه وقال: لقد اشتريته ليّنا جدا!. ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر وعليه ريطة «2» من رياط مصر: فقال: بكم أخذت هذا يا أبا سعيد؟ قال: بكذا وكذا. قال: فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك. قال مسلمة: إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اللّين ما كان بعد الولاية. وكان لعمر غلام يقال له درهم يحتطب له، فقال له يوما: ما يقول الناس يا درهم؟ قال: وما يقولون؟ الناس كلهم بخير، وأنا وأنت بشر! قال: وكيف ذلك؟

قال: إني عهدتك قبل الخلافة عطرا، لبّاسا، فاره «1» المركب، طيّب الطعام؛ فلما وليت رجوت أن أستريح وأتخلص، فزاد عملي شدة، وصرت أنت في بلاء! قال فأنت حرّ، فاذهب عني ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجا! ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر، فكثر بكاؤه ومسألته ربّه الموت، فقلت: لم تسأل الموت وقد صنع الله على يديك خيرا كثيرا: أحيا بك سننا، وأمات بك بدعا قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح أقر الله عينه وجمع له أمره قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «2» ! ولما ولي عمر بن عبد العزيز قال: إن فدك كانت مما أفاه الله على رسوله فسألتها فاطمة رسول الله، فقال لها: ما لك أن تسأليني، ولا لي أن أعطيك! فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصنع فيها حيث أمره الله، ثم أبو بكر وعمر وعثمان، كانوا يضعونها المواضع التي وضعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم ولي معاوية فأقطعها مروان، ووهبها مروان لعبد الملك وعبد العزيز، فقسمناها بيننا أثلاثا: أنا والوليد وسليمان؛ فلما ولي الوليد سألته نصيبه فوهبه لي، وما كان لي مال أحبّ إلي منها؛ وأنا أشهدكم أني قد رددتها إلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال عمر: الأمور ثلاثة: أمر استبان رشده فاتبعه؛ وأمر استبان ضرّه «3» فاجتنبه؛ وأمر أشكل أمره عليك فردّه إلى الله. وكتب عمر إلى بعض عماله: الموالي ثلاثة: مولى رحم، ومولى عتاقة، ومولى عقد؛ فمولى الرحم يرث ويورث، ومولى العتاقة يورث ولا يرث، ومولى العقد لا يرث ولا يورث وميراثه لعصبته.

وكتب عمر إلى عماله: مروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية «1» ولا يتشبّهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحدا من الكفار يستخدم أحدا من المسلمين. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة عامله على العراق: إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق القادر عليك، واعلم أن ما لك عند الله أكثر مما لك عند الناس. وكتب عمرو بن عبد العزيز إلى عماله: مروا من كان قبلكم فلا يبقى أحد من أحرارهم ولا مماليكهم صغيرا ولا كبيرا، ذكرا ولا أنثى، إلا أخرج عنه صدقة فطر رمضان: مدّين من قمح، أو صاعا «2» من تمر، أو قيمة ذلك نصف درهم، فأما أهل العطاء فيؤخذ ذلك من أعطياتهم عن أنفسهم وعيالاتهم، واستعملوا على ذلك رجلين من أهل الأمانة يقبضان ما اجتمع من ذلك ثم يقسمانه في مساكين أهل الحاضرة، ولا يقسم على أهل البادية. وكتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر: إنّ رجلا شتمك فأردت أن أقتله. فكتب إليه: لو قتلته لأقدتك به، فإنه لا يقتل أحد بشتم أحد إلا رجل شتم نبيّا. وكتب رجل من عمال عمر إلى عمر: إنا أتينا بساحرة، فألقيناها في الماء، فطفت على الماء؛ فما ترى فيها؟ فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا فخل سبيلها. وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامله على المدينة في المظالم فيرادّه فيها، فكتب إليه:

إنه يخيّل لي أني لو كتبت لك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إليّ: أذكر أم أنثى؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إليّ: أصغيرة أم كبيرة؟ ولو كتبت بأحدهما لكتبت: ضائنة «1» أم معزى؟ فإذا كتبت إليك فنفّذ ولا تردّ عليّ، والسلام. وخطب عمر فقال: أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها؛ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ » ، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ «3» . وقال عمر لبني مروان: أدّوا ما في أيديكم من حقوق الناس ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون! فلم يجبه أحد منهم، فقال: أجيبوني. فقال رجل منهم: والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنفقر أبناءنا، ونكفر آباءنا، حتى تزايل رءوسنا فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا عليّ بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت «4» خدودكم عاجلا، ولكنني أخاف الفتنة. ولئن أبقاني الله لأردّنّ إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله!. وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية قال: إني أرى رقابا سترد إلى أربابها. ولما مات عمر بن عبد العزيز قعد مسلمة على قبره فقال: أما والله ما أمنت الرّقّ حتى رأيت هذا القبر. العتبي قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دفن سليمان بن الملك تبعه الأمويون، فلما دخل إلى منزله قال له الحاجب: الأمويون بالباب. قال: وما يريدون؟ قال: ما عوّدتهم الخلفاء قبلك. قال ابنه عبد الملك وهو إذ ذاك ابن أربع

وفاة عمر بن عبد العزيز

عشرة سنة: ائذن لي في إبلاغهم عنك. قال: وما تبلغهم؟ قال: أقول: أبي يقرئكم السلام ويقول لكم إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «1» . زياد عن مالك قال: قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: يا أبت، مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! قال له عمر: لا تعجل يا بنيّ؛ فإنّ الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذلك فتنة. ولما نزل بعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الموت قال له عمر: كيف تجدك يا بنيّ؟ قال أجدني في الموت، فاحتسبني، فثواب الله خير لك مني، فقال: يا بني، والله لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك. قال: أما والله لأن يكون ما تحب، أحبّ إليّ من أن يكون ما أحب! ثم مات، فلما فرغ من دفنه وقف على قبره وقال: يرحمك الله يا بنيّ فلقد كنت سارّا مولودا، وبارّا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني؛ فرحم الله كل عبد، من حر أو عبد، ذكر أو أنثى دعا لك برحمة! فكان الناس يترحمون على عبد الملك ليدخلوا في دعوة عمر؛ ثم انصرف، فدخل الناس يعزونه، فقال: إن الذي نزل بعبد الملك أمر لم نزل نعرفه، فلما وقع لم ننكره! وتوفيت أخت لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دفنها دنا إليه رجل فعزاه، فلم يردّ عليه، ثم آخر فلم يردّ عليه؛ فلما رأى الناس ذلك أمسكوا، ومشوا معه فلما دخل الباب أقبل على الناس بوجهه، فقال: أدركت الناس وهم لا يعزّون في المرأة إلا أن تكون أماّ. وفاة عمر بن عبد العزيز مرض عمر بن عبد العزيز بأرض حمص، ومات بدير شمعان. فيرى الناس أن يزيد بن عبد الملك سمه. دسّ إلى خادم كان يخدمه، فوضع السم على ظفر إبهامه فلما

استسقى عمر غمس إبهامه في الماء ثم سقاه؛ فمرض مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه مسلمة بن عبد الملك فوقف عند رأسه فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا؛ فلقد عطفت علينا قلوبا كانت عنا نافرة، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا. زياد عن مالك قال: دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في المرضة التي مات فيها، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة. ولا بدّ لهم من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مئونتهم إن شاء الله. فقال عمر أجلسوني. فأجلسوه، فقال: الحمد لله، أبالفقر تخوّفني يا مسلمة؟ أما ما ذكرت أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقا هو لهم، ولم أعطهم حقا هو لغيرهم؛ وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي، فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين؛ وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله فجعل الله له من أمره يسرا ورزقه من حيث لا يتحسب، ورجل غيرّ وفجر «1» فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه. ادعوا لي بنيّ- فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر غلاما، فجعل يصعّد بصره فيهم ويصوّبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع- ثم قال: بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم! يا بني، إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرّون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله، يا بنيّ، ميّلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا في النار؛ قوموا يا بنيّ عصمكم الله ورزقكم! قال: فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر. واشترى عمر بن عبد العزيز من صاحب دير شمعان موضع قبره بأربعين درهما ومرض تسعة أيام ومات رضي الله عنه يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى

خلافة يزيد بن عبد الملك

ومائة، وصلى عليه يزيد بن عبد الملك. وقال جرير بن الخطفي يرثي عمر بن عبد العزيز: ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وسرت فينا بحكم الله يا عمرا «1» فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا أنشد أبو عبيد الأعرابي في عمر بن عبد العزيز: مقابل الأعراق «2» في الطّيب الطاب ... بين أبي العاص وآل الخطّاب قال أبو عبيدة: طيّب وطاب، كما يقال: ذيم وذام «3» . خلافة يزيد بن عبد الملك ثم ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة. ومات ببلاد البلقاء «4» يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك؛ وكانت ولايته أربع سنين وشهرا. وفيه يقول جرير: سربلت سربال ملك غير مغتصب ... قبل الثلاثين إنّ الملك مؤتشب «5» وكان على شرطته كعب بن مالك العبسي؛ وعلى الحرس غيلان أبو سعيد مولاه؛ وعلى خاتم الخلافة مطر مولاه، وكان فاسقا؛ وعلى الخاتم الصغير بكير أبو الحجاج؛

أسماء ولد يزيد

وعلى الرسائل والجند والخراج صالح بن جبير الهمداني، ثم عزله واستعمل أسامة بن زيد مولى كلب؛ وعلى الخزائن وبيوت الأموال هشام بن مصاد؛ وحاجبه خالد مولاه. وكان يزيد بن عبد الملك صاحب لهو ولذات، وهو صاحب حبابة وسلّامة «1» ؛ وفي ولايته خرج يزيد بن المهلب. أسماء ولد يزيد الوليد، ويحيى، وعبد الله، والغمر، وعبد الجبار، وسليمان، وأبو سفيان، وهاشم، وداود ولا عقب له، والعوّام ولا عقب له «2» . وكتب يزيد بن عبد الملك إلى عمال عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن عمر كان مغرورا، غررتموه أنتم وأصحابكم وقد رأيت كتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة؛ فإذا أتاكم كتابي هذا فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبّوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا! والسلام. أبو الحسن المدائني قال: لما ولي يزيد بن عبد الملك، وجه الجيوش إلى يزيد بن المهلب، فعقد لمسلمة بن عبد الملك على الجيش وللعباس بن الوليد على أهل دمشق خاصة؛ فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، إن العراق قوم إرجاف «3» ، وقد خرجنا إليهم محاربين، والأحداث تحدث؛ فلو عهدت إلى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، قال: غدا إن شاء الله. وبلغ مسلمة الخبر، فأتاه فقال له: يا أمير المؤمنين، أولاد عبد الملك أحب إليك أم أولاد الوليد، قال: ولد عبد الملك، قال: فأخوك أحق بالخلافة أم ابن أخيك؟

قال: بل أخي، إذا لم يكن ولدي، أحقّ بها من أبن أخي. قال: يا أمير المؤمنين، فإن ابنك لم يبلغ؛ فبايع لهشام بن عبد الملك ولايتك الوليد من بعده، قال: غدا إن شاء الله. فلما كان من الغد بايع لهشام ولابنه الوليد من بعده. والوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة، فلما انقضى أمر يزيد بن المهلب وأدرك الوليد ندم يزيد على استخلاف هشام، فكان إذا نظر إلى ابنه الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك! قال: ولمال قتل يزيد بن المهلب، جمع يزيد بن عبد الملك العراق لأخيه مسلمة بن عبد الملك؛ فبعث هلال بن أحوز المازني إلى قندابيل «1» في طلب آل المهلب، فالتقوا، فقتل المفضل بن المهلب وانهزم الناس، وقتل هلال بن أحوز خمسة من ولد المهلب ولم يفتش النساء ولم يعرض لهن، وبعث العيال والأسرى إلى يزيد بن عبد الملك. قال: حدثني جابر بن مسلم قال: لما دخلوا عليه قام كثيرّ بن أبي جمعة الذي يقال له كثيّر عزة، فقال: حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشدّ عقاب أو عفا لم يثرّب «2» فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تكتسب من صالح لك يكتب أساءوا فإن تغفر فإنك قادر ... وأعظم حلم حسبة حلم مغضب نفتهم فريش عن أباطح مكة ... وذو يمن بالمشرفيّ المشطّب «3» فقال يزيد: لاطت «4» بك الرّحم، لا سبيل إلى ذلك؛ من كان له قبل آل المهلب دم فليقم! فدفعهم إليهم حتى قتل نحو ثمانين. قال: وبلغ يزيد بن عبد الملك أن هشاما يتنقّصه، فكتب إليه:

إن مثلي ومثلك كما قال الأول: تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد لعلّ الذي يبغي رداي ويرتجي ... به قبل موتي أن يكون هو الرّدي «1» فكتب إليه هشام: إن مثلي ومثلك كما قال الأول: ومن لم يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبّع جاهدا كلّ عثرة ... يجدها، ولا يبقى له الدهر صاحب «2» فكتب إليه يزيد: نحن مغتفرون ما كان منك، ومكذّبون ما بلغنا عنك، مع حفظ وصية أبينا عبد الملك، وما حضّ عليه من صلاح ذات البين، وإني لأعلم أنك كما قال معن بن أوس: لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنيّة أوّل وإني على أشياء منك تريبني ... قديما ولا صلح على ذاك يجمل ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيّ كف تبدّل إذا سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل «3» وفي الناس إن رثّت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل «4» فلما جاء الكتاب رحل هشام إليه، فلم يزل في جواره إلى أن مات يزيد وهو معه في عسكره مخافة أهل البغي. محمد بن الغاز قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الله بن شيب قال: حدّثني الزبير بن بكار قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا «5» بحبابة كلفا شديدا، فلما توفيت أكبّ عليها

خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان

يتشمّمها أياما حتى أنتنت، فأخذها في جهازها، وخرج بين يدي نعشها، حتى إذا بلغ القبر نزل فيه فلما فرغ من دفنها لصق به مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه، فقال: قاتل الله ابن أبي جمعة، كأنه كان يرى ما نحن فيه حيث يقول: فإن تسل عنك النّفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد وكلّ خليل زارني فهو قائل ... من اجلك هذا ميّت اليوم أو غد! قال: وطعن «1» في جنازتها فدفناه إلى سبعة عشر يوما. خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان ثم بويع هشام بن عبد الملك بن مروان، ويكنى أبا الوليد: وأمّه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام المخزومي، يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شعبان سنة خمس ومائة. ومات بالرصافة يوم الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وصلى عليه الوليد بن يزيد، وكانت خلافته عشرين سنة. أسماء ولد هشام بن عبد الملك معاوية، وخلف، ومسلمة، ومحمد، وسليمان، وسعيد، وعبد الله، ويزيد، وهو الأبكم؛ ومروان، وإبراهيم، ويحيي، ومنذر، وعبد الملك، والوليد، وقريش، وعبد الرحمن. وكان على شرطته: كعب بن عامر العبسي، وعلى الرسائل: سالم مولاه، وعلى خاتم الخلافة: الربيع: مولى لبني الحربش، وهو الربيع بن سابور؛ وعلى الخاتم الصغير: أبو الزبير مولاه، وعلى ديوان الخراج والجند: أسامة بن زيد، ثم عزله وولّى الحثحاث؛ وعلى إذنه غالب بن مسعود مولاه.

أخبار هشام بن عبد الملك

أخبار هشام بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال: كان عبد الملك بن مروان رأى في منامه أن عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقلت «1» رأسه فقطعته عشرين قطعة، فغمّه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب فقصها عليه، فقال سعيد: تلد غلاما يملك عشرين سنة. وكانت عائشة أمّ هشام حمقاء، فطلقها عبد الملك لحمقها، وولدت هشاما وهي طالق، ولم يكن في ولد عبد الملك أكمل من هشام. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك بعد أن سخط «2» على خالد ابن عبد الله القسري وسلط عليه يوسف بن عمر عامله على العراق، فلما دخلت عليه استدناني «3» حتى كنت أقرب الناس إليه فتنفس الصعداء، ثم قال: يا خالد، رب خالد قعد مقعدك هذا أشهى إليّ حديثا منك! فعلمت أنه يريد خالد بن عبد الله القسري، قلت: يا أمير المؤمنين، أفلا تعيده؟ قال: هيهات، إنّ خالدا أدلّ فأملّ، وأوجف «4» فأعجف «5» ، ولم يدع لمراجع مرجعا؛ على أنه ما سألني حاجة قط! فقلت: يا أمير المؤمنين، فلو أدنيته فتفضلت عليه! قال: هيهات، وأنشد: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... عليه بوجه آخر الدّهر تقبل قال أصبغ بن الفرج: لم يكن في بني مروان من ملوكها أعطر ولا ألبس من هشام؛ خرج حاجّا فحمل ثياب طهره على ستمائة جمل. ودخل المدينة، فقال لرجل: انظر من في المسجد. فقال: رجل طويل آدم أدلم «6» . قال: هذا سالم بن عبد الله، ادعه. فأتاه فقال: أجب أمير المؤمنين، وإن

شئت أرسل فتؤتى بثيابك. فقال: ويحك! أتيت الله زائرا في رداء وقميص ولا أدخل بهما على هشام! فدخل عليه، فوصله بعشرة آلاف، ثم قدم مكة فقضى حجه، فلما رجع إلى المدينة قيل له: إن سالما شديد الوجع. فدخل عليه وسأله عن حاله. ومات سالم فصلى عليه هشام وقال: ما أدري بأي الأمرين أنا أسرّ: بحجتي أم بصلاتي على سالم. قال: ووقف هشام يوما قريبا من حائط فيه زيتون له، فسمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: التقطوه ولا تنفضوه، فتفقئوا عيونه، وتكسروا غصونه. وخرج هشام هاربا من الطاعون، فانتهى إلى دير فيه راهب، فأدخله الراهب بستانه، فجعل ينتقي له أطايب الفاكهة والبالغ منها، فقال هشام: يا راهب، هبني بستانك هذا! فلم يجبه، فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: وددت أنّ الناس كلّهم ماتوا غيرك! قال: ولم؟ قال: لعلك أن تشبع! فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أتسمع ما يقول؟ قال الأبرش: بلى، والله ما لقيك حرّ غيره. العتبي قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم بن محمد بن طلحة، وصاحب حرس هشام، حتى قعدا بين يديه، فقال الحرسيّ «1» : إن أمير المؤمنين جرّاني «2» في خصومة بينه وبين إبراهيم. قال القاضي: شاهديك على الجراية «3» . فقال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه السترة؟ قال: لا، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام، فلم يلبث حتى قعقعت الأبواب وخرج الحرسي فقال: هذا أمير المؤمنين. قال: فقام القاضي فأشار إليه فقعد، وبسط له مصلى فقعد عليه هو وإبراهيم؛ وكنا حيث نسمع بعض كلامهما ويخفى علينا البعض، قال: فتكلما وأحضرت البينة، فقضى القاضي على

هشام، فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك! فقال هشام: لقد هممت أن أضربك ضربة ينثر منها لحمك عن عظمك! قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنّه بشيخ كبير السنّ، قريب القرابة، واجب الحق. قال له: استرها عليّ يا إبراهيم! قال: لا ستر الله عليّ ذنبي إذا يوم القيامة. قال: إني معطيك عليها مائة ألف ... قال إبراهيم: فسترتها عليه طول حياته ثمنا لما أخذت منه، وأذعتها عنه بعد موته تزيينا له. وذكروا عن الهيثم بن عدي قال: كان سعيد بن هشام بن عبد الملك عاملا لأبيه على حمص، وكان يرمى بالنساء والشراب، فقدم حمصيّ لهشام، فلقيه أبو جعد الطائي في طريق، فقال له: هل ترى أن أعطيك هذه الفرس- فإني لا أعلم بمكان مثلها- على أن تبلغ هذا الكتاب أمير المؤمنين، ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم؟ فأخذها وأخذ الكتاب، فلما قدم على هشام سأله: ما قصة هذا الفرس؟ فأخبره؛ فقال: هات الكتاب، فإذا فيه: أبلغ إليك أمير المؤمنين فقد ... أمددتنا بأمير ليس عنّينا» طورا يخالف عمرا في حليلته ... وعند ساحته يسقي الطّلا دينا «2» فلما قرأ الكتاب بعث إلى سعيد فأشخصه؛ فلما قدم عليه علاه بالخيزرانة وقال: يا بن الخبيثة، تزني وأنت ابن أمير المؤمنين! ويلك! أعجزت أن تفجر فجور قريش؟ أو تدري ما فجور قريش لا أم لك؟ قتل هذا، وأخذ مال هذا؛ والله لا تلي لي عملا حتى تموت! قال: قال: فما ولي له عملا حتى مات. أحمد بن عبيد قال: أخبرني هشام الكلبي عن أبي محمد بن سفيان القرشيّ عن أبيه قال: كنا عند هشام بن عبد الملك وقد وفد عليه وفد أهل الحجاز، وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم، فحضرت كلامهم، حتى قام

محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدويّ، وكان أعظم القوم قدرا، وأكبرهم سنا؛ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك ما قالت؛ وأكثرت وأطنبت؛ والله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى خطيبهم فضلك، وإن أذنت في القول قلت. قال: قل وأوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى؛ وزيّنك بالتقوى؛ وجمع لك خير الآخرة والأولى؛ إن لي حوائج، أفأذكرها؟. قال: هاتها. قال: كبرت سنّي، ونال الدهر مني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري، فعل. قال: وما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك؟ قال: ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار. قال: فأطرق هشام طويلا ثم قال: يا بن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما ذكرت. ثم قال له: هيه! قال: ما هيه؟ أما والله إن الأمر لواحد، ولكنّ الله آثرك لمجلسك؛ فإن تعطنا فحقّنا أديت، وإن تمنعنا نسأل الله الذي بيده ما حويت؛ يا أمير المؤمنين، إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة. والله لأن أحبّك أحبّ إليّ من أن أبغضك؛ قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينا قد حمّ قضاؤه! «1» وعناني حمله، وأضرّ بي أهله. قال: فلا بأس، تنفس كربة، وتؤدي أمانة. وألف دينار لماذا؟ قال: أزوّج بها من بلغ من ولدي. قال: نعم المسلك سلكت، أغضضت بصرا، وأعففت ذكرا، وأمّرت «2» نسلا. وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب «3» دهري، وتكون ذخرا لمن بعدي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالمحمود الله على ذلك، وخرج. فأتبعه هشام بصره، وقال: إذا كان القرشي فليكن مثل هذا، ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه، ثم قال: أما والله إنا لنعرف الحق إذا نزل،

ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وما نحن إلا خزّان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإذا أذن أعطينا، وإذا منع أبينا، ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق، ما جبهنا «1» قائلا، ولا رددنا سائلا؛ ونسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا، فإنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بعباده خبير بصير. فقالوا يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ كلامه ما قصصت. قال: إنه مبتديء، وليس المبتديء كالمقتدي. وذكروا أن العباس بن الوليد وجماعة من بني مروان اجتمعوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيد وعابوه وذموه، وكان هشام يبغضه، ودخل الوليد، فقال له العباس: يا وليد، كيف حبّك للروميات، فإن أباك كان مشغوفا بهن؟ قال: كيف لا يكون وهن يلدن مثلك! قال: ألا تسكت يا ابن البظراء؟ قال: حسبك أيها المفتخر علينا بختان أمّك! وقال له هشام: ما شرابك يا وليد؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين ... وقام يخرج، فقال لهم هشام: هذا الذي زعمتموه أحمق. وقرّب الوليد بن يزيد فرسه فجمع جراميزه «2» ووثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد هشام، وقال له: هل يقدر أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا. فقال الناس: لم ينصفه في الجواب. العتبي عن أبيه، قال: سمعت معاوية بن عمرو بن عتبة يحدث قال: إني لقاعد بباب هشام بن عبد الملك، وكان الناس يتقرّبون إليه بعيب الوليد بن يزيد، قال فسمعت قوما يعيبونه، فقلت: دعونا من عيب من يلزمنا مدحه، ووضع من يجب علينا رفعه. وكانت للوليد بن يزيد عيون لا يبرحون بباب هشام، فنقلوا إليه

خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

كلامي وكلام القوم، فلم ألبث إلا يسيرا حتى راح إليّ مولى للوليد قد التحف على ألف دينار، فقال لي: يقول لك مولاي: أنفق هذه في يومك وغدا أمامك قال: فملئت رعبا من هشام وخشيت سطوته، ورماه الله بالعلّة، فدفنّاه لثمانية عشر يوما بعد ذلك اليوم. فلما قام الوليد بعده دخلت عليه، فقال لي: يا ابن عتبة، أتراني ناسيا قعودك بباب الأحول «1» ، يهدمني وتبنيني، ويضعني وترفعني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، شاركت قومك في الإحسان، وتفردت دونهم بإحسانك إلى، فلست أحمد لك نفسي في اجتهاد، ولا أعذرها في تقصير، وتشهد بذلك ألسنة الجائزين بنا، ويصدق قولهم الفعال منا. قال: كذلك أنتم لنا آل أبي سفيان، وقد أقطعتك مالي بالبثنيّة «2» وما أعلم لقرشي مثله. وقال عبد الله بن عبد الحكم فقيه مصر: سمعت الأشياخ يقولون: سنة خمس وعشرين ومائة، أديل من الشرف، وذهبت المروءة. وذلك عند موت هشام بن عبد الملك. قال أبو الحسن المدائني: مات هشام بن عبد الملك بالذّبحة يوم الأربعاء بالرصافة في ربيع الآخر لست خلون منه سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه سلمة بن هشام أو بعض ولده، واشترى له كفر «3» من السوق. خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لستّ خلون من ربيع الآخرة سنة خمس وعشرين ومائة؛ وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، أخي الحجاج بن يوسف.

وقتل بالبخراء من تدمر على ثلاثة أميال، يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن خميس وثلاثين أو ست وثلاثين. قال حاتم بن مسلم: ابن خمس وأربعين وأشهر. وكانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما. فأول شيء نظر فيه الوليد أن كتب إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك أن يأتي الرصافة يحصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عماله وحشمه «1» ، إلا مسلمة ابن هشام، فإنه كتب إليه أن لا يعرض له ولا يدخل منزله؛ وكان مسلمة كثيرا ما يكلم أباه في الرفق بالوليد. ففعل العباس ما أمره به. وكتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر، فقدم عليه من العراق، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري، محمدا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المخزومي، وأمر بقتلهم. فحدّث أبو بشر بن السري قال: رأيتهم حين قدم بهم يوسف بن عمر الحيرة، وخالد في عباءة في شق مخمل، فعذبهم حتى قتلهم. ثم عكف الوليد على البطالة وحب القيان والملاهي والشراب ومعاشقة النساء، فتعشّق سعدى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فتزوجها؛ ثم تعشق أختها سلمى فطلق أختها سعدى وتزوج سلمى، فرجعت سعدى إلى المدينة فتزوجت بشر ابن الوليد بن عبد الملك، ثم ندم الوليد على فراقها وكلف بحبها، فدخل عليه أشعب المضحك، فقال له الوليد: هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرون ألف درهم؟ قال: هاتها. فدفعها إليه، فقبضها وقال: ما رسالتك؟ قال: إذا قدمت المدينة فاستأذن عليها وقل لها: يقول لك الوليد: أسعدى ما إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق بلى ولعلّ دهرا أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو فراق

فأتاها أشعب فاستأذن عليها، وكان نساء المدينة لا يحتجبن عنه؛ فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب؟ قال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة. قالت: هاتها. فأنشدها البيتين، فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث ... وقالت: ما جرّأك على مثل هذه الرسالة؟ قال: إنها بعشرين ألفا معجلة مقبوضة! قالت والله لأجلدنك أو لتبلغنّه عني كما أبلغتني عنه. قال: فاجعلي لي جعلا «1» . قالت: بساطي هذا. قال: فقومي عنه. فقامت عنه، وطوى البساط وضمه، ثم قال: هاتي رسالتك. فقالت له: قل له: أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى، فما أنت صانع فلما بلّغه الرسالة كظم الغيظ على أشعب، وقال: اختر إحدى ثلاث خصال، ولا بد لك من إحداها: إما أن أقتلك، وإما أن أطرحك للسباع فتأكلك، وإما أن ألقيك من هذا القصر! فقال أشعب، يا سيدي، ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى! فضحك وخلى سبيله. وأقامت عنده سلمى حتى قتل عنها، وهو القائل في سلمى: شاع شعري في سليمى وظهر ... ورواه كلّ بدو وحضر وتهادته الغواني بينها ... وتغنّين به حتى انتشر لو رأينا من سليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للأثر واتخذناها إماما مرتضى ... ولكانت حجّنا والمعتمر إنما بنت سعيد قمر ... هل حرجنا أن سجدنا للقمر وفيها يقول قبل تزوجه لها: حدّثوا أنّ سليمى ... خرجت يوم المصلّى فإذا طير مليح ... فوق غصن يتفلّى «2»

قلت يا طير ادن منّي ... فدنا ثم تدلي قلت هل تعرف سلمى ... قال لا ثمّ تولى فنكا في القلب كلما ... باطنا ثمّ تخلى «1» وقال في سلمى قبل تزوجه لها: لعلّ الله يجمعني بسلمى ... أليس الله يفعل ما يشاء ويأتي بي ويطرحني عليها ... فيوقظني وقد قضي القضاء ويرسل ديمة من بعد هذا ... فتغسلنا وليس بنا عناء «2» وقال فيها بعد تزوجه لها: أنا في يمنى يديها ... وهي في يسرى يديّه إنّ هذا لقضاء ... غير عدل يا أخيّه ليت من لام محبّا ... في الهوى لاقى منيّه فاستراح الناس منه ... ميتة غير سويّه قال: ولهج الوليد بالنساء والشراب والصيد، فأرسل إلى المدينة فحملوا له المغنين، فلما قرّبوا إليه أمر أن يدخلوا العسكر ليلا، وكره أن يراهم الناس، فأقاموا حتى أمسوا غير محمد بن عائشة فإنه دخل نهارا، فأمر الوليد بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى شرب الوليد يوما فطرب فكلمه معبد، فأمر الوليد بإخراجه، ودعاه فغناه فقال: أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تعطف عليك الحنيّ والولج «3» فرضي عنه؛ وكان سعيد الأحوص ومعبد، قدما على الوليد ونزلا في الطريق على غدير وجارية تستقي، فزاغت، فانكسرت الجرّة، فجلست تغني: يا بيت عاتكة الذي أتغزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل

فقال: يا جارية، لمن أنت؟ فقالت: كنت لآل الوليد بن عقبة بالمدينة، فاشتراني مولاي، وهو من بني عامر بن صعصعة أحد بني الوحيد من بني كلاب، وعنده بنت عم له، فوهبني لها، فأمرتني أن أستقي لها. فقال لها: فلمن الشعر؟ قالت: سمعت بالمدينة أن الشعر للأحوص والغناء لمعبد. فقال معبد للأحوص: قل شيئا أغني عليه. فقال: إنّ زين الغدير من كسر الجرّ ... وغنّى غناء فحل مجيد قلت: من أنت يا مليحة؟ قالت: ... كنت فيما مضى لآل الوليد ثم قد صرت بعد عزّ قريش ... في بني عامر لآل الوحيد وغنائي لمعبد ونشيدي ... لفتى الناس الأحوص الصّنديد «1» فتضاحكتّ ثم قلت أنا الأحوص ... والشيخ معبد فأعيدي فأعادت وأحسنت ثم ولت ... تتهادى فقلت أمّ سعيد يقصر المال عن شراك ولكن ... أنت في ذمّة الإمام الوليد وأم سعيد كانت للأحوص بالمدينة. فغنى معبد على الشعر، فقال: ما هذا؟ فأخبراه، فاشتراها الوليد. قال أبو الحسن: وقال ابن أبي الزناد: إني كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكرا الوليد فتنقّصاه وعاباه عيبا شديدا، ولم أعرض لشيء مما كان فيه، فاستأذن فأذن له، فدخل وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلا ثم قام؛ فلما مات هشام كتب فيّ، فحملت إليه، فرحب بي وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطف المسألة، ثم قال: أتذكر هشاما الأحول وعنده الفاسق الزهري وهما يعيباني؟ فقلت: أذكر ذلك، ولم أعرض لشيء مما كانا فيه. قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان على رأس هشام قائما؟ قلت: نعم. قال: فإنه نمّ إليّ بما قالاه، وايم الله لو بقي الفاسق الزهري لقتلته. قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. قال: يا بن ذكوان، ذهب الأحول!

قلت: يطيل الله عمرك، ويمتع الأمة ببقائك. ودعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وجلس فقال: اسقني. فجاءوا بإناء مغطى، وجيء بثلاث جوار، فصففن بيني وبينه حتى شرب، وذهبن فتحدثنا، واستسقى «1» ، فصنعوا مثل ذلك، فما زال كذلك: يستسقي ويتحدث ويصنعون مثل ذلك، حتى طلع الفجر؛ فأحصيت له سبعين قدحا. علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشراعة من الكوفة؛ فو الله ما سأله عن نفسه ولا عن مسيره حتى قال له: يا شراعة. أنا والله ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب الله وسنة رسوله. قال: والله لو سألتني عنهما لوجدتني فيهما حمارا. قال: إنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة! قال: دهقانها «2» الخبير، ولقمانها الحكيم، وطبيبها العليم! قال: فأخبرني عن الشراب. قال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: ما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه، والحمار شريكي فيه! قال: ما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي لطول ما أرضعتني به! قال: ما تقول في السويق «3» ؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الملء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: تلهّوا به عن الشراب. قال: ما تقول في الخمر؟ قال: أوّه! تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي، فأي المجالس أحب؟ قال: ما شرب الكأس قط على وجه أحسن من السماء. قال أبو الحسن: كان أبو كامل مضحكا غزلا مغنيا، فغنى الوليد يوما فطرب فأعطاه قلنسوة بردا «4» كانت عليه؛ فكان أبو كامل لا يلبسها إلا في عيد، ويقول: كسانيها أمير المؤمنين، فأنا أصونها؛ وقد أمرت أهلي إذا متّ أن توضع في أكفاني، وله يقول الوليد:

من مبلغ عني أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهابل وزادني شوقا إلى قربة ... ما قد مضى من دهرنا الحائل إني إذا عاطيته مزّة ... ظلت بيوم الفرح الجاذل «1» قال: وجلس الوليد يوما وجارية تغنيه؛ فأنشدت الوليد: قينة في يمينها إبريق فأنشده حماد الراوية: ثم نادى ألا اصبحوني فقامت ... قينة في يمينها إبريق فدّمته على عقار كعين الدّيك ... صفّى سلافه الرّاووق «2» مزّة قبل مزجها، فإذا ما ... مزجت لذّ طعمها من يذوق وكتب الوليد إلى المدينة فحمل إليه أشعب، فألبسه سراويل جلد قرد له ذنب؛ وقال له: ارقص وغنّ صوتا يعجبني؛ فإن فعلت أعطيتك ألف درهم. فرقص وغنى فأعجبه؛ فأعطاه ألف درهم: وأنشد الوليد هذا: علّلاني واسقياني ... من شراب أصفهاني من شراب الشيخ كسرى ... أو شراب الهرمزان «3» إنّ بالكأس لمسكا ... أو بكفّي من سقاني إنما الكأس ربيع ... يتعاطى بالبنان «4» وقال أيضا: وصفراء في الكأس كالزعفران ... سباها الدّهاقين من عسقلان

لها حبب كلما صفّقت ... تراها كلمعة برق يماني وقال أيضا: ليت حظّي اليوم من كلّ معاش لي وزاد قهوة أبذل فيها ... طارفي بعد تلادي «1» فيظلّ القلب منها ... هائما في كلّ وادي إنّ في ذاك فلاحي ... وصلاحي ورشادي! «2» وقال: امدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش وبلغ الوليد أن الناس يعيبونه ويتنقّصونه بالشراب وطلب اللذات؛ فقال في ذلك: ولقد قضيت ولم يجلّل لمتي ... شيب على رغم العدا لذّاتي «3» من كاعبات كالدّمى ومناصف ... ومراكب للصيد والنّشوات «4» في فتية تأبى الهوان وجوههم ... شمّ الأنوف جحاجح سادات «5» إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات وقال معاوية بن عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناس وطعنوا «6» عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني إليك الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك؛ أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال كلّ مقبول منك ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك، بأيام.

مقتل الوليد بن يزيد

وقال إذ كثر القول فيه: خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوي ما حييت عقالا «1» دعوا لي سليمى مع طلاء وقينة ... وكأس، ألا حسبي بذلك مالا» أبا لملك أرجو أن أخلّد فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا ألا ربّ دار قد تحمّل أهلها ... فأضحت قفارا والقفار حلالا «3» قال إسحاق بن محمد الأزرق: دخلت على منصور بن جمهور الكلبي بعد قتل الوليد بن يزيد، وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال لي: اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان: قالتا: قد حدّثناك. قال: بل حدّثاه كما حدثتماني. قالت إحداهما: كنا أعزّ جواريه عنده، فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة، فأخرجها وهي سكرى جنبة متلثّمة، فصلّت بالناس. مقتل الوليد بن يزيد إسماعيل بن إبراهيم قال: حدّثني عبد الله بن واقد الجرمي وكان شهد قتل الوليد، قال: لما أجمعوا على قتله، قلدوا أمرهم يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فخرج يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأتى أخاه العباس ليلا فشاوره في قتل الوليد، فنهاه عن ذلك، فأقبل يزيد ليلا حتى دخل دمشق في أربعين رجلا، فكسروا باب المقصورة، ودخلوا على واليها فأوثقوه، وحمل يزيد الأموال على العجل إلى باب المضمار، وعقد لعبد العزيز بن الحجاج، ونادى مناديه: من انتدب إلى الوليد فله ألفان، فانتدب معه ألفا رجل وضمّ مع عبد العزيز بن الحجاج يعقوب بن عبد الرحمن، ومنصور بن جمهور، وبلغ الوليد بن يزيد ذلك فتوجه من البلقاء إلى حمص، وكتب إلى العباس بن الوليد أن يأتيه في جند من أهل حمص، وهو منها قريب؛ وخرج الوليد حتى انتهى إلى قصر في برية ورمل من تدمر على أميال، وصبّحت الخيل الوليد بالبخراء؛ وقدم

العباس بن الوليد بغير خيل، فحبسه عبد العزيز بن الحجاج خلفه، ونادى منادي عبد العزيز: من أتى العباس بن الوليد فهو آمن وهو بيننا وبينكم، وظن الناس أن العباس مع عبد العزيز، فتفرقوا عن الوليد، وهجم عليه الناس. فكان أول من هجم عليه السرى بن زياد بن أبي كبشة السكسكي، وعبد السلام اللخمي؛ فأهوى إليه السري بالسيف، وضربه عبد السلام على قرنه «1» ، فقتل. قال إسماعيل: وحدثني عبد الله بن واقد قال: حدثني يزيد بن أبي فروة مولى بني أمية قال: لما أتي يزيد برأس الوليد بن يزيد، قال لي: انصبه للناس. قلت، لا أفعل: إنما ينصب رأس الخارج. فحلف لينصبن ولا ينصبه غيري؛ فوضع على رمح ونصب على درج مسجد دمشق؛ ثم قال: اذهب فطف به في مدينة دمشق. خليفة بن خياط قال: حدثني الوليد بن هشام عن أبيه قال: لما أحاطوا بالوليد أخذ المصحف وقال: أقتل كما قتل ابن عمي عثمان. أبو الحسن المدائني قال: كان الوليد صاحب لهو وصيد وشراب ولذات، فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي يراه الناس فيها؛ فلم يدخل مدينة من مدائن الشام حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتد على بني هشام وأضرّ بهم، وضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرّبه إلى عمان، فلم يزل محبوسا حتى قتل الوليد؛ وحبس يزيد بن هشام وهو الأفقم؛ فرماه بنو هشام وبنو الوليد، وكان أشدّهم قولا فيه يزيد بن الوليد وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النسك. ولما دفع الوليد خالد بن عبد الله القسري إلى يوسف بن عمر فقتله، غضب له اليمانية وغيرهم؛ فأتت يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأرادوه على البيعة وخلع الوليد، فامتنع عليهم وخاف أن لا تبايعه الناس؛ ثم لم يزل الناس به حتى بايعوه سرا.

ولما قتل الوليد بن يزيد قام يزيد بن الوليد خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا «1» ، ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك؛ وما بي إطراء نفسي، ولا تزكية عملي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي؛ ولكني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى كتاب الله وسنة نبيه، حين درست «2» معالم الهدى، وطفيء نور أهل التقوى؛ وظهر الجبان العنيد، المستحل للحرمة، والراكب للبدعة، والمغيّر للسنة؛ فلما رأيت ذلك أشفقت إن غشيتكم ظلمة لا تقلع عنكم، على كثرة من ذنوبكم، وقسوة من قلوبكم؛ وأشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه، فيجيبه من أجابه منكم؛ فاستخرت الله في أمري، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهلي وأهل ولايتي- وهو ابن عمي في نسبي، وكفئي في حسبي- فأراح الله منه العباد، وطّهر منه البلاد، ولاية من الله وعونا، بلا حول [منا] ولا قوة، ولكن بحول الله وقوته وولايته وعونه. أيها الناس، إن لكم عليّ إن وليت أموركم، أن لا أضع لبنة على لبنة «3» ، ولا حجرا على حجر، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسدّ ثغره، وأقسم بين أهله ما يقوون به؛ فإن فضل رددته إلى أهل البلد الذي يليه ومن هو أحوج إليه؛ حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين وتكونوا فيه سواء؛ ولا أجمّركم «4» في بعوثكم فتفتنوا ويفتن أهاليكم؛ فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم، وإن رأيتم أحدا هو أقوى عليها مني فأردتم بيعته فأنا أول من بايع ودخل في طاعته؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وقال خلف بن خليفة في قتل الوليد بن يزيد: لقتل خالد بن عبد الله:

ولاية يزيد الناقص

لقد سكّنت كلب وأسياف مذحج ... صدى كان يزقو ليله غير راقد «1» تركنا أمير المؤمنين بخالد ... مكبّا على خيشومه غير ساجد «2» فإن تقطعوا منا مناط قلادة ... قطعنا بها منكم مناط قلائد وإن تشغلونا عن أذان فإنّنا ... شغلنا الوليد عن غناء الولائد ولاية يزيد الناقص ثم بويع يزيد بن الوليد بن عبد الملك في أول رجب سنة ست وعشرين ومائة؛ وأمه ابنة يزدجرد بن كسرى، سباها قتيبة بن مسلم بخراسان وبعث بها إلى الحجاج بن يوسف، فبعث بها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك، فاتخذها، فولدت له يزيد الناقص ولم تلد غيره. ومات يزيد بن الوليد بدمشق لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك. قال عبد العزيز: بويع وهو ابن تسع وثلاثين سنة، ومات ولم يبلغ الأربعين. وعلى شرطته بكير بن الشماخ اللّخمي، وكاتب الرسائل أبن سليمان بن سعد؛ وعلى الخراج والجند والخاتم الصغير والحرس النصر بن عمرو من أهل اليمن، وعلى خاتم الخلافة عبد الرحمن بن حميد الكلبي، ويقال: قطن مولاه. وكتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد بالجزيرة وبلغه عنه تلكّؤ «3» في بيعته. أما بعد: فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت، والسلام.

ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع

ثم قطع إليه البعوث «1» وأمر لهم بالعطاء: فلم ينقص عطاؤه حتى مات يزيد. ولما بلغ مروان أن يزيد قطع البعوث إليه كتب ببيعته، وبعث وفدا عليهم سليمان ابن علاثة العقيلي، فخرج، فلما قطعوا الفرات لقيهم بريد بموت يزيد، فانصرفوا إلى مروان. والله أعلم. ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع العلاء بن يزيد بن سنان قال: حدّثني أبي قال: حضرت يزيد بن الوليد حين حضرته الوفاة، فأتاه قطن فقال: أنا رسول من وراء بابك، يسألونك بحق الله لو وليت أمرهم أخاك إبراهيم بن الوليد! فغضب وضرب بيده على جبهته وقال: أنا أولّي إبراهيم؟ ثم قال لي: يا أبا العلاء، إلى من ترى أن أعهد؟ قلت أمر نهيتك عن الدخول في أوله، فلا أشير عليك في الدخول في آخره. قال: فأصابته إغماءة حتى ظننت أنه قد مات، ففعل ذلك غير مرة، ثم خرجت من عنده. فقعد قطن وافتعل عهدا على لسان يزيد بن الوليد لإبراهيم بن الوليد، ودعا ناسا فأشهدهم عليه. قال: والله ما عهد إليه يزيد ولا إلى أحد من الناس. وقال يزيد في مرضه لو كان سعيد بن عبد الملك قريبا مني لرأيت فيه رأيي. وفي رواية أبي الحسن المدائني، قال: لما مرض يزيد قيل له: لو بايعت لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعده! فقال له قيس بن هانيء العبسي: اتق الله يا أمير المؤمنين وانظر نفسك وأرض الله في عباده، فاجعل وليّ عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. فقال يزيد: لا يسألني الله عن ذلك، ولو كان سعيد بن عبد الملك مني قريبا لرأيت فيه رأيي! ... وكان يزيد يرى رأى القدرية «2» ويقول بقول غيلان، فألحت القدرية عليه وقالوا: لا يحل لك إهمال أمر الأمّة، فبايع

لأخيك إبراهيم بن الوليد وليد العزيز من بعده. فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده. ومات يزيد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وكانت ولايته خمسة أشهر واثنى عشر يوما. فلما قدم مروان نبش يزيد من قبره وصلبه. وكان يقرأ في الكتب القديمة يا مبذر الكنوز، يا سجاد في الأسحار، كانت ولايتك لهم رحمة، وعليهم حجة، نبشوك فصلبوك! وبويع إبراهيم بن الوليد، وأمّه بربرية، فلم يتم له الأمر، وكان يدخل عليه قوم فيسلمون بالخلافة، وقوم يسلمون بالإمرة، وقوم لا يسلمون بخلافة ولا بإمرة، وجماعة تبايع، وجماعة يأبون أن يبايعوا، فمكث أربعة أشهر حتى قدم مروان بن محمد فخلع إبراهيم وقتل عبد العزيز بن الحجاج، وولي الأمر بنفسه. وفي رواية خليفة بن خياط قال: لما أتى مروان بن محمد وفاة يزيد بن الوليد، دعا قيسا وربيعة، ففرض لستة وعشرين ألفا من قيس، وسبعة آلاف من ربيعة، وأعطاهم أعطياتهم، وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي، وعلى ربيعة المساور بن عقبة؛ ثم خرج يريد الشام، واستخلف على الجزيرة أخاه عبد العزيز بن محمد بن مروان، فتلقاه وجوه قيس: الوثيق بن الهذيل بن زفر، ويزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، وأبو الورد بن الهذيل بن زفر، وعاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، في خمسة آلاف من قيس، فساروا معه حتى قدم حلب، وبها بشر ومسرور ابنا الوليد بن عبد الملك، أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسير مروان بن محمد، فالتقوا، فانهزم بشر ومسرور من ابن محمد من غير قتال، فأخذهما مروان فحبسهما عنده، ثم سار مروان حتى أتى حمص، فدعاهم للمسير معه والبيعة وولّى العهد الحكم وعثمان ابنى الوليد. ابن يزيد، وهما محبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق؛ فبايعوه، وخرجوا معه حتى أتى عسكر سليمان بن هشام بن عبد الملك [فانهزم جند سليمان وفّر

ولاية مروان بن محمد بن مروان

إلى دمشق] بعد قتال شديد؛ وبلغ عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سليمان، وهو معسكر في ناحية عين الجرّ «1» ؛ فأقبل إلى دمشق، وخرج إبراهيم بن الوليد من دمشق ونزل بباب الجابية، وتهيأ للقتال ومعه الأموال على العجل، ودعا الناس فخذلوه؛ وأقبل عبد العزيز بن الحجاج وسليمان بن الوليد، فدخلا مدينة دمشق يريدان قتل الحكم وعثمان بن الوليد وهما في السجن؛ وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القسري فدخل السجن فقتل يوسف بن عمر، والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما الحملان؛ وأتاهم رسول إبراهيم؛ فتوجه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليخرج عياله، فثار به أهل دمشق فقتلوه، واحتزوا رأسه فأتوا به أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وكان محبوسا مع يوسف بن عمر وأصحابه، فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قيوده، ورأس عبد العزيز بين يديه، وحلّوا قيوده وهو على المنبر، فخطبهم وبايع لمروان، وشتم يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وأمر بجثة عبد العزيز فصلبت على باب الجابية منكوسا، وبعث برأسه إلى مروان بن محمد؛ واستأمن أبو محمد لأهل دمشق، فأمّنهم مروان ورضي عنهم؛ وبلغ [ذلك] إبراهيم فخرج هاربا حتى أتى مروان، فبايعه وخلع نفسه، فقبل منه وأمنه، فسار إبراهيم فنزل الرّقة على شاطىء الفرات؛ ثم أتاه كتاب سليمان بن هشام يستأمنه فأمّنه، فأتاه فبايعه. واستقامت لمروان بن محمد. وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهرا. قال أبو الحسن: شهرين ونصفا. ولاية مروان بن محمد بن مروان ثم بويع مروان بن محمد بن مروان بن الحكم. أمّه بنت إبراهيم بن الأشتر. قال بعضهم: بل كانت أمّه لخباز لمصعب بن الزبير، أولا لابن الأشتر، واسم الخباز: رزبا؛ وقال بعضهم: كان رزبا عبدا لمسلم بن عمرو الباهلي.

ولد مروان

وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع، ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عبد المطلب. وكان مروان بن محمد أحزم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر عنهم. ودفع إلى مروان أبيات قالها الحكم بن الوليد وهو محبوس، وهي: ألا فتيان من مضر فيحموا ... أسارى في الحديد مكبّلينا أتذهب عامر بدمي وملكي ... فلا غثّا أصبت ولا سمينا فإن أهلك أنا ووليّ عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا فأدّب لاعدمتك حرب قيس ... فتخرج منهم الداء الدّفينا ألا من مبلغ مروان عني ... وعمّي الغمر طال بذا حنينا بأني قد ظلمت وطال حبسي ... لدى البخراء في لحف مهينا وقتل مروان ببوصير من أرض مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الوليد بن هشام عن أبيه، وعبد الله بن المغيرة عن أبيه، وأبو اليقظان، قالوا: ولد مروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين، وقتل بقرية من قرى مصر يقال لها بوصير يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكانت ولايته خمس سنين وستة أشهر وعشرة أيام. وأمّ مروان أمة لمصعب بن الزبير، وقتل وهو ابن ستين سنة. ولد مروان عبد الملك، ومحمد، وعبد العزيز، وعبيد الله، وعبد الله، وأبان، ويزيد، ومحمد الأصغر، وأبو عثمان. وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد مولى بني عامر بن لؤى، وكان معلما.

مقتل مروان بن محمد بن مروان

وكان على القضاء سليمان بن عبد الله بن علاثة. وعلى شرطته الكوثر بن عتبة وأبو الأسود الغنوي. وكان للحرس نوب، في كل ثلاثة أيام نوبة، يلي ذلك صاحب النوبة. وعلى حجابته صقلا ومقلاص. وعلى الخاتم الصغير عبد الأعلى بن ميمون بن مهران. وعلى ديوان الجند عمران بن صالح مولى بني هذيل. مقتل مروان بن محمد بن مروان قال: والتقى مروان وعامر بن إسماعيل ببوصير من أرض مصر، فقاتلوهم ليلا، وعبد الله وعبيد الله ابنا مروان واقفان في ناحية في جمع من أهل الشام، فحمل عليهم أهل خراسان فأزالوهم عن مراكزهم، ثم كرّوا عليهم فهزموهم حتى ردّوهم إلى عسكرهم، ورجعوا إلى موقفهم؛ ثم إنّ أهل الشام بدءوهم فحملوا على أهل خراسان فكشفوا كشفا قبيحا، ثم رجعوا إلى أماكنهم وقد مضى عبيد الله وعبد الله، فلم يروا أحدا من أصحابهم، فمضوا على وجوههم وذلك في السحر. وقتل مروان وانهزم الناس، وأخذوا عسكر مروان وما كان فيه، وأصبحوا فاتبعوا الفلّ «1» ، وتفرّق الناس؛ فجعلوا يقتلون من قدروا عليه، ورجع أهل خراسان عنهم. فلما كان الغد لحق الناس بعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وجعلوا يأتونهما متقطعين العشرة والعشرين وأكثر وأقل؛ فيقولان: كيف أمير المؤمنين؟ فيقول بعضهم: تركناه يقاتلهم. ويقول بعضهم: انحاز وثاب إليه قوم ولا يتبعونه. حتى أتوا

الحرون، فقال، كنت معه أنا ومولى له، فصرع فجررت برجله، فقال: أوجعتني! فقاتلت أنا ومولاه عنه؛ وعلموا أنه مروان فألحوا عليه، فتركته ولحقت بكم. فبكى عبد الله، فقال له أخوه عبيد الله: يا ألأم الناس! فررت عنه وتبكي عليه؟ ومضوا، فقال بعضهم: كانوا أربعة آلاف. وقال بعضهم: كانوا ألفين، فأتوا بلاد النوبة، فأجرى عليهم ملك النوبة ما يصلحهم، ومعهم أم خالد بنت يزيد، وأم الحكم بنت عبيد الله- صبية جاء بها رجل من عسكر مروان حين انهزموا- فدفعها إلى أبيها. ثم أجمع ابنا مروان على أن يأتيا اليمن، وقالا: نأتيها قبل أن يأتيها المسوّدة «1» فنتحصّن في حصونها وندعو الناس. فقال لهم صاحب النوبة لا تفعلوا إنكم في بلاد السودان وهم في عدد كثير، ولا آمن عليكم؛ فأقيموا. فأبوا، قال: فاكتبوا لي كتابا، فكتبوا له: إنا قدمنا بلادك فأحسنت مثوانا، وأشرت علينا أن لا نخرج من بلادك، فأبينا، وخرجنا من عندك وافرين راضين شاكرين لك بطيب أنفسنا. وخرجوا فأخذوا في بلاد العدو، فكانوا ربما عرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاح، وأكثر من ذلك لا يعرضون له؛ حتى أتوا بعض بلادهم فتلقاهم عظيمهم فاحتبسهم، فطلبوا الماء فمنعهم، ولم يقاتلهم ولم يخلّهم وعطشهم، وكان يبيعهم القربة بخمسين درهما، حتى أخذ منهم مالا عظيما. ثم خرجوا فساروا حتى عرض لهم جبل عظيم بين طريقين فسلك عبد الله أحدهما في طائفة، وسلك عبيد الله الآخر في طائفة أخرى، وظنوا أن للجبل غابة يقطعونها ثم يجتمعون عند آخرها، فلم يلتقوا. وعرض قوم من العدو لعبيد الله وأصحابه فقاتلوهم، فقتل عبيد الله، وأخذت أم الحكم بنته وهي صبية، وقتل رجل من أصحابه، وكفوا عن الباقين وأخذوا سلاحهم.

وتقطع الجيش، يتنكبون «1» العمران، فيأتون الماء فيقيمون عليه الأيام، فتمضى طائفة وتقيم الأخرى، حتى بلغ العطش منهم؛ فكانوا يتحرون الدابة فيقطعون أكراشها فيشربونه، حتى وصلوا إلى البحر بحيال المندب؛ ووافاهم عبد الله وعليه مقرمة «2» قد جاء بها، فكانوا جميعا خمسين أو أربعين رجلا، فيهم الحجاج بن قتيبة ابن مسلم الحرون، وعفان مولى بني هاشم، فعبروا إليهم البحر في السفن، فمشوا إلى المندب، فأقاموا بها شهرا فلم تحملهم، فخرجوا إلى مكة. وقال بعضهم: أعلم بهم العامل، فخرجوا مع الحجاج عليهم ثياب غلاظ وجباب الأكرياء «3» ، حتى وافوا جدة وقد تقطعت أرجلهم من المشي، فمرّوا بقوم فرقّوا لهم فحملوهم، وفارق عبد الله الحجاج بجدة، ثم حجوا وخرجوا من مكة إلى تبالة. وكان على عبد الله فصّ «4» أحمر كان قد غيّبه حين عبر إلى المندب، فلما أمن استخرجه، وكانت قيمته ألف دينار، وكان يقول وهو يمشي: ليت به دابة! حتى صار في مقرمة تكون عليه بالنهار فيلبسها بالليل؛ فقالوا: ما رأينا مثل عبد الله، قاتل فكان أشد الناس، ومشوا فكان أقواهم؛ وجاعوا فكان أصبرهم وعروا فكان أحسنهم عريا! وبعث وهو بالمندب إلى العدو الذين أخذوا أم الحكم بنت أخيه عبيد الله، ففداها وردّها إليه؛ فكانت معه. ثم أخذ عبد الله فقدم به على المهدي، فجاءت امرأته بنت يزيد بن محمد بن مروان بن الحكم، فكلمت العباس بن يعقوب كاتب عيسى بن علي وأعطته لؤلؤا، ليكلم فيه عيسى: فكلمه وأعلمه بما أعطته؛ فلم يكلم فيه عيسى بن علي المهديّ؛ وأراد المهدي أن يقتله؛ فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بيعة؛ وقد أعطى كاتبي قيمة ثلاثين ألف درهم. فحبسه المهدي.

وكان عبد الله بن مروان تزوج أم يزيد ابنة يزيد بن محمد بن مروان؛ وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العباس خرجت إلى مكة فأقامت بها، وقدم عبد الله بن مروان سرّا فتزوجها. وقال مولى مروان: كنت مع مروان وهو هارب؛ فقال لي يوما: أين عزبت «1» عنا حلومنا في نسائنا؟ ألا زوّجناهم من أكفائهن من قريش فكفينا مؤنتهن اليوم. وقال بعض آل مروان: ما كان شيء أنفع لنا في هربنا من الجوهر الخفيف الثمن الذي يساوي خمسة دنانير فما دونها: كان يخرجه الصبي والخادم فيبيعه، وكنا لا نستطيع أن نظهر الجوهر الثمين الذي له قيمة كثيرة. وقال مصعب بن الربيع الخثعمي كاتب مروان بن محمد: لما انهزم مروان وظهر عبد الله بن علي على أهل الشام، طلبت الإذن؛ فأنا عنده جالس وهو متكيء؛ إذ ذكر مروان وانهزامه فقال: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير. قال لي مروان: احزر «2» القوم. فقلت: إنما أنا صاحب قلم ولست بصاحب حرب. فأخذ يمنة ويسرة فقال لي: هم اثنا عشر ألف رجل. وقال مصعب: قيل لمروان: قد انتهب بيت المال الصغير! فانصرف يريد بيت المال، فقيل له: قد انتهب بيت المال الأكبر، انتهبه أهل الشام. وقال أبو الجارود السلمي: حدثني رجل من أهل خراسان قال: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشام كأنهم جبال حديد، فجثونا على الرّكب «3» وأشرعنا «4» الرماح، فزالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشام، فخرج إليه رجل منا، فقتله الشامي؛ ثم خرج إليه آخر، فقتله؛ حتى والى بين ثلاثة؛ فقال رجل منا: اطلبوا لي

سيفا قاطعا وترسا صلبا. فأعطيناه ومشى إليه، فضربه الشامي فاتّقاه بالترس وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع، فحملناه وكبرنا، فإذا هو عبيد الله الكابلي. سمر المنصور ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، وكانت همتهم مع عظم شأن الملك وجلالة قدره، قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله ومساخطه جهلا باستدراج الله وأمنا لمكره؛ فسلبهم الله العز ونقل عنهم النعمة. فقال له صالح ابن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل النوبة هاربا فيمن تبعه، سأل ملك النوبة عنهم فأخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه «1» عن بلده؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك! فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمنا أرض النوبة وقد خبّر الملك بأمرنا، فدخل عليّ رجل أقنى «2» الأنف طوال حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ قال: لأني ملك، ويحق على الملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله! ثم قال لأي شيء تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وغلماننا وأتباعنا، لأن الملك قد زال عنا. قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم. قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرّم عليكم؟

أخبار الدولة العباسية

قلت: ذهب الملك عنا وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا. قال: فأطرق مليا وجعل يقلب يده وينكت الأرض ويقول عبيدنا وأتباعنا، وقوم دخلوا في ديننا، وزال الملك عنا!! يردده مرارا، ثم قال: ليس ذلك كذلك: بل أنتم قوم قد استحللتم ما حرم الله، وركبتم ما نهاكم عنه وظلمتم من ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها؛ وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزوّدوا ما احتجتم وارتحلوا عن بلدي. أخبار الدولة العباسية الهيثم بن عدي قال: حدثني عيّاش قال: حدثني بكير أبو هاشم مولى مسلمة قال: لم يزل لبني هاشم بيعة سرّ ودعوة باطنة منذ قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ولم نزل نسمع بخروج الرايات السود من خراسان وزوال ملك بني أمية، حتى صار ذلك. وقيل لبعض بني أمية: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: اختلاف فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا! الهيثم بن عدي قال: حدثني غير واحد ممن أدركت من المشايخ أن عليّ بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحسن، فأصاره الحسن إلى معاوية، وكره ذلك الحسين ومحمد ابن الحنفية. فلما قتل الحسين بن عليّ صار أمر الشيعة إلى محمد بن الحنفية. وقال بعضهم: إلى عليّ بن الحسين، ثم إلى محمد بن علي ثم إلى جعفر بن محمد. والذي عليه الأكثر أن محمد بن الحنفية أوصى إلى أبي هاشم ابنه: عبد الله بن محمد بن الحنفية، ولم يزل قائما بأمر الشيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويؤدّون إليه الخراج حتى استخلف سليمان ابن عبد الملك، فأتاه وافدا ومعه عدة من الشيعة، فلما كلمه سليمان قال: ما كلمت قط قرشيا يشبه هذا؛ وما نظن الذي كنا نحدّث عنه إلا حقا! فأجازه وقضى حوائجه وحوائج من معه. ثم شخص وهو يريد فلسطين، فلما كان ببلاد لخم وجذام، ضربوا

له أبنية في الطريق ومعهم اللبن المسموم، فكلما مر بقوم قالوا: هل لكم في الشراب! قالوا: جزيتم خيرا! ثم بآخرين فعرضوا عليه فقال: هاتوا. فلما شرب واستقر بجوفه، قال لأصحابه: إني ميت، فانظروا من القوم! فنظروا فإذا هم قد قوّضوا «1» أبنيتهم وذهبوا، فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي وما أحسبني أدركه! فأسرعوا حتى أتوا الحميمة «2» من أرض الشراة، وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل بها، فقال: يا بن عمي، إني ميت؛ وقد صرت إليك؛ وأنت صاحب هذا الأمر، وولدك القائم به، ثم أخوه من بعده، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الرايات السود من قعر خراسان، ثم ليغلبنّ على ما بين حضرموت وأقصى أفريقية، وما بين الهند وأقصى فرغانة «3» ، فعليك بهؤلاء الشيعة واستوص بهم خيرا، فهم دعاتك وأنصارك، ولتكن دعوتك خراسان لا تعدوها، لا سيما مرو، واستبطن هذا الحيّ من اليمن فإن كان ملك لا يقوم به فمصيره إلى انتقاض «4» ، وانظر هذا الحي من ربيعة فألحقهم بهم، فإنهم معهم في كل أمر؛ وانظر هذا الحيّ من قيس وتميم فأقصهم إلا من عصم الله منهم، وذلك قليل ثم مرهم أن يرجعوا فليجعلوا اثنى عشر نقيبا، وبعدهم سبعين نقيبا؛ فإن الله لم يصلح أمر بني إسرائيل إلا بهم، وقد فعل ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فإذا مضت سنة الحمار فوجه رسلك من خراسان، منهم من يقتل ومنهم من ينجو، حتى يظهر الله دعوتكم. قال محمد بن علي: يا أبا هاشم، وما سنة الحمار؟ قال: إنه لم تمض مائة سنة من نبوّة قط إلا انتقض أمرها، لقول الله عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ «5» .

واعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد الله بن الحارثية، ثم عبد الله أخوه. ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولد يسمى عبد الله، فولد له من الحارثية ولدان، سمى كل واحد منهما عبد الله، وكنى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر، فوليا جميعا للخلافة. ثم مات أبو هاشم وقام محمد بن علي بالأمر بعد، واختلفت الشيعة «1» إليه؛ فلما ولد أبو العباس أخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: هذا صاحبكم. فجلسوا يلحسون أطرافه. وولد أبو العباس في أيام عمر بن عبد العزيز. ثم قدم الشيعة على محمد بن علي فأخبروه أنهم حبسوا بخراسان في السجن، وكان يخدمهم فيه غلام من السرّاجين «2» ما رأوا قط مثل عقله وظرفه ومحبته في أهل بيت رسول الله، يقال له أبا مسلم. قال: أحرّ أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر. قال: فاشتروه وأعتقوه واجعلوه بينكم إذا رضيتموه. وأعطو محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم. فلما انقضت المائة سنة بعث محمد بن علي رسله إلى خراسان فغرسوا بها غرسا، وأبو مسلم المقدم عليهم؛ وثارت الفتنة في خراسان بين المضرية واليمانية فتمكن أبو مسلم وفرق رسله في كور خراسان يدعو الناس إلى آل الرسول، فأجابوه؛ ونصر بن سيار عامل خراسان لهشام بن عبد الملك، فكان يكتب لهشام بخبرهم، وتمضي كتبه إلى ابن هبيرة صاحب العراق لينفذها إلى أمير المؤمنين، فكان يحبسها ولا ينفذها، لئلا يقوم لنصر بن سيار قائمة عند الخليفة- وكان في ابن هبيرة حسد شديد- فلما طال بنصر بن سيار ذلك ولم يأته جواب من عند هشام، كتب كتابا وأمضاه إلى

هشام على غير طريق ابن هبيرة، وفي جوف الكتاب هذه الأبيات مدرجة» يقول فيها: أرى خلل الرّماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون لها ضرام «2» فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام «3» فإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمّرة يشيب لها الغلام فقلت من التّعجّب: ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام؟ فإن كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام ففرّي عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السّلام فكتب إليه هشام أن احسم ذلك الثّؤلول «4» الذي نجم عندكم. قال نصر: وكيف لنا بحسمه. وقال نصر بن سيار يخاطب المضرية واليمانية ويحذّرهم هذا العدوّ الداخل عليهم، بقوله: أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب ولينصبوا الحرب إنّ القوم قد نصبوا ... حربا يحرّق في حافاتها الحطب ما بالكم تلقحون الحرب بينكم ... كأنّ أهل الحجا عن رأيهم عزبوا «5» وتتركون عدوّا قد أظلّكم ... ممّا تأشّب لا دين ولا حسب «6» قدما يدينون دينا ما سمعت به ... عن الرّسول ولم تنزل به الكتب فمن يكن سائلا عن أصل دينهم ... فإنّ دينهم أن تقتل العرب

ومات محمد بن علي في أيام الوليد بن يزيد، وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد؛ فقام بأمر الشيعة، وقدّم عليهم أبو مسلم السرّاج وسليمان بن كثيّر؛ وقال لأبي مسلم: إن استطعت أن لا تدع بخراسان لسانا عربيّا فافعل، ومن شككت في أمره فاقتله. فلما استعلى أمر أبي مسلم بخراسان وأجابته الكور كلها، كتب نصر بن سيار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكثرة من تبعه، وأنه قد خاف أن يستولي على خراسان وأن يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فأتى الكتاب مروان وقد أتاه رسول أبي مسلم بجواب إبراهيم إلى أبي مسلم؛ فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان وهو عامله على دمشق، أن اكتب إلى عاملك بالبلقاء ليسير إلى الحميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقا ثم يبعث به إليك، ثم وجّهه إليّ. فحمل إلى مروان، وتبعه من أهله عبد الله ابن علي، وعيسى بن موسى؛ فأدخل على مروان، فأمر به إلى الحبس. قال الهيثم: حدثني أبو عبيدة قال: كنت آتيه في السجن، ومعه فيه سعيد بن [هشام بن] عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز؛ فو الله إني ذات ليلة في سقيفة «1» السجن بين النائم واليقظان، إذا بمولى لمروان قد استفتح الباب ومعه عشرون رجلا من موالي مروان الأعاجم، ومعهم صاحب السجن، فأصبحنا وسعيد وعبد الله وإبراهيم قد ماتوا. قال الهيثم: حدّثني أبو عبيدة قال: حدّثني وصيف عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمه في الحبس: أنه غمّ «2» عبد الله مولاه بمرفقه «3» ، وإبراهيم بن محمد بجراب نورة «4» ، وسعيد بن عبد الملك أخرجه صاحب السجن، فلقيه بعض حرس مروان في ظلمة الليل، فوطئته الخيل وهم لا يعرفون من هو، فمات.

ثم استولى أبو مسلم على خراسان كلها، فأرسل إلى نصر بن سيار، فهرب هو وولده وكاتبه داود، حتى انتهوا إلى الريّ، فمات نصر بن سيار بساوة «1» وتفرّق أصحابه، ولحق داود بالكوفة وولده جميعا. واستعمل أبو مسلم عماله على خراسان ومرو وسمرقند وأحوازها «2» ؛ ثم أخرج الرايات السود، وقطع البعوث، وجهز الخيل والرجال، عليهم قحطبة بن شبيب، وعامر بن إسماعيل، ومحرز بن إبراهيم في عدّة من القواد، فلقوا من بطوس «3» ، فانهزموا؛ ومن مات في الزحام أكثر ممن قتل، فبلغ القتلى بضعة عشر ألفا. ثم مضى قحطبة إلى العراق، فبدأ بجرجان وعليها نباته بن حنظلة الكلابي، وكان قحطبة يقول لأصحابه: والله ليقتلن عامر بن ضبارة، وينهزمنّ ابن هبيرة، ولكني أخاف أن أموت قبل أن أبلغ ثأري، وأخاف أن أكون الذي يغرق في الفرات، فإن الإمام محمد بن علي قال لي ذلك قال الهيثم: فقدم قحطبة جرجان فقتل ابن نباتة ودخل جرجان فانتهبها، وقسم- ما أصاب بين أصحابه؛ ثم سار إلى عامر بن ضبارة بأصبهان فلقيه، فقتل ابن ضبارة وقتل أصحابه، ولم ينج منهم إلا الشريد، ولحق فلّهم بابن هبيرة. وقال قحطبة لما قتل ابن ضبارة: ما شيء رأيته ولا عدوّ قتلته إلا وقد حدّثني به الإمام صلوات الله عليه، إلا أنه حدّثني أني لا أعبر الفرات. وسار قحطبة حتى نزل بحلوان «4» ووجه أبا عون في نحو من ثلاثين ألفا إلى مروان بن محمد، فأخذ على شهرزور حتى أتى الزّاب، وذلك برأي أبي مسلم. فحدث أبو عون عبد الملك بن يزيد: قال لي أبو هاشم بكير بن ماهان: أنت والله

الذي تسير إلى مروان، ولتبعثنّ إليه غلاما من مذحج يقال له عامر فليقتلنّه فأمضيت والله عامر بن إسماعيل على مقدمتي، فلقي مروان فقتله. ثم سار قحطبة من حلوان إلى ابن هبيرة بالعراق، فالتقوا بالفرات، فاقتتلوا حتى اختلط الظلام، وقتل قحطبة في المعركة وهو لا يعرف، فقال بعضهم: غرق في الفرات. ثم انهزم ابن هبيرة حتى لحق بواسط، وأصبح المسوّدة وقد فقدوا أميرهم، فقدّموا الحسن بن قحطبة. ولما بلغ مروان قتل قحطبة وهزيمة ابن هبيرة قال: هذا والله الإدبار، وإلا فمتى رأيتم ميتا هزم حيّا! وأقام ابن هبيرة بواسط وغلبت المسوّدة على العراق، وبايعوا لأبي العباس عبد الله ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ووجه عمّه عبد الله بن علي لقتال مروان وأهل الشام، وقدمه على أبي عون وأصحابه؛ ووجه أخاه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، وأقام أبو العباس بالكوفة حتى جاءته هزيمة مروان بالزاب. وأمضى عبد الله بن علي أبا عون في طلبه، وأقام على دمشق ومدائن الشام يأخذ بيعتها لأبي العباس. وكان أبو سلمة الخلال. واسمه حفص بن سليمان. يدعى وزير آل محمد، وكان أبو مسلم يدعى أمين آل محمد؛ فقتل أبو العباس أبا سلمة الخلال، واتهمه بحب بني فاطمة وأنه كان يحطب «1» في حبالهم؛ وقتل أبو جعفر أبا مسلم. وكان أبو مسلم يقول لقواده إذا أخرجهم: لا تكلموا الناس إلا رمزا، ولا تلحظوهم إلا شزرا «2» : لتمتلىء صدورهم من هيبتكم.

مقتل زيد بن علي أيام هشام بن عبد الملك

مقتل زيد بن علي أيام هشام بن عبد الملك كتب يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك: إن خالد بن عبد الله أودع زيد بن حسين بن علي بن أبي طالب مالا كثيرا. فبعث هشام إلى زيد فقدم عليه فسأله عن ذلك فأنكر، فاستحلفه فحلف؛ فخلّى سبيله. وأقام عند هشام بعد ذلك سنة، ثم دخل عليه في بعض الأيام، فقال له هشام: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة! قال: أما قولك إني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله؛ وأما قولك إني ابن أمة فهذا إسماعيل صلّى الله عليه وسلم ابن أمة، أخرج الله من صلبه خير البشر محمدا صلّى الله عليه وسلم، وإسحاق ابن حرة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوت «1» . وخرج زيد مغضبا، فقال زيد: ما أحبّ أحد الحياة إلا ذلّ! قال له الحاجب: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وخرج زيد حتى قدم الكوفة، فقال: شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد «2» منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد «3» قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد ثم خرج بخراسان، فوجه يوسف بن عمر إليه الخيل وخرج في أثرهم حتى لقيه، فقاتله، فرمي زيد في آخر النهار بنشابة من نحره فمات، فدفنه أصحابه في حمأة كانت قريبة منهم، وتتبّع أصحاب زيد، فانهزم من انهزم وقتل من قتل، ثم أتي يوسف فقيل له: إن زيدا دفن في حمأة. فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام، ثم صلبه في سوق الكناسة «4» ، فقال في ذلك أعور كلب، وكان مع يوسف في جيش أهل الشام:

نصبنا لكم زيدا على جذع نخلة ... وما كان مهديّ على الجذع ينصب الشيباني قال: لما نزل عبد الله بن علي نهر أبي فطرس «1» ، حضر الناس بابه للإذن، وحضر اثنان وثمانون رجلا من بني أمية، فخرج الآذن فقال: يا أهل خراسان، قوموا. فقاموا سماطين «2» في مجلسه، ثم أذن لبني أمية فأخذت سيوفهم ودخلوا عليه. قال أبو محمد العبدي الشاعر: وخرج الحاجب فأدخلني فسلمت عليه فرد عليّ السلام، ثم قال: أنشدني قولك: وقف المتيّم في رسوم ديار فأنشدته حتى انتهيت إلى قولي: أمّا الدّعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أميّة من دعاة النّار من كان يفخر بالمكارم والعلا ... فلها يتمّ المجد غير فخار والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المصلى، وبنو أمية على الكراسي فألقى إليّ صرة حرير خضراء فيها خمسمائة دينار، وقال: لك عندنا عشرة آلاف درهم وجارية وبرذون «3» وغلام وتخت ثياب، قال: فوفى والله بذلك كله ثم أنشأ عبد الله بن علي يقول: حسبت أميّة أن سيرضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها كلا وربّ محمّد وإلهه ... حتى تباح سهولها وحزونها «4» ثم أخذ قلنسوته من رأسه فضرب بها الأرض، فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخبطوهم بالسيوف والعمد، وقال الكلبي الذي كان بينهم وكان من أتباعهم: أيها الأمير، إني والله ما أنا منهم! فقال عبد الله بن علي:

ومدخل رأسه لم يدعه أحد ... بين الفريقين حتى لزّه القرن «1» اضربوا عنقه! ثم أقبل على الغمر فقال: ما أحسب لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا! فقال: أجل. قال: يا غلام، اضرب عنقه، فأقيم من المصلى فضرب عنقه، ثم أمر ببساط فطرح عليهم، ودعا بالطعام فجعل يأكل وأنين بعضهم تحت البساط. وفي رواية أخرى، قال: لما قدم الغمر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلا من بني أمية، وضعت لهم الكراسي، ووضعت لهم نمارق «2» وأجلسوا عليها، وأجلس الغمر مع نفسه في المصلى، ثم أذن لشيعته فدخلوا، ودخل فيهم سديف بن ميمون، وكان متوشحا سيفا، متنكبا قوسا، وكان طويلا آدم «3» ، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيزعم الضّلال بما حبطت أعمالهم أنّ غير آل محمد أولى بالخلافة؟ فلم وبم أيها الناس؟ لكم الفضل بالصحابة، دون حق ذوي القرابة، الشركاء في النسب، الأكفاء في الحسب، الخاصة في الحياة، الوفاة عند الوفاة، مع ضربهم على الأمر جاهلكم، وإطعامهم في اللأواء «4» جائعكم، فكم قصم الله بهم من جبار باغ، وفاسق ظالم، لم يسمع بمثل العباس، لم تخضع له أمّة بواجب حق، أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلدة ما بين عينيه، أمينه ليلة العقبة، ورسوله إلى أهل مكة، وحاميه يوم حنين، لا يردّ له رأيا، ولا يخالف له قسما؛ إنكم والله معاشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث ما اختاره الله لكم، تيميّ مرة، وعديّ مرة، وكنتم بين ظهراني قوم قد آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، وجعلوا الصدقات في الشهوات، والفيء في اللذات والغناء. والمغانم في المحارم، إذ ذكّروا بالله لم يذكروا، وإذا قدّموا بالحق أدبروا، فذلك زمانهم، وبذلك كان يعمل سلطانهم.

فلما كان الغد أذن لهم فدخلوا، ودخل فيهم شبل، فلما جلسوا قام شبل فاستأذن في الإنشاد، فأذن له، فأنشد: أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العبّاس «1» طلبوا وتر هاشم فلقوها ... بعد ميل من الزمان وياس لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... واقطعن كلّ نخلة وغراس «2» لقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من منابر وكراسي واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس «3» وقتيلا بجوف حرّان أضحى ... تحجل الطّير حوله في الكناس «4» نعم شبل الهراش صولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس ثم قام وقاموا، ثم أذن لهم بعد، فدخلوا ودخل الشيعة، فلما جلسوا قام. سديف بن ميمون، فأنشد: قد أتتك الوفود من عبد شمس ... مستعدّين يوجعون المطيّا» غفوة أيّها الخليفة لا عن ... طاعة بل تخوّفوا المشرفيّا «6» لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضّلوع داء دويّا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا ثم قام خلف بن خليفة الأقطع فأنشد: إن تجاوز فقد قدرت عليهم ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا أو تعاتبهم على رقّة الدّين ... فقد كان دينهم سامريّا

خلفاء بني أمية بالأندلس

فالتفت أبو العباس إلى الغمر فقال: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: والله إنّ هذا لشاعر، ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا. قال: وما قال؟ فأنشده: شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا فشرق وجه أبي العباس بالدم وقال: كذبت يا بن اللخناء «1» ! إني لأرى الخيلاء في رأسك بعد! ثم قاموا، وأمر بهم فدفعوا إلى الشيعة فاقتسموهم فضربوا أعناقهم، ثم جرّوا بأرجلهم حتى ألقوهم في الصحراء بالأنبار وعليهم سراويلات الوشي، فوقف عليهم سديف مع الشيعة، وقال: طمعت أميّة أن سيرضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها كلا وربّ محمد وإلهه ... حتى يباد كفورها وخئونها وكان أشدّ الناس على بني أمية عبد الله بن عليّ، وأحنّهم عليهم سليمان بن علي، وهو الذي كان يسميه أبو مسلم: كنف الأمان! وكان يجير كلّ من استجار به. وكتب إلى أبي العباس: يا أمير المؤمنين، إنا لم نحارب بني أمية على أرحامهم، وإنما حاربناهم على عقوقهم، وقد دفت إليّ منهم دافّة «2» لم يشهروا سلاحا ولم يكثروا جمعا، فأحب أن تكتب لهم منشور أمان. فكتب لهم منشور أمان وأنفذه إليهم، فمات سليمان بن عليّ وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية. خلفاء بني أمية بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أوّل خلفاء الأندلس من بني أمية: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ولي الملك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة، وهو ابن

ثمان وعشرين سنة. وتوفي في عشرة من جمادي الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة، فكان ملكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وكان يقال له صقر قريش، وذلك أنّ أبا جعفر المنصور قال لأصحابه: أخبروني عن صقر قريش من هو؟ قالوا: أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء. قال: ما صنعتم شيئا. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبد الملك بن مروان. قال: ولا هذا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا مفردا. فمصّر الأمصار، وجند الأجناد، ودوّن الدواوين، وأقام ملكا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدّة شكيمته «1» ، إنّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان وذللا له صعبه، وعبد الملك ببيعة تقدّم له عقدها، وأمير المؤمنين بطلب عشيرته واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه. وقالوا لما توطد ملك عبد الرحمن بن معاوية عمل هذه الأبيات وأخرجها إلى وزرائه فاستغربت من قوله إذ صدقها فعله، وهي: ما حقّ من قام ذا امتعاض ... منتضي الشّفرتين نصلا فبزّ ملكا وساد عزّا ... ومنبرا للخطاب فصلا «2» فجاز قفرا وشقّ بحرا ... مساميا لجّة ومحلا «3» وجنّد الجند حين أودى ... ومصّر المصر حين أجلى «4» ثم دعا أهله جميعا ... حيث انتأوا أن هلمّ أهلا «5» فجاء هذا طريد جوع ... شريد سيف أبيد قتلا فحلّ أمنا ونال شبعا ... وحاز مالا وضمّ شملا ألم يكن حقّ ذا على ذا ... أوجب من منعم ومولى؟

هشام بن عبد الرحمن

وكتب أمية بن يزيد عنه كتابا إلى بعض عماله يستقصره فيما فرّط فيه من عمله، فأكثر وأطال الكتاب، فلما لحظه عبد الرحمن أمر بقطعه «1» ، وكتب: أمّا بعد، فإن يكن التقصير لك مقدّما يعدّ الاكتفاء أن يكون لك مؤخرا، وقد علمت بما تقدّمت، فاعتمد على أيهما أحببت. وكان ثار عليه ثائر بغربيّ بلدة «2» ، فغزاه به وأسره، فبينما هو منصرف وقد حمل الثائر على بغل مكبولا، نظر إليه عبد الرحمن بن معاوية وتحته فرس له، فقنّع «3» رأسه بالقناة، وقال: يا بغل، ماذا تحمل من الشقاق والنفاق! قال الثائر: يا فرس، ماذا تحمل من العفو والرحمة! فقال له عبد الرحمن: والله لا تذوق موتا على يدي أبدا. هشام بن عبد الرحمن ثم ولى هشام بن عبد الرحمن لسبع خلون من جمادي الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة. ومات في صفر سنة ثمانين ومائة. وكانت ولايته سبع سنين وعشرة أشهر. ومات وهو ابن إحدى وثلاثين سنة. وهو أحسن الناس وجها، وأشرفهم نفسا، الكامل المروءة، الحاكم بالكتاب والسنة، الذي أخذ الزكاة على حلها، ووضعها في حقها، لم يعرف منه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه، ورآه يوما أبوه وهو مقبل ممتليء شبابا فأعجبه فقال: يا ليت نساء بني هاشم أبصرنه حتى يعدن فوارك «4» . وكان هشام يصر الصّرر بالأموال في ليالي المطر والظّلمة، ويبعث بها إلى المساجد فيعطى من وجد فيها؛ يريد بذلك عمارة المساجد.

الحكم بن هشام

وأوصى رجل في زمن هشام بمال في فك سبيّة من أرض العدو، فطلبت فلم توجد، احتراسا منه للثغر؛ واستنقاذا لأهل السبي. الحكم بن هشام ثم ولي الخلافة الحكم بن هشام في صفر سنة ثمانين ومائة؛ وكانت ولايته ستا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا. ومات يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين وهو ابن اثنتين وخمسين سنة. وكانت فيه بطالة إلا أنه كان شجاع النفس، باسط الكف، عظيم العفة متخيرا لأهل عمله ولأحكام رعيته، أورع من يقدر عليه وأفضلهم، فيسلّطهم على نفسه، فضلا عن ولده وسائر خاصته. وكان له قاض قد كفاه أمور رعيته، بفضله وعدله وورعه وزهده، فمرض مرضا شديدا، واغتم له الحكم غما شديدا؛ فذكر يزيد فتاه: أنه أرق يوما وليلة وبعد عنه نومه وجعل يتململ على فراشه، فقلت: أصلح الله الأمير، إني أراك متململا وقد زال النوم عنك، فلم أدر ما عرض لك! قال: ويحك، إني سمعت نائحة هذه الليلة، وقاضينا مريض، فما أراه إلا قد قضى نحبه، وأين لنا بمثله؟ ومن يقوم للرعية مقامه؟ ثم إن القاضي مات، واستقضى الحكم بعده سعيد بن بشير؛ فكان أقصد الناس إلى الحق، وآخذهم بعدل، وأبعدهم من هوى، وأنقذهم لحكم: رفع إليه رجل من أهل كورة جيان أن عاملا للحكم اغتصبه جارية وعمل في تصييرها إلى الحكم، فوقعت من قلبه كل موقع، وأن الرجل أثبت أمره عند القاضي، وأتاه ببينة «1» يشهدون على معرفة ما تظلّم منه، وعلى عين الجارية ومعرفتهم بها، وأوجب البينة أن تحضر الجارية؛ فاستأذن القاضي على الحكم، فأذن له فلما دخل عليه قال: إنه لا يتم عدل في العامة دون إفاضته في الخاصة. وحكى له أمر الجارية،

وخيّره في إبرازها إليه، أو عزله عن القضاء! فقال له: ألا أدعوك إلى خير من ذلك؟ تبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها. فقال: إن الشهود قد شخصوا من كروة جيان يطلبون الحق في مظانه «1» ، فلما صاروا ببابك تصرفهم دون إنقاذ الحق لأهله! ولعل قائلا أن يقول: باع ما يملك بيع مقتسر على أمره. فلما رأى عزمه أمر بإخراج الجارية من قصره، وشهد الشهود على عينها، وقضى بها لصاحبها. وكان سعيد بن بشير القاضي إذا خرج إلى المسجد أو جلس في مجلس الحكم، جلس في رداء معصفر «2» وشعر مفرق إلى شحمة أذنيه؛ فإذا طلب ما عنده وجد أورع الناس وأفضلهم. وكانت للحكم ألف فرس مربوطة بباب قصره على جانب النهر، عليها عشرة عرفاء، تحت يد كل عريف منها مائة فرس لا تندب ولا تبرح، فإذا بلغه عن ثائر في طرف من أطرافه عاجله قبل استحكام أمره، فلا يشعر حتى يحاط به. وأتاه الخبر: أن جابر بن لبيد يحاصر جيان وهو يلعب بالصولجان في الجسر، فدعا بعريف من أولئك فأشار إليه أن يخرج من تحت يده إلى جابر بن لبيد، ثم فعل مثل ذلك بأصحابه من العرفاء، فلم يشعر ابن لبيد حتى تساقطوا عليه متساوين، فلما رأى ذلك عدوّه سقط في أيديهم وظنوا أن الدنيا قد حشرت لديهم، فولوا مدبرين. وقال الحكم يوم الهيجاء بعد وقعة الرّبض: رأيت صدوع الأرض بالسّيف راقعا ... وقدما رأيت الشّعب مذ كنت يافعا فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي السيف دارعا وشافه على أرض القضاء جماجما ... كأقحاف شريان الهبيد لوامعا «3»

عبد الرحمن بن الحكم

تنبّئك أني لم أكن عن قراعهم ... بوان وأني كنت بالسيف قارعا «1» ولما تساقينا سجال حروبنا ... سقيتهم سمّا من الموت ناقعا «2» وهل زدت أن وفّيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدّرت ومصارعا قال عثمان بن المثنى المؤدب: قدم علينا عباس بن ناصح من الجزيرة أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شعر الحكم، فأنشدته، فلما انتهيت إلى قوله: وهل زدت أن وفّيتهم صاع قرضهم قال: لو جوثي الحكم في حكومة لأهل الربض لقام بعذره هذا البيت. عبد الرحمن بن الحكم ثم ولي بعده عبد الرحمن بن الحكم، أندى الناس كفا، وأكرمهم عطفا، وأوسعهم فضلا، في ذي الحجة سنة ست ومائتين: فملك إحدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر، ومات ليلة الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستين سنة. وكتب إليه بعض عماله، يسأله عملا رفيعا لم يكن من شاكلته؛ فوقّع في أسفل كتابه: من لم يصب وجه مطلبه، كان الحرمان أولى به. محمد بن عبد الرحمن ثم ولي الملك محمد بن عبد الرحمن، يوم الخميس لثلاث [خلون] من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملك أربعا وثلاثين سنة، وتوفي يوم الجمعة مستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وهو ابن سبع وستين سنة.

وكتب عبد الرحمن بن الشمر إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن- وكان يتجنب الوقوف ببابه مخافة نصر الفتى- فلما مات نصر كتب ابن الشمر هذه الأبيات إلى محمد يقول فيها: لئن غاب وجهي عنك إنّ مودّتي ... لشاهدة في كلّ يوم تسلّم وما عاقني إلا عدوّ مسلّط ... يذلّ ويقصي من يشاء ويرغم ولم يستطل إلا بكم وبعزّكم ... ولا ينبغي أن يمنح العزّ مجرم فمكنتموه فاستطال عليكم ... وكادت بنا نيرانه تتضرّم كذلك كلب السّوء إن يشبع انبرى ... لمشبعه مستشليا يترمرم «1» فجمّع إخوانا لصوصا أراذلا ... ومنّاهم أن يقتلونا ويغنموا رأى بأمين الله سقما فغرّه ... ولم يك يدري أنّه يتقدّم فنحمد رباّ سرّنا بهلاكه ... فما زال بالإحسان والطّول ينعم أراد يكيد الله نصر فكاده ... ولله كيد يغلب الكيد، مبرم بكى الكفر والشّيطان نصرا فأعولا ... كما ضحكت شوقا إليه جهنّم وكانت له في كلّ شهر جباية ... جباية آلاف تعد وتخّتم فهل حائط الإسلام يوما يسومهم ... بما اجترموا يوما عليه وأقدموا «2» وينهبنا أموالهم وهو فاعل ... فإني أرى الدّنيا له تتبسم ألا أيّها النّاس اسمعوا قول ناصح ... حريص عليكم مشفق وتفهّموا محمّد نور يستضاء بوجهه ... وسيف بكفّ الله ماض مصمّ فكونوا له مثل البنين يكن لكم ... أبا حدبا في الرحم بل هو أرحم «3» فيا بن أمين الله لا زلت سالما ... معافّي فإنا ما سلمت سنسلم ألست المرجّى من أمية والذي ... له المجد منها الأتلد المتقدّم «4»

وأنت لأهل الخير روح ورحمة ... نعم، ولأهل الشّرّ صاب وعلقم «1» وحدث بقي بن مخلد الفقيه قال: ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا، ولا أبلغ لفظا من الأمير محمد؛ دخلت عليه يوما في مجلس خلافته فافتتح الكلام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم ذكر الخلفاء خليفة خليفة؛ فحكى كل واحد منهم بحليته ونعته ووصفه، وذكره مآثره ومناقبه، بأفصح لسان، وأبين بيان، حتى انتهى إلى نفسه فسكت. وخرج الأمير محمد يوما متنزها إلى الرصافة ومعه هاشم بن عبد العزيز، فكان بها صدر نهاره على لذّاته، فلما أمسى واختلط الظلام رجع منصرفا إلى القصر وبه اختلاط؛ فأخبرني من سمعه وهاشم يقول له: يا سيدي يا بن الخلائف، ما أطيب الدنيا لولا، قال له: لولا ماذا؟ قال: لولا الموت! قال له: يا بن اللخناء لحنت «2» في كلامك؛ وهل ملكنا هذا الملك الذي نحن فيه إلا بالموت، ولولا الموت ما ملكناه أبدا. وكان الأمير محمد غزّاء لأهل الشرك والخلاف، وربما أوغل في بلاد العدوّ الستة الأشهر أو أكثر، يحرق وينسف، وله في العدوّ وقيعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع؛ لم يعرف مثلها في الأندلس قبلها، وفيها يقول عباس بن فرناس، وشعره يكفينا من صفتها: ومختلف الأصوات مؤتلف الزّحف ... لهوم الفلا عبل القبائل ملتفّ «3» إذا أومضت فيه الصّوارم خلتها ... بروقا تراءى في الجهام وتستخفي «4» كأنّ ذرّى الأعلام في سيلانه ... فراقد يم قد عجزن عن القذف «5»

المنذر بن محمد

وإن طحنت أركانه كان قطبها ... حجى ملك نجد شمائله عفّ سميّ ختام الأنبياء محمد ... إذا وصف الأملاك جلّ عن الوصف فمن أجله يوم الثلاثاء غدوة ... وقد نقض الإصباح عقد عرى السجف «1» بكى جبلا وادي سليط فأعولا ... على النفر العبدان والعصبة الغلف «2» دعاهم صريخ الحين فاجتمعوا له ... كما اجتمع الجعلان للبعر في قفّ «3» فما كان إلّا أن رماهم ببعضها ... فولّوا على أعقاب مهزومة كشف «4» كأنّ مساعير الموالي عليهم ... شواهين جادت للغرانيق بالسّيف» بنفسي تنانير الوغى حين صمّمت ... إلى الجبل المشحون صفاّ على صفّ يقول ابن بليوس لموسى وقد ونى ... أرى الموت قدّامي وتحتي ومن خلفي قتلناهم ألفا وألفا ومثلها ... وألفا وألفا بعد ألف إلى ألف سوى من طواه النهر في مستلجّه ... فأغرق فيه أو تدأدأ من جرف «6» المنذر بن محمد ثم ولي المنذر بن محمد، يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ومات يوم السبت في غزاة له على ببشتر «7» لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو ابن ست وأربعين سنة. وكان أشدّ الناس شكيمة، وأمضاهم عزيمة؛ ولما ولي الملك بعث إليه أهل طليطلة بجبايتهم كاملة، فردّها عليهم وقال: استعينوا بها في حربكم، فأنا سائر إليكم إن شاء الله.

عبد الله بن محمد

ثم غزا إلى المارق الموتر عمرو بن حفصون، وهو بحصن قامرة فأحدق به بخيله ورجله، فلم يجد الفاسق منفذا ولا متنفّسا، فأعمل الحيلة، ولاذ بالمكر والخديعة، وأظهر الإنابة والإجابة، وأن يكون من مستوطني قرطبة بأهله وولده، وسأل إلحاق أولاده في الموالي: فأجابه الأمير إلى كل ما سأل، وكتب له الأمانات، وقطعت لأولاده الثياب، وخرزت له الخفاف؛ ثم سأل مائة بغل يحمل عليها ماله ومتاعه إلى قرطبة، فأمر الأمير بها، وطلبت البغال ومضت إلى ببشتر وعليها عشرة من العرفاء، وانحل العسكر عن الحصن بعض الانحلال، وعكف القاضي وجماعة من الفقهاء على تمام الصلح فيما حسبوا فلما رأى الفاسق الفرصة، انتهزها؛ ففسق ليلا وخرج، فلقى العرفاء بالبغال، فقتلهم وأخذ البغال، وعاد إلى سيرته الأولى؛ فعقد المنذر على نفسه عقدا أن لا أعطاه صلحا ولا عهدا إلا أن يلقى بيده، وينزل على عهده وحكمه، ثم غزاه الغزاة التي توفى فيها، فأمر بالبنيان والسكنى عليه. وأن يردّ سوق قرطبة عليه؛ فعاجله أجله عن ذلك. عبد الله بن محمد ثم تولى عبد الله بن محمد التقي النقي العابد الزاهد، التالي لكتاب الله، والقائم بحدود الله، يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين فبنى الساباط «1» ، وخرج إلى الجامع والتزم الصلاة إلى جانب المنبر حتى أتاه أجله رحمه الله يوم الثلاثاء لليلة بقيت من صفر سنة ثلاثمائة. وكانت له غزوات، منها غزاة بلى، التي أنست كل غزاة تقدمتها، وذلك أن المرثد ابن حفصون ألّب عليه كور الأندلس، فنزل حصن بلى «2» ، وخرج إليه الأمير عبد الله بن محمد في أربعة عشر ألفا من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حشمه ومواليه؛ فبرز إليه الفاسق وقد كردس كراديسه «3» في سفح الجبل، وناهضه الأمير

عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين

عبد الله بجمهور عسكره، فلم يكن لهم فيه إلا صدمة صادقة، أزالوهم بها عن عسكرهم، فلم يقدروا أن يتراجعوا إليه؛ ونظر الفاسق إلى معسكر عبد الله الأمير، فإذا بمدد مقبل مثل الليل، في انحدار السيل. لا ينقطع؛ فخشعت نفسه، وعطف إلى الحصن يظهر إخراج من بقي فيه، فثلم «1» ثلمة وخرج منها في خمسة معه، وقد طار بهم جناح الفرار؛ فلما انتهى ذلك إلى أهل عسكره، ولّوا مدبرين لا يلوي أحد على أحد، فعملت الرماح على أكتافهم، والسيوف في طلى «2» أعناقهم، حتى أفنوهم أو كادوا، وكان منهم جماعة قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله، فقعد الأمير في المظلة وأمر بالتقاطهم، وأن لا يمر أحد على أحد منهم إلا قتله. فقتل منهم ألف رجل صبرا بين يدي الأمير. عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين ثم ولي الملك القمر الأزهر، الأسد الغضنفر، الميمون النقيبة، «3» المحمود الضريبة، سيد الخلفاء، وأنجب النجباء، عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين، صبيحة هلال ربيع الأول سنة ثلاثمائة، فقلت فيه: بدا الهلال جديدا ... والملك غضّ جديد يا نعمة الله زيدي ... ما كان فيه مزيد وهي عدة أبيات، فتولى الملك وهي جمرة تحتدم، ونار تضطرم، وشقاق ونفاق، فأخمد نيرانها، وسكن زلزالها، وافتتحها عودا كما افتتحها بدءا سميّه عبد الرحمن بن معاوية رحمه الله. وقد قلت وقيل في غزواته كلها أشعار قد جالت في الأمصار، وشردت في البلدان، حتى أتهمت وأنجدت وأعرقت، ولولا أن الناس متكتفون بما في أيديهم منها

لأعدنا ذكرها أو ذكر بعضها، ولكنا سنذكر ما سبق إلينا من مناقبه التي لم يتقدمه إليها متقدّم ولا أخت لها ولا نظير. فمن ذلك أول غزاة غزاها، وهي الغزاة المعروفة بغزاة المنتلون، افتتح بها سبعين حصنا، كلّ حصن منها قد نكبت عنه الطوائف، وأعيا على الخلائف، وفيها أقول: قد أوضح الله للإسلام منهاجا ... والناس قد دخلوا في الدّين أفواجا وقد تزيّنت الدّنيا لساكنها ... كأنما ألبست وشيا وديباجا يا بن الخلائف إنّ المزن لو علمت ... نداك ما كان منها الماء ثجّاجا «1» والحرب لو علمت بأسا تصول به ... ما هيّجت من حميّاك الذي اهتاجا «2» مات النّفاق وأعطى الكفر ذمّته ... وذلّت الخيل إلجاما وإسراجا وأصبح النصر معقودا بألوية ... تطوي المراحل تهجيرا وإدلاجا «3» أدخلت في قبّة الإسلام مارقة ... أخرجتها من ديار الشّرك إخراجا «4» بجحفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالبحر يقذف بالأمواج أمواجا يقوده البدر يسري في كواكبه ... عرمرما كسواد الليل رجراجا «5» تروق فيه بروق الموت لامعة ... ويسمعون به للرّعد أهزاجا غادرت في عقوتي جيّان ملحمة ... أبكيت منها بأرض الشّرك أعلاجا «6» في نصف شهر تركت الأرض ساكنة ... من بعد ما كان فيها الجور قد ماجا وجدت في الخبر المأثور منصلتا ... من الخلائف خرّاجا وولّاجا «7» تملا بك الأرض عدلا مثل ما ملئت ... جورا وتوضح للمعروف. منهاجا يا بدر ظلمتها، يا شمس صبحتها ... يا ليث حومتها إن هائج هاجا «8»

إنّ الخلافة لن ترضى ولا رضيت ... حتى عقدت لها في رأسك التّاجا ولم يكن مثل هذه الغزاة لملك من الملوك في الجاهلية والإسلام. وله غزاة مارشن «1» التي كانت أخت بدر وحنين، وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتها في مغازيه كلها من سنة إحدى وثلاثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وأوقفناها. ومن مناقبه أن الملوك لم تزل تبني على أقدارها، ويقضى عليها بآثارها، وأنه بنى في المدة القليلة ما لم تبن الخلفاء في المدة الطويلة، نعم: لم يبق في القصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليته بنيّة «2» إلا وله فيها أثر محدث، إما تزييد أو تجديد. ومن مناقبه أنه أول من سمى أمير المؤمنين من خلفاء بني أمية بالأندلس. ومن مناقبه التي لا أخت لها ولا نظير، ما أعجز فيه من بعده، وفات فيه من قبله، من الجود الذي لم يعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له؛ وقد ذكرت ذلك في شعري الذي أقول فيه: يا بن الخلائف والعلا للمعتلي ... والجود يعرف فضله للمفضل نوّهت بالخلفاء بل أخملتهم ... حتى كأنّ نبيلهم لم ينبل أذكرت بل أنسيت ما ذكر الألى ... من فعلهم فكأنه لم يفعل وأتيت آخرهمّ وشأوك فائت ... للآخرين ومدرك للأوّل ألآن سمّيت الخلافة باسمها ... كالبدر يقرن بالسّماك الأعزل «3» تأبى فعالك أن تقرّ لآخر ... منهم وجودك أن يكون لأوّل وهذه الأرجوزة التي ذكرت جميع مغازيه وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة، وهي:

سبحان من لم تحوه أقطار ... ولم تكن تدركه الأبصار ومن عنت لوجهه الوجوه ... فما له ندّ ولا شبيه سبحانه من خالق قدير ... وعالم بخلقه بصير وأوّل ليس له ابتداء ... وآخر ليس له انتهاء أوسعنا إحسانه وفضله ... وعزّ أن يكون شيء مثله وجلّ أن تدركه العيون ... أو يحوياه الوهم والظّنون لكنّه يدرك بالقريحة ... والعقل والأبينة الصّحيحة «1» وهذه من أثبت المعارف ... في الأوجه الغامضة اللّطائف معرفة العقل من الإنسان ... أثبت من معرفة العيان فالحمد لله على نعمائه ... حمدا جزيلا وعلى آلائه «2» وبعد حمد الله والتّمجيد ... وبعد شكر المبديء المعيد أقول في أيام خير الناس ... ومن تحلّى بالنّدى والباس ومن أباد الكفر والنّفاقا ... وشرّد الفتنة والشّقاقا ونحن في حنادس كالليل ... وفتنة مثل غثاء السّيل «3» حتى تولّى عابد الرّحمن ... ذاك الأعزّ من بني مروان مؤيّد حكّم في عداته ... سيفا يسيل الموت من ظباته «4» وصبّح الملك مع الهلال ... فأصبحا ندّين في الجمال واحتمل التقوى على جبينه ... والدّين والدنيا على يمينه قد أشرقت بنوره البلاد ... وأنقطع التشغيب والفساد هذا على حين طغى النفاق ... واستفحل النكّاث والمرّاق «5»

وضاقت الأرض على سكانها ... وأذلت الحرب لظى نيرانها ونحن في عشواء مدلهمّة ... وظلمة ما مثلها من ظلمه تأخذنا الصّيحة كلّ يوم ... فما تلذّ مقلة بنوم وقد نصلي العيد بالنواظر ... مخافة من العدوّ الثائر «1» حتى أتانا الغوث من ضياء ... طبّق بين الأرض والسماء «2» خليفة الله الذي أصطفاه ... على جميع الخلق واجتباه من معدن الوحي وبيت الحكمة ... وخير منسوب إلى الأئمة تكلّ عن معروفه الجنائب ... وتستحي من جوده السحائب «3» في وجهه من نوره برهان ... وكفّه تقبيلها قربان أحيا الذي مات من المكارم ... من عهد كعب وزمان حاتم مكارم يقصر عنها الوصف ... وغرّة يحسر عنها الطّرف «4» وشيمة كالصّاب أو كالماء ... وهمّة ترقى إلى السماء «5» وانظر إلى الرفيع من بنيانه ... يريك بدعا من عظيم شانه لو خايل البحر ندى يديه ... إذا لجت عفاته إليه «6» لغاض أو لكاد أن يغيضا ... ولا استحى من بعد أن يفيضا «7» من أسبغ النّعمى وكانت محقا ... وفتّق الدّنيا وكانت رتقا هو الذي جمّع شمل الأمه ... وجاب عنها دامسات الظلمة وجدّد الملك الذي قد أخلقا ... حتى رست أوتاده واستوسقا وجمّع العدّة والعديدا ... وكثّف الأجناد والحشودا

أول غزاة غزاها أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد

أول غزاة غزاها أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد ثم انتحى جيّان في غزاته ... بعسكر يسعر من حماته فاستنزل الوحش من الهضاب ... كأنما حطّت من السّحاب فأذعنت مرّاقها سراعا ... وأقبلت حصونها تداعى» لمّا رماها بسيوف العزم ... مشحوذة على دروع الحزم كادت لها أنفسهم تجود ... وكادت الأرض بهم تميد «2» لولا الإله زلزلت زلزالها ... وأخرجت من رهبة أثقالها فأنزل الناس إلى البسيط ... وقطع البين من الخليط وافتتح الحصون حصنا حصنا ... وأوسعّ الناس جميعا أمنا ولم يزل حتى انتحى جيّانا ... فلم يدع بأرضها شيطانا فأصبح الناس جميعا أمّه ... قد عقد الإلّ لهم والذّمّه «3» ثم انتحى من فوره إلبيره ... وهي بكلّ آفة مشهورة «4» فداسها بخيله ورجله ... حتى توطّا خدّها بنعله ولم يدع من جنّها مريدا ... بها ولا من إنسها عنيدا «5» إلّا كساه الذّل والصّغارا ... وعمّه وأهله دمارا فما رأيت مثل ذاك العام ... ومثل صنع الله للإسلام فانصرف الأمير من غزاته ... وقد شفاه الله من عداته وقبلها ما خضعت وأذعنت ... إستجّة وطالما قد صنعت «6» وبعدها مدينة الشّئيل ... ما أذعنت للصّارم الصّقيل «7»

سنة إحدى وثلاثمائة

لمّا غزاها قائد الأمير ... باليمن في لوائه المنصور فأسلمت ولم تكن بالمسلمه ... وزال عنها أحمد بن مسلمه وبعدها في آخر الشهور ... من ذلك العام الزكيّ النّور أرجفت القلاع والحصون ... كأنما ساورها المنون وأقبلت رجالها وفودا ... تبغي لدى إمامها السّعودا وليس من ذي عزة وشدّة ... إلا توافوا عند باب السّده «1» قلوبهم باخعة بالطاعه ... قد أجمعوا الدخول في الجماعة «2» سنة إحدى وثلاثمائة ثم غزا في عقب عام قابل ... فحال في شذونة والسّاحل «3» ولم يدع مريّة الجزيره ... حتى كوى أكلبها الهريره «4» حتى أناخ بذرى قرمونه ... بكلكل كمدرة الطاحونه «5» على الذي خالف فيها وانتزى ... يعزى إلى سوادة إذا اعتزى فسال أن يمهله شهورا ... ثم يكون عبده المأمورا فأسعف الأمير منه ما سأل ... وعاد بالفضل عليه وقفل «6» سنة اثنتين وثلاثمائة كان بها القفول عند الجيئه ... من غزو إحدى وثلثمائه «7» فلم يكن يدرك في باقيها ... غزو ولا بعث يكون فيها

سنة ثلاث وثلاثمائة

سنة ثلاث وثلاثمائة ثمّت أغزى في الثلاث عمّه ... وقد كساه عزمه وحزمه فسار في جيش شديد الباس ... وقائد الجيش أبو العبّاس حتى ترقّى بذرى ببشتر ... وجال في ساحتها بالعسكر فلم يدع زرعا ولا ثمارا ... لهم ولا علفا ولا عقارا وقطع الكروم منها والشجر ... ولم يبايع علجها ولا ظهر «1» ثم انثنى من بعد ذاك قافلا ... وقد أباد الزرع والمآكلا فأيقن الخنزير عند ذاكا ... أن لا بقاء يرتجى هناكا فكاتب الإمام بالإجابة ... والسّمع والطاعة والإنابة فأخمد الله شهاب الفتنه ... وأصبح الناس معا في هدنه وارتعت الشاة معا والذّيب ... إذ وضعت أوزارها الحروب سنة أربع وثلاثمائة وبعدها كانت غزاة أربع ... فأيّ صنع ربّنا لم يصنع ... ... فيها، ببسط الملك الأوّاه ... كلتا يديه في سبيل الله وذاك أن قوّد قائدين ... بالنّصر والتأيبد ظاهرين هذا إلى الثّغر وما يليه ... على عدوّ الشّرك أو ذويه وذا إلى شمّ الرّبا من مرسيه ... وما مضى جرى إلى بلنسيه «2» فكان من وجّهه للساحل ... القرشيّ القائد القنابل «3» وابن أبي عبدة نحو الشّرك ... في خير ما تعبية وشكّ «4» فأقبلا بكلّ فتح شامل ... وكلّ ثكل للعدوّ ثاكل وبعد هذى الغزوة الغرّاء ... كان افتتاح ليلة الحمراء «5»

سنة خمس وثلاثمائة

أغزى بجند نحوها مولاه ... في عقب هذا العام لا سواه بدرا، فضمّ جانبيه ضمّه ... وغمّها حتى أجابت حكمه وأسلمت صاحبها مقهورا ... حتى أتى بدر به مأسورا سنة خمس وثلاثمائة وبعدها كانت غزاة خمس ... إلى السّواديّ عقيد النّحس لمّا طغى وجاوز الحدودا ... ونقض الميثاق والعهودا ونابذ السّلطان من شقائه ... ومن تعدّيه وسوء رائه أغزى إليه القرشيّ القائدا ... إذ صار عن قصد السبيل حائدا ثمّت شدّ أزره ببدر ... فكان كالشّفع لهذا الوتر «1» أحدقها بالخيل والرجال ... مشمّرا وجدّ في القتال فنازل الحصن العظيم الشّان ... بالرّجل والرّماة والفرسان فلم يزل بدر بها محاصرا ... كذا على قتاله مثابرا والكلب في تهوّر قد انغمس ... وضيّق الحلق عليه والنّفس فافترق الأصحاب عن لوائه ... وفتحوا الأبواب دون رائه واقتحم العسكر في المدينة ... وهو بها كهيئة الظّعينه «2» مستسلما للذلّ والصّغار ... وملقيا يديه للإسار فنزع الحاجب تاج ملكه ... وقاده مكتّفا لهلكه «3» وكان في آخر هذا العام ... نكب أبي العبّاس بالإسلام غزا فكان أنجد الأنجاد ... وقائدا من أفحل القوّاد فسار في غير رجال الحرب ... الضاربين عند وقت الضرب محاربا في غير ما محارب ... والحشم الجمهور عند الحاجب

سنة ست وثلاثمائة

واجتمعت إليه أخلاط الكور ... وغاب ذو التّحصيل عنه والنظر «1» حتى إذا أوغل في العدوّ ... فكان بين البعد والدّنوّ أسلمه أهل القلوب القاسيه ... وأفردوه للكلاب العاويه فاستشهد القائد في أبرار ... قد وهبوا نفوسهم للباري في غير تأخير ولا فرار ... إلا شديد الضرب للكفار سنة ست وثلاثمائة قم أقاد الله من أعدائه ... وأحكم النصر لأوليائه في مبدأ العام الذي من قابل ... أزهق فيه الحقّ نفس الباطل فكان من رأي الإمام الماجد ... وخير مولود وخير والد أن احتمي للواحد القهّار ... وفاض من غيظ على الكفّار فجمع الأجناد والحشودا ... ونفّر السيّد والمسودا وحشر الأطراف والثّغورا ... ورفض الّلذّة والحبورا «2» حتى إذا ما وافت الجنود ... واجتمع الحشّاد والحشود قوّد بدرا أمر تلك الطائفة ... وكانت النفس عليه خائفه فسار في كتائب كالسّيل ... وعسكر مثل سواد الليل حتى إذا حلّ على مطنيّه ... وكان فيها أخبث البرّيه «3» ناصبهم حربا لها شرار ... كأنما أضرم فيها النار وجدّ من بينهم القتال ... وأحدقت حولهم الرجال فحاربوا يومهم وباتوا ... وقد نفت نومهم الرّماة فهم طوال الليل كالطّلائح ... جراحهم تنغل في الجوارح «4» ثم مضوا في حربهم أيّاما ... حتى بدا الموت لهم زؤاما

لمّا رأوا سحائب المنيّة ... تمطرهم صواعق البليه تغلغل العجم بأرض العجم ... وانحشدوا من تحت كلّ نجم فأقبل العلج لهم مغيثا ... يوم الخميس مسرعا حثيثا «1» بين يديه الرّجل والفوارس ... وحوله الصّلبان والنّواقس وكان يرجو أن يزيل العسكرا ... عن جانب الحصن الذي قد دمّرا فاعتاقه بدر بمن لديه ... مستبصرا في زحفه إليه حتى التقت ميمنة بميسره ... واعتلت الأرواح عند الحنجره ففاز حزب الله بالعلجان ... وانهزمت بطانة الشيطان فقتلوا قتلا ذريعا فاشيا ... وأدبر العلج ذميما خازيا وانصرف الناس إلى القليعة ... فصبّحوا العدوّ يوم الجمعه ثم التقى العلجان في الطريق ... البنبلونيّ مع الجلّيقي فأعقدا على انتهاب العسكر ... وأن يموتا قبل ذاك المحضر وأقسما بالجبت والطاغوت ... لا يهزما دون لقاء الموت «2» فأقبلوا بأعظم الطّغيان ... قد جلّلوا الجبال بالفرسان حتى تداعى الناس يوم السبت ... فكان وقتا يا له من وقت فأشرعت بينهم الرماح ... وقد علا التّكبير والصّياح وفارقت أغمادها السّيوف ... وفغرت أفواهها الحتوف «3» والتقت الرجال بالرجال ... وانغمسوا في غمرة القتال في موقف زاغت به الأبصار ... وقصرت في طوله الأعمار وهبّ أهل الصبر والبصائر ... فأوعقوا على العدوّ الكافر «4»

سنة سبع وثلاثمائة

حتى بدت هزيمة البشكنس ... كأنّه مختضب بالورس «1» فانقضّت العقبان والسلالقه ... زعقا على مقدّم الجلالقه «2» عقبان موت تخطف الأرواحا ... وتشبع السّيوف والرماحا فانهزم الخنزير عند ذاكا ... وانكشفت عورته هناك فقتلوا في بطن كلّ وادي ... وجاءت الرّءوس في الأعواد وقدّم القائد ألف راس ... من الجلاليق ذوي العماس» فتمّ صنع الله للإسلام ... وعمّنا سرور ذاك العام وخير ما فيه من السّرور ... موت ابن حفصون به الخنزير فاتّصل الفتح بفتح ثان ... والنّصر بالنّصر من الرّحمن وهذه الغزاة تدعى القاضيه ... وقد أتتهم بعد ذاك الداهيه سنة سبع وثلاثمائة وبعدها كانت غزاة بلده ... وهي التي أودت بأهل الرّدّة «4» وبدؤها أنّ الإمام المصطفى ... أصدق أهل الأرض عدلا ووفا لمّا أتته ميتة الخنزير ... وأنه صار إلى السّعير كاتبه أولاده بالطاعه ... وبالدّخول مدخل الجماعه وأن يقرّهم على الولاية ... على ورود الخرج والجبايه فاختار ذلك الإمام المفضل ... ولم يزل من رأيه التّفضّل ثم لوى الشيطان رأس جعفر ... وصار منه نافخا في المنخر فنقض العهود والميثاقا ... واستعمل التّشغيب والنفاقا «5»

وضمّ أهل النّكث والخلاف ... من غير ما كاف وغير وافي فاعتاقه الخليفة المؤيّد ... وهو الذي يشقي به ويسعد «1» ومن عليه من عيون الله ... حوافظ من كلّ أمر داه فجنّد الجنود والكتائبا ... وقوّد القوّاد والمقانبا «2» ثم غزا في أكثر العديد ... مستصحبا بالنّصر والتأييد حتى إذا مرّ بحصن بلده ... خلف فيه قائدا في عدّه يمنعهم من انتشار خيلهم ... وحارسا في يومهم وليلهم ثمّ مضى يستنزل الحصونا ... ويبعث الطّلاع والعيونا حتى أتاه باشر من بلده ... يعدو برأس رأسها في صعده «3» فقدّم الخيل إليها مسرعا ... واحتلّها من يومه تسرّعا فحفّها بالخيل والرّماة ... وجملة الحماة والكماة «4» فأطلع الرجل على أنقابها ... واقتحم الجند على أبوابها «5» فأذعنت ولم تكن بمذعنة ... واستسلمت كافرة لمؤمنه فقدّمت كفارها للسيف ... وقتّلوا بالحقّ لا بالحيف «6» وذاك من يمن الإمام المرتضى ... وخير من بقي وخير من مضى ثم انتحى من فوره بر بشترا ... فلم يدع بها قضيبا أخضرا وحطّم النّبات والزّروعا ... وهتك الرباع والرّبوعا فإذ رأى الكلب الذي رآه ... من عزمه في قطع منتواه «7»

سنة ثمان وثلاثمائة

ألقى إليه باليدين ضارعا ... وسال أن يبقى عليه وادعا وأن يكون عاملا في طاعته ... على درور الخرج من جبايته فوثق الإمام من رهانه ... كيلا يكون في عمى من شانه وقبل الإمام ذاك منه ... فضلا وإحسانا وسار عنه سنة ثمان وثلاثمائة ثم غزا الإمام دار الحرب ... فكان خطبا يا له من خطب فحشدت إليه أعلام الكور ... ومن له في النار ذكر وخطر «1» إلى ذوي الديوان والرايات ... وكلّ منسوب إلى الشامات وكلّ من أخلص للرّحمن ... بطاعة في السر والإعلان وكلّ من طاوع بالجهاد ... أو ضمه سرج على الجياد فكان حشدا يا له من حشد ... من كلّ حرّ عندنا وعبد فتحسب الناس جرادا منتشر ... كما يقول ربّنا فيمن حشر ثم مضى المظفّر المنصور ... على جبينه الهدى والنّور أمامه جند من الملائكه ... آخذة لربّها وتاركه حتى إذا فوّز في العدوّ ... جنّبه الرحمن كل سو «2» وأنزل الجزية والدواهي ... على الذين أشركوا بالله فزلزلت أقدامهم بالرّعب ... واستنفروا من خوف نار الحرب واقتحموا الشّعاب والمكامنا ... وأسلموا الحصون والمدائنا «3» فما تبقّى من جناب دور ... من بيعة لراهب أو دير إلا وقد صيّرها هباء ... كالنار إذ وافقت الأباء «4» وزعزعت كتائب السّلطان ... بكلّ ما فيها من البنيان فكان من أوّل حصن زعزعوا ... ومن به من العدوّ أوقعوا

مدينة معروفة بوخشمه ... فغادروها فحمة مسخّمه «1» ثم ارتقوا منها إلى حواضر ... فغادروها مثل أمس الدابر ثم مضوا والعلج يحتذيهم ... بجيشه يمشي ويقتفيهم حتى انتهوا منه لوادي ديّ ... ففيه عفّى الرّشد سبل الغيّ لمّا التقوا بمجمع الجوزين ... واجتمعت كتائب العلجين من أهل اليون وبنبلونه ... وأهل أرنيط وبرشلونه «2» تضافر الكفر مع الإلحاد ... واجتمعوا من سائر البلاد فاضطربوا في سفح طود عال ... وصففّوا تعبية القتال «3» فبادرت إليهم المقدّمه ... سامية في خيلها المسوّمه وردّها متصل بردّ ... يمدّه بحر عظيم المدّ «4» فانهزم العلجان في علاج ... ولبسوا ثوبا من العجاج «5» كلاهما ينظر حينا خلفه ... فهو يرى في كلّ وجه حتفه والبيض في آثارهم والسّمر ... والقتل ماض فيهم والأسر «6» فلم يكن للنّاس من براح ... وجاءت الرءوس في الرّماح فأمر الأمير بالتّقويض ... وأسرع العسكر في النّهوض فصادفوا الجمهور لمّا هزموا ... وعاينوا قوّادهم تخرّموا «7» فدخلوا حديقة للموت ... إذ طمعوا في حصنها بالفوت فيا لها حديقة ويا لها ... وافت بها نفوسهم آجالها

غزوة سنة تسع وثلاثمائة

تحصّنوا إذ عاينوا الأهوالا ... بمعقل كان لهم عقالا وصخرة كانت عليهم صيلما ... وانقلبوا منها إلى جهنما «1» تساقوا يستطعمون الماء ... فأخرجت أرواحهم ظماء فكم لسيف الله من جزور ... في مأدب الغربان والنّسور «2» وكم به قتلى من القساوس ... تندب للصّلبان والنّواقس ثم ثنى عنانه الأمير ... وحوله التّهليل والتّكبير مصمّما بحرب دار الحرب ... قدّامه كتائب من عرب فداسها وسامها بالخسف ... والهتك والسّفك لها والنّسف فحرّقوا ومزّقوا الحصونا ... وأسخنوا من أهلها العيونا فانظر عن اليمين واليسار ... فما ترى إلا لهيب النار وأصبحت ديارهم بلاقعا ... فما ترى إلا دخانا ساطعا «3» ونصر الإمام فيها المصطفى ... وقد شفى من العدوّ واشتفى غزوة سنة تسع وثلاثمائة وبعدها كانت غزاة طرّش ... سمت إليها جيشه لم ينهش «4» وأحدقت بحصنها الأفاعي ... وكلّ صلّ أسود شجاع «5» ثم بنى حصنا عليها راتبا ... يعتور القوّاد فيه دائبا حتى أنابت عنوة جنّانها ... وغاب عن يافوخها شيطانها فأذعنت لسيّد السادات ... وأكرم الأحياء والأموات خليفة الله على عباده ... وخير من يحكم في بلاده

سنة عشر وثلاثمائة

وكان موت بدر ابن أحمد ... بعد قفول الملك المؤيّد واستحجب الإمام خير حاجب ... وخير مصحوب وخير صاحب موسى الأغرّ من بني جدير ... عقيد كلّ رأفة وخير سنة عشر وثلاثمائة وبعدها غزاة عشر غزوه ... بها افتتاح منتلون عنوه غزا الإمام في ذوي السّلطان ... يؤمّ أهل النّكث والطّغيان «1» فاحتلّ حصن منتلون قاطعا ... أسباب من أصبح فيه خالعا سار إليه وبنى عليه ... حتى أتاه ملقيا يديه ثم انثنى عنه إلى شذونه ... فعاضها سهلا من الحزونه «2» وساقها بالأهل والولدان ... إلى لزوم قبّة الإيمان ولم يدع صعبا ولا منيعا ... إلا وقد أذلهم جميعا ثم انثنى بأطيب القفول ... كما مضى بأحسن الفصول سنة إحدى عشر وثلاثمائة وبعدها غزاة إحدى عشره ... كم نبّهت من نائم في سكره غزا الإمام ينتحي ببشترا ... في عسكر أعظم بذاك عسكرا فاحتلّ من ببشتر ذراها ... وجال في شاط وفي سواها «3» فخرّب العمران من ببشتر ... وأذعنت شاط لربّ العسكر «4» فأدخل العدّة والعديدا ... فيها ولم يترك بها عنيدا ثم انتحى بعد حصون العجم ... فداسها بالقضم بعد الخضم «5» ما كان في سواحل البحور ... منها وفي الغابات والوعور

سنة اثنتي عشر وثلاثمائة

وأدخل الطّاعة في مكان ... لم يدر قطّ طاعة السّلطان ثم رمى الثّغر بخير قائد ... وذادهم منها بخير ذائد «1» به قما الله ذوي الإشراك ... وأنقذ الثّغر من الهلاك» وانتاش من مهواتها تطيله ... وقد ثوت دماؤها مطلوله «3» وسهّل الثّغر وما يليه ... من شيعة الكفر ومن ذويه ثم انثنى بالفتح والنجاح ... قد غيّر الفساد بالصلاح سنة اثنتي عشر وثلاثمائة وبعدها غزاة ثنتى عشره ... وكم بها من حسرة وعبره غزا الإمام حوله كتائبه ... كالبدر محفوفا به كواكبه «4» غزا وسيف النصر في يمينه ... وطالع السعد على جبينه وصاحب العسكر والتّدبير ... موسى الأغرّ حاجب الأمير «5» فدمّر الحصون من تدمير ... واستنزل الوحش من الصّخور «6» فاجتمعت عليه كلّ الأمّه ... وبايعته أمراء الفتنه حتى إذا أوعب من حصونها ... وحمّل الحقّ على متونها «7» مضى وسار في ظلال العسكر ... تحت لواء الأسد الغضنفر رجال تدمير ومن يليهم ... من كلّ صنف يعتزي إليهم حتى إذا حلّ على تطيله ... بكت على دمائها المطوله وعظم ما لاقت من العدوّ ... والحرب في الرّواح والغدوّ فهمّ أن يديخ دار الحرب ... وأن يكون ردأة في الدّرب «8»

ثم استشار ذا النّهى والحجر ... من صحبه ومن رجال الثّغر فكلّهم أشار أن لا يدربا ... ولا يجوز الجبل المؤشّبا لأنه في عسكر قد انخرم ... بندب كلّ العرفاء والحشم وشنّعوا أنّ وراء الفجّ ... خمسين ألفا من رجال العلج فقال لا بدّ من الدّخول ... وما إلى حاشاه من سبيل وأن أديخ أرض بنبلونه ... وساحة المدينة الملعونه وكان رأيا لم يكن من صاحب ... ساعده عليه غير الحاجب واستنصر الله وعبّى ودخل ... فكان فتحا لم يكن له مثل «1» لمّا مضى وجاز الدّروبا ... وادّرع الهيجاء والحروبا «2» عبّى له علج من الأعلاج ... كتائبا غطّت على الفجاج «3» فاستنصر الإمام ربّ الناس ... ثم استعان بالنّدى والباس وعاذ بالرّغبة والدعاء ... واستنزل النّصر من السّماء فقدم القوّاد بالحشود ... وأتبع المدود بالمدود فانهزم العلج وكانت ملحمه ... جاوز فيها السّاقة المقدّمه «4» فقتلوا مقتلة الفناء ... فارتوت البيض من الدّماء ثم أمال نحو بنبلونه ... واقتحم العسكر في المدينه حتى إذا جاسوا خلال دورها ... وأسرع الخراب في معمورها بكت على ما فاتها النّواظر ... إذ جعلت تدقّها الحوافر لفقد من قتّل من رجالها ... وذلّ من أيتم من أطفالها فكم بها وحولها من أغلف ... تهمي عليه الدمع عين الأسقف «5»

سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة

وكم بها حقّر من كنائس ... بدّلت الأذان بالنّواقس يبكي لها النّاقوس والصّليب ... كلاهما فرض له النّحيب وانصرف الإمام بالنّجاح ... والنصر والتأييد والفلاح ثم ثنى الرّايات في طريقه ... إلى بني ذي النّون من توفيقه فأصبحوا من بسطهم في قبض ... قد ألصقت خدودهم بالأرض «1» حتى بدوا إليه بالبرهان ... من أكبر الآباء والولدان فالحمد لله على تأييده ... حمدا كثيرا وعلى تسديده سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة ثم غزا بيمنه أشونا ... وقد أشادوا حولها حصونا «2» وحفّها بالخيل والرّجال ... وقاتلوهم أبلغ القتال حتى إذا ما عاينوا الهلاكا ... تبادروا بالطّوع حينذاكا وأسلموا حصنهم المنيعا ... وسمحوا بخرجهم خضوعا وقبلهم في هذه الغمزاة ... ما هدمت معاقل العصاة وأحكم الإمام في تدبيره ... على بني هابل في مسيره ومن سواهم من ذوي العثيرة ... وأمراء الفتنة المغيره إذ حبسوا مراقبا عليهم ... حتى أتوا بكلّ ما لديهم من البنين والعيال والحشم ... وكلّ من لاذ بهم من الخدم فهبطوا من أجمع البلدان ... وأسكنوا مدينة السّلطان فكان في آخر هذا العام ... بعد خضوع الكفر للإسلام مشاهد من أعظم المشاهد ... على يدي عبد الحميد القائد لمّا غزا إلى بني ذي النون ... فكان فتحا لم يكن بالدّون «3»

سنة أربع عشرة وثلاثمائة

إذ جاوزوا في الظلم والطّغيان ... بقتلهم لعامل السّلطان وحاولوا الدخول في الأذيّة ... حتى غزاهم أنجد البريّه فعاقهم عن كلّ ما رجوه ... بنقضه كلّ الذي بنوه وضبطه الحصن العظيم الشّان ... أشنين بالرّجل والفرسان ثم مضى الليث إليهم زحفا ... يختطف الأرواح منهم خطفا فانهزموا هزيمة لن ترقدا ... وأسلموا صنوهم محمّدا «1» وغيره من أوجه الفرسان ... مغرّب في مأتم الغربان مقطّع الأوصال بالسّنابك ... من بعد ما مزّق بالنّيازك «2» ثم لجوا إلى طلاب الأمن ... وبذلهم ودائعا من رهن فقبضت رهانهم وأمّنوا ... وأنغضوا رؤسهم وأذعنوا ثم مضى القائد بالتّأييد ... والنصر من ذي العرش والتسديد حتى أتى حصن بني عماره ... والحرب بالتدبير والإداره فافتتح الحصن وخلّى صاحبه ... وأمن الناس جميعا جانبه سنة أربع عشرة وثلاثمائة لم يغز فيها وغزت قوّاده ... واعتورت ببشترا أجناده فكلهم أبلى وأغنى واكتفى ... وكلّهم شفى الصّدور واشتفى ثم تلاهم بعد ليث الغيل ... عبد الحميد من بني بسيل «3» هو الذي قام مقام الضّيغم ... وجاء في غزاته بالصّيلم «4» برأس جالوت النّفاق والحسد ... من جمّع الخنزير فيه والأسد فهاكه من صحبه في عدّه ... مصلّيين عند باب السّدّه

سنة خمس عشرة وثلاثمائة

قد امتطى مطيّة لا تبرح ... صائمة قائمة لا ترمح «1» مطية إن يعرها انكسار ... يطلبها النّجّار لا البيطار كأنه من فوقها أسوار ... عيناه في كلتيهما مسمار «2» مباشرا للشّمس والرّياح ... على جواد غير ذي جماح يقول للخاطر بالطّريق ... قول محب ناصح شفيق هذا مقام خادم الشّيطان ... ومن عصى خليفة الرحمن فما رأينا واعظا لا ينطق ... أصدق منه في الذي لا يصدق قفل لمن غرّ بسوء رائه ... يمت إذا شاء بمثل دائه كم مارق مضى وكم منافق ... قد ارتقى في مثل ذاك الحالق وعاد وهو في العصى مصلب ... ورأسه في جذعه مركّب فكيف لا يعتبر المخالف ... لحال من تطلبه الخلائف أما رآه من هوان يرتع ... معتبرا لمن يرى ويسمع سنة خمس عشرة وثلاثمائة فيها غزا معتزما ببشترا ... فجال في ساحتها ودمّرا ثم غزا طلجيرة عليها ... وهي الشّجى من بين أخدعيها «3» وامتدّها بابن السّليم راتبا ... مشمّرا عن ساقه محاربا «4» حتى رأى حفص سبيل رشده ... بعد بلوغ غاية من جهده فدان للإمام قصدا خاضعا ... وأسلم الحصن إليه طائعا سنة ست عشرة وثلاثمائة لم يغز وانتحى ببشترا ... فرمّها بما رأى ودبّرا «5»

سنة سبع عشرة وثلاثمائة

واحتلّها بالعزّ والتمكين ... ومحو آثار بني حفصون وعاضها الصّلاح من فسادهم ... وطهّر القبور من أجسادهم حتى خلا ملحود كلّ قبر ... من كلّ مرتد عظيم الكفر عصابة من شيعة الشّيطان ... عدوة لله والسّلطان فخرمت أجسادها تخرّما ... وأصليت أرواحهم جهنّما «1» ووجّه الإمام في ذا العام ... عبد الحميد وهو كالضّرغام إلى ابن داود الذي تقلّعا ... في جبلى شذونة تمنّعا فحطّه منها إلى البسيط ... كطائر آذن بالسّقوط ثم أتى به إلى الإمام ... إلى وفيّ العهد والذّمام سنة سبع عشرة وثلاثمائة وبعد سبع عشرة وفيها ... غزا بطليوس وما يليها «2» فلم يزل يسومها بالخسف ... وينتحيها بسيوف الحتف حتى إذا ما ضمّ جانبيها ... محاصرا ثم بنى عليها خلّى ابن إسحاق عليها راتبا ... مثابرا في حربه مواظبا ومرّ يستقصي حصون الغرب ... ويبتليها بوبيل الحرب حتى قضى منهنّ كلّ حاجه ... وافتتحت أكشونيه وباجه «3» وبعد فتح الغرب واستقصائه ... وحسمه الأدواء من أعدائه لجّت بطليوس على نفاقها ... وغزها اللّجاج من مرّاقها «4» حتى إذا شافهت الحتوفا ... وشامت الرّماح والسّيوفا «5» دعا ابن مروان إلى السّلطان ... وجاءه بالعهد والأمان

سنة ثمان عشرة وثلاثمائة

فصار في توسعة الإمام ... وساكنا في قبّة الإسلام سنة ثمان عشرة وثلاثمائة فيها غزا بعزمه طليطله ... وامتنعوا بمعقل لا مثل له حتى بنى جرنكشه بجنبها ... حصنا منيعا كافلا بحربها وشدّها بابن سليم قائدا ... مجالدا لأهلها مجاهدا فجاسها في طول ذاك العام ... بالخسف والنّسف وضرب الهام «1» سنة تسع عشرة وثلاثمائة ثم أتى ردفا له درّيّ ... في عسكر قضاؤه مقضيّ «2» فحاصروها عام تسع عشرة ... بكلّ محبوك القوى ذي مرّه ثم أتاهم بعد بالرّجال ... فقاتلوها أبلغ القتال سنة عشرين وثلاثمائة حتى إذا ما سلفت شهور ... من عام عشرين لها ثبور «3» ألقت يديها للإمام طائعه ... واستسلمت قسرا إليه باخعه فأذعنت وقبلها لم تذعن ... ولم تقد من نفسها وتمكن ولم تدن لربّها بدين ... سبعا وسبعين من السّنين ومبتدا عشرين مات الحاجب ... موسى الذي كان الشّهاب الثاقب وبرز الإمام بالتأييد ... في عدّة منه وفي عديد صمدا إلى المدينة اللعينه ... أتعسها الرحمن من مدينه مدينة الشّقاق والنّفاق ... وموئل الفسّاق والمرّاق» حتى إذا ما كان منها بالأمم ... وقد ذكا حرّ الهجير واحتدم

سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

أتاه واليها وأشياخ البلد ... مستسلمين للإمام المعتمد فوافقوا الرّحب من الإمام ... وأنزلوا في البرّ والإكرام ووجّه الإمام في الظهيره ... خيلا لكي تدخل في الجزيره جريدة قائدها ذرّيّ ... يلمع في متونها الماذيّ «1» فاقتحموا في وعرها وسهلها ... وذاك حين غفلة من أهلها ولم يكن للقوم من دفاع ... بخيل درى ولا امتناع وفوضى الإمام عند ذلكا ... وقام صنديدا بما هنالكا «2» حتى إذا ما حل في المدينه ... وأهلها ذليلة مهينه أقمعها بالخيل والرجال ... من غير ما حرب ولا قتال وكان من أول شيء نظرا ... فيه وما روى له ودبّرا تهدّم لبابها والسّور ... وكان ذاك أحسن التدبير حتى إذا صيّرها براحا ... وعاينوا حريمها مباحا «3» أقرّ بالتشييد والتأسيس ... في الجبل النامي إلى عمروس «4» حتى استوى فيها بناء محكم ... فحلّه عامله والحشم فعند ذاك أسلمت واستسلمت ... مدينة الدماء بعد ما عتت «5» سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة فيها مضى عبد الحميد ملتئم ... في أهبة وعدّة من الحشم «6» حتى أتى الحصن الذي تقلّعا ... يحيى بن ذي النون به وامتنعا فحطّه من هضبات ولب ... من غير تعنيت وغير حرب

سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة

إلا بترغيب له في الطاعه ... وفي الدخول مدخل الجماعه حتى أتى به الإمام راغبا ... في الصّفح عن ذنوبه وتائبا فصفح الإمام عن جنايته ... وقبل المبذول من إنابته وردّه إلى الحصون ثانيا ... مسجّلا له عليها واليا سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ثم غزا الإمام ذو المجدين ... في مبتدا عشرين واثنتين في فيلق مجمهر لهام ... مدكدك الرءوس والآكام «1» جاب الرّبا لزحفه يجيش ... تجيش في حافاته الجيوش كأنهم جنّ على سعال ... وكلّهم أمضى من الرّئبال «2» فاقتحموا ملوندة ورومه ... ومن حواليها حصون حيمه «3» حتى أتاه المارق التّجيبي ... مستجديا كالتائب المنيب فخصّه الإمام بالترحيب ... والصّفح والغفران للذّنوب ثم حباه وكساه ووصل ... بشاحج وصاهل لا يمتثل «4» كلاهما من مركب الخلائف ... في حلية تعجز وصف الواصف «5» فقال كن منّا وأوطن قرطبه ... نرقيك فيها في أجلّ مرتبه تكن وزيرا أعظم الناس خطر ... وقائدا تجبي لنا هذا الثّغر فقال إني ناقه من علّتي ... وقد ترى تغيّري وصفرتي «6» فإن رأيت سيّدي إمهالي ... حتى أرمّ من صلاح حالي ... ثم أوافيك على استعجال بالأهل والأولاد والعيال

وأوثق الإمام بالعهود ... وجعل الله من الشهود فقبل الإمام من أيمانه ... وردّه عفوا إلى مكانه ثم أتته ربّة البشاقص ... تدلي إليه بالوداد الخالص وأنها مرسلة من عنده ... وجدّها متّصل بجدّه واكتفلت بكلّ بنبلوني ... وأطلقت أسرى بني ذي النون فأوعد الإمام في تأمينها ... ونكب العسكر من حصونها ثم مضى بالعزّ والتمكين ... وناصرا لأهل هذا الدّين في جملة الرايات والعساكر ... وفي رجال الصبر والبصائر إلى عدا الله من الجلالق ... وعابدي المخلوق دون الخالق فدمّروا السهول والقلاعا ... وهتكوا الزّروع والرّباعا وخرّبوا الحصون والمدائنا ... وأقفروا من أهلها المساكنا فليس في الدّيار من ديّار ... ولا بها من نافخ للنار فغادروا عمرانها خرابا ... وبدّلوا ربوعها يبابا «1» وبالقلاع أحرقوا الحصونا ... وأسخنوا من أهلها العيونا «2» ثم ثنى الإمام من عنانه ... وقد شفى الشجيّ من أشجانه وامّن القفار من أنجاسها ... وظهّر البلاد من أرجاسها انتهت الأرجوزة وكمل كتاب العسجدة الثانية من أخبار الخلفاء

كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبين والبرامكة

كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجّاج والطالبين والبرامكة فرش كتاب أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة. قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رضي الله تعالى عنه: قد مضى قولنا في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم وما تصرفت به دولهم: ونحن قائلون بعون الله في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة، وماسحون «1» على شيء من أخبار الدولة؛ إذ كان هؤلاء الذين جرّدنا لهم كتابنا هذا، قطب «2» الملك الذي عليه مدار السياسة، ومعادن التدبير، وينابيع البلاغة، وجوامع البيان؛ هم راضوا الصعاب حتى لانت مقاودها، وخزموا «3» الأنوف حتى سكنت شواردها، ومارسوا الأمور، وجرّبوا الدهور، فاحتملوا أعباءها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرّت قواعد الملك، وانتظمت قلائد الحكم، ونفذت عزائم السلطان. أخبار زياد كانت سميّة أمّ زياد قد وهبها أبو الخير بن عمرو الكندي للحارث بن كلدة، وكان طبيبا يعالجه، فولدت له على فراشه نافعا، ثم ولدت أبا بكرة، فأنكر لونه. وقيل: [قيل] له: إنّ جاريتك بغيّ! فانتفى من أبي بكرة ومن نافع، وزوّجها عبيدا: عبدا لابنته، فولدت على فراشه زيادا، فلما كان يوم الطائف نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيّما عبد نزل فهو حرّ وولاؤه لله ورسوله. فنزل أبو بكرة وأسلم

ولحق بالنبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقال الحارث بن كلدة لنافع: أنت ابني فلا تفعل كما فعل هذا. يريد أبا بكرة؛ فلحق به، فهو ينتسب إلى الحارث بن كلدة. وكانت البغايا في الجاهلية لهن رايات يعرفن بها وينتحيها الفتيان، وكان أكثر الناس يكرهون إماءهم على البغاء والخروج إلى تلك الرايات؛ يبتغون بذلك عرض «1» الحياة الدنيا، فنهى الله تعالى في كتابه عن ذلك بقوله جل وعز: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ «2» يريد في الجاهلية فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3» يريد في الإسلام. فيقال إن أبا سفيان خرج يوما وهو ثمل إلى تلك الرايات، فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بغيّ؟ فقالت: ما عندي إلا سمية. قال: هاتيها على نتن «4» إبطيها! فوقع بها، فولدت له زيادا على فراش عبيد. ووجّه عامل من عمال عمر بن الخطاب زيادا إلى عمر بفتح فتحه الله على المسلمين؛ فأمره عمر أن يخطب الناس به على المنبر، فأحسن في خطبته وجوّد، وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب وعليّ بن أبي طالب، فقال أبو سفيان لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك! قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمّه سمية. قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخشى هذا القاعد على المنبر- يعني عمر بن الخطاب- أن يفسد عليّ إهابي. فبهذا الخبر استلحق معاوية زيادا وشهد له الشهود بذلك، وهذا خلاف حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . «5» العتبي عن أبيه قال: لما شهد الشهود لزياد، قام في أعقابهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:

هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره؛ وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهد الشهود بما سمعتم؛ فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس وحفظ منا ما ضيّعوا؛ وأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب «1» مشكور، ثم جلس. وقال زياد: ما هجيت ببيت قطّ أشدّ عليّ من قول الشاعر: فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أنّ ابنها من قريش في الجماهير سبحان من ملك عبّاد بقدرته ... لا يدفع الناس أسباب المقادير وكان زياد عاملا لعليّ بن أبي طالب على فارس، فلما مات علي رضي الله عنه وبايع الحسن معاوية عام الجماعة، بقي زياد بفارس وقد ملكها وضبط قلاعها، فاغتم به معاوية، فأرسل إلى المغيرة بن شعبة، فلما دخل عليه قال: لكل نبأ مستقرّ، ولكل سر مستودع، وأنت موضع سري وغاية ثقتي. فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين إن تستودعني سرك تستودعه ناصحا شفيقا، ورعا رفيقا؛ فما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرت زيادا واعتصامه بأرض فارس ومقامه بها، وهو داهية العرب، ومعه الأموال، وقد تحصن بأرض فارس وقلاعها يدبر الأمور؛ فما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو قد أعادها جذعة «2» ! قال له المغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال: نعم. فخرج إليه، فلما دخل عليه وجده وهو قاعد في بيت له مستقبل الشمس؛ فقام إليه زياد ورحّب به وسرّ بقدومه، وكان له صديقا؛ وذلك أن زيادا كان أحد الشهود الأربعة الذين شهدوا على المغيرة، وهو الذي تلجلج «3» في شهادته عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنجا المغيرة وجلد الثلاثة من الشهود، وفيهم أبو بكرة أخو زياد، فحلف [أبو بكرة] أن لا يكلم زيادا أبدا. فلما تفاوضا في الحديث قال له المغيرة: أعلمت أن معاوية استخفّه الوجل «4» حتى

بعثني إليك؟ ولا نعلم أحدا يمدّ يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التّوطين فيستغني عنك معاوية. قال: أشر عليّ وارم الغرض الأقصى، فإن المستشار مؤتمن. قال: أرى أن تصل حبلك بحبله وتسير إليه، وتعير الناس أذنا صماء وعينا عمياء! قال: يا ابن شعبة، لقد قلت قولا لا يكون غرسه في غير منبته، ولا مدرة «1» تغذيه، ولا ماء يسقيه، كما قال زهير: وهل ينبت الخطّيّ إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النّخل «2» ؟ ثم قال: أرى ويقضي الله. وذكر عمر بن عبد العزيز زيادا فقال: سعى لأهل العراق سعى الأمّ البرة، وجمع لهم جمع الذرّة. وقال غيره: تشبّه زياد بعمر فأفرط، وتشبّه الحجاج بزياد فأهلك الناس. وقالوا: الدهاة أربعة: معاوية للرويّة، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة. ولما قدم زياد العراق قال: من على حرسكم؟ قالوا: بلج. قال: إنما يحترس من مثل بلج فكيف يكون حارسا. أخذه الشاعر فقال: وحارس من مثله يحترس العتبي قال: كان في مجلس زياد مكتوبا: الشدّة في غير عنف، واللين في غير ضعف. المحسن يجازي بإحسانه، والمسيء يعاقب بإساءته. الأعطيات في أيامها. لا احتجاب عن طارق ليل، ولا صاحب ثغر.

وبعث زياد إلى رجال من بني تميم ورجال من بني بكر، وقال: دلّوني على صلحاء كل ناحية ومن يطاع فيها، فدلوه فضمّنهم الطريق وحدّ لكل رجل منهم حدّا؛ فكان يقول: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان عرفت من آخذ به. وكان زياد يقول: من سقى صبياّ خمرا حددناه، ومن نقب «1» بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا. وكان يقول: اثنان لا تقاتلوا فيهما العدوّ: الشتاء، وبطون الأودية. وأول من جمعت له العراق زياد، ثم ابنه عبيد الله بن زياد؛ لم تجتمع لقرشي قط غيرهما. وعبيد الله بن زياد أول من جمع له العراق وسجستان وخراسان والبحران وعمان، وإنما كان البحران وعمان إلى عمال أهل الحجاز. وهو أول من عرف العرفاء «2» ، ودعا النقباء، ونكّب «3» المناكب، وحصل الدواوين، ومشي بين يديه بالعمد» ، ووضع الكراسي، وعمل المقصورة، ولبس الزيادي، وربّع الأرباع بالكوفة، وخمّس الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمقاتلة والذرية من أهل البصرة والكوفة، وبلغ بالمقاتلة من أهل الكوفة ستين ألفا، ومقاتلة البصرة ثمانين ألفا، والذرية مائة ألف وعشرين ألفا. وضبط زياد وابنه عبيد الله العراق بأهل العراق. قال عبد الله بن مروان لعباد بن زياد: أين كانت سيرة زياد من سيرة الحجاج؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن زيادا قدم العراق وهي جمرة تشتعل فسلّ أحقادهم، وداوى أدواءهم، وضبط أهل العراق بأهل العراق، وقدمها الحجاج؛ فكسر الخراج، وأفسد

قلوب الناس ولم يضبطهم بأهل الشام فضلا عن أهل العراق ولو رام منهم ما رامه زياد لم يفجأك إلا على قعود يوجف «1» به. وقال نافع لزياد: استعملت أولاد أبي بكرة وتركت أولادي؟ قال: اني رأيت أولادك كزما «2» قصارا، ورأيت أولاد أبي بكرة نجباء طوالا. ودخل عبد الله بن عامر على معاوية، فقال له: حتى متى تذهب بخراج العراق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول هذا لمن هو أبعد مني رحما! ثم خرج فدخل على يزيد فأخبره وشكا إليه، فقال له: لعلك أغضبت زيادا! قال: قد فعلت. قال: فإنه لا يرضى حتى ترضي زيادا عنك! فانطلق ابن عامر فاستأذن على زياد، فأذن له وألطفه، فقال له ابن عامر: إن شئت فصلح بعتاب، وإن شئت فصلح بغير عتاب، فإنه أسلم للصدر ... ، ثم راح زياد إلى معاوية فأخبره وأصبح ابن عامر غاديا إلى معاوية، فلما دخل عليه، قال: مرحبا بأبي عبد الرحمن. ههنا. وأجلسه إلى جنبه فقال له: يا أبا عبد الرحمن: لنا سياق ولكم سياق ... وقد علمت ذلك الرفاق الحسن بن أبي الحسن قال: ثقل أبو بكرة، فأرسل زياد إليه أنس بن مالك ليصالحه ويكلمه، فانطلقت معه، فإذا هو مولّ وجهه إلى الجدار، فلما قعد قال له: كيف تجدك أبا كبرة؟ فقال صالحا: كيف أنت أبا حمزة؟ فقال له أنس: اتق الله أبا بكرة في زياد أخيك؛ فإن الحياة يكون فيها ما يكون؛ فأما عند فراق الدنيا فليستغفر الله أحدكما لصاحبه، فو الله ما علمت إنه لوصول للرّحم؛ هذا عبد الرحمن ابنك على الأبلّة، وهذا داود على مدينة الرّزق، وهذا عبد الله على فارس كلها؛ والله ما أعلمه إلا مجتهدا. قال: أقعدوني. فأقعدوه، فقال: أخبرني ما قلت في آخر كلامك. فأعاد عليه القول، فقال: يا انس، وأهل حروراء قد اجتهدوا، فأصابوا أو

أخطئوا؛ والله لا أكلمه أبدا ولا يصلّي عليّ! فلما رجع أنس إلى زياد أخبره بما قال، وقال له: إنه قبيح أن يموت مثل أبي بكرة بالبصرة، فلا تصلي عليه ولا تقوم على قبره؛ فاركب دوابك والحق بالكوفة. قال: ففعل. ومات أبو بكرة بالغد عند صلاة الظهر، فصلى عليه أنس بن مالك. وقدم شريح مع زياد من الكوفة لقضاء البصرة، فكان زياد يجلسه إلى جنبه ويقول له: إن حكمت بشيء ترى غيره أقرب إلى الحق منه فأعلمنيه. فكان زياد يحكم فلا يرد شريح عليه، فيقول زياد لشريح: ما ترى؟ فيقول: هذا الحكم، حتى أتاه رجل من الأنصار فقال: إني قدمت البصرة والخطط «1» موجودة، فأردت أن أختط لي، فقال لي بنو عمي وقد اختطوا ونزلوا: أين تخرج عنا؟ أقم معنا واختط عندنا فوّسعوا لي، فاتخذت فيهم دارا وتزوّجت، ثم نزغ «2» الشيطان بيننا، فقالوا لي: اخرج عنا! فقال زياد: ليس ذلك لكم، منعتموه أن يختط والخطط موجودة وفي أيديكم فضل فأعطيتموه، حتى إذا ضاقت الخطط أخرجتموه وأردتم الإضرار به؟ لا يخرج من منزله! فقال شريح: يا مستعير القدر ارددها. فقال زياد: يا مستعير القدر احبسها ولا ترددها! فقال محمد بن سيرين: القضاء بما قال شريح، وقول زياد حسن. وقال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية إلا في واحدة: طلبت رجلا فلجأ إليه وتحرّم «3» به، فكتب إليه: إن هذا فساد لعملي: إذا طلبت أحدا لجا إليك فتحرم بك، فكتب إليّ: إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس بسياسة واحدة، فيكون مقامنا مقام رجل واحد؛ ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة، فيستريح الناس فيما بيننا. ولما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه زيادا من كتابة أبي موسى، قال له: أعن

عجز أم عن خيانة؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل «1» عقلك. وكتب الحسن بن عليّ رضي الله عنه إلى زياد في رجل من أهل شيعته قد عرض له زياد وحال بينه وبين جميع ما يملكه، وكان عنوان كتابه: «من الحسن بن عليّ إلى زياد» ؛ فغضب زياد إذ قدّم نفسه عليه ولم ينسبه إلى أبي سفيان، وكتب إليه: من زياد بن أبي سفيان إلى حسن: أما بعد، فإنك كتبت إليّ في فاسق لا يؤويه إلا الفسّاق، وايم الله لأطلبنه ولو بين جلدك ولحمك، فإنّ أحبّ لحم إليّ أن آكله لحم أنت منه. فكتب الحسن إلى معاوية يشتكي زيادا، وأدرج كتاب زياد في داخل كتابه. فلما قرأه معاوية أكثر التعجب من زياد، وكتب إليه. أما بعد، فإن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، والآخر من سمية؛ فأما الذي من أبي سفيان فحزم وعزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأي مثلها؛ وإن الحسن ابن عليّ كتب إليّ يذكر أنك عرضت لرجل من أصحابه، وقد حجزناه عنك ونظراءه، فليس لك على واحد منهم سبيل ولا عليه حكم؛ وعجبت منك حين كتبت إلى الحسن لا تنسبه إلى أبيه، أفإلى أمه وكلته لا أمّ لك؟ فهو ابن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فالآن حين اخترت له. وكتب زياد إلى معاوية: إن عبد الله بن عباس يفسد الناس عليّ، فإن أذنت لي أن أتوعّده فعلت. فكتب إليه: إن أبا الفضل وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مسلاخ «2» واحد، وذلك حلف لا يحلّه سوء رأيك! واستأذن زياد معاوية في الحج، فأذن له، وبلغ ذلك أبا بكرة، فأقبل حتى دخل على زياد وقد أجلس له بنيه، فسلم عليهم ولم يسلم على زياد، ثم قال: يا بني أخي، إن

أباكم ركب أمرا عظيما في الإسلام بادّعائه إلى أبي سفيان؛ فو الله ما علمت سميّة بغت قط؛ وقد استأذن أمير المؤمنين في الحج، وهو مارّ بالمدينة لا محالة، وبها أمّ حبيبة ابنة أبي سفيان زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا بد له من الاستئذان عليها، فإن أذنت له فقعد منها مقعد الأخ من أخته، فقد انتهك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرمة عظيمة، وإن لم تأذن له فهو عار الأبد. ثم خرج، فقال له زياد: جزاك الله خيرا من أخ فما تدع النصيحة على حال. وكتب إلى معاوية يستقيله، فأقاله. وكتب زياد إلى معاوية: إني قد أخذت العراق بيميني، وبقيت شمالي فارغة. وهو يعرّض له بالحجاز. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: اللهم اكفنا شماله! فعرضت له قرحة في شماله فقتلته. ولما بلغ عبد الله بن عمر موت زياد قال: اذهب إليك ابن سمية، لا يدا رفعت عن حرام ولا دنيا تملّيت «1» . قال زياد لعجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على الآداب. قال: فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف، وكسوة الصيف في الشتاء. وقال زياد لحاجبه: وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح، لا تعوجنّه «2» فلا سلطان لك عليه؛ وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة؛ ورسول الله صاحب الثغر «3» ، فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة؛ وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد. وقال عجلان حاجب زياد: صار لي في يوم واحد مائة ألف دينار وألف سيف قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أعطى زياد ألف رجل مائتي ألف دينار وسيفا سيفا، فأعطاني كل رجل منهم نصف عطائه وسيفه.

أخبار الحجاج

أخبار الحجاج دخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة، فوجدها تتخلل «1» حين انفتلت «2» من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام البارحة، فإنك قذرة، وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة؛ كنت فبنت «3» ! قالت: والله ما فرحنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنّا؛ وما هو بشيء مما ظننت، ولكني استكت فأردت أن أتخلل للسواك! فندم المغيرة على ما بدر منه، فخرج أسفا، فلقي يوسف بن أبي عقيل، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلت الساعة عن سيدة نساء ثقيف، فتزوّجها، فإنها تنجب لك. فتزوّجها فولدت له الحجاج. ومما رواه عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: إن الحجاج بن يوسف كان يعلّم الصبيان بالطائف، واسمه كليب؛ وأبوه يوسف معلم أيضا. وفي ذلك يقول مالك بن الرّيب: فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد زمان هو العبد المقرّ بذلّه ... يراوح صبيان القرى ويغادي «4» ثم لحق الحجاج بن يوسف بروح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، إلى أن شكا عبد الملك بن مروان ما رأى من انحلال العسكر، وأن الناس لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله. فقال روح بن زنباع: يا أمير المؤمنين، إن في شرطتي رجلا لو قلّده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحلهم برحيله وأنزلهم بنزوله. يقال له الحجاج بن يوسف! قال: فإنا قد قلّدناه ذلك. فكان لا يقدر أحد [أن] يتخلف عن الرحيل والنزول، إلا أعوان روح بن زنباع؛ فوقف عليهم يوما

وقد رحل الناس وهم على طعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقال له: انزل يا ابن اللخناء «1» فكل معنا. فقال: هيهات. ذهب ما هنالك. ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوّفهم في العسكر، وأمر بفساطيط «2» روح بن زنباع فأحرقت بالنار؛ فدخل بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكيا، فقال له: مالك؟ فقال يا أمير المؤمنين، الحجاج بن يوسف الذي كان في عديد شرطتي، ضرب عبيدي وأحرق فساطيطي! قال: عليّ به. فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: ما أنا فعلته يا أمير المؤمنين! قال: ومن فعله؟ قال أنت والله فعلته؛ إنما يدي يدك، وسوطي سوطك؛ وما على أمير المؤمنين أن يخلف على روح بن زنباع للفسطاط فسطاطين وللغلام غلامين، ولا يكسرني فيما قدّمني له؟ فأخلف لروح بن زنباع ما ذهب له وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته. قال أبو الحسن المدائني: كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبّار. فقال: كان الحجاج ابن يوسف يضع كل يوم ألف خوان «3» في رمضان وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على كل خوان عشرة أنفس، وعشرة ألوان، وسمكة مشوية طرية، وأرزة بسكر، وكان يحمل في محفّة «4» ويدار به على موائده يتفقدها، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر وسعى الخباز ليجيء بسكرها فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سكر، أمر به فضرب مائتي سوط؛ فكانوا بعد ذلك لا يمشون إلا متأبّطي خرائط السكر. قال: وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يضع خمسمائة خوان، فكان طعام الحجاج لأهل الشام خاصة، وطعام يوسف بن عمر لمن حضره؛ فكان عند الناس أحمد. العتبي قال: دخل على الحجاج سليك بن سلكة، فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك «5» ؛ فإن سمعت خطأ أو زللا

فدونك والعقوبة. فقال: قل. فقال: عصى عاص من عرض العشيرة، فحلّق عليّ اسمي «1» ، وهدمت داري؛ وحرمت عطائي. قال: هيهات، أما سمعت قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب «2» ولربّ مأخوذ بذنب عشيره ... ونجا المقارف صاحب الذّنب «3» قال: أصلح الله الأمير، إني سمعت الله قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ «4» فقال الحجاج: عليّ بيزيد بن أبي مسلم. فأتى به، فمثل بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديا ينادي في الناس: صدق الله وكذب الشاعر: أتي الحجاج بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دير الجماجم، فقال لحرسيّ قل لها: يا عدوّة الله، أين مال الله الذي جعلتيه تحت ذيلك؟ فقال: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلتيه تحت استك؟ فقال له: كذبت، ما هكذا قلت، أرسلها: فخلّى عنها. الأصمعي قال: ماتت رققة يا لشّجي- والشّجي ربو من الأرض في بطن فلج «5» فشجى به الوادي فسمى شج- فقال الحجاج: إني أراهم قد تضرعوا إذ نزل بهم الموت، فاحفروا في مكانهم. فحفروا، فأمر الحجاج رجلا يقال له عضيدة يخفر البئر، فلما أنبطها «6» حمل منها قربتين إلى الحجاج بواسط، فلما قدم بهما عليه قال: يا

عضيدة لقد تجاوزت مياها عذبا، أخسفت «1» أم أوشلت؟ قال: لا واحد منها، ولكن نبطا بين الماءين. قال: وكيف يكون قدره؟ قال: مرت بنا رفقة فيها خمسة وعشرون جملا، فرويت الإبل وأهلها. قال: أو للإبل حفرتها؟ إنما حفرتها للناس. إن الإبل ضمر خسف «2» ، ما جشّمت تجشّمت. بعث عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف واليا على العراق، وأمره أن يحشر الناس إلى المهلب في حرب الأزارقة، فلما أتى الكوفة صعد المنبر متلثما متنكبا قوسه، فجلس واضعا إبهامه على فيه، فنظر محمد بن عمير بن عطارد التميمي، فقال: لعن الله هذا ولعن من أرسله إلينا؛ أرسل غلاما لا يستطيع أن ينطق عيّا، وأخذ حصاة بيده ليحصبه «3» بها، فقال له جليسه: لا تعجل حتى ننظر ما يصنع. فقام الحجاج فكشف لثامه عن وجهه وقال: أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «4» صليب العود من سلفي نزار ... كنصل السيف وضّاح الجبين أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّذني مداورة الشّئون «5» أما والله إني لا أحمل الشر بثقله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله؛ أما والله إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وكأني أرى الدماء بين العمائم واللحى تترقوق: هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «6» ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم»

ألا وإنّ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كبّ «1» كنانته فعجم عيدانها، فوجدني أصلبها عودا، فوجّعني إليكم؛ فإنكم طالما سعيتم في الضلالة، وسننتم سنن البغي؛ أما والله لألحونّكم «2» لحو العصا، ولأعصبنكم عصب السّلمة «3» ، ولأقرعنّكم قرع المروة «4» ، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل؛ والله ما أخلق إلا فريت «5» ، ولا أعد إلا وفيت، ولا أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشّنان «6» . إياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال وما تقول، وفيم أنتم ونحو هذا؛ ومن وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب ضربت عنقه. ثم قال: يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم. فلم يقل أحد شيئا، فقال الحجاج: اسكت يا غلام، هذا أدب ابن نهية؛ والله لأؤدّبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمنّ؛ اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين. فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام. ثم نزل فأتاه عمير بن ضابيء فقال: أيها الأمير، إني شيخ كبير عليل، وهذا ابني أقوى على الغزو مني. قال: أجيزوا ابنه عنه؛ فإنّ الحدث «7» أحبّ إلينا من الشيخ. فلما ولي الرجل قال له عنبسة بن سعيد: أيها الأمير، هذا الذي ركض «8» عثمان برجله وهو مقتول. فقال: ردّوا الشيخ. فردّوه، فقال: اضربوا عنقه! فقال فيه الشاعر:

تجهّز فإمّا أن تزور ابن ضابيء ... عميرا، وإمّا أن تزور المهلّبا هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا «1» ثم قال: دلوني على رجل أوليه الشرطة. فقيل له: أيّ الرجال تريد؟ قال: أريد دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف «2» الخيانة، لا يحنق في الحق على حرّ أو حرّة، يهون عليه سبال «3» الأشراف في الشفاعة. فقيل: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي فأرسل إليه يستعمله، فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وولدك وحاشيتك. فقال الحجاج: يا غلام، ناد: من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت الذمّة منه. قال الشعبي: فو الله ما رأيت قط صاحب شرطة مثله، كان لا يحبس إلا في دين، وكان إذا أتي برجل نقب على قوم، وضع منقبته «4» في بطنه حتى تخرج من ظهره، وكان إذا أتي برجل نباش حفر له قبرا ودفنه فيه حيا، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحا قطع يده؛ فربما أقام أربعين يوما لا يؤتي إليه بأحد، فضم الحجاج إليه شرطة البصرة مع شرطة الكوفة. ولما قدم عبد الملك بن مروان المدينة نزل دار مروان، فمرّ الحجاج بخالد بن يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجاج سيف محلى وهو يخطر متبخترا في المسجد، فقال رجل من قريش لخالد: من هذا التختارة «5» ؟ فقال: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص! فسمعه الحجاج: فمال إليه فقال: قلت: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرّني أنّ العاص ولدني ولا ولدته ولكن إن شئت أخبرتك من أنا: أنا ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل «6» من قريش، والذي ضرب مائة بسيفه هذا كلهم يشهدون على

أبيك بالكفر وشرب الخمر حتى أقرّوا أنه خليفة. ثم ولّى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص. الأصمعي قال: بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إنّ الحسن بن عليّ، ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ والله لتأتينّي بالمخرج أو لأضربن عنقك! فقال له: فإن أتيت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال له: اقرأ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى «1» فمن أقرب، عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابن ابنته، أو الحسن إلى محمد؟ قال الحجاج: فو الله لكأني ما قرأت هذه الآية قط! وولاه قضاء بلده، فلم يزل بها قاضيا حتى مات. قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبد الملك بن مروان سنان «2» قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها قبل أن يستخلف ورعا وزهدا؛ فجلس يوما في خاصّته فقبض على لحيته فشمّها مليّا، ثم اجترّ «3» نفسه، ونفخ نفخة أطالها، ثم نظر في وجوه القوم فقال: ما أقول يوم ذي المسألة عن ابن أمّ الحجاج، وأدحض المحتج على العليم بما طوته الحجب؟ أما إنّ تمليكي له قرن بي لوعة يحشها «4» التذكار! كيف وقد علمت فتعاميت، وسمعت فتصاممت، وحمله الكرام الكاتبون! والله لكأني إلف ذي الضّغن على نفسي، وقد نعت الأيام بتصرّفها أنفسا حقّ لها الوعيد بتصرّم الدّول، وما أبقت الشبهة للباقي متعلّقا، وما هو إلا الغل «5» الكامن من النفس بحوبائها «6» ، والغيظ المندمل؛ اللهم أنت لي أوسع، غير منتصر ولا معتذر. يا كاتب، هات الدواة والقرطاس. فقعد كاتبه بين يديه وأملى عليه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله، عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أمّا بعد، فقد أصبحت بأمرك برما «1» ، يقعدني الإشفاق، ويقيمني الرجاء، وإذا عجزت في دار السعة وتوسّط الملك وحين المهل واجتماع الفكر أن ألتمس العذر في أمرك؛ فأنا لعمر الله في دار الجزاء وعدم السلطان واشتغال الحامّة «2» والركون إلى الذلة من نفسي والتوقع لما طويت عليه الصحف أعجز؛ وقد كنت أشركتك فيما طوّقني الله عز وجل حمله ولاث «3» بحقوى من أمانته في هذا الخلق المرعيّ، فدللت منك على الحزم والجدّ في إماتة بدعة وإنعاش سنة، فقعدت عن تلك ونهضت بما عاندها، حتى صرت حجة الغائب، وعذر اللاعن والشاهد القائم. فلعن الله أبا عقيل وما نجل «4» ، فألأم والد وأخبث نسل، فلعمري ما ظلمكم الزمان، ولا قعدت بكم المراتب، فقد ألبستكم ملبسكم، وأقعدتكم على روابي خططكم، وأحلّتكم أعلى منعتكم، فمن حافر وناقل وماتح «5» للقلب المقعدة في القيافي المتهفيهقة «6» ، ما تقدّم فيكم الإسلام ولقد تأخرتم، وما الطائف منا ببعيد يجهل أهله؛ ثم قمت بنفسك، وطمحت بهمّتك، وسرّك انتضاء سيفك، فاستخرجك أمير المؤمنين من أعوان روح بن زنباع وشرطته، وأنت على معاونته يومئذ محسود، فهفا «7» أمير المؤمنين والله يصلح بالتوبة والغفران زلّته، وكأني بك وكأن ما لو لم يكن لكان خيرا مما كان؛ كلّ ذلك من تجاسرك وتحاملك على المخالفة لرأي أمير المؤمنين، فصدعت صفاتنا، وهتكت حجبنا، وبسطت يديك تحفن «8» بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة والأرحام الواشجة، في أوعية ثقيف؛ فاستغفر الله لذنب ماله عذر، فلئن استقال أمير المؤمنين فيك الرأي، فلقد جالت البصيرة في ثقيف بصالح النبيّ صلّى الله عليه وسلم، إذ ائتمنه على الصدقات وكان عبده، فهرب بها عنه، وما هو إلا اختيار

للثقة، والمطّلب لمواضع الكفاية: فقعد فيه الرجاء كما قعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له، فكأنّ هذا ألبس أمير المؤمنين ثوب العزاء، ونهض بعذره إلى استنشاق نسيم الرّوح؛ فاعتزل عمل أمير المؤمنين واظعن عنه باللعنة اللازمة، والعقوبة الناهكة إن شاء الله، إذ استحكم لأمير المؤمنين ما يحاول من رأيه، والسلام. ودعا عبد الملك مولى له يقال له نباتة، له لسان وفضل رأي، فناوله الكتاب، ثم قال له: يا نباتة، العجل ثم العجل، حتى تأتي العراق، فضع هذا الكتاب في يد الحجاج، وترقب ما يكون منه، فإذا أجبل «1» عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهدّن «2» الناس حتى يأتيهم أمري، بما تصفني به في حين انقلاعك، من حبّي لهم السلامة؛ وإن هش للجواب ولم تكتنفه أربة «3» الحيرة، فخذ منه ما يجيب به وأقرره على عمله، ثم اعجل علي بجوابه. قال نباتة: فخرجت قاصدا إلى العراق، فضمتني الصحارى والفيافي، واحتواني القرّ، وأخذ مني السفر، حتى وصلت؛ فلما وردته أدخلت عليه في يوم ما يحضره فيه الملأ، وعلى شحوب مضنى، وقد توسط خدمه من نواحيه وتدثر بمطرف خز ادكن» ، ولاث به الناس من بين قائم وقاعد؛ فلما نظر إليّ- وكان لي عارفا- قعد، ثم تبسّم تبسّم الوجل، ثم قال: أهلا بك يا نباتة، أهلا بمولى أمير المؤمنين لقد أثّر فيك سفرك، وأعرف أمير المؤمنين بك ضنينا، فليت شعري ما دهمك أو دهمني عنده؟ قال: فسلّمت وقعدت، فسأل: ما حال أمير المؤمنين وخوله؟ ... فلما هدأ أخرجت له الكتاب فناولته إياه، فأخذه مني مسرعا ويده ترعد، ثم نظر في وجوه الناس فما شعرت إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كل من يطيف به من خدمه يلقاه جانبا، لا يسمعون منا الصوت؛ ففك الكتاب فقرأه، وجعل يتثاءب ويردد تثاؤبه، ويسيل العرق على جبينه وصدغيه- على شدة البرد- من تحت قلنسوته من

شدة الفرق «1» ، وعلى رأسه عمامة خزّ خضراء، وجعل يشخص إليّ ببصره ساعة كالمتوهم، ثم يعود إلى قراءة الكتاب ويلاحظني النظر كالمتفهّم، إلا أنه واجم «2» ؛ ثم يعاود الكتاب، وإني لأقول: ما أراه يثبت حروفه؛ من شدة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته؛ ثم مالت يده حتى وقع الكتاب على الفراش، ورجع إليه ذهنه، فمسح العرق عن جبينه ثم قال متمثلا: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع «3» ثم قال: قبح والله منا الحسن يا نباتة، وتواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن، وما هذا إلا سانح فكرة نمقها مرصد يكلب بقصتنا، مع حسن رأي أمير المؤمنين فينا. يا غلام! فتبادر الغلمان الصيحة، فملىء علينا منهم المجلس، حتى دفأتني «4» منهم الأنفاس، فقال: الدواة والقرطاس. فأتي بداوة وقرطاس، فكتب بيده، وما رفع القلم مستمدا حتى سطر مثل خد الفرس، فلما فرغ قال لي يا نباتة، هل علمت ما جئت به فنسمعك ما كتبنا؟ قلت: لا. قال: إذا حسبك منا مثله. ثم ناولني الجواب، وأمر لي بجائزة فأجزل، وجرّد لي كساء ودعا لي بطعام فأكلت ثم قال: نكلك «5» إلى ما أمرت به من عجلة أو توان، وإني لأحب مقارنتك والأنس برؤيتك. فقلت: كان معي قفل مفتاحه عندك، ومفتاح قفلك عندي، فأحدثت لك العافية بأمرين: فاقفلت المكروه وفتحت العافية، وما ساءني ذلك وما أحب أن أزيدك بيانا، وحسبك من استعجال القيام. ثم نهضت وقام مودعا لي، فالتزمني وقال: بأبي أنت وأمي، رب لفظة مسموعة ومحتقر نافع؛ فكن كما أظن. فخرجت مستقبلا وجهي حتى وردت أمير المؤمنين، فوجدته منصرفا من صلاة

العصر، فلما رآني قال: ما احتواك المضجع يا نباتة! فقلت: من خاف من وجه الصباح أدلج «1» . فسلمت وانتبذت عنه فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال: مهيم «2» . فدفعت إليه الكتاب فقرأه متبسما، فلما مضى فيه ضحك حتى بدت له سنّ سوداء ثم استقصاه فانصرف إليّ فقال: كيف رأيت إشفاقه؟ قال: فقصصت عليه ما رأيت منه فقال: صلوات الله على الصادق الأمين: إن من البيان لسحرا. ثم قذف الكتاب إليّ فقال: اقرأ. فقرأته فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، المؤيّد بالولاية، المعصوم من خطل القول وزلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذوي أمره؛ من عبد اكتنفته الزّلة «3» ، ومدّ به الصّغار «4» إلى وخيم المرتع، ووبيل المكرع «5» ، من جليل فادح ومعتد قادح؛ والسلام عليك ورحمة الله التي اتسعت فوسعت، وكان بها إلى أهل التقوى عائدا؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجيا لعطفك بعطفه. أما بعد، كان الله لك بالدّعة في دار الزوال، والأمن في دار الزلزال، فإنه من عنيت به فكرتك يا أمير المؤمنين مخصوصا، فما هو إلا سعيد يؤثر، أو شقي يوتر «6» ؛ وقد حجبني عن نواظر السعد لسان مرصد ونافس حقد، انتهز به الشيطان حين الفكرة، فافتتح به أبواب الوسواس بما تحنق به الصدور؛ فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رجيم إنما سلطانه على الذين يتولونه، واعتصاما بالتوكل على من خصه بما أجزل له من قسم الإيمان وصادق السنة، فقد أراد اللعين أن يفتق لأوليائه فتقا نبا عنه كيده، وكثر عليه تحسره، بلية قرع بها فكر أمير المؤمنين ملبسا

وكادحا ومؤرّشا «1» ، ليفلّ من عزمه الذي نصبني، ويصيب تأرا لم يزل به موتورا، وذكر قديم ما منى به الأوائل حتى لحقت بمثله منهم وما كنت أبلوه من خسة أقدار، ومزاولة أعمال، إلى أن وصلت ذلك بالتشرّط لروح بن زنباع. وقد علم أمير المؤمنين بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي، بأن الذي غيّر به القوم من مصانعهم من أشد ما كان يزاوله أهل القدمة «2» الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتعضوا من ذكر ما كان، وارتفعوا بما يكون، وما جهل أمير المؤمنين- للبيان موقعه، غير محتج ولا متعدّ- أن متابعة روح بن زنباع طريق الوسيلة لمن أراد من فوقه، وأن روحا لم يلبسني العزم الذي به رفعني أمير المؤمنين عن خوله؛ وقد ألصقتني بروح بن زنباع همة لم تزل نواظرها ترمي بي البعيد، وتطالع الأعلام. وقد أخذت من أمير المؤمنين نصيبا اقتسمه الإشفاق من سخطته والمواظبة على موافقته، فما بقي لنا بعد إلا صبابة إرث، به تجول النفس وتطرف النواظر، ولقد سرت بعين أمير المؤمنين سير المثبّط لمن يتلوه، المتطاول لمن تقدمه، غير مبتّ «3» موجف، ولا متثاقل مجحف؛ ففتّ الطالب، ولحقت الهارب، حتى سادت السنّة، وبادت البدعة، وخشىء الشيطان، وحملت الأديان إلى الجادة العظمى والطريقة المثلى؛ فها أنا ذا يا أمير المؤمنين، نصب المسألة لمن رامني، وقد عقدت الحبوة «4» ، وقرنت الوظيفتين لقائل محتج، أو لائم ملتجّ؛ وأمير المؤمنين ولي المظلوم، ومعقل الخائف؛ وستظهر له المحنة نبأ أمري؛ ولكل نبإ مستقر؛ وما حفنت «5» يا أمير المؤمنين في أوعية ثقيف حتى روي الظمآن، وبطن الغرثان «6» ، وغصّت الأوعية، وانقدّت «7» الأوكية «8» في

آل مروان، فأخذت ثقيف فضلا صار لها، لولاهم للقطته السابلة «1» ؛ ولقد كان ما أنكره أمير المؤمنين من تحاملي، وكان ما لو لم يكن لعظم الخطب فوق ما كان؛ وإن أمير المؤمنين لرابع أربعة: أحدهم ابنة شعيب النبي صلّى الله عليه وسلم؛ إذ رمت بالظن غرض اليقين تفرّسا في النجيّ المصطفى بالرسالة، فحقّ لها فيه الرجاء، وزالت شبهة الشك بالاختبار؛ وقبلها العزيز في يوسف؛ ثم الصدّيق في الفاروق، رحمة الله عليهما؛ وأمير المؤمنين في الحجاج. وما حسد الشيطان يا أمير المؤمنين خاملا، ولا شرق «2» بغير شجى؛ فكم غبطة يا أمير المؤمنين للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلت حيلته، ووهن كيده يوم كيت وكيت؛ ولا أظن أذكر لها من أمير المؤمنين. ولقد سمعت لأمير المؤمنين في صالح- صلوات الله عليه- وفي ثقيف مقالا، هجم بي الرجاء لعذله عليه بالحجة في ردّه، بمحكم التنزيل في لسان ابن عمه خاتم النبيين وسيد المرسلين؛ صلّى الله عليه وسلم. فقد أخبر عن الله عز وجل؛ وحكاية غرّ الملأ من قريش عند الاختيار والافتخار، وقد نفخ الشيطان في مناخرهم، فلم يدعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى، فقالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «3» . فوقع اختيارهم- عند المباهاة بنفخة الكفر، وكبر الجاهلية، على الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي مسعود الثقفي؛ فصارا في الافتخار بهما صنوين، ما أنكر اجتماعهما من الأمة منكر في خبر القرآن ومبلّغ الوحي، وإن كان ليقال للوليد في الأمة يومئذ: ريحانة قريش؛ وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرحمة الشاملة في القسم السابق، فقال عز وجل: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «4» . وما قدمتني يا أمير المؤمنين ثقيف في الاحتجاج لها، وإن لها مقالا رحبا، ومعاندة قديمة؛ إلا أن هذا من أيسر ما يحتج به العبد المشفق على سيده المغضب، والأمر إلى أمير المؤمنين، عزل أم أقرّ، وكلاهما عدل متبع، وصواب معتقد. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.

الحجاج وابن المنتشر في ذمي:

قال نباتة: فأتيت على الكتاب بمحضر أمير المؤمنين عبد الملك، فلما استوعبته سارقته النظر على الهيبة منه، فصادف لحظي لحظه، فقال: اقطعه ولا تعلمنّ بما كان أحدا. فلما مات عبد الملك فشا عني الخبر بعد موته. الحجاج وابن المنتشر في ذمي: محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني قال: دفع إلي الحجاج رجلا ذمّيا «1» ، وأمرني بالتشديد عليه والاستخراج منه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد، إن لك لشرفا ودينا. إني لا أعطى على القسر شيئا، فاستأذني وارفق بي. قال: ففعلت فأدّى إليّ في أسبوع خمسمائة ألف، فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه، فانتزعه من يدي ودفعه إلى الذي كان يتولى له العذاب، فدق يديه ورجليه ولم يعطه شيئا. قال محمد ابن المنتشر: فإني لسائر يوما في السوق، إذ صائح بي: يا محمد، فالتفتّ، فإذا أنا به معترضا على حمار مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته وتذمّمت «2» منه، فملت إليه، فقال لي: إنك وليت مني ما ولي هؤلاء، فرفقت بي وأحسنت إليّ، وإنهم صنعوا بي ما ترى، ولي خمسمائة ألف عند فلان، فخذها مكافأة لما أحسنت إليّ. فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجرا، ولا لأرزأك «3» على هذه الحالة شيئا! قال: فأما إذ أبيت فاسمع مني حديثا أحدّثك به، حدّثنيه بعض أهل دينك عن نبيك صلّى الله عليه وسلم: إذا رضي الله عن قوم أنزل عليهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم؛ وإذا سخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وقته، وجعل المال في بخلائهم، واستعمل عليهم شرارهم. فانصرفت، فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج، فسرت إليه، فألفيته جالسا على فراشه والسيف مصلت بيده، فقال لي: ادن. فدنوت شيئا، ثم قال لي: ادن فدنوت شيئا، ثم قال لي الثالثة: ادن، لا أبالك! فقلت: ما بي إلى الدنوّ من حاجة،

شيء عن الحجاج:

وفي يد الأمير ما أرى! فضحك وأغمد سيفه. وقال: اجلس، ما كان من حديث الخبيث؟ فقلت له: أيها الأمير، والله ما غششتك منذ استصحبتني ولا كذبتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني؛ ثم حدثته؛ فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عني بوجهه، وأومأ «1» إلي بيده، وقال: لا تسمّه. ثم قال: إن للخبيث نفسا، وقد سمع الأحاديث. شيء عن الحجاج: ويقال: إن الحجاج كان إذا استغرب ضحكا والى بين استغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفع بمطرفه «2» ، ثم تكلم رويدا فلا يكاد يسمع، حتى يتزايد في الكلام فيخرج يده من مطرفه، ثم يزجر الزجرة فيقرع بها أقصى من في المسجد. خالد القسري في شأن الحجاج: صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر في يوم الجمعة وهو إذ ذاك على مكة؛ فذكر الحجاج، فحمد طاعته وأثنى عليه خيرا؛ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشتم الحجاج ونشر عيوبه وإظهار البراءة منه: فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلا، وكان الله قد علم من غشّه وخبثه ما خفي على ملائكته، فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه؛ وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي عنا؛ فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين، فلعنه، فالعنوه لعنه الله! ثم نزل.

الحجاج وامرأة ابن الأشعث:

الحجاج وامرأة ابن الأشعث: ولما أتي الحجاج بامرأة ابن الأشعث قال للحرسي: قل لها: يا عدوّة الله، أين مال الله الذي جعلته تحت ذيلك؟ فقال لها الحرسي: يا عدوّة الله أين مال الله الذي جعلته تحت استك؟ قال الحجاج: كذبت؛ ما هكذا قلت؛ أرسلها. فخلّي سبيلها. الحجاج وأبو وائل: أبو عوانة عن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل الحجاج إليّ. فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل الأمير إليّ حتى عرف اسمي! قال لي: متى هبطت هذه الأرض؟ قلت: حين ساكنت أهلها. قال: كم تقرأ من القرآن؟ قلت: أقرأ منه ما إن اتبعته كفاني. قال: إني أريد أن أستعين بك على بعض عملي؟ قلت: إن تستعين بي تستعن بكبير أخرق «1» ضعيف، يخاف أعوان السوء. وإن تدعني فهو أحب إليّ، وإن تقحمني أتقحّم. قال: إن لم أجد غيرك أقحمتك وإن وجدت غيرك لم أقحمك. قلت وأخرى أكرم الله الأمير: إني ما علمت الناس هابوا أميرا قط هيبتهم لك؛ والله إني لأتعارّ «2» من الليل فأذكرك فما يأتيني النوم حتى أصبح؛ هذا، ولست لك على عمل! فأعجبه ذلك وقال: هيه! كيف قلت؟ فأعدت عليه الحديث. فقال: إني والله ما أعلم اليوم رجلا على وجه الأرض هو أجرأ على دم مني! قال: فقمت فعدلت عن الطريق عمدا كأني لا أبصر، فقال: اهدوا الشيخ، أرشدوا الشيخ. الحجاج وابن أبي ليلى: أبو بكر بن أبي شيبة قال: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال لجلسائه: إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان فانظروا إلى هذا. فقال عبد الرحمن: معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسبّ عثمان؛ إنه ليحجزني «3» عن

ابن أبي ليلى في لعن على وابن الزبير والمختار:

ذلك [ثلاث] آيات في كتاب الله تعالى [قال الله تعالى] : لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » . فكان عثمان منهم، ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «2» . فكان أبي منهم ثم قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ «3» . فكنت أنا منهم. قال: صدقت. ابن أبي ليلى في لعن على وابن الزبير والمختار: أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجاج وأوقفه على باب المسجد، فجعلوا يقولون له: العن الكاذبين: عليّ ابن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد. فقال: لعن الله الكاذبين ثم قال: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد- بالرفع- فعرفت حين سكت ثم ابتدأ فرفع، أنه ليس يريدهم. الحجاج والشعبي: قال الشعبي: أتي بي الحجاج موثقا، فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه، فقال: إنا لله يا شعبيّ لما بين دفتيك من العلم، وليس اليوم بيوم شفاعة! قلت له: فما المخرج؟ قال: بؤ «4» للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، وبالحرى أن تنجو. ثم لقبني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد: فلما دخلت على الحجاج قال لي: وأنت يا شعبي فيمن خرج عليا وكفر؟ قلت: أصلح الله الأمير، نبا «5» بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب «6» ، واستحلسنا «7» الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق

المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء! قال: صدق والله، ما برّوا بخروجهم علينا، ولا قووا؛ أطلقوا عنه. فاحتاج إليّ في فريضة بعد ذلك، فأرسل إليّ فقال: ما تقول في أم وأخت وجد؟ فقلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود، وعليّ، وعثمان وزيد، وابن عباس. قال: فما قال فيها ابن عباس، إن كان لمنقبا «1» . قلت: جعل الجد أبا ولم يعط الأخت شيئا، وأعطى الأمّ الثلث. قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قلت جعلها من ستة، فأعطى الجدّ ثلاثة، وأعطى الأمّ اثنين، وأعطى الأخت سهما. قال: فما قال زيد؟ قلت: جعلها من تسعة، فأعطى الأمّ ثلاثة، وأعطى الجدّ أربعة، وأعطى الأخت اثنين؛ فجعل الجد معها أخا. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثا. قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الأخت ثلاثة، وأعطى الأم اثنين وأعطى الجد سهما، قال: مر القاضي فليمضها على ما أمضاها أمير المؤمنين. ... فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجب فقال له: إن بالباب رسلا. فقال: إيذن لهم. قال: فدخلوا، وعمائمهم على أوساطهم، وسيوفهم على عواتقهم، وكتبهم بأيمانهم، وجاء رجل من بني سليم يقال له شبابة بن عاصم، فقال له: من أين؟ قال: من الشام، قال: كيف تركت أمير المؤمنين؟ وكيف تركت حشمه؟ فأخبره، قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، أصابتني فيما بيني وبين الأمير ثلاث سحائب. قال: فانعت لي، كيف كان وقع المطر وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوّارين «2» ، فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكانت الصغار لحمة للكبار؛ ووقع نشيطا ومتداركا، وهو السّيح «3» الذي سمعت به، فواد سائل، وواد نازح؛ وأرض مقبلة، وأرض مدبرة. وأصابتني سحابة بسراء «4» فلبّدت الدّماث «5» ، وأسالت العزاز «6» ، وأدحضت التلاع، وصدعت

عن الكمأة أماكنها؛ وأصابتني سحابة بالقريتين. فقاءت الأرض بعد الريّ، وامتلأت الأخاديد «1» ، وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل وجار «2» الضبع. ثم قال: إيذن. فدخل رجل من بني أسد، فقال: هل وراءك من غيث؟ قال: لا، كثر والله الإعصار، وأغبرت البلاد، وأيقنّا أنه عام سنة «3» . قال: بئس المخبر أنت. قال: أخبرتك الذي كان. ثم قال: إيذن. فدخل رجل من أهل اليمامة، قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، سمعت الروّاد يدعون إلى الماء، وسمعت قائل يقول: هلم ظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النيران، وتشتكي فيها النساء، وتنافش فيها المعزى. قال الشعبي: فلم يدر الحجاج ما قال، فقال له: تبّا لك. إنما تحدّث أهل الشام فأفهمهم. قال: أصلح الله الأمير، أخصب الناس، فكثر التمر والسمن والزبد واللبن، فلا توقد نار يختبز بها؛ وأمّا تشكى النساء، فإنّ المرأة تظل تربق «4» بهمها، وتمخض لبنها، فتبيت: ولها أنين من عضدها وأمّا تنافش «5» المعزى، فإنها ترى من أنواع التّمر وأنواع الشجر ونور النبات، ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها، فتبيت وقد امتلأت أكراشها، ولها من الكظة «6» جرّة، فتبقى الجرّة حتى تستنزل الدرّة. ثم قال: إيذن. فدخل رجل من الموالي كان من أشدّ الناس في ذلك الزمان، فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، ولكني لا أحسن أن أقول ما يقول هؤلاء. قال: فما تحسن؟ قال: أصابتني سحابة بحلوان، فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلت عليك. فقال: لئن كنت أقصرهم في المطر خطبة، إنك لأطولهم بالسيف خطوة.

عبد الملك والحجاج وابن عمر:

عبد الملك والحجاج وابن عمر: إبراهيم بن مرزوق عن سعيد بن جويرية قال: لما كان عام الجماعة، كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: انظر ابن عمر فاقتد به وخذ عنه. يعني في المناسك، قال: فلما كان عشية عرفة، سار الحجاج بين يدي عبد الله ابن عمر وسالم ابنه، فقال له سالم: إن أردت أن تصيب السّنة «1» اليوم فأوجز الخطبة وعجّل الصلاة. قال: فقطّب ونظر إلى عبد الله بن عمر، فقال: صدقت. فلما كان عند الزوال مرّ عبد الله بن عمر بسرادقه وقال: الرواح «2» فما لبث أن خرج ورأسه يقطر كأنه قد اغتسل، فلما أفاض «3» الناس رأيت الدم يتحدر من النجيبة «4» التي عليها ابن عمر، فقلت: أبا عبد الرحمن، عقرت النجيبة! قال: أنا عقرت ليس النجيبة. وكان أصابه زج «5» رمح بين أصبعين من قدمه، فلما صرنا بمكة دخل عليه الحجاج عائدا فقال: يا أبا عبد الرحمن، لو علمت من أصابك لفعلت وفعلت، قال له: أنت أصبتني. قال غفر الله لك، لم تقول هذا؟ قال: حملت السلاح في يوم لا يحمل فيه السلاح، وفي بلد لا يحمل فيه السلام. من أخبار الحجاج: أبو الحسن المدائني قال: أخبرني من دخل المسجد والحجاج على المنبر وقد ملأ صوته المسجد بأبيات سويد بن أبي كاهل اليشكري حيث يقول: ربّ من أنضجت غيظا صدره ... قد تمنّى لي موتا لم يطع ساء ما ظنّوا وقد أبليتهم ... عند غايات المدى كيف أقع «6»

الحجاج وقارىء

كيف يرجون سقاطي بعدما ... شمل الرأس مشيب وصلع كتب الوليد إلى الحجاج. أن صف لي سيرتك، فكتب إليه: إني أيقظت رأيي، وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفّر لأمانته، وصرفت السيف إلى النّطف «1» المسيء، والثواب إلى المحسن البريء؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب. الحجاج وقارىء قرأ الحجاج في سورة هود: قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ «2» ؛ فلم يدر كيف يقرأ: عمل بالضم والتنوين، أو عمل بالفتح؛ فبعث حرسيّا فقال: إيتني بقارىء. فأتى به وقد ارتفع الحجاج عن مجلسه، فحبسه ونسيه حتى عرض الحجاج حبسه بعد ستة أشهر؛ فلما انتهى إليه قال له: فيم حبست؟ قال: في ابن نوح، أصلح الله الأمير! فأمر بإطلاقه. عبد الملك والحجاج وأنس: إبراهيم بن مرزوق قال: حدّثني سعيد بن جويرية قال: خرجت خارجة على الحجاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك يخرج معه، فأبى، فكتب إليه يشتمه، فكتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان يشكوه وأدرج كتاب الحجاج في جوف كتابه. قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر: بعث إليّ عبد الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعث إليّ في مثلها، فدخلت عليه وهو أشدّ ما كان حنقا وغيظا، فقال: يا إسماعيل: ما أشدّ عليّ أن تقول الرعية: ضعف أمير المؤمنين، وضاق ذرعه في رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم! لا يقبل له حسنة، ولا يتجاوز له عن سيئة، فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين قال أنس بن مالك: خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كتب إليّ يذكر أنّ

الحجاج قد أضرّ به أو أساء جواره. وقد كتبت في ذلك كتابين، كتابا إلى أنس بن مالك، والآخر إلى الحجاج؛ فاقبضهما ثم اخرج على البريد فإذا وردت العراق فابدأ بأنس بن مالك فادفع له كتابي، وقل له: اشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتي إليك أمر تكرهه إن شاء الله، ثم ائت الحجاج فادفع إليه كتابه، وقل له: قد اغتررت بأمير المؤمنين غرّة «1» لا أظنه يخطئك شرّها. ثم افهم ما يتكلم به وما يكون منه، حتى تفمني إياه إذا قدمت عليّ إن شاء الله. قال إسماعيل: فقبضت الكتابين وخرجت على البريد، حتى قدمت العراق فبدأت بأنس بن مالك في منزله، فدفعت إليه كتاب أمير المؤمنين، وأبلغته رسالته؛ فدعا له وجزاه خيرا؛ فلما فرغ من قراءة الكتاب قلت له: أبا حمزة، إنّ الحجاج عامل، ولو وضع لك في جامعة «2» لقدر أن يضرك وينفعك؛ فأنا أريد أن تصالحه. قال: ذلك إليك، لا أخرج عن رأيك. ثم أتيت الحجاج؛ فلما رآني رحب وقال: والله لقد كنت أحبّ أن أراك في بلدي هذا! قلت: وأنا والله قد كنت أحب أن أراك وأقدم عليك بغير الذي أرسلت به إليك! قال: وما ذاك؟ قلت: فارقت الخليفة وهو أغضب الناس عليك! قال: ولم؟ قال: فدفعت إليه الكتاب، فجعل يقرؤه وجبينه يعرق فيمسحه بيمينه، ثم قال: اركب بنا إلى أنس بن مالك. قلت له: لا تفعل، فإني سأتلطف به حتى يكون هو الذي يأتيك- وذلك للذي أشرت عليه من مصالحته- قال: فألقى كتاب أمير المؤمنين، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أمّا بعد فإنك عبد طمت «3» بك الأمور فطغيت، وعلوت فيها حتى جزت قدرك، وعدوت طورك، وايم الله يا بن المستفرمة «4» بعجم زبيب الطائف، لأغمزنّك «5»

كبعض غمزات الليوث للثعالب، ولأركضنّك ركضة تدخل منها في وجعاء» أمك؛ اذكر مكاسب آبائك بالطائف، إذ كانوا ينقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار في المناهل بأيديهم؛ فقد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم والضراعة؛ وقد بلغ أمير المؤمنين استطالة منك على أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، جرأة منك على أمير المؤمنين، وغرّة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محبته، ونزل عند سخطته، وأظنك أردت أن تروزه «2» بها لتعلم ما عنده من التغيير والتنكير فيها، فإن سوّغتها مضيت قدما، وإن بغّضتها وليت دبرا. فعليك لعنة الله من عبد أخفس «3» العينين؛ أصلك «4» الرجلين؛ ممسوح الجاعرتين «5» ، وايم الله لو أن أمير المؤمنين علم أنك اجترمت منه جرما وانتهكت له عرضا فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك من يسبحك ظهرا لبطن حتى ينتهي بك إلى أنس بن مالك، فيحكم فيك بما أحب، ولن يخفى على أمير المؤمنين نبؤك «6» ، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. قال إسمعيل: فانطلقت إلى أنس فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج؛ فلما دخلنا عليه قال: يغفر الله لك أبا حمزة: عجلت بالأئمة، وأغضبت علينا أمير المؤمنين. ثم أخذ بيده فأجلسه معه على السرير، فقال: أنس: إنك كنت تزعم أنا الأشرار! والله سمّانا الأناصر، وقلت: إنا من أبخل الناس! ونحن الذين قال الله فيهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «7» وزعمت أنّا أهل نفاق! والله تعالى يقول فينا: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا «8» فكان المفزع والمشتكى في ذلك

إلى الله وإلى أمير المؤمنين، فتولى من ذلك ما ولاه الله، وعرف من حقنا ما جهلت، وحفظ منا ما ضيّعت؛ وسيحكم في ذلك ربّ هو أرضى للمرضى، وأسخط للمسخط، وأقدر على المغير، في يوم لا يشوب الحقّ عنده الباطل، ولا النور الظلمة، ولا الهدى الضلالة؛ والله لولا أن اليهود أو النصارى رأت من خدم موسى بن عمران أو عيسى ابن مريم يوما واحدا لرأت له ما لم تروا لي في خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين. قال: فاعتذر إليه الحجاج وترضاه حتى قبل عذره ورضي عنه، وكتب برضاه وقبوله عذره، ولم يزل الحجاج له معظّما هائبا له حتى هلك، رضي الله عنه. وكتب الحجاج إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: أصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه، وسهل حظه وحاطه ولا أعدمناه، فإن إسماعيل بن أبي المهاجر رسول أمير المؤمنين- أعز الله نصره- قدم عليّ بكتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءه، يذكر شتيمتي وتوبيخي بآبائي، وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من عند أمير المؤمنين، أتم الله نعمته عليه، وإحسانه إليه، ويذكر أمير المؤمنين، جعلني الله فداه، استطالة مني على أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، جرأة على أمير المؤمنين، وغرة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محبنه ونزل عند سخطته وأمير المؤمنين- أصلحه الله- في قرابته من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إمام الهدى وخاتم الأنبياء- أحق من أقال عثرتي وعفا عن ذنبي، فأمهلني ولم يعجلني عند هفوتي للذي جبل عليه من كريم طبائعه، وما قلده الله من أمور عباده؛ فرأى أمير المؤمنين- أصلحه الله- في تسكين ورعيّ وإفراح كربتي، فقد ملئت رعبا وفرقا من سطوته، وفجاءة نقمته، وأمير المؤمنين- أقاله «1» الله العثرات،

سليمان والحجاج:

وتجاوز له [عن] السيئات، وضاعف له الحسنات، وأعلى له الدرجات- أحق من صفح وعفا، وتغمد «1» وأبقى، ولم يشمت بي عدوا مكبا «2» ولا حسودا مضبا «3» ، ولم يجرّعني غصصا؛ والذي وصف أمير المؤمنين من صنيعته إلي، وتنويهه لي بما أسند إلي من عمله، وأوطاني من رقاب رعيته، فصادق فيه، مجزى بالشكر عليه، والتوسل مني إليه بالولاية والتقرب له بالكفاية. وقد عاين إسماعيل بن أبي المهاجر رسول أمير المؤمنين وحامل كتابه نزولي عند مسرة أنس بن مالك، وخضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقه إياي، ودخوله علي بالمصيبة، على ما سيعلمه أمير المؤمنين وينهيه إليه؛ فإن أرى أمير المؤمنين- طوّقني الله شكره، وأعانني على تأدية حقه، وبلّغني إلى ما فيه موافقة مرضاته ومدّ لي في أجله- أمر لي بكتاب من رضاه وسلامة صدره، يؤمّنني به من سفك دمي، ويردّ ما شرد من نومي، ويطمئن به قلبي، [فعل] ؛ فقد ورد عليّ أمر جليل خطبه، عظيم أمره شديد عليّ كربه، أسأل الله أن لا يسخط أمير المؤمنين [علي] ، وأن يبتليه في حزمه وعزمه، وسياسته وفراسته، ومواليه وحشمه، وعماله وصنائعه، ما يحمد به حسن رأيه، وبعد همته، إنه ولي أمير المؤمنين والذابّ عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام. فحدث إسماعيل أنه لما قرأ أمير المؤمنين الكتاب، قال: يا كاتب، أفرخ «4» روع أبي محمد. فكتب إليه بالرضا عنه. سليمان والحجاج: كان سليمان بن عبد الملك يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كتبا فلا ينظر له فيها، فكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف، سلام على أهل الطاعة من عباد الله، أما بعد؛ فإنك امرؤ مهتوك عنه حجاب الحق، مولع بما عليك لا لك، منصرف عن منافعك، تارك لحظك، مستخف بحق الله وحق أوليائه، لا ما سلف إليك من خير يعطفك، ولا ما عليك لآلك يصرفك في مبهمة من أمرك مغمور منكوس معصوصر «1» عن الحق اعصيصارا، لا تتنكّب «2» عن قبيح، ولا ترعوي «3» عن إساءة، ولا ترجو لله وقارا؛ حتى دعيت فاحشا سبابا، فقس شبرك بفترك، واحذ زمام نعل بحذو مثله فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنك دوسة تلين منها فرائصك «4» ، ولأجعلنك شريدا في الجبال. تلوذ بأطراف الشمال، ولأعلقن الرومية الحمراء بثدييها، علم الله ذلك مني وقضى لي به عليّ، فقدما غرّتك العافية. وانتحيت «5» أعراض الرجال؛ فإنك قدرت فبذخت، وظفرت فتعدّيت؛ فرويدك حتى تنظر كيف يكون مصيرك إن كانت بي وبك مدة أتعلق بها. وإن تكن الأخرى فأرجو أن تئول إلى مذلة ذليلة، وخزية طويلة، ويجعل مصيرك في الآخرة شرّ مصير! والسلام. فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من أتبع الهدى، أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر أني امرؤ مهتوك عني حجاب الحق، مولع بما عليّ لا لي، منصرف عن منافعي، تارك لحظي، مستخف بحق الله وحق وليّ الحق؛ وتذكر أنك ذو مصاولة «6» ؛ ولعمري إنك لصبيّ حديث السن، تعذر بقلة عقلك، وحداثة سنك ويرقب فيك غيرك.

الحجاج والوليد وأم البنين:

فأما كتابك إليّ فلعمري لقد ضعف فيه عقلك، واستخف به حلمك، فلله أبوك! أفلا انتصرت بقضاء الله دون قضائك، ورجاء الله دون رجائك وأمتّ غيظك وأمنت عدوك، وسترت عنه تدبيرك، ولم تنبّهه فيلتمس من مكايدتك ما تلتمس من مكايدته؟ ولكنك لم تستشفّ «1» الأمور علما، ولم ترزق من أمرك حزما، جمعت أمورا دلّاك فيها الشيطان على أسوأ أمرك، فكان الجفاء من خليقتك، والحمّق من طبيعتك، وأقبل الشيطان بك وأدبر، وحدّثك أنك لن تكون كاملا حتى تتعاطى ما يعيبك، فتحذلقت حنجرتك لقوله، واتسع جوانبها لكذبه، وأما قولك لو ملكك الله لعلّقت زينب ابنة يوسف يثدييها؛ فأرجو أن يكرمها الله بهوانك وأن لا يوفق ذلك لك إن كان ذلك من رأيك؛ مع أني أعرف أنك كتبت إلي والشيطان بين كفيك، فشرّ ممل علي شرّ كاتب راض بالخسف «2» ، فأحر بالحق أن لا يدلك على هدى، ولا يردّك إلا إلى ردى؛ وتحلب فوك للخلافة، فأنت شامخ البصر، طامح النظر تظن أنك حين تملكها لا تنقطع عنك مدتها؛ إنها للقطة الله، أسأل الله أن يلهمك فيها الشكر. مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما، وإن نفخ الشيطان في منخريك فهو أمر أراد الله نزعه عنك وإخراجه إلى من هو أكمل به منك؛ ولعمري إنها النصيحة فإن تقبلها فمثلها قبل، وإن تردّها علي اقتطعتها دونك وأنا الحجاج. الحجاج والوليد وأم البنين: قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك، فدخل عليه وعليه درع وعمامة سوداء وقوس عربية، وكنانة «3» ؛ فبعثت إليه أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان: من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك وأنت في غلالة «4» ؟ فبعث إليها: هذا الحجاج بن

يوسف. فأعادت الرسول إليه تقول: والله لأن يخلو بك ملك الموت أحبّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج! فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة «1» ؛ فلا تطلعها على سرك ومكايدة عدوك. فلما دخل الوليد عليها أخبرها بمقالة الحجاج؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غدا يأتيني مستلئما «2» . ففعل ذلك؛ فأتاها الحجاج فحجبته، فلم يزل قائما؛ ثم قالت له: إيه يا حجاج! أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقتلك عبد الله بن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك من شرار خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، وقتل ابن ذات النطاقين، أول مولود ولد في الإسلام؛ وأما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ أوطاره منهن؛ فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ عنك، وإن كن ينفرجن عن مثله فغير قابل لقولك: أما والله لقد نقض نساء أمير المؤمنين الطيب عن غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من الفرق «3» ، قد أظللتك رماحهم، وأثخنك كفاحهم؛ وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم؛ فما نجّاك الله من عدو أمير المؤمنين إلا بحبهم إياه، ولله در القائل إذ نظر إليك وسنان غزالة «4» بين كتفيك: أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... ربواء تجفل من صفير الصافر «5» هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في مخالب طائر صدعت غزالة جمعه بعساكر ... تركت كتائبه كأمس الدابر ثم قالت: أخرج! فخرج مذموما مدحورا.

عبد الملك والحجاج وعروة ابن الزبير:

عبد الملك والحجاج وعروة ابن الزبير: كان عروة بن الزبير عاملا على اليمن لعبد الملك بن مروان، فاتصل به أن الحجاج مجمع على مطالبته بالأموال التي بيده وعزله عن عمله؛ ففر إلى عبد الملك وعاذ به تخوّفا من الحجاج واستدفاعا لضرره وشرّه؛ فلما بلغ ذلك الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد فإن لواذ المعترضين بك، وحلول الجانحين إلى المكث بساحتك، واستلانتهم دمث «1» أخلاقك وسعة عفوك، كالعارض المبرق لأعدائه لا يعدم له شائما، رجاء استمالة عفوك؛ وإذا أدني الناس بالصفح عن الجرائم، كان ذلك تمرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال والناس عبيد العصا، هم على الشدة أشدّ استباقا منهم على اللين، ولنا قبل عروة بن الزبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قطع لطمع غيره، فليبعث به أمير المؤمنين إن رأى ذلك، والسلام. فلما قرأ الكتاب، بعث إلى عروة ثم قال له: إن كتاب الحجاج قد ورد فيك، وقد أبى إلا إشخاصك إليه. ثم قال لرسول الحجاج: شأنك به. فالتفت إليه عروة مقبلا عليه، وقال: أما والله ما ذلّ وخزي من مات، ولكن ذل وخزي من ملكتموه؛ والله لئن كان الملك بجواز الأمر ونفاذ النهي، إن الحجاج لسلطان عليك، ينفذ أموره دون أمورك؛ إنك لتريد الأمر يزينك عاجله ويبقى لك أكرومة «2» آجله، فيجذبك عنه ويلقاه دونك، ليتولى من ذلك الحكم فيه، فيحظى بشرف عفو إن كان، أو يجرم عقوبة إن كانت، وما حاربك من حاربك إلا على أمر هذا بعضه. قال: فنظر في كتاب الحجاج مرة ورفع بصره إلى عروة تارة، ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب إليه: أما بعد، فإن أمير المؤمنين رآك مع ثقته بنصيحتك، خابطا في السياسة خبط

ابن شهاب والحجاج في ضعف بصره:

عشواء «1» الليل؛ فإنّ رأيك الذي يسولّ لك أن الناس عبيد العصا، هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوثوب عليك، وإذا أحرجت العامة بعنف السياسة، كانوا أوشك وثوبا عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الداعي ولا هداه، إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك؛ وقد وليت العراق قبلك ساسة، وهم يومئذ أحمى أنوفا، وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم، وللشدة واللين أهلون، والإفراط في العفو أفضل من الإفراط في العقوبة، والسلام. ابن شهاب والحجاج في ضعف بصره: زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال: خرجنا مع الحجاج حجاجا، فلما انتهينا إلى البيداء وافيا ليلة الهلال هلال ذي الحجة فقال لنا الحجاج: تبصّروا الهلال؟ فأما أنا ففي بصري عاهة. فقال له نوفل بن مساحق: أو تدري لم ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: لكثرة نظرك في الدفاتر. الأصمعي قال: عرضت السجون بعد الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب ووجد فيهم أعرابي أخذ يبول في أصل مدينة واسط، فكان فيمن أطلق؛ فأنشأ الأعرابي يقول: إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا عدة من قتل الحجاج: أبو داود المصحفي عن النضر بن شميل، قال: سمعت هشاما يقول: أحصوا من قتل الحجاج صبرا فوجدوهم مائة ألف وعشرين ألفا. خطبة للحجاج في أهل العراق: وخطب الحجاج أهل العراق فقال: يا أهل العراق، بلغني أنكم تروون عن نبيكم

الحجاج يخطب أهل العراق بعد مرضه:

أنه قال: «من ملك على عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، حتى يفكه العدل أو يوبقه «1» الجور» ! وايم الله إني لأحب إليّ أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولا من أن أحشر معكم مطلقا. الحجاج يخطب أهل العراق بعد مرضه: ومرض الحجاج، ففرح أهل العراق وقالوا: مات الحجاج! مات الحجاج! فلما أفاق صعد المنبر وخطب الناس فقال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، مرضت فقلتم: مات الحجاج! أما والله لأحب إليّ أن أموت من أن لا أموت، وهل أرجو الخير كله إلا بعد الموت؟ وما رأيت الله رضى بالخلود في الدنيا، لأحد من خلقه إلا لأبغض خلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس؛ ولقد رأيت العبد الصالح يسأل ربه فقال: رب هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي » ففعل، ثم اضمحل ذلك فكأنه لم يكن. وله حين أراد الحج واستخلف ولده: وأراد الحجاج أن يحج، فاستخلف محمدا ولده على أهل العراق، ثم خطب، فقال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، إني أردت الحج، وقد استخلفت عليكم محمدا ولدي، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصي به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأنصار؛ فإنه أوصى فيهم أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ وإني أوصيته أن يقبل من محسنكم، وأن لا يتجاوز عن مسيئكم! ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة! وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة! ثم نزل.

وله في وفاة ابنه:

وله في وفاة ابنه: فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج، فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاة محمد أخيه: ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض «1» جناحه فخرج فصعد المنبر ثم خطب الناس. فقال: أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة؛ وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى. والجديد أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تدال «2» الأرض منا كما أدلنا منها فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا. كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها. ثم نكون كما قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ «3» . ثم تمثل بهذين البيتين: عزائي نبيّ الله من كلّ ميّت ... وحسبي ثواب الله من كلّ هالك إذا ما لقيت الله عنّي راضيا ... فإنّ سرور النّفس فيما هنالك ثم نزل، وأذن للناس فدخلوا عليه يعزونه. ودخل فيهم الفرزدق. فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيت محمدا ومحمدا؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد: لئن جزع الحجّاج، ما من مصيبة ... تكون لمحزون أمضّ وأوجعا.. «4» .. من المصطفى والمنتقى من نقاية ... جناحاه لمّا فارقاه وودّعا جناحا عتيق فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا «5» ولو أنّ يومي جمعتيه تتابعا ... على شامخ صعب الذّرى لتصدّعا سميّا رسول الله سمّاهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا

قولهم في الحجاج

قال: أحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلّفني الحجاج بيتا سادسا لضرب عنقي قبل أن آتيه به. وذلك أنه دخل ولم يهيء شيئا. قولهم في الحجاج للعتبي عن أبيه في الحجاج: الرياشي عن العتبي عن أبيه، قال: ما رأيت مثل الحجاج. كان زيه زيّ شاطر «1» ، وكلامه كلام خارجيّ، وصولته صولة جبار. فسألته عن زيه فقال: كان يرجّل «2» شعره ويخضب أطرافه. ولأبن مهران فيه: كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، قال: سألت ميمون بن مهران، فقلت: كيف ترى في الصلاة خلف رجل يذكر أنه خارجي؟ فقال: إنك لا تصلي له، إنما تصلي لله، قد كنا نصلي الحجاج وهو حروري أزرقي! قال: فنظرت إليه، فقال: أتدري ما الحروري الأزرقي؟ هو الذي إن خالفت رأيه سماك كافرا واستحلّ دمك؛ وكان الحجاج كذلك. ولعمر فيه: أبو أمية عن أبي مسهر قال: حدثنا هشام بن يحيى عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج لفضلناهم. الحسن وحانف في شأن الحجاج: وحلف رجل بطلاق امرأته: أن الحجاج في النار، فأتى امرأته فمنعته نفسها فسأل الحسن بن أبي الحسن البصري، فقال: لا عليك يا بن أخي، فإنه إن لم يكن

علي بن زيد في موت الحجاج:

الحجاج في النار، فما يضرك أن تكون مع امرأتك على زنى. علي بن زيد في موت الحجاج: أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجمحي عن علي بن زيد، قال: لما مات الحجاج أتيت الحسن فأخبرته، فخرّ ساجدا. لإبراهيم في الحجاج: علي بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في لعن الحجاج؟ قال: ألم تسمع لقول الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «1» ؟ فأشهد أن الحجاج كان منهم. جابر والحجاج: وكيع عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله، قال: دخلت على الحجاج فما سلمت عليه. الرقاشي والحسن في الحجاج: وكيع عن سفيان قال: قال يزيد الرقاشي عند الحسن: إني لأرجو للحجاج. قال الحسن: إني لأرجو أن يخلف «2» الله رجاءك. أنس وابن سيرين في دراهم الحجاج: ميمون بن مهران قال: كان أنس وابن سيرين لا يبيعان ولا يشتريان بهذه الدراهم الحجّاجيّة. قال عبد الملك بن مروان للحجاج: ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه،

ابن عمر في ولاية الحجاج:

فصف لي عيوبك. قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لابد أن تقول. قال: أنا لجوج «1» حسود حقود. قال: ما في إبليس شر من هذا. ابن عمر في ولاية الحجاج: أبو بكر بن أبي شيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: هذا الحجاج قد ولي الحرمين. قال: إن كان خيرا شكرنا، وإن كان شرا صبرنا. للحسن في قتال الحجاج: ابن أبي شيبة قال: قيل للحسن: ما تقول في قتال الحجاج؟ قال: إن الحجاج عقوبة من الله، فلا تستقبلوا عقوبة الله بالسيف. الحجاج وصلب ماهان: ابن فضيل قال: حدثنا أبو نعيم قال: أمر الحجاج بماهان أن يصلب على بابه، فرأيته حين رفعت خشبته يسبح ويهلل ويكبر ويعقد بيده، حتى بلغ تسعا وتسعين؛ وطعنه رجل على تلك الحال، فلقد رأينا بعد شهر في يده «2» . قال: وكنا نرى عند خشبته بالليل شبيها بالسراج. عدة قتلى الحجاج: أبو داود المصحفي عن النضر بن شميل، قال: سمعت هشاما يقول: أحصوا من قتل الحجاج صبرا فوجدوهم مائة وعشرين ألفا. من زعم أن الحجاج كان كافرا ميمون بن مهران عن الأجلح، قال: قلت للشعبي: يزعم الناس أن الحجاج مؤمن.

قال مؤمن بالجبت «1» والطاغوت، كافر بالله. علي بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش، قال: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن ترضون؟ قالوا: بمجاهد. فأتوه فقالوا: إنا قد اختلفنا في الحجاج. فقال: أجئتم تسألوني عن الشيخ الكافر؟ محمد بن كثير عن الأوزاعي، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاج بن يوسف ينتقض عرى الإسلام عروة عروة. عطاء بن السائب، قال: كنت جالسا مع أبي البختري والحجاج يخطب، فقال في خطبته: إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى ابن مريم: قال الله فيه: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ «2» . فقال أبو البختري: كفر وربّ الكعبة. ومما كفّرت به العلماء الحجاج، قوله ورأى الناس يطوفون بقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومنبره؛ إنما يطوفون بأعواد ورمّة «3» . الشيباني عن الهيثم عن أبي عياش قال: كنا عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه كتاب الحجاج يعظم فيه أمر الخلافة، ويزعم أن ما قامت السموات والأرض إلا بها وأن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين. وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة، وأسكنه جنته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلا إليه. فأعجب عبد الملك بذلك، وقال: لوددت أن عندي بعض

الخوارج بهذا الكتاب! فانصرف عبد الله بن يزيد إلى منزله، فجلس مع ضيفانه وحدّثهم الحديث، فقال له حوار بن زيد الضبي، وكان هاربا من الحجاج: توثّق لي منه ثم أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال: هو آمن على كل ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حوار فأخبره بذلك، فقال: بالغداة إن شاء الله. فلما أصبح اغتسل ولبس ثوبين، ثم تحنّط وحضر باب عبد الملك، فقال: هذا الرجل بالباب. فقال: أدخله يا غلام. فدخل رجل عليه ثياب بيض يوجد عليه ريح الحنوط، ثم قال: السلام عليكم. ثم جلس؛ فقال عبد الملك: إيت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به، فقال: اقرأ. فقرأ حتى أتى على آخره، فقال حوار: أراه قد جعلك في موضع ملكا وفي موضع نبياّ وفي موضع خليفة؛ فإن كنت ملكا فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيا فمن أرسلك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ أعن مشورة من المسلمين، أم ابتززت الناس أمورهم بالسيف؟ فقال عبد الملك: قد أمناك ولا سبيل إليك، والله لا تجاورني في بلد أبدا؛ فارحل حيث شئت. قال: فإني قد اخترت مصر. فلم يزل بها حتى مات عبد الملك. علي بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، قال: حدّثنا جرير عن مغيرة عن الربيع قال: قال الحجاج في كلام له: ويحكم! أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله إليهم؟ قال: ففهمت ما أراد، فقلت له: لله عليّ ألّا أصلي خلفك صلاة أبدا، ولئن وجدت قوما يقاتلونك لقاتلتك معهم. فقاتل في الجماجم حتى قتل. قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل لو أدركت بها أربعة [نفر] فتقرّبت إلى الله بدمائهم، قيل: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع، ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قدم البصرة بسط الناس له أرديتهم. فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون. وعبيد الله بن ظبيان، قام فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من أعراض

الحجاج وأسرى الجماجم:

المسجد: أكثر الله فينا أمثالك! قال: لقد سألتم الله شططا «1» . ومعبد بن زرارة، كان ذات يوم جالسا على الطريق، فمرّت به امرأة فقالت: يا عبد الله، أين الطريق إلى مكان كذا؟ فغضب وقال: أمثلي يقال له يا عبد الله؟ وأبو سماك الحنفي، أضلّ ناقته فقال: والله لئن لم يردّها عليّ لا صليت له أبدا فلما وجدها قال: علم أنّ يميني كانت برّة «2» ! قال ناقل الحديث: ونسي الحجاج نفسه وهو خامس الأربعة، بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحادا وأكفرهم في كتابه إلى عبد الملك ابن مروان: إنّ خليفة الله في أرضه أكرم عليه من رسوله إليهم. وكتابه إليه وبلغه أنه عطس يوما فحمد الله وشمّته أصحابه فردّ عليه ودعا لهم. فكتب إليه: بلغني ما كان من عطاس أمير المؤمنين، ومن تشميت أصحابه له وردّه عليهم؛ فيا ليتني كنت معهم فأفوز غوزا عظيما. الحجاج وأسرى الجماجم: وكان عبد الملك كتب إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، «فمن أقرّ منهم بالكفر بخروجه علينا فخلّ سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه» ففعل، فلما عرضهم أتي بشيخ وشاب، فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر؟ قال: بل كافر: فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر! فقال له الشيخ: أعن نفسي تخادعني يا حجاج؟ والله لو كان شيء أعظم من الكفر لرضيت به! فضحك الحجاج وخلى سبيلهما.

ثم قدّم إليه رجل، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. فقال: اضربوا عنقه. ثم قدّم آخر، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين أبيك الشيخ يوسف! فقال: أما والله لقد كان صوّاما قوّاما، خلّ عنه يا غلام! فلما خليّ عنه انصرف إليه فقال له: يا حجاج، سألت صاحبي: على دين من أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين؛ فأمرت به فقتل؛ وسألني: على دين من أنت؟ فقلت: على دين أبيك الشيخ يوسف، فقلت: أما والله لقد كان صوّاما قوّاما؛ فأمرت بتخلية سبيلي؛ والله لو لم يكن لأبيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفاه! فأمر به فقتل. ثم أتي بعمران بن عصام العنزي، فقال: عمران! قال: نعم. قال: ألم أوفدك على أمير المؤمنين ولا يوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: ألم أزوّجك مارية بنت مسمع سيدة قومها ولم تكن لها أهلا؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج علينا؟ قال: أخرجني باذان. قال: فأين كنت من حجة أهلك؟ قال: أخرجني باذان. فأمر رجلا فكشف العمامة عن رأسه، فإذا هو محلوق؛ قال: ومحلوق أيضا؟ لا أقالني الله إن لم أقتلك! فأمر به فضرب عنقه، فسأل عبد الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام، فقيل له: قتله الحجاج. فقال ولم؟ قال: بخروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان ينبغي له أن يقتله بعد قوله [فيه] : وبعثت من ولد الأغرّ معتّب ... صقرا يلوذ حمامه بالعوسج «1» فإذا طبخت بناره أنضجتها ... وإذا طبخت بغيرها لم تنضج وهو الهزبر، إذا أراد فريسة ... لم ينجها منه صريخ الهجهج «2» ثم أتي بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشّخّير، وسعيد بن جبير؛ وكان الشعبي

موت الحجاج

ومطرّف يريان التورية، وكان سعيد بن جبير لا يرى ذلك؛ فلما قدّم له الشعبي قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب «1» ، واستحلسنا «2» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال الحجاج: صدق والله، ما برّوا بخروجهم علينا ولا قووا، خلّيا عنه. ثم قدّم إليه مطرّف بن عبد الله، فقال ل: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين- لجدير بالكفر. فقال: صدق، خليا عنه. ثم أتي بسعيد بن جبير، فقال له: أنت سعيد بن جبير؟ قال: نعم. قال: لا، بل شقي ابن كسير! قال: أمي أعلم باسمي منك. قال: شقيت وشقيت أمّك. قال: الشقاء لأهل النار! قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ما كفرت بالله منذ آمنت به. قال: اضربوا عنقه. موت الحجاج مات الحجاج في آخر أيام الوليد بن عبد الملك؛ فتفجّع عليه وولّى مكانه يزيد ابن أبي مسلم كاتب الحجاج، فاكتفى وجاوز؛ فقال الوليد: مات الحجاج ووليت مكانه يزد بن أبي مسلم، فكنت كمن سقط منه درهم فأصاب دينارا. وكان الوليد بن عبد الملك يقول: ألا إن أمير المؤمنين عبد الملك كان يقول: الحجاج جلدة ما بين عيني وأنفي؛ وأنا أقول: إنه جلدة وجهي كله. عمر بن عبد العزيز وموت الحجاج: ولما بلغ عمر بن عبد العزيز موت الحجاج خرّ ساجدا؛ وكان يدعو الله أن يكون

يزيد على قبر الحجاج:

موته على فراشه، ليكون أشدّ لعذابه في الآخرة. يزيد على قبر الحجاج: أبو بكر بن عياش قال: سمع صياح الحجاج في قبره؛ فأتوا إلى يزيد بن أبي مسلم فأخبروه؛ فركب في أهل الشام فوقف على قبره، فسمع؛ فقال: يرحمك الله يا أبا محمد: فما تدع القراءة حياّ وميتا. يزيد ورجل في الحجاج: الرياشي عن الأصمعي قال: أقبل رجل إلى يزيد بن أبي مسلم فقال له: إني كنت أرى الحجاج في المنام، فكنت أقول له: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة، وأنا منتظر ما ينتظره الموحدون. ثم قال: رأيته بعد الحول، فقلت: ما صنع الله بك؟ فقال يا عاضّ بظر أمّه! أما سألتني عن هذا عام أوّل فأخبرتك؟ فقال يزيد ابن أبي مسلم: أشهد أنك رأيت أبا محمد حقا. وقال الفرزدق: يرثي الحجاج ليرضى بذلك الوليد بن عبد الملك: ليبك على الحجاج من كان باكيا ... على الدّين من مستوحش الليل خائف وأرملة لمّا أتاها نعيّه ... فجادت له بالواكفات الذّوارف «1» وقالت لعبديها أنيخا فعجّلا ... فقد مات راعي ذودنا بالتنائف «2» فليت الأكفّ الدافنات ابن يوسف ... يقطّعن إذ يحثين فوق السقائف «3» فما ذرفت عينان بعد محمد ... على مثله إلا نفوس الخلائف «4»

للفرزدق في ابن المهلب:

قال ابن عياش: فلقيت الفرزدق في الكوفة، فقلت له: أخبرني عن قولك: فليت الأكفّ الدافنات ابن يوسف ... يقطّعن..... ما معناك في ذلك؟ فقال: وددت والله أن أرجلهم تقطع مع أيديهم. للفرزدق في ابن المهلب: قال ابن عياش: فلما هلك الوليد واستخلف سليمان استعمل يزيد بن المهلب على العراق وأمره بقتل آل أبي عقيل فقتلهم، فأنشأ الفرزدق يقول: لئن نفر الحجّاج آل معتّب ... لقوا دولة كان العدو يدالها لقد أصبح الأحياء منهم أذلة ... وموتاهم في النار كلحا سبالها «1» وكانوا يرون الدائرات بغيرهم ... فصار عليهم بالعذاب انتقالها وكنّا إذا قلنا اتّق الله شمّرت ... به عزّة لا يستطاع جدالها «2» ألكني إلى من كان بالصّين أورمت ... به الهند ألواحا عليها جلالها «3» هلمّ إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات من أرض العراق خبالها ألا تشكرون الله إذ فك عنكم ... أداهم بالمهديّ صما ثقالها وشيمت به عنكم سيوف عليكم ... صباح مساء بالعذاب استلالها «4» وإذ أنتم من لم يقل أنا كافر ... تردّى نهارا عثرة لا يقالها قال ابن عياش: فقلت للفرزدق: ما أدري بأي قوليك نأخذ؛ أبمدحك في الحجاج حياته؛ أم هجوك له بعد موته؟ قال: إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه؛ فإذا تخلى عنه تخلينا عنه.

لعمر بن عبد العزيز في الحجاج:

لعمر بن عبد العزيز في الحجاج: ولما مات الحجاج دخل الناس على الوليد يعزّونه ويثنون على الحجاج خيرا، وعنده عمر بن عبد العزيز: فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان الحجاج إلا رجلا منا؟ فرضيها منه. أخبار البرامكة لابن هارون فيهم: قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حدثني سهل بن هرون، قال: والله إن كانوا سجعوا الخطب، وقرضوا القريض لعيال على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر ابن يحيى؛ ولو كان كلام يتصور درّا، أو يحيله المنطق السري جوهرا، لكان كلامهما والمنتقى من لفظهما؛ ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد وبديهته وتوقيعاته في كتبه- فدمين «1» عييّين، وجاهليين أمّيين؛ ولقد عمّرت معهم وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم؛ وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم؛ وأنهم محض الأيام، ولباب «2» الكرام وملح الأنام، عتق «3» منظر وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاعة أنفس، واكتمال خصال؛ حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم والمأثور من خصالهم كثير أيام سواهم من لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصور وانبعاث أهل القبور- حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المرسلين لما باهت «4» إلا بهم، ولا عوّلت إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورونق سياقهم، ومعسول مذاقهم، وبهاء إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وتهذيب أغراضهم، واكتمال الخير فيهم- في جنب محاسن الرشيد كالنقطة في البحر، والخردلة في المهمه «5» القفر.

قال سهل بن هارون: إني لأحصّل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في بناء خلا به داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة وهو يعقدها جملا بكفه، إذ عشيته سآمة فأخذته سنة «1» فغلبته عيناه، فقال: ويحك يا سهل! طرق النوم شفري «2» ، وحلت السّنة جفنيّ، فما ذلك؟ قلت: ضيف كريم، إن قريته روّحك وإن منعته عنّتك، وإن طردته طلبك، وإن أقصيته أدركك، وإن غالبته غلبك! قال: فنام أقلّ من فواق «3» بكية، أو نزع ركيّة «4» ؛ ثم انتبه مذعورا، فقال: يا سهل لأمر ما كان! والله لقد ذهب ملكنا، وولى عزّنا، وانتقصت أيام دولتنا! قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: كأنّ منشدا أنشدني: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر «5» فأجبته من غير روية ولا إجالة فكرة: بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر قال: فو الله ما زلت أعرفها منه وأراها ظاهرة فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مقعدي بين يديه أكتب توقيعات في أسافل كتبه لطلاب الحاجات إليه، قد كلفني إكمال معانيها بإقامة الوزن فيها، إذ وجدت رجلا سعى إليه حتى ارتمى مكبا عليه، فرفع رأسه فقال: مهلا ويحك! ما اكتتم خير ولا استتر شرّ. قال: قتل أمير المؤمنين جعفرا الساعة! قال: أو قد فعل؟ قال: نعم. قال: فما زاد أن رمى القلم من يده، وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة. قال سهل بن هارون: فلو انكفأت «6» السماء على الأرض ما زاد. فتبرأ منهم الحميم واستبعد عن نسبهم القريب، وجحد ولاءهم المولى واستعبرت لفقدهم الدنيا، فلا لسان يخطر بذكرهم، ولا طرف ناظر يشير إليهم.

يحيى بعد مقتل جعفر:

يحيى بعد مقتل جعفر: وضم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضل ومحمدا وخالدا بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالدا بني جعفر بن يحيى، والعاصي ومزيدا وخالدا ومعمرا بني الفضل بن يحيى، ويحيى وجعفرا وزيدا بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفرا وعمر ومعمرا بني خالد بن يحيى، ومن لفّ لفهم أو هجس بصدره أمل فيهم. الرشيد وسهل بعد مقتل جعفر: [قال سهل] : وبعث إليّ الرشيد، فو الله لقد أعجلت عن النظر، فلبست ثياب أحزاني، وأعظم رغبتي إلى الله إلا راحة بالسيف وألا تعبث بي عبث جعفر، فلما دخلت عليه عرف الذعر في تجرّض «1» ريقي وشخوصي إلى السيف المشهور ببصري فقال: أيها يا سهل، من غمط «2» نعمتي وتعدّى وصيتي وجانب موافقتي أعجلته عقوبتي قال: فو الله ما وجدت جوابها حتى قال: يفرخ روعك ويسكن جأشك وتطيب نفسك وتطمئن حواسّك؛ فإن الحاجة إليك قربت منك، وأبقت عليك بما يبسط منقبضك؛ ويطلق معقولك، فما اقتصر على الإشارة دون اللسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحسام الباتر. وأشار إلى مصرع جعفر فقال: من لم يؤدّبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه قال سهل: والله ما أعلم أني عييت بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ فما عوّلت في الشكر إلا على تقبيل باطن يديه ورجليه. ثم قال: اذهب فقد أحللتك محلّ يحيى، ووهبتك ما ضمّنته أفنيته «3» وما حواه سرادقه؛ فاقبض الدواوين، وأحص جباءه وجباء جعفر لنأمرك بقبضه إن شاء الله.

قال سهل: فكنت كمن نشر «1» عن كفن وأخرج من حبس؛ وأحصيت حباءهما فوجدته عشرين ألف ألف دينار، ثم قفلت راجعا إلى بغداد. وفرّق البرد «2» إلى الأمصار بقبض أموالهم وغلاتهم، وأمر بجيفة جعفر وجثته ففصلت على ثلاثة جذوع: رأسه في جذع على رأس الجسر مستقبل الصّراة «3» ، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائره في جذع على آخر الجسر الثاني مما يلي باب بغداد. فلما دنونا من بغداد، طلع الجسر الذي فيه وجه جعفر، واستقبلنا وجهه واستقبلته الشمس؛ فو الله لخلتها تطلع من بين حاجبيه؛ فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يساره، فلما نظر إليه الرشيد- وكأنما قنأ «4» شعره وطلى بنور بشره- اربدّ «5» وجهه وأغضى بصره؛ فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عظم ذنب لم يسعه أمير المؤمنين! قال الرشيد: من يرد غير مائة يصدر بمثل دائه، ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته؛ عليّ بالنضاحات «6» . فنضح عليها حتى احترقت عن آخرها وهو يقول: لئن ذهب أثرك لقد بقي خبرك، ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك! قال سهل بن هارون: وأمر بضم أموالهم، فوجد من العشرين ألف ألف التي كانت مبلغ جبايتهم، اثنى عشر ألف ألف مكتوبا على بدرها «7» صكوك مختومة تفسيرها رقيما حبوا بها. فما كان منها حباء على غريبة، أو استطراف ملحة؛ تصدق به يحيى وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، فكان ديوان إنفاق واكتساب فائدة.

بين أم جعفر والرشيد:

وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا، إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورياشهم والدقيق والجليل من مواهبهم، فإنه لا يوصف أقلّه، ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال. وأبرزت حرمه إلى دار البانوقة ابنة المهدي؛ فو الله ما علمته عاش ولا عشن إلا من صدقات من لم يزل متصدقا عليه؛ وما رأوا مثل موجدة الرشيد فيما يعلم من ملك قبله على أحد ملكه. بين أم جعفر والرشيد: وكانت أم جعفر بن يحيى، وهي فاطمة ابنة محمد بن الحسين بن قحطبة، أرضعت الرشيد مع جعفر؛ لأنه كان ربّي في حجرها وغذي برسلها «1» ، لأن أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها والتبرّك برأيها، وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجبها، ولا استشفعته لأحد إلا شفعها، وآلت عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا شفعت لأحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكّت، ومبهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرّجت. واحتجب الرشيد بعد قدومه، فطلبت الإذن عليه من دار الباقونة، ومتّت بوسائلها إليه؛ فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها؛ فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد؛ فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظئر «2» أمير المؤمنين بالباب، في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة أم الواحد! فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك! أو ساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين حافية! قال أدخلها يا عبد الملك، فربّ كبد غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها! قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها، وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية، قام محتفيا حتى تلقّاها بين عمد المجلس، وأكب على تقبيل رأسها ومواضع

ثدييها؛ ثم أجلسها معه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أيعدو علينا الزمان ويجفونا خوفا لك الأعوان، ويحردك «1» عنا البهتان وقد ربيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسني من رأفته، بتركه كنيتها آخرا ما كان أطمعني من برّه بها أولا، قالت: ظئرك «2» يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرّضه للحتف في شأن موسى أخيه. قال لها: يا أمّ الرشيد، أمر سبق، وقضاء حمّ، وغضب من الله نفذ! قالت: يا أمير المؤمنين، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب، قال: صدقت. فهذا مما لم يمحه الله! فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل بن هارون: فأطرق الرشيد مليا، ثم قال: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال هذا بعد قول الله عز وجل: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «3» . فأطرق هرون مليا، ثم قال: يا أمّ الرشيد، أقول، إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر تقبل فقالت: يا أمير المؤمنين، وأقول: ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك، فانظر أيّ كف تبدّل قال هارون: رضيت! قالت: فهبه لي يا أمير المؤمنين؛ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من ترك شيئا لله لم يوجده الله لفقده. فأكب هارون مليا، ثم رفع رأسه يقول: لله

الأمر من قبل ومن بعد! قالت: يا أمير المؤمنين، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ «1» ؛ واذكر يا أمير المؤمنين أليّتك «2» . ما استشفعت إلا شفعتني! قال: واذكري يا أم الرشيد أليّتك لا شفعت لمقترف ذنبا. قال سهل بن هارون: فلما رأته صرّح بمنعها ولاذ عن مطلبها، أخرجت حقا «3» من زبرجدة خضراء فوضعته بين يديه؛ فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب فأخرجت منه قميصه وذوائبه «4» وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه، ثم استعبر وبكى بكاء شديدا، وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى وهو لا يظن إلا أن البكاء رحمة له ورجوع عنه، فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحقّ، وقال لها: لحسنا ما حفظت الوديعة! قالت: وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين! فسكت وأقفل الحق ودفعه إليها، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «5» . قالت: والله يقول: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «6» . ويقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ «7» . قال: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به أن لا تحجبني ولا تجبهني قال: أحب يا أم الرشيد أن تشتريه محكّمة فيه. قالت: أنصفت يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك! قال: يا أم الرشيد، أمالي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ فتحكّمي في تمنية بغيرهم. قالت: بلى قد

الرشيد وإسحاق بن علي في البرامكة:

وهبتكه وجعلتك في حلّ منه؟ وقامت عنه، وبقي مبهوتا ما يحير لفظه. قال سهل: وخرجت فلم تعد، ولا والله ما رأيت لها عبرة ولا سمعت لها أنّة. قال سهل: وكان الأمين محمد بن زبيدة رضيع يحيى بن جعفر، فمتّ «1» إليه يحيى ابن خالد بذلك، فوعده استيهاب أمّه إياهم وتكلمها فيهم؛ ثم شغله اللهو عنهم، فكتب إليه يحيى، ويقال: إنها لسليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد، وكان منقطعا إلى البرامكة- يقول: يا ملاذي وعصمتي وعمادي ... ومجيري من الخطوب الشّداد بك قام الرّجاء في كلّ قلب ... زاد فيه البلاء كلّ مزاد إنما أنت نعمة أعقبتها ... نعم نفعها لكلّ العباد وعد مولاك أتممنه فأبهى الدّ ... رّ ما زيد حسنه بانعقاد ما أظلّت سحائب اليأس إلّا ... كان في كشفها عليك اعتمادي إن تراخت يداك عني فواقا ... أكلتني الأيام أكل الجراد «2» وبعث بها الأمين محمد، فبعث بها الأمين محمد إلى أمه زبيدة، فأعطتها هارون وهو في موضع لذته وعند إقبال أريحيّته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وعبّأت جواريها ومغنّياتها وأمرتهن بالقيام معها إذا قامت؛ فلما فرغ الرشيد من قراءتها لم ينقض حبوته حتى وقّع في أسفلها: عظم ذنبك أمات خواطر العفو عنك! ورمى بها إلى زبيدة، فلما رأت توقيعه علمت أنه لا يرجع عنه. الرشيد وإسحاق بن علي في البرامكة: وقال بعض الهاشميين: أخبرني إسحاق بن علي بن عبد الله بن العباس، قال: كنت أساير الرشيد يوما والأمين عن يمينه والمأمون عن شماله؛ فاستدناني وقدّمهما أمامه، فسايرته، فجعل يحدثني، ثم بدأ يشاورني في أمر البرامكة، وأخبرني بما أضمر عليه

يحيى ومنكة الهندي:

لهم، فإنهم استوحشوه من أنفسهم، وإني عنده بالموضع الذي لا يكتمني شيئا من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تنقلني من السّعة إلى الضيق! فقال الرشيد: إلا أن تقول؛ فإني لا أتهمك في نصيحة ولا أخافك على رأي ولا مشورة! فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أرى نفاستك عليهم بما صاروا إليه من النعمة والسّعة، ولك أن تأمر وتنهى، وهم عبيد لك بإنباتك إياهم؛ فهل ذلك كلّه إلا بك؟ - قال: وكنت أحطب في حبال البرامكة- فقال لي: فضياعهم ليس لولدي مثلها وتطيب نفسي بذلك لهم! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الملك لا تحسد، ولا يحقد، ولا ينعم نعمة ثم يفسد نعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى «1» وجهه عني. قال إسحاق: فعلمت أنه سيوقع بهم، ثم انصرفت فكتمت الخبر فلم يسمع به أحد، وتجنبت لقاء يحيى والبرامكة خوفا أن يظن أني أفضي إليهم بسرّه، حتى قتلهم، وكان أشدّ ما كان إكراما لهم؛ وكان قتلهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم. يحيى ومنكة الهندي: وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهندي فقال: ماذا ترى في هذه العلة؟ فقال منكة: داء كبير دواؤه يسير، والصبر أيسر؛ وكان متفنّنا. فقال له يحيى: ربما ثقل على السمع «2» خطرة الحق به، وإذا كان ذلك كان الهجر له ألزم من المفاوضة [فيه] . قال منكة: لكنني أرى في الطالع أثرا والأمد فيه قريب، وأنت قسيم في المعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمة لا نتاج لها، ولكن الأخذ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين. قال يحيى: الأمور منصرفة إلى العواقب، وما حتم فلا بد أن يقع، والمنعة بمسالمة الأيام نهزة «3» ، فاقصد ما دعوتك له من هذا الأثر الموجود بالمزاج. قال منكة: هي الصفراء مازجتها

من يحيى في حبسه إلى الرشيد:

مائية البلغم، فحدث لذلك ما يحدث من اللهب عند مماسّة رطوبة الماء من الاشتعال؛ فخذ ماء الرمان فدق فيه إهليلجة «1» سوداء تنهضك مجلسا أو مجلسين، ويسكن ذلك التوقد إن شاء الله. فلما كان من أمرهم ما كان، تلطّف منكة حتى دخل الحبس، فوجد يحيى قاعدا على لبد، والفضل بين يديه يخدمه، فاستعبر منكة باكيا، وقال: كنت ناديت لو أسرعت الإجابة. قال له يحيى: أتراك كنت علمت من ذلك شيئا جهلته؟ قال: كلا كان الرجاء للسلامة بالبراءة من الذنب أغلب من الشّفق «2» ، وكانت مزايلة القدر الخطير عنا أقل ما تنقض تنهض به التّهمة، فقد كانت نقمة أرجو أن يكون أوّلها صبرا، وآخرها أجرا. قال: فما تقول في هذا الداء؟ قال: منكة: ما أرى له دواء أنفع من الصبر، ولو كان يفدى بمال أو بمفارقة عضو كان ذلك مما يجب. لك. قال يحيى: قد شكرت لك ما ذكرت، فإن أمكنك تعاهدنا فافعل. قال منكة: لو أمكنني تخليف الروح عندك ما بخلت به، فإنما كانت الأيام تحسن بسلامتك. وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد: من يحيى في حبسه إلى الرشيد: لأمير المؤمنين، وخليفة المهدّيين، وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته «3» عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، ومال به الزمان، ونزل به الحدثان «4» ، [فحلّ في الضّيق بعد السعة] وعالج البؤس بعد الدّعة «5» وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهاد بعد الهجود «6» ، ساعته شهر، وليلته

دهر، وقد عاين الموت، وشارف الفوت «1» ، جزعا لموجدتك يا أمير المؤمنين، وأسفا على ما فات من قربك، لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك، وبك وكانا في يديّ عارية، والعارية مردودة؛ وأما ما أصبت به من ولدي فبذنبه، ولا أخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجاوزت به فوق حده. تفكّر في أمري، جعلني الله فداك، وليمل هواك بالعفو عن ذنب إن كان فمن مثلي الزلل ومن مثلك الإقالة «2» ؛ وإنما أعتذر إليك بإقرار ما يجب به الإقرار حتى ترضي، فإذا رضيت رجوت إن شاء الله أن يتبين لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعده ذنب أن تغفره. مدّ الله لي في عمرك وجعل يومي قبل يومك! وكتب إليه بهذه الأبيات: قل للخليفة ذي الصّنيعة ... والعطايا الفاشيه وابن الخلائف من قريش ... والملوك العاليه إنّ البرامكة الذين ... رمو لديك بداهيه صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلة باديه فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز نخل خاويه «3» عمّتهم لك سخطة ... لم تبق منهم باقيه بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه ومنازل كانت لهم ... فوق المنازل عاليه أضحوا وجلّ مناهم ... منك الرّضا والعافيه يا من يودّ لي الرّدى ... يكفيك مني ما بيه «4» يكفيك ما أبصرت من ... ذلّي وذلّ مكانيه

عهد يحيى إلى الرشيد:

وبكاء فاطمة الكئيبة ... والمدامع جاريه ومقالها بتوجّع ... يا سوأتي وشقائيه من لي وقد غضب الزّما ... ن على جميع رجاليه يا لهف نفسي لهفها ... ما للزّمان وماليه يا عطفة الملك الرّضا ... عودي علينا ثانيه فلم يكن له جواب من الرشيد. عهد يحيى إلى الرشيد: واعتلّ يحيى في الحبس، فلما أشفى «1» دعا برقعة فكتب في عنوانها: ينفذ أمير المؤمنين عهد مولاه يحيى بن خالد. وفيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدّم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت على الأثر، والله حكم عدل، وستقدم فتعلم. فلما ثقل «2» قال للسبحان: هذا عهدي توصّله إلى أمير المؤمنين، فإنه وليّ نعمتي، وأحق من نفّذ وصيتي. فلما مات يحيى أوصل السجان عهده إلى الرشيد. جواب الرشيد: قال سهل بن هارون: وأنا عند الرشيد إذ وصلت الرقعة إليه، فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أدري لمن الرقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أكفيك؟ قال: كلا، إني أخاف عادة الراحة أن تقوّي سلطان العجز! فيحكم بالغفلة ويقضي بالبلادة! ووقع فيها: الحكم الذي رضيت به في الآخرة لك هو أعدى الخصوم عليك، وهو من لا ينقض حكمه، ولا يردّ قضاؤه. قال: ثم رمى بالصك إليّ فلما

رأيته علمت أنه ليحيى، وأن الرشيد أراد أن يؤثر الجواب عنه. وقال دعبل يرثي بني برمك: ولمّا رأيت السيف جلّل جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى «1» بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدّنيا وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك: هدا الخالون عن شجوى وناموا ... وعيني لا يلائمها المنام «2» وما سهرى بأني مستهام ... إذا سهر المحبّ المستهام ولكنّ الحوادث أرّقتتى ... فبي أرق إذا هجع النّيام أصبت بسادة كانوا عيونا ... بهم نسقى إذا انقطع الغمام «3» فقلت وفي الفؤاد ضريم نار ... وللعبرات من عيني انسجام على المعروف والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السّلام جزعت عليك يا فضل بن يحيى ... ومن يجزع عليك فلا يلام هوت بك أنجم المعروف فينا ... وعزّ بفقدك القوم اللثام وما ظلم الإله أخاك لكن ... قضاء كان سبّبه اجترام «4» عقاب خليفة الرّحمن فخر ... لمن بالسيف صبّحه الحمام عجبت لما دها فضل بن يحيى ... وما عجبي وقد غضب الإمام جرى في الليل طائرهم بنحس ... وصبّح جعفرا منه اصطلام «5» ولم أر قبل قتلك يا بن يحيى ... حساما قده السيف الحسام برين الحادثات له سهاما ... فغالته الحوادث والسّهام «6»

ليهن الحاسدين بأنّ يحيى ... أسير لا يضيم ويستضام وأنّ الفضل بعد رداء عزّ ... غدا ورداؤه ذال ولام «1» فقل للشّامتين بهم جميعا ... لكم أمثالها عام فعام أمين الله في الفضل بن يحيى ... رضيعك والرّضيع له ذمام أبا العبّاس، إنّ لكلّ همّ ... وإن طال انقراض وانصرام أرى سبب الرّضاء له قبول ... على الله الزّيادة والتّمام وقد آليت فيه بصوم شهر ... فإن تمّ الرّضا وجب الصّيام وقد آليت معتزما بنذر ... ولي فيما نذرت به اعتزام بأن لا ذقت بعدكم مداما ... وموتي أن يفارقني المدام أألهوا بعدكم وأقرّ عينا؟ ... عليّ اللهو بعدكم حرام وكيف يطيب لي عيش! وفضل ... أسير دونه البلد الشّآم وجعفر ثاويا بالجسر أبلت ... محاسنه السمائم والقتام «2» أمرّ به فيغلبني بكائي ... ولكنّ البكاء له اكتتام أقول وقمت منتصبا لديه ... إلى أن كاد يفضحني القيام أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام لثمنا ركن جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام وقال بعض الشعراء يغري هارون ببني برمك: قل للخليفة باكتفائه ... دون الأنام بحسن رائه إمّا بدأت بجعفر ... فاسق البرامك من إنائه ما برمكي بعده ... تقف الظنون على وفائه إني وقصد البرمكيّ ... إلى انتكاث من شقائه «3»

ابن المهدي وجعفر وعبد الملك:

فلقد رفعت لجعفر ... ذكرين قلّا في جزائه فارفع ليحيى مثله ... ما العود إلا من لحائه واخضب بصدر مهنّد ... عثنون يحيى من دمائه «1» ابن المهدي وجعفر وعبد الملك: إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى يوما: إنني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة، وأردت أن أخلو بنفسي وأفرّ من أشغال الناس وأتوحّد، فهل أنت مساعدي؟ قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد بمساعدتك وآنس بمخالاتك. فقال: بكّر إليّ بكور الغراب. قال: فأتيت عند الفجر الثاني فوجدت الشمعة بين يديه وهو قاعد ينتظرني للميعاد. قال: فصلينا ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحجامة، فأتى الحجّام، فحجمنا في ساعة واحدة، ثم قدّم إلينا الطعام فطعمنا فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة وضمخنا بالخلوق «2» ، وظللنا بأسرّ يوم مرّ بنا؛ ثم إنه تذكر حاجة، فدعا الحاجب فقال له: إذا جاء عبد الملك القهرمان «3» فأذن له. فنسي الحاجب وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي على جلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذن له الحاجب، فما راعنا إلا طلعة عبد الملك بن صالح، فتغيّر لذلك وجه جعفر بن يحيى، وتنغّص عليه ما كان فيه؛ فلما نظر إليه عبد الملك على تلك الحالة، دعا غلامه، فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته، ثم جاء فوقف على باب المجلس، فقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم! قال: فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة؛ ودعا بطعام فطعم؛ ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثا، ثم قال: ليخفّف عني، فإنه شيء ما شربته قط! فتهلل وجه جعفر فرحا، وقد كان الرشيد حاور عبد الملك على المنادمة فأبى ذلك وتنزّه عنه؛ ثم قال له جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك؛ قد تفضلت وتطوّلت «4» ، فهل من

من أخبار الطالبيين

حاجة تبلغها مقدرتي، وتحيط بها نعمتي، فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب عليّ، فتسأله الرضا عني. فقال قد رضي عنك أمير المؤمنين! ثم قال [عبد الملك] : وعليّ أربعة آلاف دينار. قال: هي حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحبّ إليّ من مالي. قال: وابني إبراهيم أحبّ أن أشدّ ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قد زوّجه أمير المؤمنين ابنته عائشة الغالية. قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه بولاية. قال: وقد ولاه أمير المؤمنين مصر! قال: فانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدام جعفر على الرشيد من غير استئذان، فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودخل جعفر فلم يلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وإبراهيم بن عبد الملك فعقد له النكاح، وحملت البدر إلى عبد الملك، وكتب سجل إبراهيم على مصر؛ وخرج جعفر، فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفه نزل ونزلنا بنزوله، فالتفت إلينا فقال: تعلّقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم أن تعرفوا آخره وإني لمّا دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه سألني عن أمسي، فابتدأت أحدثه بالقصة من أوّلها إلى آخرها، فجعل يقول أحسن والله! أحسن والله! ثم قال: فما أجبته؟ فجعلت أخبره، وهو يقول في كل شيء: أحسنت! وخرج إبراهيم واليا على مصر. من أخبار الطالبيين حفاوة السفاح: حدّث عبد العزيز بن عبد الله البصري، عن عثمان بن سعيد بن سعد المدني، قال: لما ولي الخلافة أبو العباس السفاح قدم عليه بنو الحسن بن علي بن أبي طالب، فأعطاهم الأموال وقطع لهم القطائع «1» ، ثم قال لعبد الله بن الحسن: احتكم عليّ. قال: يا أمير المؤمنين، بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط. فاستقرضها أبو العباس من ابن أبي مقرّن الصيرفي، وأمر له بها.

استيحاش السفاح من ابن حسن:

قال عبد العزيز: لم يكن يومئذ بيت مال. ثم إن أبا العباس أتى بجوهر مروان فجعل يقلبه وعبد الله بن الحسن عنده، فبكى عبد الله، فقال له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مروان وما رأت بنات عمك مثله قط؟ قال: فحباه «1» به، ثم أمر ابن مقرّن الصيرفيّ أن يصل إليه ويبتاعه منه، فاشتراه منه بثمانين ألف دينار. ثم حضر خروج بني حسن فأرسل معهم رجلا من ثقاته، ثم قال له: قم بإنزالهم ولا تأل في إلطافهم؛ وكلما خلوت معهم فأظهر الميل إليهم والتحامل علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومقدمهم. استيحاش السفاح من ابن حسن: ومما كان خشن قلب أبي العباس حتى أساء بهم الظن، أنه لما بنى مدينة الأنبار دخلها مع أبي جعفر أخيه وعبد الله بن الحسن، وهو يسير بينهما ويريهما بنيانه وما أقام فيها من المصانع والقصور؛ فظهرت من عبد الله بن الحسن فلتة، فجعل يتمثل بهذه الأبيات: ألم تر جوشنا قد صار يبني ... قصورا نفعها لبني نفيله «2» يؤمل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله! قال: فتغير وجه أبي العباس؛ وقال له أبو جعفر: أتراهما ابنيك أبا محمد والأمر إليهما صائر لا محالة؟ قال: لا والله ما ذهبت هذا المذهب ولا أردته، ولا كانت إلا كلمة جرت على لساني لم ألق لها بالا. فأوحشت تلك الكلمة أبا العباس.

أبو جعفر وابن حسن:

فلما قدم المدينة عبد الله بن الحسن، اجتمع إليه الفاطميون وجعل يفرّق فيهم الأموال التي بعث بها أبو العباس، فعظم بها سرورهم؛ فقال لهم عبد الله ابن الحسن: فرحتم؟ قالوا: وما لنا لا نفرح بما كان محجوبا عنا بأيدي بني مروان حتى أتى الله بقرابتنا وبني عمنا فأصاروه إلينا؟ قال لهم: أفرضيتم أن تنالوا هذا من تحت أيدي قوم آخرين؟ فخرج الرجل الذي كان وكله أبو العباس بأخبارهم، فأخبره بما سمع من قولهم وقوله؛ فأخبر أبو العباس أبا جعفر بذلك، فزادت الأمور شرّا. أبو جعفر وابن حسن: ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده، فبعث بعطاء أهل المدينة وكتب إلى عامله، أن أعط الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحد بعطائه، وتفقّد بني هاشم ومن تخلّف منهم ممن حضر، وتحفظ بمحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن. ففعل وكتب: إنه لم يتخلف أحد عن العطاء إلا محمد وابراهيم ابنا عبد الله ابن الحسن، فإنهما لم يحضرا. فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن، وذلك مبدأ سنة تسع وثلاثين ومائة، يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويخبره أنه غير عاذره. فكتب إليه عبد الله أنه لا يدري أين هما ولا أين توجها. وأن غيبتهما غير معروفة؛ فلم يلبث أبو جعفر- وكان قد أذكى العيون «1» ووضع الأرصاد «2» - حتى جاءه كتاب من بعض ثقاته يخبره أن رسولا لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخراسان يستدعيهم إليهم؛ فأمر أبو جعفر برسولهم فأتى به وبكتبه، فردها إلى عبد الله بن الحسن بطوابعها، لم يفتح منها كتابا، وردّ إليه رسوله وكتب إليه: إني أتيت برسولك والكتب التي معه فرددتها إليك بطوابعها، كراهية أن أطّلع منهما على ما يغيّر لك قلبي؛ فلا تدع إلى التقاطع بعد التواصل، ولا إلى الفرقة بعد

الاجتماع، وأظهر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيث تحب من الولاية والقرابة وتعظيم الشرف. فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصل في كتابه، ويعلمه أن ذلك من عدوّ أراد تشتيت ما بينهم بعد التئامه. ثم جاءه كتاب ثقة من ثقاته يذكر أن الرسول بعينه خرج بالكتب بأعيانها على طريق البصرة، وأنه نازل على فلان المهلّبي؛ فإن أراده أمير المؤمنين فليضع عليه رصده. فوضع عليه أبو جعفر رصده، فأتي به إليه ومعه الكتب، فحبس الرسول وأمضى الكتب إلى خراسان مع رسول الله من عنده من أهل ثقاته، فقدمت عليه الجوابات بما كره؛ واستبان له الأمر، فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول: أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد «1» أما بعد فقد قرأت كتبك وكتب ابنيك وأنفذتها إلى خراسان، وجاءتني جواباتها بتصديقها، وقد استقرّ عندي أنك مغيّب لابنيك تعرف مكانهما، فأظهرهما لي، فإن لك عليّ أن أعظم صلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتهما قرابتهما؛ فتدارك الأمور قبل تفاقمها. فكتب إليه عبد الله بن الحسن: وكيف أريد ذاك وأنت منّي ... وزندك حين تقدح من زنادي وكيف أريد ذاك وأنت مني ... بمنزلة النّياط من الفؤاد «2» وكتب إليه أنه لا يدري أين توجّها من بلاد الله، ولا يدري أين صاروا، وأنه لا يعرف الكتب ولا يشك أنها مفتعلة. فلما اختلفت الأمور على أبي جعفر، بعث سلم بن قتيبة الباهلي، وبعث معه بمال

وأمره بأمره، وقال له: إني إنما أدخلك بين جلدي وعظمي؛ فلا توطئنّي عشواء «1» ، ولا تخف عني أمرا تعلمه. فخرج سلم بن قتيبة حتى قدم المدينة، وكان عبد الله يبسط له في رخام المنبر في الروضة، وكان مجلسه فيه؛ فجلس إليه وأظهر له المحبة والميل إلى ناحيته؛ ثم قال له حين أنس إليه: إن نفرا من أهل خراسان، وهم فلان وفلان- وسمّى له رجالا يعرفهم ممن كان يكاتب، ممن استقرّ عند أبي جعفر أمرهم- قد بعثوا إليك معي مالا، وكتبوا إليك كتابا فقبل الكتاب والمال، وكان المال عشرة آلاف دينار. ثم أقام معه ما شاء الله حتى ازداد به أنسا وإليه استنامة «2» ، ثم قال له: إني قد بعثت بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد، وإلى وليّ عهده إبراهيم؛ وأمرت أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما، فإن أوصلتني إليهما وأدخلتني عليهما؛ أوصلت إليهما الكتابين والمال، ورحلت إلى القوم بما يثلج صدورهم، وتقبله قلوبهم، فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة، وإن كان أمرهما مظلما؛ وإن لم تكن تعرف مكانهما، لم يخاطروا بدينهم وأموالهم ومهجهم. فلما رأى عبد الله أنّ الأمور تفسد عليه من حيث يرجو صلاحها، [وأنه لا سبيل إلى ما معه] إلا بإيصاله إليهما وإظهارهما له، أوصله- فدفع الكتابين مع أربعين ألف درهم- ثم قال: هذا محمد، وهذا إبراهيم. فقال لهم: إن من ورائي لم يبعثوني ولهم ورائي غاية، وليس مثلي ينصرف إلى قوم إلا بجملة ما يحتاجون إليه، ومحمد إنما صار إلى هذه الخطة، ووجبت له هذه الدعوة، لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهاهنا من هو أقرب من رسول الله رحما وأوجب حقا منه قال: ومن هو؟ قال: أنت! إلا أن يكون عند ابنك محمد أثر ليس عندك في نفسك! قال: فكذلك الأمر عندي. قال له: فإن القوم يقتدون بك في جميع أمورهم، ولا يريدون أن يبذلوا دينهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحجّة يرجون بها لمن قتل منهم الشهادة؛ فإن أنت خلعت أبا جعفر وبايعت محمدا اقتدوا بك، وإن أبيت اقتدوا بك أيضا في

كتاب أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله:

تركك ذلك؛ ثقة بك؛ لقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وموضعك الذي وضعك الله فيه. قال: فإني أفعل! فبايع محمدا وخلع أبا جعفر، وبايعه سلم من بعده، وأخذ كتبه وكتب إبراهيم ومحمد، فخرج فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسم، فأخبره بحقيقة الأمر ويقينه. فلما دخل أبو جعفر المدينة، أرسل إلى بني الحسن فجمعهم، وقال لسلم: إذا رأيت عبد الله عندي فقم على رأسي وأشر إليّ بالسلاح، ففعل، فلما رآه عبد الله سقط «1» في يده وتغيّر وجهه، قال له أبو جعفر: مالك أبا محمد؟ أتعرفه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فأقلني وصلتك رحم! فقال له أبو جعفر: هل علمت أنك تعرف موضع ولديك، وأنه لا عذر لك؟ وقد باح السر؛ فأظهرهما لي، ولك أن أصل رحمك ورحمهما، وأن أعظم ولا يتهما، وأعطى كلّ واحد منهما ألف ألف درهم، فتراجع عبد الله حتى انكفأ «2» على ظهره، وبنو حسن اثنا عشر رجلا، فأمر بحبسهم جميعا. وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة، وعبّى «3» على القتال، ولم يشكّ أن أهل المدينة سيقاتلونه في بني حسن، فعبّى ميمنة وميسرة وقلبا، وتهيأ للحرب، وأجلس في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم عشرين معطيا يعطون العطايا، فلم يتحرّك عليه منهم أحد ثم مضى بهم إلى مكة. كتاب أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله: فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر: من عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» ولك عهد الله وميثاقه وذمّة الله وذمّة نبيه إن أنتما أتيتما وتبتما ورجعتما من قبل أن أقدر عليكما وأن يقع بيني وبينكما سفك الدماء- أن أؤمّنكما وجميع ولدكما ومن شايعكما وتابعكما على دمائكم وأموالكم، وأسوّغكم «2» ما أصبتم من دم أو مال، وأعطيكما ألف ألف درهم لكل واحد منكما، وما سألتما من الحوائج؛ وأبوّئكما من البلاد حيث شئتما، وأطلق من الحبس جميع ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحدا منكما بذنب سلف منه أبدا؛ فلا تشمت بنا وبك عدوّنا من قريش؛ فإن أحببت أن تتوثّق من نفسك بما عرضت عليك، فوجّه إليّ من أحببت ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق. ما تأمن به وتطمئن إليه إن شاء والسلام. فأجابه محمد بن عبد الله: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى عبد الله ابن محمد: طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «3» . وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضت؛ فإنّ الحق معنا، وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم إليه بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليّا رحمه الله كان الإمام؛ فكيف ورثتم ولاية ولده، وقد علمتم أنه لم يطلب هذا الأمر أحد بمثل نسبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الظّئار «4» . ولا من أبناء الطلقاء «5» ؛ وأنه ليس يمتّ أحد بمثل ما نمتّ به من القرابة والسابقة

والفضل، وأنّا بنو أمّ أبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم؛ وإن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين أفضلهم. ومن السلف أوّلهم إسلاما عليّ بن أبي طالب، ومن النساء أفضلهنّ خديجة بنت خويلد، أول من صلى إلى القبلة منهنّ، ومن البنات فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ولدت الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنة صلوات الله عليهما؛ وإنّ هاشما ولد عليّا مرتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرتين، وإن النبي صلّى الله عليه وسلم ولدني مرتين، وإني من أوسط «1» بني هاشم نسبا وأشرفهم أبا وأمّا، ولم تعرق «2» فيّ العجم، ولم تنازع فيّ أمّهات الأولاد؛ فما زال الله بمنّه وفضله يختار لي الأمّهات في الجاهلية والإسلام، حتى اختار لي في النار. فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، ومن أهونهم عذابا في النار، وأبي خير أهل الجنة، وأبي خير أهل النار؛ فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار؛ فلك الله إن دخلت في طاعتي، وأحببت دعوتي، أن أؤمّنك على نفسك ومالك ودمك وكلّ أمر أحدثته، إلا حدّا من حدود الله، أو حقّ امريء مسلم أو معاهد؛ فقد علمت ما يلزمك في ذلك؛ وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد؛ لأنك لا تعطي من العهد أكثر مما أعطيت رجالا قبلي؛ فأيّ الأمانات تعطيني؟ أمان ابن هبيرة؟ أو أمان عمك عبد الله بن علي؟ أو أمان أبي مسلم؟ والسلام. فكتب إليه أبو جعفر المنصور: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حسن: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كلامك؛ فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء، لتضلّ به الغوغاء «3» ، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء؛ لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى.

ولو كان اختيار الله لهنّ على قدر قرابتهنّ، لكانت آمنة أقربهنّ رحما، وأعظمهنّ حقا، وأول من يدخل الجنة غدا؛ ولكن اختيار الله لخلقه على قدر علمه الماضي لهنّ؛ فأما ما ذكرت من فاطمة جدّة النبي صلّى الله عليه وسلم وولادتها لك، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها دين الإسلام، ولو أن أحدا من ولدها رزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله ابن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة؛ ولكن الأمر لله، يختار لدينه من يشاء، وقد قال جل ثناؤه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «1» . وقد بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأنزل الله عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» ؛ فدعاهم فأنذرهم؛ فأجابه اثنان، أحدهما أبي، وأبى عليه اثنان، أحدهما أبوك؛ فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينهما إلّا «3» ولا ذمّة ولا ميراثا. وقد زعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا، وابن خير الأشرار؛ وليس في الشر خيار، ولا فخر في النار، وسترد فتعلم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «4» . وأمّا ما فخرت به من فاطمة أمّ عليّ، وأنّ هاشما ولد عليّا مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولا عبد المطلب إلا مرة. وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبا، وأكرمهم أبا وأما، وأنك لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد؛ فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا «5» ، فانظر أين أنت- ويحك- من الله غدا؟ فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا؛ فخرت على إبراهيم ولد النبي صلّى الله عليه وسلم، وهل خيار ولد

أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما ولد منكم بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفضل من عليّ ابن الحسين وهو لأمّ ولد، وهو خير من جدك حسن بن حسن، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن على وجدّته أمّ ولد، وهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر، وهو خير منك، وجدّته أم ولد. وأما قولك: إنا بنو رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فإن الله يقول: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «1» ؛ ولكنكم بنو ابنته، وهي امرأة لا تحوز ميراثا، ولا ترث الولاية، ولا يحل لها أن تؤمّ؛ فكيف تورث بها إمامة؟ ولقد ظلمها أبوك بكل وجه؛ فأخرجها نهارا، ومرضها سرا، ودفنها ليلا؛ فأبى الناس إلا الشيخين لتفضيلهما؛ ولقد كانت السّنة التي لا اختلاف فيها أن الجدّ أبا الأم والخال والخالة، لا يرثون. وأما ما فخرت به من عليّ وسابقته، فقد حضرت النبي صلّى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد فما أخذوه؛ وكان في الستة من أصحاب الشورى، فتركوه كلهم؛ رفضه عبد الرحمن بن عوف، وقاتله طلحة والزبير، وأبي سعد بيعته وأغلق بابه دونه وبايع معاوية بعده؛ ثم طلبها بكل وجه، فقاتل عليها، ثم حكم الحكمين ورضي بهما وأعطاهما عهد الله وميثاقه، فاجتمعا على خلعه واختلفا في معاوية؛ ثم قام جدك الحسن فباعها بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمور إلى غير أهلها، وأخذ مالا من غير ولائه؛ فإن كان لكم فيها حق فقد بعتموه وأخذتم ثمنه؛ ثم خرج عمك الحسين على بن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه؛ ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زياد بأرض خراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصّبية والنساء وحملوهم كالسبي المجلوب إلى الشام.

مقتل محمد وإبراهيم:

حتى خرجنا عليهم، فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم وأموالهم؛ وأردنا إشراككم في ملكنا، فأبيتم إلا الخروج علينا؛ وظننت ما رأيت ذكرنا أباك وتفضيلنا إياه، لتقدّمه على العباس وحمزة وجعفر، وليس كما ظننت، ولكن هؤلاء سالمون، مسلّم منهم مجتمع بالفضل عليهم، وابتلى بالحرب أبوك، فكانت بنو أمية تلعنه على المنابر كما تلعن أهل الكفر في الصلاة المكتوبة؛ فاحتجينا له، وذكرنا فضله، وعنّفناهم، وظلمناهم فيما نالوا منه. وقد علمت أن المكرمة في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعباس من بين إخوته، وقد نازعنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بعد النبي صلّى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غير العباس وحده، فكان وارثه من بين إخوته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايتنا، وميراث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ميراثنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فضل ولا شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورّثه، والسلام. مقتل محمد وإبراهيم: فلما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، بايعه أهل المدينة وأهل مكة، وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في شهر رمضان، فاجتمع الناس إليه، فنهض إلى دار الإمارة وبها سفيان بن محمد بن المهلب فسلّم إليه البصرة بغير قتال؛ وأرسل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن إلى الأهواز جيشا فأخذها بعد قتال شديد، وأرسل جيشا إلى واسط فأخذها. ثم إن أبا جعفر المنصور جهز إليهم عيسى بن موسى، فخرج إلى المدينة، فلقيه محمد بن عبد الله، فانهزم بأصحابه وقتل. ثم مضى عيسى بن موسى إلى البصرة فلقى إبراهيم بن الحسن فقتله وبعث برأسه إلى أبي جعفر.

كتاب المنصور إلى ابن عبيدة:

كتاب المنصور إلى ابن عبيدة: وقال رجل من أهل مكة: كنا جلوسا مع عمر بن عبيد بالمسجد، فأتاه رجل بكتاب المنصور على لسان محمد بن عبد الله بن الحسن يدعوه إلى نفسه، فقرأه ثم وضعه؛ فقال الرسول: الجواب! فقال: ليس له جواب؛ قل لصاحبك يدعنا نجلس في الظل ونشرب من هذا الماء البارد حتى تأتينا آجالنا. المبيضة وأسر إسماعيل ابن علي وأخيه: مروان بن شجاع مولى بني أمية قال: كنت مع إسماعيل بن علي بفارس أؤدب ولده، فلما لقيته المبيّضة «1» فظفر بهم، أتى منهم بأربعمائة أسير؛ فقال له أخوه عبد الصمد، وكان على شرطته: اضرب أعناقهم! فقال: ما تقول يا مروان؟ فقلت: أصلح الله الأمير، أول من سنّ قتال أهل القبلة عليّ بن أبي طالب، فرأى أن لا يقتل أسير، ولا يجهز على جريح، ولا يتبع مولّ. قال: خذ بيعتهم وخلّ سبيلهم. محمد بن علي في قلة إخوته: قيل لمحمد بن علي بن الحسين: ما أقلّ ولد أبيك! قال: إني لأعجب كيف ولدت له! قيل له: وكيف ذلك؟ قال: إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة فمتى كان يتفرّغ للنساء. وصية المنصور لابن موسى في حرب بني عبد الله: ولما وجه المنصور عيسى بن موسى في محاربة بني عبد الله بن الحسن قال: يا أبا موسى، إذا صرت إلى المدينة فادع محمد بن عبد الله بن الحسن إلى الطاعة والدخول في الجماعة؛ فإن أجابك فاقبل منه، وإن هرب منك فلا تتبعه؛ وإن أبى إلا الحرب فناجزه «2» واستعن بالله عليه، فإذا ظفرت به فلا تخيفن أهل المدينة وعمّهم بالعفو؛ فإنهم الأصل والعشيرة، وذرية المهاجرين والأنصار، وجيران قبر النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فهذه

عيسى بن موسى ووصيته المنصور:

وصيتي إياك، لا كما أوصى بها يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة حين وجهه إلى المدينة وأمره أن يقتل من ظهر إلى ثنيّة الوداع، وأن يبيحها ثلاثة أيام، ففعل، فلما بلغ يزيد ما فعله تمثل بقول ابن الزبعرى في يوم أحد، حيث قال. ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «1» ثم اكتب إلى أهل مكة بالعفو عنهم والصفح، فإنهم آل الله وجيرانه وسكان حرمه وأمنه، ومنبت القوم والعشيرة، وعظماء البيت والحرم، لا تلحد فيه بظلم؛ فإنه حرم الله الذي بعث منه محمدا نبيه صلّى الله عليه وسلم، وشرف به آباءنا بتشريف الله إيانا؛ فهذه وصيتي، لا كما أوصى به الذي وجّه الحجاج إلى مكة، فأمره أن يضع المجانيق على الكعبة، وأن يلحد في الحرم بظلم، ففعل ذلك، فلما بلغه الخبر تمثل بقول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا عيسى بن موسى ووصيته المنصور: الرياشي قال: قال عيسى بن موسى: لما وجّهني المنصور إلى المدينة في حرب بني عبد الله بن الحسن، جعل يوصيني ويكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى كم توصيني؟ إني أنا السيف الحسام الهندي ... أكلت جفني وفريت غمدي «2» فكلّ ما تطلب مني عندي تفضيل معاوية للحسن: وقال معاوية يوما لجلسائه: من أكرم الناس أبا وأمّا، وجدّا وجدة، وعمّا وعمة، وخالا وخالة؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم. فأخذ بيد الحسن بن علي وقال: هذا؛ أبوه

لسديف في قتل المنصور لابني عبد الله:

علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة ابنة محمد، وجدّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجدّته خديجة، وعمه جعفر، وعمته هالة بنت أبي طالب، وخاله القاسم بن محمد، وخالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم. لسديف في قتل المنصور لابني عبد الله: الرياشي عن الأصمعي قال: لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فبايعه أهل المدينة وأهل مكة وخرج إبراهيم أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط- قال سديف بن ميمون في ذلك: إنّ الحمامة يوم الشّعب من حضن ... هاجت فؤاد محبّ دائم الحزن «1» إنا لنأمل أن ترتدّ ألفتنا ... بعد التباعد والشّحناء والإحن «2» وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فيها كأحكام قوم عابدي وثن فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إنّ الخلافة فيكم يا بني حسن لا عزّ ركن نزار عند نائبة ... إن أسلموك ولا ركن لذي يمن ألست أكرمهم يوما إذا انتسبوا ... عودا، وأنقاهم ثوبا من الدّرن «3» وأعظم الناس عند الله منزلة ... وأبعد الناس من عجز ومن أفن «4» فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استطير بها، فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سديفا فيدفنه حيّا، ففعل. الرياشي والبغدادي في مقتل سديف: قال الرياشي: فذكرت هذه الأبيات لأبي جعفر، شيخ من أهل بغداد، فقال: هذا باطل؛ الأبيات لعبد الله بن مصعب، وإنما كان سبب قتل سديف أنه قال أبياتا

مبهمة، وكتب بها إلى أبي جعفر وهي هذه: أسرفت في قتل الرّعيّة ظالما ... فاكفف يديك أضلّها مهديّها فلتأتينّك راية حسنيّة ... جرّارة يقتادها حسنيّها فالتفت أبو جعفر، فقال لحازم بن خزيمة: تهيأ بهيئة السفر متنكرا، حتى إذا لم يبق إلا أن تضع رجلك في الغرز «1» ائتني، ففعل، فقال: إذا أتيت المدينة فادخل مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، فدع سارية؛ وثانية فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدم يكثر التلفت، طويل كبير، فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب، واذكر شدّة الزمان عليهم، ثلاثة أيام؛ ثم قل في الرابع: من يقول هذه الأبيات؟ أسرفت في قتل الرّعيّة ظالما قال: ففعل، فقال له الشيخ: إن شئت نبأتك من أنت؟ أنت حازم بن خزيمة، بعثك إليّ أمير المؤمنين لتعرف من قال هذا الشعر؛ فقل له: جعلت فداك، والله ما قلته ولا قاله إلا سديف بن ميمون، فإني أنا القائل وقد دعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد الله: دعوني وقد سالت لإبليس راية ... وأوقد للغاوين نار الحباحب «2» أبالّليث تعترّون يحمي عرينه ... وتلقون جهلا أسده بالثعالب فلا نفعتني السّنّ إن لم يؤزكم ... ولا أحكمتني صادقات التجارب «3» قال: وإذا الشيخ إبراهيم بن هرمة. قال: فقدمت على المنصور فأخبرته الخبر، فكتب إلى عبد الصمد بن علي، وكان سديف في حبسه، فأخذه فدفنه حيا.

ابن عبد الحميد وابن أبي حفصة:

ابن عبد الحميد وابن أبي حفصة: قال الرياشي: سمعت محمد بن عبد الحميد يقول: قلت لابن أبي حفصة: ما أغراك ببني علي؟ قال: ما أحد أحبّ إليّ منهم، ولكني لم أجد شيئا أنفع عند القوم منه. هشام وزيد بن علي: لما دخل زيد بن علي بن أبي طالب على هشام، قال: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها لأنك ابن أمة! قال: أما قولك: إني أحدّث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله. وأما قولك: إني ابن أمة، فهذا إسماعيل بن أمة، أخرج الله من صلبه محمدا صلّى الله عليه وسلم؛ وإسحاق ابن حرّة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير وعبد الطاغوت! وخرج من عنده فقال: ما أحبّ أحد الحياة إلا ذلّ. فقال له الحاجب: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وقال زيد بن علي عند خروجه من عند هشام بن عبد الملك: شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد «1» محتفي الرّجلين يشكو الوجا ... تقرعه أطراف مرو حداد «2» قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد ثم خرج بخراسان فقتل وصلب. وفيه يقول سديف لأبي العباس يغريه ببني أمية حيث يقول: واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس «3» يريد إبراهيم الإمام، أخا أبي العباس.

باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن هشام وشيخ في علي ابن أبي طالب: عوانة بن الحكم قال: حج محمد بن هشام، ونزلت رفقه، فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه «1» الناس وهو يأمر وينهى؛ فقال محمد بن هشام لمن حوله: تجدون الشيخ عراقيا فاسقا! فقال له بعض أصحابه: نعم، وكوفيا منافقا! فقال محمد، عليّ به. فأتي بالشيخ، فقال له: أعراقيّ أنت؟ قال له: نعم عراقي. قال: وكوفيّ؟ قال: وكوفي. قال: وترابيّ؟ قال: وترابي، من التراب خلقت، وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوى أبا تراب؟ قال: ومن أبو تراب؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: أتعني ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة ابنته، وأبا الحسن والحسين؟ قال: نعم، فما قولك فيه؟ قال: قد رأيت من يقول خيرا ويحمد، ورأيت من يقول شرا ويذم. قال: فأيهما أفضل عندك: أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن عليا جاء بوزن الجبال حسنات ما نفعني، ولو جاء بوزنها سيئات ما ضرّني؛ وعثمان مثل ذلك. قال: فاشتم أبا تراب! قال: أو ما ترضى مني بما رضي به من هو خير منك ممن هو خير مني فيمن هو شر من عليّ؟ قال: وما ذاك؟ قال: رضيّ الله وهو خير منك، من عيسى وهو خير مني، في النصارى وهم شر من عليّ، إذ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» . حمزة وابن له في علي: الرياشي قال: انتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير عليا، فقال له أبوه: يا بني إنه والله ما بنت الدنيا شيئا إلا هدمه الدّين، وما بنى الدين شيئا فهدمته الدنيا؛ أما ترى عليا وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر فكأنما والله يأخذون

الوليد وشعر الفضل في علي:

بناصيته رفعا إلى السماء، وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس؛ فكأنما يكشفون عن الجيف! الوليد وشعر الفضل في علي: قدم الوليد مكة فجعل يطوف بالبيت والفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يستقي من زمزم وهو يقول: يأيها السائل عن عليّ ... تسأل عن بدر لنا بدريّ مردّد في المجد أبطحيّ ... سائلة غرّته مضيّ «1» فلم ينكر عليه أحد. لمسلمة في جعفر: العتبي قال: قيل يوما لمسلمة بن هلال العبدي: خطب جعفر بن سليمان الهاشمي خطبة لم يسمع مثلها قط، وما درينا أوجهه كان أحسن أم كلامه! قال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون «2» ، وبلسان النبوّة ينطقون. وكتب عوام صاحب أبي نواس إلى بعض عمال ديار ربيعة: بحقّ النبيّ بحق الوصيّ ... بحق الحسين بحق الحسن بحق التي ظلمت حقّها ... ووالدها خير ميت دفن ترفّق بأرزاقنا في الخرا ... ج بترفيهها وبحطّ المؤن قال: فأسقط عنه الخراج طول ولايته. احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل عليّ إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إليّ يحيى بن أكثم وإلى

عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضي القضاة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه «1» ما يقال له ويحسن الجواب؛ فسمّوا من تظنّونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمّينا له عدة، وذكر هو عدة، حتى تم العدد الذي أراد، وكتب تسمية القوم، وأمر بالبكور «2» في السحر، وبعث إلى من لم يحضر، فأمره بذلك؛ فغدونا عليه قبل طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا، فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب، فإذا بخادم واقف؛ فلما نظر إلينا قال: يا أبا محمد، أمير المؤمنين ينتظرك. فأدخلنا، فأمرنا بالصلاة فأخذنا فيها، فلم نستتم حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا. فدخلنا فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه، وعليه سواده وطيلسانه «3» والطويلة وعمامته، فوقفنا وسلّمنا، فردّ السلام وأمر لنا بالجلوس، فلما استقرّ بنا المجلس انحدر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته «4» ، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك، وأما الخفّ فمنع من خلعه علة، من قد عرفها منكم فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسأعرّفه بها. ومدّ رجله وقال: انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم. قال: فأمسكنا، فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين. فتنحينا فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانسنا ورجعنا؛ فلما استقر بنا المجلس قال: إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة، فمن كان به شيء من الأخبثين «5» لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يقول؛ فمن أراد منكم الخلاء فهناك. وأشار بيده، فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه، فقال: يا محمد، قل، وليقل القوم من بعدك. فأجابه يحيى، ثم الذي يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرنا، في العلة

وعلة العلة؛ وهو مطرق لا يتكلم، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يردّ على كل واحد منا مقالته، ويخطّىء بعضنا ويصوّب بعضنا؛ حتى أتى على آخرنا، ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببت أن أنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين الله به. قلنا: فليفعل أمير المؤمنين وفقه الله. فقال: إن أمير المؤمنين يدين الله على أنّ عليّ بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله صلّى الله عليه وسلم وأولى الناس بالخلافة له. قال إسحاق: فقلت يا أمير المؤمنين، إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة. فقال يا إسحاق، اختر، إن شئت سألتك أسألك، وإن شئت أن تسأل فقل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سل. قلت: من أين قال أمير المؤمنين إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق، خبّرني عن الناس: بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟ قلت: بالأعمال الصالحة: قال: صدقت، قال: فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله- أيلحق به؟ قال: فأطرقت، فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم؛ فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة. فقلت أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الفاضل أبدا. قال: يا إسحاق، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل عليّ بن أبي طالب؛ فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي، فقل إنه أفضل منه، لا والله، ولكن فقس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده، فقل إنهما أفضل منه؛ ولا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتها مثل فضائل عليّ، فقل إنهم أفضل منه؛ لا والله، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم

بالجنة، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه. قال: يا إسحاق، أيّ الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟ قلت: الإخلاص بالشهادة. قال: أليس السبق إلى الإسلام؟ قلت: نعم. قال: اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «1» ، إنما عنى من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحدا سبق عليّا إلى الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل، ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: عليّ أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة. فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم: لا يخلو من أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما من الله؟ قال: فأطرقت؛ فقال لي: يا إسحاق؛ لا تقل إلهاما فتقدّمه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّ رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى. قلت: أجل، بل دعاه رسول الله إلى الإسلام. قال: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلّف ذلك من نفسه؟ قال: فأطرقت، فقال: يا إسحاق، لا تنسب رسول الله إلى التكلف؛ فإن الله يقول: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «2» . قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر الله. قال: فهل من صفة الجبار جل ثناؤه أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟ قلت: أعوذ بالله! فقال: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق: «إن عليا أسلم صبيّا لا يجوز عليه الحكم» قد كلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهو يدعوهم الساعة ويرتدّون بعد ساعة، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء ولا يجوز عليهم حكم الرسول عليه السلام، أترى هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى الله عزّ وجلّ؟ قلت: أعوذ بالله! قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضّل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّا على هذا الخلق، أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله، ولو كان

الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟ قلت: بلى. قال: فهل بلغك أن الرسول صلّى الله عليه وسلم دعا أحدا من الصبيان من أهله وقرابته- لئلا تقول إن عليا ابن عمه-؟ قلت: لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل. قال: يا إسحاق، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟ قلت: لا. قال: فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك. قال: ثم أيّ الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل الله. قال: صدقت، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تجد لعلي في الجهاد؟ قلت: في أي وقت؟ قال: في أي الأوقات شئت! قلت: بدر؟ قال: لا أريد غيرها؛ فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر؟ أخبرني: كم قتلى بدر؟ قلت: نيف وستون رجلا من المشركين. قال: فكم قتل عليّ وحده؟ قلت: لا أدري. قال: ثلاثة وعشرين، أو اثنين وعشرين؛ والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عريشه «1» . قال: يصنع ماذا؟ قلت: يدبّر، قال: ويحك! يدبّر دون رسول الله أو معه شريكا، أو افتقارا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يكون معه شريكا، أو أن يكون برسول الله صلّى الله عليه وسلم افتقار إلى رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كلّ الجيش كان مجاهدا. قال: صدقت، كل مجاهد؛ ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الجالس، أفضل من الجالس؛ أما قرأت كتاب الله: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً «2» . قلت: وكان أبو بكر وعمر مجاهدين قال: فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال:

فكذلك! سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر، قلت: أجل. قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: اقرأ عليّ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً «1» فقرأت منها حتى بلغت: يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً «2» إلى قوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً «3» قال: على رسلك؛ فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلت: في عليّ. قال: فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والأسير. قال إنما نطعمكم لوجه الله؟ وهل سمعت الله وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليا؟ قلت: لا. قال: صدقت! لأن الله جل ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق، ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أنّ رجلا قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا، ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله: أكان عندك كافرا؟ قلت: أعوذ بالله! قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا، كان كافرا؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقا. يا إسحاق، أتروي الحديث؟ قلت: نعم. قال: فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدّثني به. قال: فحدّثته الحديث، فقال: يا إسحاق، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق، فأمّا الآن فقد بان لي عنادك؛ إنك توقن أن هذا الحديث صحيح. قلت: نعم؛ رواه من لا يمكنني ردّه. قال: أفرأيت من أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحدا أفضل من عليّ- لا يخلو من إحدى ثلاثة: من أن تكون دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده مردودة عليه، أو أن يقول عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه، أو أن يقول إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول؛ فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول؟ فأطرقت ... ثم قال: يا إسحق، لا تقل منها شيئا؛ فإنك إن قلت منها شيئا استنبتك «4» ؛ وإن كان للحديث عندك

تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله. قلت: لا أعلم، وإن لأبي بكر فضلا. قال: أجل، لولا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه؛ فما فضله الذي قصدت له الساعة؟ قلت: قول الله عز وجل: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «1» ؛ فنسبه إلى صحبته. قال: يا إسحاق، أما إني لا أحملك على الوعر من طريقك؛ إني وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضي عنه كافرا، وهو قوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً «2» . قلت: إن ذلك صاحب كان كافرا، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة من رضيه كافرا، جاز أن ينسب إلى صحبة نبيه مؤمنا، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث. قلت: يا أمير المؤمنين، إن قدر الآية عظيم، إن الله يقول: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «3» ! قال: يا إسحاق، تأبى الآن إلا أن أخرج إلى الاستقصاء عليك! أخبرني عن حزن أبي بكر: أكان رضا أم سخطا؟ قلت: إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم خوفا عليه وغما، أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضا، أم سخط. قلت: بل كان رضا لله. قال: فكأن الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضا الله عز وجل وعن طاعته! قلت: أعوذ بالله! قال: أوليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا لله؟ قلت: بلى. قال: أولم تجد أن القرآن يشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تحزن» ، نهيا له عن الحزن؟ قلت: أعوذ بالله! قال: يا إسحاق، إن مذهبي الرفق بك، لعل الله يردّك إلى الحق ويعدك بك عن الباطل، لكثرة ما تستعيذ به. وحدّثني عن قول الله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ «4» ، من عنى بذلك؛ رسول الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول الله. قال: صدقت!

قال: حدّثني عن قول الله عز وجل: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ «1» إلى قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ «2» . أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضوع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين؛ قال: الناس جميعا انهزموا يوم حنين، فلم يبق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله من جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظّفر؛ فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حضره من بني هاشم، قال: فمن أفضل: من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينة. قال: يا إسحاق، من أفضل: من كان معه في الغار، أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه، حتى تمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليّا بالنوم على فراشه، وأن يقي «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه؛ فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فبكى عليّ رضي الله عنه؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عليّ، أجزعا من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفا عليك؛ أفتسلم يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتى مضجعه واضطجع، وتسجّى «4» بثوبه، وجاء المشركون من قريش فحفّوا «5» به، لا يشكّون أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف، لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه؛ وعليّ يسمع ما القوم فيه من إتلاف نفسه، ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار؛ ولم يزل عليّ صابرا محتسبا؛ فبعث الله ملائكته

فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح، فلما أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا مغرّرا بنفسك منذ ليلتنا، فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد، ولا ينقص، حتى قبضه الله إليه. يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروه، ففعلت قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي، وأنكر ولاء علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه؛ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» . قال: في أي موضع قال هذا، أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟ قلت: أجل. قال: فإنّ قتل زيد بن حارثة قبل الغدير؛ كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني: لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي، أيها الناس فاعلموا ذلك؛ أكنت منكرا ذلك عليه: تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟ فقلت: اللهم نعم، قال: يا إسحاق، أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ويحكم! لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم «1» ؛ إن الله جل ذكره قال في كتابه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «2» . ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم؛ يا إسحاق، أتروي حديث: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعته وسمعت من صحّحه وجحده. قال: فمن أوثق عندك: من سمعت منه فصحّحه، أو من جحده؟ قلت: من صحّحه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلم مزح بهذا القول؟ قلت: أعوذ بالله! قال: فقال قولا لا معنى له فلا يوقف عليه؟ قلت: أعوذ بالله! قال: أفما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمّه؟ قلت: بلى. قال: فعليّ أخو رسول الله لأبيه وأمّه؟ قلت: لا. قال: أو ليس هارون كان نبيّا وعليّ غير نبيّ؟ قلت: بلى.

قال: فهذان الحالان معدومان في عليّ وقد كانا في هارون؛ فما معنى قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؟ قلت له: إنما أراد أن يطّيب بذلك نفس عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالا له. قال: فأراد أن يطيّب نفسه بقول لا معنى له؟ قال: فأطرقت، قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب الله بيّن. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حكاية عن موسى أنه قال لأخيه هارون: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «1» . قلت: يا أمير المؤمنين، إن موسى خلف هارون في قومه وهو حيّ، ومضى إلى ربه، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلّف عليّا كذلك حين خرج إلى غزاته. قال: كلا، ليس كما قلت؛ أخبرني عن موسى حين خلف هارون: هل كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين خرج إلى عزاته: هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان؛ فأنّي يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه، لا يقدر أحد أن يحتج فيه، ولا أعلم أحدا احتج به وأرجو أن يكون توفيقا من الله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حين حكى عن موسى قوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً «2» «فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى: وزيري من أهلي، وأخي، شدّ الله به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبح الله كثيرا، ونذكره كثيرا» فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئا غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي صلّى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له؟ قال: فطال المجلس وارتفع النهار؛ فقال يحيى بن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به الخير، وأثبت ما يقدر أحد أن يدفعه. قال إسحق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه

المساحقي والدعوة إلى المأمون:

الله، فقال: والله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال اقبلوا القول من الناس، ما كنت لأقبل منكم القول؛ اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجت الأمر من عنقي، اللهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب عليّ وولايته! المساحقي والدعوة إلى المأمون: وكتب المأمون إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي عامله على المدينة، أن اخطب الناس وادعهم إلى بيعة الرضا عليّ بن موسى، فقام خطيبا فقال: يا أيها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون؛ هذا عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، ستة آباءهم ما هم، من خير من يشرب صوب «1» الغمام. المأمون والرضى: وقال المأمون لعلي بن موسى: علام تدّعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم من أهل بيته من هو أقرب إليه من عليّ، أو من هو في قعدده «2» ، وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، فإن الأمر بعدها للحسن والحسين، فقد ابتزّهما عليّ حقهما وهما حيّان صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه. فلم يجد عليّ بن موسى له جوابا.

باب من أخبار الدولة العباسية

باب من أخبار الدولة العباسية علي ومعاوية في مولود لابن عباس: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه: ما بال أبي العباس لم يحضر؟ قالوا: ولد له مولود فلما صلى عليّ الظهر قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه فقال له: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب؛ فما سمّيته؟ قال: لا يجوز لي أن أسميه حتى تسمّيه أنت. فأمر به فأخرج إليه، فأخذه فحنّكه «1» ودعا له ورده، وقال: خذه إليك أبا الأملاك، وقد سميته عليّا وكنيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاوية قال لابن عباس: لك اسمه وقد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه. من أخبار علي ابن عبد الله ابن عباس: وكان عليّ سيدا شريفا عابدا زاهدا، وكان يصلي في كل يوم ألف ركعة، وضرب مرتين، كلتاهما ضربه الوليد، فإحداهما في تزوّجه لبابة بنت عبد الله بن جعفر؛ وكانت عند عبد الملك بن مروان، فعض تفاحة ورمى بها إليها، وكان أبخر «2» ؛ فدعت بسكين، فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط «3» عنها الأذى! فطلقها، فتزوجها عليّ بن عبد الله بن عباس، فضربه الوليد وقال: إنما تتزوج أمهات أولاد الخلفاء لتضع منهم- لأن مروان بن الحكم إنما تزوج أم خالد بن يزيد ليضع منه- فقال علي بن عبد الله بن عباس: إنما أرادت الخروج من هذه البلدة، وأنا ابن عمها، فتزوجتها لأن أكون لها محرما. وأما ضربه إياه في المرة الثانية، فإن محمد بن يزيد قال: حدثني من رآه مضروبا يطاف به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد

زواج علي بن عبد الله:

الله الكذاب! قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب؟ قال: بلغهم أني أقول: هذا الأمر سيكون في ولدي وو الله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم، الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأن وجوههم المجانّ «1» المطرقة. وفي حديث آخر أن علي بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه: أبو العباس، وأبو جعفر؛ فشكا إليه دينا لزمه، فقال له: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفا. فأمر له بقضائه، فشكر له عليه، وقال له وصلت رحما، وأنا أريد أن تستوصي بابنيّ هذين خيرا. قال: نعم. فلما تولى قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخ قد هتر «2» وأسنّ وخولط «3» ، فصار يقول إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه علي بن عبد الله بن العباس، فقال: والله ليكونن ذلك، وليملكنّ ابناي هذان ما تملكه. زواج علي بن عبد الله: قال محمد بن يزيد: وحدثني جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي قال: حضر علي بن عبد الله مجلس عبد الملك بن مروان، وكان مكرما له، وقد أهديت له من خراسان جارية وفص خاتم وسيف، فقال: يا أبا محمد، إن حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحدا. فاختار الجارية، وكانت تسمى سعدى، وهي من سبى الصغد من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان بن علي، وصالح بن علي. وذكر جعفر بن عيسى أنه لما أولدها سليمان اجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدري خرج عليه، فانصرف عليّ من مصلّاه، فإذا بها على فراشه! فقال: مرحبا بك يا أم سليمان: فوقع عليها فأولدها صالحا، فاجتنبت فراشه، فسألها عن ذلك، فقالت: خفت أن يموت سليمان في مرضه، فينقطع النسب بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فالآن

وصية علي لابنيه سليمان وصالح:

إذ ولدت صالحا فبالحري إن ذهب أحدهما بقي الآخر، وليس مثلي وطيئة الرجال. وزعم جعفر أنه كانت في سليمان رتّة «1» ، وفي صالح مثلها، وأنها موجودة في آل سليمان وصالح. وصية علي لابنيه سليمان وصالح: وكان علي يقول: أكره أن أوصى إلى محمد ولدي- وكان سيد ولده وكبيرهم- فاشينه بالوصية. فأوصى إلى سليمان، فلما دفن عليّ جاء محمد إلى سعدى ليلا، فقال: أخرجي لي وصية أبي قالت: إن أباك أجلّ من أن تخرج وصيته ليلا، ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غدا عليه سليمان بالوصية، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك. فقال: جزاك الله من ابن وأخ خيرا، ما كنت لأثرّب «2» على أبي موته كما لم أثرّب عليه في حياته. وصاة معاوية في موته: العتبي عن أبيه عن جده قال: لما اشتكى معاوية شكاته التي هلك فيها، أرسل إلى ناس من جملة بني أمية ولم يحضرها سفيانيّ غيري وغير عثمان بن محمد؛ فقال: يا معشر بني أمية، إني لما خفت أن يسبقكم الموت إليّ سبقته بالموعظة إليكم، لا لأردّ قدرا، ولكن لأبلغ عذرا، إن الذي أخلّف لكم من دنياي أمر ستشاركون فيه وتغلبون عليه، والذي أخلّف لكم من رأي أمر مقصور لكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيّعتموه؛ إن قريشا شاركتكم في أنسابكم، وانفردتم دونها بأفعالكم، فقدمكم ما تقدّمتم له، إذ أخر غيركم ما تأخروا عنه؛ ولقد جهل «3» بي فحلمت ونقر «4» لي ففهمت حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم

شبيب وعبد الله:

كنظري إلى آبائهم قبلهم؛ إن دولتكم ستطول، وكلّ طويل مملول؛ وكلّ مملول مخذول، فإذا كان ذلك كذلك، كان سببه اختلافكم فيما بينكم، واجتماع المخلفين عليكم، فيدبر الأمر بضدّ ما أقبل له، فلست أذكر جسيما يركب منكم ولا قبيحا ينتهك فيكم، إلا والذي أمسك عن ذكره أكثر وأعظم؛ ولا معوّل عليه عند ذلك أفضل من الصبر واحتساب الأجر، فيمادكم القوم دولتهم امتداد العنانين في عنق الجواد، حتى إذا بلغ الله بالأمر مداه، وجاء الوقت المبلول بريق النبي صلّى الله عليه وسلم، مع الخلقة المطبوعة على ملالة الشيء المحبوب، كانت الدولة كالإناء «1» المكفأ فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتقه غيركم فيكم، فجعل العاقبة لكم، والعاقبة للمتقين. قال عمرو بن عتبة: فدخلت عليه يوما آخر فقال: يا عمرو، أوعيت كلامي؟ قلت: وعيت. قال: أعد عليّ كلامي، فلقد كلمتكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك. شبيب وعبد الله: قال شبيب بن شيبة الأهتمي حججت عام هلك هشام وولي الوليد بن يزيد، وذلك سنة خمس وعشرين ومائة، فبينما أنا مريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبواب المسجد فتى أسمر رقيق السّمرة، موفر الّلمّة «2» ، خفيف الّلحية، رحب الجبهة، أقنى «3» بين القنا، أعين كأن عينيه لسانان ينطقان، يخلق أبّهة الأملاك بزي النساك، تقبله القلوب، وتنبعه العيون، يعرف الشرف في تواضعه والعتق في صورته، والّلب في مشيته؛ فما ملكت نفسي أن نهضت في أثره سائلا عن خبره، وسبقني فتحرّم بالطواف، فلما سبّع قصد المقام فركع، وأنا أرعاه ببصري، ثم نهض

منصرفا، فكأن عينا أصابته، فكبا «1» كبوة دميت لها أصبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوت منه متوجعا لما ناله، متصلا به، أمسح رجله من عفر التراب، فلا يمتنع علي، ثم شققت حاشية ثوبه فعصبت بها أصبعه وما ينكر ذلك ولا يدفعه، ثم نهض متوكئا عليّ، وانقدت له أماشيه، حتى إذا أتى دارا بأعلى مكة ابتدره رجلان تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب فدخل واجتذبني فدخلت بدخوله؛ ثم خلى يدي وأقبل على القبلة، فصلى ركعتين أوجز فيهما في تمام، ثم استوى في صدر مجلسه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم يخف عليّ مكانك منذ اليوم ولا فعلك بي؛ فمن تكون يرحمك الله؟ قلت: شبيب بن شيبة التميمي، قال: الأهتمي؟ قلت: نعم. قال: فرحّب وقرّب، ووصف قومي بأبين بيان وأفصح لسان، فقلت له: أنا أجلك- أصلحك الله- عن المسألة، وأحبّ المعرفة! فتبسم وقال: لطف أهل العراق! أنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فقلت: بأبي أنت وأمي، ما اشبهك بنسبك وأدلّك على منصبك! ولقد سبق إلى قلبي من محبتك ما لا أبلغه بوصفي لك! قال: فاحمد الله يا أخا بني تميم فإنّا قوم إنما يسعد الله بحبّنا من أحبّه؛ ويشقي ببغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمان إلى قلب أحدكم حتى يحب الله ويحب رسوله؛ ومهما ضعفنا عن جزائه قوي الله على أدائه. فقلت له: أنت توصف بالعلم وأنا من حملته، وأيام الموسم ضيقة، وشغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء أحبّ أن أسأل عنها؛ أفتأذن لي فيها جعلت فداك؟ قال: نحن من أكثر الناس مستوحشون، وأرجو أن تكون للسرّ موضعا، وللأمانة واعيا؛ فإن كنت كما رجوت فافعل. قال: فقدّمت من وثائق القول والأيمان ما سكن إليه، فتلا قول الله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «2» . ثم قال: سل عما بدالك.

قلت: ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي خال الوليد؛ فتنفس الصعداء وقال: عن الصلاة خلفه تسألني، أم كرهت أن يتأمّر على آل الله من ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم؛ فأما الصلاة ففرض لله تعبّد به خلقه، فأدّ ما فرض الله تعالى عليك في كل وقت مع كلّ أحد وعلى كل حال؛ فإن الذي ندبك لحجّ بيته وحضور جماعته وأعياده لم يخبرك في كتابه بأنه لا يقبل منك نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا، رحمة منه لك؛ ولو فعل ذلك بك ضاق الأمر عليك؛ فاسمح يسمح «1» لك. قال: ثم كررت في السؤال عليه، فما احتجت أن أسأل عن أمر دين أحدا بعده. ثم قلت: يزعم أهل العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شك فيها، تطلع طلوع الشمس وتظهر ظهورها؛ فنسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرّها؛ فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها. قلت: أو يتخلف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قوم يأبون إلا الوفاء لمن اصطنعهم، ونأبى إلا طلبا بحقنا، فننصر ويخذلون، كما نصر بأوّلنا أوّلهم، ويخذل بمخالفتنا من خالف منهم قال: فاسترجعت، فقال: سهل عليك الأمر سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا «2» . وليس ما يكون لهم بحاجز لنا عن صلة أرحامهم وحفظ أعقابهم وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال: نحن قوم حبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا؛ وبغّض إلينا الغدر وإن كان لنا، وإنما يشذّ عنا منهم الأقل؛ فأما أنصار دولتنا ونقباء شيعتنا وأمراء جيوشنا فهم مواليهم، وموالي القوم من أنفسهم؛ فإذا وضعت الحرب أوزارها صفحنا بالمحسن عن المسيء، ووهبنا للرجل قومه ومن اتصل بأسبابه؛ فتذهب النّائرة «3» ، وتخبو الفتنة، وتطمئن القلوب. قلت، ويقال، إنه يبتلي بكم من أخلص لكم المحبة. قال: قد روى: إن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره «4» . قلت: لم أرد هذا. قال: فمه؟ قلت: تعقّون

الوليّ وتحظون العدوّ! قال: من يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يسلم لنا من الأعداء أقلّ وأيسر؛ وإنما نحن بشر وأكثرنا أذن «1» ، ولا يعلم الغيب إلا الله، وربما استترت عنا الأمور فنقع بما لا نريد وإن لنا لإحسانا يأسو الله به ما نكلم، ويرمّ به ما نثلم، ونستغفر الله مما لا نعلم، وما أنكرت من أن يكون الأمر على ما بلغك، مع الوليّ التعزز والإدلال، والثقة والاسترسال؛ ومع العدو التحرّز والاحتيال، والتذلل والاغتيال، وربما أملّ المدل، وأخلّ المسترسل، وتجانب المتقرّب؛ ومع المقة «2» تكون الثقة؛ على أن العاقبة لنا على عدوّنا، وهي لولينا؛ وإنك لسئول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم! قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قريب إن شاء الله تعالى! قلت: عجّل الله ذلك. قال: آمين. قلت: ووهب لي السلامة منكم فإني من محبيكم! قال: آمين. وتبسم وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدح في الدين، أو هتك للملك، أو تهمة في حرمة، ثم قال: احفظ عني ما أقول لك، أصدق وإن ضرّك الصّدق، وانصح وإن باعدك النّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أحظيناه، فإنه مخذول؛ ولا تخذل ولينا، فإنه منصور؛ واصبحنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تسخف فيمقتوك، ولا تنقبض فيتحشموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال؛ وأنا رائح من عشيّتي هذه؛ فهل من حاجة؟ فنهضت لوداعه فودعته، ثم قلت: أترقّب لظهور الأمر وقتا؟ قال: الله المقدّر الموقّت، فإذا قامت النّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العام، وموت محمد بن علي مستهلّ ذي القعدة، وعليه أخلفت وما بلغتكم حتى أنضيت، قلت: فهل أوصى؟ قال: نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت إذا مولى له يتبعني، حتى عرف منزلي، ثم أتاني بكسوة من

الأحوص وأيمن وابن حزم مع الوليد:

كسوته، فقال: يأمرك أبو جعفر أن تصلي في هذه. قال: وافترقنا. قال: فو الله ما رأيته إلا وحرسيان «1» قابضان عليّ يدنياني منه في جماعة من قومي لأبايعه، فلما نظر إليّ اثبتني، فقال: خليا عمن صحّت مودته، وتقدّمت حرمته، وأخذت قبل اليوم بيعته. قال: فأكبر الناس ذلك من قوله، ووجدته على أول عهده لي؛ ثم قال لي: أين كنت عني في أيام أخي أبي العباس؟ فذهبت أعتذر، قال: أمسك؛ فإن لكل شيء وقتا لا يعدوه، ولن يفوتك إن شاء الله حظّ مودتك وحق مسابقتك، فاختر بين رزق يسعك، أو عمل يرفعك. قلت: أنا حافظ لوصيتك! قال: وأنا لها أحفظ، إنما نهيتك أن تخطب الأعمال ولم أنهك عن قبولها. قلت: الرزق مع قرب أمير المؤمنين أحبّ إليّ. قال: ذلك لك وهو أجمّ «2» لقلبك وأودع لك، وأعفى إن شاء الله. ثم قال: هل زدت في عيالك بعدي شيئا؟ وكان قد سألني عنهم، فذكرتهم له فعجبت من حفظه. قلت: الفرس والخادم. قال: قد ألحقنا عيالك بعيالنا، وخادمك بخادمنا، وفرسك بخيلنا، ولو وسعني لحملت إليك من بيت المال، وقد ضممتك إلى المهدي، وأنا أوصيه بك، فإنه أفرغ لك مني. الأحوص وأيمن وابن حزم مع الوليد: قال الأحوص بن محمد الشاعر الأنصاري، من بني عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الذي حمت لحمه الدّبر «3» ، يشبّب بامرأة يقال لها أمّ جعفر، فقال فيها: أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور

وكان لأمّ جعفر أخ يقال له أيمن، فاستعدى عليه ابن حزم الأنصاري وهو والي المدينة للوليد بن عبد الملك- وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم- فبعث ابن حزم إلى الأحوص فأتاه، وكان ابن حزم يبغضه؛ فقال: ما تقول فيما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنك تشبّب بأخته وقد فضحته وشهرت أخته بالشعر. فأنكر ذلك، فقال لهما: قد اشتبه عليّ أمركما، ولكني أدفع إلى كل واحد منكما سوطا، ثم اجتلدا! وكان الأحوص قصيرا نحيفا؛ وكان أيمن طويلا ضخما جلدا، فغلب أيمن الأحوص فضربه حتى صرعه «1» وأثخنه؛ فقال أيمن: لقد منع المعروف من أمّ جعفر ... أشمّ طويل الساعدين غيور علاك بمتن السّوط حتى اتّقيته ... بأصفر من ماء الصّفاق يفور «2» قال: فلما رأى الأحوص تحامل ابن حزم عليه، امتدح الوليد ثم شخص إليه إلى الشام، فدخل عليه فأنشده: لا ترثينّ لحزميّ رأيت به ... ضرّا، ولو ألقي الحزميّ في النار الناخسين لمروان بذي خشب ... المدخلين على عثمان في الدار «3» قال له: صدقت والله، لقد كنا غفلنا عن حزم وآل حزم. ثم دعا كاتبه فقال: اكتب عهد عثمان بن حيان المرّي على المدينة، واعزل ابن حزم، واكتب بقبض أموال حزم وآل حزم وإسقاطهم أجمعين من الديوان، ولا يأخذوا لأموي عطاء أبدا. ففعل ذلك، فلم يزالوا في الحرمان للعطاء مع ذهاب الأموال والضياع، حتى انقضت دولة بني أمية وجاءت دولة بن العباس؛ فلما قام أبو جعفر المنصور بأمر الدولة، قدم عليه أهل المدينة، فجلس لهم، فأمر حاجبه أن يتقدم إلى كلّ رجل منهم أن ينتسب له إذا قام بين يديه؛ فلم يزالوا على ذلك يفعلون، حتى دخل عليه رجل قصير قبيح

ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم وحجابهم

الوجه، فلما مثل بين يديه قال له: يا أمير المؤمنين، أنا ابن حزم الأنصاري الذي يقول فينا الأحوص: لا ترثين لحزميّ رأيت به ... ضرا ولو ألقي الحزميّ في النار الناخسين لمروان بذي خشب ... والمدخلين على عثمان في الدار ثم قال: يا أمير المؤمنين، حرمنا العطاء منذ سنين، قبضت أموالنا وضياعنا فقال له المنصور: أعد عليّ البيتين. فأعادهما عليه، فقال: أما والله لئن كان ذلك ضرّكم في ذلك الحين لينفعنّكم اليوم! ثم قال: عليّ بسليمان الكاتب. فأتاه أبو أيوب الخوزي، فقال: اكتب إلى عامل المدينة أن يردّ جميع ما اقتطعه بنو أمية من ضياع بني حزم وأموالهم، ويحسب لهم ما فاتهم من عطائهم، وما استغلّ من غلاتهم من يومئذ إلى اليوم؛ فيخلف لهم جميع ذلك من ضياع بني مروان، ويفرض لكل واحد منهم في شرف العطاء- وكان شرف العطاء يومئذ مائتي ألف دينار في السنة- ثم قال: عليّ الساعة بعشرة آلاف درهم تدفع إلى هذا الفتى لنفقته. فخرج الفتى من عنده بما لم يخرج به أحد ممن دخل عليه. ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم وحجابهم أبو العباس السفاح ولد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب مستهلّ رجب سنة أربع ومائة. وبويع له بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وتوفي بالأنبار لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر.

المنصور

وأمه ريطة بنت عبد الله بن عبد الله بن عبد المدان، وكان أبيض طويلا أقنى «1» الأنف حسن الوجه حسن اللحية جعدها. نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن. وصلى عليه عمّه عيسى بن علي، ورزق من الولد اثنين: محمد، من أم ولد، ومات صغيرا؛ وابنة سماها ريطة، من أم ولد، تزوجها المهدي وأولدها عليا وعبيد الله. ووزر له أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال؛ وهو أول من لقب بالوزارة، فقتله أبو العباس واستوزر بعده بن برمك إلى آخر أيامه، وكان حاجبه أبو غسان صالح ابن الهيثم، وقاضيه يحيى بن سعيد الأنصاري. المنصور وبويع أبو جعفر المنصور. واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، في اليوم الذي توفي فيه أخوه، لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. وكان مولده بالشّراة «2» لسبع خلون من ذي الحجة سنة خمس وتسعين؛ وتوفي بمكة قبل التّروية «3» بيوم، لسبع خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو محرم، ودفن بالحجون «4» ، وصلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثمانية أيام وكانت سنة ثلاثا وستين سنة. وأمّه أمة اسمها سلامة، وجنسها بربرية؛ وكان أسمر طوالا نحيف الجسم خفيف العارضين يخضب بالسواد، ونقش خاتمه: «الله ثقة عبد الله وبه يؤمن» .

المهدي

وتزوج أروى بنت منصور الحميرية، وولدت له: محمدا وهو المهدي، وجعفرا وكانت شرطت عليه ألا يتزوج ولا يتسرّى «1» إلا عن أمرها، وكان قد ابتاع جاريته أم علي وجعلها قيّما في داره على أم موسى وأولادها، فحظيت عند أم موسى وسألته التسرّي بها لما رأت من فضلها، فواقعها فأولدها عليا، وتوفي قبل استكمال سنة؛ ثم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله، فولدت له سليمان وعيسى ويعقوب، ورزق من أمهات الأولاد: صالحا والعالية وجعفرا والقاسم والعباس وعبد العزيز. ووزر له ابن عطية الباهلي، ثم أبو أيوب المورياني، ثم الربيع مولاه؛ وكان حاجبه عيسى بن روضة مولاه، ثم أبو الحصيب مولاه؛ وكان قاضيه عبد الله بن محمد بن صفوان، ثم شريك بن عبد الله، والحسن بن عمار، والحجاج بن أرطأة. المهدي ثم بويع ابنه أبو عبد الله محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، صبيحة اليوم الذي توفي فيه أبوه، لستّ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة. وكان مولده بالجميمة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. وتوفي بماسبذان في المحرّم سنة تسع وستين ومائة، وصلى عليه ابنه الرشيد. فكانت خلافته عشر سنين وخمسة وأربعين يوما، وكان سنه إحدى وأربعين سنة وثمانية أشهر ويومين. وكان أسمر طويلا معتدل الخلق جعد الشعر بعينه اليمنى نكتة «2» بياض، نقش خاتمه: «الله ثقة محمد وبه يؤمن» .

الهادي

وتزوّج ريطة بنت السفاح وأولدها عليا وعبيد الله. وأوّل جارية ابتاعها محياة، فرزق منها ولدا مات قبل استكمال سنة، وكان يبتاع الجواري باسمها وتقربهنّ إليه، وأول من حظي منهنّ عنده رحيم ولدت له العباسة ثم الخيزران فولدت له موسى وهارون والبانوقة، ثم حللة وحسنة، فكانتا مغنيتين محسنتين؛ وتزوج سنة تسع وخمسين ومائة أمّ عبد الله بنت صالح بن علي، أخت الفضل وعبد الله؛ وأعتق الخيزران في السنة وتزوجها. ووزر له أبو عبد الله معاوية بن عبد الله الأشعري، ثم يعقوب بن داود السلمي، ثم الفيض بن أبي صالح. واستحجب سلامان الأبرش، واستخلف على القضاء محمد بن عبد الله بن علاثة، وعافية بن يزيد؛ كانا يقضيان معا في مسجد الرصافة. الهادي ثم بويع ابنه أبو محمد موسى الهادي بن المهدي؛ مستهلّ صفر سنة تسع وستين ومائة. وتوفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعيساباذ «1» ؛ وصلى عليه أخوه الرشيد. وكانت خلافته سنة وشهرين إلا أياما، وكانت سنة ستا وعشرين سنة. وكان أبيض طويلا جسيما، بشفته العليا تقلّص. نقش خاتمه: «الله ربي» . وتزوج أمة العزيز فأولدها عيسى، ثم رحيم، فأولدها جعفرا، ثم سعوف فأولدها العباس، واشترى جاريته حسنة بألف درهم- وكانت شاعرة- فرزق منها عدّة بنات، منهم أم عيسى، تزوجها المأمون، وكان له من أمهات الأولاد: عبد الله، وإسحاق وموسى وكان أعمى.

هارون الرشيد

ووزر له الربيع بن يونس، ثم عمر بن بزيع؛ واستحجب الفضل بن الربيع. وولى القضاء: أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم، في الجانب الغربي، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، بالجانب الشرقي. هارون الرشيد ثم بويع أخوه أبو محمد هارون الرشيد في اليوم الذي توفي فيه أخوه، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وفي هذه الليلة ولد عبد الله المأمون، ولم يكن في سائر الزمان ليلة ولد فيها خليفة وتوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها. وكان مولد الرشيد في المحرّم سنة ثمان وأربعين ومائة. وتوفي في جمادي الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، ودفن بطوس «1» . وصلى عليه ابنه صالح. فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وستة عشر يوما، وكانت سنه ستا وأربعين سنة وخمسة أشهر؛ ولما أفضت إليه الخلافة سلم عليه عمه سليمان بن المنصور، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد بن علي عم جدّه؛ فعبد الصمد عم العباس، والعباس عم سليمان، وسليمان عم هارون. وكان الرشيد أبيض جسيما طويلا جميلا، وقد وخطه الشيب، نقش خاتمه: لا إله إلا الله. وخاتم آخر: كن من الله على حذر. وتزوج زبيدة، واسمها أمة العزيز، وتكنى أمّ الواحد، وزبيدة لقب لها؛ وهي ابنة جعفر بن المنصور، أولدها محمدا الأمين؛ ثم مراجل، فأولدها عبد الله المأمون؛ وماردة، أولدها محمدا المعتصم؛ ونادر ولدت له صالحا؛ وشجا؛ ولدت له خديجة

الأمين

ولبابة؛ وسريرة، ولدت محمدا، وبربرية، ولدت له أبا عيسى ثم القاسم، وهو المؤتمن، وسكينة؛ وحث، فولدت له إسحاق وأبا العباس. ووزر له جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وقتله، ثم الفضل بن الربيع؛ واستحجب بشر بن ميمون مولاه، ثم محمد بن خالد بن برمك؛ واستخلف على قضاء الجانب الغربي نوح بن دراج، وحفص بن غياث. الأمين ثم بويع أبو عبد الله محمد الامين في جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقتل يوم الأحد لخمس بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان مولده بالرصافة سنة احدى وسبعين ومائة في شوّال؛ فكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وأياما، ضفا له الامر من جملتها سنتين وشهرا، وكانت الفتنة بينه وبين أخيه سنتين. وكان طويلا جسيما جميلا حسن الوجه بعيد ما بين المنكبين اشقر سبطا صغير العينين، به أثر جدري، نقش خاتمة: «محمد واثق بالله» . ورزق من الولد موسى من أمّ ولد تدعى نظم. ولقبه: الناطق بالحق؛ وضرب اسمه على الدراهم. وذكر الصولي قال: حدثني من قرأ على درهم: كلّ عز ومفخر ... فلموسى المظفّر ملك خطّ ذكره ... في الكتاب المسطّر وماتت نظم فاشتدّ جزعه عليها، فدخلت زبيدة معزية له، فقالت: نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ... ففي بقائك ممّن قد مضى خلف عوّضت موسى فكانت كلّ مرزئة ... ما بعد موسى على مفقودة أسف

المأمون

وبايع لابنه موسى في حياته، ولاخيه عبد الله، وأمّه أمّ ولد، ونقش اسمه أيضا على الدراهم. وكان لجعفر بن موسى الهادي جارية اسمها بذل، فطلبها الامين منه فأبى عليه، وكان شديد الوجد بها؛ فزاره الامين يوما، فسر به وزاد عليه في الشرب حتى ثمل، فانصرف واخذ الجارية، فلما اصبح جعفر ندم على ما جرى ولم يدر ما يصنع فدخل على الامين، فلما مثل بين يديه، قال له: احسنت والله يا جعفر بدفعك بذل إلينا وما احسنّا. وأقر رزقه على عشرين الف الف درهم. ووزر للامين الفضل بن الربيع إلى اخر ايامه، وكان حاجبه العباس بن الفضل بن الربيع، ثم علي بن صالح صاحب المصلى، ثم السندي بن شاهك. المأمون ثم بويع أبو العباس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بعد قتل أخيه، يوم الخميس لخمس خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان مولده بالياسرية «1» في ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول سنة سبعين ومائة. وتوفي بالبذندون «2» سنة ثماني عشرة ومائتين لثمان خلون من رجب، ودفن بطرسوس «3» ؛ فكانت خلافته عشرين سنة وخمسة اشهر وثلاثة عشر يوما، وكان سنه ثمانيا وأربعين سنة وأربعة اشهر إلا أياما. وكان أبيض تعلوه شقرة، أجنأ «4» أعين، طويل اللحية رقيقها، ضيق الجبين، بخده خال أسود، وكان قد وخطه «5» الشيب. نقش خاتمة. «سل الله يعطك» .

المعتصم بالله

وكان الرشيد حدّ المأمون. وذلك أنه دخل على الرشيد وعنده مغنية تغنيه، فلحنت، فكسر المأمون عينه عند استماعه اللحن، فتغير لون الجارية، وفطن الرشيد لذلك، فقال: اعلمتها بما صنعت؟ قال: لا والله يا مولاي! قال: ولا أو مأت إليها؟ قال: قد كان ذلك، فقال: كن مني بمرأى ومسمع، فإذا خرج إليك امري فانته اليه. ثم اخذ دواة وقرطاسا وكتب إليه: يا آخذ اللحن على آل ... قينة عند الطرب تريد أن تفهمها ... حدّ لغات العرب أقسم بالله وما ... سطر أهل الكتب للكلب خير أدبا ... من بعض أهل الادب إذا قرأت ما كتبت به اليك، فأمر من يضربك عشرين مقرعة «1» جيادا! فدعا المأمون النوابين ثم امرهم ببطحه وضربه، فامتنعوا، فأقسم عليهم؛ فامتثلوا أمره. ورزق من الولد محمدا الأصغر، وعبيد الله بن أم عيسى بنت موسى الهادي وتزوج بوران بنت الحسن بن سهل، بنى بها سنة عشر ومائتين، ووهب لابيها عشرة آلاف درهم، ولولده الف الف درهم؛ وكان له عدة اولاد من بنين وبنات ووزر له الفضل بن سهل ذو الرياستين ثم الحسن بن سهل، ثم احمد بن ابي خالد الاحول، ثم احمد بن يوسف، ثم ثابت بن يحيى، ثم محمد بن يزداد، واستحجب عبد الحميد بن شبيب، ثم محمدا وعليا ابني صالح مولى المنصور. المعتصم بالله ثم بويع اخوه ابو اسحق المعتصم بن الرشيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان مولده في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائة.

الواثق

وتوفي بسرّ من رأى يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة سبع وعشرين ومائتين، وصلى عليه ابنه هارون الواثق. وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر؛ وأمه وأمّ ولد يقال لها ماردة. وكان ابيض اصهب اللحية طويلها مربوعها مشرب اللون حمرة؛ نقش خاتمة: «الله ثقة ابي اسحاق بن الرشيد وبه يؤمن» ؛ وكان شديد البأس، حمل بابا من حديد فيه سبعمائة وخمسون رطلا وفوقه عكام «1» فيه مائتان وخمسون رطلا، وخطا خطا كثيرة؛ وكان يسمى ما بين أصبعي المعتصم: المقطرة «2» ، لشدته؛ وانه اعتمد يوما على غلام فدقه، وذكر الصولي أنه كان يسمى المثمّن، وذلك أنه الثامن من خلفائهم. ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة، وولي الامر في سنة ثمان عشرة ومائتين. ومات وله ثمان وأربعون سنة، وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية اشهر؛ ورزق من الولد الذكور ثمانية، ومن الإناث ثمانيا؛ وغزا ثمان غزوات وخلف في بيت ماله ثمانية آلاف دينار، ومن الورق ثمانية آلاف درهم. ووزر له الفضل بن مروان، ثم أحمد بن عمار، ثم محمد بن عبد الملك الزيات، واستحجب وصيفا مولاه، ثم محمد بن حماد بن دنفش. الواثق ثم بويع ابنه أبو جعفر هارون الواثق، صبيحة اليوم الذي توفي فيه ابوه يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة سبع وعشرين ومائتين. وكان مولده يوم الاثنين لعشرة بقين من شعبان سنة ست وتسعين ومائة وتوفي بسرّ من رأى يوم الأربعاء لستّ بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين

المتوكل

ومائتين، وصلى عليه اخوه المتوكل، فكانت خلافته خمس سنين وتسعة اشهر وثلاثة عشر يوما وكانت سنّه ستا وثلاثين سنة وأربعة اشهر وأياما. وكان ابيض الى الصفرة، حسن الوجه جسيما، في عينه اليمنى نكتة «1» بياض. نقش خاتمة: «محمد رسول الله» . وخاتم اخر: «الواثق بالله» . ورزق من الولد محمد المهتدي، وأمه وأم ولد يقال لها قرب؛ وعبد الله، وأبا العباس أحمد، وأبا اسحق محمدا، وابا اسحق ابراهيم. ووزر له محمد بن عبد الملك الزيات، وحاجبه اتاح، ثم وصيف مولاه، ثم ابن دنفش؛ وقاضيه ابن أبي داود. المتوكل ثم بويع اخوه ابو الفضل جعفر المتوكل يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكان مولده يوم الاربعاء لاحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست ومائتين. وقتل ليلة الاربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ودفن في القصر الجعفري، وصلى عليه ابنه المنتصر ولي عهده؛ فكانت مدة خلافته اربع عشرة سنة وتسعة اشهر وتسعة ايام؛ وكان سنه أربعين سنة الا ثمانية ايام. وكان أسمر كبير العينين نحيف الجسم خفيف العارضين. نقش خاتمه: «على إلهي اتكالي» . وكان كثير الولد. وزر له محمد بن عبد الملك الزيات، ثم محمد بن الفضل الجرجاني، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان، واستحجب وصيفا التركي، ثم محمد بن عاصم، ثم ابراهيم بن سهل؛ وكان خليفته على القضاء يحيى بن أكثم

المنتصر

المنتصر ثم بويع ابنه أبو جعفر محمد المنتصر لاربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان مولده يوم الخميس لست خلون من شهر ربيع الاخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. ومات ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الاخر سنة. ثمان وأربعين ومائتين. فكانت خلافته ستة أشهر، وسنه ستة وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام. وكان قصيرا اسمر ضخم الهامة «1» عظيم البطن جسيما، على عينه اليمنى أثر. نقش خاتمه: «يؤتى الحذر من مأمنه» ، وعلى خاتم آخر: «أنا من آل محمد، الله وليّ ومحمد» . ورزق من الولد عليا وعبد الوهاب وعبد الله واحمد. ووزر له احمد بن الخصيب، وحاجبه وصيف، ثم بغا، ثم ابن المرزبان، ثم أوتامش. المستعين ثم بويع المستعين أبو العباس احمد بن محمد المعتصم، يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. وخلع نفسه- بموافقة المعتز بوساطة أبي جعفر المعروف بابن الكردية- يوم الجمعة لاربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة اشهر.

المعتز

وكان مولده يوم الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة احدى وعشرين ومائتين. وقتل بالقادسية بعد خلعه نفسه بتسعة اشهر، وأمه أم ولد يقال لها مخارق. وكان مربوعا، احمر الوجه، أشقر، مسمنا «1» ، عريض المنكبين، ضخم الكراديس «2» ، خفيف العارضين، بوجهه أثر جدري، ألثغ بالسين، نقش خاتمه: «في الاعتبار غنى عن الاخبار» . وزر له احمد بن الخصيب فنكبه، وقلد مكانه ابن يزداد، ثم شجاع بن القاسم كاتب أتامش، وأتامش هذا حاجبه، وكانت سنه احدى وثلاثين سنة الا ثمانية ايام. المعتز ثم ولى أبو عبد الله بن المتوكل، يوم الجمعة لاربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكانت الفتنة قبل ذلك بينه وبين المستعين سنة. وقتل عشية يوم الجمعة لليلة خلت من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الاخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت خلافته منذ بويع له، واجتمعت الكلمة عليه ثلاث سنين وستة اشهر وثلاثة وعشرين يوما، ومنذ بايعه أهل سرّ من رأى إلى ان قتل، اربع سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوما، وقتله صالح بن وصيف. وكان أبيض شديد البياض، ربعة «3» ، حسن الجسم، على خده الايسر خال اسود الشعر. نقش خاتمه: «الحمد لله رب كل شيء وخالق كل شيء» .

المهتدي

وزر لهع جعفر بن محمود الإسكافي، ثم عيسى بن فرخان شاه، ثم احمد بن اسرائيل الانباري. وحاجبه سماء بن صالح بن وصيف. وكان سنه أربعا وعشرين سنة وشهرين وأياما. المهتدي ثم بويع المهتدي أبو عبد الله محمد بن الواثق بسرّ من رأى، يوم الاربعاء لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. كان مولده يوم الاحد لخمس خلون من شهر ربيع الاول سنة تسع عشرة ومائتين. وقتل بسرّ من رأى بسهم لحقه يوم الثلاثاء لأربعة عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين؛ فكانت خلافته احد عشر شهرا واربعة عشر يوما. وكانت سنه سبعا وثلاثين سنة وأربعة اشهر وأحد عشر يوما. وكان أبيض مشربا حمرة، صغير العينين، أقنى الانف، في عارضيه شيب؛ وخضب لما ولي الخلافة. نقش خاتمه: «من تعدّى الحق ضاق مذهبه» . وزر له ابو ايوب سليمان بن وهب. وحاجبه باك باك. المعتمد ثم بويع أبو العباس احمد المعتمد بن المتوكل، يوم الثلاثاء لاربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثمان بقين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائتين. وتوفي ببغداد لاربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين؛

المعتضد

فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة؛ وكان سنه خمسين وخمسة اشهر واثنين وعشرين يوما. ومات أخوه ووليّ عهده طلحة الموفق في أيامه، في صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين؛ وكان قد غلب على الامر لميل الناس اليه، وكان المعتمد قد عقد لولده جعفر- ولقبه المفوّض- وبعده لابي احمد طلحة الموفق، فاشتد امر الموفق وقتل صاحب الزنج في سنة سبعين ومائتين ومال الناس اليه واسمه الناصر لدين الله وكان يدعي له على المنبر في ايام المعتمد. وكان الموفق حبس ابنه أبا العباس المعتضد، فلما حضرته الوفاة أطلقه للقيام بالأمر، وأجرى المعتمد امره على ما كان يجري عليه امر ابيه الموفق، وأفرده بولاية العهد، وامر بكتب الكتب لخلع ابنه المفوّض، وأفرد المعتضد بالعهد وجعله الخليفة بعده. وكان المعتمد اسمر مربوعا نحيف الجسم حسن العينين مدوّر الوجه، على وجهه أثر جدري. نقش خاتمه: «السعيد من كفي بغيره» . ووزر له عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ثم سليمان بن وهب، ثم الحسن بن مخلد، ثم صاعد بن مخلد، ثم أبو الصقر اسماعيل بن بلبل. حاجبه موسى بن بغا، ثم جعفر بن بغا، ثم بكتمر المعتضد بويع المعتضد ابو العباس احمد بن الموفق في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. وكان مولده في جمادي الآخرة سنة ثلاث واربعين ومائتين، وتوفي ببغداد ليلة الثلاث لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وصلى عليه ابو عمر القاضي.

المكتفي

فكانت خلافته تسع سنين وتسعة اشهر وأربعة ايام؛ وكان سنه خمسا وأربعين سنة وتسعة أشهر وأياما. وأمه ضرار، وكان نحيف الجسم معتدل القامة طويل اللحية اسمر. نقش خاتمه: «الاضطرار يزيل الاختيار» . ووزر له عبيد الله بن سليمان بن وهب؛ ثم ابنه القاسم بن عبيد الله. وحاجبه صالح الأمين المكتفي ثم بويع ابنه أبو محمد علي بن المعتضد يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وكان مولده في رجب سنة أربع وستين ومائتين. وتوفي ببغداد فدفن عند قبر ابيه ليلة الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وعشرين يوما؛ وكان سنه احدى وثلاثين سنة وأربعة اشهر وأياما. وأمه جيجق، وقيل خاضع. وكان ربعة حسن الوجه أسود الشعر وافر اللحية عريضها، ولم يشب إلى ان مات. نقش خاتمه: «بالله علي بن أحمد يثق» . وخلّف في بيت ماله [من الذهب] ستة عشر ألف ألف دينار، ومن الورق ثلاثين ألف ألف درهم.

المقتدر

ووزر له القاسم بن عبيد الله، ثم العباس بن الحسن، ثم الحسن بن أيوب. وحاجبه خفيف السّمرقندي، ثم سوسن مولاه. المقتدر ثم بويع المقتدر وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد في اليوم الذي توفي فيه أخوه يوم الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين وخلع في خلافته دفعتين: الاولى بعد جلوسه بأربعة أشهر وأيام، بابن المعتز، وبطل الامر من يومه؛ والدفعة الثانية بعد احدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، وخلع نفسه وأشهد عليه، وأجلس القاهر يومين وبعض اليوم الثالث، ووقع الخلف بين العسكرين وعاد المقتدر إلى حاله. وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وقتل بالشماسية «1» يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة. فكانت خلافته خمسا وعشرين سنة الا خمسة عشر يوما، وكانت سنة ثمانيا وثلاثين سنة وشهرا وعشرين يوما. وكان أبيض مشربا بحمرة، حسن الخلق، ضخم الجسم، بعيد ما بين المنكبين جعد الشعر، مدوّر الوجه، قد كثر الشيب في وجهه. نقش خاتمه: «الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير» . ووزر له العباس بن الحسن، ثم علي بن محمد بن موسى بن الفرات، ثم عبيد الله بن خاقان، ثم ابو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح، ثم حامد بن العباس، ثم احمد بن عبيد الله الخصيبي، ثم محمد بن علي بن مقلة، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد بن الجراح، ثم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن

القاهر

وهب، ثم الفضل بن جعفر بن موسى بن الفرات. واستحجب سوسنا، مولى المكتفي، ونصرا القشوري، وياقوتا المعتضدي، وإبراهيم ومحمدا، ابني رائق. القاهر ثم بويع اخوه ابو منصور محمد القاهر بن المعتضد يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة. وخلع وسمل «1» يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادي الاولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وكان مولده لخمس خلون من جمادي الاولى سنة سبع وثمانين ومائتين. وكانت خلافته سنة وستة أشهر وستة ايام وعاش الى ايام المطيع، وكانت سنة. ............ «2» وكان ربعة أسمر اللون، معتدل القامة، اصهب «3» الشعر. ووزر له أبو علي محمد بن مقلة، ثم محمد بن القاسم بن عبيد الله، بن أحمد بن عبيد الله الخصيبي. واستحجب علي بن يلبق مولى يونس، ثم سلامة الطولوني. الراضي ثم بويع الراضي ابو العباس احمد بن المقتدر يوم الاربعاء لست خلون من جمادي الاولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

المتقي

وكان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين. ومات في بغداد ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الاول من سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ودفن بالرّصافة. وكانت خلافته ست سنين وثمانية أشهر وعشرة ايام، وكانت سنة احدى وثلاثين سنة وثمانية أشهر وأياما. وأمه أم ولد يقال لها ظلوم؛ وكان قصير القامة نحيف الجسم اسود الشعر رقيق السمرة في وجهه طول. نقش خاتمه: «محمد رسول الله» . ووزر له ابو علي محمد بن مقلة، ثم ابنه ابو الحسين علي بن محمد، ثم عبد الرحمن ابن عيسى بن داود بن الجراح، ثم محمد بن القاسم الكرخي، ثم سليمان بن الحسن بن محمد بن الجراح، ثم الفضل بن جعفر بن الفرات، ثم ابو عبيد الله احمد بن محمد اليزيديّ. استحجب محمد بن ياقوت؛ ثم دكيا مولاه. المتقي ثم بويع اخوه المتقي ابو اسحاق ابراهيم بن المقتدر، يوم الاربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الاول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وخلع وسمل يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وكان مولده في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا إلا أياما

المستكفي

وكان ابيض تعلوه حمرة، اصهب شعر اللحية، كث اللحية، بفكه الادنى عوج نقش خاتمه: «محمد رسول الله» . ووزر له احمد بن محمد بن ميمون، ثم اليزيدي، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم ابو اسحاق محمد بن احمد القراريطي. ثم محمد بن القاسم الكرخي، ثم احمد بن عبد الله الاصبهاني، ثم علي بن محمد بن مقلة. واستحجب سلامة مولي خمارويه بن أحمد الطولونيّ، ثم بدرا الخرشني، ثم عبد الرحمن بن أحمد بن خاقان المفلحي. المستكفي ثم بويع أبو القاسم عبد الله بن المستكفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بالسندية «1» عقيب كسوف القمر. وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، فكانت خلافته سنة واحدة وستة اشهر واياما. كان مولده مستهل سنتة اثنتين وتسعين ومائتين. وتوفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وكانت سنه سبعا وأربعين سنة، وأمّه أم ولد يقال لها غصن، وكان أبيض تعلوه حمرة، ضخم الجسم، تام الطول، خفيف العارضين كبير العينين؛ أشهل «2» ، جهوري الصوت. نقش خاتمه «محمد رسول الله» . وزر له محمد بن علي السر من رائيّ. واستكتب بعده أبا أحمد الفضل بن عبد الله الشيرازي. واستحجب أحمد بن حاقان.

المطيع

المطيع ثم بويع المطيع ابو القاسم الفضل بن المقتدر لسبع بقين من شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وخلع نفسه ببغداد لسبع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وكان مولده في النصف من ذي القعدة سنة احدى وثلاثمائة وتوفي في ... «1» فكانت خلافته تسعا وعشرين سنة وثلاثة اشهر وعشرين يوما. وأمه أم ولد تدعى مشعلة. وكان سنه.... «2» . وكان شديد البياض أسود شعر الرأس واللحية. وزر له على بن محمد بن مقلة، والناظر في الامور ابو جعفر الضيمري كاتب احمد بن بويه، ثم استولى على اسم الوزارة؛ وكتب للمطيع الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي، ومات، وقام مقامه ابو محمد الحسن بن محمد المهلبي. وحاجبه عز الدولة بختيار بن معز الدولة. تم الجزء الخامس من العقد الفريد لابن عبد ربه ويليه- إن شاء الله- الجزء السادس وأوله: كتاب الدرة الثانية، في ايام العرب ووقائعها

الجزء السادس

الجزء السادس كتاب الدرّة الثانية في أيام العرب ووقائعهم قال الفقيه ابو عمر احمد بن محمد بن عبد ربه رضي الله عنه: قد مضى قولنا في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أيام العرب ووقائعهم، فإنها مآثر الجاهلية، ومكارم الاخلاق السنية. قيل لبعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به اذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر ونتحدث بأخبار جاهليتنا. وقال بعضهم: وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية: الا ترى ان عنترة الفوارس جاهلي لا دين له، والحسن بن هانيء إسلامي له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانىء دينه، فقال عنترة في ذلك: وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها وقال الحسن بن هانىء مع اسلامه: كان الشباب مطيّة الجهل ... ومحسّن الضّحكات والهزل والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أتيت حليلة البعل «1»

حروب قيس في الجاهلية يوم منعج: لغني على عبس

حروب قيس في الجاهلية يوم منعج «1» : لغنيّ على عبس قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يوم منعج يقال له يوم الرّدهة «2» ، وفيه قتل شاس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي بمنعج على الردهة، وذلك أنّ شاس ابن زهير أقبل من عند النعمان بن المنذر، وكان قد حباه بحباء جزيل، وكان فيما حباه قطيفة «3» حمراء ذات هدب، وطيلسان وطيب. فورد منعج وهو ماء لغنيّ، فأناخ راحلته الى جانب الردهة وعليها خباء لرياح بن الأسل الغنوى، وجعل يغتسل وامرأة رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الابيض، فانتزع «4» له رياح سهما فقتله، ونحر ناقته فأكلها، وضم متاعه، وغيّب أثره. وفقد شاس بن زهير حتى وجدوا القطيفة الحمراء بسوق عكاظ، فقد سامتها امرأة رياح بن الأسل، فعلموا أنّ رياحا صاحب ثأرهم، فغزت بنو عبس غنيّا قبل أن يطلبوا قودا «5» أودية، مع الحصين بن زهير بن جذيمة، والحصين بن أسيد بن جذيمة، فلما بلغ ذلك غنيّا قالوا لرياح: انج لعلنا نصالح القوم على شيء فخرج رياح رديفا لرجل من بني كلاب، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم، فمرّ صرد «6» على رؤسهما فصرصر «7» ، فقال: ما هذا؟ فما راعهما إلا خيل بني عبس، فقال الكلابي لرياح: انحدر من خلفي والتمس نفقا في الأرض، فإني شاغل القوم عنك. فانحدر رياح عن عجز الجمل، حتى أتى صعدة «8» فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب وولج فيه، ومضى صاحبه، فسألوه فحدّثهم، وقال: هذه غنيّ جامعة، وقد استمكنتم منهم. فصدّقوه وخلوا سبيله، فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه، فقالوا: من الذي كان خلفك؟ فقال: لا أكذب، رياح بن الأسل، وهو في تلك

يوم النفراوات: لبني عامر على بني عبس

الصّعدات. فقال الحصينان لمن معهما: قد امكننا الله من ثأرنا، ولا نريد أن يشركنا فيه أحد. فوقفوا عنهما، ومضيا فجعلا يريغان رياح بن الأسل بالصّعدات، فقال لهما رياح: هذا غزالكما الذي تريغانه «1» . فابتدراه، فرمى أحدهما بسهم فأقصده «2» ، وطعنه الآخر قبل أن يرميه فأخطأه، ومرت به الفرس، واستدبره رياح بسهم فقتله، ثم نجا حتى أتى قومه، وانصرفوا خائبين موتورين «3» ، وفي ذلك يقول الكميت بن زيد الأسدي، وكان له أمّان من غنيّ: أنا ابن غنّى والدي ... لأمين منهم في الفروع وفي الأصل هم استودعوا زهرا بسيب بن سالم ... وهم عدلوا بين الحصينين بالنّبل وهم قتلوا شاس الملوك وأرغموا ... أباه زهيرا بالمذلّة والثّكل «4» يوم النفراوات: لبني عامر على بني عبس فيه قتل زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وكانت هوازن تؤدّي إليه إتاوة، وهي الخراج، فأتته يوما عجوز من بني نصر بن معاوية بسمن في نحي «5» واعتذرت إليه وشكت سنين تتابعت على الناس، فذاقه فلم يرض طعمه، فدعسها «6» بقوس في يده عطل في صدرها، فاستلقت على قفاها منكشفة، فتألّى خالد بن جعفر، وقال: والله لأجعلن ذراعي في عنقه حتى يقتل أو أقتل! وكان زهير عدوسا مقداما لا يبالي ما أقدم عليه، فاستقل- أي انفرد من قومه- بابنيه وبني أخويه أسيد وزنباع، يرعى الغيث في عشراوات «7» له وشول «8» فأتاه الحارث بن الشّريد، وكانت تماضر بنت الشريد تحت زهير، فلما عرف الحارث مكانه أنذر بني عامر بن صعصعة، رهط خالد

ابن جعفر، فركب منهم ستة فوارس، فيهم خالد بن جعفر، وصخر بن الشريد، وحندج بن البكّاء، ومعوية بن عبادة بن عقيل، فارس الهزاز، ويقال لمعاوية: الأخيل، وهو جد ليلى الأخيلية، وثلاثة فوارس من سائر بني عامر، فقال أسيد لزهير: أعلمتني راعية غنمي أنها رأت على رأس الثنية أشباحا، ولا أحسبها إلا خيل بني عامر، فالحق بنا بقومنا. فقال زهير: «كلّ أزبّ «1» نفور» وكان أسيد أشعر القفا. فذهبت مثلا، فتحمل أسيد بمن معه، وبقي زهير وابناه: ورقاء، والحارث، وصبّحتهم الفوارس، فتمرّدت بزهير فرسه القعساء، ولحقه خالد ومعاوية الأخيل، فطعن معوية القعساء، فقلبت زهيرا، وخرّ خالد فوقه فرفع المغفر عن رأس زهير، وقال: يا آل عامر، أقبلوا جميعا! فأقبل معاوية فضرب زهيرا على مفرق رأسه ضربة بلغت الدّماغ، وأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا وعليه درعان، فلم يغن شيئا، وأجهض «2» ابنا زهير القوم عن زهير، واحتملاه وقد اثخنته الضربة، فمنعوه الماء، فقال: أميت أنا عطشا! اسقوني الماء وإن كان فيه نفسي! فسقوه فمات بعد ثلاثة ايام، فقال في ذلك ورقاء بن زهير: رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر «3» إلى بطلين ينهضان كلاهما ... يريدان نصل السيف والسيف نادر «4» فشلّت يميني يوم أضرب خالدا ... يمنعه مني الحديد المظاهر فياليت أني قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدني تماضر لعمري لقد بشرت بي إذ ولدتني ... فماذا الذي ردّت عليك البشائر وقال خالد بن جعفر في قتله زهيرا: بل كيف تكفرني هوازن بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرارا وقتلت ربّهم زهيرا بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا «5»

يوم بطن عاقل: لذبيان علي عامر

وجعلت مهر بناتهم ... عقل الملوك هجائنا ولكارا «1» يوم بطن عاقل: لذبيان علي عامر فيه قتل خالد بن جعفر ببطن عاقل «2» ، وذلك أنّ خالدا قدم الأسود بن المنذر، أخي النعمان بن المنذر، ومع خالد عروة الرّحال بن عتبة بن جعفر، فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، عند الأسود بن المنذر، قال: فدعا لهما الأسود بتمر، فجيء به على نطع «3» فجعل بين أيديهم، فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حارث، ألا تشكر يدي عندك أن قتلت عنك سيد قومك زهيرا وتركتك سيدهم؟ قال: سأجزيك شكر ذلك! فلما خرج الحرث قال الأسود لخالد: ما دعاك إلى أن تحترش بهذا الكلب وأنت ضيفي؟ فقال له خالد إنما هو عبد من عبيدي، لو وجدني نائما ما أيقظني! وانصرف خالد إلى قبته، فلامه عروة الرحال، ثم ناما وقد أشرجت «4» عليهما القبة، ومع الحرث تبيع له من بني محارب يقال له خراش، فلما هدأت العيون أخرج الحرث ناقته وقال لخراش: كن لي بمكان كذا، فإن طلع كوكب الصبح ولم آتك فانظر أي البلاد أحبّ إليك فاغمد لها. ثم انطلق الحرث حتى أتى قبة خالد، فهتك شرجها ثم ولجها «5» ، وقال لعروة: اسكت فلا بأس عليك. وزعم أبو عبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالدا وهو نائم فقتله، ونادى عروة عند ذلك: واجوار الملك! فأقبل إليه الناس، وسمع الهتاف الاسود بن المنذر وعنده امرأة من بني عامر، يقال لها المتجردة، فشقت جيبها وصرخت وفي ذلك يقول عبد الله بن جعدة: شقّت عليك العامريّة جيبها ... أسفا وما تبكي عليك ضلالا

يوم رحرحان: لعامر على تميم

يا حار لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعشا ولا معزالا «1» واغرورقت عيناي لما أخبرت ... بالجعفريّ وأسبلت إسبالا «2» فلنقتلنّ عيناي لما أخبرت ... بالجعفريّ وأسبلت إسبالا «3» فلنقتلنّ بخالد سرواتكم ... ولنجعلن للظالمين نكالا «4» فإذا رأيتم عارضا متهللا ... منّا فإنا لا نحاول مالا «5» يوم رحرحان «6» : لعامر على تميم قال: وهرب الحرث بن ظالم ونبت به البلاد فلجأ إلى معبد بن زرارة- وقد هلك زرارة- فأجاره؟ فقالت بنو تميم لمعبد: مالك آويت هذا المشئوم الأنكد وأغريت بنا الاسود وخذلوه، غير بني دماويّة، وبني عبد الله بن دارم، وفي ذلك يقول لقيط بن زرارة: فأمّا نهشل وبنو نعيم ... فلم يصبر لنا منهم صبور فإن تعمد طهية في أمور ... تجدها ثمّ ليس لها نصير «7» ويربوع بأسفل ذي طلوع ... وعمرو لا تحلّ ولا تسير «8» أسيد والهجيم لها حصاص ... وأقوام من الجعراء عور «9» وأسلبنا قبائل من تميم ... لها عدد إذا حسبوا كثير وأمّا الآثمان بنو عديّ ... وتيم إذ تدبّرت الأمور فلا تنعم بهم فتيان حرب ... إذا ما الحيّ صبّحهم نذير إذا ذهبت رماحهم بزيد ... فإنّ رماح تيم لا تضير

يوم شعب جبلة: لعامر وعبس على ذبيان وتميم

قال: وبلغ الأحوص بن جعفر بن كلاب، مكان الحارث بن ظالم عند معبد فأغزا معبدا، فالتقوا برحرحان، فانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب فوفد لقيط بن زرارة عليهم في فدائه، فقال لهما: لكما عندي مائتا بعير. فقالا: يا أبا نهشل، أنت سيد الناس وأخوك معبد سيد مضر، فلا نقبل فيه إلا دية ملك! فأبى أن يزيدهم، وقال لهم: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحدا في ديّته على مائتي بعير. فقال معبد للقيط: لا تدعني يا لقيط! فوالله لئن تركتني لا تراني بعدها أبدا! قال: صبرا أبا القعقاع، فأين وصاة أبينا ان لا تؤكلوا العرب أنفسكم ولا تزيدوا بفدائكم على فداء رجل منكم، فتذوب بكم ذؤبان العرب؟ «1» . ورحل لقيط عن القوم، قال: فمنعوا معبد الماء وضارّه حتى مات هزالا. وقيل: أبي معبد أن يطعم شيئا أو يشرب حتى مات هزالا، ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل: قضينا الحزن من عبس وكانت ... منيّة معبد فينا هزالا وقال جرير: وليلة وادي رحرحان فررتم ... فرارا ولم تلووا زفيف النّعائم «2» تركتم أبا القعقاع في الغلّ مصفدا ... وأيّ أخ لم تسلموا في الأداهم «3» وقال: وبرحرحان غداة كبّل معبد ... نكحوا بناتكم بغير مهور يوم شعب جبلة «4» : لعامر وعبس على ذبيان وتميم قال أبو عبيدة: يوم شعب جبلة أعظم أيام العرب، وذلك أنه لما انقضت وقعة

رحرحان، جمع لقيط بن زرارة لبني عامر، وألّب عليهم، وبين أيام رحرحان ويوم جبلة سنة كاملة. وكان يوم شعب جبلة قبل الإسلام بأربعين سنة، وهو عام ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت بنو عبس يومئذ في بني عامر حلفاء لهم، فاستعدى لقيط بني ذبيان لعداوتهم لبني عبس من أجل حرب داحس، فأجابته غطفان كلها غير بني بدر، وتجمعت لهم تميم كلها غير بني سعد، وخرجت معه بنو أسد لحلف كان بينهم وبين غطفان، حتى أتى لقيط الجون الكلبي، وهو ملك هجر «1» ، وكان يحيى من بها من العرب، فقال له: هل لك في قوم عادين قد ملأوا الأرض نعما وشاء فترسل معي ابنيك، فما أصبنا من مال وسبي فلهما، وما أصبنا من دم فلي؟ فأجابه الجون إلى ذلك، وجعل له موعدا رأس، الحول، ثم أتى لقيط النعمان بن المنذر فاستنجده وأطمعه في الغنائم، فأجابه، وكان لقيط وجيها عند الملوك، فلما كان على قرن الحول «2» من يوم رحرحان. انهلّت الجيوش إلى لقيط، وأقبل سنان بن أبي حارثة المرّي في غطفان، وهو والد هرم بن سنان الجواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجون ابنيه معاوية وعمرا، وأرسل النعمان أخاه لأمه حسان بن وبرة الكلبيّ، فلما توافوا خرجوا إلى بني عامر وقد أنذروا بهم وتأهبوا لهم، فقال الأحوص بن جعفر، وهو يومئذ رحا هوازن «3» ، لقيس بن زهير: ما ترى، فإنك تزعم أنه لم يعرض لك أمران إلا وجدت في أحدهما الفرج؟ فقال قيس بن زهير: الرأي أن نرتجل بالعيال والأموال حتى ندخل شعب جبلة، فنقاتل القوم دونها من وجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشعب «4» ، وإن لقيطا رجل فيه طيش، فسيقتحم عليك الجبل، فأرى لك أن تأمر بالإبل فلا ترعى ولا تسقى وتعقل «5» ، ثم تجعل الذراري «6» وراء ظهورنا، وتأمر

الرجال فتأخذ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشعب حلّت الرجالة عقل الإبل ثم لزمت أذنابها، فإنها تنحدر عليهم وتحن إلى مرعاها ووردها ولا يردّ وجوهها شيء، وتخرج الفرسان في أثر الرجالة الذين خلف الإبل، فإنها تحطم ما لقيت، وتقبل عليهم الخيل وقد حطموا من عل! قال الاحوص: نعم ما رأيت! فأخذ برأيه، ومع بني عامر يومئذ بنو عبس وغني في بني كلاب، وباهلة في بني كعب، والأبناء ابناء صعصعة، وكان رهط المعقر البارقي يومئذ في بني نمير بن عامر، وكانت قبائل بجيلة كلها فيهم غير قسر. قال أبو عبيدة: وأقبل لقيط والملوك ومن معهم، فوجدوا بني عامر قد دخلوا شعب جبلة، فنزلوا على فم الشّعب، فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فم الشعب حتى يعطشوا ويخرجوا، فوالله ليتساقطنّ عليكم تساقط البعر من أست البعير! فأتوا حتى دخلوا الشعب عليهم وقد عقلوا الإبل وعطشوها ثلاثة اخماس «1» ، وذلك اثنتا عشر ليلة، ولم تطعم شيئا، فلما دخلوا حلوا عقلها، فأقبلت تهوي، فسمع القوم دويّها في الشعب، فظنوا أن الشعب قد هدم عليهم، والرجالة في أثرها آخذين بأذنابها، فدقّت كل ما لقيت، وفيها بعير أعور يتلوه غلام أعسر «2» آخذ بذنبه وهو يرتجز ويقول: أنا الغلام الاعسر ... الخير فيّ والشرّ والشرّ فيّ أكثر فانهزموا لا يلوون على أحد، وقتل لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة أسره ذو الرّقيبة، وأسر سنان بن أبي حارثة المري أسره عروة الرحال، فجز ناصيته «3» وأطلقه فلم تشنه، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس، أسره قيس بن المنتفق فجزّ

ناصيته وخلاه طمعا في المكافأة، فلم يفعل، وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ ابن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل بن نهشل، فقال جرير: كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمر إذ دعا يالدارم ويوم الصّفا كنتم عبيدا لعامر ... وبالحزن أصبحتم عبيد اللهازم «1» يعني بالحزن: يوم الوقيط. وقال جرير أيضا في بني دارم: ويوم الشّعب قد تركوا لقيطا ... كأن عليه حلة أرجوان وكبّل حاجب بشمام حولا ... فحكّم ذا الرّقيبة وهو عان «2» وقالت دختنوس بنت لقيط ترثي لقيطا: قزت بنو أسد وخ ... رّ الطير عن أربابها عن خير خندف كلّها ... من كهلها وشبابها وأتمّها حسبا إذا ... نصّت إلى أحسابها وقال المعقر البارقي: أمن آل شعثاء الحمول البواكر ... مع الصّبح أم زالت قبيل الأباعر وحلّت سليمى في هضاب وأيكة ... فليس عليها يوم ذلك قادر وألقت عصاها واستقرت بها النّوى ... كما قرّ عينا إذا بالإياب المسافر «3» وصبّحها أملاكها بكتيبة ... عليها إذا أمست من الله ناظر معاوية بن الجون ذبيان حوله ... وحسّان في جمع الرّباب مكاثر وقد زحفت دودان تبغي لثأرها ... وجاشت تميم كالفحول تخاطر وقد جمعوا جمعا كأنّ زهاءه ... جراد هفا في هبوة متطاير «4» فمروا بأطناب البيوت فردّهم ... رجال بأطناب البيوت مساعر «5»

فباتوا لنا ضيفا وبتنا بنعمة ... لنا مسمعات بالدفّوف وزامر فلم نقرهم شيئا ولكن قراهم ... صبوح لدينا مطلع الشّمس حازر «1» وصبّحهم عند الشروق كتائب ... كأركان سلمى سيرها متواتر كأنّ نعام الدّوّ باض عليهم ... وأعينهم تحت الحبيك خوازر «2» من الضاربين الهام يمشون مقدما ... إذا غصّ بالرّيق القليل الحناجر أظنّ سراة القوم أن لن يقاتلوا ... إذا دعيت بالسفح عبس وعامر ضربنا حببك البيض في غمر لجّة ... فلم ينج في الناجين منهم مفاخر هوى زهدم تحت العجاج لعامر ... كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسر «3» يفرّج عنا كلّ ثغر نخافه ... مسحّ كسرحان الفصيمة ضامر «4» وكل طموح في العنان كأنها ... إذا اغتمست في الماء فتخاء كاسر «5» لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر «6» تخاف نساء يبتززن حليلها ... محرّبة قد أحردتها الضّرائر «7» استعار هذا البيت «فألقت عصاها» من المعقر البارقي. إذ كان مثلا في الناس- راشد بن عبد ربه السّلمى، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد ابن عبد ربه السلمي أميرا على المظالم والقضاء، فقال راشد بن عبد ربه: صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه تبتغيه تمّاضر «8»

يوم مقتل الحارق بن ظالم بالخربة

وحلمه شيب القذال عن الصّبا ... وللشيب عن بعض الغواية زاجر «1» فأقصر جهلي اليوم وآرتدّ باطلي ... عن اللهو لمّا آبيضّ مني الغدائر على أنه قد هاجه بعد صحوة ... بمعرض ذي الآجام عس بواكر «2» ولما دنت من جانب الغوط أخصبت ... وحلّت فلاقاها سليم وعامر وخبّرها الركبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «3» فاستعار هذا البيت الأخير من المعقر البارقي، ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثلهم به. يوم مقتل الحارق بن ظالم بالخربة «4» قال أبو عبيدة: لما قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر الكلابي، أتى صديقا له من كندة فالتف عليه، فطلبه الملك فخفى ذكره حتى شخص من عند الكندي، وأضمرته «5» البلاد حتى استجار بزياد أحد بني عجل بن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم، فإنه لا طاقة لنا بالشهباء ودوسر- وهما كتيبتان للأسود بن المنذر- ولا بمحاربة الملك فأبت ذلك عليهم عجل، فلما رأى ذلك الحارث بن ظالم كره أن تقع بينهم فتنة بسببه، فارتحل من بني عجل إلى جبلي طيء، فأجاروه، فقال في ذلك: لعمري لقد حلّت بي اليوم ناقتي ... على ناصر من طيّىء غير خاذل فأصبحت جارا للمجرّة فيهم ... على باذخ يعلو يد المتطاول «6» إذا أجا لفّت عليّ شعابها ... وسلمى فأنّى أنتم من تناولي «7»

فمكث عندهم حينا، ثم إن الاسود بن المنذر لما اعجزه أمره أرسل إلى جارات كن للحارث بن ظالم، فاستاقهنّ وأموالهن، فبلغ ذلك الحارث بن ظالم، فخرج من الحين فاندس الحارث بن ظالم في الناس حتى علم مكان جاراته ومرعى إبلهنّ، فأتاهنّ فاستنقذهنّ واستاق إبلهنّ، فألحقهنّ بقومهنّ، واندس في بلاد غطفان، حتى أتى سنان بن أبي حارثة المري- وهو ابو هرم الذي كان يمدحه زهير- وكان الاسود بن المنذر قد استرضع ابنه شرحبيل عند سلمى امرأة سنان وهي من بني غنم بن دودان بن أسد، فكانت لا تأمن على ابن الملك أحدا، فاستعار الحارث بن ظالم سرج سنان وهو في ناحية الشربة «1» ، لا يعلم سنان ما يريد، وأتى بالسرج امرأة سنان وقال لها: يقول لك بعلك ابعثي ابنك مع الحارث، فإني أريد أن استأمن له الملك، وهذا سرجه آية ذلك. قال: فزيّنته سلمى ورفعته إليه فأتى به ناحية من الشربة فقتله، وقال في ذلك: أخصي حمار بات يكدم نجمة ... أتوكل جاراتي وجارك سالم «2» علوت بذي الحيّات مفرق رأسه ... ولا يركب المكروه إلا الأكارم «3» فتكت به كما فتكت بخالد ... وكان سلاحي تجتويه الجماجم «4» بدأت بذاك وانثنيت بهذه ... وثالثة تبيضّ منها المقادم قال: وهرب الحارث من فوره ذلك، وهرب سنان بن أبي حارثة، فلما بلغ الاسود قتل ابنه شرحبيل، غزا بني ذبيان، فقتل وسبي وأخذ الأموال، وأغار على بني دودان رهط سلمى التي كان شرحبيل في حجرها، فقتلهم وسباهم فنشط لذلك، قال: فوجد بعد ذلك نعلي شرحبيل في ناحية الشربة عند بني محارب بن خصفة، فغزاهم الملك، ثم أسرهن، ثم أحمى الصفا «5» ، وقال: إني أحذيكم نعالا فأمشاهم على ذلك الصفا، فتساقطت أقدامهم، ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفزاري، احتمل للاسود

دية ابنه ألف بعير، وهي دية الملوك، ورهنه بها قوسه فوفاه بها، فقال في ذلك: ونحن رهنّا القوس ثمّت فوديت ... بألف على ظهر الفزاري أقرعا «1» بعشر مئين للملوك وفى بها ... ليحمد سيّار بن عمرو فأسرعا فكان هذا قبل قوس حاجب، فقال في ذلك أيضا: هل وجدتم حاملا كحاملي ... إذا رهن القوس بألف كامل بدية ابن الملك الحلاحل ... فافتكّها من قبل عام قابل سيّار الموفي بها ذو النائل وهرب الحارث فلحق بمعبد بن زارة فاستجار به فأجاره، وكان من سيبه وقعة رحرحان التي تقدّم ذكرها، ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش، لأنه يقال إن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، إنما هو مرة بن عوف بن لؤي بن غالب، فتوسل اليهم بهذه القرابة، وقال في ذلك: إذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت إلى لؤيّ إلى نسب كريم غير دغل ... وحيّ من أكارم كلّ حيّ «2» فإن يك منهم أصلي فمنهم ... قرابين الإله بنو قصيّ فقالوا: هذه رحم كرشاء «3» إذا استغنيتم عنها لن يتركم «4» . قال: فشخص الحارث عنهم غضبان. وقال في ذلك: ألا لستم منا ولا نحن منكم ... برئنا إليكم من لؤيّ بن غالب غدونا على نشز الحجاز وأنتم ... بمنشعب البطحاء بين الاخاشب «5» وتوجه الحارث بن ظالم إلى الشام، فلحق بيزيد بن عمرو الغساني فأجاره وأكرمه،

حرب داحس والغبراء: وهي من حروب قيس

وكان ليزيد ناقة محماة «1» ، في عنقها مدية وزنادة وصرّة ملح، وإنما كان يمتجن بها رعيته لينظر من يجترىء عليه، فوحمت امرأة الحارث فاشتهت شحما في وحمها، فانطلق الحارث إلى ناقة الملك فانتحرها، وأتاها بشحمها، وفقدت الناقة، فأرسل الملك إلى الحمس التغلبي وكان كاهنا، فسأله عن الناقة، فأخبره أن الحارث صاحبها، فهم الملك به، ثم تذمّم «2» من ذلك، وأوجس الحارث في نفسه شرا فأتى الخمس التغلبي فقتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقتله، فقال: أيها الملك إنك قد أجرتني فلا تغدرنّ بي! فقال الملك: لا ضير، إن غدرت بك مرة فقد غدرت بي مرارا! وأمر ابن الخمس فقتله، وأخذ ابن الخمس سيف الحارث فأتى به عكاظ في الاشهر الحرم، فأراه قيس بن زهير العبسي، فضربه قيس فقتله، وقال يرثي الحارث بن ظالم: وما قصرت من حاضن ستر بيتها ... أبرّ وأوفى منك حار بن ظالم «3» اعزّ وأحمى عند جار وذمّة ... وأضرب في كاب من النّقع قاتم «4» حرب داحس والغبراء: وهي من حروب قيس قال ابو عبيدة: حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان ابني بغيض بن ريث بن غطفان، وكان السبب الذي هاجها أن قيس بن زهير، وحمل بن بدر، تراهنا على داحس والغبراء أيهما يكون له السبق، وكان داحس فحلا لقيس بن زهير، والغبراء حجرا «5» لحمل بن بدر، وتواضعا الرهان على مائة بعير، وجعلا منتهى الغاية مائة غلوة «6» ، والإضمار «7» أربعين ليلة، ثم قادوهما إلى رأس الميدان بعد أن أضمروهما

أربعين ليلة، وفي طرف الغاية شعاب كثيرة، فأكمن حمل بن بدر في تلك الشعاب فتيانا على طريق الفرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقا يردّوا وجهه عن الغاية. قال: فأرسلوهما فأحضرا «1» ، فلما أحضرا خرجت الانثى من الفحل، فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس! فقال قيس: رويدا يعدوان الجدد «2» إلى الوعث وترشح أعطاف الفحل. قال: فلما أوغلا في الجدد وخرجا إلى الوعث، برز داحس عن الغبراء، فقال قيس: جري المذكيات «3» غلاء «4» . فذهبت مثلا، فلما شارف داحس الغاية ودنا من الفتية، وثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية، ففي ذلك يقول قيس ابن زهير: وما لا قيت من حمل بن بدر ... وإخوته على ذات الإصاد «5» هم فخروا عليّ بغير فخر ... وردوا دون غايته جوادي وثارت الحرب بين عبس وذبيان ابني بغيض، فبقيت أربعين سنة لم تنتج لهم ناقة ولا فرس، لاشتغالهم بالحرب، فبعث حذيفة بن بدر ابنه مالكا إلى قيس بن زهير يطلب منه حق السبق، فقال قيس: كلا لا مطلتك به. ثم أخذ الرمح فطعنه به فدق صلبه، ورجعت فرسه عارية، فاجتمع الناس فاحتملوا دية مالك مائة عشراء- وزعموا أن الربيع بن زياد العبسي حملها وحده- فقبضها حذيفة، وسكن الناس. ثم ان مالك بن زهير نزل اللّقاطة «6» من أرض الشربة، فأخبر حذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عنترة الفوارس: فلله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم أن جرى فرسان «7»

فليتهما لم يجريا قيد غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان فقالت بنو عبس: مالك بن زهير بمالك بن حذيفة، وردوا علينا مالنا. فأبى حذيفة أن يرد شيئا، وكان الربيع بن زياد مجاورا لبني فزارة، ولم يكن في العرب مثله ومثل إخوته، وكان يقال لهم: الكملة، وكان مشاحنا «1» لقيس بن زهير من سبب درع لقيس غلبه عليها الربيع بين زياد، فاطرد قيس لبونا لبني زياد فأتى بها مكة، فعاوض بها عبد الله بن جدعان بسلاح، وفي ذلك يقول قيس بن زهير: ألم يبلغك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد ومحبسها على القرشيّ تشرى ... بأدراع وأسياف حداد وكنت إذا بليت بخصم سوء ... دلفت له بداهية نآد «2» ولما قتل مالك بن زهير، قامت بنو غزارة يسألون ويقولون: ما فعل حماركم؟ قالوا: صدناه! فقال الربيع: ما هذا الوحي؟ قالوا: قتلنا مالك بن زهير. قال: بئس ما فعلتم بقومكم، قبلتم الدية ثم رضيتم بها وغدرتم! قالوا: لولا أنك جارنا لقتلناك! وكانت خفرة «3» الجار ثلاثا: فقالوا له: بعد ثلاث ليال اخرج عنا. فخرج واتبعوه، فلم يلحقوه حتى لحق بقومه، وأتاه قيس بن زهير فعاقده، وفي ذلك يقول الربيع: فإن تك حربكم أمست عوانا ... فإني لم أكن ممن جناها «4» ولكن ولد سودة أرّثوها ... وحشوا نارها لمن اصطلاها «5» فإني غير خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بلغت مداها ثم نهضت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان إلى بني فزارة وذبيان، ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بن فزارة حذيفة بن بدر.

يوم المريقب: لبني عبس على فزارة

يوم المريقب: لبني عبس على فزارة فالتقوا بذي المريقب من أرض الشّربّة فاقتتلوا، فكانت الشوكة في بني فزارة، قتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين، أحد بني عدي بن فزارة، وضمضم أبو الحصين المرّي، قتله عنترة الفوارس، ونفر كثير ممن لا يعرف اسماؤهم، فبلغ عنترة أن حصينا وهرما ابني ضمضم يشتمانه ويوعدانه، فقال في قصيدته التي أوّلها: هل غادر الشعراء من متردّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهّم «1» يا دار عبلة بالجواء تكلّمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي «2» ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم «3» الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والنّاذرين إذا لم القهما دمي إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السّباع وكلّ نسر قشعم «4» لمّا رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسّم «5» وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس: فلتعلمنّ إذ التقت فرساننا ... يوم المريقب أنّ ظنّك أحمق يوم ذي حسى: لذبيان على عبس ثم إن ذبيان تجمعت لما أصابت منهم يوم المريقب فزارة بن ذبيان ومرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وأحلافهم، فنزلوا فتوافوا بذي حسى- وهو وادي الصفا من أرض الشربة وبينها وبين قطن «6» ثلاث ليال، وبينها وبين اليعمريّة «7» ليلة.

يوم اليعمرية: لعبس على ذبيان

فهربت بنو عبس، وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذبيان، واتبعوهم حتى لحقوهم، فقالوا: التفاني أو تقيدونا «1» . فأشار قيس بن زهير على الربيع بن زياد أن لا بناجزوهم، وأن يعطوهم رهائن من أبنائهم حتى ينظروا في أمرهم، فتراضوا أن تكون رهنهم عند سبيع بن عمرو، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فدفعوا إليه ثمانية من الصبيان وانصرفوا وتكافّ الناس، وكان رأي الربيع مناجزتهم «2» فصرفه قيس عن ذلك، فقال الربيع: أقول ولم أملك لقيس نصيحة ... فقد حشّ جاني الحرب نارا تضرّم «3» فمكث رهنهم عند سبيع بن عمرو حتى حضرته الوفاة، فقال لابنه مالك بن سبيع: إن عندك مكرمة لا تبيد إن أنت حفظت هؤلاء الأغيلمة، فكأني بك لو متّ أتاك خالك حذيفة بن بدر فعصر «4» لك عينيه وقال: هلك سيدنا! ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبدا، فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك سبيع أطاف حذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه، فأتى بهم اليعمرية، فجعل يبرز كل يوم غلاما فينصبه غرضا، ويقول: ناد أباك! فينادي أباه حتى يقتله. يوم اليعمرية: لعبس على ذبيان فلما بلغ ذلك من فعل حذيفة بني عبس اتوهم باليعمريّة، فلقوهم بالحرّة- حرة اليعمرية- فقتلوا منهم اثني عشر رجلا، منهم مالك بن سبيع الذي رمى بالغلمة إلى حذيفة، وأخوه يزيد بن سبيع، وعامر بن لوذان، والحرث بن زيد، وهرم بن ضمضم أخو حصين. ويقال ليوم اليعمرية: يوم نفر، لأن بينهما أقل من نصف يوم.

يوم الهباءة: لعبس على ذبيان

يوم الهباءة: لعبس على ذبيان ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جنب جفر الهباءة «1» ، واقتتلوا من بكرة حتى انتصف النهار، وحجز الحرّ بينهم، وكان حذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركض، فقال قيس بن زهير: يا بني عبس، إن حذيفة غدا إذا احتدمت الوديقة «2» مستنقع في جفر الهباءة فعليكم بها. فخرجوا حتى وقعوا على أثر صارف، فرس حذيفة، والحنفاء، فرس حمل بن بدر، فقال قيس بن زهير: هذا اثر الحنفاء وصارف، فقفوا أثرهما حتى توافوا مع الظهيرة على الهباءة. فبصر بهم حمل بن بدر، فقال لهم: من أبغض الناس إليكم أن يقف على رؤسكم؟ قالوا: قيس بن زهير، والربيع بن زياد، فقال: هذا قيس بن زهير قد أتاكم فلم ينقض كلامه حتى وقف قيس وأصحابه على جعفر الهباءة، وقيس يقول: لبيكم لبيكم! يعني إجابة الصّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يقتلون! وفي حذيفة وحمل ابنا بدر ومالك بن بدر، وورقاء بن خلال من بني ثعلبة ابن سعد، وحنس بن وهب، فوقف عليهم شدّدا بن معاوية العبسي، وهو فارس جروة، وجروة فرسه، ولها يقول: ومن يك سائلا عني فإني ... وجروة كالشّجا تحت الوريد «3» أقوّتها بقوتي إن شتونا ... وألحفها ردائي في الجليد فحال بينهم وبين خيليهم، ثم توافت فرسان بني عبس، فقال حمل: ناشدتك الله والرحم يا قيس! فقال: لبيكم لبيكم! فعرف حذيفة أنه لن يدعهم، فانتهر حملا وقال: إياك والمأثور من الكلام! فذهبت مثلا، وقال لقيس: لئن قتلتني لا تصلح غطفان بعدها! فقال قيس: أبعدها الله ولا أصلحها! وجاءه قراوش بمعبلة «4» فقصم صلبه، وابتدره الحارث بن زهير وعمرو بن الأسلع، فضرباه بسيفهما حتى ذفّفا «5»

عليه، وقتل الربيع بن زياد حمل بدر، فقال قيس بن زهير يرثيه: تعلّم أنّ خير الناس ميت ... على جفر الهباءة ما يريم ولولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النّجوم ولكن الفتّى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم «1» أظنّ الحلم دلّ عليّ قومي ... وقد يستضعف الرجل الحليم ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوج عليّ ومستقيم ومثّلوا بحذيفة بن بدر كما مثّل هو بالغلمة، فقطعوا مذاكيره وجعلوها في فيه، وجعلوا لسانه في استه، وفيه يقول قائلهم: فإن قتيلا بالهباءة في استه ... صحيفته إن عاد للظلم ظالم متى تقرءوها تهدكم عن ضلالكم ... وتعرف إذا ما فضّ عنها الخواتم وقال في ذلك عقيل بن علّقة المزي: ويوقد عوف للعشيرة ناره ... فهلّا على جفر الهباءة أوقدا فإنّ على جفر الهباءة هامة ... تنادي بني بدر وعارا مخلّدا «2» وإنّ أبا ورد حذيفة مثفر ... بأير على جفر الهباءة أسودا «3» وقال الربيع بن قعنب: خلق المخازي غير أنّ بذي حسى ... لبني فزارة خزية لا تخلق «4» تبيان ذلك أنّ في است أبيهم ... شنعاء من صحف المخازي تبرق وقال عمر بن الاسلع: إن السماء وان الارض شاهدة ... والله يشهد والانسان والبلد

يوم الفروق

أنّي جزيت بني بدر بسعيهم ... على الهباءة قتلا ما له قود «1» لمّا التقينا على أرجاء جمّتها ... والمشرفيّة في أيماننا تقد «2» علوته بحسام ثم قلت له ... خذها إليك فأنت السيد الصمد «3» فلما اصيب أهل الهباءة واستعظمت غطفان قتل حذيفة، تجمعوا، وعرفت بنو عبس أن ليس لهم مقام بأرض غطفان، فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حنيفة، ثم رحلوا عنهم فنزلوا ببني سعد بن زيد بن مناة. يوم الفروق ثم ان بني سعد غدروا بجوارهم فأتوا معاوية بن الجون فاستجاشوه «4» وأرادوا أكلهم، فبلغ ذلك بني عبس، ففرّوا ليلا، وقدّموا ظعنهم «5» ، ووقف فرسانهم بموضع يقال له الفروق «6» ، وأغارت بنو سعد ومن معهم من جنود الملك على محلتهم، فلم يجدوا إلا مواقد النيران، فاتبعوهم حتى أتوا الفروق، فإذا بالخيل والفرسان وقد توارت الظعن عنهم، فانصرفوا عنهم، ومضى بنو عبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم، وكان بنو جذيمة من بني عبس يسمّون بني رواحة، وبني بدر بن فزارة يسمون بني سودة، ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم. وكان أوّل من سعى في الحمالة حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرة، فمات، فسعى فيها هاشم بن حرملة ابنه، وله يقول الشاعر: أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباتين ويوم اليعمله

يوم قطن

ترى الملوك حوله مرعبله ... يقتل ذا الذّنب ومن لا ذنب له «1» يوم قطن فلما توافوا للصلح، وقفت بنو عبس بقطن، وأقبل حصين بن ضمضم، فلقي تيحان أحد بني مخزوم بن مالك فقتله بأبيه ضمضم، وكان عنترة بن شدّاد قتله بذي المريقب، فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان، وقالوا: لا نصالحكم ما بلّ البحر صوفة «2» ، وقد غدرتم بنا غير مرة. وتناهض القوم: عبس وذبيان، فالتقوا بقطن «3» ، فقتل يومئذ عمرو بن الأسلع عيينة، ثم سفرت «4» السفراء بينهم، وأتى خارجة بن سنان أبا تيحان بابنه فدفعه إليه، فقال: في هذا وفاء من ابنك! فأخذه فكان عنده أياما، ثم حمل خارجة لأبي تيحان مائة بغير قادها إليه، واصطلحوا وتعاقدوا. يوم غدير قلهى قال أبو عبيدة: فاصطلح الحيان، إلا بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فإنهم أبوا ذلك وقالوا: لا نرضى حتى يودوا قتلانا أو يهدر دم من قتلها فخرجوا من قطن حتى وردوا غدير قلهى، فسبقهم بنو عبس إلى الماء، فمنعوهم حتى كادوا يموتون عطشا ودوابّهم، فأصلح بينهم عوف ومعقل ابنا سبيع من بني ثعلبة، وإياهما يعني زهير بقوله: تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم «5» فوردوا حربا وأخرجوا عنه سلما. تم حرب داحس والغبراء.

يوم الرقم: لغطفان على بني عامر

يوم الرقم: لغطفان على بني عامر غزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غطفان بالرّقم «1» - وهو ماء لبني مرة- وعلى بني عامر: عامر بن الطفيل- ويقال يزيد بن الصعق- فركب عيينة بن حصن في بني فزارة، ويزيد بن سنان في بني مرة- ويقال الحارث بن عوف- فانهزمت بنو عامر، وجعل يقاتل عامر بن الطفيل ويقول: يا لقيس لا تقتلي تموتي! فزعمت بنو غطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذ أربعة وثمانين رجلا، فدفعوهم إلى أهل بيت من أشجع كانت بنو عامر قد أصابوا فيهم، فقتلوهم أجمعين، وانهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم جراب بن كعب، حتى انتهوا إلى ماء يقال له المروزات، فقطع العطش اعناقهم فماتوا، وخنق نفسه الحكم بن الطفيل تحت شجرة مخافة المثلة «2» ، وقال في ذلك عروة بن الورد: عجبت لهم لم يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغي كان أجدرا يوم النتأة: لعبس على بني عامر خرجت بنو عامر تريد أن تدرك بثأرها يوم الرقم، فجمعوا على بني عبس بالنّتأة وقد أنذروا بهم، فالتقوا وعلى بني عامر: عامر بن الطفيل، وعلى بني عبس: الربيع بن زياد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت بنو عامر، وقتل منهم صفوان بن مرة. قتلة الأحنف بن مالك، ونهشل بن عبيدة بن جعفر، قتله أبو زغبة بن حارث، وعبد الله بن أنس بن خالد، وطعن ضبيعة بن الحارث عامر بن الطفيل فلم يضرّه ونجا عامر، وهزمت بنو عامر هزيمة قبيحة، فقال خراشة بن عمرو العبسي: وساروا على أظمائهم وتواعدوا ... مياها تحامتها تميم وعامر «3»

يوم شواحط: لبني محارب على بني عامر

كأن لم يكن بين الذناب وواسط ... إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر «1» ألا أبلغا عني خليلي عامرا ... أتنسى سعاد اليوم أم أنت ذاكر وصدّتك أطراف الرماح عن الهوى ... وردت أمورا ليس فيها مصادر وغادرت هزّان الرئيس ونهشلا ... فلله عينا عامر من يغادر «2» وأسلت عبد الله لما عرفتهم ... ونجّاك وثّاب الجراميز ضامر «3» قذفتهم في اليمّ ثم خذلتهم ... فلا وألت نفس عليك تحاذر «4» وقال أبو عبيدة: إن عامر بن الطفيل هو الذي طعن ضبيعة بن الحارث ثم نجا من طعنته، وقال في ذلك: فإن تنج منها يا ضبيع فإنني ... وجدّك لم أعقل عليك التمائما «5» يوم شواحط «6» : لبني محارب على بني عامر غزت سرية من بني عامر بن صعصعة بلاد غطفان، فأغارت على إبل لبني محارب ابن خصفة، فأدركهم الطلب، فقتلوا من بني كلاب سبعة وارتدوا إبلهم، فلما رجعوا من عندهم وثب بنو كلاب على جسر، وهم من بني محارب كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صعصعة- فقالوا: نقتلهم بقتل بني محارب من قتلوا منا. فقام خداش بن زهير دونهم حتى منعهم من ذلك، وقال: أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... عقيلا وأبلغ إن لقيت أبا بكر فيا أخوينا من أبينا وأمّنا ... إلكم إليكم لا سبيل إلى حشر دعوا جانبي إني سأترك جانبا ... لكم واسعا بين اليمامة والقهر «7»

يوم حوزة الأول: لسليم على غطفان

أنا فارس الضحياء عمرو بن عامر ... أبى الذّمّ واختار الوفاء على الغدر «1» يوم حوزة «2» الأول: لسليم على غطفان قال أبو عبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حرملة أحد بني مرة بن غطفان، كلام بعكاظ، فقال معاوية: لوددت والله أني قد سمعت بظعائن «3» يندبنك! فقال هاشم: والله لوددت أني قد ترّبت الرطبة- وهي جمة «4» معاوية، وكانت الدهر تنظف ماء ودهنا وإن لم تدهن- فلما كان بعد [حين] تهيأ معاوية ليغزو هاشما، فنهاه أخوه صخر فقال: كأني بك إن غزوتهم علق بجمتك حسك العرقط «5» . فقال: فأبى معاوية وغزاهم يوم حوزة فرآه هاشم بن حرملة قبل أن يراه معاوية، وكان هاشم ناقها من مرض أصابه، فقال لأخيه دريد بن حرملة: إن هذا إن رآني لم آمن أن يشدّ عليّ. وأنا حديث عهد بشكيّة «6» ، فاستطرد له دوني حتى تجعله بيني وبينك. ففعل، فحمل عليه معاوية وأردفه هاشم فاختلفا طعنتين، فأردى معاوية هاشما عن فرسه الشماء، وأنفذ هاشم سنانه من عانة معاوية. قال: وكرّ عليه دريد فظنه قد أردى هاشما، فضرب معاوية بالسيف فقتله، وشد خفاف بن عمير على مالك بن حارث الفزاري قال: وعادت الشماء فرس هاشم حتى دخلت في جيش بني سليم فأخذوها وظنوها فرس الفزاري الذي قتله خفاف، ورجع الجيش حتى دنوا من صخر أخي معاوية، فقالوا: أنعم صباحا أبا حسان! قال: حييّتم بذلك، ما صنع معاوية؟ قالوا: قتل! قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قتلنا صاحبها! قال: إذا قد أدركتم ثأركم، هذه فرس هاشم بن حرملة. قال: فلما دخل رجب، ركب صخر بن عمرو الشماء صبيحة يوم حرام، فأتى بني

يوم حوزة الثاني

مرة، فلما رأوه قال لهم هاشم: هذا صخر فحيّوه وقولوا له خيرا. وهاشم مريض من الطعنة التي طعنه معاوية، فقال: من قتل أخي؟ فسكتوا، فقال: لمن هذه الفرس التي تحتي؟ فسكتوا، فقال هاشم: هلمّ أبا حسّان إلى من يخبرك! قال: من قتل أخي؟ فقال هاشم: إذا أصبتني أو دريدا فقد أصبت ثأرك! قال فهل كفنتموه؟ قال: نعم، في بردين: أحدهما بخمس وعشرين بكرة «1» . قال: فأروني قبره. فأروه إياه، فلما رأى القبر جزع عنده، ثم قال: كأنكم قد أنكرتم ما رأيتم من جزعي، فوالله ما بتّ منذ عقلت إلا واترا أو موتورا، أو طالبا أو مطلوبا، حتى قتل معاوية، فما ذقت طعم نوم بعده! يوم حوزة الثاني قال: ثم غزاهم صخر، فلما دنا منهم مضى على الشماء، وكانت غراء محجّلة «2» ، فسوّد غرتها وتحجيلها، فرأته بنت لهاشم، فقالت لعمها دريد: أين الشماء؟ قال: هي في بني سليم، قالت: ما أشبهها بهذه الفرس! فاستوى جالسا فقال: هذه فرس بهيم، والشماء غراء محجلة. وعاد فاضطجع، فلم يشعر حتى طعنه صخر. قال: فثاروا وتناذروا، وولى صخر وطلبته غطفان عامة يومها، وعارض دونه أبو شجرة ابو عبد العزى، وكانت أمه خنساء أخت صخر، وصخر خاله، فردّ الخيل عنه حتى أراح فرسه ونجا إلى قومه، فقال خفاف بن ندبة لما قتل معاوية: قتلني الله إن برحت من مكاني حتى أثأر به فشد على مالك سيد بني جمح فقتله، فقال في ذلك: فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيمّمت مالكا «3» نصبت له علوى وقد خان صحبتي ... لأبني مجدا او لأثأر هالكا «4»

أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا، إنني أنا ذلكا «1» وقال صخر يرثي معاوية، وكان قال له قومه: اهج بني مرة! فقال: ما بيننا أجلّ من القذع [ولو لم أمسك عن سبّهم إلا صيانة للساني عن الخنا «2» لفعلت! ثم خاف أن يظنّ به عيّ] وأنشأ يقول: وعاذلة هبّت بليل ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي أن أهجوهم ثم ماليا أبى الذّمّ أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا إذا ما امرؤ أهدى لميت تحيّة ... فحياك ربّ الناس عني معاويا وهوّن وجدي أنني لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا وذي إخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحدا لا أخاليا «3» وقال في قتل دريد: ولقد دفعت إلى دريد طعنة ... نجلاء توغر مثل غطّ المنخر «4» ولقد قتلتكم ثناء وموحدا ... وتركت مرّة مثل أمس الدابر «5» قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حرملة فإنه خرج منتجعا فلقيه عمرو بن قيس الجشمي فتبعه وقال: هذا قاتل معاوية، لا وألت نفسي إن وأل «6» ! فلما نزل هاشم كمن له عمرو بن قيس بين الشجر، حتى إذا دنا منه أرسل عليه معبلة «7» ففلق قحفه فقتله، وقال في ذلك: لقد قتلت هاشم بن حرمله ... إذ الملوك حوله مغربله يقتل ذا الذّنب ومن لا ذنب له

يوم ذات الأثل

يوم ذات الأثل «1» قال أبو عبيدة: ثم غزا صخر بن عمرو بن الشريد بن أسد بن خزيمة واكتسح إبلهم، فاتى الصريخ بن اسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ربيعة بن ثور الأسدي صخرا في جنبه، وفات القوم بالغنيمة، وجوى «2» صخر من الطعنة، فكان مريضا قريبا من الحول. حتى مله أهله، فسمع امرأة من جاراته تسأل سلمى امرأته كيف بعلك؟ قالت: لا حيّ فيرجى، ولا ميّت فينسى، لقد لقينا منه الأمرين! وكانت تسأل أمّه: كيف صخر؟ فتقول: أرجو له العافية إن شاء الله! فقال في ذلك: أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتي ... وملّت سليمي مضجعي ومكاني فأيّ امرىء ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان «3» وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان لعمري لقد نبّهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان «4» فلما طال عليه البلاء وقد نتأت قطعة من جنبه مثل اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ. فقال: شأنكم! فقطعوها فمات، فقالت الخنساء أخته ترثيه: فما بال عيني ما بالها ... لقد أخضل الدمع سر بالها أمن بعد صخر من ال الشريد ... حلّت به الأرض أثقالها «5» فآليت أبكي على هالك ... وأسأل نائحة مالها هممت بنفسي كلّ الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها لأحمل نفسي على آلة ... فإمّا عليها وإمّا لها «6»

يوم عدنية: هو يوم ملحان

وقالت ترثيه: وقائلة والنّفس قد فات خطوها ... لتدركه: يا لهف نفسي على صخر! ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر، ماذا يحملون إلى القبر! يوم عدنية: هو يوم ملحان «1» قال أبو عبيدة: هذا اليوم قبل ذات الأثل، وذلك أن صخرا غزا بقومه وترك الحيّ خلوا، فأغارت عليهم غطفان، فثارت إليهم غلمانهم ومن كان تخلف منهم، فقتل من غطفان نفر وانهزم الباقون، فقال في ذلك صخر: جزى الله خيرا قومنا إذ دعاهم ... بعدنيّة الحي الخلوف المصبح «2» وغلماننا كانوا أسود خفيّة ... وحقّ علينا أن يثابوا ويمدحوا هم نفّروا أقرانهم بمضرّس ... وسعر وذادوا الجيش حتى تزحزحوا «3» كأنهم إذ يطردون عشيّة ... بقنّة ملحان نعام مروّح يوم اللوى «4» : لغطفان على هوازن قال أبو عبيدة: غزا عبد الله بن الصمة- واسم الصمة: معاوية الأصغر- من بني غزيّة بن جثم بن معاوية بن بكر بن هوازن- وكان لعبد الله ثلاثة اسماء وثلاث كنى، فاسمه: عبد الله، وخالد، ومعبد، وكنيته: أبو فرغان، وأبو دفاقة وأبو وفاء، وهو أخو دريد بن الصمة لأبيه وأمه- فأغار على غطفان، فأصاب منهم إبلا عظيمة فاطّردها، فقال له أخوه دريد: النجباء فقد ظفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى أنتقع نقيعتي- والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الإبل فيصنع منها طعاما لأصحابه، ويقسم ما أصاب على أصحابه فأقام وعصى أخاه، فتبعته فزارة فقاتلوه، وهو بمكان

يقال له اللوى، فقتل عبد الله، وارتثّ «1» دريد فبقي في القتلى فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدهما لصاحبه: أني أرى عينيه تبصّ «2» ، فانزل فانظر إلى سبّته «3» . فنزل فكشف ثوبه فإذا هي ترمّز «4» فطعنه، فخرج دم قد كان احتقن. قال دريد: فأفقت عندها، فلما جاوزوني نهضت. قال: فما شعرت إلا وأنا عند عرقوب «5» جمل امرأة من هوازن، فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرك! قلت: لا، بل من انت؟ ويلك! قالت: امرأة من هوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن، وأنا دريد بن الصمّة. قال: وكانت في قوم مجتازين لا يشعرون بالوقعة، فضمته وعالجته حتى أفاق. فقال دريد يرثي عبد الله أخاه، ويذكر عصيانه له وعصيان قومه، بقوله: أعاذل إنّ الرّزء في مثل خالد ... ولا رزء فيما أهلك المرء عن يد «6» وقلت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بني السّوداء والقوم شهدي «7» علانية ظنّوا بألفي مدجّج ... سراتهم في الفارسيّ المسرّد «8» أمرتهم أمري بمنقطع اللّوى ... فلم يستبينوا الرشد إلّا ضحى الغد فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم أو أنّني غير مهتّد وما أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد «9» فإن تعقب الأيام والدهر تعلموا ... بني غالب أنا غضاب لمعبد تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي

فإن يك عبد الله خلّى مكانه ... فما كان وقّافا ولا طائش اليد ولا برما إذ ما الرياح تناوحت ... برطب العضاه والضّريع المعضّد «1» كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الضّرّاء طلّاع أنجد «2» قليل التّشكي للمصائب حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وهوّن وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج دريد بن الصمة في فوارس من بني جشم حتى إذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الأخرم «3» ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة إذ رفع له رجل في ناحية الوادي معه طعينة، فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه: صح به: خلّ عن الظعينة «4» وانج بنفسك، فانتهى إليه الفارس وصاح به وألحّ عليه فألقى زمام الناقة وقال للظعينة: سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن «5» إنّ انثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي واخبري وعايني ثم حمل عليه فصرعه وأخذ فرسه فأعطاه للظعينة، فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فلما انتهى إليه ورأى ما صنع، صاح به فتصامم «6» عنه كأن لم يسمع، فظن أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى زمام الراحلة إلى الظعينة، ثم خرج وهو يقول: خلّ سبيل الحرّة المنيعة ... إنك لاق دونها ربيعه في كفّه خطّيّة مطيعه ... أولا فخذها طعنة سريعه «7» والطعن مني في الوغى شريعه

ثم حمل عليه فصرعه، فلما أبطآ على دريد بعث فارسا لينظر ما صنعا، فلما انتهى اليهما وجدهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه، فقال له الفارس: خلّ عن الظعينة! فقال للظعينة: اقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال: ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس «1» أردهما عامل رمح يابس ثم حمل عليه فصرعه، وانكسر رمحه. وارتاب دريد، وظنّ أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل، فلحق دريد ربيعة وقد دنا من الحي، ووجد اصحابه قد قتلوا: فقال: أيها الفارس، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحك، والخيل ثائرة بأصحابها [وأراك حديث السنّ] فدونك هذا الرمح، فإني منصرف إلى أصحابي فمثبّطهم عنك. فانصرف إلى اصحابه فقال: إن فارس الظعينة قد حماها وقتل اصحابكم وانتزع رمحي، ولا مطمع لكم فيه! فانصرف القوم، وقال دريد في ذلك: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظّعينة فارسا لم يقتل أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمرّ كأنه لم يفعل «2» متهلّلا تبدو أسرّة وجهه ... مثل الحسام جلته كفّ الصّيقل «3» يزجي ظعينته ويسحب رمحه ... متوجّها يمناه نحو المنزل وترى الفوارس من مهابة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدل «4» يا ليت شعري من أبوه وأمّه ... يا صاح من يك مثله لا يجهل وقال ابن مكدم:

إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عن الظّعينة يوم وادي الأخرم «1» إذ هي لأوّل من أتاها نهزة ... لولا طعان ربيعة بن مكدّم إذ قال لي أدنى الفوارس منهم ... خلّ الظّعينة طائعا لا تندم فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم وهتكت بالرّمح الطويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم ومنحت آخر بعده جيّاشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم «2» ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار عن العداة تكرّمي ثم لم يلبث بنو كنانة [رهط ربيعة بن مكدّم] أن أغارت على بني جشم [رهطدريد] ، فقتلوا [وأسروا وغنموا] ، وأسروا دريد بن الصّمة، فأخفى نسبه، فبينما هو عندهم محبوس، إذ جاءت نسوة يتهادين «3» إليه، فصاحت إحداهن فقالت: هلكتم وأهلكتم، ماذا جرّ علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! ثم ألقت عليه ثوبها، وقالت يا آل فراس أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي! فسألوه: من هو؟ فقال أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته بنو سليم! قال: فا فعلت الظعينة؟ قالت المرأة: أنا هي، وأنا امرأته! فحبسه القوم وآمروا أنفسهم، فقال بعضهم: لا ينبغي لدريد أن تكفر نعمته على صاحبنا! وقال الآخرون لا والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره، فانبعثت المرأة في الليل- وهي ريطة بنت جزل الطعان- فقالت: سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... وكلّ امرىء يجزى بما كان قدّما فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإن كان شرّا كان شرّا مذمّما سنجزه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإهدائه الرّمح الطويل المقوّما «4»

يوم الصلعاء: لهوازن على غطفان

فلا تكفروه حقّ نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما «1» فإن كان حيّا لم يضق بثوابه ... ذراعا، غنيّا كان أو كان معدما ففكّوا دريدا من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشرّ سلّما فلما أصبحوا أطلقوه، فكسته وجهزته ولحق بقومه، فلم يزل كافّا عن حرب بني فراس حتى هلك. يوم الصلعاء «2» : لهوازن على غطفان فلما كان في العام المقبل غزاهم دريد بن الصمّة بالصّلعاء، فخرجت إليه غطفان فقال دريد لصاحبه: ما ترى؟ قال أرى خيلا عليها رجال كانهم الصبيان، أسنتها عند آذان خيلها. قال: هذه فزارة. ثم قال: انظر ما ترى؟ قال: أرى قوما كأنّ عليهم ثيابا غمست في الجاديّ «3» . قال: هذه اشجع. ثم قال انظرهما ترى؟ قال: أرى قوما يهزون رماحهم، سودا، يخدّون «4» الأرض بأقدامهم. قال: هذه عبس، أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا! فالتقوا بالصلعاء، فكان الظفر لهوازن على غطفان وقتل دريد ذو أب بن أسماء بن زيد بن قارب. حرب قيس وكنانة يوم الكديد «5» : لسليم على كنانة فيه قتل ربيعة بن مكدّم فارس كنانة، وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وهم أنجد العرب، وكان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددت والله أن لي بجميعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم.

يوم برزة: لكنانة على سليم

وكان ربيعة بن مكدم يعقر «1» على قبره في الجاهلية: ولم يعقر على قبر أحد غيره، ومرّ به حسان بن ثابت وقتلته بنو سليم يوم الكديد، ولم يحضر يوم الكديد أحد من بني الشريد. يوم برزة «2» : لكنانة على سليم قال ابو عبيدة: لما قتلت بنو سليم ربيعة بن مكدم فارس كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله، ثم إن ذا التاج، مالك بن خالد بن صخر بن واسم الشريد عمرو، وكانت بنو سليم قد توّجوا مالكا وأمّروه عليهم- فغزا بني كنانة، فأغار على بني فراس ببرزة، ورئيس بني فراس عبد الله بن جذل، فدعا عبد الله إلى البراز، فبرز اليه هند ابن خالد بن صخر بن الشريد، فقال له عبد الله: من أنت؟ قال: أنا هند بن خالد بن صخر، فقال عبد الله: أخوك أسنّ منك. يريد مالك بن خالد، فرجع فأحضر أخاه، فبرز له، فجعل عبد الله بن جذل يرتجز ويقول: ادنوا بني قرف ... إذا الموت كنع «3» لا أستغيث بالجزع ثم شدّ على مالك بن خالد فقتله، فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشدّ عليه عبد الله بن جذل فقتله أيضا، فشدّ عليه أخوهما عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد، فتخالفا طعنتين، فجرح كلّ واحد منهما صاحبه وتحاجزا، وكان عمرو قد نهى أخاه مالكا عن غزو بني فراس، فعصاه وانصرف للغزو عنهم، فقال عبد الله بن جذل: تجنّبت هندا رغبة عن قتاله ... إلى مالك أعشو إلى ضوء مالك «4» فأيقنت أني ثائر بابن مكدم ... غداة إذ أو هالك في الهوالك

يوم الفيفاء: لسليم على كنانة

فأنفذته بالرّمح حين طعنته ... معانقة ليست بطعنة باتك «1» وأثني لكرز في الغبار بطعنة ... علت جلده منها بأحمر عاتك «2» قتلنا سليما غثّها وسمينها ... فصبرا سليم قد صبرنا لذلك فإن تك نسواني بكين فقد بكت ... كما قد بكت أمّ لكرز ومالك وقال عبد الله بن جذل أيضا: قتلنا مالكا فبكوا عليه ... وهل يغني من الجزع البكاء؟ وكرزا قد تركناه صريعا ... تسيل على ترائبه الدّماء «3» فإن تجزع لذاك بنو سليم ... فقد- وأبيهم- غلب العزاء فصبرا يا سليم كما صبرنا ... وما فيكم لواحدنا كفاء «4» فلا تبعد ربيعة من نديم ... أخو الهلّاك إن ذمّ الشّتاء وكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وقد حمس اللقاء «5» يوم الفيفاء «6» : لسليم على كنانة قال أبو عبيدة: ثم إن بني الشريد حرّموا على أنفسهم النساء والدهن «7» ، حتى يدركوا بثأرهم من بني كنانة، فغزا عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد بقومه حتى أغار على بني فراس، فقتل منهم نفرا، منهم عاصم بن المعلي، وفضلة، والمعارك، وعمرو بن مالك، وحصن، وشريح، وسبى سبيا فيهم ابنة مكدم أخت ربيعة بن مكدم، فقال عباس بن مرداس في ذلك يردّ على ابن جذل في كلمته التي قالها يوم برزة: ألا أبلغا عني ابن جذل ورهطه ... فكيف طلبناكم بكرز ومالك؟ «8»

غداة فجعناكم بحصن وبابنه ... وبابن المعلّى عاصم والمعارك ثمانية منهم ثأرناهم به ... جميعا وما كانوا بواء بمالك «1» نذيقكم والموت يبني سرداقا ... عليكم، شباحدّ السّيوف البواتك «2» تلوح بأيدينا كما لاح بارق ... نلألأ في داج من الليل حالك صبحناكم العوج العناجيج بالضّحى ... تمرّ بنا مرّ الرّياح السّواهك «3» إذا خرجت من هبوة بعد هبوة ... سمت نحو ملتفّ من الموت شائك وقال هند بن خالد بن صخر بن الشريد: قتلت بمالك عمرا وحصنا ... وخلّيت القتام على الخدود «4» وكرزا قد أبأت به شريحا ... على أثر الفوارس بالكديد «5» جزيناهم بما انتهكوا وزدنا ... عليه ما وجدنا من مزيد جلبنا من جنوب العود جردا ... كطير الماء غلّس للورد «6» قال: فلما ذكر هند بن خالد يوم الكديد وافتخر به، ولم يشهده أحد من بني الشريد، غضب من ذلك نبيشة بن حبيب، فأنشأ يقول: تبخّل صنعنا في كلّ يوم ... كمخضوب البنان ولا يصيد وتأكل ما يعاف الكلب منه ... وتزعم أن والدك الشّريد أبى لي أن أقرّ الضّيم قيس ... وصاحبه المزور به الكديد «7»

حرب قيس وتميم يوم السوبان: لبني عامر على بني تميم

حرب قيس وتميم يوم السوبان «1» : لبني عامر على بني تميم قال أبو عبيدة: أغارت بنو عامر على بني تميم وضبة فاقتتلوا، ورئيس ضبة حسان ابن وبرة، وهو أخو النعمان لأمّه، فأسره يزيد بن الصعق، وانهزمت تميم، فلما رأى ذلك عامر بن مالك بن جعفر، حسده، فشدّ على ضرار بن عمرو الضّبي، وهو الرديم، فقال لابنه إذ همّ: أغنه عني. فشدّ عليه فطعنه، فتحوّل عن سرجه إلى جنب أبدائه «2» ، ثم لحقه، فقال لأحد بنيه: أغنه عني. ففعل مثل ذلك، ثم لحقه، فقال لابن له آخر: أغنه عني. ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلا ملاعب الأسنّة، فسمّي عامر من يومئذ ملاعب الأسنة، فلما دنا منه قال له ضرار: إني لأعلم ما تريد، أتريد اللبن؟ قال: نعم! قال: إنك لن تصل إليّ ومن هؤلاء عين تطرف، كلهم بنيّ. قال له عامر: فأحلني عن غيرك. فدلّه على حبيش بن الدلف، وقال: عليك بذلك الفارس. فشدّ عليه فأسره، فلما رأى سواده، وقصره، جعل يتفكر، وخاف ابن الدلف ان يقتله، فقال: ألست تريد اللبن؟ قال: بلى. قال: فأنى لك به. ونادى حسان بن وبرة نفسه من يزيد بن الصعق بألف بعير فداء الملوك، فكثر مال يزيد وبما، ثم أغار بعد ذلك يزيد بن الصعق على عصافير النعمان «3» بذي ليان، وذو ليان: عن يمين القريتين «4» . يوم أقرن «5» : لبني عبس على بني دارم غزا عمرو بن عمرو بن عدس من بني دارم وهو فارس بني مالك بن حنظلة، فأغار على بني عبس وأخذ إبلا وشاء ثم أقبل، حتى إذا كان أسفل من ثنية أقرن، نزل فابتنى بجارية من السبي، ولحقه الطلب فاقتتلوا، فقتل أنس الفوارس ابن زياد

يوم المروت: لبني العنبر على بني قشير

العبسي عمرا، وانهزمت بنو مالك بن حنظلة، وقتلت بنو عبس أيضا حنظلة بن عمرو- وقال بعضهم: قتل في غير هذا اليوم- وارتدّوا ما كان في أيدي بني مالك، فنعى ذلك جرير على بني دارم، فقال: هل تذكرون لدى ثنيّة أقرن ... أنس الفوارس حين يهوي الأسلع «1» وكان عمرو أسلع، أي أبرص. وكان لسماعة بن عمرو، خال من بني عبس، فزاره يوما فقتله بأبيه عمرو. يوم المرّوت «2» : لبني العنبر على بني قشير أغار بحير بن سلمة بن قشير على بني العنبر بن عمرو بن تميم، فاتبعوه حتى لحقوه وقد نزل المروت وهو يقسم المرباع «3» ويعطى من معه، فتلاحق القوم واقتتلوا، فطعن قعنب بن عتاب الهيثم بن عامر القشيري فصرعه فأسره، وحمل الكدام- وهو يزيد بن أزهر المازني- على بحير بن سلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم نزل إليه فأسره، فأبصره قعنب بن عتاب، فحمل عليه بالسيف فضربه فقتله، فانهزم بنو عامر وقتل رجالهم، فقال يزيد بن الصّعق يرثي بحيرا: أواردة عليّ بنو رياح ... بفخرهم وقد قتلوا بحيرا؟ فأجابته العوراء من بني سليط بن يربوع: قعيدك يا يزيد أبا قبيس ... أتنذر كي تلاقينا النّذورا «4» وتوضع تخبر الرّكبان أنّا ... وجدنا في مراس الحرب خورا «5» ألم تعلم قعيدك يا يزيد ... بأنا نقمع الشيخ الفخورا ونفقأ ناظريه ولا نبالي ... ونجعل فوق هامته الدرورا

يوم دارة مأسل: لتميم بني قيس

فأبلغ إن عرضت بني كلاب ... فإنّا نحن أقعصنا بحيرا «1» وضرّجنا عبيدة بالعوالي ... فأصبح موثقا فينا أسيرا أفخرا في الخلاء بغير فخر ... وعند الحرب خوّارا ضجورا يوم دارة مأسل «2» : لتميم بني قيس غزا عتبة بن شتير بن خالد الكلابي بني ضبة، فاستاق نعمهم، وقتل حصين بن ضرار الضبي، أبا زيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومه وخرج ثائرا بابنه حصين، وزيد الفوارس يومئذ حدث لم يدرك، فأغار على بني عمرو بن كلاب، وأفلت منه عتبة بن شتير وأسر أباه شتير بن خالد، وكان شيخا كبيرا أعور، فأتى به قومه، فقال: يا شتير، اختر واحدة من ثلاث. قال: اعرضها عليّ. قال: إمّا أن تردّ ابني حصينا! قال: فإني لا أنشر «3» الموتى! قال: وإمّا أن تدفع إليّ ابنك عتبة أقتله به! قال: لا ترضى بذلك بنو عامر: أن يدفعوا فارسهم شابا مقتبلا بشيخ اعور، هامة اليوم أو غدا «4» . قال: وإمّا أن أقتلك قال: أما هذه فنعم! قال: فأمر ضرار ابنه أدهم أن يقتله، فلما قدمه ليضرب عنقه، نادى شتير: يا آل عامر، صبرا «5» بصبيّ! كأنه أنف أن يقتل بصبي، فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة: وخيّرنا شتيرا في ثلاث ... وما كان الثلاث له خيارا جعلت السيف بين اللّيت منه ... وبين قصاص لمّته عذارا «6» وقال الفرزدق يفخر بأيام ضبة: ومغبوقة قبل القيان كأنها ... جراد إذا أجلى على القزع الفجر «7»

أيام بكر على تميم يوم الوقيط

عوابس ما تنفكّ تحت بطونها ... سرابيل أبطال بنائقها حمر «1» تركن ابن ذي الجدّين ينشج مسندا ... وليس له إلا ألاءته قبر «2» وهنّ على خدّي شتير بن خالد ... أثير عجاج من سنابكها كدر إذا سوّمت للبأس يغشى ظهورها ... أسود عليها البيض عادتها الهصر «3» يهزّون أرماحا طوالا متونها ... بهنّ الغنى يوم الكريهة والفقر أيام بكر على تميم يوم الوقيط قال فراس بن خندف: تجمعت اللهازم «4» لتغير على تميم وهم غازون، فرأى ذلك ناشب الأعور بن بشامة العنبري، وهو أسير في بني سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رسولا أرسله إلى بني العنبر، أوصيهم بصاحبكم خيرا ليولوه مثل الذي تولّوني من البرّ به والإحسان إليه. وكان حنظلة بن الطفيل المرثدي أسيرا في بني العنبر، فقالوا له: على أن توصيه ونحن حضور. قال: نعم. فأتوه بغلام لهم، فقال: لقد أتيتموني أحمق. وما أراه مبلغا عني! قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمق، وقل ما شئت فإني مبلغه. فملأ الأعور كفه من الرمل، فقال: كم هذا الذي في كفي من الرمل؟ قال الغلام: شيء لا يحصى كثرة. ثم أومأ إلى الشمس، وقال: ما تلك؟ قال: هي الشمس! قال: فاذهب إلى قومي فأبلغهم عني التحية، وقل لهم يحسنوا إلي أسيرهم ويكرموه، فإني عند قوم محسنين إليّ مكرمين لي، وقل لهم يقروا جملي الأحمر، ويركبوا ناقتي العيساء «5» ، بآية ما أكلت معهم حيسا «6» ، ويرعوا

حاجتي في أبيني مالك، وأخبرهم أن العوسج «1» قد أورق، وأن النساء قد تشكت «2» ، وليعصوا همام بن بشامة، فإنه مشئوم محدود «3» ، ويطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون. فأتاهم الرسول فأبلغهم، فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جنّ الأعور بعدنا، فوالله ما نعرف له ناقة عيساء، ولا جملا أحمر! فشخص الرسول، ثم ناداهم هذيل: يا بني العنبر، قد بين لكم صاحبكم، أما الرمل الذي قبض عليه، فإنه يخبركم أنه أتاكم عدد لا يحصى وأما الشمس التي أومأ إليها، فإنه يقول إن ذلك أوضح من الشمس وأما جمله الأحمر، فإنه هو الصمّان «4» ، يأمركم أن تعروه «5» ، وأما ناقته العيساء، فهي الدهناء «6» ، يأمركم أن تنذروا بني مالك بن مالك ابن زيد مناة ما حذّركم، وأن تمسكوا الحلف بينكم وبينهم، وأما العوسج الذي أورق، فيخبركم أن القوم قد لبسوا السلاح، وأما تشكّي النساء، فيخبركم بأنهنّ قد عملن شكاء «7» يغزون به. قال: وقوله «بآية ما أكلت معكم حيسا» يريد أخلاطا من الناس قد غزوكم. قال: فتحرزت عمرو فركبت الدهناء، وأنذروا بني مالك، فقالوا: لسنا ندري ما يقول بنو عمرو، ولسنا متحولين لما قال صاحبكم. قال: فصبّحت اللهازم بني حنظلة، فوجدوا عمرا قد خلت، وإنما أرادوهم على الوقيط، وعلى الجيش أبجر بن جابر العجلي، وشهدها ناس من تيم اللات، وشهدها الغزر بن الأسود بن شريد من بني سنان، فاقتتلوا، فأسر ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وتنازع في أسره

بشر بن السوراء من تيم اللات، والغزر بن الأسود فجزا ناصيته «1» وخلّا سربه «2» من تحت الليل، وأسر عمرو بن قيس من بني ربيعة بن عجل، وأسر عثجل بن شيبان بن علقمة من بني زرارة، ومنّ عليه، وأسرت غمامة بنت طوق بن عبيد بن زرارة، واشترك في أسرها الحطيم بن خلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خالد، وردّوها إلى أهلها، وعيّر جرير بن الخطفي بني دارم بأسر ضرار وعثجلي وبني غمامة، فقال: أغمام لو شهد الوقيط فوارسي ... ما فيه يقتل عنجل وضرار فأسر حنظلة المأمون بن شيبان بن علقمة، أسره طيسلة بن زياد أحد بني ربيعة، وأسر جويرية بن بدر من بني عبد الله بن دارم، فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتا يمدح فيها بني عجل، وأنشأ يتغنى بها رافعا عقيرته «3» : وقائلة ما غاله أن يزورها ... وقد كنت عن تلك الزّيارة في شغل وقد أدركتني والحوادث جمة ... مخالب قوم لا ضعاف لا عزل سراع إلى الداعي، بطاء عن الخنا ... رزان لدى الناديّ من غير ما جهل «4» لعلهم أن يمطروني بنعمة ... كما طاب ماء المزن في البلد المحل «5» فقد ينعش الله الفتى بعد عسرة ... وقد يتبدي الحسنى سراة بني عجل فلما سمعوه أطلقوه، وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو ابن ناشب، وأسر سنان بن عمرو أخو بني سلامة بن كندة من بني دارم، وأسر حاضر بن ضمرة، وأسر الهيثم بن صعصعة، وهرب عوف بن القعقاع عن إخوته، وقتل حكيم النهشلي، وذلك أنه لم يزل يقاتل وهو يرتجز ويقول: كلّ امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

يوم النباج وثيتل: لتميم على بكر

وفيه يقول عنترة الفوارس: وغادرنا حكيما في مجال ... صريعا قد سلبناه الإزارا يوم النباج وثيتل «1» : لتميم على بكر الخشني قال: أخبرنا أبو غسان العبدي- واسمه رفيع- عن أبي عبيدة معمر بن المثني، قال: غدا قيس بن قاسم في مقاعس وهو رئيس عليها- ومقاعس هو صريم، وربيع، وعبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم- ومعه سلامة بن ظرب بن نمر الحماني في الأحازب وهم حمان، وربيعة، ومالك، والأعرج- بنو كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم فغزوا بكر بن وائل فوجدوا بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، واللهازم، وهم: بنو قيس وتميم اللات بن ثعلبة، وعجل بن لجيم، وعنزة بن أسد بن ربيعة- بالنباج وثيتل، وبينهما روحة، فتنازع قيس بن عاصم وسلامة بن ظرب في الإغارة، ثم اتفقا على أن يغير قيس على أهل النّباج، ويغير سلامة على أهل الثيتل. قال. فبعث قيس بن عاصم سنان بن سميّ الأهتم شيّفة له- والشّيفة الطليعة- فأتاه الخبر، فلما أصبح قيس سقى خيله ثم أطلق أفواه الرّوايا، وقال قومه: قاتلوا، فإن الموت بين أيديكم، والفلاة من ورائكم! فلما دنوا من القوم صبحا سمعوا ساقيا من بكر يقول لصاحبه: يا قيس أورد فتفاءلوا به، فأغاروا على النباج قبل الصبح، فقاتلوهم قتالا شديد، ثم إن بكرا انهزمت، فأسر الأهتم حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد، وأصابوا غنائم كثيرة، فقال قيس لأصحابه: لا مقام دون الثيتل، فالنجاة. فأتوا ثيتل ولم يغز سلامة ولا أصحابه بعد، فأغار عليهم قيس بن عاصم، فقاتلوه ثم انهزموا، فأصاب إبلا كثيرة، فقال سلامة: إنكم أغرتم على ما كان أمره إليّ! فتلاحوا «2» في ذلك، ثم اتفقوا على أن سلموا إليه غنائم ثيتل، ففي ذلك يقول ربيعة بن ظريف:

فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم ... فأنت لنا عز عزيز وموئل وأنت الذي خوّيت بكر بن وائل ... وقد عضّلت منها النباج وثيتل «1» غداة دعت يا آل شيبان إذ رأت ... كراديس يهديهنّ ورد محجّل «2» وظلت عقاب الموت تهفوا عليهم ... وشعث النواصي لحمهنّ تصلصل «3» فما منكم أبناء بكر بن وائل ... لغارتنا إلا ركوب مذلل وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قيس بن عاصم أفواه المزاد «4» بقوله: وفي يوم الكلاب ويوم قيس ... هراق على مسلّحة المزادا «5» وقال قرة بن قيس بن عاصم: أنا ابن الذي شقّ المزاد وقد رأى ... بثيتل أحياء اللهازم حصّرا وصبّحهم بالجيش قيس بن عاصم ... ولم يجدوا إلا الأسنّة مصدرا على الجرد يعلكن الشكيم عوابسا ... إذا الماء من أعطافهنّ تحدّرا «6» فلم يرها الراءون إلا فجاءة ... يثرن عجاجا بالسنابك أكدرا «7» سقاهم بها الذيفان قيس بن عاصم ... وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا «8» وحمران أدّته إلينا رماحنا ... ينازع غلّا من ذراعيه أسمرا «9» وجشامة الذهليّ قدناه عنوة ... إلى الحي مصفود اليدين مفكّرا «10»

يوم زرود: لبني يربوع على بني تغلب

يوم زرود: لبني يربوع على بني تغلب أغار خزيمة بن طارق التغلبي على بني يربوع وهم بزرود، فنذروا به «1» ، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو تغلب وأسر خزيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبي- وهو فارس الشّيط «2» ، وكان يومئذ معتلا في بني يربوع وأسيد بن حناءة السليطي، فتنازعا فيه، فحكما بينهما الحرث بن قراد- وأمّ الحارث امرأة من بني سعد بن ضبة- فحكم بناصية خزيمة للأنيف بن جبلة، على أن لأسيد على أنيف مائة من الإبل. قال: ففدى خزيمة نفسه بمائتي بعير وفرس. قال أنيف: أخذتك قسرا يا خزيم بن طارق ... ولا قيت مني الموت يوم زرود وعانقته والخيل تدمى نحورها ... فأنزلته بالقاع غير حميد أيام يربوع على بكر وهذه أيام كلها لبني يربوع على بني بكر: من ذلك يوم ذي طلوح «3» ، وهو يوم أود، ويوم الحائر، ويوم ملهم، ويوم القحقح، وهو يوم مالّة ويوم رأس عين، ويوم طخفة، ويوم الغبيط، ويوم مخطّط، ويوم جدود، ويوم الجبايات ويوم زرود الثاني. يوم ذي طلوح: لبني يربوع على بكر كان عميرة بن طارق بن حصينة بن أريم بن عبيد بن ثعلبة، تزوج مريّة بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العجلي، فخرج حتى ابتنى بها في بني عجل، فأتى أبجر أخته مزنة امرأة عميرة يزورها فقال لها: إني لأرجو أن آتيك ببنت النطف امرأة عميرة التي في قومها! فقال له عميرة: أترضى أن تحاربني وتسبيني؟ فندم أبجر وقال لعميرة: ما كنت لأغزو قومك! ثم غزا أبجر والحوفزان متساندين، هذا فيمن تبعه

يوم الحائر: وهو يوم ملهم. لبني يربوع على بكر

من بني شيبان، وهذا فيمن تبعه من بني اللهازم، وساروا بعميرة معهم قد وكل به أبجر أخاه حرفصة بن جابر، فقال له عميرة: لو رجعت إلى أهلي فاحتملتهم! فقال حرفصة: افعل. فكر عميرة على ناقته، ثم نكل «1» عن الجيش، فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع، وأنذرهم الجيش، فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طلوح، فأوّل ما كان فارس طلع عليهم عميرة، فنادى: يا أبجر هلمّ! فقال: من أنت؟ قال: أنا عميرة! فكذبه، فسفر عن وجهه، فعرفه، فأقبل إليه، والتقت الخيل بالخيل، فأسر الجيش إلّا أقلهم. وأسر حنظلة بن بشر بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم- وكان في بني يربوع- الحوفزان بن شريك، وأخذه معه مكبلا، وأخذ ابن طارق سوادة بن يزيد بن بجير بن عم أبجر، وأخذ ابن عنمة الضبي الشاعر، وكان مع بني شيبان، فافتكه متمّم بن نويرة، فقال ابن عنمة يمدح متمم بن نويرة: جزى الله ربّ الناس عني متمّما ... بخير جزاء، ما أعف وأمجدا أجيرت به آباؤنا وبناتنا ... وشارك في إطلاقنا وتفرّدا أبا نهشل إني لكم غير كافر ... ولا جاعل من دونك المال مرصدا وأسر سويد بن الحوفزان، وأسر سويد وفلحس، وهما من بني سعد بن همام فقال جرير في ذلك يذكر ذي طلوح: ولمّا لقينا خيل أبجر يدعي ... بدعوى لجيم غير ميل العواتق صبرنا وكان الصبر منّا سجيّة ... بأسيافنا تحت الظّلال الخوافق فلما رأوا لا هوادة عندنا ... دعوا بعد كرب يا عمير بن طارق يوم الحائر: وهو يوم ملهم «2» . لبني يربوع على بكر وذلك أن أبا مليل عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حميد، وعلقمة أخاه، انطلقا

يوم القحقح: وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكر

يطلبان إبلا لهما، حتى وردا ملهم من أرض اليمامة، فخرج عليهما نفر من بني يشكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل، فكان عندهم ما شاء الله، ثم خلّوا سبيله، وأخذوا عليه عهدا وميثاقا أن لا يخبر بأمر اخيه أحدا، فأتى قومه، فسألوه عن أمر أخيه، فلم يخبرهم، فقال وبرة بن حمزة: هذا رجل قد أخذ عليه عهد وميثاق! فخرجوا يقصّون أثره، ورئيسهم شهاب بن عبد القيس، حتى وردوا ملهم، فلما رآهم اهل ملهم تحصنوا، فخرقت بني يربوع بعض زرعهم وقتل عمرو بن صابر صبرا «1» ، ضربوا عنقه، وقتل عيينة بن الحارث بن شهب بن مثلّم بن عبيد بن عمرو، رجلا آخر منهم، وقتل مالك بن نويرة حمران بن عبد الله، وقال: طلبنا بيوم مثل يومك علقما ... لعمري لمن يسعى بها كان أكرما قتلنا بجنب العرض عمرو بن صابر ... وحمران أقصدناهما والمثلما «2» فلله عينا من رأى مثل خيلنا ... وما أدركت من خيلهم يوم ملهما يوم القحقح: وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكر أغارت بنو أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان على بني يربوع، ورئيسهم مجبه بن ربيعة ابن ذهل، فأخذوا إبلا لعاصم بن قرط أحد بني عبيد، وانطلقوا: فطلبهم بنو يربوع، فناوشوهم، فكانت الدائرة على بني ربيعة، وقتل المنهال بن عصمة المجبه بن ربيعة، فقال في ذلك نمران الرياحي: وإذا لقيت القوم فاطعن فيهم ... يوم اللّقاء كطعنة المنهال ترك المجبّه للضّياع منكّسا ... وللقوم بين سوافل وعوال «3» يوم رأس العين: لبني يربوع على بكر أغارت طوائف من بني يربوع على بني أبي ربيعة برأس العين، فاطّردوا النعم

يوم العظالى: لبني يربوع على بكر

فاتبعهم معاوية بن فراس في بني أبي ربيعة، فأدركوهم، فقتل معاوية بن فراس وفاتوا «1» بالإبل، وقال سحيم في ذلك: أليس الأكرمون بنو رياح ... نموني منهم عمي وخالي هم قتلوا المجبّه وابن تيم ... تنوح عليهما سود اللّيالي وهم قتلوا عميد بني فراس ... برأس العين في الحجج الخوالي «2» وذادوا يوم طخفة عن حماهم ... ذياد غرائب الإبل النّهال «3» يوم العظالى «4» : لبني يربوع على بكر قال أبو عبيدة: وهو يوم أعشاش «5» ، ويوم الأفاقة «6» ، ويوم الإياد، ويوم مليحة «7» . قال وكانت بكر بن وائل تحت يد كسرى وفارس، وكانوا يجيرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر «8» في ثلاثمائة فارس متساندين، يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن- وكانوا يشتون «9» خفافا «10» ، فإذا انقطع الشتاء انحدروا إلى الحزن- قال: فاحتمل بنو عتيبة، وبنو عبيد، وبنو زبيد من بني سليط، من أول الحي، حتى استهلوا ببطن مليحة، فطلعت بنو زبيد في الحزن حتى حلّوا الحديقة «11» والأفاقة، وحلت بنو عتيبة وبنو عبيد بعين بروضة الثّمد «12» .

قال: وأقبل الجيش حتى نزلوا خضبة الخصيّ، ثم بعثوا رئيسهم، فصادفوا غلاما شابا من بني عبيدة يقال له قرط بن أهبط، فعرفه بسطام- وقد كان عرفه عامة غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة، قال: وقال سليط: بل هو المطوّح بن قرواش- فقال له بسطام: أخبرني، ماذاك السواد الذي بالحديقة؟ قال: هم بنو زبيد، قال: أفيهم أسيد بن حنّاءة؟ قال: نعم. قال: كم هم؟ قال: خمسون بيتا. قال: فأين بنو عتيبة؟ وأين بنو أزنم؟ قال: نزلوا روضة الثمد. قال: فأين سائر الناس؟ قال: هم محتجزون بخفاف. قال: فمن هناك من بني عاصم؟ قال الاحيمر، وقعنب ومعدان، ابنا عصمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم؟ قال: حصين بن عبد الله. فقال بسطام لقومه: أطيعوني تقبضوا على هذا الحي من زبيد وتصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يغني عنا بنو زبيد لا يودون رحلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغنيمتين. فقال له مفروق: انتفخ تتحول يا أبا الصهباء. وقال له هانىء: أحينا! فقال لهم: ويلكم! إن أسيدا لم يظلّه بيت قط شاتيا ولا قائظا، إنما بيته القفر، فإذا أحس بكم أجال على الشقراء فركض حتى يشرف على مليحة، فينادي: يا آل يربوع! فتركب، فليقاكم طعن ينسيكم الغنيمة، ولا يبصر احدكم مصرع صاحبه، وقد جئتموني وأنا أتابعكم، وقد أخبرتكم ما أنتم لا قون غدا! فقالوا: نلتقط بني زبيد، ثم نلتقط بني عبيدة وبني عتيبة، كما نلتقط الكمأة «1» ، ونبعث فارسين فيكونان بطريق أسيد، فيحولان بينه وبين يربوع. ففعلوا، فلما أحس بهم أسيد ركب الشقراء، ثم خرج نحو بني يربوع، فابتدره الفارسان، فطعن أحدهما فألقى نفسه في شق فأخطأه. ثم كرّر راجعا حتى أشرف على مليحة، فنادى: يا صباحاه! يا آل يربوع! غشيتم! فتلاحقت الخيل حتى توافوا بالغطفان، فاقتتلوا، فكانت الدائرة على بني بكر، قتل منهم: مفروق بن عمرو، فدفن بثينة «2» يقال لها ثينة مفروق، والمقاعس الشيباني، وزهير بن الحزور الشيباني، وعمرو بن الحزور الشيباني،

والهيش بن المقعاس، وعمير بن الودّاك، والضريس، وأما بسطام فألح عليه فارسان من بني يربوع، وكان دارعا «1» على ذات النّسوع «2» ، وكانت إذا أجدّت «3» لم يتعلق بها شيء من خيلهم، وإذا أوعثت «4» كادوا يلحقونها، فلما رأى ثقل درعه وضعها بين يديه على القربوس «5» ، وكره أن يرمي بها، وخاف أن يلحق في الوعث. فلم يزل ديدنه وديدن طالبيه، حتى حميت الشمس وخاف اللحاق، فمر بوجار «6» ضبع، فرمى الدرع فيه. فمد بعضها بعضا حتى غابت في الوجار. فلما خففت عن الفرس نشطت ففاتت الطلب وكان آخر من أتى قومه، وقد كان رجع إلى درعه لما رجع عنه القوم فأخذها. فقال العوام في بسطام وأصحابه: وإن يك في يوم الغبيط ملامة ... فيوم العظالى كان أخزى وألوما أناخوا يريدون الصباح فصبحّوا ... وكانوا على الغازين غدوة أشأما فررتم ولم تلووا على مجحريكم ... لو الحارث الحرّاب يدعى لأقدما «7» ولو أنّ بسطاما أطيع لأمره ... لأدّى إلى الأحياء بالحنو مغنما ففرّ أبو الصهباء إذ حمى الوغى ... وألقى بأبدان السلاح وسلّما وأيقن أن الخيل إن تلتبس به ... يعد غانما أو يملإ البيت مأتما ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما «8» أبى لك قيد بالغبيط لقاءهم ... ويوم العظالى إن فخرت مكلّما فأفلت بسطام حريصا بنفسه ... وغادر في كرشاء لدنا مقوما «9»

يوم الغبيط لبني يربوع على بني بكر

وقاظ أسيرا هانىء وكأنما ... مفارق مفروق تغشّين عندما «1» قال: ثم إنّ خانئا فدى نفسه وأسرى قومه، فقال العوام في ذلك: إنّ الفتى هانئا لاقى بشكّته ... ولم يجم عن قتال القوم إذ نزلا «2» ثمّت سارع في الأسرى ففكّهم ... حامى الذّمار حقيق بالذي فعلا يوم الغبيط «3» لبني يربوع على بني بكر قال أبو عبيدة: يقال لهذا اليوم: يوم الغبيط، ويوم الثعالب- والثعالب أسماء قبائل اجتمعت فيه- ويقال له: يوم صحراء فلج. وقال أبو عبيدة: حدّثني سليط بن سعد، زبّان الصّبيريّ، وجهم بن حسان السّليطي، قالوا: غزا بسطام بن قيس، ومفروق بن عمرو، والحارث بن شريك- وهو الحوفزان- بلاد بني تميم- وهذا اليوم قبل يوم العظالي- فأغاروا على بني ثعلبة بن يربوع، وثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، فذلك قيل له يوم الثعالب، وكان هؤلاء جميعا متجاورين بصحراء فلج فاقتتلوا، فانهزمت الثعالب فأصابوا فيهم واستاقوا إبلا من نعمهم، ولم يشهد عتيبة ابن الحارث بن شهاب هذه الوقعة، لأنه كان نازلا يومئذ في بني مالك بن حنظلة، ثم امترّوا «4» على بني مالك، وهم بين صحراء فلج وبين الغبيط، فاكتسحوا إبلهم، فركبت عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث بن شهاب، ومعه فرسان من بني يربوع يأثفهم- أي صار معهم مثل الأثافي «5» المرماد- وتألّف إليهم الأحيمر بن عبد الله، والأسيد بن حنّاءة، وأبو مرحب، وجرو بن سعد الرياحي وهو رئيس بني

يوم مخطط: لبني يربوع على بكر

يربوع- وربيع، والخليس، وعمارة، وبنو عتيبة بن الحارث، ومعدان وعصمة ابنا قعنب، ومالك بن نويرة، والمنهال بن عصمة أحد بني رياح بن يربوع، وهو الذي يقول فيه متّمم بن نويرة في شعره الذي يرثي فيه مالكا أخاه: لقد غيّب المنهال تحت لوائه ... فتى غير مبطان العشية أروعا «1» فأدركهم بغبيط المدرة «2» ، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم، وألح عتيبة والأسيد والأحيمر على بسطام، فلحقه عتيبة فقال: استأسر لي يا أبا الصهباء! فقال: ومن أنت؟ قال: أنا عتيبة، وأنا خير لك من الفلاة والعطش! فأسره عتيبة. ونادى القوم بجادا أخا بسطام: كرّ على أخيك! وهم يرجون أن يأسروه، فناداه بسطام: إن كررت فأنا حنيف «3» . وكان بسطام نصرانيا، فلحق نجاد بقومه، فلم يزل بسطام عند عتيبة حتى فادى نفسه. قال أبو عبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فدى نفسه بأربعمائة بعير وثلاثين فرسا، ولم يكن عربي عكاظي أعلى فداء منه، على أن جز ناصيته وعاهده أن لا يغزو بني شهاب أبدا، فقال عتيبة بن الحارث بن شهاب: أبلغ سراة بني شيبان مألكة ... أني أبأت بعبد الله بسطاما «4» قاظ الشربّة في قيد وسلسلة ... صوت الحديد يغنّيه إذا قاما «5» يوم مخطط: لبني يربوع على بكر قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس والحوفزان الحرث متساندين يقودان بكر بن وائل، حتى وردوا على بني يربوع بالفردوس، وهو بطن لإياد، وبينه وبين مخطط

يوم جدود

ليلة، وقد نذرت بهم بنو يربوع فالتقوا بالمخطط، فاقتتلوا، فانهزمت بكر بن وائل، وهرب الحوفزان وبسطام ففاتا ركضا، وقتل شريك بن الحوفزان، قتله شهاب بن الحارث أخو عتيبة، وأسر الأحيمر بن عبد الله بن الضريس الشيباني، فقال في ذلك مالك بن نويرة ولم يشهد هذا اليوم: إلّا أكن لاقيت يوم مخطّط ... فقد خبّر الرّكبان ما أتودّد بأفناء حيّ من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا فقال الرئيس الحوفزان تبيّنوا ... بني الحصن قد شارفتم ثم حرّدوا «1» فما فتئوا حتى رأونا كأننا ... مع الصبح اذيّ من البحر مزبد «2» بملمومة شهباء يبرق خالها ... ترى الشمس فيها حين دارت توقد «3» فما برحوا حتى علتهم كتائب ... إذا طعنت فرسانها لا تعرد «4» فأقررت عيني يوم ظلّوا كأنهم ... ببطن غبيط خشب أثل مسنّد «5» صريع عليه الطير يحجل فوقه ... وآخر مكبول اليدين مقيّد «6» وكان لهم في أهلهم ونسائهم ... مبيت ولم يدروا بما يحدث الغد وقد كان لابن الحوفزان لو انتهى ... شريك وبسطام عن الشرّ مقعد يوم جدود «7» غزا الحوفزان، وهو الحارث بن شريك، فأغار على من بالقاعة «8» من بني سعد

ابن زيد مناة، فأخذ نعما كثيرا، وسبى فيهنّ الزرقاء من بني ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، وكانت خرقاء، فلم يتمالك أن وقع بها، فلما انتهى إلى جدود، منعتهم بنو يربوع بن حنظلة أن يردوا الماء، ورئيسهم عتيبة بن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم، فلم يكن لبني بكر بهم يد، فصالحوهم على أن يعطوا بني يربوع بعض غنائهم، على أن يخلّوهم [أن] يردوا الماء، فقبلوا ذلك وأجازوهم، فبلغ ذلك بني سعد، فقال قيس بن عاصم في ذلك: جزى الله يربوعا بأسوأ سعيها ... إذا ذكرت في النائبات أمورها ويوم جدود قد فضحتم أباكم ... وسالمتم والخيل تدمى نحورها فأجابه مالك: سأسأل من لاقى فوارس منقذ ... رقاب إماء كيف كان نكيرها «1» ولما أتى الصريخ بني سعد، ركب قيس بن عاصم في أثر القوم حتى أدركهم بالأشيمين، فألح قيس على الحوفزان وقد حمل الزرقاء، وكان الحوفزان قد خرج في طليعة، فلقيه قيس بن عاصم فسأله من هو، فقال: لا تكاتم اليوم، أنا الحوفزان، فمن أنت؟ قال: أنا أبو علي. ومضى، ورجع الحوفزان إلى أصحابه، فقال: لقيت رجلا أزرق كأنّ لحيته ضريبة «2» صوف فقال: أنا أبو علي. فقالت عجوز من السبي: بأبي أبو علي! ومن لنا بأبي علي؟ فقال لها: ومن أبو علي؟ قالت: قيس بن عاصم! فقال لأصحابه: النجاء! وأردف الزرقاء خلفه وهو على فرسه الزّبد، وعقد شعرها إلى صدره ونجا بها. وكانت فرس قيس إذا أوعثت «3» قصّرت وتمطر عليها الزّبد، فلما أجدّت «4» لحقت بحيث يكلم الحوفزان، فقال قيس له: يا أبا حمار، أنا خير لك من الفلاة والعطش! قال له الحوفزان: ما شاء الزبد. فلما رأى قيس أن فرسه لا يلحقه، نادى الزرقاء فقال: ميلي به يا جعار! فلما سمعه الحوفزان، دفعها

يوم سفوان

بمرفقه وجزّ قرونها بسيفه، فألقاها عن عجز فرسه، وخاف قيس أن لا يلحقه فنجله «1» بالرمح في خرابة وركه «2» ، فلم يقصده وعرج منها وردّ قيس الزرقاء إلى بني الربيع، فقال سوّار بن حيّان المنقري: ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة ... تمجّ نجيعا من دم الجوف أشكلا «3» يوم سفوان «4» قال أبو عبيدة: التقت بنو مازن وبنو شيبان على ماء يقال له سفوان فزعمت بنو شيبان أنه لهم، وأرادوا أن يجلوا تميما عنه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فظهرت عليهم بنو تميم، وذادوهم حتى وردوا المحدّث «5» ، وكانوا يتوعّدون بني مازن قبل ذلك، فقال في ذلك وذاك المازني: رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت في القنا المتداني عليها الكماة الغرّ من آل مازن ... ليوث طعان كلّ يوم طعان «6» تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدّثان مقاديم وصّالون في الروع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يمان «7» إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة حرب أم لإيّ مكان يوم السلي قال أبو عبيدة: كان من حديث يوم السلي أن بني مازن أغارت على بني يشكر

يوم نقا الحسن: وهو يوم السقيفة لبني ضبة على شيبان

فأصابوا منهم، وشدّ زاهر بن عبد الله بن مالك على تميم بن ثعلبة اليشكري فقتله، فقال في ذلك: لله تيم أيّ رمح طراد ... لاقى الحمام وأي نصل جلاد «1» ومحش حرب مقدم متعرّض ... للموت غير معرّد حيّاد «2» وقال حاجب بن ذبيان المازني: سلى يشكرا عني وأبناء وائل ... لهازمها طراّ وجمع الأراقم ألم تعلمي أنّا إذا الحرب شمرت ... سمام على أعدائنا في الحلاقم عتاة قراة في الشّتاء مساعر ... حماة كماة كالليوث الضراغم «3» بأيديهم سمر من الخطّ لدنة ... وبيض تجلى عن فراخ الجماجم «4» أولئك قوم إن فخرت بعزّهم ... فخرت بعزّ في اللهى والغلاصم «5» هم أنزلوا يوم السليّ عزيزها ... بسمر العوالي والسّيوف الصّوارم يوم نقا «6» الحسن: وهو يوم السقيفة لبني ضبة على شيبان قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد- وقيس بن مسعود هو ذو الجدّين وأخوه، السليل بن قيس بن ضبة بن أد بن طابخة- فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتفق فيها فحلها قد فقأ عينه، وفي الإبل مالك بن المنتفق، فركب فرسا له ونجا ركضا، حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه! فركبت بنو ضبة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا، فقال عاصم بن خليفة لرجل من فرسان

قومه أيّهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحب الفرس الأدهم يعني بسطاما، فعلا عاصم عليه بالرمح فعارضه، حتى إذا كان بحذائه رمى بالقوس وجمع يديه في رمحه فطعنه، فلم تخطيء صماخ أذنه، حتى خرج الرمح من الناحية الأخرى، وخرّ على الألاءة- والألاءة شجرة- فلما رأى ذلك بنو شيبان خلّوا سبيل النعم وولوا الأدبار، فمن قتيل وأسير، وأسر بنو ثعلبة بجاد بن قيس بن مسعود أخا بسطام في سبعين من بني شيبان، فقال ابن غنمة الضبي، وهو مجاوز يومئذ في بني شيبان يرثي بسطاما وخاف أن يقتلوه، فقال: لأمّ الأرض ويل ما أجنّت ... بحيث أضرّ بالحسن السبيل «1» نقسم ماله فينا وندعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل «2» كأنك لم تريه ولم تريه ... تخبّ به عذا فرة ذمول «3» حقيبة رحّلها بدن وسرج ... تعارضها مربّبة دءول «4» إلى مسعاد أرعن مكفهر ... تضمّر في جوانبه الخيول «5» لك المرباع منها والصّفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول «6» لقد ضمنت بنو زيد بن عمرو ... ولا يوفي ببسطام قتيل فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... كأنّ جبينه سيف صقيل «7» فإن تجزع عليه بنو أبيه ... فقد فجعوا وحلّ بهم جليل بمطعام إذا الأشوال راحت ... إلى الحجرات ليس لها فصيل «8»

أيام بكر على تميم

وقال شمعلة بن الأخضر بن هبيرة: ويوم شقائق الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالا قصارا «1» شككنا بالرماح وهنّ زور ... صماخي كبشهم حتى استدارا «2» وأوخذناه أسمر ذا كعوب ... يشبّه طوله مسدا مغارا «3» وقال محرز بن المكعبر الضبي: أطلقت من شيبان سبعين راكبا ... فآبوا جميعا كلهم ليس بشكر «4» إذا كنت في أفنان شيبان منعما ... فجزّ اللحى إنّ النواصي تكفر «5» فلا شكرهم أبغي إذا كنت منعما ... ولا ودّهم في آخر الدهر أضمر أيام بكر على تميم يوم الزّويرين قال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل تنتجع أرض تميم في الجاهلية ترعى بها إذا أجدبوا، فإذا أرادوا الرجوع لم يدعوا عورة يصيبونها ولا شيئا يظفرون به إلا اكتسحوه، فقالت بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رعي أرضكم وما يأتون إليكم فحشدت تميم، وحشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلف منهم إلا الحوفزان بن شريك في أناس من بني ذهل بن شيبان وكان غازيا، فقدّمت بكر عليهم عمرا الأصم أبا مفروق- قال: وهو عمرو بن قيس بن مسعود أبو عمر بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان- فحسد سائر ربيعة الأصم على الرياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مفروق، إنا قد زحفنا لتميم وزحفوا لنا أكثر ما كنا وكانوا قط. قال: فما تريدون؟ قالوا: نريد أن نجعل كل حي على حياله، ونجعل عليهم رجلا منهم، فنعرف غناء كل قبيلة، فإنه

أشدّ لاجتهاد الناس! قال: والله إني لأبغض الخلاف عليكم، ولكن يأتي مفروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مفروق شاوره أبوه- وذلك أول يوم ذكر فيه مفروق بن عمرو- فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يخدعوك عن رأيك وحسدوك على رياستك، والله لئن لقيت القوم فظفرت لا يزال الفضل لنا بذلك أبدا، ولئن ظفر بك لا تزال لنا رياسة نعرف بها! فقال الأصم: يا قوم، قد استشرت مفروقا فرأيته مخالفا لكم، ولست مخالفا رأيه وما أشار إليه. فأقبلت تميم بجملين مجللين مقرونين مقيدين، وقالوا: لا نولّي حتى يولي هذان الجملان، وهما الزويران. فأخبرت بكر بقولهم الأصمّ، فقال: وأنا زويركم، إن حشّوهما فحشّوني «1» ، وإن عقروهما فاعقروني! قال: والتقى القوم، فاقتتلوا قتالا شديدا. قال: وأسرت القوم بنو تميم، حرّاث بن مالك أخا مرة بن همام، فركض به رجل منهم وقد أردفه، واتبعه ابنه قتادة بن حراث، حتى لحق الفارس الذي أسر أباه، فطعنه فأراده عن فرسه، واستنقذ أباه، ثم استحرّ بين الفريقين القتال، فانهزمت بنو تميم، فقتل منهم مقتلة عظيمة. فممن قتل منهم: أبو الرئيس النهشلي. وأخذت بكر الزويرين، أخذتهما بنو سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، فنحروا أحدهما فأكلوه وافتحلوا الآخر، وكان نجيبا، فقال رجل من بني سدوس: يا سلم إن تسألي عنّا فلا كشف ... عند اللّقاء ولسنا بالمقاريف نحن الذين هزمنا يوم صبّحنا ... جيش الزّويرين في جمع الأحاليف ظلّوا وظللنا نكر الخيل وسطهم ... بالشّيب منّا وبالمرد الغطاريف «2» وقال الأغلب بن جشم العجلي: جاءوا بزويرهم وجئنا بالأصمّ ... شيخ لنا قد كان من عهد إرم يكرّ بالّسيف إذا الرمح انحطم ... كهمّة الليث إذا ما الليث همّ

يوم الشيطين: لبكر على تميم

كانت تميم معشرا ذوي كرم ... غلصمة من الغلاصيم العظم «1» قد نفخوا لو ينفخون في فحم ... وصبروا لو صبروا على أمم «2» إذا ركبت ضبّة أعجاز النّعم ... فلم ندع ساقا لها ولا قدم يوم الشيطين «3» : لبكر على تميم قال أبو عبيدة: لما ظهر الإسلام- قبل أن يسلم أهل نجد والعراق- سارت بكر ابن وائل إلى السواد، وقالت: نغير على تميم بالشيّطين، فإن في دين ابن عبد المطلب: من قتل نفسا قتل بها: فنغير هذا العام ثم نسلم عليها! فارتحلوا من لعلع «4» بالذراري والأموال: فأتوا الشيطين في أربع، وبينهما مسيرة ثمانية أميال، فسبقوا كل خير حتى صبحوهم وهم لا يشعرون، ورئيسهم يومئذ بشر بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدين، فقتلوا بني تميم قتلا ذريعا، وأخذوا أموالهم، واستحرّ «5» القتل في بني العنبر وبني ضبة وبني يربوع، دون بني مالك بن حنظلة. قال أبو عبيدة: حدثنا أبو الحمناء العنبري، قال قتل من بني تميم يوم الشيّطين ستّمائة رجل. قال: فوفد وفد بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل! فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رشيد ابن رميص العنبري: وما كان بين الشّيطين ولعلع ... لسوقنا إلّا مراجع أربع فجئنا بجمع لم ير النّاس مثله ... يكاد له ظهر الوريعة يضلع «6» بأرعن دهم شيّد البلق وسطه ... له عارض فيه الأسنّة تلمع «7» صبحنا به سعدا وعمرا ومالكا ... فكان لهم يوم من الشّرّ أشنع فخّلوا لنا صحن العراق وإنّه ... حمى منهم لا يستطاع ممنّع

يوم صعفوق: لبكر على تميم

يوم صعفوق «1» : لبكر على تميم أغارت بنو أبي ربيعة على بني سليط بن يربوع يوم صعفوق، فأصابوا منهم أسرى، فأتى طريف بن تميم العنبري فروة بن مسعود، وهو يومئذ سيد بني أبي ربيعة، ففدى منهم أسرى بني سليط ورهنهم ابنه، فأبطأ عليهم فقتلوا ابنه، فقال: لا تأمننّ سليمى أن أفارقها ... صرمى الظعائن بعد اليوم صعفوق «2» أعطيت أعداءه طوعا برمّته ... ثم انصرفت وظني غير موثوق يوم مبايض: لبكر على تميم قال أبو عبيدة: كانت الفرسان إذا كانت أيام عكاظ في الشهر الحرام وأمن بعضهم بعضا، تقنّعوا كي لا يعرفوا، وكان طريف بن تميم العنبري لا يتقنّع كما يتقنعون، فوافى عكاظ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريف قتل شراحيل الشيباني أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فقال حمصيصة: أروني طريفا. فأروه إياه، فجعل كلما مر به تأمله ونظر إليه ففطن طريف، فقال: مالك تنظر إليّ؟ فقال: أترسّمك لأعرفك: فلله عليّ إن لقيتك أن أقتلك أو تقتلني! فقال طريف في ذلك: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم فتوسّموني إنني أنا ذلكم ... شاكي سلاحي في الحوادث معلم «3» تحتى الأغرّ وفوق جلدي نثرة ... زغف تردّ السّيف وهو مثلّم «4» حولي أسيّد والهجيم ومازن ... وإذا حللت فحول بيتي خضّم «5»

قال: فمضى لذلك ما شاء الله، ثم إن بني عائدة حلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان- وهم يزعمون أنهم من قريش، وأن عائدة بن لؤي بن غالب- خرج منهم رجلان يصيدان، فعرض لهما رجل من بني شيبان، فذعر عليهما صيدهما، فوثبا عليه فقتلاه، فثارت بنو مرة بن ذهل بن شيبان يريدون قتلهما فأبت بنو ربيعة عليهم ذلك، فقال هانيء بن مسعود: يا بني ربيعة، إن إخوتكم قد أرادوا طلبكم فانمازوا «1» عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نزلوا بمبايض، ماء لهم- ومبايض علم من وراء الدهناء- فأبق عبد لرجل من بني أبي ربيعة، إن إخوتكم قد أرادوا طلبكم فانمازوا «2» عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نزلوا بمبايض، ماء لهم- ومبايض علم من وراء الدهناء- فأبق عبد لرجل من بني أبي ربيعة، فسار إلى بلاد تميم، فأخبرهم أن حياّ جديدا من بني بكر بن وائل نزول على مبايض، وهم بنو أبي ربيعة والحي الجديد المنتقى من قومه، فقال طريف العنبري: هؤلاء ثأري يا آل تميم، إنما هم أكلة رأس «3» . وأقبل في بني عمرو بن تميم، وأقبل معه أبو الجدعاء، أحد بني طهية، وجاءه فدكي بن أعبد المنقري في جمع من بني سعد بن زيد مناة، فنذرت بهم بنو أبي ربيعة، فانحاز بهم هانيء بن مسعود وهو رئيسهم، إلى علم مبايض، فأقاموا عليه وشرقوا «4» بالأموال والسّرح «5» ، وصبّحتهم بنو تميم، فقال لهم طريف: أطيعوني وافرغوا من هؤلاء الأكلب يصف لكم ما وراءهم. فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حنظلة، فدكي رئيس بن سعد بن مناة: أنقاتل أكلبا أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم؟ ما هذا يرأى، وأبوا عليه. فقال هانيء لأصحابه: لا يقاتل رجل منكم ولحقت تميم بالنعم والبغال فأغاروا عليها، فلما ملئوا أيديهم من الغنيمة قال هانيء بن مسعود لأصحابة: احملوا عليهم. فهزموهم وقتلوا طريفا العنبري، قتله حمصيصة الشيباني، وقال: ولقد دعوت طريف دعوة جاهل ... سفها وأنت بمعلم قد تعلم وأتيت حيا في الحروب محلّهم ... والجيش باسم أبيهم يستقدم

يوم فيحان: لبكر على تميم

فوجدت قوما يمنعون ذمارهم ... بسلا، إذا هاب الفوارس أقدموا «1» وإذا دعوا أبني ربيعة! شمّروا ... بكتائب دون السماء تلملم «2» حشدوا عليك وعجّلوا بقراهم ... وحموا ذمار أبيهم أن يشتموا سلبوك درعك والأغرّ كلاهما ... وبنو أسيد أسلموك وخضّم «3» يوم فيحان «4» : لبكر على تميم قال أبو عبيدة: لما بدى بسطام بن قيس من عتيبة بن الحارث إذ أسر يوم الغبيط بأربعمائة بعير، قال: لأدركن عقل إبلي! فأغار بفيحان، فأخذ الربيع بن عتيبة واستاق ماله، فلما سار يومين شغل عن الربيع بالشراب، وقد مال الربيع على قدّه حتى لان، ثم خلعه وانحلّ منه. ثم جال في متن ذات النسوع- فرس بسطام- وهرب، فركبوا في أثره، فلما يئسوا منه ناداه بسطام: يا ربيع، هلم طليقا! فأبى. قال: وأتى نادي قومه يحدثهم، فجعل يقول في أثناء حديثه: إيها يا ربيع! انج ربيع! وكان معه رثي. قال: وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يربوع، فإذا هو براع، فاستسقاه وضربت الفرس برأسها فماتت. فسمي ذلك المكان إلى اليوم: هبير «5» الفرس. قال له أبو عتيبة: أما إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالك. يوم ذي قار الأول: لبكر على تميم قال أبو عبيدة: فخرج عتيبة في نحو خمسة عشر فارسا من بين يربوع فكمن في

يوم الحاجز: لبكر على تميم

حمى ذي قار، حتى مرت به إبل بني الحصين بالفداوية، اسم ماء لهم، فصاحوا بمن بها من الحامية والرّعاء، ثم استاقوها. فأخلف للربيع ما ذهب له، وقال: ألم ترني أفأت على ربيع ... جلادا في مباركها وخورا «1» وأني قد تركت بني حصين ... بذي قار يرمّون الأموار يوم الحاجز «2» : لبكر على تميم قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صريم اليشكري من اليمامة، فلقيه بنو أسيد بن عمرو بن تميم، فأخذوه أسيرا، فجعلوا يغمسونه في الرّكيّة «3» ويقولون: يا أيها الماتح دلوي دونكا «4» حتى قتلوه، فغزاهم أخوه باعث بن صريم يوم حاجز، فأخذ ثمامة بن باعث بن صريم رجلا من بني أسيد كان وجيها فيهم فقتله، وقتل على الظنّة مائة منهم، فقال باعث بن صريم: سائل أسيدا هل ثأرت بوائل ... أم هل شفيت النّفس من بلبالها «5» إذ أرسلوني ماتحا لدلاتهم ... فملأتها علقا إلى أسبالها «6» إني ومن سمك السّماء مكانها ... والبدر ليلة نصفها وهلالها «7» آليت أثقف منهم ذا لحية ... أبدا فتنظر عينه في مالها

يوم الشقيق: لبكر على تميم

وقال: سائل أسيدا هل ثأرت بوائل ... أم هل أتيتهم بأمر مبرم إذ أرسلوني ماتحا لدلائهم ... فملأتهن إلى العراق بالدّم! «1» يوم الشقيق «2» : لبكر على تميم قال أبو عبيدة: أغار أبحر بن جابر العجلي على بني مالك بن حنظلة، فسبي سليمى بنت محصن، فولدت له أبجر. ففي ذلك يقول أبو النجم: ولقد كررت على طهيّة كرة ... حتى طرقت نساءها بمساء حرب البسوس وهي حرب بكر وتغلب، ابني وائل أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب قال: لم تجتمع معد كلها الا على ثلاثة رهط من رؤساء العرب، وهم عامر، وربيعة، وكليب. فالاول: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، وهو الناس بن مضر. وعامر بن الظرب هو قائد معدّ يوم البيداء «3» ، حين تمذحجت مذحج وسارت إلى تهامة، وهي أول وقعة كانت بين تهامة واليمن والثاني: ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كعب، هو قائد معد يوم السّلّان «4» ، وهو يوم كان بين اهل تهامة واليمن. والثالث: كليب بن ربيعة، وهو الذي يقال فيه: أعز من كليب وائل. وقاد معدّ

مقتل كليب بن وائل

كلها يوم خزاز «1» ، ففض جموع اليمن وهزمهم، فاجتمعت عليه معد كلها، وجعلوا له قسم الملك وتاجه ونجيبته «2» وطاعته فغبر بذلك حينا من دهره. ثم دخله ز هو شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عزه، وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بغيه انه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تخفر ذمّته، ويقول: وحش ارض كذا في جواري! فلا يهاج، ولا تورد إبل احد مع ابله، ولا توقد نار مع ناره، حتى قالت العرب: اعز من كليب وائل. وكانت بنو جشم وبنو شيبان في دار واحدة بتهامة، وكان كليب بن وائل قد تزوّج جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وأخوها جساس بن مرة، وكانت البسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة، وكانت نازلة في بني شيبان مجاورة لجساس، وكان لها ناقة يقال لها سراب، ولها تقول العرب: أشأم من سراب، وأشأم من البسوس! فمرّت إبل لكليب بسراب ناقة البسوس، وهي معقولة بفناء بيتها، جوار جساس بن مرة، فلما رأت سراب الابل نازعت عقالها حتى قطعته، وتبعت الإبل واختلطت بها، حتى انتهت إلى كليب وهو على الحوض، معه قوس وكنانة، فلما رآها أنكرها، فانتزع «3» لها سهما فخرم «4» ضرعها فنفرت الناقة وهي ترغو، فلما رأتها البسوس قذفت خمارها عن رأسها وصاحت: واذلّاه! واجاراه! واخرجت. مقتل كليب بن وائل فأحمست جسّاسا، فركب فرسا له مغرورا به، فأخذ آلته، وتبعه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان على فرسه، ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فقال له: يا أبا الماجدة، عمدت إلى ناقة جارتي، فعقرتها! فقال له: أتراك ما نعي

أن أذبّ «1» عن حماي؟ فأحمسه الغضب، فطعنه جساس فقصم صلبه، وطعنه عمرو ابن الحارث من خلفه فقطع قطنه «2» ، فوقع كليب وهو يفحص برجله، قال لجساس: أغثني بشربة من ماء! فقال: تجاوزت شبيثا والأحصّ «3» : ففي ذلك يقول عمرو بن الاهتم: وإنّ كليبا كان يظلم قومه ... فأدركه مثل الذي تريان فلما حشاه الرّمح كفّ ابن عمه ... تذكّر ظلم الأهل أيّ أوان وقال لجسّاس أغثني بشربة ... وإلا فخبّر من رأيت مكاني فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو غير دفان وقال نابغة بني جعدة: أبلغ عقالا أن خطة داحس ... بكفّيك فاستأخر لها أو تقدّم كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرّج بالدّم رمي ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهّم «4» وقال لجسّاس اغثني بشربة ... تدارك بها منّا عليّ وأنعم فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسّم «5» فلما قتل كليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النّهيّ، وتشمر المهلهل اخو كليب- واسمه عدي بن ربيعة، وانما قيل المهلهل لانه اول من هلهل الشعر، اي ارقّه- واستعد لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرّم القمار والشراب، وجمع اليه قومه، فأرسل رجلا منهم إلى بني شيبان يعذر إليهم فيما وقع من الامر، فأتوا مرة ابن ذهل بن شيبان وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا

بناب من الإبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم، ونحن نعرض عليكم خلالا أربعا، لكم فيها مخرج، ولنا مقنع. فقال مرة: وما هي؟ قال: تحيي لنا كليبا، او تدفع الينا جساسا قاتله فنقتله به، أو همّاما فإنه كفء له، أو تمكننا من نفسك، فإن فيك وفاء من دمه! فقال: أما إحيائي كليبا فهذا ما لا يكون، وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أيّ البلاد احتوى عليه، وأمّا همام فانه ابو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة، كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه إليّ فادفعه اليكم يقتل بجريرة غيره. واما انا فهل هو إلا ان تجول الخيل جولة غدا فأكون اوّل قتيل فيها، فما أتعجل من الموت؟ ولكن لكم عندي خصلتان: أمّا إحداهما فهؤلاء بنيّ الباقون، فعلقوا في عنق ايهم شئتم نسعة «1» فانطلقوا به إلى رحالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فالف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بني وائل! فغضب القوم وقالوا: لقد أسأت، ترذل «2» لنا ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب. ووقعت الحرب بينهم. ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، ودعت تغلب النمر بن قاسط «3» فانضمت إلى بني كليب وصاروا يدا معهم على بكر، ولحقت بهم غفيلة بن قاسط، واعتزلت قبائل بكر بن وائل وكرهوا مجامعة بني شيبان ومساعدتهم على قتال إخوته، وأعظموا قتل جساس كليبا بناب من الإبل، فظعنت «4» لجيم عنهم، وكفت يشكر عن نصرتهم، وانقبض الحارث بن عباد في أهل بيته، وهو أبو بجير وفارس النعامة. وقال المهلهل يرثي كليبا: بتّ ليلي بالأنعمين طويلا ... أرقب النجم ساهرا أن يزولا «5»

كيف أهدأ ولا يزال قتيل ... من بني وائل ينسّي قتيلا غيّبت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معدّ حلولا فتساقوا كأسا أمرّت عليهم ... بينهم يقتل العزيز الذليلا فصبحنا بني لجيم بضرب ... يترك الهام وقعه معلولا لم يطيقوا ان ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا انتضوا معجس القسّبي وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا «1» قتلوا ربّهم كليبا سفاها ... ثم قالوا ما إن نخاف عويلا كذبوا والحرام والحلّ حتى ... يسلب الخدر بيضه المحجولا «2» ويموت الجنين في عاطف الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا وقال ايضا يرثيه: كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خلّيتها فيمن يخلّيها كليب أيّ فتى عزّ ومكرمة ... تحت السقائف إذ يعلوك سافيها «3» نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم ... مالت بنا الارض أو زالت رواسيها الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كلّ آلائه يا قوم أحصيها القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهوا إذا الخيل لجّت في تعاديها من خيل تغلب ما تلفى أسنّتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها يهزهزون من الخطّيّ مدمجة ... كمتا أنابيبها زرقا عواليها «4» ترى الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضا ونصدرها حمرا أعاليها ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقّت الارض فانجابت بمن فيها لا أصلح الله منّا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها

يوم النهي

يوم النهي قال أبو المنذر: أخبرني خراش أنّ اول وقعة كانت بينهم يوم النّهي، فالتقوا بماء يقال له النّهي، كانت بنو شيبان نازلة عليه، ورئيس تغلب المهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرة، فكانت الدائرة لبني تغلب، وكانت الشوكة في شيبان، واستحر القتل فيهم إلا انه لم يقتل في ذلك اليوم احد من بني مرة. يوم الذنائب «1» ثم التقوا بالذنائب، وهو اعظم وقعة لهم، فظفرت بنو تغلب، وقتلت بكرا مقتلة عظيمة، وفيها قتل شراحيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان- وهو جدّ الحوفزان، وهو جد معن بن زائدة، والحوفزان هو الحرث بن شريك بن عمرو بن قيس بن شراحيل- قتله عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، وقتل الحرث بن مرة بن ذهل بن شيبان، قتله كعب بن زهير بن جشم، وقتل من بني ذهل بن ثعلبة عمرو بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. وقتل من بني تيم الله: جميل بن مالك بن تيم الله، وعبيد الله بن مالك بن تيم الله وقتل من بني قيس بن ثعلبة: سعد بن ضبيعة بن قيس، وتميم بن قيس بن ثعلبة، وهو احد الخرفين، وكان شيخا كبيرا، فحمل في هودج، فلحقه عمرو بن مالك ابن الفدوكس بن حشم، وهو جد الاخطل، فقتله. هؤلاء من أصيب من رؤساء بكر يوم الذئاب. يوم واردات «2» ثم التقوا بواردات، وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمينا، فظفرت بنو تغلب واستحرّ القتل في بني بكر، فيومئذ قتل الشعثمان شعثم وعبد شمس ابنا معاوية بن

يوم عنيزة

عامر بن ذهل بن ثعلبة، وسيار بن الحرث بن سيار، وفيه قتل همام مرّة بن ذهل بن شيبان، أخو جساس لأمه وأبيه، فمر به مهلهل مقتولا، فقال: والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ فقدا منك! وقتله ناشرة، وكان همام ربّاه وكفله، كما كان ربّى حذيفة بن بدر قرواشا فقتله يوم الهباءة. يوم عنيزة «1» ثم التقوا بعنيزة، فظفرت بنو تغلب، ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة، كل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تغلب على بني بكر: فمنها يوم الحنو، ويوم عويرضات، ويوم أنيق، ويوم ضريّة، ويوم القصيبات، هذه الايام كلها لتغلب على بكر، أصيبت فيها بكر، حتى ظنوا أن ليس يستقبلون أمرهم. وقال مهلهل يصف هذه الايام وينعاها على بكر، في قصيدة طويلة أولها: أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري «2» فإن يك بالذّنائب طال ليلي ... فقد أبكى من اللّيل القصير «3» وفيها يقول: فلو نبش المقابر عن كليب ... لأخبر بالذّنائب أيّ زير كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير «4» وإني قد تركت بواردات ... بجيرا في دم مثل العبير هتكت به بيوت بني عباد ... وبعض القتل أشفى للصّدور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا برزت مخبّأة الخدور ولولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور «5»

يوم قضة

وقال مهلهل لما أسرف في الدماء: أكثرت قتل بني بكر بربّهم ... حتى بكيت وما يبكي لهم أحد آليت بالله لا أرضى بقتلهم ... حتى أبهرج بكرا أينما وجدوا وقال أبو حاتم: أبهرج: أدعهم بهرجا: لا يقتل فيه قتيل، ولا يؤخذ لهم دية. وقال: البهرج من الدراهم من هذا. وقال المهلهل: يا لبكر أنشروا لي كليبا ... يا لبكر أين الفرار؟ «1» تلك شيبان تقول لبكر ... صرح الشر وبان السّرار وبنو عجل تقول لقيس ... ولتيم اللات سيروا فساروا وقال: قتلوا كليبا ثم قالوا أربعوا ... كذبوا وربّ الحلّ والإحرام «2» حتى تبيد قبائل وقبيلة ... ويعضّ كل مثقّف بالهام وتقوم ربّات الحدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام «3» حتى يعضّ الشيخ بعد حميمه ... مما يرى ندما على الإبهام «4» يوم قضة «5» ثم إن مهلهلا أسرف في القتل ولم يبال بأي قبيلة من قبائل بكر أوقع، وكان أكثر بكر قعدت عن نصرة بني شيبان، لقتلهم كليب بن وائل، وكان الحارث بن عباد قد اعتزل تلك الحروب، حتى قتل ابنه بجير بن الحارث، ويقال إنه كان ابن

اخيه، فلما بلغ الحرث قتله قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل! وظن ان المهلهل قد أدرك به ثأر كليب وجعله كفئا له، فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب، وذلك أن المهلهل لما قتل بجيرا قال: بؤ بشسع نعل كليب! فغضب الحرث بن عباد، وكان له فرس يقال له النعامة، فركبها وتولى أمر بكر، فقاتل تغلب حتى هرب المهلهل وتفرقت قبائل تغلب فقال في ذلك الحارث ابن عباد: قرّبا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيالي «1» لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحرّها اليوم صالي وفيه أسر الحارث بن عباد المهلهل وهو لا يعرفه- واسمه عدي بن ربيعة- فقال له: دلّني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه؟ قال: نعم: قال: فأنا عدي! فجز ناصيته «2» وتركه، وقال فيه: لهف نفسي على عدي ولم أع ... رف عديّا إذ امكنتني اليدان وفيه قتل عمرو وعامر التغلبيان، قتلهما جحدر بن ضبيعة، طعن احدهما بسنان رمحه، والآخر بزجه، ثم إن المهلهل فارق قومه ونزل في بني جنب- وجنب في مذحج- فخطبوا إليه ابنته فمنعهم، فأجبروه على تزويجها وساقوا إليه في صداقها جلودا من أدم، فقال في ذلك: أعزز على تغلب بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جشم انكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم «3» لو بأبانين جاء يخطبها ... زمّل ما أنف خاطب بدم! «4»

الكلاب الأول

الكلاب «1» الأول قال أبو عبيدة: لما تسافهت بكر بن وائل وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم، فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا، فأكل القويّ الضعيف، ولا نستطيع تغيير ذلك، فنرى أن نملّك علينا ملكا نعطيه الشاء والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي، ويردّ على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا، فيأباه الآخرون، فتفسد ذات بيننا، ولكنا نأتي تبّعا فنملّكه علينا. فأتوه، فذكروا له أمرهم، فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فقدم فنزل بطن عاقل «2» . ثم غزا بكر بن وائل، حتى انتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشام الغسانيين، وردّهم إلى أقاصي أعمالهم. ثم طعن في نيطيه «3» - أي مات، فدفن ببطن عاقل، واختلف ابناه شرحبيل وسلمة في الملك، فتواعدا الكلاب، فأقبل شرحبيل في ضبة والرّباب كلها، وبني يربوع، وبكر بن وائل، وأقبل سلمة في تغلب، والنمر، وبهراء ومن تبعه من بني مالك بن حنظلة، وعليهم سيفان بن مجاشع، وعلى تغلب السفاح، وإنما قيل له السفاح لانه سفح أوعية قومه وقال لهم: انذروا إلى ماء الكلاب. فسبقوا ونزلوا عليه، وإنما خرجت بكر بن وائل مع شرحبيل لعداوتها لبني تغلب، فالتقوا على الكلاب، واستحرّ القتل في بني يربوع، وشد أبو حنش على شرحبيل فقتله، وكان شرحبيل قتل حنشا، فأراد أبو حنش أن يأتي برأسه إلى مسلمة، فخافه، فبعثه مع عسيف «4» له، فلما رآه مسلمة دمعت عيناه وقال هـ: أنت قتلته؟ قال لا، ولكنه قتله أبو حنش. فقال: إنما أدفع الثواب إلى قاتله! وهرب أبو حنش عنه، فقال سلمة:

يوم الصفقة: ويوم الكلاب الثاني

ألا أبلغ أبا حنش رسولا ... فمالك لا تجيء إلى الثّواب تعلّم أنّ خير الناس ميتا ... قتيل بين أحجار الكلاب تداعت حوله جشم بن بكر ... وأسلمه جعاسيس الرباب «1» ومما يدل على أن بكرا كانت مع شرحبيل قول الأخطل: أبا غسّان إنّك لم تهنّي ... ولكن قد أهنت بني شهاب ترقّوا في النخيل وأنسئونا ... دماء سراتكم يوم الكلاب «2» يوم الصفقة: ويوم الكلاب الثاني قال أبو عبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: كان يوم الكلاب متصلا بيوم الصفقة، وكان من حديث الصفقة أن كسرى الملك كان قد أوقع ببني تميم فأخذ الاموال وسبى الذراري بمدينة هجر. وذلك أنهم أغاروا على لطيمة «3» له فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فسمّيت تلك الوقعة يوم الصفقة، ثم إن بني تميم أداروا أمرهم، فقال ذو الحجى منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وهنتم، وتسامعت بما لقيتم القبائل، فلا تأمنون دوران العرب! فجمعوا سبعة رؤساء منهم، وشاوروهم في أمرهم، وهم: أكثم بن صيفي الأسيدي، والأعيمر بن يزيد بن مرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن الحسحاس التيمي، وأبير بن عمرو والسعدي، والزبرقان ابن بدر السعدي، فقالوا لهم: ماذا ترون؟ فقال اكثم بن صيفي، وكان يكني أبا حنش: إن الناس قد بلغهم ما قد لقينا، نحن نخاف أن يطمعوا فينا. ثم مسح بيده على قلبه وقال: إني قد نيّفت على التسعين، وانما قلبي بضعة من جسمي، وقد نحل كل جسمي، وإني أخاف ان لا يدرك ذهني الرأي لكم، وأنتم قوم قد شاع في الناس

أمركم، وإنما كان قوامكم أسيفا وعسيفا- يريد العبد والاجير- وصرتم اليوم إنما ترعى لكم بناتكم، فليعرض عليّ كلّ رجل منكم رأيه وما يحضره، فاني متى أسمع الحزم أعرفه. فقال كل رجل منهم ما رأى، وأكثم ساكت لا يتكلم، حتى قام النعمان ابن الحسحاس، فقال: يا قوم، انظروا ماء يجمعكم ولا يعلم الناس بأي ماء أنتم، حتى تنفرج الحلقة عنكم وقد جممتم «1» وصلحت أحوالكم وانجبر كسيركم وقوي ضعيفكم، ولا أعلم ماء يجمعكم إلا قدّة «2» ، فارتحلوا وانزلوا قدّة. وهو موضع يقال له الكلاب، فلما سمع أكثم بن صيفي كلام النعمان، قال: هذا هو الرأي! فارتحلوا حتى نزلوا الكلاب، وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلي اليمن، وأسفله مما يلي العراق، فنزلت سعد الرّباب بأعلى الوادي، ونزلت حنظلة بأسفله. قال أبو عبيدة: وكانوا لا يخافون أن يغزوا في القيظ، ولا يسافر فيه أحد، ولا يستطيع أحد ان يقطع تلك الصحارى، لبعد مسافتها، وليس بها ماء! ولشدة حرها. فأقاموا بقية القيظ لا يعلم أحد بمكانهم! حتى إذا تهور القيظ- أي ذهب- بعث الله ذا العينين، وهو من أهل مدينة هجر، فمر بقدة وصحرائها، فرأى ما بها من النعم، فانطلق حتى أتى أهل هجر. فقال لهم: هل لكم في جارية عذراء، ومهرة شوهاء «3» ، وبكرة «4» حمراء، ليس دونها نكبة؟ فقالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: تلكم تميم ألقاء مطروحون بقدّة. قالوا: إي والله! فمشي بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموها من بني تميم! فأخرجوا منهم أربعة أملاك، يقال لهم اليزيديون: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأمور، ويزيد بن المخرم، وكلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، فكان كل

واحد منهم على ألفين، والجماعة ثمانية الاف، فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبر منه، ومن جيش يوم كسرى يوم ذي قار، ويوم شعب جبلة- فمضوا، حتى إذا كانوا ببلاد باهلة، قال جزء بن جزء بن جزء الباهلي لابنه: يا بني، هل لك في أكرومة لا يصاب أبدا مثلها؟ قال: وما ذاك؟ قال: هذا الحيّ من تميم قد ولجوا هناك مخافة، وقد قصصت أثر الجيش يريدونهم، فاركب جملي الأرحبيّ «1» ، وسر سيرا رويدا عقبة من الليل- يعني ساعة- ثمل حلّ عنه حبليه وأنخه وتوسّد ذراعه، فإذا سمعته قد أفاض بجرّته وبال فاستنقعت ثفتاته «2» في بوله، فشدّ عليه حبله، ثم ضع السّوط عليه، فإنك لا تسأل جملك شيئا من السير الا اعطاك، حتى تصبّح القوم. ففعل ما أمره به. قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجيش وأنا أنظر إلى ابن ذكاء- يعني الصبح- فناديت: يا صباحاه! فانهم ليثبون إليّ ليسألوني من انت، إذ أقبل رجل منهم من بني شقيق على مهر قد كان في النعم، فنادى: يا صباحاه! قد أتي على النعم! ثم كر راجعا نحو الجيش، فلقيه عبد يغوث الحارثي وهو أول الرعيل، فطعنه في رأس معدته فسبق اللبن الدم، وكان قد اصطبح «3» ، فقال عبد يغوث: اطيعوني وامضوا بالنعم وخلوا العجائز من تميم ساقطة افواهها: قالوا: اما دون ان تنكح بناتهم فلا! وقال ضمرة بن لبيد الحماسي، ثم المذحجي الكاهن: انظروا إذا سقتم النعم «4» ، فإن أتتكم الخيل عصبا [عصبا] ، العصبة تنتظر الاخرى حتى تلحق بها، فإن أمر القوم هيّن، وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردّوا وجوه النعم، فإنّ أمرهم شديد.

وتقدمت سعد والرباب في أوائل الخيل، فالتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النّعم ولم ينتظر بعضهم بعضا. ورئيس الرباب النعمان بن الحسحاس، ورئيس بني سعد قيس بن عاثم، وأجمع العلماء أن قيس بن عاصم كان رئيس بني تميم. فالتقى القوم، فكان أول صريع النعمان بن الحسحاس، واقتتل القوم بقية يومهم، وثبت بعضهم لبعض حتى حجز الليل بينهم، ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيس بن عاصم: يا آل سعد! ونادى عبد يغوث: يا آل سعد! قيس يدعو سعد بن زيد مناة، وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة، فلما سمع ذلك قيس نادى: يا آل كعب! فنادى عبد يغوث: يا آل كعب! قيس يدعو كعب بن سعد، وعبد يغوث يدعو كعب بن مالك، فلما رأى ذلك قيس نادى: يا آل كعب مقاعس فلما سمعه وعلة بن عبد الله الجرمي- وكان صاحب لواء اهل اليمن- نادى: يا لمقاعس! تفاءل به فطرح له اللواء، وكان أول من انهزم، فحملت عليهم بنو سعد الرباب فهزموهم، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم، لا تقتلوا إلا فارسا فإن الرجّالة لكم! ثم جعل يرتجز ويقول: لما تولّوا عصبا هواربا ... أقسمت لا أطعن إلا راكبا «1» إن وجدت الطعن فيهم صائبا وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يتبعوا المنهزمة ويقطعوا عرقوب من لحقوا ولا يشتغلوا بقتلهم عن اتّباعهم فجزّوا دوابرهم، فذلك قول وعلة: فدى لكم أهلي وأمي ووالدي ... غداة كلاب إذ تجزّ الدّوابر «2» وسنكتب هذه القصيدة على وجهها. وحمى عبد يغوث اصحابه فلم يوصل إلى الجانب الذي هو فيه، فألظّ «3» به مصاد بن ربيعة بن الحارث، فلما لحقه مصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره، وكان مصاد قد أصابته طعنة في مأبضه «4» ، وكان عرقه

يهمي- أي يسيل- فعصبه، وكتفه- يعني عبد يغوث- ثم أردفه خلفه، فنزفه الدم، فمال عن فرسه مقلوبا. فلما رأى ذلك عبد يغوث قطع كتافه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أول النهار، ثم ظفر به بعد في آخره. ونادى مناد قتل اليزيدون. وشد قبيضة بن ضرار الضبي على ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن فطعنه فخرّ صريعا، فقال له قبيصة: ألا أخبرك تابعك بمصرعك اليوم! وأسر عبد يغوث، وأسره عصمة بن أبير التيمي. قال أبو عبيدة: انتهى عصمة بن أبير إلى مصاد وقد أمعنوا في الطلب، فوجده صريعا، وقد كان قبل ذلك رأى عبد يغوث أسيرا في يديه، فعرف أنه هو الذي اجهز عليه، فاقتص أثره، فلما لحقه قال له: ويحك! إني رجل أحب اللين، وأنا خير لك من الفلاة والعطش! قال عبد يغوث: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أبير. قال عبيد يغوث: أو عندك منعة؟ قال: نعم، فألقى يده في يده، فانطلق به عصمة حتى خبأه عند الاهتم، على ان جعل له من فداه جعلا «1» فوضعه الاهتم عند امرأته العبشمية «2» ، فأعجبها جماله وكمال خلقه، وكان عصمة الذي أسره غلاما نحيفا، فقالت لعبد يغوث: من أنت؟ قال: انا سيّد القوم! فضحكت، وقالت: قبحك الله سيد قوم حين أسرك مثل هذا. ولذلك يقول عبد يغوث: وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا فاجتمعت الرباب الى الاهتم فقالت: ثأرنا عندك، وقد قتل مصاد والنعمان، فأخرجه إلينا! فأبى الاهتم ان يخرجه اليهم، فكاد ان يكون بين الحيين: الرباب وسعد، فتنة، حتى أقبل قيس بن عاصم المنقري، فقال: أيؤتى قطع حلف الربّاب من قبلنا؟ وضرب فمه بقوس فهتمه «3» فسمّي الأهتم، فقال الاهتم: انما دفعه إليّ عصمة ابن أبير، ولا أدفعه إلا لمن دفعه إليّ، فليجىء فيأخذه. فأتوا عصمة فقالوا: يا

عصمة، قتل سيدنا النعمان، وفرسنا، مصاد، وثأرنا أسيرك وفي يدك، فما ينبغي لك أن تستحبيه! فقال: إني ممحل «1» ، وقد أصبت الغنى في نفسي، ولا تطيب نفسي عن أسيري! فاشتراه بنو الحسحاس بمائة بعير. وقال رؤبة بن العجاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النّعم، فدفعه إليهم، فخشوا ان يهجوهم، فشدوا على لسانه نسعة «2» ، فقال إنكم قاتليّ ولا بدّ، فدعوني أذمّ أصحابي وأنوح على نفسي! فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا! فعقد لهم أن لا يفعل، فأطلقوا لسانه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها: ألالا تلوماني كفى اللّوم ما بيا ... فما لكما في الّوم خير ولا ليا ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا «3» فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا «4» أبا كرب والأيهمين كليهما ... وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا «5» جزى الله قومي بالكلاب ملامة ... صريحهم والآخرين المواليا «6» ولو شئت نجّتني من القوم نهدة ... ترى خلفها الجرد الجياد تواليا «7» ولكنني أحمى ذمار أبيكم ... وكاد الرّماح يختطفن المحاميا «8» أحقّا عباد الله أن لست سامعا ... نشيد الرّعاء المعزبين المثاليا «9» أقول وقد شدّوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا

وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا «1» أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا ... فإنّ أخاكم لم يكن من بوائيا «2» وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا اللّيث معدوّا عليه وعاديا وقد كنت نحّار الجزور ومعمل الم ... طيّ وأمضي حيث لا حيّ ماضيا وأعقر للشّرب الكرام مطيّتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا «3» وكنت إذا ما الخيل شمّطها القنا ... لبيقا بتصريف القناة بنانيا «4» وعادية سوم الجراد وزعتها ... برمحي وقد أنحوا إليّ العواليا «5» كأنّي لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كرّي قاتلي عن رجاليا ولم أسبإ الزّقّ الّرويّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا «6» قال ابو عبيدة: فلما ضربت عنقه قالت ابنة مصاد: بؤ بمصاد! فقال بنو النعمان: يالكاع! نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمصاد؟ فوقع بينهم في ذلك الشر، ثم اصطلحوا، وكان الغناء كله يوم الكلاب من الرباب لتيم، ومن بني سعد لمقاعس. وقال وعلة الجرمي وكان أول منهزم انهزم يوم الكلاب، وكان بيده لواء القوم: ومنّ عليّ الله منّا شكرته ... غداة الكلاب إذ تجز الدّوابر ولمّا رأيت الخيل تترى أثابجا ... علمت بأنّ اليوم أحمس فاجر «7» نجوت نجاء ليس فيه وثيرة ... كأني عقاب عند تيمن كاسر «8» خداريّة سفعاء لبّذ ريشها ... بطخفة يوم ذو أهاضيب ماطر «9»

لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر كأنّا وقد حالت حذتّه دوننا ... نعام تلاه فارس متواتر «1» فمن يك يرجو في تميم هوادة ... فليس لجرم في تميم أواصر ولمّا سمعت الخيل تدعو مقاعسا ... تنازعني من ثغرة النحر ناحر فإن أستطيع لا تلتبس بي مقاعس ... ولا ترني بيداؤهم والمحاضر «2» ولا أك في جرّارة مضريّة ... إذا ما غدت قوت العيال تبادر «3» وقد قلت للنّهديّ هل أنت مردفي ... وكيف رداف الفلّ أمّك عاثر «4» يذكّرني بالإلّ بيني وبينه ... وقد كان في جرم ونهد تدابر «5» وقال محرز بن المعكبر الضبي- ولم يشهدها وكان مجاورا في بكر بن وائل- لما بلغه الخبر: فدى لقومي ما جمّعت من نشب ... إذ ساقت الحرب أقواما لأقوام «6» إذ حدّثت مذحج عنا وقد كذبت ... أن لا يذبّب عن أحسابنا حام دارت رحانا قليلا ثم واجههم ... ضرب تصدّع منه جلدة الهام «7» ظلّت ضباع مجيرات تجرّرهم ... وألحموهنّ منهم أيّ إلحام «8» حتى حذنّة لم نترك بها ضبعا ... إلّا لها جزر من شلو مقدام «9»

يوم طحفة

ظلّت تدوس بني كعب بكلكلها ... وهمّ يوم بني نهد بإظلام «1» قال أبو عبيدة: حدثني المنتجع بن نبهان قال: وقف رؤبة بن العجاج على التيم بمسجد الحرورية، فقال: يا معشر تيم، إني سمرت عند الامير تلك الليلة، فتذاكرنا يوم الكلاب، فقال: يا معشر تيم، إن الكلاب ليس كما ذكرتم فأعفونا من قصيدتي صاحبينا- يعني عبد يغوث ووعلة الجرمي- ومن قصيد ابن المعكبر صاحبكم، وهاتوا غير ذلك، فأنتم اكثر الناس كلاما وهجاء. قال رؤبة: فأنشدناه في ذلك اليوم شعرا كثيرا، فجعل يقول: هذه إسلامية كلها. يوم طحفة «2» كانت الرّدافة «3» ، ردافة الملك، لعتّاب بن هرميّ بن رياح، ثم كانت لقيس بن عتاب، فسأل حاجب بن زرارة النعمان أن يجعلها للحارث بن مرط بن سفيان بن مجاشع، فسألها النعمان بني يربوع، وقال: أعقبوا إخوتكم في الردّافة. قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وانما سألها حاجب حسدا لنا. وأتوا عليه. فقال الحارث بن شهاب وهو عند النعمان: إن بني يربوع لا يسلمون ردافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث إليهم الملك جيشا لم يمنعوه، ولم يمتنعوا. فبعث إليهم النعمان قابوسا ابنه، وحسان بن المنذر، فكان قابوس على الناس، وكان حسان على المقدمة. وبعث معهم الصنائع والوضائع- فالصنائع من كان يأتيه من العرب، والوضائع المقيمون بالحيرة- فالتقوا بطخفة، فانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق بن عميرة فرس قابوس فعقره، وأخذه ليجز ناصيته «4» ، فقال قابوس: إن الملك لا تجزّ نواصيها! فجهزه

يوم فيف الريح

وأرسله إلى أبيه، وأما حسان بن المنذر، فأسره بشر بن عمرو الرياحي، ثم منّ عليه وأرسله، فقال مالك بن نويرة: ونحن عقرنا مهر قابوس بعد ما ... رأى القوم منه الموت والخيل تلحب «1» عليه دلاص ذات نسج وسيفه ... جراز من الهنديّ أبيض مقضب «2» طلبنا بها إنا مداريك قبلها ... إذا طلب الشّأ والبعيد المغرّب يوم فيف الريح «3» قال أبو عبيدة: تجمعت قبائل مذحج، وأكثرها بنو الحارث بن كعب، وقبائل من مراد وجعفي وزبيد وخثعم، وعليهم أنس بن مدركة، وعلى بني الحارث الحصين، فأغاروا على بني عامر بن صعصعة بفيف الريح، وعلى بني عامر، عامر بن مالك ملاعب الاسنة. قال: فاقتتل القوم فكثروهم «4» . وارفضت قبائل من بني عامر، وصبرت بنو نمير، فما شبهوا إلا الكلاب المتعاظلة «5» حول اللواء، وأقبل عامر بن الطفيل وخلفه دعيّ بن جعفر، فقال: يا معشر الفتيان، من ضرب ضربة او طعن طعنة فليشهدني فكان الفارس إذا ضرب ضربة او طعن طعنة قال عند ذلك: يا أبا علي! فبينما هو كذلك إذ أتاه مسهر بن يزيد الحارثي، فقال له من ورائه: عندك يا عامر! والرمح عند أذنه، فوهصه- أي طعنه فأصاب عينه- فوثب عامر عن فرسه، ونجا على رجليه، وأخذ مسهر رمح عامر. ففي ذلك يقول عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر: لعمري وما عمري علي بهيّن ... لقد شان حر الوجه طعنة مسهر

يوم تياس

أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ... ولكن نزونا بالعديد المجمهر «1» ولو كان جمع مثلنا لم يبزّنا ... ولكن أتتنا أسرة ذات مفخر «2» أتونا ببهراء ومذحج كلّها ... وأكلب طرّا في جنان السّنور «3» وقال مسهر، وزعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل: وهصت بخرص الرّمح مقلة عامر ... فأضحى نحيفا في الفوارس أعورا «4» وغادر فينا رمحه وسلاحه ... وأدبر يدعو في الهوالك جعفرا وكنّا إذا قيسيّة دهيت بنا ... جرى دمعها من عينها فتحدّرا مخافة ما لاقت حليلة عامر ... من الشّرّ إذ سربالها قد تعفّرا قال: وامتنّت بنو نمير على بني كلاب بصبرهم يوم فيف الريح، فقال عامر: تمنّون بالنعما ولولا مكرنا ... بمنعرج الفيفا لكنتم مواليا ونحن تداركنا فوارس وحوح ... عشيّة لاقينا الحصين اليمانيا وحوح: من بني نمير، وكان عامر استنقذهم، وأسر حنظلة بن الطفيل يومئذ. قال أبو عبيدة: كانت وقعة فيف الريح وقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة، وأدرك مسهر ابن يزيد الإسلام فأسلم. يوم تياس «5» كانت أفناء قبائل من بني سعد بن زيد مناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بتياس، فقطع غيلان بن مالك بن عمرو بن تميم رجل الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة. فطلبوا القصاص، فأقسم غيلان أن لا يعقلها ولا يقصّ بها حتى تحشى عيناه ترابا! وقال:

يوم زرود الأول

لا نعقل الرّجل ولا نديها ... حتى تروا داهية تنسيها فالتقوا فاقتتلوا فجرحوا غيلان حتى ظنوا انهم قد قتلوه، ورئيس عمرو، كعب بن عمرو، ولواؤه مع ابنه ذؤيت وهو القائل لأبيه: يا كعب إن أخاك منحمق ... إن لم يكن بك مرّة كعب جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب «1» والحرب قد تضطرّ جانبها ... نحو المضيق ودونه الرّحب يوم زرود «2» الأول غزا الحوفزان حتى انتهى إلى زورد خلف جبل من جبالها، فأغاروا على نعم كثير صادر عن الماء لبني عبس، فاحتازوه، وأتى الصريخ بني عبس، فركبوا، ولحق عمارة ابن زياد العبسي الحوفزان فعرفه- وكانت أم عمارة قد أرضعت مضر بن شريك، وهو أخو الحوفزان- فقال عمارة: يا بني شريك، قد علمتم ما بيننا وبينكم! قال الحوفزان، وهو الحارث بن شريك: صدقت يا عمارة، فانظر كل شيء هو لك فخذه! فقال عمارة: لقد علمت نساء بني بكر بن وائل أني لم أملأ أيدي أزواجهن وأبنائهن شفقة عليهن من الموت! فحمل عمارة ليعارض النعم «3» ليردّه، وحال الحوفزان بينه وبين النعم، فعثرت بعمارة فرسه فطعنه الحوفزان، ولحق به نعامة بن عبد الله بن شريك فطعنه أيضا، وقال نعامة: ما كرهت الرمح في كفل «4» رجل قط أشدّ من كفل عمارة! وأسر ابنا عمارة: سنان وشداد، وكان بني عبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة، مجاورين لهم، وكان لهما أخ أسير في بني يشكر، فأصابا رجلا من بني مرة يقال له: معدان بن محرب، فذهبا به فدفناه «5» تحت شجرة، فلما

يوم غول الثاني: وهو يوم كنهل

فقدته بنو شيبان نادوا: يا ثارات معدان! فعند ذلك قتلوا ابني عمارة، وهرب الطائيان بأسيرهما فلما برىء عمارة من جراحه أتى طيّا فقال: ادفعوا إليّ هذا الكلب الذي قتلنا به! فقال الطائي لأوس: ادفع إلى بني عبس صاحبهم. فقال لهم أوس: أتأمرونني أن أعطي بني عبس قطرة من دمي، وإن ابني أسير في بني يشكر؟ فوالله ما أرجو فكاكه إلا بهذا! فلما قفل الحوفزان من غزوه بعث إلى بني يشكر في ابن أوس، فبعثوا به إليه، فافتكّ به معدان. وقال نعامة بن شريك: استنزلت رماحنا سنانا ... وشيخه بطخفة عيانا ثم أخوه قد رأى هوانا ... لمّا فقدنا بيننا معدانا يوم غول «1» الثاني: وهو يوم كنهل «2» قال أبو عبيدة: أقبل ابنا هجيمة- وهما من بني غسان- في جيش، فنزلا في بني يربوع، فجاورا طارق بن عوف بن عاصم بن ثعلبة بن يربوع، فنزلا معه على ماء يقال له كنهل، فأغار عليهما أناس من ثعلبة بن يربوع، فاستاقوا نعمهما وأسروا من كان في النعم، فركب قيس بن هجيمة بخيله حتى أدرك بني ثعلبة، فكّر عليه عتيبة ابن الحارث، فقال له قيس: هل لك يا عتيبة إلى البراز؟ فقال: ما كنت لأسأله وأدعه! فبارزه، قال عتيبة: فما رأيت فارسا أملأ لعيني منه يوم رأيته، فرماني بقوسه، فما رأيت شيئا أكره إليّ منه، فطعنني فأصاب قربوس «3» سرجي، حتى وجدت مسّ السنان في باطن فخذي، فتجنبت، قال: ثم أرسل الرمح وقبض بيدي وهو يرى أن قد أثبتني وانصرف، فأتبعته الفرس، فلما سمع زجلها رجع جانحا على قربوس سرجه، وبدا لي فرج الدرع ومعي رمح معلّب «4» بالقدّ والعصب كنا نصطاد

يوم الجبات

به الوحش، فرميته بالقوس، وطعنته بالرمح، فقتلته وانصرفت، فلحقت النعم، وأقبل الهرماس بن هجيمة فوقف على أخيه قتيلا، ثم اتبعني، وقال: هل لك في البراز؟ فقلت: لعل الرجعة لك خير! قال: أبعد قيس؟ ثم شدّ عليّ فضربني على البيضة «1» ، فخلص السيف إلى رأسي، وضربته فقتلته، فقال سحيم بن وثيل يعيّر طارقا فقتل جاريه: لقد كنت جار بني هجيمة قبلها ... فلم تغن شيئا غير قتل المجاور وقال جرير: وساق ابني هجيمة يوم غول ... إلى أسيافنا قدر الحمام يوم الجبات «2» قال أبو عبيدة: خرج بنو ثعلبة بن يربوع فمرّوا بناس من طوائف بني بكر بن وائل بالجبّات، خرجوا سفّارا، فنزلوا وسرحوا إبلهم ترعى، وفيها نفر منهم يرعونها: منهم سوادة بن يزيد بن بجير العجلي. ورجل من بني شيبان، وكان محموما، فمرّت بنو ثعلبة بن يربوع بالإبل، فاطردوها، وأخذوا الرجلين فسألوهما: من معكما؟ فقالا: معنا شيخ من يزيد بن بجيل العجلي في عصابة من بني بكر بن وائل، خرجوا سفارا يريدون البحرين. فقال الربيع ودعموص ابنا عتيبة بن الحارث بن شهاب: لن نذهب بهذين الرجلين وبهذه الإبل ولم يعلموا من أخذها؟ ارجعوا بنا حتى يعلموا من اخذ إبلهم وصاحبيهم ليعنيهم ذلك. فقال لهما عميرة: ما وراءكما إلا شيخ بن يزيد قد أخذتما أخاه وأطردتما ماله، دعاه، فأبيا ورجعا، فوقفا عليهم وأخبراهم وتسميا لهم، فركب شيخ بن يزيد فاتبعهما وقد ولّيا، فلحق دعموصا فأسره ومضى ربيع حتى أتى عميرة فأخبره أنّ أخاه قد قتل، فرجع عميرة على فرس يقال له الخنساء، حتى لحق القوم، فافتكّ منهم دعموصا على أن يردّ عليهم أخاهم

يوم إراب

وإبلهم، فردّها عليهم، فكفر ابنا عتيبة ولم يشكرا عميرة، فقال: ألم تر دعموصا يصدّ بوجهه ... إذا ما رآني مقبلا لم يسلّم ألم تعلما يا بني عتيبة مقدمي ... على ساقط بين الأسنّة مسلم فعارضت فيه القوم حتى انتزعته ... جهارا ولم أنظر له بالتّلوّم «1» يوم إراب «2» غزا الهذيل بن هبيرة بن حسان التغلبي، فأغار على بني يربوع بإراب فقتل فيهم قتلا ذريعا، فأصاب نعما كثيرة وسبى سبيا كثيرا، فيهم زينب بنت حمير بن الحارث ابن همام بن رباح بن يربوع، وهي يومئذ عقيلة نساء بني تميم وكان الهذيل يسمى مجدعا، وكان بنو تميم يفزعون به أولادهم، وسبى أيضا طابية بنت جزء بن سعد الرياحي، ففداها أبوها، وركب عتيبة بن الحارث في أسراهم ففكهم أجمعين. يوم الشعب غزا قيس بن شرفاء التغلبي، فأغار على بني يربوع بالشعب، فاقتتلوا، فانهزمت بنو يربوع، فزعم أبو هدبة أنها كانت اختطافا، فأسر سحيم بن وثيل الرياحي، ففي ذلك يقول سحيم: أقول لهم بالشّعب إذ يأسرونني ... ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم «3» ففدى نفسه. وأسر يومئذ متمّم بن نويرة، فوفد مالك بن نويرة على قيس بن شرفاء في فدائه فقال: هل أنت يا قيس بن شرفاء منعم ... أو الجهد إن أعطيته أنت قابله فلما رأى وسامته «4» وحسن شارته، قال: بل منعم. فأطلقه له.

يوم غول الأول

يوم غول «1» الأول فيه قتل طريف بن شراحيل وعمرو بن مرثد المحلّمي. غزا طريف بن تميم في بني العنبر وطوائف من بني عمرو بن تميم، فأغار على بني بكر بن وائل بغول، فاقتتلوا، ثم إنّ بكرا انهزمت، فقتل طريف بن شراحيل أحد بني ربيعة، وقتل أيضا عمرو بن مرثد المحلّمي، وقتل المحسّر، فقال في ذلك ربيعة ابن طريف: يا راكبا بلّغن عني مغلغلة ... بني الخصيب وشرّ المنطق الفند «2» هلّا شراحيل إذ مال الحزام به ... وسط العجاج فلم يغضب له أحد «3» أو المحسّر أو عمر تحيّفهم ... منّا فوارس هيجا نصرهم حشد «4» إذ يلحظون بزرق من أسنتّنا ... يشفى بهنّ الشّنا والعجب والكمد «5» وقد قتلناكم صبرا ونأسركم ... وقد طردناكم لو ينفع الطرد «6» حتى استغاث بنا أدنى شريدكم ... من بعد ما مسه الضراء والنكد وقال نضلة السلمي في يوم غول، وكان حقيرا دميما، وكان ذا نجدة: ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور مشيح؟ - رأوه فازدروه وهو حرّ ... وينفع أهله الرجل القبيح فشدّ عليهم بالسيف صلتا ... كما عضّ الشبا الفرس الجموح «7» فأطلق غلّ صاحبه وأردى ... قتيلا منهم ونجا جريح ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرّغوة اللبن الصريح «8»

يوم الخندمة

يوم الخندمة «1» كان رجل من مشركي قريش يحدّ حربة يوم فتح مكة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه! قالت: والله ما أرى [أنه] يقوم لمحمد وأصحابه شيء! فقال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعض نسائهم! وأنشأ يقول: إن يقبلوا اليوم فما بي علّة ... هذا سلاح كامل وألّه «2» وذو غرارين سريع السّلّة «3» فلما لقيهم خالد بن الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء فلامته امرأته، فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه ولقيتنا بالسيوف المسلمة ... يفلقن كلّ ساعد وجمجمه «4» ضربا فلا تسمع إلا غمغمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه «5» ! يوم اللهيماء «6» قال أبو عبيدة: كان سبب الحرب التي كانت بين عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وبين بني عبد بن عدي بن الدّئل بن بكر بن عبد مناة، أن قيس بن عامر بن غريب أخا بني عمرو بن عدي، وأخاه سالما، خرجا يريدان بني عمرو بن الحارث، على فرسين، يقال لاحدهما اللّعاب، والأخرى عفزر، فباتا عند رجل من بني نفاثة، فقال النفاثي لقيس وأخيه: أطيعاني وأرجعا، لأعرفنّ رماحكما تكسر في قتاد نعمان «7» . قالا: إن رماحنا لا تكسر إلا في صدور الرجال! قال: لا يضركما،

وستحمدان أمري. فأصبحا غاديين، فلما شارفا متن اللهيما من نعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك، بموضع يقال له أديمة «1» ، أغارا على غنم جندب بن أبي عميس، وفيها جندب، فتقدم إليه قيس، فرماه جندب في حلمة ثديه، وبعجه قيس بالسيف فأصابت ظبة «2» السيف وجه جندب، وخرّ قيس، ونفرت الغنم نحو الدار، فتبعها، وحمل سالم على جندب بفرسه عفزر، فضرب جندب خطم «3» عفزر بالسيف فقطعه، وضربه سالم فاتقاه بيده فقطع أحد زنديه، فخر جندب وذفّف «4» عليه سالم، وأدرك العشي سالما، فخرج وترك سيفه في المعركة، وثوبه بحقويه، لم ينج إلا بجفن سيفه ومئزره، فقال في ذلك حماد بن عامر: لعمرك ما وفي ابن ابي عميس ... وما خان القتال وما أضاعا سما بقرابه حتى إذا ما ... أتاه قرنه بذل المصاعا «5» فإن أك نائبا عنه فإني ... سررت بأنه غبن البياعا وأفلت سالم منها جريضا ... وقد كلم الذّبابة والذّراعا «6» ولو سلمت له يمنى يديه ... لعمر أبيك اطعمك السّباعا وقال حذيفة بن أنس: ألا بلّغا جلّ السواري وجابرا ... وبلغ بني ذي السهم عنا ويعمرا «7» كشفت غطاء الحرب لما رأيتها ... تميل على صفو من الليل أكدرا «8» أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا «9»

يوم خزاز

ويمشي إذا ما الموت كان أمامه ... كذا الشّبل يحمي الانف أن يتأخّرا «1» نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا «2» وطاب عن اللّعاب نفسا وربّه ... وغادر قيسا في المكرّ وعفزرا يوم خزاز «3» قال أبو عبيدة تنازع عامر ومسمع ابنا عبد الملك، وخالد بن جبلة، وإبراهيم بن محمد بن نوح العطاردي، وغسان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سلم الباهلي، ونفر من وجوه أهل البصرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فقال خالد بن جبلة، كان الأحوص بن جعفر الرئيس. وقال عامر ومسمع: كان الرئيس كليب بن وائل. وقال بن نوح: كان الرئيس زرارة بن عدس. وهذا في مجلس أبي عمرو بن العلاء، فتحاكموا إلى أبي عمرو، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة، ولا دارم بن مالك، ولا جشم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، ولقد سألت عنه منذ ستين سنة فما وجدت أحدا من القوم يعلم من رئيسهم ومن الملك، غير أن أهل اليمن كان الرجل منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة «4» يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم. وكان أول يوم امتنعت معدّ عن الملوك ملوك حمير، وكانت نزار لم تكثر بعد، فأوقدوا نارا على خزاز ثلاث ليال، ودخنوا ثلاثة أيام ... فقيل له: وما خزاز؟ قال: هو جبل قريب من أمرة على يسار الطريق، خلفه صحراء منعج «5» ، يناوحه كور وكوير «6» ، إذا قطعت بطن عاقل، ففي ذلك اليوم امتنعت نزار من أهل اليمن أن يأكلوهم، ولولا قول عمرو بن كلثوم ما عرف ذلك اليوم، حيث يقول:

يوم المعا

ونحن غداة أوقد في خزاز ... رفدنا فوق رفد الرافدينا فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا «1» فصالوا صولة فيما يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا فآبوا بالنهاب وبالسّبابا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا «2» قال أبو عمرو بن العلاء: ولو كان جدّه كليب بن وائل قائدهم ورئيسهم ما ادعى الرّفادة وترك الرياسة، وما رأيت أحدا عرف هذا اليوم ولا ذكره في شعره قبله ولا بعده! يوم المعا «3» قال أبو عبيدة: أغار المنبطح الأسدي على بني عبّاد بن ضبيعة، فأخذ نعما لبني لحرب بن عباد، وهي ألف بعير، فمر ببني سعد بن مالك بن ضبيعة، وبني عجل بن لجيم، فتبعوه حتى انتزعوها منه، ورئيس بني سعد حمران بن عبد عمرو، فأسر أفتل ابن حسان العجليّ المنبطح الأسدي، ففداه قومه، ولا أدري كم كان فداؤه، واستنقذوا السبي، فقال حجر بن خالد بن محمود في يوم المعا: ومنبطح الغواضر قد أذقنا ... بناعجة المعا حرّ الجلاد «4» تنفّذنا أخاذيذا فردّت ... على سكن وجمع بني عباد سكن: ابن باعث بن الحرث بن عباد، والأخائذ: من أخذ من النساء. وقال حمران بن عبد عمرو: إن الفوارس يوم ناعجة المعا ... نعم الفوارس من بني سيار لم يلههم عقد الأصرّة خلفهم ... وحنين منهلة الضروع عشار «5»

يوم النسار

لحقوا على قبّ الأياطل كالقنا ... شعث تعدّ لكلّ يوم عوار «1» حتى حبون أخا الغواضر طعنة ... وفككن منه القدّ بعد إسار سالت عليه من الشّعاب خوانف ... ورد الغطاط تبلّج الأسحار «2» يوم النّسار «3» قال أبو عبيدة: حالفت أسد وطيء وغطفان، ولحقت بهم ضبة وعدي، فغزوا بني عامر فقتلوهم قتلا شديدا، فغضبت بنو تميم لقتل عامر، فتجمعوا حتى لحقوا طيئا وغطفان وحلفاءهم من بني ضبة وعدي يوم الجفار «4» ، فقتلت تميم طيئا أشدّ مما قتلت عامر يوم النّسار. فقال في ذلك بشر بن أبي خازم: غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النّسار فأعتبوا بالصّيلم «5» يوم ذات الشقوق «6» فحلف ضمرة بن النهشلي. فقال: الخمر عليّ حرام حتى يكون له يوم يكافئه! فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشقوق فقتلهم، وقال في ذلك: الآن ساغ لي الشراب ولم أكن ... آتي التّجار ولا أشدّ تكلمي حتى صبحت على الشّقوق بغارة ... كالتمر ينثر في حرير الحرّم وأبأت يوما بالجفار بمثله ... وأجرت نصفا من حديث الموسم ومشت نساء كالظباء عواطلا ... من بين عارفة السّباء وأيّم «7»

يوم خو

ذهب الرّماح بزوجها فتركنه ... في صدر معتدل القناة مقوّم يوم خوّ «1» قال أبو عبيدة: أغارت بنو أسد على بني يربوع فاكتسحوا إبلهم، فأتى الصريخ الحيّ، فلم يتلاحقوا إلا مساء بموضع يقال له خوّ، وكان ذؤاب بن ربيعة الأسدي على فرس أنثى، وكان عتيبة بن الحارث بن شهاب على حصان، فجعل الحصان يستنشق ريح الأنثى في سواد الليل ويتبعها، فلم يعلم عتيبة إلا وقد أقحم فرسه على ذؤاب بن ربيعة الأسدي، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة الليل، وكان عتيبة قد لبس درعه وغفل عن جربّانها «2» حتى أتى الصّريخ فلم يشدّه، ورآه ذؤاب فأقبل بالرمح إلى ثغرة نحره فخر صريعا قتيلا، ولحق الربيع بن عتيبة فشد على ذؤاب فأسره وهو لا يعلم أنه قاتل أبيه، فكان عنده أسيرا حتى فاداه أبوه ربيعة بإبل معلومة قاطعه عليها، وتواعدا سوق عكاظ في الأشهر الحرم أن يأتي هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير، وأقبل أبو ذؤاب بالإبل، وشغل الربيع بن عتيبة فلم يحضر سوق عكاظ، فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشك أن ذؤابا قد قتلوه بأبيهم عتيبة، فرثاه وقال: أبلغ قبائل جعفر مخصوصة ... ما إن أحاول جعفر بن كلاب إنّ المودّة والهوادة بيننا ... حلق كسحق الرّيطة المنجاب «3» ولقد علمت على التّجلّد والأسى ... أنّ الرّزية كان يوم ذؤاب «4» إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم ... بعتيبة بن الحرث بن شهاب بأحبّهم فقدا إلى أعدائه ... وأشدّهم فقدا على الأصحاب فلما بلغهم الشعر قتلوا ذؤاب بن ربيعة.

أيام الفجار الأول

وقالت آمنة بنت عتيبة ترثي أباها: على مثل ابن مية فانعياه ... بشقّ نواعم البشر الجيوبا وكان أبي عتيبة شمّريّا ... فلا تلقاه يدّخر النّصيبا ضروبا للكميّ إذا اشمعلّت ... عوان الحرب لا ورعا هيوبا «1» أيام الفجار الأول قال أبو عبيدة: أيام الفجار عدة، وهذا أولها، وهو بين كنانة وهوازن، وكان الذي هاجه أن بدر بن معشر أحد بني غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة، جعل له مجلس بسوق عكاظ، وكان حدثا منيعا في نفسه، فقام في المجلس وقام على رأسه قائم، وأنشأ يقول: نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لم يطرف ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنهم لجّة بحر مسدف «2» قال: ومدّ رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها! فضربها الأحمير بن مازن أحد بني دهمان بن نصر بن معاوية، فأندرها «3» من الركبة، وقال: خذها إليك أيها المخندف قال أبو عبيدة: إنما خرصها «4» خريصة يسيرة وقال في ذلك: نحن بنو دهمان ذو التّغطرف ... بحر لبحر زاخر لم ينزف نبني على الأحياء بالمعرّف قال أبو عبيدة: فتحاور الحيان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير.

الفجار الثاني

الفجار الثاني كان الفجار الثاني بين قريش وهوازن، وكان الذي هاجه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صعصعة وضيئة «1» وحسانة بسوق عكاظ. وقالوا: بل طاف بها شباب من بني كنانة وعليها برقع وهي في درع «2» فضل، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها، فسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت عليهم، فأتى أحدهم من خلفها فشد دبر درعها بشوكة إلى ظهرها وهي لا تدري، فلما قامت تقلص الدرع عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهها فقد رأينا دبرها! فنادت المرأة يا آل عامر! فتحاور الناس، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم. الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن: وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية، فأعدم الكناني، فوافى النصري بسوق عكاظ بقرد فأوقفه في سوق عكاظ، وقال: من يبيعني مثل هذا بمالي على فلان! حتى أكثر من ذلك، وإنما فعل ذلك النصري تعييرا للكناني ولقومه، فمرّ به رجل من بني كنانة فضرب القرد بسيفه فقتله، فهتف النصري: يا آل هوازن! وهتف الكناني: يا آل كنانة! فتهايج الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم رأوا الخطب يسيرا فتراجعوا ولم يفقم الشر بينهم. قال أبو عبيدة: فهذه الأيام تسمى فجارا، لأنها كانت في الأشهر الحرم، وهي الشهور التي يحرّمونها ففجروا فيها، فلذلك سميت فجارا وهذه يقال لها الفجار الأول.

الفجار الآخر

الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وهوازن، وإنما هاجها البرّاض بقتله عروة الرّحال ابن عتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعروة: البراض، لأن عروة سيد هوازن، والبراض خليع من بني كنانة، أرادوا أن يقتلوا به سيدا من قريش. وهذه الحروب كانت قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بست وعشرين سنة وقد شهدها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن أربع عشرة سنة مع أعمامه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار وأنا ابن أربع عشرة سنة يعني أنا ولهم النبل. وكان سبب هذه الحرب أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث [إلى] سوق عكاظ في كل عام لطيمة «1» في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يجيرها له حتى تباع هناك ويشترى له بثمنها من أدم الطائف ما يحتاج إليه، وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القعدة، فيتسوّقون إلى حضور الحج، ثم يحجون، وكانت الأشهر الحرم أربعة أشهر: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وعكاظ بين نخلة والطائف، وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال، وكانت العرب تجتمع فيها للتجارة والتّهيّؤ للحج، من أول ذي القعدة إلى وقت الحج، ويأمن بعضها بعضا، فجهز النعمان: عير اللطيمة، ثم قال: من يجيرها؟ فقال البراض بن قيس الضّمري: أنا أجيرها على بني كنانة. فقال النعمان ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة. فقال عروة الرحّال، وهو يومئذ رجل هوازن: أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن أنا أجيرها لك على أهل الشيح «2» والقيصوم «3» من أهل نجد وتهامة! فقال البراض: أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلهم! فدفعها النعمان إلى عروة، فخرج بها وتبعه البراض، وعروة لا يخشى منه شيئا، لأنه كان بين ظهراني

قومه من غطفان إلى جانب فدك «1» ، وإلى أرض يقال لها أوارة «2» ، فنزل بها عروة فشرب من الخمر وغنته قينة، ثم قام فنام، فجاء البراض فدخل عليه، فناشده عروة وقال: كانت مني زلّة، وكان الفعلة مني ضلة! فقتله وخرج يرتجز ويقول: قد كانت الفعلة مني ضلّه ... هلّا على غيري جعلت الزّلّه فسوف أعلو بالحسام القله «3» وقال: وداهية يهال الناس منها ... شددت لها بني بكر ضلوعي هتكت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضّروع جمعت له يديّ بنصل سيف ... أفلّ فخرّ كالجذع الصّريع «4» واستاق اللطيمة إلى خيبر، واتبعه المساور بن مالك الغطفاني، وأسد بن خيثم الغنوي، حتى دخل خيبر! فكان البراض أول من لقيهما، فقال لهما: من الرجلان؟ قالا: من غطفان وغنّي. قال البراض: ما شأن غطفان وغنّي بهذه البلدة؟ قالا: ومن أنت؟ قال: من أهل خيبر. قالا: ألك علم بالبراض؟ قال: دخل علينا طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر ولا أدخله بيتا. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا! فنزلا وعقلا راحلتيهما. قال: فأيكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحدّ سيفا؟ قال الغطفاني: أنا! قال البراض: فانطلق أدلّك عليه، ويحفظ صاحبك راحلتيكما ففعل، فانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر خارجة عن البيوت. فقال البراض: هو في هذه الخربة وإليها يأوي، فأنظرني حتى أنظر أثمّ هو أم لا. فوقف له ودخل البراض، ثم خرج إليه وقال: هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار، عن يمينك إذا دخلت،

فهل عندك سيف فيه صرامة؟ قال: نعم. قال: هات سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ فأعطاه إياه، فهزه البراض ثم ضربه به حتى قتله، ووضع السيف خلف الباب، وأقبل على الغنوي، فقال: ما وراءك؟ قال: لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل، والرجل نائم، لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه! قال الغنوي: يا لهفاه! لو كان أحد ينظر راحلتينا! قال البراض: هما عليّ إن ذهبتا، فانطلق الغنوي. والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة أخذ البراض السيف من خلف الباب ثم ضربه به حتى قتله، وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما ثم انطلق. وبلغ قريشا خبر البراض بسوق عكاظ، فخلصوا نجيا، واتبعتهم قيس لمّا بلغهم أن البراض قتل عروة الرّحال، وعلم قيس أبو براء عامر بن مالك، فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ونادوهم: يا معشر قريش، إنا نعاهد الله أن لا نبطل دم عروة الرحال أبدا ونقتل به عظيما منكم، وميعادنا وإياكم هذه الليالي من العام المقبل، فقال حرب بن أمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم إن موعدكم قابل في هذا اليوم. فقال خداش بن زهير في هذا اليوم، وهو يوم نخلة: يا شدّة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا البيت والحرم لما رأوا خيلنا تزجي أوائلها ... آساد غيل حمى أشبالها الأجم «1» واستقبلوا بضراب لا كفاء له ... يبدي من الغرل الأكفال ما كتموا «2» ولّوا شلالا وعظم الخيل لا حقة ... كما تخبّ إلى أوطانها النعم «3» ولت بهم كل محضار ململمة ... كأنها لقوة بجنبها ضرم «4» وكانت العرب تسمي قريشا سخينة لأكلها السخن.

يوم شمطة

يوم شمطة «1» وهي من يوم الفجار الآخر، ويوم نخلة منه أيضا، قال: فجمعت كنانة قريشها وعبد مناتها والأحابيش «2» ومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة، وسلّح يومئذ عبد الله ابن جدعان مائة كميّ «3» بأداة كاملة، سوى من سلح من قومه والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة. قال: وجمعت سليم وهوازن جموعها وأحلافها- غير كلاب وبني كعب، فإنهما لم يشهدا يوما من أيام الفجار غير يوم نخلة- فاجتمعوا بشمطة من عكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قرن الحول، وعلى كل قبيلة من قريش وكنانة سيدها. وكذلك على قبائل قيس، غير أن أمر كنانة كلها إلى حرب ابن أمية، وعلى إحدى مجنبتيها عبد الله بن جدعان، وعلى الأخرى كريز بن ربيعة. وحرب بن أمية في القلب، وأمر هوازن كلها إلى مسعود بن معتب الثقفي. فتناهض الناس وزحف بعضهم إلى بعض. فكانت الدائرة في أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانقشعت كنانة فاستحر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، وقيل ثمانون، ولم يقتل من قريش يومئذ أحد يذكر، فكان يوم شمطة لهوازن على كنانة. يوم العبلاء «4» ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شمطة، وكذلك على المجنبتين، فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على كنانة، وفي ذلك يقول خداش بن زهير:

يوم شرب

ألم يبلغك ما لقيت قريش ... وحيّ بني كنانة إذ أبيروا «1» دهمناهم بأرعن مكفهرّ ... فظلّ لنا بعقوتهم زئير «2» وفي هذا اليوم قتل العوّام بن خويلد، والد الزبير بن العوّام، قتله مرة بن معتب الثقفي، فقال رجل من ثقيف: منّا الذي ترك العوّام منجدلا ... تنتابه الطير لحما بين أحجار «3» يوم شرب «4» ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، فالتقوا بشرب، ولم يكن بينهم يوم أعظم منه، والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا، وكذلك على المجنبتين، وحمل ابن جدعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير، ممن لم تكن له حمولة، فالتقوا وقد كان لهوازن على كنانة يومان متواليان: يوم شمطة، ويوم العبلاء، فحميت قريش وكنانة، وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر فانهزمت هوازن وقتلت قتلا ذريعا، وقال عبد الله بن الزبعري يمدح بني المغيرة: ألا لله قوم و ... لدت أخت بني سهم هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم «5» فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمي «6» وأبو عبد مناف: قصي، وهشام. ابن المغيرة، وذو الرمحين: أبو ربيعة بن المغيرة، قاتل يوم شرب برمحين، وأمهم ريطة بنت سعد بن سهم.

يوم الحريرة

فقال في ذلك جذل الطعان: جاءت هوازن أرسالا وإخوتها ... بنو سليم، فهابوا الموت وانصرفوا فاستقبلوا بضراب فضّ جمعهم ... مثل الحريق فما عاجوا ولا عطفوا «1» يوم الحريرة «2» قال: ثم جمع هؤلاء وأولئك ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرّة إلى جنب عكاظ، والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام، وكذلك على المجنبتين، إلا أن أبا مساحق بلعاء بن قيس اليعمري قد كان مات، فكان من بعده على بكر بن عبد مناة بن كنانة، وأخوه جثامة بن قيس، فكان يوم الحريرة لهوازن على كنانة، وكان آخر الأيام الخمسة التي تزاحفوا فيها، قال: فقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية أخو حرب بن أمية، وقتل من كنانة ثمانية نفر، قتلهم عثمان بن أسيد بن مالك، من بني عامر بن صعصعة، وقتل أبو كنف وابنا إياس، وعمر بن أيوب، فقال خداش بن زهير: إني من النّفر المحمرّ أعينهم ... أهل السوام وأهل الصخر والّلوب «3» الطاعنين نحور الخيل مقبلة ... بكلّ سمراء لم تعلب ومعلوب «4» وقد بلوتم فأبلوكم بلاءهم ... يوم الحريرة ضربا غير مكذوب «5» لاقتكم منهم آساد ملحمة ... ليسوا بزارعة عوج العراقيب «6» فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم ... وإن تباهوا فإني غير مغلوب «7» وقال الحارث بن كلّدة الثقفي:

يوم عين أباغ

تركت الفارس البذاخ منهم ... تمجّ عروقه علقا عبيطا «1» دعست لبانه بالرّمح حتى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا «2» لقد أرديت قومك يا ابن صخر ... وقد جشّمتهم أمرا سليطا وكم أسلمت منكم من كميّ ... جريحا قد سمعت له غطيطا «3» مضت أيام الفجار الآخر، وهي خمسة أيام في أربع سنين، أولها يوم نخلة، ولم يكن لواحد منهما على صاحبه، ثم يوم شمطة لهوازن على كنانة، وهو أعظم أيامهم، ثم يوم العبلاء، ثم يوم شرب، وكان لكنانة على هوازن، ثم يوم الحريرة لهوازن على كنانة. قال أبو عبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يذروا الفضل ويتعاهدوا ويتواثقوا. يوم عين أباغ وبعده أيام ذي قار قال أبو عبيدة: كان ملك العرب المنذر الأكبر ابن ماء السماء، ثم مات فملك ابنه عمرو بن المنذر، وأمه هند وإليها ينسب، ثم هلك فملك أخوه قابوس، وأمه هند أيضا، فكان ملكه أربع سنين، وذلك في مملكة كسرى بن هرمز، ثم مات فملك بعده أخوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، وذلك في مملكة كسرى بن هرمز، فغزاه الحارث الغساني، وكان بالشام من تحت يد قيصر، فالتقوا بعين أباغ، فقتل المنذر، فطلب كسرى رجلا يجعله مكانه، فأشار إليه عدي بن زيد- وكان من تراجمة كسرى- بالنعمان بن المنذر، وكان صديقا له فأحب أن ينفعه، وهو أصغر بني المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فولاه كسرى على ما كان عليه أبوه، وأتاه عدي بن

زيد فمكّنه النعمام، ثم سعي بينهما فحبسه حتى أتى على نفسه، وهو القائل: أبلغ النّعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «1» وعداتي شمّت أعجبهم ... أنّني غيّبت عنهم في إساري لامريء لم يبل مني سقطة ... إن أصابته ملمّات العثار «2» فلئن دهر تولى خيره ... وجرت بالنّحس لي منه الجواري لبما منه قضينا حاجة ... وحياة المرء كالشّيء المعار فلما قتل النعمان عديّ بن زيد العبادي- وهو من بني امريء القيس بن سعد بن زيد مناة بن تميم- سار ابنه زيد بن عدي إلى كسرى فكان من تراجمته وكان النعمان عند كسرى، فحمله عليه، فهرب النعمان حتى لحق ببني رواحة من عبس، واستعمل كسرى على العرب إياس بن قبيصة الطائي، ثم إن النعمان تجول حينا في أحياء العرب، ثم أشارت عليه امرأته المتجردة أن يأتي كسرى ويعتذر إليه، ففعل، فحبسه بساباط «3» حتى هلك، ويقال أوطأه الفيلة. وكان النعمان إذا شخص إلى كسرى أودع حلقته وهي ثمانمائة درع وسلاحا كثيرا، هانيء بن مسعود الشيباني، وجعل عنده ابنته هند التي تسمى حرقة، فلما قتل النعمان قالت فيه الشعراء، فقال فيه زهير بن أبي سلمى المزنيّ: ألم تر للنّعمان كان بنجوة ... من الشرّ لو أنّ امرءا كان باقيا «4» فلم أر مخذولا له مثل ملكه ... أقلّ صديقا أو خليلا موافيا خلا أنّ حيّا من رواحة حافظوا ... وكانوا أناسا يتّقون المخزيا «5» فقال لهم خيرا وأثنى عليهم ... وودّعهم توديع أن لا تلاقنا

يوم ذي قار

يوم ذي قار قال أبو عبيدة: يوم ذي قار هو يوم ذي الحنو، ويوم قراقر، ويوم الجبايات، ويوم ذات العجرم، ويوم بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار، وقد ذكرتهن الشعراء. قال أبو عبيدة: لم يكن هانيء بن مسعود المستودع حلقة النعمان، وإنما هو ابن ابنه، واسمه هانيء بن قبيصة بن هانيء بن مسعود، لأن وقعة ذي قار كانت وقد بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخبّر أصحابه بها فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا. فكتب كسرى إلى إياس بن قبيصة يأمره أن يضم ما كان للنعمان، فأبى هانيء بن قبيصة أن يسلم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل. وقدم عليه النعمان بن زرعة التغلبي وقد طمع في هلاك بكر بن وائل، فقال: يا خير الملوك، ألا أدلك على غرة «1» بكر؟ قال: بلى. قال: أقرها وأظهر الإضراب عنها حتى يجليها القيظ ويدنيها منك، فإنهم لو قاظوا «2» تساقطوا عليك بمالهم واديا يقال له ذو قار تساقط الفراش في النار، فأقرهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل حتى نزلوا الحنو حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيّرهم بين ثلاث خصال: إمّا أن يسلموا الحلقة، وإمّا أن يعروا الديار، وإما أن يأذنوا بحرب! فتنازعت بكر بينها، فهمّ هانيء بن قبيصة بركوب الفلاة، وأشار به على بكر، وقال: لا طاقة لكم بمجموع الملك! فلم تر من هانيء سقطة قبلها. وقال حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي: لا أرى غير القتال، فإنّا إن ركبنا الفلاة متنا عطشا، وإن أعطينا بأدينا تقتل مقاتلتنا وتسبى ذرارينا «3» . فراسلت بكر بينها

وتوافت بذي قار، ولم يشهدها أحد من بني حنيفة، ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانيء بن قبيصة، ويزيد بن مسهر الشيباني، وحنظلة بن ثعلبة العجلي. وقال مسمع بن عبد الملك العجلي بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس، وإنما غزوا في ديارهم فثار الناس إليهم من بيوتهم. وقال حنظلة بن ثعلبة لهانيء بن قبيصة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتكم ذمّتنا عامّة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرّقها في قومك، فإن تظفر فستردّ عليك، وإن تهلك فأهون مفقود. فأمر بها فأخرجت وفرّقت بينهم. وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أبت «1» إلى قومك سالما! قال أبو المنذر: فعقد كسرى للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد الخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإباس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، وعقد للهامرز التستري- وكان على مسلحة كسري بالسواد- على ألف من الأساورة، وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدّين- وكان عامله على الطّفّ «2» طفّ سفوان- وأمره أن يوافي إياس بن قبيصة، ففعل. وسار إياس بمن معه من جنده من طيء، ومعه الهامرز، والنعمان بن زرعة وخالد ابن يزيد، وقيس بن مسعود، كل واحد منهم على قومه، فلما دنا من بكر انسلّ قيس إلى قومه ليلا، فأتى هانئا فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر ثم رجع. فلما التقى الزحفان وتقارب القوم، قام حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، فقال: يا معشر بكر، إنّ النّشّاب «3» الذي مع هؤلاء الأعاجم تفرّقكم، فعاجلوهم اللقاء وابدءوهم بالشدّة. وقال هانيء بن مسعود: يا قوم مهلك مقدور، خير من منجى مغرور، إنّ الجزع

لا يردّ القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر. المنيّة خير من الدّنية، واستقبال الموت خير من استدباره، فالجدّ الجدّ، فما من الموت بدّ. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقطع وضن «1» النساء فسقطن إلى الأرض، وقال: ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته «2» . فسمي مقطع الوضن. قال: وقطع يومئذ سبعمائة رجل من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف، وعلى ميمنتهم بكر يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى ميسرتهم حنظلة بن ثعلبة العجلي وهانيء بن قبيصة، ويقال ابن مسعود في القلب، فتجالد القوم، وقتل يزيد بن حارثة اليشكري الهامرز مبارزة، ثم قتل يزيد بعد ذلك، ويقال إنّ الحوافزان بن شريك شدّ على الهامرز فقتله، وقال بعضهم: لم يدرك الحوفزان يوم ذي قار، وإنما قتله يزيد بن حارثة. وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، فاتّبعهم بكر حتى دخلوا السواد في طلبهم يقتلونهم، وأسر النعمان بن زرعة التغلبي. ونجا إياس بن قبيصة على فرسه الحمامة، فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة وكان كسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه، فلما أتاه ابن قبيصة، سأله عن الجيش، فقال: هزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم! فعجب بذلك كسرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس فقال: أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التمر، فأردت أن آتيه. فأذن له. ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق، فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: إياس. فظنّ أنه حدّثه الخبر، فدخل عليه وأخبره بهزيمة القوم وقتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه.

قال أبو عبيدة: لما كان يوم ذي قار، كان في بكر أسرى من تميم قريبا من مائتي أسير، أكثرهم من بني رياح بن يربوع، فقالوا: خلّوا عنا نقاتل معكم، فإنما نذب «1» عن أنفسنا! فقالوا: إنا نخاف أن لا تناصحونا! قالوا: فدعونا نعلم حتى تروا مكاننا وغناءنا. وفي ذلك قوم جرير: منّا فوارس ذي بهدى وذي نجب ... والمعلمون صباحا يوم ذي قار «2» قال أبو عبيدة: سئل عمرو بن العلاء- وتنافر إليه عجلي ويشكري، فزعم العجلي أنه لم يشهد يوم ذي قار غير شيباني وعجلي، وقال اليشكري: بل شهدتها قبائل بكر وحلفاؤهم. فقال عمرو: قد فصل بينكما التغلبي حيث يقول: ولقد رأيت أخاك عمرا أمرة ... يقضي وضيعيه بذات العجرم «3» في غمرة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم وكأنما أقدامهم وأكفهم ... سرب تساقط في خليج مفعم لمّا سمعت دعاء مرّة قد علا ... وأتى ربيعة في العجاج الأقتم «4» ومحلّم يمشون تحت لوائهم ... والموت تحت لواء آل محلّم لا يصدفون عن الوغى بوجوههم ... في كلّ سابغة كلون العظلم «5» ودعت بنو أمّ الرّقاع فأقبلوا ... عند اللّقاء بكلّ شاك معلم وسمعت يشكر تدّعي بخبيّب ... تحت العجاجة وهي تقطر بالدم «6»

يمشون في حلق الحديد كما مشت ... أسد العرين بيوم نحس مظلم «1» والجمع من ذهل كأن زهاءهم ... جرب الجمال يقودها ابنا قشعم والخيل من تحت العجاج عوابسا ... وعلى سنابكها مناسج من دم «2» وقال العديل بن الفرخ العجلي: ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار وما يعدّون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... لمّا استلبنا لكسرى كلّ إسوار «3» قال: وقالت عجل: لنا يوم ذي قار. فقيل لهم: من المستودع، ومن المطلوب، ومن نائب الملك، ومن الرئيس؟ فهو إذا لهم، كانت الرياسة لهانيء وكان حنظلة يشير بالرأي. وقال شاعرهم: إن كنت ساقية يوما ذوي كرم ... فاسقي الفوارس من ذهل بن شيبانا واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم ... واعلي مفارقهم مسكا وريحانا وقال أعشى بكر: أمّا تميم فقد ذاقت عداوتنا ... وقيس عيلان مسّ الخزي والأسف وجند كسرى غداة الحنو صبّحهم ... مناغطاريف تزجي الموت وانصرفوا «4» لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت لا عاجز فيها ولا خرف «5» فرع نمته فروع غير ناقصة ... موفّق حازم في أمره أنف فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنّة لا ميل ولا كشف

بيض الوجوه غداة الروع تحسبهم ... جنان عبس عليها البيض والزّغف «1» لمّا التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكر فينصرفوا قالوا البقيّة والهنديّ يحصدهم ... ولا بقية إلا السيف فانكشفوا لو أنّ كلّ معدّ كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف لما أمالوا إلى النشّاب أيديهم ... ملنا ببيض فظلّ الهام يختطف «2» إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت ... حتى تولت وكاد اليوم ينتصف بطارق وبنو ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النّطف «3» من كلّ مرجانة في البحر أحرزها ... تيّارها ووقاها طينها الصدف كأنما الآل في حافات جمعهم ... والبيض برق بدا في عارض يكف «4» ما في الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطّعن في اللبّات منحرف وقال الأعشى يلوم قيس بن مسعود: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل أطورين في عام غزاة ورحلة ... ألا ليت قيسا غرقته القوابل «5» لقد كان في شيبان لو كنت عالما ... قباب وحيّ حلة وقنابل ورجراجة تعشي النواظر فحمة ... وجرد على أكتافهنّ الرّواحل «6» رحلت ولم تنظر وأنت عميدهم ... فلا يبلغنّي عنك ما أنت فاعل فعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمرّ المغازل شفى النفس قتلى لم توسّد خدودها ... وسادا ولم تعضض عليها الأنامل بعينيك يوم الحنو إذ صبّحتهم ... كتائب موت، لم تعقها العواذل

ولما بلغ كسرى خبر قيس بن مسعود إذ انسل إلى قومه، حبسه حتى مات في حبسه، وفيه يقول الأعشى: وعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمرّ المغازل وكتب لقيط الإيادي إلى بني شيبان في يوم ذي قار شعرا يقول في بعضه: قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا وقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتبعا حتى استمرّ على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا «1» وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زرارة: قد عشت في الدهر أطوارا على طرق ... شتّى فصادفت منه اللين والفظعا كلّا بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائه جزعا «2» لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا

كتاب الزمردة في المواعظ والزهد

كتاب الزمرّدة في المواعظ والزهد فرش كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر قال الفقيه أبو عمر بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، إذ كان الشعر ديوان خاصة العرب والمنظوم من كلامها، والمقيّد لأيامها، والشاهد على حكامها، حتى لقد بلغ من كلف «1» العرب به، وتفضيلها له، أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطيّ المدرجة، وعلقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امريء القيس، ومذهبة زهير. والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلقات. قال بعض المحدثين قصيدة له، ويشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت. برزة تذكر في الحس ... ن من الشّعر المعلّق «2» كلّ حرف نادر م ... نها له وجه معشّق المعلقات لامريء القيس: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل. ولزهير: أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم.

اختلاف الناس في أشعر الشعراء

ولطرفة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد. ولعنترة: يا دار عبلة بالجواء تكلّمي. ولعمرو بن كلثوم: ألا هبى بصحنك فاصبحينا. وللبيد: عفت الديار محلّها فمقامها. وللحارث بن حلزة: آذنتنا ببينها أسماء. اختلاف الناس في أشعر الشعراء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر عنده امرؤ القيس بن حجر: «هو قائد الشعراء وصاحب لوائهم» . وقال عمر بن الخطاب للوفد الذين قدموا عليه من غطفان: من الذي يقول: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب «1» قالوا: نابغة بني ذبيان: قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر: أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على وجل تظن بي الظنون «2» فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون قالوا: هو النابغة. قال هو أشعر شعرائكم. وما أحسب عمر ذهب إلا إلى أنه أشعر شعراء غطفان، ويدل على ذلك قوله: هو أشعر شعرائكم. وقد قال عمر لابن عباس: أنشدني لأشعر الناس، الذي لا يعاظل «3» بين القوافي ولا يتبع حوشيّ «4» الكلام. قال: من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير بن أبي سلمى فلم يزل ينشده من شعره حتى أصبح.

وكان زهير لا يمدح إلا مستحقا، كمدحه لسنان بن أبي حارثة، وهرم بن سنان وهو القائل: وإنّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا وكذلك أحسن القول ما صدّقه الفعل. قالت بنو تميم لسلامة بن جندل: مجّدنا بشعرك. قال: افعلوا حتى أقول. وقيل للبيد: من أشعر الشعراء؟ قال: صاحب القروح- يريد امرأ القيس- قيل له: فبعده من؟ قال: ابن العشرين- يعني طرفة- قيل له: فبعده من؟ قال: أنا. وقيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب يريد عبيد بن الأبرص. قيل له: فبعده من؟ فأخرج لسانه وقال: هذا إذا رغب. وقيل لبعض الشعراء: من أشعر الناس؟ قال: النابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، وجرير إذا غضب. وقال أبو عمرو بن العلاء: طرفة أشعرهم واحدة. يعني قصيدته: لخولة أطلال ببرقة ثمهد وفيها يقول: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وأنشد هذا البيت للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فقال: هذا من كلام النبوّة! وسمع عبد الله بن عمر رجلا ينشد بيت الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «1» فقال: ذاك رسول الله! إعجابا بالبيت، يعني أن مثل هذا المدح لا يستحقه إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

أشعر نصف بيت:

سئل الأصمعي عن شعر النابغة، فقال: إن قلت ألين من الحرير صدقت وإن قلت أشدّ من الحديد صدقت. وسئل عن شعر الجعدي: فقال: مطرف بألف وخمار بواف «1» . وسئل حماد الراوية عن شعر ابن أبي ربيعة، فقال: ذلك الفستق المقشر الذي لا يشبع منه. وقالوا في عمرو بن الأهتم: كأنّ شعره حلل منشرّة. وسئل عمرو بن العلاء عن جرير والفرزدق، فقال: هما بازيان، يصيدان ما بين الفيل والعندليب. وقال جرير: أنا مدينة الشعر والفرزدق نبعته. وقال بلال بن جرير: قلت لأبي: يا أبت، إنك لم تهج قوما قط إلا وضعتهم إلا بني لجأ. قال: إني لم أجد شرفا فأضعه ولا بناء فأهدمه. أشعر نصف بيت: واختلف الناس في أشعر نصف بيت قالته العرب، فقال بعضهم: قول أبي ذؤيب الهذلي: والدّهر ليس بمسعف من يجزع «2» وقال بعضهم: قول حميد بن ثور الهلالي: نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي وقال بعضهم: قول زميل: ومن يك رهنا للحوادث يغلق وهذا ما لا يدرك غايته ولا يوقف على حدّ منه، والشعر لا يفوت به أحد ولا يأتي به بديع إلا أتى ما هو أبدع منه، ولله درّ القائل: أشعر الناس من أبدع في

شعره، ألا ترى مروان بن أبي حفصة على موضعه من الشعر وبعد صيته فيه ومعرفته وسمته- أنشدوه لامريء القيس فقال: هذا أشعر الناس. في شعر حسان: وقد قالوا: لحسان بن ثابت أفخر بيت قالته العرب وأحكم بيت قالته العرب، فأما أفخر بيت قالته العرب فقوله: وبيوم بدر إذ يردّ وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد وأما أحكم بيت قالته العرب فقوله: فإنّ امرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلّا ما جنى لسعيد في شعر جرير: وقالوا: أهجي بيت قالته العرب قول جرير: والتّغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا «1» ولما قال جرير هذا البيت قال: والله لقد هجوت بني تغلب ببيت لو طعنوا في أستاههم بالرماح ما حكّوها! في شعر أبي ذؤيب: ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب: قول أبي ذؤيب الهذلي: والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع فيقال إنّ أصدق بيت قالته العرب قول لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل وذكر الشعر عند عبد الملك بن مروان فقال: إذا أردتم الشعر الجيّد فعليكم

فضائل الشعر

بالرزق من بني قيس بن ثعلبة- وهم رهط أعشى بكر-، وبأصحاب النخل من يثرب- يريد الأوس والخزرج، وأصحاب الشعف من هذيل. والشعف: رءوس الجبال. فضائل الشعر ومن الدليل على عظم قدر الشعر عند العرب وجليل خطبه في قلوبهم: أنه لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المعجز نظمه، المحكم تأليفه، وأعجب قريشا ما سمعوا منه، قالوا: ما هذا إلا سحر! وقالوا في النبي صلّى الله عليه وسلّم: شاعر نتربّص به ريب المنون «1» . وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرو بن الأهتم لما أعجبه كلامه: إنّ من البيان لسحرا. وقال الراجز: لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مزا ومرا شاعرا «2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من الشّعر لحكمة. وقال كعب الأحبار: إنا نجد قوما في التوراة أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة، وأظنهم الشعراء. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدّمها في حاجاته، يستعطف بها قلب الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم. وقال الحجاج للمساور بن هند: مالك تقول الشعر وقد بلغت من العمر ما بلغت؟ قال: أرعى به الكلأ، وأشرب به الماء، وتقضى لي به الحاجة، فإن كفيتني ذلك تركته!

وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: روّهم الشعر، روّهم الشعر: يمجدوا وينجدوا! وقالت عائشة: روّوا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم. وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون من العلم فوجده عالما بكل ما سأله عنه، ثم استنشده الشعر، فقال: لم أرو منه شيئا! فكتب معاوية إلى زياد؟ ما منعك أن تروّيه الشعر؟ فوالله إن كان العاق «1» ليرويه فيبرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل. وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المبارزة في الحرب أنشأ يقول: أيّ يوميّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر وقال المقداد بن الأسود: ما كنت أعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة رضي الله عنها! وفي رواية الخشني عن أبي عاصم عن عبد الله بن لا حق عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة: رحم الله لبيدا كان يقول: قضّ الّلبانة لا أبا لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب «2» ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب «3» فكيف لو أدرك زماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألف بيت له، وإنه أقل ما أروي لغيره. وقال الشعبي: ما أنا لشيء من العلم أقلّ مني رواية للشعر، ولو شئت أن أنشد شعرا شهرا لا أعيد بيتا لفعلت.

وسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة وهي تنشد شعر زهير بن جناب. ارفع ضعيفك لا يحل بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جني يجزيك أو يثني عليك فإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صدق يا عائشة، لا شكر الله من لا يشكر الناس. يزيد بن عمر بن مسلم الخزاعي، عن أبيه عن جده قال: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنشد ينشده قول سويد بن عامر المصطلقي: لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم ... إنّ المنايا بجنبي كلّ إنسان فاسلك طريقك تمشي غير مختشع ... حتى تلاقي الذي منيّ لك الماني فكلّ ذي صاحب يوما مفارقه ... وكلّ زاد وإن أبقيته فان والخير والشّرّ مقرونان في قرن ... بكلّ ذلك يأتيك الجديدان «1» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو أدرك هذا الإسلام لأسلم. أبو حاتم عن الاصمعي قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنشدك يا رسول الله، قال: نعم، فأنشده: تركت القيان وعزف القيان ... وأدمنت تصلية وابتهلا وكرّ المشقر في حومة ... وشنى على المشركين القتالا «2» أيا ربّ لا أغبننّ صفقتي ... فقد بعت مالي وأهلي بدالا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ربح البيع. ربح الببيع. وقدم أبو ليلى النابغة الجعدي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنشده شعره الذي يقول فيه: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

للنبي صلى الله عليه وسلم.

فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى الجنة إن شاء الله! فلما بلغ قوله وانتهى وهو يقول: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا «1» قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يفضض «2» الله فاك. فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنغضن «3» له ثنية «4» . سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: إنها لكلمة نبيّ يعني قول الشاعر: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك وبالاخبار من لم تزوّد وسمع كعب قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس قال: إنه في التوراة حرف بحرف، يقول الله تعالى: من يفعل الخير يجده عندي، لا يذهب الخير بيني وبين عبدي. للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ابن عباس قال: أنشدت النبي صلّى الله عليه وسلّم أبياتا لامية بن أبي الصلت يذكر فيها حملة العرش، وهي: رجل وثور تحت رجل يمينه ... والتّيس للأخرى وليث مرصد «5» والشمس تطلع كل آخر ليلة ... فجرا ويصبح لونها يتوقّد

إسلام دوس

تبدو فما تبدو لهم في وقتها ... إلا معذّبة وإلا تجلد فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم كالمصدّق له. ومن حديث ابن ابي شيبة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أردف الشريد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تروي من شعر امية بن ابي الصلت شيئا قلت: نعم. قال: فأنشدني. فأنشدته، فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه! حتى أنشدته مائة قافية، فقال: هذا رجل آمن لسانه وكفر قلبه! ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جند يجنّده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المشركين ... يدلّ على ذلك قوله لحسان: شن الغطاريف «1» على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام، وتحفّظ بيتي فيهم. قال: والذي بعثك بالحق نبيا، لأسلّنّك منهم سلّ الشعرة من العجين! ثم أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيّل لي أني لو وضعته على حجر لفلقه «2» ، أو على شعر لحلقه! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أيّد الله حسانا في هجوه بروح القدس. إسلام دوس وقال ابن سيرين: بلغني أن دوسا إنما أسلمت فرقا «3» من كعب بن مالك صاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول: قضينا من تهامة كل نحب ... وخيبر ثمّ أغمدنا السّيوفا «4» نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواضبهنّ: دوسا أو ثقيفا «5» قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت: لقد شكر الله قولك حيث تقول: زعمت سخينة أن ستغلب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب

شعر قتيلة بنت الحارث

ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا انه أعظم الوسائل عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رواحة: أخبرني ما الشعر يا عبد الله؟ قال: شيء يختلج في صدري فينطق به لساني. قال: فأنشدني. فأنشده شعره الذي يقول فيه: فثبّت الله ما آتاك من حسن ... قفوت عيسى بإذن الله والقدر فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وإياك ثبّت الله، وإياك ثبّت الله، وإياك ثبّت الله. شعر قتيلة بنت الحارث ومن ذلك ما رواه ابن اسحاق صاحب المغازي وابن هشام: قال ابن اسحاق: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصفراء «1» - قال ابن هشام: الأثيل «2» - أمر عليا فضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف صبرا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه: يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق أبلغ بها ميتا بأنّ تحيّة ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «3» منى عليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعنّ النّضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميّت لا ينطق أمحمّد يا خير ضنء كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق «4» ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق والنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتقا يعتق

بين النبي وأبي جرول يوم حنين

ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تمزّق «1» صبرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثّق «2» قال ابن هشام: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبل قتله ما قتلته. بين النبي وأبي جرول يوم حنين من حديث زياد بن طارق الجشمي قال: حدّثني أبو جرول الجشمي- وكان رئيس قومه- قال: أسرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين، فبينما هو يميز الرجال من النساء، إذ وثبت فوقفت بين يديه وأنشدته: امنن علينا رسول الله في حرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر إنا لنشكر للنّعما إذا كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر فذكّرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه، فقال عليه الصلاة والسلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم. فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله. فردّت الانصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال! فإذا كان هذا مقام الشعر عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأيّ وسيلة تبلغه أو تعسره؟ فتح مكة وكان الذي هاج فتح مكة أن عمرو بن مالك الخزاعي، ثم أحد بني كعب خرج من مكة حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكانت خزاعة في حلف النبي صلّى الله عليه وسلّم في عهده وعقده، فلما انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بن سالم الخزاعي بأبيات قالها، فوقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد بين أظهر الناس، فقال:

يا ربّ إني ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «1» قد كنتم ولدا وكنّا ولدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا «2» وهم أذلّ وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجّدا «3» وقتلونا ركّعا وسجّدا ... فانصر هداك الله نصرا أيّدا وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجرّدا إن سيم خسفا وجهه تربّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا «4» قال ابن هشام: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نصرت يا عمرو بن مالك، ثم عرض عارض من السماء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! إنّ هذه السحابة تستهلّ بنصر بني كعب. وقال عمر بن الخطاب: الشعر جذل من كلام العرب، يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة، ويتبلّغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل. فقال ابن عباس. الشعر علم العرب وديوانها، فتعلموه، وعليكم بشعر الحجاز فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز وحض عليه، إذ لغتهم أوسط اللغات. وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: يا اخي، إنك شهرت بالشعر، فإياك والتشبيب «5» بالنساء، فإنك تعرّ الشريفة في قومها، والعفيفة في نفسها-، والهجاء فإنك لا تعدو أن تعادي به كريما او تستثير به لئيما، ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما توفّر به نفسك، وتؤدب به غيرك.

للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في وباء المدينة

وسئل مالك بن أنس: من أين شاطر عمر بن الخطاب عماله؟ فقال: اموال كثيرة ظهرت عليهم، وإن شاعرا كتب إليه يقول: نحجّ إذا حجّوا ونغزو إذا غزوا ... فأنى لهم وفر ولسنا بذي وفر؟ إذا التاجر الهنديّ جاء بفارة ... من المسك راحت في مفارقهم تجري «1» فدونك مال الله حيث وجدته ... سيرضون إن شاطرتهم- منك بالشطر قال: فشاطرهم عمر أموالهم. وأنشد عمر بن الخطاب قول زهير: فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحقوق وتفصيلها، وإنما أراد: مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو بينة. وأنشد عمر قول عبدة بن الطبيب: والعيش شح وإشفاق وتأميل فقال: على هذا بنيت الدنيا. للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في وباء المدينة ولما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم والى المدينة وهاجر أصحابه، مسهم وباء «2» المدينة، فمرض أبو بكر وبلال. قالت عائشة: فدخلت عليهما. فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كلّ امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله قالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه يرفع عقيرته «3» ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل «1» وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل «2» قالت عائشة: وكان عامر بن فهيرة يقول: وقد رأيت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه كالثور يحمي جلده بروقه «3» قالت عائشة: فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة وأشدّ، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة «4» . ومن حديث البراء بن عازب: قال: لما كان يوم حنين رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعباس وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهما آخذان بلجام بغلته. وهو يقول: أنا النبيّ لا كذب أنا ... ابن عبد المطلب ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه لما دخل الغار نكب «5» ، فقال: «هل أنت إلا أصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت» . فهذا من المنثور الذي يوافق المنظوم وإن لم يتعمّد به قائلة المنظوم. ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوزن، مثل قول عبد مملوك لمواليه: «اذهبوا بي إلى الطبيب ... وقولوا قد اكتوى» . ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يراد به الشعر، ولا يسمّى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم- وإن

من قال الشعر من الصحابة والتابعين والعلماء المشهورين

كان موزونا- شعرا لانه لا يراد به الشعر. ومثله في آي الكتاب: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ «1» . ومنه: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ «2» . ومثله: وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ «3» . ومنه: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ «4» . ولو تطلبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يحتمل الوزن كثيرا، ولا يسمّى شعرا. من ذلك قول القائل: من يشتري باذنجان. تقطيعه: مستفعلن مفعولات، وهذا كثير. من قال الشعر من الصحابة والتابعين والعلماء المشهورين كان شعراء النبي صلّى الله عليه وسلّم: حسان، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وقال سعيد بن المسيب: كان أبو بكر شاعرا، وعمر شاعرا، وعليّ أشعر الثلاثة. ومن قول علي كرم الله وجهه بصفين: لمن راية يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما يقدّمها في الصف حتى يذيديها ... حياض تقطر السم والدما «5» جزى الله عني والجزاء بكفّه ... ربيعة خيرا، ما أعف وأكرما

ومن شعراء التابعين

وقال أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلّم: قدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما في الأنصار بيت إلا وهو يقول الشعر. قيل له: وأنت أبا حمزة؟ قال: وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفّين: شبّت الحرب فأعددت لها ... مفرّع الحارك محبوك الثّبج «1» يصل الشّدّ بشدّ فإذا ... ونت الخيل عن الشّ معج «2» جرشع أعظمه جفرته ... فإذا ابتلّ من الماء خرج «3» وقال عبد لله بن عمرو بن العاص: فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفّين يوما شاب منها الذوائب عشيّة جا أهل العراق كأنهم ... سحاب ربيع زعزعتها الجنائب «4» وجئناهم نردي كأنّ صفوفنا ... من البحر مدّ موجه متراكب إذا قلت قد ولّوا سراعا بدت لنا ... كتائب منهم فارجحنّت كتائب «5» فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما توالى المناكب وقالوا لنا إن نرى ان تبايعوا ... عليّا فقلنا بل نرى أن نضارب ومن شعراء التابعين عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو أحد السبعة من فقهاء المدينة، وله يقول سعيد بن المسيب: أنت الفقيه الشاعر؟ [قال] : لا بدّ للمصدور أن ينفث. يعني أنه من كان في صدره زكام فلا بدّ أن ينفث به زكمة صدره: يريد أن كل من اختلج في صدره شيء من شعر أو غيره ظهر على لسانه.

ومن شعراء الفقهاء المبرزين

وقال عمر بن عبد العزيز: وددت لو أني لي مجلسا من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بدينار. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في أثر السيئات، وأقبح السيئات في أثر الحسنات! وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في أثر الحسنات، والسيئات في أثر السيئات! عروة بن أذينة، وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يروي عنه مالك. وقال ابن شبرمة: كان عروة بن أذينة يخرج في الثلث الأخير من الليل إلى سكك البصرة فينادي: يا أهل البصرة، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ «1» الصلاة الصلاة! ومن شعراء الفقهاء المبرزين عبد الله بن المبارك صاحب الرقائق «2» وقال حبّان: خرجنا مع ابن المبارك مرابطين إلى الشام، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا كل يوم، التفت إليّ وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وليال وأيام قطعناها في علم الخلية «3» والبريّة وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة! قال: فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المصّيصة «4» ، إذ لقي سكرانا قد رفع عقيرته «5» يتغنى ويقول. أذلّني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل

راشد بن عبد ربه:

قال: فأخرج برنامجا «1» من كمه فكتب البيت، فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: ربّ جوهرة في مزبلة؟ قالوا: نعم. قال: فهذه جوهرة في مزبلة! وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره، فكتب إليه: أتاني عنك هذا اليوم قول ... فضقت به وضاق به جوابي أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي فإن تك عاتبا تعتب وإلا ... فما عودي إذا بيراع غاب وقد فارقت أعظم منك رزءا ... وواريت الأحبة في التراب «2» وقد عزّو عليّ إذا اسلموني ... معا فلبست بعدهم ثيابي وقد ذكر شعر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن أذينة في الباب الذي يتلو هذا، وهو «قولهم في الغزل» . راشد بن عبد ربه حدّث فرج بن سلام قال: حدّثنا عبد الله بن الحكم الواسطي عن بعض أشياخ الشام قال: استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب على نجران، فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد بن عبد ربه السّلمي أميرا على القضاء والمظالم، فقال راشد بن عبد ربه: صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه ما نعته تماضر وحكّمه شيب القذال عن الصّبا ... وللشيب عن بعض الغواية زاجر «3»

لابن عمر في ولده سالم

فأقصر جهلي اليوم وارتدّ باطلي ... عن اللهو لما ابيضّ مني الغدائر «1» على أنه قد هاجه بعد صحوه ... بمعرض ذي الآجام عيس بواكر «2» ولما دنت من جانب الفرض أخصبت ... وحلت ولاقاها سليم وعامر وخبّرها الركبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «3» لابن عمر في ولده سالم وكان عبد الله بن عمر يحب ولده سالما حبّا مفرطا، فلامه الناس في ذلك، فقال: يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والانف سالم وقال: إن ابني سالما يحب الله حبا لو لم يخفه ما عصاه. وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا برز للقتال أنشد: أي يوميّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول: يا حبّذا السير بأرض الكوفه ... أرض سواء سهلة معروفة تعرفها جمالنا المعلوفه وكان ابن عباس في طريقه من البصرة إلى الكوفة يحدو الإبل، ويقول: أوبي إلى أهلك يا رباب ... أوبي فقد حان لك الإياب «4» وقال ابن عباس لما كفّ بصره:

قولهم في الغزل

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكيّ وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور «1» قولهم في الغزل قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغزل الرقيق ينشده الإنسان في المسجد؟ فسكت عنه حتى أقيمت الصلاة وتقدم إلى المحراب، فالتفت إليه فقال: وتبرد برد رداء العرو ... س في الصيف رقرقت فيه العبيرا ونسخن ليلة لا يستطيع ... نباحا بها الكلب إلا هريرا ثم قال: الله أكبر. الحجاج وأبو هريرة وقال الحجاج: دخلت المدينة فقصدت إلى مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم: فإذا بأبي هريرة قد أكبّ الناس عليه يسألونه، فقلت: هكذا! افرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه، فقلت له: إني إنما أقول هذا: طاف الخيالان فهاجا سقما ... خيال أروى وخيال تكتّما تريك وجها ضاحكا ومعصما ... وساعدا عبلا وكفّا أدرما «2» فما تقول فيه؟ قال: لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينشد مثل هذا في المسجد فلا ينكره. ودخل كعب بن زهير على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل صلاة الصبح، فمثل بين يديه وأنشده: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول «3»

هيفاء مقبلة عجراء مدبرة ... لا يشتكى قصر منها ولا طول «1» ما إن تدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أبثوابها الغول ولا تمسّك بالوعد الذي وعدت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الاباطيل فلا يغرّنك ما منت وما وعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل ثم خرج من هذا إلى مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكساه بردا اشتراه منه معاوية بعشرين ألفا. ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في الغزل: كتمت الهوى حتى أضرّ بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم ونمّ عليك الكاشحون وقبل ذا ... عليك الهوى قد نمّ لو نفع النّمّ «2» فيامن لنفس لا تموت فينقضي ... عناها، ولا تحيا حياة لها طعم تجنّبت إتيان الحبيب تأثّما ... ألا إنّ هجران الحبيب هو الإثم ومن شعر عروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعبادها، وكان من أرق الناس تشبيبا: قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر «3» أأنت تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطّى هواك وما ألقي على بصري وقد وقفت عليه امرأة، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت القائل: إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... غدوت نحو سقاء الماء أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتّقد!

والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبت عدوة الله عليها لعنة الله، بل لم يكن مرائيا ولكنه كان مصدورا «1» فنفث! وقدم عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة، فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجهم فقضاها ثم التفت إلى عروة، فقال له: ألست القائل: لقد علمت وخير القول أصدقه ... بأنّ رزقي وإن لم آت يأتيني أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني «2» قال: فما أراك إلا قد سعيت له! قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين. وخرج عنه فجعل وجهته إلى المدينة، فبعث إليه بألف دينار، وكشف عنه فقيل له: قد توجه إلى المدينة! فبعث إليه بالألف دينار، فلما قدم عليه بها الرسول، قال له: أبلغ امير المؤمنين السلام، وقل له أنا كما قلت: قد سعيت وعييت في طلبه، وقعدت عنه فأتاني لا يعنّيني. ومن قول عبد الله بن المبارك، وكان فقيها ناسكا شاعرا رقيق النسيب معجب التّشبيب حيث يقول: زعموها سألت جارتها ... وتعرّت ذات يوم تبترد «3» أكما ينعتني تبصرنني ... عمركنّ الله أم لا يقتصد فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كلّ عين من يودّ حسدا حمّلنه من شأنها ... وقديما في الحبّ الحسد وقال شريح القاضي. وكان من جلّة التابعين، والعلماء المتقدمين، استقضاه على رحمه الله ومعاوية. وكان يزوج امرأة من بني تميم تسمى زينب، فنقم عليها فضربها، ثم ندم، فقال رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلّت يميني يوم أضرب زينبا

الرشيد وشاعر مدحه

أأضربها في غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس أذنبا فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا برزت لم تبد منهنّ كوكبا «1» الرشيد وشاعر مدحه قال: حج الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي، قال شراحيل بن زائدة: وكان كثيرا ما أسايره، فبينما أنا أسايره إذ عرض له اعرابي من بني أسد فأنشده شعرا مدحه فيه وعرضه، فقال هل الرشيد: ألم أنهك عن مثل هذا في شعرك يا أخا بني أسد؟ إذ أنت قلت فقل كما قال مروان بن أبي حفصة في أبي هذا، وأشار إليّ يقول: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل «2» هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السّماكين منزل «3» بها ليل الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل «4» هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا ابن شماس يمدح عمر بن عبد العزيز وقال عتبة بن شماس يمدح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: إنّ أولى بالحقّ في كلّ حق ... ثم أحرى بأن يكون حقيقا من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جدّه الفاروقا ثم داموا لنا علينا وكانوا ... في ذرا شاهق تفوت الانوقا «5»

الرسول صلى الله عليه وسلم وابن مرداس

الرسول صلّى الله عليه وسلّم وابن مرداس مدح عباس بن مرداس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكساه حلة، ومدحه كعب بن زهير، فكساه بردا اشتراه منه معاوية بعشرين ألف درهم، وإن ذلك البرد لعند الخلفاء إلى اليوم. عمر بن الخطاب وابن عباس في شعر زهير وقال ابن عباس: قال لي عمر بن الخطاب: أنشدني قول زهير. فأنشدته قوله في هرم بن سنان بن حارثة حيث يقول: قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأفلاذ ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا جنّ إذا فزعوا، إنس إذا أمنوا ... مرزءون بها ليل إذا احتشدوا محّسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا فقال له عمر: ما كان أحبّ إليّ لو كان هذا الشعر في أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! انظر إلى ضنانة عمر بالشعر، كيف لم ير أحدا يستحق هذا المدح إلا أهل بيت محمد عليه الصلاة والسلام؟ ابن عمرو وبعضهم في بيت للحطيئة وأسمع رجل عبد الله بن عمر بيت الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «1» فقال: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلم ير أحدا يستحق هذا المدح غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

عمر بن عبد العزيز ونصيب وجرير ودكين

عمر بن عبد العزيز ونصيب وجرير ودكين واستأذن نصيب بن رباح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له، فقال: أعلموا أمير المؤمنين أني قلت شعرا أوله الحمد لله. فأعلموه، فأذن له، فأدخل عليه وهو يقول: الحمد لله، أما بعد يا عمر ... فقد أتتنا بك الحاجات والقدر فأنت رأس قريش وابن سيّدها ... والرأس فيه يكون السمع والبصر فأمر له بحليّة سيفه. ومدحه جرير بشعره الذي يقول فيه: هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر؟ فأمر له بثلثماية درهم. ومدحه دكين الراجز، فأمر له بخمس عشرة ناقة. ابن جعفر ونصيب ومدح نصيب بن رياح عبد الله بن جعفر، فأمر له بمال كثير وكسوة ورواحل. فقيل له: تفعل هذا بمثل هذا العبد الاسود؟ فقال: أما والله لئن كان عبدا إن شعره لحرّ، وإن كان أسود إن ثناءه لأبيض. وإنما أخذ مالا يفنى، وثيابا تبلى، ورواحل تنضي «1» ، وأعطي مديحا يروي، وثناء يبقى. ودخل ابن هرم بن سنان على عمر بن الخطاب، فقال له: من أنت: قال: أنا ابن هرم بن سنان، قال: صاحب زهير؟ قال: نعم. قال: أما إنه كان يقول فيكم فيحسن! قال: كذلك كنا نعطيه فنجزل! قال: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. ابو جعفر وطريح وكان طريح الثقفي ناسكا شاعرا، فلما قال في أبي جعفر المنصور قوله:

الحطيئة في سجن عمر

أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تعطف عليك الحنيّ والولج «1» لو قلت للسّيل دع طريقك والمو ... ج عليه كالليل يعتلج «2» لهمّ أو كاد أو لكان له ... في سائر الارض عنك منعرج طوبي لفرعيك من هنا وهنا ... طوبي لأعراقك التي تشج قال أبو جعفر: بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله، فكيف يقول: دع طريقك؟ فبلغ ذلك، فقال: الله يعلم أني إنما أردت يا رب، لو قلت للسيل: دع طريقك الحطيئة في سجن عمر وقال الحطيئة لما حبسه عمر بن الخطاب في هجائه للزبرقان بن بدر- أبياتا يمدح فيها عمر ويستعطفه، فلما قرأها عمر عطف له وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه، والأبيات: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر «3» ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البشر ما آثروك بها إذا قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الإثر «4» ابن دارة وابن حاتم ودخل ابن دارة على عدي بن حاتم صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إني مدحتك! قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حسبه، فإني أكره أن لا أعطيك ثمن ما تقول. لي ألف شاة، وألف درهم، وثلاثة أعبد، وثلاث إماء، وفرسي هذا حبيس في سبيل الله، فامدحني على حسب ما أخبرتك، فقال: تحن قلوصي في معدّ وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل «5»

قولهم في الهجاء

وأبقى الليالي من عديّ بن حاتم ... حساما كنصل السيف سلّ من الخلل «1» أبوك جواد لا يشقّ غباره ... وأنت جواد ليس يعذر بالعلل «2» فإن تفعلوا شرّا فمثلكم اتّقى ... وإن تفعلوا خيرا فمثلكم فعل قال عدي: أمسك، لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا. قولهم في الهجاء قال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «3» . فأرخص الله للشعراء بهذه الآية في هجائهم لمن تعرض لهم. الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورجل في أبي سفيان يزيد بن عمرو بن تميم الخزاعي عن أبيه عن جده، أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن أبا سفيان يهجوك! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنه هجاني وإني لا أقول الشعر، فاهجه عني، فقام إليه عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول إيذن لي فيه. فقال أنت القائل: فثبّت الله ما آتاك من حسن قال: نعم. قال: وإياك فثّبت الله. ثم قام إليه كعب بن مالك فقال: إيذن لي فيه.

ابن ياسر ويمني

قال: أنت القائل: «همّت» ؟ قال: نعم. قال: لست له. ثم قام حسان بن ثابت، فقال يا رسول الله ائذن لي فيه. وأخرج لسانه فضرب به أرنبة «1» أنفه وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيّل لي أني لو وضعته على حجر لفلقه، أو شعر لحلقه! فقال أنت له، اذهب إلى أبي بكر يخبرك بمثالب القوم، ثم اهجهم وجبريل معك. فقال يردّ على أبي سفيان: ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء «2» هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بندّ ... فشرّكما لخيركما الفداء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويطريه ويمدحه سواء لنا في كلّ يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدّره الدلاء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ابن ياسر ويمني وقال رجل من أهل اليمن: دخلت الكوفة فأتيت المسجد، فإذا بعمار بن ياسر ورجل ينشده هجاء معاوية وعمرو بن العاص، وهو يقول: ألصق بالعجوزين! «3» قلت له: سبحان الله! أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب! فجلست، فقال: أتدري ما كان يقول لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما هجانا اهل مكة؟ قلت: لا أدري. قال: كان يقول لنا: قولوا لهم مثل ما يقولون لكم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت: لقد شكر الله لك بيتا قلته وهو: زعمت سخينة ان تغالب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب

هذيل وسؤالها حل الزنا

هذيل وسؤالها حل الزنا وسألت هذيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحلّ لها الزنا، فقال حسان في ذلك: سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب «1» وقال عبد الملك بن مروان: ما هجي أحد بأوجع من بيت هجي به ابن الزبير، وهو: فإن تصبك من الأيام جائحة ... لم تبك منك على دنيا ولا دين! «2» وقيل لعقيل بن علّفة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقال رجل من ثقيف لمحمد بن مناذر: ما بال هجائك أكثر من مدحك؟ قال: ذلك مما أغراني به قومك، واضطرني إليه لؤمك. وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لجرير: إنك لعفيف الفرج كثير الصدقة، فلم تسبّ الناس؟ قال: يبدءوني ثم لا أغفر لهم. وكان جرير يقول: لست بمبتدىء ولكنني معتد. يريد أنه يسرف في القصاص. ومثله قول الشاعر: بني عمّنا لا تنطقوا الشّعر بعد ما ... دفنتم بأفناء العذيب القوافيا فلسنا كمن قد كنتم تظلمونه ... فيقبل ضيما أو يحكّم قاضيا «3» ولكنّ حكم السيف فيكم مسلّط ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا فإن قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنّا أسأنا التّقاضيا وكان عمر بن الخطاب يقول: واحدة بأخرى والبادىء أظلم

عبد الملك وجرير والأخطل

عبد الملك وجرير والأخطل وقيل: وفد جرير على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك للأخطل: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا جرير. قال الأخطل: والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتك! قال له جرير: والذي أعمى بصيرتك وأدام خزيتك لقد عرفتك: لسيماك سيما أهل النار. كثير والأخطل عند عبد الملك ابن الاعرابي قال: دخل كثيّر عزّة على عبد الملك فأنشده وعنده رجل لا يعرفه، فقال لعبد الملك: هذا شعر حجازي، دعني أضغمه لك ضغمة «1» . قال كثيّر: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الأخطل. قال: فالتفت إليه فقال له: هل ضغمت. الذي يقول: والتّغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استة وتمثل الأمثالا تلقاهم حلماء عن أعدائهم ... وعلى الصّديق تراهم جهّالا «2» حصين وصديق له حدثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحكم بمصر: كان رجل له صديق يقال له حصين، فولى موضعا يقال له السابين، فطلب إليه حاجة فاعتل فيها، فكتب إليه: اذهب إليك فإنّ ودّك طالق ... مني وليس طلاق ذات البين فإذا ارعويت فإنها تطليقة ... ويقيم ودّك لي على ثنتين «3» وإذا أبيت شفعتها بمثالها ... فيكون تطليقين في حيضين «4»

وإن الثلاث أتتك مني بتّة ... لم تغن عنك ولاية السّابين ولم ارض أن أهجو حصينا وحده ... حتى أسوّد وجه كلّ حصين طلب دعبل بن علي حاجة إلى بعض الملوك فصرح بمنعه، فكتب إليه: أحسبت أرض الله ضيّقة ... عني؟ فأرض الله لم تضق وحسبتني فقعا بقرقرة ... فوطئتني وطئا على حنق «1» فإذا سألتك حاجة أبدا ... فاضرب بها قفلا على غلق وأعدّ لي غلّا وجامعة ... فاجمع يديّ بها إلى عنقي «2» ثم ارم بي في قعر مظلمة ... إن عدت بعد اليوم في الحمق «3» ما أطول الدنيا وأوسعها ... وأدلّني بمسالك الطّرق ومثل هذا قول أبي زبيد: إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حبة على رصد «4» ليتك أدّبتني بواحدة ... تجعلها منك آخر الأبد تحلف أن لا تبرّني أبدا ... فإنّ فيها بردا على كبدي وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشدّ عليّ من قول الشاعر: فكّرّ ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أنّ ابنها من قريش في الجماهير «5» سبحان من ملّك عبّاد بقدرته ... لا يدفع الخلق محتوم المقادير وقال بلال بن جرير: سألت أبي: أيّ شيء هجيت به أشدّ عليك؟ قال: قول العيث:

ألست كليبيّا إذا سيم خطّة ... أقرّ كإقرار الحليلة للبعل كلّ كليبيّ صحيفة وجهه ... أذلّ لأقدام الرجال من النّعل وكان بلال بن جرير شاعرا ابن شاعر ابن شاعر، لأنّ الخطفي كان شاعرا، وهو يقول: ما زال عصياننا لله يسلمنا ... حتى دفعنا إلى يحيى ودينار إلى عليجين لم تقطع ثمارهما ... قد طالما سجدا للشمس والنار «1» ومن أخبث الهجاء قول جميل: أبوك حباب سارق الضيف برده ... وجدّي يا شمّاخ فارس شمّرا بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء سوء يلقهم حيث سيّرا «2» فإن تغضبوا من قسمة الله فيكم ... فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا وقال كثيّر في نصيب، وكان أسود، ويكنى ابا الحجناء: رأيت أبا الحجنإ في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم تراه على مالاحه من سواده ... وإن كان مظلوما، له وجه ظالم! وكان يقال لسعد بن أبي وقاص: المستجاب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتقوا دعوة سعد. فقال رجل بالقادسية فيه: ألم تر أن الله أنزل نصره ... وسعد بباب القادسيّة معصم «3» فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فهنّ أيّم «4» فقال سعد: اللهم! اكفني يده ولسانه. فخرس لسانه، وضربت يده فقطعت. وذكر عند المبرّد محمد بن يزيد النحوي رجل من الشعراء، فقال: لقد هجاني

ببيتين أنضج بهما كبدي! فاستنشدوه، فأنشدهم هذين البيتين: سألنا عن ثمالة كل حيّ ... فكلّ قد أجاب ومن ثماله فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدتهما جهاله ولم يقل أحد في القبيح أحسن من قول أبي نواس: وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما فكان جوابها في حسن ميس ... أأجمع وجه هذا والحراما «1» وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشد له: إذا سلمت فتاة بني نمير ... تلقّم باب عصرطها التّرابا «2» ترى برصا بمجمع إسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا «3» وقوله أيضا: وتقول إذ نزعوا الإزار عن استها ... هذي دواة معلّم الكتّاب وقوله أيضا: أحين صرت سماما يا بني لجأ ... وخاطرت بي عن أحسابها مضر هيأتم عمرا يحمي دياركم ... كما يهيّأ لأست الخاري الحجر وقال عليّ بن الجهم يهجو محمد بن عبد الملك الزيّات وزير المتوكل: أحسن من سبعين بيتا سدى ... جمعك إياهنّ في بيت ما أحوج الملك إلى ديمة ... تغسل عنه وضر الزيت «4» ومن أخبث الهجاء قول زياد الأعجم:

قالوا الأشاقر تهجوني فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا «1» وهم من الحسب الذاكي بمنزلة ... كطحلب الماء لا أصل ولا ورق «2» لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا وقوله أيضا: قضى الله خلق الناس ثم خلقتم ... بقيّة خلق الله آخر آخر فلم تسمعوا إلا الذي كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدقّ الحوافر «3» وقال فيهم: قبّيلة خيرها شرّها ... وأصدقها الكاذب الآثم وضيفهم وسط أبياتهم ... وإن لم يكن صائما صائم ونظير هذا قول الطرمّاح: وما خلقت تيم وزيد مناتها ... وضبّة إلا بعد خلق القبائل ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم: لو حان ورد تميم ثم قيل لهم ... حوض الرسول عليه الأزد لم ترد أو أنزل الله وحيا أن يعذّبها ... إن لم تعد لقتال الأزد لم تعد وكلّ لؤم أباد الله سبّته ... ولؤم ضبّة لم ينقص ولم يزد «4» لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد قوم أقام بدار الذلّ أوّلهم ... كما أقامت عليه جذمة الوتد «5» ومن قول المساور بن هند: ما سرّني أن قومي من بني أسد ... وأن ربي ينجّيني من النار

وأنهم زوّجوني من بناتهم ... وأن لي كل يوم ألف دينار ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع «1» : بلاد نأى عني الصّديق وسبّني ... بها عنزيّ ثم لم أتكلّم وقال عبيد: يا أبا جعفر كتبتك سمحا ... فاستطال المداد فالميم لام لا تلمني على الهجاء فلم يه ... جك إلا المداد والأقلام «2» وقال سليمان بن أبي شيخ: كان أبو سعيد الراني يماري اهل الكوفة ويفضل أهل المدينة، فجاءه رجل من أهل الكوفة وسماه شرشيرا، وقال: كلب في جهنم يسمى شرشيرا، فقال: عندي مسائل لا شرشير يعرفها ... إن سيل عنها ولا أصحاب شرشير وليس يعرف هذا الدّين معرفة ... إلا حنيفيّة كوفيّة الدّور لا تسألنّ مدينيّا فتكفره ... إلا عن البمّ والمثنى أو الزّير «3» فكتب أبو سعيد إلى اهل المدينة: إنكم قد هجيتم فردّوا. فردّ عليه رجل من أهل المدينة يقول: لقد عجبت لغاو ساقه قدر ... وكل أمر إذا ما حمّ مقدور قالوا المدينة أرض لا يكون بها ... إلا الغناء وإلا البّم والزّير لقد كذبت لعمر الله إنّ بها ... قبر النبيّ وخير الناس مقبور قال: فما انتصر ولا انتصر به، فليته لم يقل شيئا. وقال مساور الوراق في أهل القياس: كنّا من الدّين قبل اليوم في سعة ... حتى بلينا بأصحاب المقاييس «4»

مداراة الشعراء وتقيتهم

قاموا من السّوق إذ قلّت مكاسبهم ... فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبوس «1» أمّا الغريب فأمسوا لا عطاء لهم ... وفي الموالي علامات المفاليس فلقيه ابو حنيفة، فقال له: هجوتنا! نحن نرضيك. فبعث إليه بدراهم، فكف عنه وقال: إذا ما الناس يوما قايسونا ... بمسألة من الفتيا ظريفه «2» أتيناهم بمقياس صحيح ... بديع من طراز أبي حنيفه إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفه ومن خبيث الهجاء قول الشاعر: عجبت لعبدان هجوني سفاهة ... أن اصطبحوا من شائهم وتفيّلوا «3» بجاد وريسان وفهر وغالب ... وعون وهدم وابن صفوة أخيل «4» فأمّا الذي يحصيهم فمكثّر ... وأمّا الذي يطريهم فمقلّل وقال أبو العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة: قال ابن معن وجلى نفسه ... على القربات من الأهل هل في جواري الحيّ من وائل ... جارية واحدة مثلي أكنى أبا الفضل فيامن رأى ... جارية تكنى أبا الفضل قد نقطت في خدّها نقطة ... مخافة العين من الكحل مداراة الشعراء وتقيتهم «5» سليمان والخليل وبعض المادحين أبو جعفر البغدادي قال: مدح قوم من الشعراء جعفر بن سليمان بن علي بن عبد

النبي صلى الله عليه وسلم وابن مرداس

الله بن عباس، فماطلهم بالجائزة، وكان الخليل بن أحمد صديقه، وكان وقت مدحهم إياه غائبا، فلما قدم الخليل أتوه فأخبروه، فاستعانوا به عليه، فكتب إليه: لا تقبلنّ الشعر ثمّ تعقّه ... وتنام والشعراء غير نيام «1» واعلم بأنّهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكّام وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم باق على الايام فأجازهم وأحسن اليهم. النبي صلّى الله عليه وسلّم وابن مرداس وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مدحه عباس بن مرداس: اقطعوا عني لسانه. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ فأمر له بحلة قطع بها لسانه. ومدح ربيعة الرقّيّ يزيد بن حاتم وهو والي مصر، فتشاغل عنه ببعض الامور واستبطأه ربيعة فشخص من مصر، وقال: أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفّي حنين من نوال ابن حاتم «2» فبلغ قوله يزيد بن حاتم، فأرسل في طلبه وردّه، فلما دخل عليه قال له: انت القائل: أراني ولا كفران الله راجعا ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم قال: نعم. قال: هل قلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله لترجعن بخفّي حنين مملؤة مالا! فأمر بخلع خفّيه، وأن تملا له مالا، ثم قال: أصلح ما أفسدت من قولك، فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن السلمي: بكى اهل مصر بالدموع السواجم ... غداة غدا منها الأغرّ ابن حاتم «3»

تيم عامل زياد ومادح له

لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم «1» فهمّ الفتى الأزديّ إنفاق ماله ... وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدراهم فلا يحسب التّمتام أني هجوته ... ولكنّني فضلت أهل المكارم واعلم أن تقية الشعراء من حفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها، وقد وضعنا في هذا الكتاب بابا فيمن وضعه الهجاء، ومن رفعه المدح. تيم عامل زياد ومادح له وكان لزياد عامل على الاهواز يقال له تيم، فمدحه رجل من الشعراء، فلم يعطه شيئا، فقال الشاعر: اما اني لا أهجوك، ولكني أقول فيك ما هو شر عليك من الهجاء. فدخل على زياد فأسمعه شعرا مدحه فيه، وقال في بعضه: وكائن عند تيم من بدور ... إذا ما صفّدت تدعو زيادا «2» دعته كي يجيب لها وشيكا ... وقد ملئت حناجرها صفادا «3» فقال زياد: لبّيك يا بدور! ثم أرسل فيه فأغرمه مائة ألف. باب في رواة الشعر قال الأصمعي: ما بلغت الحلم «4» حتى رويت اثنى عشر ألف أرجوزة للأعراب. كان خلف الأحمر أروى الناس للشعر وأعلمهم بجيّده. قال مروان بن أبي حفصة: لما مدحت المهدي بشعري الذي أوله: طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها أردت أن أعرضه على قرّاء البصرة، فدخلت المسجد الجامع، فتصفحت الحلق فلم

أر حلقة أعظم من حلقة «1» يونس النحوي، فجلست إليه، فقلت له: إني مدحت المهدي بشعر، وأردت ألا أرفعه حتى أعرضه على بصرائكم، وإني تصفحت الحلق فلم أر حلقة أحفل من حلقتك، فإن رأيت أن تسمعه مني فافعل. فقال: يا ابن أخي، إن ههنا خلفا، ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعرا حتى يحضر، فإذا حضر فأسمعه. فجلست حتى أقبل خلف الأحمر، فلما جلس جلست إليه، ثم قلت له ما قلت ليونس، فقال: أنشد يا بن أخي، فأنشدته حتى أتيت على آخره فقال لي: أنت والله كأعشى بكر، بل أنت أشعر منه حيث يقول: رحلت سميّة غدوة أجمالها ... غضبى عليك فما تقول بدالها وكان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن وينحله «2» الشعراء. ويقال إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبط شرّا، وهو: إنّ بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطلّ «3» لخلف الأحمر، وإنما ينحله إياه. وكذلك كان يفعل حماد الراوية: يخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما من شاعر إلا قد زدت في شعره أبياتا فجازت عليه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت فأفسدت عليه الشعر. قيل له: وما البيت الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصّلعا قال حماد الراوية: أرسل إليّ أبو مسلم ليلا، فراعني ذلك، فلبست أكفاني ومضيت، فلما دخلت عليه تركني حتى سكن جأشي «4» ، ثم قال لي: ما شعر فيه

أوتاد؟ «1» قلت: من قائله أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قلت: فمن شعراء الجاهلية أم شعراء الإسلام؟ قال: لا أدري. قال: فأطرقت حينا أفكّر فيه، حتى بدر إلى وهمي شعر الأفوه الازدي حيث يقول: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا «2» والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... يوما فقد بلغوا الأمر الذي كادوا فقلت: هو قول الأفوه الأزدي أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات، فقال: صدقت، انصرف إذا شئت! فقمت، فلما خطوت الباب لحقني أعوان له ومعهم بدرة، «3» فصحبوني إلى الباب، فلما أردت أن أقبضها منهم، قالوا: لا بد من إدخالها إلى موضع منامك! فدخلوا معي، فعرضت أن أعطيهم منها شيئا، فقالوا: لا تقدم على الأمير. الأصمعي قال: أقبل فتيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نتحدث إليك. قال: كذبتم يا خبثاء! ولكن قلتم: كبر الشيخ فهلم بنا عسى أن نأخذ عليه سقطة «4» ! قال: فأنشدهم لمائة شاعر كلهم اسمه عمرو. قال الأصمعي: تحدثت أنا وخلف الأحمر فلم نزد على أكثر من ثلاثين. وقال الشعبي: لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهرا ولا أعيد بيتا! وكان الخليل بن أحمد أروى «5» الناس للشعر ولا يقول بيتا.

الرشيد والأصمعي:

وكذلك كان الأصمعي. وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نظري لجيّده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا أجده، والذي أجده لا أريده. وقل لآخر: مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسنّ: أشحذ ولا أقطع. وقال الحسن بن هانيء: رويت أربعة آلاف شعر، وقلت أربعة آلاف شعر، فما رزأت «1» لشاعر شيئا. الرشيد والأصمعي: القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدثنا أحمد بن بشر الأطروش قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: أخبرني الأصمعي قال: تصرفت بي الأسباب «2» إلى باب الرشيد مؤملا للظفر، بما كان في الهمة دفينا، أترقب به طالع سعد، فاتصل بي ذلك إلى أن صرت للحرس مؤانسا بما استملت به مودّتهم، فكنت كالضيف عند أهل المبرّة، فطرفهم متوجهة بإتحافي، وطاولتني الغايات بما كدت به أن أصير إلى ملالة، غير أني لم أزل محييا للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفترة، وقلت في ذلك: وأيّ فتى أعير ثبات قلب ... وساع ما تضيق به المعاني تجاذبه المواهب عن إباء ... ألا بل لا تواتيه الأماني فربّ معرّس لليأس أجلى ... عن الدّرك الحميد لدى الرّهان «3» وأيّ فتى أناف على سمو ... من الهمّات ملتهب الجنان بغير توسّع في الصدر ماض ... على العزمات والعضب اليماني «4» فلم نبعد أن خرج علينا خادم في ليلة نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين

أجفان الرشيد، فقال: هل بالحضرة أحد يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر! رب قيد مضيقة قد فكه التيسير للإنعام! أنا صاحبك إن كان صاحبك من طلب فأدمن، وحفظ فأتقن. فأخذ بيدي. ثم قال: ادخل أن يختم الله لك بالإحسان لديه والتصويب، فلعلها أن تكون ليلة تعوّض صاحبتها الغنى. قلت: بشّرك الله بالخير! قال: ودخلت، فواجهت الرشيد في البهو جالسا كأنما ركب البدر فوق أزراره جمالا، والفضل بن يحيى إلى جانبه، والشمع يحدق به على قضب المنابر، والخدم فوق فرشه وقوف، فوقف بي الخادم حيث يسمع تسليمي، ثم قال: سلّم! فسلمت، فردّ، ثم قال: ينحّى قليلا روعه، إن وجد لروعه حسّا. فقعدت حتى سكن جأشي قليلا، ثم أقدمت، فقلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة كرمك، وبهاء مجدك، مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذية له، أيسألني أمير المؤمنين فأجيب، أم أبتدىء فأصيب، بيمن أمير المؤمنين وفضله؟ قال: فتبسم الفضل، ثم قال: ما أحسن ما استدعى الاختبار استسهل به المفاتحة، وأجدر به أن يكون محسنا. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدّم مبرّزا محسنا في استشهاده على براءته من الحيرة، وأرجو أن يكون ممتعا. قال: أرجو. ثم قال: ادن. فدنوت، فقال: أشاعر أم راوية؟ قلت: راوية يا أمير المؤمنين. قال: لمن؟ قلت: لذي جدّ وهزل بعد أن يكون محسنا. قال: والله ما رأيت أدعى لعلم، ولا أخبر بمحاسن بيان فتقته «1» الأذهان منك، ولئن صرت حامدا أثرك لتعرفن الإفضال متوجّها إليك سريعا. قلت: أنا على الميدان يا أمير المؤمنين، فيطلق أمير المؤمنين من عقالي مجيبا فيما أحبه قال: قد أنصف القارة من راماها ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بديّا؟ قلت: ذكرت العرب يا أمير المؤمنين أن التبابعة كانت لهم رماة لا تقع سهامهم في غير الحدق، فكانت تكون في الموكب الذي يكون فيه الملك، على الجياد البلق «2» ، بأيديهم الأسورة وفي أعناقهم الأطواق،

فخرج من موكب الصّغد فارس معلم «1» بعذبات «2» سود في قلنسوته، قد وضع نشابته في الوتر، ثم صاح: أين رماة الحرب؟ قالوا: قد أنصف القارة من راماها. والملك أبو حسان إذ ذاك المضاف إليه. قال الرشيد: أحسنت، أرويت للعجاج ورؤبة شيئا؟ قلت: هما يا أمير المؤمنين يتناشدان لك بالقوافي وإن غابا عنك بالأشخاص. فمد يده فأخرج من تحت فراشه رقعة، ثم قال: أسمعني. فقلت: أرّقني طارق هم طرقا فمضيت فيها مضيّ الجواد في سنن ميدانه، تهدر بها أشداقي، حتى إذا صرت إلى مدح بني أمية ثنيت عنان اللسان إلى امتداحه المنصور في قوله: قلت لزير لم تصله مريمه «3» قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: عن عمد، تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنت بارك الله فيك، مثلك يؤمل لهذا الموقف. قال الرشيد: ارجع إلى أول هذا الشعر. فأخذت من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلت، فقال الفضل: مالك تضيّق علينا كلّ ما اتسع لنا من مساعدة السّهر في ليلتنا هذه بذكر جمل أجرب؟ صره إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت، هي التي أخرجتك من دارك، وأزعجتك من قرارك، وسلبتك تاج ملكك، ثم ماتت، فعمل جلودها سياطا تضرب بها قومك ضرب العبيد! ثم قهقه، ثم قال: لا تدع نفسك والتعرض لما تكره. فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب، والحمد لله! قال الرشيد: أخطأت في كلامك يرحمك الله! لو قلت: وأستغفر الله! قلت صوابا، إنما يحمد الله على النّعم. ثم صرف وجهه إليّ وقال: ما

أحسن ما أدّيت في قدر ما سئلت! أسمعني كلمة عدي بن الرقاع في الوليد بن يزيد ابن عبد الملك، قوله: عرف الديار توهّما فاعتادها فقال الفضل. يا أمير المؤمنين، ألبستنا ثوب السهر ليلتنا هذه لاستماع الكذب! لم تأمره يسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك؟ قال: ويحك! إنه أدب وقلما يعتاض عن مثله، ولأن أسمع من ثقيف بعبارة تشغله العناية بها عمره، أحبّ إليّ من أن تشافهني به الرسوم، وللممتدح بهذا الشعر حركات سترد عليك، ولا تقدر أن تصدر من غير انتفاع بها، ولا أكون أول مستنّ طريقة ذكر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين شاركتك في الشوق، وأعنتك على التّوق، ثم التفت إليّ الفضل فقال: احدبنا ليلتك منشدا، هذا سيدي أمير المؤمنين قد أصغى إليك مستمعا، فمرّ ويحك في عنان الإنشاد، فهي ليلة دهرك لم تنصرف إلا غانما. قال الرشيد: أما إذ قطعت على فاحلف لتشركني في الجزاء، فما كان لي في هذا شيء لم تقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت «1» نفسي على ذلك متقدما فلا تجعلنّه وعيدا، قال الرشيد: لا أجعله وعيدا. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التّيه على العرب كلّها، وإني أرى الخليفة والوزير وهما يتناظران في المواهب لي، فمررت في سنن الإنشاد حتى بلغت إلى قوله: تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها «2» فاستوى جالسا، ثم قال: أتحفظ في هذا شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الفرزدق لما قال عدي: تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه

قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبيها؟ فقال جرير: قلم أصاب من الدّواة مدادها فما رجع الجواب حتى قال عدي: قلم أصاب من الدّواة مدادها فقلت لجرير: ويحك لكأن سمعك مخبوء في فؤاده! فقال جرير: اسكت، شغلني سبّك عن جيّد الكلام! ثم قال الرشيد: مرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله: ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صنع إذ سمع هذا البيت؟ قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! قال: مرّ في إنشادك، فمضيت حتى بلغت إلى قوله: تأتيه أسلاب الأغرّة عنوة ... عصبا ويجمع للحروب عتادها «1» قال الرشيد: لقد وصفه بحزم وعزم لا يعرض بينهما وكل «2» ولا استذلال: قال: فماذا صنع؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء الله! قال: أحسبك واهما. قلت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالهداية، فليردّني أمير المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله: ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها ثم قال: والله ما قلت هذا عن سمع، ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يكن يخطىء في مثل هذا. قال الأصمعي: وهو والله الصواب. ثم قال: مر في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:

وعلمت حتى لا أسائل واحدا ... عن حرف واحدة لكي أزدادها قال: وكان من خبرهم ماذا؟ قلت: ذكرت الرواة أنّ جريرا لما أنشد عدي هذا البيت، قال: بلى والله وعشر مئين «1» . قال عدي: وقر «2» في سمعك أثقل من الرصاص، هذا والله يا أمير المؤمنين المديح المنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الرصاص، هذا والله يا أمير المؤمنين المديح المنتقي. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مدحه وتشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين، لا يحسن عدي أن يقول: شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا قال الرشيد: بلى قد أحسن. ثم التفت إليّ فقال: ما حفظت له في هذا الشعر شيئا حين قال: أطفأت نيران الحروب وأوقدت ... نار قدحت براحتيك زنادها «3» قلت: ذكرت الرواة أنه يا أمير المؤمنين حك يمينا بشمال مقتدحا بذلك، ثم قال: الحمد لله على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: رويت لذي الرّمّة شيئا؟ قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أسألك سؤال امتحان، ولا كان هذا عليك، ولكنني أجعله سببا للمذاكرة، فإن وقع عن عرفانك، وإلا فلا ضيق عليك بذلك عندي، فماذا أراد بقوله: ممرّ أمرّت متنه أسديّة ... يمانيّة حلّالة بالمصانع «4» قلت: وصف يا أمير المؤمنين حمارا وحشيّا أسمنه بقل روضة تشابكت فروعه، ثم تواشجت عروقه، من قطر سحابة كانت في نوء الأسد، ثم في الذراع منه. قال: أصبت، أفترى القوم علموا هذا من النجوم، بنظرهم، إذ هو شيء قلما يستخرج بغير أسباب للذين رويت لهم أصوله، أو أدّتهم إليه الأوهام والظنون؟ فالله أعلم بذلك.

قلت: يا أمير المؤمنين، هذا كثير في كلامهم، ولا أحسبه إلا عن أثر «1» ألقي إليهم. قال: قلما أجد الأشياء لا تثيرها إلا الفكر في القلوب، فإن ذهبت إلى أنه هبة الله. قال: ذهبت إلى ما أدّتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويت للشماخ شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: يعجبني منه قوله: إذا ردّ من ثني الزّمام ثنت له ... جرانا كخوط الخيزران المموّج «2» قلت: يا أمير المؤمنين، هي عروس كلامه. قال: فأيها الحسن الآن من كلامه؟ قلت: الرائية. وأنشدته أبياتا منها، قال: أمسك، ثم قال: أستغفر الله ثلاثا، أرح قليلا واجلس، فقد أمتعت منشدا، ووجدناك محسنا في أدبك، معبرا عن سرائر حفظك، ثم التفت إلى الفضل، فقال: لكلام هؤلاء ومن نقدّم من الشعراء، ديباج الكلام الخسروانيّ «3» يزيد على القدم جدّة وحسنا، فإذا جاءك الكلام الزيّن بالبديع، جاءك الحرير الصيني المذهب، يبقى على المحادثة في أفواه الرّواة، فإذا كان له رونق صواب، وعته الأسماع، ولذّ في القلوب، ولكن في الأقل منه، ثم قال: يعجبني مثل قول مسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته مفتخرا عليها بطول السّرى في اكتساب المغانم حيث قال: أجدك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر «4» صبرت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر «5» أفرأيت؟ ما ألطف ما جعلهما معدنا لكمال الصفات ومحاسنها! ثم التفت إليّ فقال: أجد ملالة، ولعل أبا العباس يكون لذلك أنشط، وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه، فأقم معه مسامرا له! ثم نهض، فتبادر الخدم، فأمسكوا بيده حتى نزل عن فرشه، ثم

باب من استعدى عليه من الشعراء

قدمت النعل، فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يسوّي عقب النعل في رجله، فقال: ارفق ويحك، حسبك قد عقرتني! قال الفضل: لله درّ العجم ما أحكم صنعتهم، لو كانت سنديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة! قال: هذه نعلي ونعل آبائي رحمة الله عليهم، وتلك نعلك ونعل آبائك، لا تزال تعارضني في الشيء ولا أدعك بغير جواب يمضّك «1» ثم قال: يا غلام، عليّ بصالح الخادم. فقال: يؤمر له بتعجيل ثلاثين ألف درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره، لدعوت له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين، فدعا له بمثل ما أمر إلا ألف درهم ويصبح من غد فيلقى الخازن إن شاء الله. قال الأصمعي: فما صليت الظهر إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم. وقال دعبل بن علي الخزاعي: يموت رديء الشّعر من قبل أهله ... وجيّده يبقى وإن مات قائله وقال أيضا: إني إذا قلت بيتا مات قائله ... ومن يقال له، والبيت لم يمت باب من استعدى عليه من الشعراء عمر بن الخطاب بين الحطيئة والزبرقان: لما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بالشعر الذي يقول فيه: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي استعدى عليه «2» عمر بن الخطاب، وأنشده البيت، فقال: ما أرى به بأسا! قال

عمر والنجاشي ورهط ابن مقبل:

الزبرقان: والله يا أمير المؤمنين، ما هجيت ببيت قط أشدّ عليّ منه! فبعث إلى حسان ابن ثابت وقال: انظر إن كان هجاه. فقال: ما هجاه، ولكن سلح عليه! - ولم يكن عمر يجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كره أن يتعرّض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله- وأمر بالحطيئة إلى الحبس، وقال: يا خبيث، لأشغلنّك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحبس يقول: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر «1» ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النّهى البشر ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم قد كانت الإثر «2» فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألّا يهجو رجلا مسلما. عمر والنجاشي ورهط ابن مقبل: ولما هجا النجاشيّ رهط تميم بن مقبل، استعدوا عليه عمر بن الخطاب، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه هجانا! قال: وما قال فيكم؟ قالوا: قال: إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل قال عمر: هذا رجل دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وإن لم يكن مظلوما لم يستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا: قبيلته لا يخفرون بذمّة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل «3» قال عمر: ليت آل الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذ:

معاوية وأبو بردة وعقيبة:

ولا يردون الماء إلا عشيّة ... إذا صدر الورّاد عن كل منهل «1» قال عمر: فإن ذلك أجم «2» لهم وأمكن. قالوا فإنه يقول بعد هذا: وما سمّى العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيّها العبد واعجل «3» . قال عمر: سيد القوم خادمهم. فما أرى بهذا بأسا. معاوية وأبو بردة وعقيبة: ونظير هذا قول معاوية لأبي بردة بن أبي موسى، وكان دخل حماما فزحمه رجل، فرفع الرجل يده فلطم بها أبا بردة فأثر في وجهه، فقال فيه عقيبة الأسدي: فلا يصرم الله اليمين التي لها ... بوجهك يا بن الأشعرين ندوب «4» قال: فاستعدى عليه معاوية، وقال: إنه هجاني! قال: وما قال فيك؟ قال. فأنشده البيت، قال معاوية: هذا رجل دعا ولم يقل إلا خيرا. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ فأنشده: وأنت امرؤ في الأشعرين مقابل ... وفي البيت والبطحاء أنت غريب «5» قال معاوية: وإذا كنت مقابلا في قومك فما عليك أن لا تكون مقابلا في غيرهم؟ قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ قال: قال: وما أنا من حداث أمّك بالضّحى ... ولا من يزكيها بظهر مغيب قال: إنما قال: ما أنا من حدّاث أمك. فلو قال إنه من حدّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب، والذي قال لي أشدّ من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين؟ قال: قال: معاوي إننا بشر فأسجع ... فلسنا بالجبال ولا الحديد «6»

زياد والفرزدق في قوم هجاهم:

أكلتم أرضنا وجذذتموها ... فهل من قائم أو من حصيد فهبنا أمة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد أتطمع بالخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود ذروا جور الخلافة واستقيموا ... وتأمير الأراذل والعبيد «1» قال: فما منعك يا أمير المؤمنين أن تبعث إليه من يضرب عنقه؟ قال: أفلا خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: نجتمع أنا وأنت فنرفع أيدينا إلى السماء وندعو عليه. فما زاد على أن أزري «2» به. زياد والفرزدق في قوم هجاهم: استعدى قوم زيادا على الفرزدق وزعموا أنه هجاهم، فأرسل فيه وعرض له أن يعطيه، فهرب منه وأنشد: دعاني زياد للعطاء ولم أكن ... لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا «3» وعند زياد لو يريد عطاءهم ... رجال كثير قد يرى بهم فقرا فلما خشيت أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا «4» نهضت إلى عنس تخوّن نيّها ... سرى الليل واستعراضها البلد القفرا «5» يؤمّ بها الموماة من لا ترى له ... لدى ابن أبي سفيان جاها ولا عذرا ثم لحق بسعيد بن العاص وهو والي المدينة، فاستجار به وأنشده شعره الذي يقول فيه: إليك فررت منك ومن زياد ... ولم أحسب دمي لكما حلالا فإن يكن الهجاء أحلّ قتلي ... فقد قلنا لشاعركم وقالا

يزيد والأخطل في هجاء الانصار

ترى الغرّ السّوابق من قريش ... إذا ما الأمر بالحدثان عالا «1» قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا يزيد والأخطل في هجاء الانصار ولما وقع التهاجي بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أم الحكم أرسل يزيد ابن معاوية إلى كعب بن جعيل، فقال له: إن عبد الرحمن بن حسان فضح عبد الرحمن ابن الحكم فاهج الانصاري. فقال: أرادّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان؟ لا أهجو قوما نصروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن أدلّك على غلام مناصري. فدله على الأخطل فأرسل إليه فهجا الأنصاري، وقال فيه: ذهبت قريش بالمكارم كلّها ... واللؤم تحت عمائم الانصار قوم إذا حضر العصير رأيتهم ... حمرا عيونهم من المسطار «2» وإذا نسبت إلى الفريعة خلته ... كالجحش بين حمارة وحمار فدعو المكارم لستم من اهلها ... وخذوا مساحيكم بني النجار «3» وكان مع معاوية النعمان بن بشير الانصار، فلما بلغه الشعر أقبل حتى دخل على معاوية، ثم حسر العمامة عن رأسه وقال: يا معاوية، هل ترى من لؤوم؟ قال: ما أرى إلا كرما. قال: فما الذي يقول فينا عبد الأراقم: ذهبت قريش بالمكارم كلّها ... واللؤم تحت عمائم الانصار! قال قد حكمتك فيه. قال: والله لا رضيت إلا بقطع لسانه، ثم قال: معاوي إلا تعطنا الحقّ تعترف ... لحي الازد مشدودا عليها العمائم أيشتمنا عبد الاراقم ضلّة ... وما الذي تجدي عليك الاراقم «4» فمالي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنك الدّراهم

فقال معاوية: قد وهبتك لسانه. وبلغ الاخطل، فلجأ إلى يزيد بن معاوية، فركب يزيد إلى النعمان فاستوهبه إياه، فوهبه له. ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أم الحكم: وأمّا قولك الخلفاء منّا ... فهم منعوا وريدك من وداجي «1» ولولاهم لطحت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داج «2» وهم دعج وولد أبيك زرق ... كأنّ عيونهم قطع الزجاج «3» وقال يزيد لابيه: إن عبد الرحمن بن حسان يشبب بابنتك رملة. قال: وما يقول فيها؟ قال: يقول: هي بيضاء مثل لؤلؤة الغوّا ... ص صيغت من لؤلؤ مكنون قال صدق! قال: ويقول: وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في ثناء من المكارم دون قال صدق أيضا! قال: ويقول: تجعل المسك واليلنجو ... ج صلاء لها على الكانون «4» قال: صدق قال: فانه يقول: ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء ... تمشي في مرمر مسنون «5» قال: كذب! قال: ويقول: قبة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون «6» قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بنيّ، لو فعلت

يزيد وابن الرقيات في تشببه بعاتكة

ذلك لكان أشدّ عليك، لانه يكون سببا للخوض في ذكره، فيكثر مكثر ويزيد زائد، اضرب عن هذا صفحا، واطو دونه كشحا. يزيد وابن الرقيات في تشببه بعاتكة ومن قول عبيد الله بن قيس. المعروف بالرقيات. يشبب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية: أعاتك يا بنت الخلائف عاتكا ... أنيلي فتى امسى بحبّك هالكا تبدت وأترابا لها فقتلنني ... كذلك يقتلن الرجال كذلك «1» يقلّبن ألحاظا لهنّ فواترا ... ويحملن ما فوق النّعال السبائكا «2» إذا غفلت عنّا العيون التي نرى ... سلكن بنا حيث اشتهين المسالكا وقلن لنا لو نستطيع لزاركم ... طبيبان منا عالمان بدائكا فهل من طبيب بالعراق لعله ... يداوي سقيما هالكا متهالكا فلم يعرض له يزيد، للذي تقدم من وصاية ابيه معاوية في رملة. الحجاج وابن نمير في زينب تحدثت الرواة ان الحجاج رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان يشبب بزينب بنت يوسف أخت الحجاج، فارتاع من نظر الحجاج إليه، فدعا به، فلما وقف بين يديه قال: فداك أبي ضاقت بي الارض رحبها ... وإن كنت قد طوّقت كلّ مكان وإن كنت بالعنقاء أو بتخومها ... ظننتك إلا أن يصدّ تراني «3» فقال: لا عليك، فوالله إن قلت الا خيرا! إنما قلت هذا الشعر: يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن وسط الليل معتجرات «4»

هشام والفرزدق

ولكن أخبرني عن قولك: ولمّا رأت ركب النميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات في كم كنت؟ قال: والله إن كنت الا على حمار هزيل، ومعي رفيق على أتان مثله! قال: فتبسم الحجاج ولم يعرض له. وهذه الابيات قالها ابن نمير في زينب بنت يوسف: ولم تر عيني مثل سرب رأيته ... خرجن من التنعيم معتمرات «1» مررن بفخ ثم رحن عشية ... يلبّين للرحمن مؤتجرات «2» تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة خفرات ولمّا رأت ركب النّميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات دعت نسوة شمّ الرانين بدّنا ... نواضر لا شعثا ولا غبرات فأدنين لمّا قمن يحجبن دونها ... حجابا من القسّيّ والحبرات «3» أحلّ الذي فوق السموات عرشه ... أوانس بالبطحاء معتمرات يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن وسط الليل معتجرات هشام والفرزدق وكان الفرزدق قد عرّض بهشام بن عبد الملك في شعره، والبيت الذي عرّض به فيه قوله: يقلّب عينا لم تكن لخليفة ... مشوّهة حولاء جمّا عيوبها «4» فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القسري عامله على العراق يأمره بحبسه، فحبسه، حتى دخل جرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، انك تريد أن تبسط يدك على بادي مضر وحاضرها، فأطلق لها شاعرها وسيدها الفرزدق. فقال له هشام: أو ما يسرك ما أخزاه الله؟ قال: ما أريد ان يخزيه الله إلا على يدي! فأمر باطلاقه.

أي بيت تقوله العرب أشعر

أي بيت تقوله العرب أشعر قيل لابي عمرو بن العلاء: اي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي إذا سمعه سامعه سوّلت له نفسه ان يقول مثله، ولأن يخدش أنفه بظفر كلب أهون عليه من أن يقول مثله وقيل للاصمعي: أي بيت تقوله العرب اشعر؟ قال: الذي يسابق لفظه معناه وقيل للخليل: أي بيت تقوله العرب اشعر؟ قال: البيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته. وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجبه عن القلب شيء. وأحسن من هذا كله قول زهير: وإنّ أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا أحسن ما يجتلب به الشعر قالت الحكماء: لم يستدع شارد الشعر بأحسن من الماء الجاري، والمكان الخالي، والشرف العالي. ابو العتاهية وابن هانىء وتأوّل بعضهم «الحالي» يريد الحالي بالنّوار، يعني الرياض، وهو توجيه حسن ولقي ابو العتاهية الحسن بن هانىء، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تؤتى بالرياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يقال إلا على هكذا؟ قال: أما إني اقوله على الكنيف «1» ! قال: ولذلك توجد فيه الرائحة. قال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهيّة: هل تقول الآن شعرا؟ قال: ما

أشرب ولا أطرب ولا أغضب، فلا يقال الشعر الا بواحدة من هذه. وقيل للحطئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانا رقيقا كأنه لسان حية وقال: هذا إذا طمع. وقيل لكثير عزة: لم تركت الشعر؟ قال: ذهب الشباب فما أعجب، وماتت عزة فما أطرب، ومات ابن ابي ليلى فما أرغب، يريد عبد العزيز بن مروان. وقالوا: أشعر الناس النابغة إذا رهب، وزهير إذا غضب، وجرير إذا رغب. وقال عمرو بن هند لعبيد بن الأبرص، ولقيه في يوم بؤسه: أنشدني من شعرك. قال: حال الجريض «1» دون القريض. وقد يمتنع الشعر على قائله ولا يسلس حتى يبعثه خاطر أو صوت حمامة. وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند الناس، وقد يأتي عليّ الحين وقلع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر. وقال الراجز: إنما الشعر بناء ... يبتنيه المبتنونا فإذا ما نسّقوه ... كان غثا أو سمينا ربما واتاك حينا ... ثم يستصعب حينا وأسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكرى «2» ، وأول النهار قبل الغذاء وعند مناجاة النفس واجتماع الفكر، وأقوى ما يكون الشعر عندي على قدر قوة أسباب الرغبة والرهبة. قيل للخريمي: ما بال مدائحك لمحمد بن منصور أحسن من مراثيك قال: كنا حينئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون «3» بعيد.

من رفعه المدح ووضعه الهجاء

والدليل على صحة هذا المعنى وصدق هذا القياس، أن كثيّر عزة والكميت بن زيد كانا شيعيّين غاليين، في التشيّع، وكانت مدائحهما في بني امية أشرف وأجود منها في بني هاشم، وما لذلك علة الا قوة أسباب الطمع. وقيل لكثير عزة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع «1» المحيلة والرياض المعشبة، فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني، فروّح قلبك، وأجمّ ذهنك، وارتصد لقولك فراغ بالك وسعة ذهنك، فإنك تجد في تلك الساعة ما يمتنع عليك يومك الأطول وليلك الأجمع. من رفعه المدح ووضعه الهجاء جرير وابنه قال بلال بن جرير: سألت أبي جريرا فقلت له: إنك لم تهج قوما قط الا وضعتهم غير بني لجأ! قال: يا بني إني لم أجد شرفا فأضعه، ولا بنأ فأهدمه. وقد يكون الشيء مدحا فيجعله الشعر ذمّا، ويكون ذما فيجعله الشعر مدحا. قال حبيب الطائي في هذا المعنى: ولولا خلال سنّها الشّعر مادري ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضى بما يقضي به وهو ظالم ألا ترى إلى بني عبد المدان الحارثيين كانوا يفخرون بطول أجسامهم وقديم شرفهم حتى قال فيهم حسان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير «2» فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تركتنا ونحن نستحي من ذكر اجسامنا بعد ان كنا نفخر بها! فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:

الأعشى والمحلق

وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعدّ ذي بيان كأنك أيها المعطى لسانا ... وجسما من بني عبد المدان وكان بنو حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب يقال لهم بنو أنف الناقة يسبّون بهذا الاسم في الجاهلية، وسبب ذلك أن أباهم نحر جزورا وقسم اللحم، فجاء حنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيا، فجعل يجرّه، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلقّب به، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحطيئة: سيري أمام فإنّ الأكثرين حصى ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبا قوم هم الانف والاذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا فعاد هذا الاسم فخرا لهم وشرفا فيهم. جرير وبنو نمير وكان بنو نمير أشراف قيس وذوائبها حتى قال جرير فيهم: فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا «1» فما بقي نميريّ إلا طأطأ رأسه. وقال حبيب: فسوف يزيدكم ضعة هجائي ... كما وضع الهجاء بني نمير الأعشى والمحلق وقد كان المحلق بن حنتم بن شدّاد خاملا لا يذكر، حتى طرقه الأعشى في فتية وليس عنده إلا ناقة، فأتى أمّه فقال: إنّ فتية طرقونا الليلة. فإن رأيت أن تأذني في نحر الناقة! قالت: نعم يا بني. فنحرها واشترى لهم ببعض لحمها شرابا، وشوى لهم بعض لحمها، فأصبح الاعشى ومن معه غادين، فلم يشعر المحلّق حتى أتته القصيدة التي أوّلها: أرقت وما هذا السّهاد المؤرّق ... وما بي من سقم وما بي معشق

ما يعاب من الشعر وليس بعيب

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في بقاع تحرّق «1» تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار النّدى والمحلق «2» رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرّق «3» ترى الجود يسري سائلا فوق وجهه ... كما زان متن الهندو انّي رونق فلما أتته القصيدة جعلت الاشراف تخطب اليه، ويقول القائل: وبات على النار الندى والمحلق وقوله: «تقاسما بأسحم داج» ، يقول: تحالفا على الرماد، وهذا شيء تفعله الفرس لئلا يفترقوا أبدا. والعوض: الدهر. ما يعاب من الشعر وليس بعيب لحماد قال الاصمعي: سمعت حماد الراوية وأنشد رجل بيتا لحسان: يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل «4» فقال: ما يعرف هذا الا في كلاب الحانات. وأنشده آخر قول الشاعر: لمن منزل بين المذانب والجسر «5» فقال: ما يعرف هذا الا دار الياسيريين «6» .

بيت للفرزدق

بيت للفرزدق ومما يعاب من الشعر وليس بعيب قول الفرزدق: أيابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس الورد فقال من جهل المعنى ولم يعرف الخبر [لم يدرك] ما في هذا من المدح: ان يمدح رجلا بلباس البردين وركوب فرس ورد، إنما معناه: ما قال ابو عبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان، فأخرج إليهم بردي محرّق، وقال: ليقم اعز العرب قبيلة فليلبسهما. فقام عامر بن احيمر بن بهدلة فاتّزر بأحدهما وتردّى بالآخر، فقال له النعما: أنت اعز العرب قبيلة؟ قال: العز والعدد من العرب في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني «1» ، فسكت الناس، فقال النعمان. هذه [حالك في] عشيرتك فكيف أنت كما تزعم في نفسك وأهل بيتك؟ فقال: أنا ابو عشرة، وعم عشرة، وخال عشرة، وأمّا انا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وضع قدمه في الارض، وقال: من أزالها فله مائة من الابل! فلم يتعاط ذلك احد، فذهب بالبردين، فسمى ذا البردين، وفيه يقول الفرزدق: فما تمّ في سعد ولا آل مالك ... فلام إذا سيل لم يتبهدل لهم وهب النعمان بردى محرّق ... لمجد معدّ والعديد المحصّل بيت للأعشى ومما يعاب من الشعر وليس بعيب، قول الاعشى في فرس النعمان، وكان يسمى اليحموم: ويأمر لليحموم كل عشية ... بقتّ وتعليق فقد كاد يسنق «2» فقالوا: ما يمدح به أحد من السوقة فضلا عن الملوك: ان يقوم بفرس ويأمر له

بيت لزهير

بالعلف حتى كاد يسنق. وليس هذا معناه، وإنما المعنى فيه ما قال أبو عبيدة: أن ملوك العرب بلغ من حزمها ونظرها في العواقب ان احدهم لا يبيت الا وفرسه موقوف بسرجه ولجامه بين يديه قريبا منه، مخافة عدو يفجؤه أو حالة تصعب عليه، فكان للنعمان فرس يقال له اليحموم، فيتعاهده كل عشية، وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأفنية البيوت. بيت لزهير ومما عابوه وليس بعيب، قول زهير: قف بالدّيار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرياح والدّيم «1» فنفى ثم حقق في معنى واحد، فنقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لانه زعم ان الديار لم يعفها القدم، ثم انه انتبه من مرقده فقال: بلى، عفاها وغيّرها أيضا الارياح والديم! وليس هذا معناه الذي ذهب اليه، وإنما معناه أن الديار لم تعف في عينه، من طريق محبته لها وشغفه بمن كان فيها. بيت لبعض الشعراء وقال غيره في هذا المعنى ما هو أبين من هذا، وهو: ألا ليت المنازل قد بلينا ... فلا يرمين عن شزر حزينا «2» فقوله: ألا ليت المنازل قد بلينا. أي. بلى ذكرها، ولكنها تتجدّد على طول البلى بتجدّد ذكرها. وقال الحسن بن هانىء: في هذا المعنى فلخصه وأوضحه وشنّفه «3» وقرّطه حيث يقول:

مروان وابن يزيد

لمن دمن تزداد طول نسيم ... على طول ما أقوت وحسن رسوم «1» تجافي البلى عنهم حتى كأنما ... لبسن على الاقواء ثوب نعيم «2» مروان وابن يزيد ومما عيب من الشعر بعيب، ما يروى عن مروان بن الحكم أنه قال لخالد بن يزيد ابن معاوية وقد استنشده من شعره فأنشده: فلو بقيت خلائف آل حرب ... ولم يلّبسهم الدهر المنونا لأصبح ماء أهل الارض عذبا ... وأصبح لحم دنياهم سمينا فقال له مروان: «منونا» و «سمينا» والله إنها لقافية ما اضطرّك إليها الا العجز. وهذا مما لا عجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر، وما أرى العيب فيه إلا على ما رآه عيبا، لأن الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كلّها قديمها وحديثها، قال عبيد ابن الابرص: وكلّ ذي غيبة ينوب ... وغائب الموت لا يئوب «3» من يسال الناس يرموه ... وسائل الله لا يخيب ومثله من المحدثين: أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير بيت لذي الرمة ومما عيب من الشعر وليس بعيب. قول ذي الرمة: رأيت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح: انتجعي بلالا «4» ولما أنشد هذا الشعر بلال بن ابي بردة قال: يا غلام مر لصيدح بقتّ وعلف،

فإنها هي انتجعتنا. وهذا من التعنّت الذي لا انصاف معه، لان قوله: انتجعي بلالا، إنما اراد نفسه، ومثله في كتاب الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها «1» ، وإنما أراد أهل القرية وأهل العير. وكان عمر بن الخطاب يقول في بعض ما يرتجز به من شعره: إليك يعدو قلعا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها «2» فجعل الدين للناقة، وإنما اراد صاحب الناقة. ولم تزل الشعراء في أماديحها تصف النوق وزيارتها لمن تمدحه، ولكن من طلب تعنتا وجده، أو تجنيا على الشاعر أدركه عليه، كما فعل صريع الغواني بالحسن ابن هانىء حين لقيه، فقال له: ما يسلم لك بيت عندي من سقط! قال: فأي بيت أسقطت فيه، قال: أنشدني أي بيت شئت. فأنشده: ذكر الصّبوح بسحرة فارتاحا ... وأملّه ديك الصّباح صباحا فقال له: قد ناقضت في قولك، كيف يمله ديك الصباح صياحا، وإنما يبشره بالصبوح الذي ارتاح له! فقال له الحسن: فأنشدني أنت. من قولك. فأنشده: عاصى العزاء فراح غير مفنّد ... وأقام بين عزيمة وتجلّد قال له: قد ناقضت في قولك، إنك قلت: عاصى العزاء فراح غير مفند ثم قلت: وأقام بين عزيمة وتجلد فجعلته رائحا مقيما في مقام واحد، والرائح غير المقيم. والبيتان جميعا مؤتلفان، ولكن من طلب عيبا وجده.

بيت للمرقش

بيت للمرقش ومما عابه ابن قتيبة وليس بعيب، قول المرقش الاصغر: صحا قلبه عنها على أنّ ذكرها ... إذا ذكرت دارت به الأرض قائما فقال له: كيف يصحو من كانت هذه صفته. والمعنى صحيح، وإنما ذهب إلى أن حاله هذه، على ما تقدم من سوء حاله، حال صحو عنده، ومثل هذا في الشعر كثير، لأن بعض الشر أهون من بعض. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمه أبي طالب: إنه أخف الناس عذابا يوم القيامة، يحذى نعلين من نار يغلي منهما دماغه! وهذا من العذاب الشديد، وإنما صار خفيفا عند ما هو أشد منه، فزعم المرقّش أنه عند نفسه صاح. إذ تبدّل حاله أسهل مما كان فيه. بيت لابن هانىء وقد عاب الناس قول الحسن بن هانيء: وأخفت أهل الشّرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التي لم تخلق فقالوا: كيف تخافه النطف التي لم تخلق؟ ومجاز هذا قريب إذا لحظ أن من خاف شيئا خافه بجوارحه وسمعه وبصره ولحمه وروحه، والنطف داخلة في هذه الجملة، فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النطف التي في أصلابها. وقال الشاعر: ألا ترثي ... يحبّك لحمه ودمه وقال المكفوف: أخبّكم حبّا على الله أجره ... تضمّنه الأحشاء واللحم والدم العتابي ومنصور النميري ولقى العتابي منصورا النميري، فسأله عن حاله فقال: إني لمدهوش «1» : وذلك أني

تقبيح الحسن وتحسين القبيح

تركت امرأتي وقد عسر عليها ولادها. فقال له العتابي: ألا أدلك على ما يسهّل عليها! قال: وما هو؟ قال: اكتب على رحمها: «هارون» . قال: وما معناك في هذا؟ قال: ألست القائل فيه: إن أخلف القطر لم تخلف مواهبه ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع فقال: أبا لخلفاء تعرّض وفيهم تقع وإياهم تعيب؟ فيقال إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العتابي، فكتب إلى عبد الصمد عمه يأمره بقتله. فكتب إليه عبد الصمد يشفع له، فوهبه له. تقبيح الحسن وتحسين القبيح سئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس؟ قال: الذي يصوّر الباطل في صورة الحق، والحقّ في صورة الباطل، بلطف معناه، ودقة فطنته، فيقبّح الحسن الذي لا أحسن منه، ويحسّن القبيح الذي لا أقبح منه. فمن تحسين القبيح قول الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بدر. الله أعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّي مشهدي فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مرصد «1» وهذا الذي سمعه صاحب رتبيل فقال: يا معشر العرب، حسّنتم كل شيء فحسن حتى الفرار ومن تقبيح الحسن قول بشار العقيلي في سليمان بن علي وكان وصل رجلا فأحسن: يا سوأة يكثر الشيطان ما ذكرت ... منها التّعجّب جاءت من سليمانا لا تعجبنّ لخير زلّ عن يده ... فكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا «2» وقال غيره في تقبيح الحسن:

يقولون لي إن بخيل بنائلي ... وللبخّل خير من سؤال بخيل وقال المتلمس في تقبيح الحسن: وحبس المال خير من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وقال محمود الوراق في تحسين القبيح: يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكبر لو تعتبر «1» من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحّ منك النظر أنك تعصي كي تنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر!! ومن تحسين القبيح أنه قيل لجذيمة الأبرص: ما هذا الوضح «2» الذي بك؟ قال: سيف الله الذي جلاه. وقال ابن حسان وكان به برص: لا تحسبنّ بياضا فيّ منقصة ... إنّ اللهاميم في أقرابها بلق «3» وقال محمود الورّاق يمدح الشيب: وعائب عابني بشيبي ... لم يعد لما ألمّ وقته فقلت للعائبي بشيبي: ... يا عائب الشيب لا بلغته وقال آخر: يقولون هل بعد الثلاثين ملعب؟ ... فقلت: وهل قبل الثلاثين ملعب؟ لقد جلّ قدر الشيب إن كان كلّما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب

الاستعارة

وقال أعرابي في عجوز: أبى القلب إلا أمّ عمرو وحبّها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفنّد «1» كبرد يمان قد تقادم عهده ... ورقعته ما شيب في العين واليد «2» وقال بشار العقيلي في سوداء: أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنّكما من طينة واحده الاستعارة لم تزل الاستعارة قديما تستعمل في المنظوم والمنثور، وأحسن ما تكون أن يستعار المنثور من المنظوم، والمنظوم من المنثور، وهذه الاستعارة خفية لا يؤبه بها لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال، وأكثر ما يجتلبه الشعراء، ويتصرف فيه البلغاء، إنما يجري فيه الآخر على السنن الأول، وأقل ما يأتي لهم معنى لم يسبق إليه أحدا، إما في منظوم وإما في منثور، لأن الكلام بعضه من بعض، ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للأخر شيئا. ألا ترى أن كعب بن زهير، وهو في الرعيل الأول والصدر المتقدم، قد قال في شعره: ما أرانا نقول إلا معارا ... أو معادا من قولنا مكرورا ولكن قولهم: إن الآخر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يحسّنه ويقرّبه ويوضحه فهو أولى به من الأول، وذلك كقول الأعشى: وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانيء فحسنه وقرّبه إذ قال: دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الدّاء

وقال القطامي: والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي، ولأمّ المخطيء الهبل «1» أخذه من قول المرقّش: ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما وقال قيس بن الخطيم: تبدّت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب «2» أخذه بعض المحدثين فقال: فشبهتها بدرا بدا منه شقّه ... وقد سترت خدا فأبدت لنا خدّا وأذرت على الخدّين دمعا كأنه ... تناثر درّ أو ندى واقع الوردا «3» وأخذه آخر فقال: يا قمرا للنّصف من شهره ... أبدى ضياء لثمان بقين وأخذه بشار فقال: صدت نجدّ وجلت عن خدّ ... ثمّ انثنت كالنّفس المرتدّ فلم يفسد الآخر قول الأول، ولم يكن الأول بالمعنى أولى من الآخر. وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله، وهو قولي: كأنّ التي يوم الوداع تعرّضت ... هلال بدا محقا على أنه تمّ «4» وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم، ومن المنظوم في المنثور، فإنها أحسن استعارة.

الرشيد وسهل:

الرشيد وسهل: دخل سهل بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون، فقال سهل: اللهم زده من الخيرات، وابسط له من البركات، حتى يكون بكل يوم من أيامه موفيا على أمسه، مقصرا عن غده! فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أفصحه ومن الحديث أوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه! قال: يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحدا سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلى سبقك أعشى همدان، حيث يقول: رأيتك أمس خير بني معدّ ... وأنت اليوم خير منك أمس وأنت غدا تزيد الضّعف خيرا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس وقد يكون مثل هذا وما أشبهه عن موافقة. وقد سئل الأصمعي عن الشاعرين يتفقان في المعنى الواحد ولم يسمع أحدهما قول صاحبه فقال: عقول الرجال توافت «1» على ألسنتها. اختلاف الشعراء في المعنى الواحد وقد تختلف الشعراء في المعنى الواحد، وكل واحد منهم محسن في مذهبه جار في توجيهه، وإن كان بعضه أحسن من بعض. ألا ترى أن الشماخ بن ضرار يقول في ناقته: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين «2» وقال الحسن بن هانيء في ضد هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمين: فإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرجال حرام وقال أيضا:

أقول لناقتي إذا أبلغتني ... لقد أصبحت مني باليمين فلم أجعلك للعربان نحلا ... ولا قلت اشرقي بدم الوتين «1» فقد عاب بعض الرواة قول الشماخ، واحتجّ في ذلك بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم [وقالت] : إني نذرت يا رسول الله إن نجاني الله عليها أن أنحرها. قال: «بئسما جزيتيها! ولا نذر لأحد في ملك غيره» . وقد قالت الشعراء، فلم تزل تمدح حسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب قال الفرزدق: بنو دارم قومي، ترى حجزاتهم ... عتاقا حواشيها رقاقا نعالها «2» يجرّون هدّاب اليمان كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها وأول من سبق إلى هذا المعنى النابغة الذبياني في قوله: رقاق النّعال طيّب حجزاتهم ... يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب «3» وقال طرفة: ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحقون الأرض هدّاب الأزر وقال كثير عزة في إسبال الذيول يمدح بني أمية: أشم من الغادين في كلّ حلة ... يميسون في صبغ من العصب متقن لهم أزر حمر الحواشي بطونها ... بأقدامهم في الحضرميّ الملسّن «4» وقال فيه أيضا: إذا حلل العصب اليماني أجادها ... أكف أساتيذ على النسج درّب

أتاهم بها الجابي فراحوا عليهم ... تمائم من فضفاضهنّ المكعّب «1» لها طرر تحت البنائق أدنيت ... إلى مرهفات الحضرميّ المعقرب «2» وقال آخر: معي كل فضفاض القميص كأنه ... إذا ما سرت فيه المدام فنيق «3» وخالفهم فيه صريع الغواني فقال: لا يعبق الطيب خدّيه ومفرقه ... ولا يمسّح عينيه من الكحل وقال دريد بن الصّمّة يرثي أخاه عبد الله بن الصّمة ويصفه بتشمير الثوب: كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد من السّوءات طلّاع أنجد مثل قول الحجاج: أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «4» وقد يحمل معناهم في تشمير الثوب وسحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يستحسن بعضهم ما يستقبح بعض، والوجه الثاني يشبه أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع كما قال عمرو بن معديكرب: فيوما ترانا في الخزور نجرّها ... ويوما ترانا في الحديد عوابسا «5» ويوما ترانا في الثريد ندوسه ... ويوما ترانا نكسر الكعك يابسا «6» وقال أعشى بكر لعمرو بن معديكرب:

وإذا تجيء كتيبة مكروهة ... ملمومة يخشى الكماة نزالها «1» كنت المقدّم غير لابس جبّة ... بالسيف تضرب معلما أبطالها وقال مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد خلاف هذا كلّه، وهو: تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل ولما أنشده يزيد بن مزيد قال له: ألا قلت كما قال الأعشى. فأنشده البيتين، فقال: قولي أحسن من قوله، إنه وصفه بالخرق، وأنا وصفتك بالحزم. وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسن شيء مدحت به؟ قال: قول الشاعر: أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين ترجّي أو لأذن تسمّع من النّفر الشيم الذين إذا اعتزوا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا «2» جلا الإذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيّب دهنا رأسه فهو أنزع «3» إذا النّفر السّود اليمانون حاولوا ... له حول برديه أدقّوا وأوسعوا فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول قبيس بن الأسلت: قد حصّت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع «4» أسعى على جل بني مالك ... كل امريء في شأنه ساعي وقال بعضهم: سألت المحبّين الذين تحمّلوا ... تباريخ هذا الحبّ في سالف الدهر «5» فقالوا: شفاء الحبّ حبّ يزيله ... لأخرى، وطول للتمادي على الهجر

وقال الحمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه، وهو قوله: زعموا أنّ من تشاغل بالحبّ سلا عن حبيبه وأفاقا كذبوا، ما كذا بلونا ولكن ... لم يكونوا فيما أرى عشّاقا كيف أسلو بلذّة عنك والّلذّات يحدثن لي إليك اشتياقا كلما رمت سلوة تذهب الحر ... قة زادت قلبي عليك احتراقا «1» وقال كثيّر عزّة: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لي ليلي بكلّ سبيل!. وقال بعض الناس: إن كان يحبها فلماذا ينسى ذكرها؟ ألا قال كما قال مجنون بني عامر: فلا خفّف الرحمن ما بي من الهوى ... ولا قطع الرحمن عن حبّها قلبي فما سرّني أني خليّ من الهوى ... ولو أنّ لي ما بين شرق إلى غرب وذهب أكثرهم أن بعد العهد يسلي المحب عن حبيبه، وقالوا فيه: إذا ما شئت أن تسلو حبيبا ... فأكثر دونه عدد الليالي وقال العباس بن الأحنف: إذا كنت لا يسليك عمن تحبّه ... تناء ولا يشفيك طول تلاق «2» فما أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق وقال كثير عزة: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد «3» ومثله قول بشار: من حبّها أتمنى أن يلاقيني ... من نحو بلدتها ناع فينعاها!

كيما أقول: فراق لا لقاء له ... وتضمر النّفس يأسا ثم تسلاها وهذه المذاهب كلها خارجة في معناها، جارية في مجراها. وقال عبد الله بن جندب: ألا يا عباد الله، هذا أخوكم ... قتيلا فهل منكم له اليوم واتر خذوا بدمي إن متّ كلّ خريدة ... مريضة جفن العين والطّرف ساهر «1» وقال صريع الغواني في ضد هذا: أديرا عليّ الرّاح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي «2» وقول عبد الله بن جندب أحسن في هذا المعنى، لأنه إنما أراد أن يدل على موضع ثأره واسم قاتله، ولم يرد الطلب بالثأر، ولأنه لا ثأر له. وقد قال عبد الله بن عباس، ونظر إلى رجل مدنف «3» عشقا: هذا قتيل الحب. لا عقل ولا قود «4» . وقال الفرزدق وأراد مذهب ابن جندب فلم تؤاته رقة الطبع، فخرج إلى جفاء القول وقبحه فقال: يا أخت ناجية بن سامة إنني ... أخشى عليك بنيّ إن طلبوا دمي لن يتركوك وقد قتلت أباهم ... ولو ارتقيت إلى السماء بسلّم وقال ابن أخت تأبط شرا يرثي خاله وقتلته هذيل: شامس في القرّ حتى إذا ما ... ذكت الشّعرى فبرد وظلّ «5» ظاعن بالحزم حتى إذا ما ... حلّ حلّ الحزم حيث يحلّ

أخذ معنى البيت الأوّل أعرابي فسهل معناه وحسن ديباجته، فقال: إذا نزل الشتاء فأنت شمس ... وإن نزل المصيف فأنت ظلّ وأخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانيء فقال في الخصيب: فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير وقالوا في الخيال فحيّوه ورحّبوا به. فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة: طرقتك زائرة فحيّ خيالها وقال: طرق الخيال فحيّه بسلام وعلى هذا بنيت أشعارهم، وخالفهم جرير فطرد الخيال، فقال: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام وأوّل من طرد الخيال طرفة فقال: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل وأعجب من هذا قول الراعي الذي هجا الخيال فقال: طاف الخيال بأصحابي فقلت لهم ... أأمّ شذرة زارتني أم الغول لا مرحبا بابنة الأقيال إذ طرقت ... كأن محجرها بالفار مكحول «1» وقد يختلف معنى الشاعر أيضا في شعر واحد يقوله، ألا ترى أنّ امرأ القيس قال في شعره: وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل «2»

فوصف نفسه بالصبر والجلد والقوّة على التهالك، ثم أدركته الرقة والاشتياق في البيت الذي بعده: أغرّك مني أنّ حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل مستدركا قوله في البيت الأول: فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل ولم يزل من تقدّم من الشعراء وغيرهم مجمعين على ذمّ الغراب والتشاؤم به، وكان اسمه مشتقا من الغربة، فسموه غراب البين، وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوت «1» من أهلها، وخالفهم أبو الشّيص فقال ما هو أحسن من هذا وأصدق من ذلك كله، قوله: ما فرّق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل والناس يلحون غرا ... ب البين لمّا جهلوا «2» وما إذا صباح غراب ... ب في الديار احتملوا وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل وما غراب البين إلّا ... ناقة أو جمل وقال آخر في هذا المعنى وذكر الإبل: لهنّ الوجى إذ كنّ عونا على النّوى ... ولا زال منها ظالع وكسير «3» وما الشؤم في نعب الغراب ونعقه ... وما الشؤم إلا ناقة وبعير ومن قولنا في هذا المعنى: نعب الغراب فقلت أكذب طائر ... إن لم يصدّقه رغاء بعير ردّ الجمال هو المحقّق للنّوى ... بل شرّ أخلاس لهنّ وكور «4»

وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء، منفرد في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تشبيهه، كقول جعفر بن جدار كاتب ابن طولون: كم بين باري وبين بمّا ... وبين بون إلى دمّما «1» من رشإ أبيض التراقي ... أغيد ذي غنّة أحمّا «2» وطفلة رخصة المرائي ... ليست تحلّى ولا تسمّى إلا وسلك من اللآلي ... يعجز من يخرج المعمّى صغرى وكبرى إلى ثلاث ... مثل التّعاليل أو أتما وكم ببمّ وأرض بمّ ... وكم برمّ وأرض رمّا «3» من طفلة بضّة لعوب ... تلقاك بالحسن مستتما منهنّ ريّا وكيف ريّا ... ريّا إذا لاقت المشما لو شمّها طائر بدوّ ... لخرّ في الترب أو لهمّا تسحب ثوبين من خلوق ... قد أفنيا زعفران قمّا «4» كأنما جلّيا عليها ... من طيب ما باشرا وشمّا فألفيا زعفران قمّ ... فانغمسا فيه واستحما فهي نظير اسمها المعلّى ... يفوح لا مرطها المدمّا «5» هيهات يا أخت أهل بمّ ... غلطت في الاسم والمسمّى لو كان هذا وقيل سمّ ... مات إذا من يقول سمّا قد قلت إذ أقبلت تهادى ... كطلعة البدر أو أتما تومي بأسروعة وتخفي ... بالبرد مثل القداح حمّا «6»

لو كنت ممّن لكنت ممّا ... لكني قد كبرت عمّا ... عاتبني الدهر في عذاري ... بأحرف فارعويت لمّا «1» قوّس ما كان مستقيما ... وابيضّ ما كان مدلهمّا وكيف تصبوا الدّمى إلى من ... كان أخا ثم صار عمّا لي عنك يا أخت أهل بمّ ... شغل بما قد دنا مهما فلست من وجهك المفدّى ... ولست من قدّك المحمّى أذهلني عنك خوف يوم ... يحيا له كلّ من ألما ما كسبته يداي وهنا ... خيرا وشرّا أصبت ثما تحشر فيه الجنان زقّا ... وتحشر النار فيه زمّا «2» تقول هذي لطالبيها ... هيت وهذي لهم هلمّا نفسي أولى بأن أذمّا ... من أمرها كلّ ما استذمّا يا نفس كم تخدعين عما ... بلبس داج وأكل لما «3» رعيت من ذي الحطام مرعى ... جمعت أكلا له وذمّا ويحك فاستيقظي ليوم ... يحيا له كلّ من أرمّا «4» ألم تري يونس بن عبد الأ ... على غدا صامتا فصما في حفرة ما يحير حرفا ... قد دكّ من فوقها وطما والمزنيّ الذي إليه ... نعشو إذا دهرنا ادهما «5» أخفى فؤادي له عزائي ... لكن زفيري عليه نما كأنما خوّفا فخافا ... أو حذّرا غاشما فصما أقبل سهم من الرزايا ... فخصّ أعلامنا وعما

دكدك منا ذرا جبال ... شامخة في السماء شما «1» وخصّنا دون من عليها ... وزاد هما بنا وغما قد قرب الموت يا بن أمّا ... فبادر الموت يا بن أمّا واعلم بأن من عصاك جهلا ... من التّقي لم يطعك هما «2» هو الهدى والرّدى فإمّا ... أتيت آتي الرّدى وإمّا «3» هأنذا فاعتبر بحالي ... في طبق موصد معمّى قد أسكنتني الذنوب بيتا ... يخاله الإلف مستحمّا فهل إلى توبة سبيل ... تكون فيها الهموم هما فتشكر الله لا سواه ... لعلّ نعماه أن تتمّا يا نفس جدّي ولا تميلي ... فأفضل البرّ ما استتما أو ابحثي عن فل ابن فلّ ... تريه تحت التراب رمّا لبئس عبد يروح بغيا ... مع المساوي تراه دوما في غمرة العيش لا يبالي ... أحمده الجار أم أدمّا كم بين هذا وبين عبد ... يغدو خميص الحشى هضما «4» يقطع آناءه صلاة ... ودهره بالصلاح صوما «5» إن بهذا الكلام نصحا ... إن لم يواف القلوب صما يا ربّ لي ألف ألف ذنب ... إن تعف يا ربّ فاعف جما فابرد بعفو غليل قلب ... كأنّ فيه رسيس حمّى «6» وقال الغزال: لعمرى ما ملّكت مقودي الصّبا ... فأمطو للذات في السهل والوعر «7»

ولا أنا ممن يؤثر اللهو قلبه ... فأمسي في سكر وأصبح في سكر ولا قارع باب اليهوديّ موهنا ... وقد هجع النّوام من شهوة الخمر وأوتغه الشيطان حتى أصاره ... من الغيّ في بحر أضل من البحر «1» أغذّ السّرى فيها إذا الشّرب أنكروا ... ورهني عند العلج ثوبي من الفجر «2» كأني لم أسمع كتاب محمد ... وما جاء في التنزيل فيه من الزجر كفاني من كل الذي اعجبوا به ... قليلة ماء تستقي لي من النهر ففيها شرابي إن عطشت وكل ما ... يريد عيالي للعجين وللقدر بخبز وبقل ليس لحما وانني ... عليه كثير الحمد لله والشكر فيا صاحب اللّحمان والخمر هل ترى ... بوجهي إذا عاينت وجهي من ضرّ «3» وبالله لو عمّرت تسعين حجة ... إلى مثلها ما اشتقت فيها إلى خمر ولا طربت نفسي إلى مزهر ولا ... تحنّن قلبي نحو عود ولا زمر وقد حدّثوني أن فيها مرارة ... وما حاجة الإنسان في الشرب للمرّ أخي عدّ ما قاسيته وتقلبت ... عليك به الدنيا من الخير والشر فهل لك في الدنيا سوى الساعة التي ... تكون بها السراء او حاضر الضر فما ساق منها لا يحس ولا يرى ... وما لم يكن منها عميّ عن الفكر فطوبى لعبد اخرج الله روحه ... إليه من الدنيا على عمل البر ولكنني حدّثت أنّ نفوسهم ... هنالك في جاه جليل وفي قدر وأجسادهم لا يأكل الترب لحمها ... هنالك لا تبلى الى اخر الدهر وقال أيضا: كتبت وشوق لا يفارق مهجتي ... ووجدي بكم مستحكم وتذكري «4»

بقرطبة قلبي وجسمي ببلدة ... نأيت بها عن أهل ودّي ومعشري «1» سقى الله من مزن السحائب ثرّة ... دياركم اللاتي حوت كل جؤذر «2» بحق الهوى أقر السلام على التي ... اهيم بها عشقا إلى يوم محشري لئن غبت عنها فالهوى غير غائب ... مقيم بقلب الهائم المنفطر كأن لم أبت في ثوبها طول ليلة ... إلى أن بدا وجه الصباح المنوّر وعانقت غصنا فيه رمّان فضّة ... وقبلت ثغرا ريقه ريق سكر أأنسى ولا أنسى عناقك خاليا ... وضمّي ونقلي نظم درّ وجوهر فواحزني أن فرّق الدهر بيننا ... وكدّر وصلا منك غير مكدّر لقد غرّرت نفسي بحبك ضلة ... ولو علمت عقبى الهوى لم تغرّر «3» بكيت فما أغنى البكا عند صحبتي ... وشوقي إلى رئم من الإنس أحور «4» سلام سلام ألف ألف يكرر ... ويا حاملا عني الرسالة كرّر ألا يا نسيم الريح بلّغ سلامنا ... وصف كلّ ما يلقى الغريب وخبّر وقل لشعاع الشمس بلّغ تحيتي ... سميّك واقرأها على آل جعفر وقال أيضا: أقر السلام على إلف كلفت به ... قدرمت صبرا وطول الشوق لم يرم ظبي تباعد عن قربي وعن نظري ... فالنفس والهة من شدة الالم كنا كروحين في جسم غذاؤهما ... ماء المحبة من هام ومنسجم إلفين هذا بهذا مغرم كلف ... لا واحد في الهوى منا بمتّهم «5» لله تلك الليالي والسرور بها ... كأنما أبصرتها العين في الحلم ففرق الدهر شملا كان ملتئما ... منا وجمّع شملا غير ملتئم

ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام

ما زلت أرعى نجوم الليل طالعة ... أرجو السلوّ بها إذ غبت عن نجمي نجم من الحسن ما يجري به فلك ... كأنه الدر والياقوت في النظم ذاك الذي حاز حسنا لا نظير له ... كالبدر نورا علا في منزل النعم وقد تناظر والبرجيس في شرف ... وقارن الزّهرة البيضاء في توم «1» فذاك يشبهه في حسن صورته ... وذا يزيد بخط الشعر والقلم أشكو إلى الله ما ألقى لفرقته ... شكوى محب سقيم حافظ الذمم لو كنت أشكو إلى صمّ الهضاب إذا ... تفطرت للذي أبديه من ألم يا غادرا لم يزل بالغدر مرتديا ... أين الوفاء أبن لي غير محتشم إن غاب جسمك عن عيني وعن نظري ... فما يغيب عن الأسرار والوهم إني سأبكيك ما ناحت مطوّقة ... تبكي أليفا على فرع من النّشم «2» ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام قال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يبح للمتكلم، من قصر الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، وصرف ما لا ينصرف، وحذف الكلمة ما لم تلتبس بأخرى، كقولهم: فل، من فلان، وحم، من حمام. قال الشاعر: وجاءت حوادث من مثلها ... يقال لمثلك: ويها فل وقال مسلم بن الوليد: سل الناس إني سائل الله وحده ... وصائن وجهي عن فلان وعن فل وقال آخر: دعاء حمامات تجاوبها حم

ومن المحذوف أيضا قول الشاعر: «1» لها أشارير من لحم تتمّره ... من الثّعالي ووخز من أرانيها «2» يريد «من الثعالب» . ومثله قول الشاعر: ولضفادي جمّة نقانق يريد «الضفادع» . ومن المحذوف قول كعب بن زهير: ويلمها خلة لو أنها صدقت ... في وعدها أو لو انّ النّصح مقبول يريد: ويل لأمها. ومنه قولهم: لاه أبوك، يريدون: لله أبوك. وقال الشاعر: لاه ابن عمّك لا يخا ... ف المبديات من العواقب وكذلك الزيادة أيضا إذا احتاجوا إليها في الشعر، فمن ذلك قول زهير: ثم استمرّوا وقالوا إنّ موعدكم ... ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك «3» قال الاصمعي: سألت نجيبات فيد عن ركك فقيل: ماء هاهنا يسمى ركّا، فعلمت أن زهيرا احتاج فضعّف. ومنه قول القطامي: وقول المرء ينفذ بعد حين ... مواضع ليس ينفذها الإبار «4» ومثله قولهم: كلكال، من كلل. ونظير هذا كثير في الشعر لمن تتبعه. وأما قصرهم الممدود فجائز في أشعارهم، ومدّ المقصور عندهم قبيح.

وقد يستجاد في الشعر على قبحه، مثل قول حسان بن ثابت: قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر وأنشد أبو عبيدة: يا لك من تمر ومن شيشاء ... ينشب في الحلق وفي اللهاء «1» فمدّ اللها، وهو جمع لهاة. كما قالوا: قطاة وقطا، ونواة ونوى. وأما تحريك الساكن وتسكين المتحرك، فمن ذلك قول لبيد بين ربيعة: ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النّفوس حمامها ومثله قول امرىء القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «2» وقال أمية بن ابي الصلت: تأبى فما تطلع لهم في وقتها ... إلا معذّبة وإلا تجلد ومن قولهم في تحريك الساكن: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسّوط قونس الفرس «3» وأما صرف ما لا ينصرف عندهم فكثير، والقبيح عندهم أن لا يصرف المنصرف، وقد يستجاد في الشعر على قبحه، قال عباس بن مرداس: وما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع ومن قولهم في تسكين المتحرّك وقد استشهد به سيبويه في كتابه: عجب الناس وقالوا ... شعر وضّاح اليماني

باب ما أدرك على الشعراء

إنما شعري قند ... قد خلط بجلجلان «1» ولو حرّك «خلط» اجتمع خمس حركات. باب ما أدرك على الشعراء قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أدركت العلماء بالشعر على امرىء القيس قوله: أغرك منّي أنّ حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل وقالوا: إذا لم يغرّ هذا فما الذي يغرّ؟ ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله حيث يقول: وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل لأنه ادعى في هذا البيت فضلا للتجلد وقوة الصبر بقوله: فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل وزعم في البيت الثاني أنه لا تحمّل فيه للصبر ولا قوة على التمالك بقوله: وأنك مهما تأمري القلب يفعل وأقبح من هذا عندي قوله: فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدّمقس المفتل «2» ومما ادرك على زهير قوله في الضفادع: يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا «3»

وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما ذلك لانهن يبتن في الشطوط. ومما أدرك على النابغة قوله يصف الثور: يحيد عن أستن سود أسافله ... مثل الإمإ الغوادي تحمل الحزما «1» قال الاصمعي: إنما توصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرواح لا بالغدوّ، لانهن يجئن بالحطب إذا رحن. قال الأخنس التغلبي: تظل بها ربد النّعام كأنها ... إماء يرحن بالعشيّ حواطب «2» وأخذ عليه «3» في وصف السيف قوله: يقدّ السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقد بالصفاح نار الحباحب «4» فزعم أنه يقدّ الدرع المضاعفة، والفارس، والفرس، ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة، وهذا من الإفراط القبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قوله: ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكة البرما «5» ومما أخذ عليه قوله: خطا طيف حجن في حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع فشبه نفسه بالدّلو، وشبه النعمان بخطاطيف حجن، يريد خطاطيف معوجة تمدّ بها الدلو. وكان الأصمعي يكثر التعجب من قوله: وغيّرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاك من عار

ومما أدرك على المتلمّس قوله: وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره ... بناج عليه الصّيعرية مكدم «1» والصيعرية: سمة النوق، فجعلها صفة للفحل، وسمعه طرفة وهو صبي ينشد هذا البيت، فقال: استنوق الجمل! فضحك الناس، وصارت مثلا. أخذ عليه أيضا قوله: أحارث انا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمسّ دم دما «2» وهذا من الكذب المحال. ومما أدرك على طرفة قوله: أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمون وطمر ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هدّاب الأزر فذكر أنهم يعطون إذا سكروا، ولم يشترط لهم ذلك إذا صحوا كما قال عنترة: وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي «3» ومما أدرك على عدي بن زيد قوله في صفة الفرس: فضاف يفرّي جلّه عن سراته ... يبذّ الجياد فارها متتابعا «4» ولا يقال للفرس فاره، وإنما يقال له جواد وعتيق، ويقال للبرذون والبغل والحمار: فاره. ومما أدرك عليه وصفه الخمر بالخضرة، ولا يعلم أحد وصفها بذلك، فقال:

والمشرف الهنديّ يسقى به ... أخضر مطموثا بمإ الخريص «1» ومما أدرك على أعشى بكر قوله: وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول «2» وهذه الالفاظ الاربعة في معنى واحد. ومما أدرك على لبيد قوله: ومقام ضيّق فرّجته ... بمقامي ولساني وجدل لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل فظن أن الفيّال أقوى الناس، كما أن الفيل أقوى البهائم. ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قوله يصف المرأة: لم تدر ما نسج اليرندج قبلها ... ودراس أعوص دارس متجدّد «3» اليرندج: جلود سود. فظن أنه شيء ينسج، ودراس أعوص: يريد انها لم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحيانا ويتبين احيانا. وقد اتى ابن احمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تعرف في كلام العرب: منها أنه سمى النار ماموسة، ولا يعرف ذلك، قال: كما تطايح عن ماموسة الشّرر وسمى حوار الناقة بابوسا، ولا يعرف ذلك، فقال: حنّت قلوصي إلى بابوسها جزعا ... فما حنينك أمّا أنت والذكر «4»

وفي بيت آخر يذكر فيه البقرة: ... وبنّس عنها فرقد خصر أي تأخر، ولا يعرف التبنس، وقال: وتقنّع الحرباء أرنته يريد مالفّ على الرأس، ولا تعرف الأرنة إلا في شعره. ومما أدرك على نصيب بن رباح قوله: أهيم بدعد ما حييت فإن امت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي تلهف على من يهيم بها بعده. ومما أدرك على الراعي قوله في المرأة: تكسو المفارق واللّبّات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافرو درّاج «1» أراد المسك، فجعله من قصب، والقصب: المعي فجعل المسك من قصب دابة تعتلف الكافور فيتولد عنها المسك. ومما أدرك على جرير قوله في بني الفدوكس رهط الاخطل: هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إليّ قطينا القطين في هذا الموضع: العبيد الإماء. وقيل له: أبا حزرة، ما وجدت في تميم شيئا تفخر به عليهم حتى فخرت بالخلافة؟ لا والله ما صنعت في هجائهم شيئا. ومما أدرك على الفرزدق قوله: وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا او مجلّف «2»

وقد أكثر النحويون الاحتيال لهذا البيت ولم يأتوا فيه بشيء يرضي ومثل ذلك قوله: غداة أحلّت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف والخمر «1» وكان حصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره، فقال: عبيطات السدائف. فنصب «عبيطات السدائف» ورفع «الخمر» . وإنما هي معطوفة عليها وكان وجهها النصب، فكأنه أراد: وأحلّت له الخمر. ومما أدرك على الأخطل قوله في عبد الملك بن مروان: وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبيض لا عاري الخوان ولا جدب «2» وهذا مما لا يمدح به خليفة. وأخذ عليه قوله في رجل من بني أسد يمدحه، وكان يعرف بالقين ولم يكن قينا، فقال فيه: نعم المجير سماك من بني أسد ... بالمرج إذا قتلت جيرانها مضر «3» قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طيّر عن أثوابه الشّرر وهذا مدح كالهاجاء. ومما أدرك على ذي الرّمة: تصغي إذا شدّها بالكور جارحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب «4» وسمعه اعرابي ينشده فقال: صرع والله الرجل! ألا قلت كما قال عمك الراعي:

وواضعة خدّها للزّما ... م فالخدّ منها له أصعر «1» فلا تعجل المرء قبل الرّكو ... ب وهي بركبته أبصر وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر ومما أدرك عليه أيضا قوله: حتى إذا دوّمت في الأرض راجعه ... كير ولو شاد نجّى نفسه الهرب قالوا: التدويم إنما يكون في الجوّ، يقال: دوم الطائر في السماء، إذا حلق واستدار، ودوّى في الأرض، إذا استدار فيها. ومما أدرك على أبي الطّمحان القيني قوله: لمّا تحمّلت الحمول حسبتها ... دوما بأيلة ناعما مكموما الدوم: شجر المقل، وهو لا يكمّ، وإنما يكم النخل «2» . ومما أخذ على العجاج قوله: كأنّ عينيه من الغئور ... قلتان أو حوجلتا قارور «3» صيّرتا بالنّضج والتصيير ... صلاصل الزيت إلى الشّطور الحوجلتان: القارورتان، جعل الزجاج ينضح ويرشح. ومما أدرك على رؤبة قوله: كنتم كمن أدخل في حجر يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرّة. وأخذ عليه في قوله في وصف الظليم: وكلّ زجّاء سخام الخمل ... تبري له في زعلات خطل»

فجعل للظليم عدّة إناث، كما يكون للحمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة. وأخذ عليه قوله يصف الراعي: لا يلتوي من عاطس ولا نغق «1» إنما هو النغيق والنّغاق وإنما يصف الرامي، وأدرك عليه قوله: أقفرت الوعثاء والعثاعث ... من أهلها والبرق البرارث «2» إنما هي البراث جمع برث، وهي الارض اللينة. وأدرك عليه قوله: يا ليتنا والدهر جري السّمّة انما يقال: السّمّهى: أي في الباطل وأخذ عليه قوله: أو فضة أو ذهب كبريت قال: فسمع بالكبريت أنه احمر فظنّ انه ذهب. ومما يستقبح من تشبيهه قوله في النساء: يلبسن من لين الثّياب نيما والنيم: الفرو القصير، وأخذ عليه قوله في قوائم الفرس: يهوين شتّى ويقعن وقفا وأنشده مسلم بن قتيبة، فقال له: أخطأت يا أبا الجحاف، جعلته مقيّدا. قال له رؤبة: أدنني من ذنب البعير. ومما أدرك على أبي نخيلة الراجز قوله في وصف المرأة. مريّة لم تلبس المرقّقا ... ولم تذق من البقول الفستقا «3»

فجعل الفستق من البقول، وإنما هو شجر. تسبح أخراه ويطفو أوّله قال الاصمعي: إذا كان كذلك فحمار الكسّاح أسرع منه: لأنّ اضطراب مؤخره قبيح، وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الاعور السلمي: مرّ كلمع البرق سام ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره فما يمسّ الأرض منه حافره وأخذ عليه أيضا في الورود قوله: جاءت تساقى في الرعيل الأوّل ... والظّلّ عن أخفافها لم يفضل فوصف أنها وردت في الهاجرة، وإنما خير الورود غلسا «1» والماء بارد، كما قال الآخر: فوردت قبل الصباح الفائق «2» وكقول لبيد بن ربيعة العامري: إنّ من وردي لتغليس النّهل «3» وقال آخر: فوردن قبل تبيّن الألوان وأنشد بشار الأعمى قول كثيّر عزة: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفّ تلين «4» فقال: لله أبو صخر! جعلها عصا خيزرانة، فوالله لو جعلها عصا زبد لهجّنها، ألا قال كما قلت:

كثير وابن أبي عتيق وابن معاذ

وبيضاء المحاجر من معدّ ... كأنّ حديثها قطع الجمان «1» إذا قامت لحاجتها تثنّت ... كأن عظامها من خيزران ودخل العتابيّ على الرشيد فأنشده في وصف الفرس: كأن أذنيه إذا تشوّفا ... قادمة او قلما محرّفا فعلم الناس أنه لحن، ولم يهتد احد منهم الى اصلاح البيت غير الرشيد، فانه قال: قل: تخال أذنيه إذا تشوّفا والراجز وإن كان لحن فإنه اصاب التشبيه. كثير وابن أبي عتيق وابن معاذ حدّث أبو عبد الله بن عرفة بواسط، قال: حدثني احمد بن محمد بن يحيى عن الزبير ابن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب رواية كثّير عزة، قال: قال لي كثير عزة يوما: قم بنا إلى ابن ابي عتيق نتحدّث عنده. قال: فجئناه فوجدناه عند ابن معاذ المعني، فلما رأى كثّيرا قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك شعر كثير عزة؟ قال: نعم. فغناه: أبائنة سعدى نعم ستبين ... كما انبتّ من حبل القرين قرين «2» أأن زمّ أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين كأنك لم تسمع ولم تر قبلها ... تفرّق ألّاف لهن حنين فأخلفن ميعادي وخنّ أمانتي ... وليس لمن خان الامانة دين فالتفت ابن ابي عتيق إلى كثّير فقال: وللدين صحبتهم يا بن أبي جمعة! ذلك والله أشبه بهنّ وأدعى للقلوب إليهنّ، وإنما يوصفن بالبخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة، ذو الرقيّات أشعر منك حيث يقول:

عمارة وابن ابي السمط

حبّذا الإدلال والغنج ... والتي في طرفها دعج «1» والتي إن حدّثت كذبت ... والتي في ثغرها فلج «2» خبّروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج فقال كثيّر: قم بنا من عند هذا. عمارة وابن ابي السمط عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: اني بباب المأمون إذ خرج عبد الله بن السمط، فقال لي: علمت أنّ امير المؤمنين على كماله لا يعرف الشعر! قلت له: وبم علمت ذلك؟ قال: اسمعته الساعة بيتا لو شاطرني ملكه عليه لكان قليلا، فنظر إلى نظرا شزرا كاد يصطلمني «3» . قلت له: وما البيت؟ فأنشد: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدّين، والناس بالدنيا مشاغيل قلت له: والله لقد حلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه، ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها؟ ألا قلت كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان: فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدّين شاغله «4» فقال: الآن علمت أنني أخطأت. البعيث وجملة من الشعراء والوليد الهيثم بن عدي قال: دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت ببابك جماعة من الشعراء لا احسبهم اجتمعوا بباب احد من الخلفاء، فلو أذنت لهم حتى ينشدوك! فأذن لهم، فأنشدوه، وكان فيهم الفرزدق، وجرير، والاخطل، والاشهب بن رميلة، وترك البعيث فلم يأذن له، فقال الرجل

المستأذن لهم: لو أذنت للبعيث! فلم يأذن له، وقال: ليس كهؤلاء، إنما قال من الشعر يسيرا. قال: والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فأذن له، فلما مثل بين يديه، قال: يا أمير المؤمنين. إن هؤلاء ومن ببابك قد ظنوا أنك انما أذنت لهم دوني لفضل لهم عليّ. قال: أولست تعلم ذلك؟ قال: لا والله، ولا علمه الله لي، قال: فأنشدني من شعرك. قال: أما والله حتى أنشدك من شعر كل رجل منهم ما يفضحه! فأقبل على الفرزدق، فقال: قال هذا الشيخ الاحمق لعبد بني كليب: بأيّ رشاء يا جرير وماتح ... تدلّيت في حومات تلك القماقم «1» فجعله تدلى عليه وعلى قومه من عل وإنما يأتيه من تحته لو كان يعقل. وقد قال هذا كلب بني كليب: لقومي أحمى للحقيقة منكم ... وأضرب للجبّار والنقع ساطع «2» واوثق عند المردفات عشيّة ... لحاقا إذا ما جرد السّيف لامع «3» فجعل نساءه لا يثقن بلحاقه إلا عشية وقد نكحن وفضحن. وقال هذا النصرانيّ ومدح رجلا يسمى قينا فهجاه ولم يشعر، فقال: قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طيّر عن أثوابه الشّرر وقال ابن رمية ودفع أخاه إلى مالك بن ربيعيّ بن سلمى فقتل، فقال: مددنا وكانت ضلة من حلومنا ... تبدي إلى أولاد ضمرة أقطعا فمن يرجو خيره وقد فعل بأخيه ما فعل؟ فجعل الوليد يعجب من حفظه لمثالب القوم وقوة قلبه، وقال له: قد كشفت عن مساوىء القوم، فأنشدني من شعرك. فأنشده، فاستحسن قوله ووصله وأجزل له.

جرير وابن لجأ

ومما عيب على الحسن بن هانىء قوله في بعض بني العباس: كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره فقالوا: من حق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ان يضاف إليه ولا يضاف هو إلى غيره، ولو اتسع متسع فأجازه لكان له مجاز حسن، وذلك ان يقول القائل من بني هاشم لغيره من أبناء قريش: منا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. يريد أنه من القبيلة التي نحن منها، كما قال حسان بن ثابت: وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عزّ لا ترام ومفخر بها ليل منهم جعفر، وابن أمّه ... علي، ومنهم أحمد المتخيّر «1» فقال: منهم، كما قال هذا: من نفره. ومما أدرك عليه قوله في البعير: أخنس في مثل الكظام مخطمه «2» والاخنس: القصير المشافر، وهو عيب له، وإنما توصف المشافر بالسبوطة. ومما أدرك على أبي ذؤيب قوله في وصف الدّرّة: فجاء بها ما شئت من لطميّة ... يدور الفرات فوقها وتموج «3» قالوا: والدّرة لا تكون في الماء الفرات إنما تكون في الماء المالح. جرير وابن لجأ اجتمع جرير بن الخطفي وعمر بن لجأ التيمي عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة، فأنشده عمر بن لجأ أرجوزته التي يقول فيها:

ابن أبي ربيعة والاحوص ونصيب وكثير

تصطك ألحيها على دلائها ... تلاطم الأزد على عطائها «1» حتى انتهى إلى قوله: تجرّ بالأهون من إدنائها ... جرّ العجوز الثّني من خفائها «2» فقال جرير: ألا قلت: جرّ الفتاة طرفي ردائها فقال. والله ما أردت إلا ضعف العجوز، وقد قلت أنت أعجب من هذا، وهو قولك: وأوثق عند المردفات عشيّة ... لحاقا إذا ما جرّد السيف لا مع والله لئن لم يلحقن إلا عشية، ما لحقن حتى نكحن وأحبلن. ووقع الشر بينهما. ابن أبي ربيعة والاحوص ونصيب وكثير وقدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، فأقبل إليه الاحوص ونصيب، فجعلوا يتحدثون، ثم سألهما عمر عن كثيّر عزة، فقالوا: هو ههنا قريب. قال: فلو أرسلنا اليه! قالا: هو أشد بأوا «3» من ذلك! قال: فاذهبا بنا إليه. فقاموا نحوه، فألفوه جالسا في خيمة له، فوالله ما قام للقرشي ولا وسع له، فجعلوا يتحدثون ساعة، فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال له: إنك لشاعر، لولا أنك تشبّب بالمرأة ثم تدعها وتشبّب بنفسك! أخبرني عن قولك: ثمّ اسبطرّت تشتدّ في أثري ... تسأل أهل الطّواف عن عمر «4» والله لو وصفت بهذا هرة اهلك لكان كثيرا، ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص:

كثير وسكينة

أدور، ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... وإن لم يزر لا بدّ أن سيزور قال: فانكسرت نخوة عمر بن أبي ربيعة ودخلت الاحوص زهوة، ثم التفت إلى الاحوص فقال: أخبرني عن قولك: فإن تصلي أصلك وإن تبيني ... بهجرك بعد وصلك ما أبالي «1» أما والله لو كنت حرا لباليت ولو كسر أنفك: ألا قلت كما قال هذا الاسود وأشار إلى نصيب: بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملّينا فما ملّك القلب قال: فانكسر الاحوص ودخلت نصيبا زهوة، ثم التفت إلى نصيب فقال له: أخبرني عن قولك: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي! أهمّك ويحك من يفعل بها بعدك؟ فقال القوم: الله أكبر! استوت الفرق قوموا بنا من عند هذا. كثير وسكينة ودخل كثيّر عزة على سكينة بنت الحسين، فقالت له: يابن أبي جمعة، أخبرني عن قولك في عزة: وما روضة بالحزن طيّبة الثرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها «2» بأطيب من أردان عزّة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها «3» ويحك! وهل على الارض زنجية منتنة الإبطين، توقد بالمندل الرطب نارها إلا

عبد الملك وكثير

طاب ريحها؟ ألا قلت كما قال عمك امرؤ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب عبد الملك وكثير سمر عبد الملك بن مروان ذات ليلة وعنده كثيّر عزة، فقال له: أنشدني بعض ما قلت في عزة. فأنشده إلى هذا البيت: هممت وهمّت، ثم هابت وهبتها ... حياء، ومثلي بالحياء حقيق فقال له عبد الملك: أما والله لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك! قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتها معك في الهيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها. قال: فأي بيت عفوت عني به يا امير المؤمنين؟ قال قولك: دعوني لا أريد بها سواها ... دعوني هائما فيمن يهيم ومما أدرك على الحسن بن هانىء قوله في وصف الاسد حيث يقول: كأنما عينه إذا التفتت ... بارزة الجفن عين مخنوق وإنما يوصف الاسد بغؤور العينين، كما قال العجاج: كأن عينيه من الغئور ... قلتان حوجلتا قارور «1» وقال أبو زبيد: كأن عينيه نقباوان في حجر ومن قولنا في وصف الاسد ما هو أشبه به من هذا: ولربّ خافقة الذوائب قد غدت ... معقودة بلوائه المنصور يرمي بها الآفاق كلّ شر نبث ... كفاه غير مقلم الأظفور «2» ليث تطير له القلوب مخافة ... من بين همهمة له وزئير

باب من أخبار الشعراء

وكأنما يومي إليك بطرفه ... عن جمرتين بجملد منقور «1» باب من أخبار الشعراء حدث دعبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشيص وأبو نواس في مجلس، فقال لهم أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده فليأت كلّ واحد منكم بأحسن ما قال فلينشده. فأنشده أبو الشيص فقال: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا متقدّم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمني اللّوم وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن أكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم ... إذ كان حظّي منك حظّي منهم قال: فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عجبه، ثم أنشده مسلم أبياتا من شعره الذي يقول فيه: فأقسم أنسى الدّاعيات إلى الصّبا ... يمينا وقد فاجأت والسّتر واقع فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع «2» قال دعبل: فقال لي أبو نواس: هات أبا علي، وكأني بك قد جئتنا بأم القلادة. فقلت: يا سيدي، ومن يباهيك بها غيري فأنشدته: أين الشّباب وأيّة سلكا ... أم أين يطلب ضلّ أم هلكا لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى يا ليت شعري كيف صبركما ... يا صاحبيّ إذا دمي سفكا لا تطلبا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا ثم سألناه أن ينشد، فأنشد أبو نواس:

المعتز والزبير

لا تبك هندا ولا تطرب إلى دعد ... واشرب على الورد من حمراء كالورد كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... وجدت حمرتها في العين والخدّ فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... في كفّ جارية ممشوقة القدّ تسقيك من عينها خمرا ومن يدها ... خمرا، فمالك من سكرين من بدّ لي نشوتان وللّندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي فقاموا كلهم فسجدوا له؛ فقال: افعلتموها أعجميّة؟ لا كلمتكم ثلاثا ولا ثلاثا ولا ثلاثا! ثم قال: تسعة أيام في هجر الاخوان كثير، وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعقوبة على الهفوة. ثم التفت فقال: أعلمتم أن حكيما عتب على حكيم، فكتب المعتوب عليه إلى العاتب: يا أخي، إن أيام العمر أقلّ من أن تحتمل الهجر. المعتز والزبير محمد بن الحسن المديني قال: أخبرني الزبير بن أبي بكر قال: دخلت على المعتز بالله أمير المؤمنين، فسلمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله إني قد قلت في ليلتي هذه أبياتا، وقد أعيا عليّ اجازة بعضها. قلت: أنشدني. فأنشدني- وكان محموما- يقول: إني عرفت علاج القلب من وجع ... وما عرفت علاج الحبّ والخدع جزعت للحبّ، والحمى صبرت لها ... إني لأعجب من صبري ومن جزعي من كان يشغله عن حبّه وجع ... فليس يشغلني عن حبّكم وجعي قال أبو عبد الله: فقلت: وما أملّ حبيبي ليلة أبدا ... مع الحبيب، ويا ليت الحبيب معي فأمر لي على البيت بألف دينار. أبو نواس ومسلم وأبو العتاهية اجتمع الحسن بن هانىء، وصريع الغواني، وأبو العتاهية، في مجلس بالكوفة فقيل لابي العتاهية: أنشدنا. فأنشد:

الرشيد والمأمون في الصلاة على موتي

أسيّدتي هاتي- فديتك- ما جرمي ... فأنزل فيما تشتهين من الحكم كفاك بحقّ الله ما قد ظلمتني ... فهذا مقام المستجير من الظلم وقيل لصريغ الغواني: أنشدنا فأنشأ يقول: قد اطّلعت على سرّي وإعلاني ... فاذهب لشأنك ليس الجهل من شاني إنّ التي كنت أرجو قصد سيرتها ... أعطت رضا وأطاعت بعد عصيان ثم قيل للحسن بن هانىء: أنشدنا. فأنشد: يا ابنة الشيخ اصبحينا ... ما الذي تنتظرينا قد جرى في عوده الما ... ء فأجري الخمر فينا قيل: هذا الهزل. فهات الجد. فأنشأ: لمن طلل عاري المحلّ دفين ... عفا عهده إلا روائم جون «1» كما افترقت عند المبيت حمائم ... غريبات ممسى ما لهنّ وكون» ديار التي أمّا جنى رشفاتها ... فخلو وأما مسّها فيلين وما أنصفت، أمّا الشّحوب فظاهر ... بوجهي، وأما وجهها فمصون فقام صريغ الغواني يجر ذيله، وخرج وهو يقول: إن هذا مجلس ما جلسته أبدا. الرشيد والمأمون في الصلاة على موتي هشام بن عبد الملك الخزاعي قال: كنا بالرّقة مع هارون الرشيد، فكتب إليه صاحب الخبر بموت الكسائي، وإبراهيم الموصلي، والعباس بن الاحنف، في وقت واحد؛ فقال لابنه المأمون: اخرج فصلّ عليهم. فخرج المأمون في وجوه قواده وأهل خاصته، وقد صفّوا له. فقالوا له: من ترى أن يقدم؟ قال: الذي يقول: يا بعيد الدّار عن وطنه ... هائما يبكي على شجنه «3»

ابو عمرو وجرير

كلّما جدّ البكاء به ... زادت الاسقام في بدنه قيل له: هذا. وأشار إلى العباس بن الاحنف؛ فقال قدّموه! فقدّم عليهم. ابو عمرو وجرير أبو عمرو بن العلاء قال: نزل جرير وهو مقبل من عند هشام بن عبد الملك فبات عندي إلى الصبح؛ فلما أصبح شخص وخرجت معه أشيّعه، فلما خرجنا من أطناب البيوت التفت إليّ فقال: أنشدني من قول مجنون بني الملوّح، فأنشدته: وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح ... تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح «1» فقال: والله لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي الصراخ، لصرخت صرخة سمعها هشام على سريره. وهذا من أرق الشعر كله وألطفه، لولا التضمين الذي فيه، والتضمين: أن يكون البيت معلّقا بالبيت الثاني، لا يتم معناه إلا به، وإنما يحمد البيت إذا كان قائما بنفسه. ابن الاحنف وابن الملوح وقال العباس بن الاحنف نظير قول المجنون بلا تضمين، وهو قوله: أشكو الذين أذاقوني مودّتهم ... حتى إذا أيقظوني بالهوى رقدوا الرشيد والاصمعي وقال الاصمعي: دخلت على هارون الرشيد، فوجدته منغمسا في الفرش، فقال: ما أبطأ بك يا أصمعي؟ قلت: احتجمت يا أمير المؤمنين. قال: فما اكلت عليها؟ قلت: سكباجة وطباهجة «2» ، قال: رميتها بحجرها! أتشرب؟ فقلت. نعم؛ وقلت.

ابن داود ويهودي

اسقني حتى تراني مائلا ... وترى عمران ديني قد خرب قال: يا مسرور، أيّ شيء معك؟ قال: ألف درهم. قال: ادفعها للاصمعي. ابن داود ويهودي كان يصحب علي بن داود الهاشمي يهودي ظريف مؤنس أديب شاعر أريب «1» ، فلما أراد الحج أراد ان يستصحبه فكتب إليه اليهودي يقول: إني أعوذ بداود وحفرته ... من أن أحجّ بكره يابن داود نبئت أنّ طريق الحجّ مصردة ... عن النّبيذ وما عيشي بتصريد «2» والله ما فيّ من اجر فتطلبه ... فيما علمت ولا ديني بمحمود أما أبوك فذاك الجود يعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود كأنّ ديباجتي خدّيه من ذهب ... إذا تعصب في أثوابه السّود السويقي في ضر ناله حدث أبو اسحاق يحيى بن محمد الحواري، قال: سمعت شيخا من اهل البصرة يقول: قال ابراهيم السويقي مولي المهالبة: تتابعت عليّ سنون ضيّقة، وألحّ عليّ العسر وكثرة العيال وقلّة ذات اليد؛ وكنت مشتهرا بالشعر أقصد به الإخوان وأهل الاقدار وغيرهم، حتى جفاني كلّ صديق، وملّني من كنت أقصده؛ فأضرّ بي ذلك جدا؛ فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد، إذ قالت: يا هذا، قد طال علينا الفقر، وأضر بنا الجهد؛ وقد بقيت في بيتي كأنك زمن «3» ، هذا مع كثرة الولد؛ فأخرج عني واكفني نفسك، ودعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مرة وأقعد بهم أخرى. وألحّت عليّ في الخصومة، وقالت لي: يا مشئوم، تعلمت صناعة لا تجدي

عليك شيئا! فضجرت منها ومن قولها، وخرجت على وجهي في ذلك البرد والريح، وليس عليّ إلا فرو خلق «1» ، ليس فوقه دثار، ولا تحته شعار، إلا ازار على عنقي؛ ثم جاءت ريح شديدة، فذهبت به عن يدي، وتفرّقت أجزاؤه عني من بلاه وكثرة رقاعه، وعلى عنقي طيلسان «2» ليس عليّ منه إلا رسمه. فخرجت والله متحيرا لا ادري أين أقصد ولا حيث أذهب؛ فبينما أنا أجيل الفكرة، إذ أخذتني سماء بفطر متدارك، فدفعت على دار على بابها روشن «3» مطلّ ودكان نظيف وليس عليه أحد؛ فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر. فقصدت قصد الدار، فإذا بجارية قاعدة، قد لزمت باب الدار كالحافظة عليه؛ فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت: أنا- ويحك- لست بسائل، ولا أنا ممن تتخوّف ناحيته! فجلست على الدكان، فلما سكنت نفسي سمعت نغمة رخيمة من وراء الباب، تدلّ على نغمة امرأة: فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عتاب؛ ثم سمعت نغمة اخرى مثل تلك، وهي تقول فعلت وفعلت! والاخرى تقول: بل انت فعلت وفعلت! إلى أن قالت إحداهما: أنا- جعلت فداك- إن كنت أسأت فاغفري؛ واحفظي فيّ بيتين لمولانا ابراهيم السويقي! فقالت الاخرى: وما قال؟ فانه يبلغني عنه اشعار ظريفة. فأنشدتها تقول: هبيني يا معذّبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت فقالت: ظرف والله وأحسن! فلما سمعت ذكري وذكر «مولانا» علمت أنهما من بعض نساء المهالبة؛ فلم أتمالك أن دفعت الباب وهجمت عليهما، فصاحتا: وراءك يا شيخ عنّا حتى نستتر! وتوهّمتا أنني من أهل الدار؛ فقلت لهما. جعلت فداكما، لا تحتشما مني؛ فإني أنا ابراهيم السويقي؛ فبالله، وبحق حرمتي منكنّ، إلّا شفّعتني فيها،

نوادر من الشعر

ووهبت لي ذنبها، واسمعي مني فأنا الذي أقول: خذي بيدي من الحزن الطويل ... فقد يعفو الخليل عن الخليل أسأت فأجملي تفديك نفسي ... فما يأتي الجميل سوى الجميل فقالت: قد فعلت وصفحت عن زلّتها «1» ؛ ثم قالت: يا أبا إسحاق، مالي أراك بهذه الهيئة الرثة والبزّة الخلقة! فقلت: يا مولاتي، تعدّى عليّ الدهر، ولم ينصفني الزمان، وجفاني الاخوان، وكسدت بضاعتي. فقالت: عزّ عليّ ذلك وأومأت «2» إلى الأخرى؛ فضربت بيدها على كمها، فسلّت دملجا «3» من ساعدها، ثم ثنت باليد الاخرى، فسلت منها دملجا آخر؛ فقالت: يا أبا اسحاق، خذ هذا واقعد على الباب مكانك وانتظر الجارية حتى تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سكن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا، وخرجت وقعدت مكاني؛ فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسة أثواب وصرّة فيها ألف درهم؛ وقالت: تقول لك مولاتي: أنفق هذه، فإذا احتجت فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله! فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي، قالت: هذا لبناتي، وكابرتني عليهما؛ فدخلت السوق فبعتهما بخمسين دينارا وأقبلت؛ فلما فتحت الباب صاحت امرأتي وقالت: قد جئت أيضا بشؤمك! فطرحت الدنانير والدراهم بين يديها والثياب؛ فقالت: من أين هذا؟ قلت: من الذي تشاءمت به وزعمت أنه بضاعتي التي لا تجدي! فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة! نوادر من الشعر المأمون وابن الجهم قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني بيتا أوله ذم وآخره مدح؛ أولّك به كورة. فأنشده:

الرشيد والضبي

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت منا مناظرهم لحسن المخبر فقال له: زدني. فأنشده: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر فولّاه الدّينور. الرشيد والضبي وقال هارون الرشيد للمفضل الضبي: أنشدنا بيتا أوله أعرابي في شملته هبّ من نومته، وآخره مدني رقيق، غذي بماء العقيق. قال: المفضل: هوّلت عليّ يا أمير المؤمنين، فليت شعري بأي مهر نفتضّ عروس هذا الخدر؟ ... قال هارون: هو بيت جميل حيث يقول: ألا أيها النّوّام ويحكم هبوا ... أسائلكم: هل يقتل الرجل الحبّ فقال له المفضل: فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثم بن صيفي في إصابة الرأي، وآخره بقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء. قال له هارون: ما هو؟ قال: هو بيت الحسن بن هانىء حيث يقول: دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغرأ ... وداوني بالتي كانت هي الداء قال: صدقت. المنصور في الرضمة قال الربيع: خرجنا مع المنصور منصرفنا من الحج، فنزلنا الرّضمة «1» ، ثم راح المنصور ورحنا معه في يوم شديد الحرّ، وقد قابلته الشمس، وعليه جبة وشي؛ فالتفت إلينا وقال: إني أقول بيتا من شعر، فمن أجازه منكم فله جبتي هذه! قلنا: يقول أمير المؤمنين. فقال:

عائشة بنت المهدي والشعراء

وهاجرة نصبت لها جبيني ... يقطّع حرّها ظهر العظايه «1» فبدر بشار الاعمى فقال: وقفت بها القلوص ففاض دمعي ... على خدّي وأقصر واعظايه «2» فخرج له من الجبة، فلقيته بعد ذلك فقلت له: ما فعلت بالجبة؟ قال: بعتها بأربعة آلاف درهم! عائشة بنت المهدي والشعراء خرج رسول عائشة بنت المهدي- وكانت شاعرة- إلى الشعراء وفيهم صريع الغواني، فقال: تقرئكم سيدتي السلام وتقول لكم: من أجاز هذا البيت فله مائة دينار. فقالوا: هاته. فأنشدهم: أنيلي نوالا وجودي لنا ... فقد بلغت نفسي التّرقوه «3» فقال صريع: وإني كالدّلو في حبّكم ... هويت إذ انقطعت عرقوه «4» فأخذ المائة الدينار. الحسن البصري والفرزدق وكان الفرزدق يجلس الى الحسن البصري، وجرير يجلس إلى ابن سيري؛ لتباعد ما بين الرجلين- وكان موتهما في عام واحد، وذلك سنة عشر ومائة- فبينما الفرزدق جالس عند الحسن، إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث

بشار بين شاعرين

والسرايا، فنصيب المرأة من العدوّ وهي ذات زوج، أفتحل لنا من غير أن يطلقها زوجها؟ قال الفرزدق: قد قلت أنا مثل هذا في شعري. قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت: وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلّق قال الحسن: صدقت. ثم أقبل إليه رجل آخر، فقال: يا ابا سعيد، ما تقول في الرجل يشك في الشخص يبدو له فيقول: والله هذا فلان! ثم لا يكون هو: ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق: وقد قلت أنا مثل هذا. قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت: ولست بمأخوذ بقول تقوله ... إذا لم تعنه عاقدات العزائم قال الحسن: صدقت. عباد ورؤبة بين زوجين استعدت امرأة على زوجها عباد بن منصور، وزعمت أنه لا ينفق عليها، فقال لرؤبة: احكم بينهما. فقالت فطلّق إذا ما كنت لست بمنفق ... فما الناس إلا منفق أو مطلّق بشار بين شاعرين كان رجل يدّعي الشعر، ويستبرده قومه؛ فقال لهم: إنما تستبردوني من طريق الحسد. قالوا: فبيننا وبينك بشار العقيلي، فارتفعوا إليه، فقال له: أنشدني. فأنشده؛ فلما فرغ قال له بشار: إني لأظنّك من أهل بيت النبوّة! قال له: وما ذلك؟ قال: إنّ الله تعالى يقول وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ «1» فضحك القوم وخرجوا عنه. وقال أبو دلف

لبعض الشعراء في حضرة سليمان

أتى أبو دلف المبدي بقافية ... جوابها يهلك الداعي من الغيظ من زاد فيها له رحلي وراحلتي ... وخاتمي، والمدى فيها إلى القيظ فأجابه ابن عبد ربه: قد زدت فيها وإن أضحى أبو دلف ... والنفس قد أشرفت منه على الغيظ! لبعض الشعراء في حضرة سليمان سمر الفرزدق والأخطل وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلة، فبينما هم حوله إذ خفق «1» فقالوا: نعس أمير المؤمنين! وهموا بالقيام؛ فقال لهم سليمان: لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعرا. فقال الأخطل: رماه الكرى في رأسه فكأنه ... صريع تروّى بين أصحابه خمرا فقال له: ويحك! سكران جعلتني! ثم قال جرير بن الخطفي: رماه الكرى في رأسه فكأنما ... يرى في سواد الليل قنبرة حمرا «2» فقال له: ويحك! أجعلتني أعمى! ثم قال الفرزدق بعد هذا: رماه الكرى في رأسه فكأنما ... أميم جلاميد تركن به وقرا «3» قال له ويحك! جعلتني مشجوجا، ثم أذن لهم فانقلبوا فحباهم وأعطاهم. في شعر ابن ابي ربيعة كان عمر بن ابي ربيعة القرشي غزلا مشبّبا بالنساء الحواجّ، رقيق الغزل؛ وكان الاصمعي يقول في شعره: الفستق المقشر الذي لا يشبع منه! وكان جرير يستبرده ويقول: شعر حجازي، لو اتخذ في تموز لوجد البرد فيه فلما أنشد له:

فلما تلاقينا عرفت الذي بها ... كمثل الذي حذوك النّعل بالنّعل قال: ما زال يهذي حتى قال الشعر! وقالت العلماء: ما عصي الله بشعر ما عصي بشعر عمر بن ابي ربيعة! وولد عمر بن أبي ربيعة يوم مات عمر بن الخطاب، فسمّي باسمه؛ فقالت العلماء: أي خير رفع، وأيّ شرّ وضع! ثم إنه تاب في اخر ايامه وتنسك، ونذر لله أن يعتق لله رقبة لكل بيت يقوله؛ وانه حج، فبينما هو يطوف بالبيت اذ نظر إلى فتى من نمير يلاحظ جارية في الطّواف؛ فلما رأى ذلك منه مرار، أتاه، فقال له يا فتى، أما رأيت تصنع؟ فقال له الفتى: يا أبا الخطاب لا تعجل عليّ؛ فإن هذه ابنة عمي، وقد سمّيت لي، ولست أقدر على صداقها، ولا اظفر منها بأكثر مما ترى؛ وانا فلان بن فلان، وهذه فلانة ابنة فلان. فعرفهما عمر، فقال له: اقعد يا ابن أخي عند هذه السارية «1» حتى يأتيك رسولي. ثم ركب دابته حتى أتى منزل عمّ الفتى، فقرع الباب فخرج اليه الرجل، فقال: ما جاء بك يا ابا الخطاب في مثل هذه الساعة؟ قال: حاجة عرضت قبلك في هذه الساعة. قال: هي مقضية. قال عمر: كائنة ما كانت؟ قال: نعم! قال: فإني قد زوّجت ابنتك فلانة من ابن اخيك فلان: قال: فإني قد أجزت ذلك. فنزل عمر عن دابته، ثم أرسل غلاما إلى داره فأتاه بألف درهم فساقها عن الفتى، ثم أرسل إلى الفتى فأتاه، فقال لابي الجارية: أقسمت عليك إلا ما ابتنى بها هذه الليلة! قال له: نعم فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر الى داره مسرورا بما صنع، فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ «2» ، ووليدة له عند رأسه، فقالت: يا سيدي، أرقت هذه الليلة أرقا لا أدري ما دهمك؟ فأنشأ يقول: تقول وليدتي لمّا رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا

الأخطل والأعور بن بنان

أراك اليوم قد أحدثت شوقا ... وهاج لك الهوى داء دفينا وكنت زعمت أنك ذا عزاء ... إذا ما شئت فارقت القرينا بعيشك هل رأيت لها رسولا ... فشاقك أم لقيت لها خدينا؟ «1» فقلت: شكا إليّ أخ محبّ ... كبعض زماننا إذ تعلمينا فقصّ عليّ ما يلقى بهند ... يذكّر بعض ما كنّا نسينا وذو القلب المصاب وإن تعزّى ... مشوق حين يلقى العاشقينا ثم ذكر يمينه، فاستغفر الله، وأعتق رقبة لكل بيت. الأخطل والأعور بن بنان دعا الاعور بن بنان التغلبيّ الاخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتا قد نجد بالفرش الشريفة والوطاء العجيب، وله امرأة تسمى برّة في غاية الحسن والجمال؛ فقال له: أبا مالك، إنك رجل تدخل على الملوك في مجالسهم؛ فعهل ترى في بيتي عيبا؟ فقال له: ما أرى في بيتك عيبا غيرك! فقال له: إنما اعجب من نفسي إذ كنت أدخل مثلك بيتي! اخرج عليك لعنة الله! فخرج الاخطل وهو يقول: وكيف يداويني الطّبيب من الجوى ... وبرّة عند الاعور بن بنان ويلصق بطنا منتن الريح مجرزا ... إلى بطن خود دائم الخفقان «2» باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاء قال الشاعر في خياط أعور يسمى عمرا: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء فاسأل الناس جميعا ... أمديح أم هجاء

ما قالوه في تثنية الواحد

ومنه قول حبيب في مرثية بني حميد حيث يقول: لو خرّ سيف من العيّوق منصلتا ... ما كان إلا على هاماتهم يقع «1» فلو هجوا بهذا رجلا على أنه أنحس خلق الله، لجاز فيه؛ ولو مدح به على مذهب قول الشاعر: وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرّة ما نذوقها وقول الآخر: ونحن أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منّا سيّد في فراشه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل «2» تسيل على حدّ السّيوف دماؤنا ... وليس على غير السّيوف تسيل لجاز ذلك. ومثله لحبيب: انظر فحيث ترى السّيوف لوامعا ... أبدا ففوق رؤوسهم تنألق ما قالوه في تثنية الواحد قال الفرزدق في تثنية الواحد: [ألم تعلموا أني ابن صاحب صوأر] ... وعندي حساما سيفه وحمائله «3» وقال جرير: لمّا تذكرت بالدّيرين أرّقني ... صوت الدّجاج وقرع بالنواقيس

قولهم في جمع الاثنين والواحد

وإنما هو دير الوليد، معروف بالشام؛ وأراد بالدجاج: الديكة. وقال قيس بن الحطيم في الدرع: مضاعفة يعيي الأنامل ريعها ... كأنّ قتيريها عيون الجنادب «1» يريد: قتيرها. وقال آخر: وقال لبوّابيه لا تدخلنّه ... وسدّ خصاص الباب عن كلّ منظر «2» وقال أهل التفسير في قول الله عز وجل: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ «3» أنه أراد واحدا فثنّاه: وكذلك قول معاوية للجلواز الذي كان وكله بروح بن زنباع لما اعتذر إليه روح واستعطفه: خلّيا عنه. قولهم في جمع الاثنين والواحد قال الله تبارك وتعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ » . يريد: أخوين فصاعدا. وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ «5» ، وإنما ناداه رجل من بني تميم. وقوله: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ «6» ، وإنما هي لوحان.

وقولهم في إفراد الجمع والاثنين

وقال الشاعر: لولا الرّجاء لأمر ليس يعلمه ... خلق سواك لما ذلّت لكم عنقي ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمحدث. وقولهم في إفراد الجمع والاثنين وأما قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرناه. وكذلك في إفراد الاثنين؛ فمن ذلك قول الله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «1» . وقوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» . وقوله: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «3» . وقال جرير: هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذّكر! وقال آخر: وكأنّ بالعينين حبّ قرنفل ... أو فلفل كحلت به فانهلّت ولم يقل: فانهلتا. وقال مسلم بن الوليد: ألا أنف الكواعب عن وصالي ... غداة بدا لها شيب القذال «4» وقال جرير: وقلنا للنّساء به أقيمي

قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر

قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر قال مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري في شعره الذي أوله: حبّذا ليلنا بتلّ بونا «1» ... ومررنا بنسوة عطرات وسماع وقرقف فنزلنا «2» ... ما لهم لا يبارك الله فيهم حين يسألن منحنا ما فعلنا وقال آخر، وقد استشهد به سيبويه في كتابه: فلا ديمة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها «3» فذّكر الأرض. وقال نصيب: إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح وقالت أعرابية: قامت تبكّيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر «4» تركتني في الدار وحشية ... قد ذلّ من ليس له ناصر وقال أبو نواس: كمن الشّنان فيه لنا ... ككمون النار في حجره «5» وإنما ذكرت هذا الباب في كتاب الشعر، لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه.

باب ما غلط فيه على الشعراء

باب ما غلط فيه على الشعراء وأكثر ما أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن، ولكن أصحاب اللغة لا ينصفونهم، وربما غلطوا عليهم وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها؛ فمن ذلك قول سيبويه واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه: معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا «1» كذا رواه سيبويه على النصب، وزعم أن إعرابه على معنى الخبر الذي في «ليس» ، وإنما قاله الشاعر على الخفض، والشعر كله مخفوض، فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحيلة الضعيفة، وإنما الشعر: معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد أتطمع في الخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود فهبنا أمّة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد ونظير هذا البيت ما ذكره في كتابه أيضا واحتج به في باب النون الخفيفة: ثبتّم ثبات الخيزرانيّ في الثّرى ... حديثا متى ما يأتك الخير ينفعا «2» وهذا البيت للنجاشي، وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قحطان على عدنان في شعر كله مخفوض وهو: أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... بني عامر عنّي يزيد بن صعصع ثبتّم ثبات الخيزراني في الثّرى ... حديثا متى ما يأتك الخير ينفع

باب من مقاطع الشعر ومخارجه

ومثله قول محمد بن يزيد النحوي المعروف بالمبرّد في كتاب الروضة وأدرك على الحسن بن هانيء قوله: وما لبكر بن وائل عصم ... إلا لحمقائها وكاذبها «1» فزعم أنه أراد بحمقائها هبنّقة القيس، ولا يقال في الرجل حمقاء، وإنما أراد دغة العجلية، وعجل في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق. باب من مقاطع الشعر ومخارجه اعلم بأنك متى ما نظرت بعين الإنصاف، وقطعت بحجة العقل، علمت أن لكل ذي فضل فضله، ولا ينفع المتقدم تقدّمه، ولا يضرّ المتأخر تأخّره؛ فأما من أساء النظم ولم يحسن التأليف فكثير، كقول القائل: شرّ يوميها وأغواه لها ... ركبت هند بحدج جملا «2» شرّ يوميها، نصب على الحال، وإنما معناه: ركبت هند جملا بحدج في شرّ يوميها. وكقول الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه معناه: ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال: أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه فبّعد المعنى القريب، ووعّر الطريق السهل، ولبّس المعنى بتوعّر اللفظ وقبح البنية حتى ما يكاد يفهم.

ومثل هذا إلا أنه أقرب منه إلى الفهم قول القائد: بينما ظلّ ظليل ناعم ... طلعت شمس عليه فاضمحل يريد: حتى طلعت شمس عليه: ومثله قول الآخر: إنّ الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتّكل «1» يريد: من يتكل عليه. ولله در الأعشى حيث قال: لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس إلا دونها الكلل وأبين منه قول النابغة: ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكّة البرما «2» وقد حذا على مثال قول النابغة بعض المبرّزين من أهل العصر، فقال. ليست من الرّمص أشفارا إذا نظرت ... ولا تبيع بفوق الصّخرة الرّغفا «3» فقيل له: ما معناك في هذا؟ قال: هو مثل قول النابغة. وأنشد البيت وقال: ما الفرق بين أن تبيع البرم أو تبيع الرغف، وبين أن تكون رمصاء العينين أو سوداء العقبين. وانظر إلى سهولة معنى الحسن بن هانيء وعذوبة ألفاظه في قوله: حذر امريء ضربت يداه على العدا ... كالدّهر فيه شراسة وليان «4» وإلى خشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول:

شرست بل لنت بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيه السهل والجبل وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى، كقول القائل: الليل ليل، والنهار نهار ... والأرض فيها الماء والأشجار! وقال الأعشى: إن محلّا وإن مرتحلا ... وإن في السّفّر إذ مضى مثلا «1» وقال إبراهيم الشيباني الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردة حوشية بشعة، حتى إذا وضعت في موضعها وقرنت مع إخوتها حسنت؛ كقول الحسن بن هانيء: ذو حصر أفلت من كرّ القبل والكرّ كلمة خسيسة، ولا سيما في الرقيق والغزل والنسيب، غير أنها لما وضعت في موضعها حسنت. وكذلك الكلمة الرقيقة العذبة ربما قبحت ونفرت إذا لم توضع في موضعها، مثل قول الشاعر: رأت رائحا جونا فقامت غريرة ... بمسحاتها جنح الظّلام تبادره «2» فأوقع الجافي الجلف هذه اللفظة غير موقعها، وبخسها حقّها حين جعلها في غير مكانها حقا؛ لأن المساحي لا تصلح الغرائر. واعلم أنه لا يصلح لك شيء من المنثور والمنظوم، إلا أن تجري منه على عرق وأن تتمسك منه بسبب، فأما إن كان غير مناسب لطبيعتك، وغير ملائم لقريحتك، فلا تنض «3» مطيّتك في التماسه، ولا تتعب نفسك إلى انبعاثه، باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك، ما لم تكن الصناعة ممازجة لذهنك، وملتحمة بطبعك.

واعلم أن من كان مرجعه اغتصاب نظم من تقدمه، واستضاءته بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم تكن معه أداة تولّد له من بنات ذهنه، ونتائج فكره، الكلام الجزل والمعنى الحفل، لم يكن من الصناعة في عير ولا نفير «1» ، ولا ورد ولا صدر؛ على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين، هو على كل حال مما يفتق اللسان، ويقوي البيان، ويحد الذّهن، ويشحذ الطبع، إن كانت فيه بقية وهناك خبيّة. واعلم أن العلماء شبهت المعاني بالأرواح والألفاظ بالأجساد واللباب، فإذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزل، وكساه لفظا حسنا، وأعاره مخرجا سهلا، ومنحه دلا مونقا- كان في القلب أحلى، وللصدر أملى؛ ولكنه بقي عليه أن يؤلفه مع شقائقه وقرائنه، ويجمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينظمه في سلكه، كالجوهر المنثور: الذي إذا تولى نظمه الناظم الحاذق، وتعاطى تأليفه الجوهريّ العالم، ظهر له بأحكام الصنعة ولطيف الحكمة حسنا هو فيه، وكساه ومنحه بهجة هي له، وكذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخف على الأفواه؛ لا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف، لم يسمه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقيد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة: قفاه وجه، والذي وجهه ... مثل قفاه يشبه الشّمسا فهجّن المعنى بتعقد مخارج الألفاظ؛ وأخذه الحسن بن هانيء فأوضحه وسهله قال: بأبي أنت من غزال غرير ... بزّ حسن الوجوه حسن قفاكا «2»

قولهم في رقة التشبيب

وكلاهما أخذه من حسان بن ثابت حيث يقول: قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر «1» وقد يأتي من الشعر في طريق المدح ما الذمّ أولى به من المدح، ولكنه يحل ما قبله وما بعده، ومثله قول حبيب: لو خرّ سيف من العيوق منصلتا ... ما كان إلا على هاماتهم يقع هذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح، وإنما يجوز في الذم والنحس؛ لو وصفت رجلا بأنه أنحس الخلق، لم تصفه بأكثر من هذا، وليس للشجاعة فيه وجه؛ لأن قولهم «لو خر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه» . أن تقول: هذا رأس كلّ نحس. قولهم في رقة التشبيب ومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رقة ويؤدي عن الضمير إبانة، مثل قول العباس بن الأحنف: وليلة ما مثلها ليلة ... صاحبها بالسّعد مفجوع ليلة جئناها على موعد ... نسري وداعي الشّوق متبوع لمّا خبت نيرانها وانكفا السّ ... امر عنها وهو مصروع «2» قامت تثنّى وهي مرعوبة ... تودّ أنّ الشّمل مجموع حتى إذا ما حاولت خطوة ... والصّدر بالأرداف مدفوع «3» بكى وشاحاها على متنها ... وإنما أبكاهما الجوع «4» فانتبه الهادون من أهلها ... وصار للموعد مرجوع

كثير وشعر لجميل:

يا ذا الذي نمّ علينا لقد ... قلت ومنك القول مسموع لا تشغليني أبدا بعدها ... إلا ونمّامك منزوع ما بال خلخالك ذا خرسة ... لسان خلخالك مقطوع عاذلتي في حبّها أقصري ... هذا لعمري عنك موضوع وفي معناه لبشار بن برد: سيّدي لا تأت في قمر ... لحديث وارقب الدّرعا «1» وتوقّ الطّيب ليلتنا ... إنه واش إذا سطعا وله أيضا: يقولان لو عزّيت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب «2» كثير وشعر لجميل: الأصمعي قال: سمع كثير عزة منشدا ينشد شعر جميل بن معمر الذي يقول فيه: ما أنت والوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم تمطر تقضى الدّيون ولست تقضى عاجلا ... هذا الغريم ولست فيه بمعسر يا ليتني ألقي المنيّة بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر يهواك ما عشت الفؤاد وإن أمت ... يتبع صداي صداك بين الأقبر «3» فقال كثيّر: هذا والله الشعر المطبوع؛ ما قال أحد مثل قول جميل، وما كنت إلا راوية لجميل، ولقد أبقى للشعراء مثالا تحتذي عليه. الفرزدق وشعر لابن أبي ربيعة: وسمع الفرزدق رجلا ينشد شعر عمر بن أبي ربيعة الذي يقول فيه:

لابن عبد ربه:

فقالت وأرخت جانب السّتر إنما ... معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي فقلت لها مالي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي حتى انتهى إلى قوله: فلما توافقنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل فقال الفرزدق: هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأته وبكت على الطلول. وإنما عارض بهذا الشعر جميلا في شعره الذي يقول فيه: خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي فلم يصنع عمر مع جميل شيئا. لابن عبد ربه: ومن قولنا في رقة التشبيب والشعر المطبوع الذي ليس بدون ما تقدم ذكره: صحا القلب إلّا خطرة تبعث الأسى ... لها زفرة موصولة بحنين بلى ربما حلّت عرى عزماته ... سوالف آرام وأعين عين» لواقط حبات القلوب إذا رنت ... بسحر عيون وانكسار جفون وريط متين الوشى أينع تحته ... ثمار صدور لا ثمار غصون «2» برود كأنوار الرّبيع لبسنها ... ثياب تصاب لا ثياب مجون فرين أديم الليل عن نور أوجه ... تجنّ بها الألباب أيّ جنون «3» وجوه جرى فيها النعيم فكلّلت ... بورد خدود يجتنى وعيون سألبس للأيام درعا من العزا ... وإن لم يكن عند اللّقا بحصين فكيف ولي قلب إذا هبّت الصّبا ... أهبّ بشوق في الضّلوع دفين «4»

ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون «1» وإنّ ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون كأنّ حمام الأيك حين تجاوبت ... خزين بكى من رحمة لحزين «2» ومما عارضت به صريع الغواني في قوله: أديرا عليّ الرّاح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتانلتي ذحلي «3» فيا حزنى أني أموت صبابة ... ولكن على من لا يحلّ له قتلي فديت التي صدّت وقالت لتربها ... دعيه، الثّريّا منه أقرب من وصلي فقلت على رويّه: أتقتلني ظلما وتجحدني قتلي ... وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلي «4» أغار على قلبي فلما أتيته ... أطالبه فيه أغار على عقلي بنفسي التي ضنّت بردّ سلامها ... ولو سألت قتلي وهبت لها قتلي إذا جئتها صدّت حياء بوجهها ... فتهجرني هجرا ألذّ من الوصل وإن حكمت جارت عليّ بحكمها ... ولكن ذاك الجور أشهى من العدل كتمت الهوى جهدي فجدّده الأسى ... بماء البكا هذا يخط وذا يملي وأحببت فيها العذل حبّا لذكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل «5» أقول لقلبي كلّما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت العزّ فاصبر على الذلّ برأيك لا رأيي تعرّضت للهوى ... وأمرك لا أمري وفعلك لا فعلي وجدت الهوى نصلا من الموت مغمدا ... فجرّدته ثم اتّكأت على النّصل «6»

فإن كنت مقتولا على غير ريبة ... فأنت التي عرّضت نفسي للقتل فمن نظر إلى سهولة هذا الشعر، مع بديع معناه ورقة طبعه، لم يفضل شعر صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم، ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر. كتمت الذي ألقى من الحبّ عذلي ... فلم يدر ما بي فاسترحت من العذل بقولي في هذا الشعر: أحببت فيها العذل حبّا لذكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل ومن قولنا في رقة التشبيب وحسن التشبيه: كم سوسن لطف الحياء بلونه ... فأصاره وردا على وجناته ومثله: يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتقطيع القلوب رفيقا «1» ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّا يعود من الحياء عقيقا ونظير هذا من قولنا في رقة التشبيب وحسن التشبيه والبديع الذي لا نظير له، والغريب الذي لم يسبق إليه: حوارء داعبها الهوى في حور ... حكمت لواحظها على المقدور «2» نظرت إليّ بمقلة أدمانة ... وتلفّتت بسوالف اليعفور «3» فكأنما غاض الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ منثور ونظير هذا من قولنا: أدعو إليك فلا دعاء يسمع ... يا من يضرّ بناظريه وينفع للورد حين ليس يطلع دونه ... والورد عندك كلّ حين يطلع

لم تنصدع كبدي عليك لضعفها ... لكنها ذابت فما تتصدّع من لي بأجرد ما يبين لسانه ... خجلا وسيف جفونه ما يقطع «1» منع الكلام سوى إشارة مقلة ... فبها يكلّمني وعنها يسمع ومثله: جمال يفوت الوهم في غاية الفكر ... وطرف إذا مافاه ينطق بالسّحر ووجه أعار البدر حلّة حاسد ... فمنه الذي يسود في صفحة البدر وقال بشار بن برد: ويح قلبي ما به من حبّها ... ضاق من كتمانه حتى علن لا تلم فيها وحسّن حبّها ... كل ما مرّت به العين حسن وله: كأنها روضة منوّرة ... تنفّست في أواخر السّحر ولبشار، وهو أشعر بيت قاله المولّدون في الغزل: أنا والله أشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق وله: حوراء إن نظرت إلي ... ك سقتك بالعينين خمرا وكأنها برد الشرا ... ب صفا ووافق منك فطرا. ولأبي نواس: وذات خدّ مورّد ... قوهيّة المتجرّد «2» تأمّل العين من ... ها محاسنا ليس تنفد فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد

قولهم في النحول

وكلما عدت فيه ... يكون في العود أحمد وله أيضا: ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنها ... قريبة عهد في الإفاقة من سقم قولهم في النحول قال عمر بن أبي ربيعة القرشي يصف نحول جسمه وشحوب لونه في شعره الذي يقول فيه: رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر «1» أخا سفر جوّاب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر «2» قليلا على ظهر المطيّة شخصه ... خلا ما نفى عنه الرداء المحبّر «3» وفي هذا الشعر يقول: فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبّت بالعشاء وأنؤر وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروّح رعيان ونوّم سمّر «4» وخفّض عني الصّوت أقبلت مشية ال ... حباب وركني خيفة القوم أزور «5» فحيّيت إذ فاجأتها فتلهّفت ... وكادت بمكتوم التحيّة تجهر وقالت وعضّت بالبنان: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف ... رقيبا وحولي من عدوّك حضّر فوالله ما أدري أتعجيل حاجة ... سرت بك أم قد نام من كنت تحذر فقلت لهابل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عين من الناس تنظر

فيا لك من ليل تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصر ويا لك من ملهى هناك ومجلس ... لنا لم يكدّره علينا مكدّر يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّج ... رقيق الحواشي ذو غروب مؤشّر «1» وترنو بعينيها إليّ كما رنا ... إلى ربرب وسط الخميلة جؤذر «2» بروق إذا تفترّ عنه كأنه ... حصى برد أو أقحوان منوّر فلما تقضي الليل إلا أقلّه ... وكادت توالي نجمه تتغوّر أشارت بأنّ الحيّ قد حان منهم ... هبوب ولكن موعد لك غزور «3» فما راعني إلا مناد برحلة ... وقد لاح مفتوق من الصّبح أشقر «4» فلما رأت من قد تنوّر منهم ... وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر فقلت: أباديهم فإمّا أفوتهم ... وإمّا ينال السيف ثأرا فيثأر فقالت: أتحقيقا لما قال كاشح ... علينا وتصديقا لما كان يؤثر فإن كان ما لا بدّ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأستر أقصّ على أختيّ بدء حديثنا ... ومالي من أن يعلما متأخّر لعلّهما أن يبغيا لك مخرجا ... وأن يرحبا صدرا بما كنت أحصر فقالت لأختيها أعينا على فتى ... أتى زائرا والأمر للأمر يقدر فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلّي عليك اللوم فالخطب أيسر يقوم فيمشي بيننا متنكّرا ... فلا سرّنا يفشو ولا هو يبصر فكان مجنّي دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر «5» فلما أجزنا ساحة الحيّ قلن لي ... ألم تتّق الأعداء والليل مقمر وقلن أهذا دأبك الدهر سادرا ... أما تستحي أم ترعوي أم تفكّر

ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة، اعترض الناس، فمرّ به رجل من أهل الشام معه ترس قبيح، فقال: يا أخا أهل الشام، مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسن من مجنّك هذا! يريد قول عمر ابن أبي ربيعة: فكان مجنّي دون ما كنت أتّقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر وقال أعرابيّ في النحول: ولو أنّ ما أبقيت مني معلّق ... بعود ثمام ما تأوّد عودها «1» وقال آخر: إن تسألوني عن تباريح الهوى ... فأنا الهوى وأبو الهوى وأخوه «2» فانظر إلى رجل أضرّ به الأسى ... لولا تقلّب طرفه دفنوه وقال مجنون بني عامر في النحول: ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب وللحسن بن هانيء: كما لا ينقضي الأرب ... كذا لا يفتر الطلب «3» ولم يبق الهوى إلا ... أقلّي وهو محتسب سوى أني إلى الحيوا ... ن بالحركات أنتسب وقال آخر وهو خالد الكاتب: هذا محبّك نضو لا حراك به ... لم يبق من جسمه إلا توهّمه «4» ومن قولنا في هذا المعنى: سبيل الحبّ أوّله اغترار ... وآخره هموم وادّكار «5»

قولهم في التوديع

وتلقى العاشقين لهم جسوم ... براها الشوق لو نفخوا لطاروا ومثله من قولنا: لم يبق من جثمانه ... إلا حشاشة مبتئس قد رق حتى ما يرى ... بل ذاب حتى ما يحس وقال الحسن بن هانيء في هذا المعنى، فأربى على الأوّلين والآخرين: يا من تموت عمدا ... فكان للعين أملى وفي الشّعوثة أربى ... فكان أشهى وأحلى أردت أن تزدريك ... العيون هيهات كلّا يا عاقد القلب مني ... هلّا تذكّرت خلّا تركت مني قليلا ... من القليل أقلّا يكاد لا يتجزّا ... أقلّ في اللفظ من لا ولأبي العتاهية: تلاعبت بي يا عتب ثم حملتني ... على مركب بين المنية والسّقم ألا في سبيل الله جسمي وقوّتي ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمي وله: لم تبق مني إلا القليل وما ... أحسبها تترك الذي بقيا قولهم في التوديع ابن حميد وجارية له: قال سعيد بن حميد الكاتب وكان على الخراج بالرقة: ودعت جارية لي تسمى شفيعا وأنا أضحك وهي تبكي، وأقول لها: إنما هي أيام قلائل! قالت: إن كنت تقدر أن تخلف مثل شفيع فنعم! فلما طال بي السفر واتصلت بي الأيام كتبت إليها كتابا، وفي أسفله: ودّعتها والدّمع يقطر بيننا ... وكذاك كلّ ملذّع بفراق

ابن يحيى وجاريتان:

شغلت بتفييض الدّموع شمالها ... ويمينها مشغولة بعناق قال: فكتبت إليّ في طومار «1» كبير ليس فيه إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، [في أوّله] وفي آخره: يا كذاب، وسائر الكتاب أبيض، قال: فوجهت الكتاب إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل. وكتبت إليها كتابا على نحو ما كتبت، ليس فيه إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، في أوله، وفي آخره أقول: فودّعتها يوم التفرّق ضاحكا ... إليها ولم أعلم بأن لا تلاقيا فلو كنت أدري أنه آخر الّلقا ... بكيت وأبكيت الحبيب المصافيا قال: فكتبت إليّ كتابا آخر ليس فيه إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، في أوله، وفي آخره: أعيذك بالله أن يكون ذلك! فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل فأشخصني «2» إلى بغداد وصيّرني إلى ديوان الضياع. ابن يحيى وجاريتان: محمد بن يزيد الرّبعي عن الزبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل قال: إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش» فطال مقامه بها، تمتّع بجارية رائعة الجمال بارعة الكمال، فأنسته ما كان فيه من رونق الخلافة وتدبيرها، وكان قبل ذلك متيّما بجارية خلفها بالعراق، فسلا عنها؛ فبينما هو مع الأقريطشيّة في سرور وحبور، يحلف لها أنه لا يفارق البلد ما عاش، إذ قدم عليه كتاب جاريته من العراق وفيه مكتوب: كيف بعدي لا ذقتم النوم أنتم ... خبروني مذ بنت عنكم وبنتم «4» بمراض الجفون من خرّد العين ... وورد الخدود بعدي فتنتم «5»

المعتز وجارية لابن رجاء:

يا أخلّاي إنّ قلبي وإن با ... ن، من الشوق عندكم حيث كنتم فإذا ما أبى الإله اجتماعا ... فالمنايا عليّ وحدي وعشتم أخذت هذا المعنى من قول حاتم: إذا ما أتى يوم يفرّق بيننا ... بموت، فكن أنت الذي تتأخّر فلم يباشر لذة بعد كتابها، حتى رضي عنه المتوكل وصرفه إلى أحسن حالاته. المعتز وجارية لابن رجاء: الزبيري قال: حدثني ابن رجاء الكاتب قال: أخذ مني الخليفة المعتز جارية كنت أحبها وتحبني؛ فشربا معا في بعض الليالي، فسكر قبلها، وبقيت وحدها ولم تبرح من المجلس هيبة له، فذكرت ما كنا فيه من أيامنا، فأخذت العود فغنت عليه صوتا حزينا من قلب قريح وهي تقول: لا كان يوم الفراق يوما ... لم يبق للمقلتين نوما شتّت منّي ومنك شملا ... فسرّ قوما وساء قوما يا قوم من لي بوجد قلب ... يسومني في العذاب سوما ما لامني الناس فيه إلا ... بكيت كيما أزاد لوما فلما فرغت من صوتها رفع المعتز رأسه إليها والدموع تجري على خديها كالفرند «1» انقطع سلكه فسألها عن الخبر وحلف لها أن يبلغها أملها، فأعلمته القصة فردها إليّ وأحسن إليها، وألحقني في ندمائه وخاصته. أبو أحمد وجارية له: وكان لأبي أحمد صاحب حرب المعتمد جارية، فكتبت إليه وهو مقيم على العلوي بالبصرة تقول:

مروان وجارية له:

لنا عبرات بعدكم تبعث الأسى ... وأنفاس حزن جمّة وزفير ألا ليت شعري بعدنا هل بكيتم ... فأمّا بكائي بعدكم فكثير قال أبو أحمد: فلم يكن لي همّ غيرها حتى قفلت «1» من غزاتي. مروان وجارية له: وكتب مروان بن محمد وهو منهزم نحو مصر إلى جارية له خلفها بالرّملة: وما زال يدعوني إلى الصّدّ ما أرى ... فأنأى ويثنيني الذي لك في صدري «2» وكان عزيزا أنّ بيني وبينها ... حجابا فقد أمسيت منك على عشر وأنكاهما والله للقلب فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر وأعظم من هذين والله أنّني ... أخاف بأن لا نلتقي آخر الدّهر سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصّبر عاقبة الصّبر ابن بكار ورجل بالثغر: الزبير بن بكار قال: رأيت رجلا بالثغر «3» وعليه ذلة واستكانة وخضوع، وكان يكثر التنفس، ويخفي الشكوى، وحركات الحب لا تخفى؛ فسألته وقد خلوت به فقال وقد تحدّر دمعه: أنا في أمري رشاد ... بين غزو وجهاد بدني يغزو الأعادي ... والهوى يغزو فؤادي يا عليما بالعباد ... ردّ إلفي ورقادي «4» وقال أعرابيّ يصف البين: أدمت أناملها عضّا على البين ... لمّا انثنت فرأتني دامع العين

وودّعتني إيماء وما نطقت ... إلا بسبّابة منها وعينين وجدي كوجدك بل أضعافه فإذا ... عنّي تواريت قاب الرّمح واحيني «1» وإن سمعت بموتي فاطلبي بدمي ... هواك والبين واستعدي على البين وقال آخر: مالت تودّعني والدّمع يغلبها ... كما يميل نسيم الرّيح بالغصن ثمّ استمرّت وقالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إيّاك لم تكن وقال آخر: أنين فاقد إلف أنّ في الغلس ... حتى تضايق منه مخرج النّفس فكلّما أنّ من شوق أجال يدا ... على فؤاد له بالبين مختلس وقال آخر: أمبتكر للبين أم أنت رائح ... وقلبك ملهوف ودمعك سافح الآن تبكي والنّوى مطمئنة ... فكيف إذا بارحت من لا تبارح فإنك لم تبرح ولا شطّت النوى ... ولكنّ صبري عن فؤادي نازح «2» وقال آخر: إذا انفتحت قيود البين عنّي ... وقيل أتيح للنّائي سراح أبت حلقاته إلّا انقفالا ... ويأتي الله والقدر المتاح ومن لي بالبقاء وكلّ يوم ... لسهم البين في كبدي جراح وقال محمد بن أبي أمية الكاتب: يا غريبا يبكي لكلّ غريب ... لم يذق قبلها فراق حبيب عزّه البين فاستراح إلى الدّم ... ع وفي الدمع راحة للقلوب ختلته حوادث الدهر حتى ... أقصدته منها بسهم مصيب «3»

أيّ يوم أراك فيه كما كن ... ت قريبا فأشتكي من قريب وقال أبو الطيامير: أقول له يوم ودّعته ... وكلّ بعبرته مبلس «1» لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس وقال أبو العتاهية: أبيت مسهّدا قلقا وسادي ... أروّح بالدموع عن الفؤاد فراقك كان آخر عهد نومي ... وأوّل عهد عيني بالسّهاد فلم أر مثل ما سلبته نفسي ... وما رجعت به من سوء زاد وقال محمد بن يزيد التّستري: رفعت جانبا إليك من الكلّ ... ة قابلته طرفا كحيلا «2» نظرت نظرة الصّبابة لا تم ... لك للبين دمعها أن يجولا ثم ولّت وقد تغير ذاك الصّ ... بح من خدّها فعاد أصيلا وقال يزيد بن عثمان: دمعة كالّلؤلؤ الرّط ... ب على الخدّ الأسيل «3» وجفون تنفث السّح ... ر من الطّرف الكحيل إنما يفتضح العا ... شق في يوم الرحيل وقال علي بن الجهم: يا وحشتا للغريب في البلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كلّ ما صنعا

وقال آخر: بانوا وأضحى الجسم من بعدهم ... ما تبصر العين له فيّا «1» يا أسفي منهم ومن قولهم ... ما ضرّك الفقد لنا شيّا بأيّ وجه أتلقّاهم ... إن وجدوني بعدهم حيّا وقال آخر: اترحل عن حبيبك ثم تبكي ... عليه، فمن دعاك إلى الفراق؟ وقال هدبة العذري: ألا ليت الرياح مسخّرات ... بحاجتنا تباكر أو تئوب فتخبرنا الشّمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنّا الجنوب «2» عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «3» فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله النّائي الغريب وقال آخر: لا بارك الله في الفراق ولا ... بارك في الهجر ما أمرّهما لو ذبح الهجر والفراق كما ... يذبح ظبي لما رحمتهما شربت كأس الفراق مترعة ... فطار عن مقلتيّ نومهما «4» يا سيّدي والذي أؤمّله ... ناشدتك الله أن تذوقهما وقال حبيب الطائي: الموت عندي والفرا ... ق كلاهما ما لا يطاق يتعاونان على النفو ... س فذا الحمام وذا السّياق «5»

لو لم يكن هذا كذا ... ما قيل موت أو فراق وقال آخر: شتان ما قبلة التّلاق ... وقبلة ساعة الفراق هذي حياة وتلك موت ... بينهما راحة العناق وقال سعيد بن حميد: موقف البين مأتم العاشقينا ... لا ترى العين فيه إلّا حزينا إنّ في البين فرحتين: فأمّا ... فرحتي بالوداع للظّاعنينا ... فاعتناق لمن أحبّ وتقبيل ... ولمس بحضرة الكاشحينا «1» ثم لي فرحة إذا قدم النّا ... س لتسليمهم على القادمينا! وقال أعرابي: ليل الشّجيّ على الخليّ قصير ... وبلا المحبّ على المحبّ يسير بان الذين أحبّهم فتحمّلوا ... وفراق من تهوى عليك عسير فلأبعثنّ نياحة لفراقهم ... فيها تلطّم أوجه وصدور ولألبسنّ مدارعا مسودة ... لبس الثّواكل إذ دهاك مسير «2» ولأذكرنّك بعد موتي خاليا ... في القبر عند منكر ونكير «3» ولأطلبنّك في القيامة جاهدا ... بين الخلائق والعباد نشور «4» فبجنّة إن صرت صرت بجنة ... ولئن حواك سعيرها فسعير والمستهام بكلّ ذاك جدير ... والذّنب يغفر والإله شكور ومن قولنا في البين:

هيّج البين دواعي سقمي ... كسا جسمي ثوب الألم أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حلّ دمي «1» يا خليّ الرّوع نم في غبطة ... إنّ من فارقته لم ينم! ولقد هاج لقلبي سقما ... ذكر من لو شاء داوى سقمي ومن قولنا في المعنى: ودّعتني بزفرة واعتناق ... ثم نادت: متى يكون التلاق؟ وتصدّت فأشرق الصّبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق «2» يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشّاق إنّ يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني متّ قبل يوم الفراق ومن قولنا فيه: فررت من الّلقاء إلى الفراق ... فحسبي ما لقيت وما ألاقي سقاني البين كأس الموت صرفا ... وما ظني أموت بكفّ ساقي فيا برد اللقاء إلى فؤادي ... أجرني اليوم من حرّ الفراق وقال مجنون بني عامر. وإني لمفن دمع عيني من البكا ... حذارا لأمر لم يكن وهو كائن وقالوا: غدا او بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن وما كنت أخشى أن تكون منيّتي ... بكفّيّ إلّا أنّ ما حان حائن وقال أبو هشام الباهلي خليلي غدا لا شكّ فيه مودّع ... فوالله ما أدري غدا كيف أصنع فواحزنا إن لم أودّعه غدوة ... ويا أسفا إن كنت فيمن يودّع «3»

قولهم في الحمام

فإن لم أودّعه غدا متّ بعده ... سريعا وإن ودّعت فالموت أسرع أنا اليوم أبكيه فكيف به غدا ... أنا في غد والله أبكي وأجزع لقد سخنت عيني وجلّت مصيبتي ... غداة غد إن كان ما أتوقّع «1» فيا يوم لا أدبرت! هل لك محبس؟ ... ويا غد لا أقبلت! هل لك مدفع وقال بشار بن برد: نبت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار أقول وليلتي تزداد طولا ... أما للّيل بعدكم نهار وقال المعتصم لما دخل مصر وذكر جارية له: غريب في قرى مصر ... يقاسي الهمّ والسّقما لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما وقال آخر: وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم «2» عليك سلام فكم من ندى ... فقدناه منك وكم من كرم قولهم في الحمام قال أبو الحسن الاخفش: قال جحدر العكلي «3» ، وكان لصّا: وقدما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان تجاوبتا بلحن أعجميّ ... على عودين من غرب وبان «4» فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان وقال آخر:

وتفرّقوا بعد الجميع لأنّه ... لا بدّ ان يتفرّق الجيران لا تصبر الإبل الجياد تفرّقت ... بعد الجميع، ويصبر الإنسان! وقال آخر: فهل ريبة في أن تحنّ نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحنّ نجيب «1» وإذا رجعت الإبل الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون كما يهتاجون لنوح الحمام. وقال عوف بن محلّم: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح؟ «2» وكل مطوّقة عند العرب حمامة، كالدّبسي والقمري والورشان وما أشبه ذلك؛ وجمعها حمام، ويقال: حمامة، للذكر والانثى، كما يقال: بطة، للذكر والانثى؛ ولا يقال حمام إلّا في الجمع، والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتغرد وتسجع وتقرقر وتترنم؛ وإنما لها أصوات سجيع لا تفهم فيجعله الحزين بكاء، ويجعله المسرور غناء. قال حميد بن ثور: وما هاج هذا الشوق الا حمامة ... دعت ساق حرّ ترحة وترنما مطوّقة خطباء تسجع كلّما ... دنا الصّيف وانزاح الربيع فأنجما» تغنّت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما وقال مجنون بني عامر: ألا يا حمامات اللّوى عدن غدوة ... فإني الى اصواتكنّ حزين فعدن، فلما عدن كدن يمتني ... وكدت بأشجاني لهنّ أبين

فلم تر عيني مثلهنّ بواكيا ... بكين ولم تذرف لهنّ عيون! وقال حبيب في المعنى: هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنّهنّ حمام «1» وقال: كما كاد ينسى عهد ظيماء باللّوى ... ولكن أملّته عليّ الحمائم بعثن الهوى في قلب من ليس هائما ... فقل في فؤادي رعنه وهو هائم لها نغم ليست دموعا فإن علت ... مضت حيث لا تمضي الدّموع السواجم «2» ومن قولنا في الحمام فكيف، ولي قلب إذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضلوع مكين «3» ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون وكان ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون كأنّ حمام الأيك لما تجاوبت ... حزين بكى من رحمة لحزين ومن قولنا في المعنى: ونائح في غصون الأيك أرّقني ... وما عنيت بشيء ظلّ يعنيه مطوّق بخضاب ما يزايله ... حتى تفارقه إحدى تراقيه قد بات يشكو بشجو ما دريت به ... وبتّ أشكو بشجو ليس يدريه ومن قولنا فيه: أناحت حمامات اللّوى أم تغنّت ... فأبدت دواعي قلبه ما أجنّت فديت التي كانت ولا شيء غيرها ... منى النفس لو تقضى لها ما تمنت ومن قولنا: لقد سجعت في جنح ليل حمامة ... فأيّ أسى هاجت على الهائم الصبّ «4»

قولهم في طيب الحديث

لك الويل كم هيّجت شجوا بلا جوى ... وشكوى بلا شكوى وكربا بلا كرب «1» وأسكبت دمعا من جفون مسهّد ... وما رقرقت منك المدامع بالسّكب وقال ذو الرمة: رأيت غرابا ناعبا فوق بانة ... من القضب لم ينبت لها ورق نضر «2» فقلت غراب لاغتراب وبانه ... لبين النّوى هذا العيافة والزّجر قولهم في طيب الحديث قال عدي بن زيد: في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار «3» وقال القطامي: فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصّادي «4» وقال جران العود: فنلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النّحل أو أبكار كرم تقطّف وقال آخر: وإنا ليجري بيننا حين نلتقي ... حديث له وشي كوشي المطارف «5» وقال بشار: وكأن نشر حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا «6» وله: لئن عشقت أذني كلاما سمعته ... فقلبي إذا لا شكّ باللحظ أعشق

قولهم في الرياض

وكيف تناسي من كأنّ كلامه ... بأذني ولو عرّيت قرط معلّق وقال بشار أيضا: وبكر كنوّار الربيع حديثها ... يروق بوجه واضح وقوام «1» وقال آخر: كأنما عسل رجعان منطقها ... إن كان رجع كلام يشبه العسلا «2» وقال آخر: وحديث كأنه زهر الرو ... ض وفيه الصّفراء والحمراء قولهم في الرياض أنشد أحمد بن جدار للمعلي الطائي: كأنّ عيون الرّوض يذرفن بالنّدى ... عيون يراسلن الدموع على غدر وقال البحتري: شقائق يحملن النّدى فكأنه ... دموع التّصابي في خدود الخرائد «3» ومن لؤلؤ كالاقحوان منضّد ... على نكت مصفرّة كالفرائد «4» وقال أيضا: وقد نبّه النّيروز في غلس الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالامس نوّما يفتّقه برد النّدى فكأنه ... يبثّ حديثا كان قبل مكتّما «5» ومن شجر ردّ الرّبيع لباسه ... عليها كما نشّرت وشيا منمنما وقال أعشى بكر: ما روضة من رياض الحسن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل «6»

يضاحك الشمس فيها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النّبت مكتهل ... ... يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الاصل وأنشد ابن أبي الطاهر لنفسه: فتقت جيوب الرّوض منها ديمة ... حلّت عواليها صبا وقبول ولها عيون كالعيون نواظر ... تبدو فمنها أمرة وكحيل «1» وقال الاخطل: خلع الرّبيع على الثّرى من وشيه ... حللا يظلّ بها الثرى يتخيّل نور إذا مرت الصّبا فيه الندى ... خلت الزّبرجد بالفريد يفصّل «2» فكأنها طورا عيون كحّل ... وكأنها طورا عيون همّل وقال أبو نواس: يوم تقاصر واستتبّ نعيمه ... في ظلّ ملتفّ الحدائق أخضرا وإذا الرّياح تنسّمت في روضة ... نثرت به مسكا عليك وعنبرا وأنشد ابن مسهر لابن أبي زرعة الدمشقي يقول: وقد لبست زهر الرّياض حليّها ... وجللت الأرض الفضا بالزخارف لجين وعقيان ودر وجوهر ... تؤلّفه أيدي الربيع اللطائف «3» وأنشد البحتري لنفسه: قطرات من السحاب وروض ... نثرت وردها عليه الخدود وكان الحوذان الأقحوان الغضّ ... نظمان: لؤلؤ وفريد «4» وأنشد ابن جدار للمعلّى: ترى للندى فيه مجالا كأنما ... نثرت عليه لؤلؤا فتبدّدا وأنشد ابن الحارثي لنفسه:

وما روضة علويّة أسديّة ... منمنمة زهراء ذات ثرى جعد سقاها الندى في عقب جنح من الدّجى ... فنوّارها يهتزّ بالكوكب السعد «1» بأحسن من حرّ تضمّن حاجة ... لحرّ فأوفى بالنجاح مع الوعد وأنشد محمد بن عمار للحسن بن وهب، يقول: طللع الربيع على الرياض فبشّرت ... نور الرياض بجدّة وشباب وغدا السّحاب مكللا جوّ الثرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب «2» فترى السماء أحدّ ربابها ... فكأنما التحفت جناح غراب «3» وترى الغصون إذا الرياح تناوحت ... ملتفّة كتعانق الأحباب وقال حبيب بن أوس الطائي: الروض ما بين مغبوق ومصطبح ... من ريق مكنفلات في الثرى دلح «4» وطف إذا وكفت في روضة طفقت ... عيون نوّارها تبكي من الفرح «5» وأنشد البحتري في دمشق: إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا يمسي السحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النّبت في صحرائها بددا فلست تبصر إلّا واكفا خضلا ... أو يانعا خضرا أو طائرا غرد «6» كأنما القيظ ولّى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا وأنشد ابن أبي الطاهر لأشجع: من الكنائس والارواح مطرد ... للعين يلعب فيه الطرف والبصر «7»

في رقعة من رقاع الارض يعمرها ... قوم على أبويهم أجمعت مضر وأنشد على بن الجهم لعلّي بن الخليل: وروضة في ظلال دسكرة ... جداول الماء في جوانبها «1» تستنّ في روضة منوّرة ... يغرّد الطير في مشاربها كأنّ فيها الحليّ والحلل اليمنة ... تهدي إلى مرازبها «2» وقال ابراهيم بن العباس الكاتب: تأمّل سماء أظلّت عليك ... فيها مصابيحها تزهر وأرضا تقابلها بالعرو ... س والمرج بينهما جعفر ومسحب نور غداة الربيع ... أنفاسه المسك والعنبر خلال شقائقه أصفر ... وأضعاف أصفره أحمر «3» وللماء مطرد بينه ... يصفّق باديه المصدر يشارفه البر من جانب ... ومن جانب بحره الاخضر مجال وحوش ومرقى سفين ... فيا عرف لهو ويا منظر ويا حسن دنيا ويا عز ملك ... يسوسهما السائس الاكبر وقال ابن ابي عيينة في بستانه: يذكّرني الفردوس طورا فأنثني ... وطورا يواتيني إلى القصف والفتك «4» بغرس كأبكار العذارى وتربة ... كأنّ ثراها ماء ورد على مسك كأنّ قصور الارض ينظرن حوله ... إلى ملك أوفى على منبر الملك يدلّ عليها مستطيلا بحسنه ... ويضحك منها وهي مطرقة تبكي وقال فيه: يا جنة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثمن

الفتها فاتخذتها وطنا ... لأن قلبي لأهلها وطن زوّج حيتانها الضباب بها ... فهذه كنّة وذا ختن» فانظر وفكّر فيما تمرّ به ... إنّ الاريب المفكّر الفطن من سفن كالنعام مقبلة ... ومن نعام كأنها سفن وقال الخليل بن أحمد: يا صاحب القصر نعم القصر والوادي ... بمنزل حاضر إن شئت أو بادي ترفي به السّفن والظّلمان واقفة ... والنّون والضّبّ والملاح والحادي «2» وقال اسماعيل بن ابراهيم الحمدوني: بروضة صبغت أيدي الربيع لها ... برودها وكستها وشيها عدن عاجت عليها مطايا الغيث مسبلة ... لهنّ في ضحكات أدمع هتن «3» كأنما البين يبكيها ويضحكها ... وصل حباها به من بعده سكن «4» فولّدت صفرا أثوابها خضر ... أحشاؤهنّ لاحشإ الندى وطن من كلّ عسجدة في خدرها اكتتمت ... عذراء في بطنها الياقوت مكتمن وأنشد عمرو بن بحر الجاحظ: أين إخواننا على السرّاء ... أين أهل القباب والدّهناء «5» جاورونا والأرض ملبسة نو ... ر الاقاحي تجاد بالأنواء «6» كلّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء

ومن قولنا في هذا المعنى: وروضة عقدت أيدي الربيع بها ... نورا بنور وتزويجا بتزويج بملقح من سواريها وملقحة ... وناتج من غواديها ومنتوج «1» توشحت بملاة غير ملحمة ... من نورها ورداء غير منسوج فألبست حلل الموشيّ زهرتها ... وجلّلتها بأنماط الديابيج «2» ومن قولنا: وموشيّية يهدي إليك نسيمها ... على مفرق الارواح مسكا وعنبرا سداوتها من ناصع اللون أبيض ... ولحمتها من فاقع اللون أصفرا «3» يلاحظ لحظا من عيون كأنها ... فصوص من الياقوت كلّمن جوهرا ومثله قولنا: وما روضة بالخرف حاك لها الندى ... برودا من الموشّي حمر الشّقائق يقيم الدّجى أعناقها، ويميلها ... شعاع الضّحى المستنّ في كلّ شارق إذا ضاحكتها الشمس تبكي بأعين ... مكّالة الاجفان صفر الحمالق «4» حكت أرضها لون السماء وزانها ... نجوم كأمثال النجوم الخوافق ... بأطيب نشرا من خلائقه التي ... لها خضعت في الحسن زهر الخلائق

كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي

كتاب الجوهرة الثّانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أعاريضه وعلله، وما يحسن ويقبح من زحافه، وما ينفك من الدوائر الخمس من الشطور التي التي قالت عليها العرب والتي لم تقل، وتلخيص جميع ذلك بمنثور من الكلام يقرّب معناه من الفهم، ومنظوم من الشعر يسهّل حفظه على الرواة، فأكملت جميع هذه العروض في هذه الكتاب- الذي هو جزءان، فجزء للفرش وجزء للمثال- مختصرا مبيّنا مفسّرا؛ فاختصرت للفرش أرجوزة، وجمعت فيها كلّ ما يدخل العروض ويجوز في حشو الشعر من الزحاف، وبيّنت الأسباب والأوتاد، والتعاقب والتراقب، والخروم والزيادة على الأجزاء، وفكّ الدوائر- في هذا الجزء؛ واختصرت المثال في الجزء الثاني في ثلاث وستين قطعة، على ثلاثة وستين ضربا من ضروب العروض، وجعلت المقطّعات رقيقة غزلة، ليسهل حفظها على ألسنة الرواة؛ وضمّنت في آخر كل مقطعة منها بيتا قديما متصلا بها وداخلا في معناها من الأبيات التي استشهد بها الخليل في عروضه، لتقوم به الحجة لمن روى هذه المقطعات واحتج بها. مختصر الفرش الساكن والمتحرك: اعلم أنّ أوّل ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتديء به، معرفة الساكن

باب الأسباب والأوتاد

والمتحرّك؛ فإنّ الكلام كله لا يعدو أن يكون ساكنا أو متحرّكا. واعلم أنّ كل ألف خفيفة، أو ألف ولام خفيفتين لا يظهران على اللسان ويثبتان في الكتابة، فإنهما يسقطان في العروض وفي تقطيع الشعر: نحو ألف «قال ابنك» أو ألف ولام نحو «قال الرجل» وإنما يعدّ في العروض ما ظهر على اللسان. واعلم أنّ كل حرف مشدّد فإنه يعدّ في العروض حرفين: أولهما ساكن، والثاني متحرّك: نحو ميم محمّد، ولام سلّام. واعلم أنّ التنوين كله يعدّ في العروض نونا ساكنة ليست من أصل الكلمة. باب الأسباب والأوتاد اعلم أنّ مدار الشعر وفواصل العروض على ثمانية أجزاء، وهي: فاعلن، مفعولن، مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات. وإنما ألّفت هذه الأجزاء من الأسباب والأوتاد. فالسبب سببان: خفيف، وثقيل: فالسبب الخفيف حرفان: متحرّك، وساكن، مثل: من، وعن، وما أشبههما؛ والسبب الثقيل حرفان متحرّكان، مثل: بك ولك، وما أشبههما. والوتد وتدان: مفروق، ومجموع؛ فالوتد المجموع ثلاثة أحرف: متحرّكان وساكن، مثل: على، وإلى، وما أشبههما؛ والوتد المفروق ثلاثة أحرف: ساكن بين متحرّكين، مثل: أين، وكيف، وما أشبههما؛ وإنما قيل للسبب سبب؛ لأنه يضطرب، فيثبت مرة ويسقط أخرى؛ وإنما قيل للوتد وتد؛ لأنه يثبت فلا يزول. باب الزحاف اعلم أنّ الزّحاف زحافان: فزحاف يسقط ثاني السبب الخفيف، وزحاف يسكن ثاني السبب الثقيل، وربما أسقطه.

باب الزحاف المزدوج

ولا يدخل الزحاف في شيء من الأوتاد، وإنما يدخل في الأسباب خاصة؛ وإنما يدخل في ثاني الجزء، ورابعه، وخامسه، وسابعه؛ فإن أردت أن تعرف موضع الزحاف من الجزء، فانظر إلى جزء من الأجزاء الثمانية التي سمّيت لك؛ فإن رأيت الوتد في أول الجزء، فإنما يزحف خامسه وسابعه؛ وإن كان الوتد في آخر الجزء، فإنما يزحف ثانيه ورابعه؛ وإن كان الوتد في وسط الجزء، فإنما يزحف ثانيه وسابعه. فللزحاف الذي يدخل في ثاني الجزء ثلاثة أسماء: الخبن، والإضمار، والوقص، فالمخبون: ما ذهب ثانيه، والمضمر: ما سكن ثانيه المتحرّك، والموقوص؛ ما ذهب ثانيه المتحرّك. وللزحاف الذي يدخل في رابع الجزء اسم واحد: الطيّ فالمطويّ هو ما ذهب رابعه الساكن. وللزحاف الذي يدخل في الخامس منها ثلاثة أسماء: القبض؛ والعصب، والعقل. فالمقبوض: ما ذهب خامسه الساكن، والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرّك، والمعقول: ما ذهب خامسه المتحرّك. [وللزحاف الذي يدخل] السابع اسم واحد: الكفّ، فالمكفوف، هو ما ذهب سابعه الساكن. باب الزحاف المزدوج المخبول: هو ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان. والمخزول: هو ما سكن ثانيه وذهب رابعه الساكن. والمنقوص: هو ما سكن خامسه وذهب سابعه الساكن. والمشكول: هو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.

علل الأعاريض والضروب

علل الأعاريض والضروب المحذوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف. والمقطوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحرّكاته من الجزء الذي في آخره سبب. والمقطوع: ما ذهب أواخر سواكنه وسكن آخر متحرّكاته من الجزء الذي في آخره وتد. والأبتر: ما حذف ثم قطع، فكان فاعل من فاعلاتن وفع في فعولن والأحذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع. والأصلم: ما ذهب من آخر الجزء وتد مفروق. والموقوف: ما سكن سابعه المتحرّك. والمكشوف: ما ذهب سابعه المتحرّك. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء. والمشطور: ما ذهب شطره. والمنهوك: ما ذهب منه أربعة أجزاء وبقى جزآن. الزيادات على الأجزاء والزيادة على الأجزاء ثلاثة أشياء: المذال، وهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن مما يكون في آخره وتد. والمسبغ: ما زاد على اعتداله حرف ساكن مما يكون في آخره سبب. والمرفل: ما زاد على اعتداله حرفان: متحرك وساكن، مما يكون في آخره وتد. واعلم أن كل جزء من أجزاء العروض يكون مخالفا لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة فهو المعتل؛ وما كان معتلا فإنما هو ثلاثة أشياء: ابتداء، وفصل؛ وغاية؛ وإن

الاعتماد ليس علة؛ لأنه غير مخالف لأجزاء الحشو كلها، وإنما خالفها في الحسن والقبح وليس اختلاف الحسن والقبح علة، ونحن نجد الاعتماد في الشعر كثيرا؛ من ذلك البيت الذي جاء به الخليل: أقيموا بني النّعمان عنا صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا «1» ومنه قول امريء القيس: أعنّي على برق- أراه- وميض ... يضيّ حبيّا في شماريخ بيض «2» ويخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقّى الفوز عند المفيض «3» وإنما زعم الخليل أن المعتل ما كان مخالفا لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة ولم يقل بحسن أو قبح؛ أر ترى أن القبض في مفاعيلن في الطويل حسن، والكف فيه قبيح؛ والقبض في مفاعيلن في الهزج قبيح، والكف فيه حسن؛ والاعتماد في المتقارب- على ضد ما هو في الطويل السالم- فيه حسن، والقبض فيه قبيح؟ فإذا اعتل أول البيت سمي ابتداء؛ وإذا اعتل وسطه وهو العروض سمي فصلا، وإذا اعتل الطرف- وهو في القافية- سمي غاية؛ وإذا لم يعتل أوله ولا وسطه ولا آخره سمي حشوا كله. وما كان من الأنصاف مستوفيا لدائرته وآخر جزء منه بمنزلة الحشو من الآخر فهو التام؛ وما كان من الأنصاف لم يذهب به الانتقاص فهو مجزوء، وما كان من الأنصاف مقفّى فهو مصرّع؛ فإن كانت الكلمة كلها كذلك فهو مشطور؛ فإذا لم يبق منه إلا جزآن فهو المنهوك، وإذا اختلفت القوافي واختلطت وكانت حيزا من كلمة واحدة فهو المخمّس؛ وإذا كانت أنصاف على قواف يجمعها قافية واحدة ثم تعاد لمثل ذلك حتى تنقضي القصيدة، فهو المسمّط.

باب الخرم

باب الخرم اعلم أن الخرم لا يدخل إلا في كل جزء أوله وتد، وذلك ثلاثة أجزاء: فعولن، مفاعلتن، مفاعيلن؛ وهو سقوط حركة من أول الجزء؛ وإنما منعه أن يدخل في السبب، أنك لو أسقطت من السبب حركة بقي ساكن، ولا يبدأ بساكن أبدا. ولا يدخل الخرم إلا في أول البيت، فإذا أدخل الخرم «فعولن» قيل له أثلم؛ فإذا دخل القبض مع الخرم قيل له أثرم؛ فإذا دخل الخرم مفاعلتن قيل له أعضب؛ فإذا دخله العصب مع الخرم قيل له أقصم؛ فإذا دخل الخرم مفاعيلن قيل له أخرم؛ فإذا دخله الكف مع الخرم قيل له أخرب؛ فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له أشتر؛ وكل ما لم يدخله الخرم فهو الموفور. باب التعاقب والترقب اعلم أن التعاقب يدخل بين السببين المتقابلين في حشو الشعر حيثما كانا، ولا يكونان مع جميع العروض إلا في أربعة أشطار: في المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث؛ وقد بينا جميع ذلك في موضعه؛ فما عاقبه ما قبله فهو صدر، وما عاقبه ما بعده فهو عجز، وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان، وما لم يعاقبه ما قبله ولا ما بعده فهو بريء. والتراقب بين السببين المتقابلين من فاصلة واحدة؛ ولا يدخل التراقب من جميع العروض إلا في المضارع، والمقتضب؛ وقد فسّرناه هنالك. وقد نظمنا جميع ما ذكرناه من هذه الأبواب في أرجوزة، ليسهل حفظها على المتعلم؛ إذ كان حفظ المنظوم أسهل من حفظ المنثور؛ وقد ذكرنا فيها كل الدوائر الخمس وما ينفك من كل دائرة من عدد الشطور التي قالت عليها العرب والتي لم تقل عليها وموضع الزحاف منها.

وهذه أرجوزة العروض:

واعلم أن الدائرة الأولى مؤلفة من أربعة أجزاء: سباعيين مع خماسيّين وهي: فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن. والدائرة الثانية من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعلتن، مفاعلتن، مفاعلتن. والدائرة الثالثة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعيلن، مفاعيلن، مفاعيلن. والدائرة الرابعة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مستفعلن، مفعولات، مستفعلن. والدائرة الخامسة مؤلفة من أربعة أجزاء خماسية وهي: فعولن، فعولن، فعولن، فعولن. واعلم أن كل دائرة من هذه الدوائر ينفك من رأس كل سبب وكلّ وتد فيها شطر؛ وقد بيّنا جميع ذلك في الدوائر، وأسماء الشطور التي تنفكّ عنها. وهذه أرجوزة العروض: بالله نبدا وبه التّمام ... وباسمه يفتتح الكلام يا طالب العلم هو المنهاج ... قد كثرت من دونه الفجاج «1» وكلّ علم فله فنون ... وكلّ فنّ فله عيون أولها جوامع البيان ... وأصلها معرفة الّلسان فإنّ في المجاز والتّأويل ... ضلّت أساطير ذوي العقول حتى إذا عرفت تلك الأبنية ... واحدها وجمعها والتّثنيه طلبت ما شئت من العلوم ... ما بين منثور إلى منظوم فداو بالإعراب والعروض ... داءك في الإملاء والقريض «2»

اختصار الفرش

كلاهما طبّ لداء الشّعر ... واللّفظ من لحن به وكسر ما فلسف البطليس جالينوس ... وصاحب القانون بطليموس ولا الذي يدعونه بهرمس ... وصاحب الأركند والأقليدس فلسفة الخليل في العروض ... وفي صحيح الشّعر والمريض وقد نظرت فيه فاختصرت ... إلى نظام منه قد أحكمت ملخص مختصر بديع ... والبعض قد يكفي عن الجميع اختصار الفرش هذا اختصار الفرش من مقالي ... وبعده أقول في المثال أوّله والله أستعين ... أن يعرف التحريك والسكون من كلّ ما يبدو على اللسان ... لا كل ما تخطّه اليدان ويظهر التضعيف في الثّقيل ... تعدّه حرفين في التفصيل مسكنا وبعده محرّكا ... كنون كنّا وكراء سرّكا باب الأسباب والأوتاد وبعد ذا الأسباب والأوتاد ... فإنها لقولنا عماد فالسبب الخفيف إذ يعدّ ... محرّك وساكن لا يعدو والسبب الثقيل في التبيين ... حركتان غير ذي تنوين والوتد المفروق والمجموع ... كلاهما في حشوه ممنوع وإنما اعتلّ من الأجزاء ... في الفصل والغائي والابتداء فالوتد المجموع منها فافهمن ... حركتان قبل حرف قد سكن والوتد المفروق من هذين ... مسكّن بين محرّكين فهذه الأوتاد والأسباب ... لها ثبات ولها ذهاب وإنما عروض كلّ قافيه ... جار على أجزائه الثمانية وهاكها بينة مصوّرة ... لكلّ من عاينها، مفسّره

الفواصل

الفواصل فاعلن، فعولن، مستفعلن، فاعلاتن، مفاعيلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات: هذي التي بها يقول المنشد ... في كلّ ما يرجوه أو يقصّد كلّ عروض يعتزي إليها ... وإنما مداره عليها منها خماسيّان في الهجاء ... ووغيرها مسبّع البناء يدخلها النّقصان بالزّحاف ... في الحشو والعروض والقوافي وإنما يدخلّ في الأسباب ... لأنها تعرف باضطراب باب الزحاف فكلّ جزء زال منه الثاني ... من كلّ ما يبدو على اللسان وكان حرفا شأنه السّكون ... فإنه عندي اسمه مخبون وإن وجدت الثاني المنقوصا ... محرّكا سميته الموقوصا وإن يكن محرّكا فسكّنا ... فذلك المضمر حقّا بيّنا والرابع الساكن إذ يزول ... فذلك المطويّ لا يحول وإن يزل خامسه المسكّن ... فذلك المقبوض فهو يحسن وإن يكن هذا الذي يزول ... محرّكا فإنه المعقول وإن يكن محرّكا سكنته ... فسمّه المعصوب إن سمّيته وإن أزلت سابع الحروف ... سميته إذ ذاك بالمكفوف باب الزحاف الذي يكون في موضعين من الجزء كل زحاف كان في حرفين ... حل من الجزء بموضعين فإنه يجحف بالأجزاء ... وهو يسمّى أقبح الأسماء فكلّ ما سكّن منه الثاني ... وأسقط الرابع في اللسان

باب العلل

فذلك المخزول وهو يقبح ... فحيثما كان فليس يصلح وإن يزل رابعه والثاني ... وذا وذا في الجزء ساكنان فإنه عندي اسمه المخبول ... يقصّر الجزء الذي يطول وكل جزء في الكتاب يدرك ... يسكن منه الخامس المحرّك.. .. وأسقط السابع وهو يسكن ... فذلك المنقوص ليس يحسن وسابع الجزء وثانيه إذا ... كان يعدّ ساكنا ذاك وذا فأسقطا بأقبح الزّحاف ... سمّي مشكولا بلا اختلاف هذا الزحاف لا سواه فاسمع ... يطلق في الأجزاء لم يمتنع باب العلل والعلل التي تجوز أجمع ... وليس في الحشو لهنّ موضع.. .. ثلاثة، تدعى بالابتداء ... والفصل والغاية في الأجزاء والاعتماد خارج عن شكلها ... وفعله مخالف لفعلها لأنهم قد تركوا التزامه ... وجاز فيه القبض والسّلامه ومثل ذاك جائز في الحشو ... فنحو هذا غير ذاك النحو وكلّ معتلّ فغير جائز ... في الحشو والقصيد والأراجز وإنما أجازه الخليل ... مجازفا إذ خانه الدّليل وكلّ حيّ من بني حوّاء ... فغير معصوم من الخطاء فأوّل البيت إذا ما اعتلّا ... سمّيته بالابتداء كلّا وغاية الضرب تسمّى غايه ... وليس في الحشو لها حكايه وكل ما يدخل في العروض ... من علة تجوز في القريض فهي تسمّى الفصل عند ذاكا ... وقلّ من يعرفه هناكا! باب الخرم والخرم في أوائل الأبيات ... تعرف بالأسماء والصّفات

نقصان حرف من أوائل العدد ... في كلّ ما شطر يفكّ من وتد خمسة أشطار من الشّطور ... يخرم منها أوّل الصّدور: منها الطويل أوّل الدّوائر ... وأطول البناء عند الشّاعر يدخله الخرم فيدعى أثلما ... فإن تلاه القبض سمّي أثرما والوافر الذي مدار الثانية ... عليه، قد تعيه أذن واعيه يدخله الخرم في الابتداء ... في أوّل الجزء من الأجزاء وهو يسمى أعصبا، وكلّ ما ... ضمّ إليه العصب سمّي أقصما وإن يكن أعصب ثم يعقل ... فذلك الأجمّ ليس يجهل والهزج الذي هو السّوار ... عليه للثالثة المدار يدخله الخرم فيدعى أخرما ... وهو قبيح فاعلمن وافهما حتى إذا ما كفّ بعد الخرم ... سمّيته أخرب إذ تسمّي والأشتر المهجّن العروضا ... ما كان منه آخر مقبوضا هذا وفي الرابعة المضارع ... يدخل فيه الخرم لا يدافع كمثل ما يدخل في شطر الهزج ... وهو يسمّى باسمه بلا حرج ولا يجوز الخرم فيه وحده ... إلا بقبض أو بكف بعده لعلّة التراقب المذكور ... خصّ به من أجمع الشّطور والمتقارب الذي في الآخر ... تحلو به خامسة الدوائر يدخله ما يدخل الطويلا ... من خرمه وليس مستحيلا هذا جميع الخرم لا سواه ... وهو قبيح عند من سمّاه يدخل في أوائل الأشعار ... ما قيل في ذي الخمسة الأشطار لأن في أوّل كلّ شطر ... حركتين في ابتداء الصّدر وإنما ينفكّ في أوتاد ... فلم يضرها الخرم في الكماد لقوّة الأوتاد في أجزائها ... وأنها تبرأ من أدوائها سالمة من أجمع الزّحاف ... في كلّ مجزوء وكل وافي

باب علل الأعاريض والضروب

والجزء ما لم تر فيه خرما ... فإنه الموفور قد يسمّى باب علل الأعاريض والضروب والعلل المسمّيات اللاتي ... تعرف بالفصول والغايات تدخل في الضّرب وفي العروض ... وليس في الحشو من القريض منها الذي يعرف بالمحذوف ... وهو سقوط السبب الخفيف في آخر الجزء الذي في الضرب ... أو في العروض غير قول كذب ومثله المعروف بالمقطوف ... لو بسكون آخر الحروف وكلّ جزء في الضروب كائن ... أسقط منه آخر السّواكن وسكّن الآخر من باقيه ... مما يجيزون الزّحاف فيه فذلك المقصور حين يوصف ... وإن يكن آخره لا يزحف ... من وتد يكون حين لا سبب ... فذلك المقطوع حين ينتسب وكلّ ما يحذف ثم يقطع ... فذلك الأبتر وهو أشنع وإن يزل من آخر الجزء وتد ... إن كان مجموعا فذلك الأحدّ أو كان مفروقا فذاك الأصلم ... كلاهما للجزء حقّا صيلم وإن يسكّن سابع الحروف ... فإنه يعرف بالموقوف وإن يكن محرّكا فأذهبا ... فذلك المكشوف حقّا موجبا وبعده التشعيث في الخفيف ... في ضربه السالم لا المحذوف يقطع منه الوتد الموسّط ... وكلّ شيء بعده لا يسقط باب التعاقب والتراقب وبعذ ذا تعاقب الجزءين ... في السببين المتقابلين لا يسقطان جملة في الشعر ... فإنّ ذاك من أشدّ الكسر ويثبتان أيّما ثبات ... وذاك من سلامة الأبيات وإن ينل يعضهما إزاله ... عاقبه الآخر لا محاله فكل ما عاقبه ما قبله ... سمي صدرا فافهمنّ أصله

الزيادات على الاجزاء

وكلّ ما عاقبه ما بعده ... فهو يسمّى عجزا فعدّه وإن يكن هذا وذا معاقبا ... فهو يسمّى طرفين واجبا يدخل في الميديد والخفيف ... والرّمل المجزوء والمحذوف ويدخل المجتث أيضا أجمعه ... ولا يكون في سوى ذي الأربعه والجزء إذ يخلو من التعاقب ... فهو بريء غير قول الكاذب وهكذا إن قسته التعاقب ... وليس مثل ذلك التراقب لانه لم يأت من جزءين ... في السببين المتجاورين لكنه جاء بجزء واحد ... في أول الصدر من القصائد والسببان غير مزحوفين ... في جزئه وغير سالمين إن زال هذا كان ذا مكانه ... فاسمع مقالي وافهمن بيانه فهكذا التراقب الموصوف ... وكله في شطره معروف يدخل أولّ المضارع السبب ... وبعده يدخل صدر المقتضب الزيادات على الاجزاء ثم الزيادات على الاجزاء ... موجودة تعرف بالأسماء وإنما تكون في الغايات ... تزاد في أواخر الابيات وكلّها في شطره موجود ... منها المرفّل الذي يزيد ... .. حرفين في الجزء على اعتداله ... محرّكا وساكنا في حاله وذاك فيما لا يجوز الزحف ... فيه ولا يعزى إليه الضّعف وفيه أيضا يدخل المذال ... مقيّدا في كلّ ما يقال وهو الذي يزيد حرفا ساكنا ... على اعتدال جزئه مباينا ومثله المسبغ من هذي العلل ... حرف تريده على شطر الرمل باب نقصان الاجزاء فإن رأيت الجزء لم يذهب معا ... بالانتقاص فهو واف فاسمعا

صفة الدوائر

وإن يكن أذهبه النّقصان ... فافهم ففي قولي لك البيان ... ... فذلك المجزوء في النّصفين ... إذا انتقصت منهما جزءين والبيت إن نقصت منه شطره ... فذلك المشطور فافهم أمره وإن نقصت منه بعد الشّطر ... جزءا صحيحا من أخير الصدر.. .. وكان ما يبقى على جزءين ... فذلك المنهوك غير مين صفة الدوائر فاسمع فهذي صفة الدوائر ... وصف عليم بالعروض خابر «1» دوائر تعيا على ذهن الحذق ... خمس عليهنّ الخطوط والحلق فما لها من الخطوط البائنه ... دلائل على الحروف السّاكنه والحلقات المتجوّفات ... علامة للمتحرّكات والنقط التي على الخطوط ... علامة تعدّ للسّقوط والحلق التي عليها تنقط ... تسكن أحيانا وحينا تسقط والنقط التي بأجواف الحلق ... لمبتدا الشطور منها يخترق فانظر تجد من تحتها أسماءها ... مكتوبة قد وضعت إزاءها والنّقطتان موضع التعاقب ... ومثل ذاك موضع التراقب وهذه صورة كل واحده ... منها ومعنى فسرها على حده أوّلها دائرة الطويل ... وهي ثمان لذوي التفصيل مقسّم الشطر على أرباع ... بين خماسيّ إلى سباعي حروفه عشرون بعد أربعه ... قد بيّنوا الكلّ موضعه ينقل منها خمسة شطور ... يفصلها التفعيل والتقدير منها الطويل والمديد بعده ... ثم البسيط يحكمون سرده

الأولى: دائرة المختلف

ثلاثة قالت عليها العرب ... واثنان صدّوا عنهما ونكبوا «1» وهذه صورتها كما ترى ... وذكرها مبيّنا مفسّرا الأولى: دائرة المختلف الطويل: مبني على فعولن مفاعيلن ثماني مرات المديد: مبني على فاعلاتن فاعلن، ست مرات البسيط: مبني على مستفعلن فاعلن، ثماني مرات وهذه الثانية المخصوصه ... السبب الثقيل والمنقوصة أجزاؤها مثلثة مسبّعة ... قد كرهوا أن يجعلوها أربعه لانّها تخرج عن مقدارهم ... في جملة الموزون من أشعارهم فهي على عشرين بعد واحد ... من الحروف ما بها من زائد ينفكّ منها وافر وكامل ... وثالث قد حار فيه الجاهل

الثانية: دائرة المؤتلف

الثانية: دائرة المؤتلف الوافر: مبني على مفاعلتن، ست مرات «1» ، فقطعوا ضربه وعروضه. الكامل: مبني على متفاعلن، ست مرات «2» . والدائرة الثالثة التي حكت ... في قدرها الثانية التي مضت في عدّة الأجزاء والحروف ... وليس في الثقيل والخفيف ينفكّ منها مثل ما ينفكّ ... من تلك حقّا ليس فيه شكّ ترفل من ديباجها في حلل ... من هزج أو رجز أو رمل وهذه صورتها مبيّنه ... بحليها ووشيها مزيّنه «3»

الثالثة: دائرة المجتلب

الثالثة: دائرة المجتلب الهزج: مبني على مفاعيلن، بعد الحذف، أربع مرات «1» . الرجز: مبني على مستفعلن، ست مرات «2» الرمل: مبني على فاعلاتن، ست مرات «3» ورابع الدوائر المسروده ... أجزاؤها ثلاثة معدوده عجيبة قد حار فيها الوصف ... عشرون حرفا عدّها وحرف مثل التي تقدمت من قبلها ... وشكلها مخالف لشكلها بديعة أحكم تدبيرها ... بالوتد المفروق في شطورها ينفكّ منها ستّة مقوله ... من بينها ثلاثة مجهوله وكلّ هذي السّتّة المشطوره ... معروفة لأهلها مخبوره أوّلها السريع ثم المنسرح ... ثم الخفيف بعده ثم وضح وبعده مضارع ومقتضب ... شطران مجزوءان في قول العرب وبعدها المجتثّ أحلى شطر ... يوجد مجزوءا لأهل الشّعر

الرابعة: دائرة المشتبه

الرابعة: دائرة المشتبه السريع: مبني على مستفعلن مفعولات، ست مرات. المنسرح: مبني على مستفعلن مفعولات مستفعلن، ست مرات. الخفيف: مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن، ست مرات. المضارع: مبني على مفاعيلن فاعلاتن ست مرات؛ فحذفوا منه جزأين فصار مربعا. المقتضب: مبني على مفعولات مستفعلن مستفعلن ست مرات، فربعوه كما تقدم. المجتث: مبني على فاعلاتن فاعلاتن. ست مرات. فربعوه كما تقدم وبعدها خامسة الدوائر ... للمتقارب الذي في الآخر ينفك منها شطره وشطر ... لم يأت في الاشعار منه الذّكر من أقصر الاجزاء والشطور ... حروفه عشرون في التقدير

مؤلّف الشطر على فواصل ... مجسّمات أربع مواثل هذا الذي جرّبه المجرّب ... من كلّ ما قالت عليه العرب فكلّ شيء لم تقل عليه ... فإننا لم نلتفت إليه ولا نقول غير ما قد قالوا ... لانه من قولنا محال وأنه لو جاز في الابيات ... خلافه لجاز في اللّغات وقد أجاز في الابيات ... خلافه لجاز في اللّغات لانه ناقض في معناه ... والسيف قد ينبو وفيه ماه «1» إذ جعل القول القديم أصله ... ثم أجاز ذا وليس مثله وقد يزل العالم النّحرير ... والحبر قد يخونه التّحبير «2» وليس للخليل من نظير ... في كلّ ما يأتي من الامور لكنّه فيه نسيج وحده ... ما مثله من قبله وبعده فالحمد لله على نعمائه ... حمدا كثيرا وعلى آلائه «3» يا ملكا ذلّت له الملوك ... ليس له في ملكه شريك ثبّت لعبد الله حسن نيّته ... واعطفه بالفضل على رعيّته

الخامسة: دائرة المتفق

الخامسة: دائرة المتفق المتقارب: مبني على فعولن، ثماني مرات «1» .

ابتداء الأمثال شطر الطويل

ابتداء الأمثال شطر الطويل [شطر الطويل] الطويل له عروض واحد مقبوض، وثلاثة ضروب: ضرب سالم، وضرب مقبوض، وضرب محذوف معتمد. العروض المقبوض والضرب السالم وروضة ورد حفّ بالسوسن الغضّ ... تحلّت بلون السّام والذهب المحض «1» رأيت بها بدرا على الأرض ماشيا ... ولم أر بدرا قطّ يمشي على الأرض إلى مثله فلتصب إن كنت صابيا ... فقد كاد منه البعض يصبو إلى البعض «2» وكل ورد خدّيه ورمّان صدره ... بمصّ على مص وعضّ على عضّ وقل للذي أفنى الفؤاد بحبّه ... على أنه يجزي المحبة بالبغض: «أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض» تقطيعه: فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن ... فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن الضرب المقبوض وحاملة راحا على راحة اليد ... مورّدة تسعى بلون مورّد

تقطيعه

على ياسمين كاللجين ونرجس ... كأقراط درّ في قضيب زبرجد «1» بتلك وهذي فاله ليلك كلّه ... وعنها فسل لا تسأل الناس عن غد «ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالاخبار من لم تزوّد» تقطيعه فعولن مفاعيلن، فعولن، مفاعلن ... فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن الضرب المحذوف المعتمد أيقتلني دائي وأنت طبيبي ... قريب وهل من لا يرى بقريب لئن خنت عهدي إنني غير خائن ... وأيّ محبّ خان عهد حبيب وساحبة فضل الذّيول كأنها ... قضيب من الرّيحان فوق كثيب «2» إذا ما بدت من حدرها قال صاحبي ... أطعني وخذ من وصلها بنصيب «وما كلّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... وما كلّ مؤت نصحه بلبيب» تقطيعه فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن ... فعولن، مفاعيلن، فعول، فعولن يجوز في حشو الطويل القبض والكف، فالقبض فيه حسن، والكف فيه قبيح؛ ويدخله الخرم في الابتداء، فيقال له: أثلم؛ فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أثرم. والخرم سقوط حركة من أول البيت، ولا يكون إلا في وتد؛ والقبض ما ذهب خامسه الساكن، والكف ما ذهب سابعه الساكن، والاعتماد [في الطويل] سقوط الخامس من فعولن التي قبل القافية، اعتمد به فقبض، ولم تجر فيه السلامة إلا على

شطر المديد: وهو مجزوء كله

قبح، ولم يأت في الشعر الا شاذا قليلا؛ والاعتماد في المتقارب: سلامة الجزء الذي قبل القافية؛ والمحذوف ما ذهب من آخره سبب خفيف. شطر المديد: وهو مجزوء كله له ثلاثة أعاريض وستة ضروب، فالعروض الاول منها مجزوء وله ضرب مثله؛ والعروض الثاني محذوف لازم الثاني، له ثلاثة ضروب لازمة الثاني: ضرب مقصور لازم الثاني، وضرب محذوف لازم الثاني، وضرب أبتر لازم الثاني؛ والعروض الثالث محذوف مخبون وله ضربان: ضرب مثله، وضرب أبتر لازم الثاني. العروض المجزوء والضرب المجزوء يا طويل الهجر لا تنس وصلي ... واشتغالي بك عن كلّ شغل يا هلالا فوق جيد غزال ... وقضيبا تحته دعص رمل «1» لا سلت عاذلتي عنه نفسي ... أكثري في حبّه أو أقلّي شادن يزهي بخدّ وجيد ... مائس فاتن حسن ودلّ» «ومتى مايع منك كلاما ... يكلّم فيجبك بعقل» تقطيعه: فعلاتن، فعلن، فعلاتن، ... فعلاتن، فعلن، فعلاتن العروض المحذوف اللازم الثاني والضرب المقصور اللازم الثاني يا وميض الرق بين الغمام ... لا عليها بل عليك السلام إنّ في الاحداج مقصورة ... وجهها يهتك ستر الظلام

تقطيعه:

تحسب الهجر حلالا لها ... وترى الوصل عليها حرام ما تأسّيك لدار خلت ... ولشعب شتّ بعد التئام «إنما ذكرك ما قد مضى ... ضلّة مثل حديث المنام» تقطيعه: فاعلاتن، فعلن، فاعلن ... فاعلاتن، فعلن، فاعلان الضرب المحذوف اللازم الثاني عتب ظلت له عاتبا ... ربّ مطلوب غدا طالبا من يتب عن حب معشوقه ... لست عن حبّي له تائبا فالهوى لي قدر غالب ... كيف أعصي القدر الغالبا ساكن القصر ومن حلّه ... أصبح القلب بكم ذاهبا «اعلموا أني لكم حافظ ... شاهدا ما عشت أو غائبا» تقطيعه: فاعلاتن، فاعلن، فاعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فاعلن الضرب الابتر أيّ تفّاح ورمّان ... يجتنى من خوط ريحان «1» أيّ ورد فوق خدّ بدا ... مستنيرا بين سوسان وثن يعبد في روضه ... صيغ من درّ ومرجان «2» من رأى الذّلفاء في خلوة ... لم ير الحدّ على الزّاني! «3» «إنما الذّلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان» «4»

تقطيعه:

تقطيعه: فاعلاتن، فاعلن، فاعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فعلن العروض المجزوء المحذوف والمخبون ضربه من محب شفّه سقمه ... وتلاشى لحمه ودمه كاتب حنّت صحيفته ... وبكى من رحمة قلمه يرفع الشكوى إلى قمر ... ينجلي عن وجهه ظلمه من لقرن الشمس جبهته ... وللمع البرق مبتسمه خلّ عقلي يا مسفّهه ... إنّ عقلي لست أتهمه «للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه» تقطيعه: فاعلاتن، فاعلن، فعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فعلن الضرب الابتر اللازم الثاني زادني لومك أضرارا ... إنّ لي في الحب أنصارا طار قلبي من هوى رشإ ... لو دنا للقلب ما طارا «1» خذ بكفّي لا أمت غرقا ... إنّ بحر الحبّ قد فارا أنضجت نار الهوى كبدي ... ودموعي تطفىء النارا «ربّ نار بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا» «2»

تقطيعه:

تقطيعه: فاعلاتن، فاعلن، فعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فعلن يجوز في حشو المديد: الخبن، والكف، والشكل، فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن، والمكفوف: ما ذهب سابعه الساكن، والمشكول: ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان، وهو اجتماع الخبن والكف في فاعلاتن. ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين بين النون من «فاعلاتن» والالف من «فاعلن» لا يسقطان جميعا، وقد يثبتان، فما عاقبه ما قبله فهو صدر، وما عاقبه ما بعده فهو عجز، وما عاقبه وما قبله وما بعده فهو طرفان، وما لم يعاقبه شيء فهو بريء، والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحرّكاته من السبب، والابتر: ما حذف ثم قطع. شطر البسيط البسيط له ثلاثة أعاريض وستة أضرب: فالعروض الاوّل مخبون تام، وله ضربان: ضرب مثله، وضرب مقطوع لازم الثاني. والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة أضرب: ضرب مذال وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ. والعروض الثالث مقطوع ممنوع من الطيّ، له ضرب مثله. العروض المخبون والضرب المخبون بين الاهلّة بدر ماله فلك ... قلبي له سلم والوجه مشترك إذا بدا انتهبت عيني محاسنه ... وذلّ قلبي لعينيه فينتهك ابتعت بالدين والدنيا مودّته ... فخانني، فعلى من يرجع الدرك

تقطيعه:

كفّوا بني حارث ألحاظ ريمكم ... فكلها لفؤادي كلّه شرك «1» «يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك» تقطيعه: مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فعلن ... مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فعلن الضرب المقطوع اللازم الثاني يا ليلة ليس في ظلمائها نور ... إلا وجوها تضاهيها الدنانير حور سقتني بكأس الموت أعينها ... ماذا سقتنيه تلك الأعين الحور «2» إذا ابتسمن فدرّ الثغر منتظم ... وإن نطقن فدرّ اللفظ منثور خلّ الصّبا عنك واختم بالنّهى عملا ... فإنّ خاتمة الاعمال تكفير «والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشر محذور» «3» تقطيعه: مستفعلن، فاعلن، مستفعلن فعلن ... مستفعلن، فعلن، مستفعلن، فعلن العروض المجزوء والضرب المذال يا طالبا في الهوى ما لا ينال ... وسائلا لم يعف ذلّ السؤال ولّت ليالي الصّبا محمودة ... لو أنها رجعت تلك الليال وأعقبتها التي واصلتها ... بالهجر لمّا رأت شيب القذال «4» لا تلتمس وصلة من مخلف ... ولا تكن طالبا ما لا ينال «يا صاح قد أخلفت أسماء ما ... كانت تمنّيك من حسن الوصال»

تقطيعه:

تقطيعه: مستفعلن، فاعلن، مستفعلن ... مستفعلن، فاعلن، مستفعلان الضرب المجزوء ظالمتي في الهوى لا تظلمي ... وتصرمي حبل من لم يصرم أهكذا باطلا عاقبتني ... لا يرحم الله من لم يرحم قتلت نفسا بلا نفس وما ... ذنب بأعظم من سفك الدم لمثل هذا بكت عيني ولا ... للمنزل القفر أو للأرسم «ماذا وقوفي على رسم عفا ... مخلولق دارس مستعجم» «1» تقطيعه: مستفعلن، فاعلن، مستفعلن ... مستفعلن، فاعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطيّ ما أقرب اليأس من رجائي ... وأبعد الصبر من بكائي يا مذكي النار في جوانحي ... أنت دوائي وأنت دائي «2» من لي بمخلفة في وعدها ... تخلط لي اليأس بالرجاء سألتها حاجة فلم تفه ... فيها بنعمى ولا بلاء «قلت استجيبي فلما لم تجب ... سالت دموعي على ردائي تقطيعه: مستفعلن، فاعلن، مستفعلن ... مستفعلن، فاعلن، فعولن العروض المقطوع الممنوع من الطيّ ضربه مثله كآبة الذّلّ في كتابي ... ونخوة العزّ في جواب

تقطيعه:

قتلت نفسا بغير نفس ... فكيف تنجو من العذاب خلقت من بهجة وطيب ... إذ خلق الناس من تراب ولّت حميّا الشباب عني ... فلهف نفسي على الشباب «اصبحت والشيب قد علاني ... يدعو حثيثا إلى الخضاب» «1» تقطيعه: مستفعلن، فاعلن، فعولن ... مستفعلن، فاعلن، فعولن يجوز في حشو البسيط: الخبن، والطي، والخبل، فالخبن ما ذكرناه في المديد، والطيّ ما ذهب رابعه الساكن، والمخبول ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان، وهو اجتماع الخبن والطيّ في «مستفعلن» . والخبن فيه حسن، والطيّ فيه صالح، والخبل فيه قبيح. والمقطوع ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الوتد، والمذال ما زاد على اعتداله حرف ساكن. [تمت الدائرة الأولى] شطر الوافر له عروضان وثلاثة أضرب: فالعروض الأول مقطوف، له ضرب مثله، والعروض الثاني مجزوء ممنوع من العقل، له ضربان: ضرب سالم، وضرب معصوب. العروض المقطوف: الضرب المقطوف تجافى النوم بعدك عن جفوني ... ولكن ليس يجفوها الدّموع يذكّرني تبسّمك الأقاحي ... ويحكي لي تورّدك الربيع يطير إليك من شوق فؤادي ... ولكن ليس تتركه الضّلوع

تقطيعه:

كأنّ الشمس لمّا غبت غابت ... فليس لها على الدّنيا طلوع فمالي عن تذكّرك امتناع ... ودون لقائك الحصن المنيع «إذا لم تسطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع» تقطيعه: مفاعلتن، مفاعلتن، فعولن ... مفاعلتن، مفاعلتن، فعولن العروض المجزوء الممنوع من العقل. الضرب السالم غزال زانه الحور ... وساعد طرفه القدر «1» يريك إذا بدا وجها ... حكاه الشمس والقمر براه الله من نور ... فلا جنّ ولا بشر فذاك الهمّ، لا طلل ... وقفت عليه تعتبر «أهاجك منزل أقوى ... وغيّر آيه الغير» تقطيعه: مفاعلتن، مفاعلتن ... مفاعلتن، مفاعلتن الضرب المعصوب وبدر غير ممحوق ... من العقيان مخلوق «2» إذا أسقيت فضلته ... مزجت بريقه ريقي فيالك عاشقا يسقى ... بقيّة كأس معشوق يكيت لنأيه عني ... ولا أبكي بتشهيق «لمنزلة بها الأفلا ... ك أمثال المهاريق» «3»

تقطيعه:

تقطيعه: مفاعلتن، مفاعلتن ... مفاعلتن، مفاعلتن يجوز في حشو الوافر: العصب، والعقل، والنقص، فالعصب فيه حسن، والنقص فيه صالح، والعقل فيه قبيح. ويدخله الخرم في الابتداء فيسقط حركة من أول البيت فيسمى أعصب، فإذا دخله العصب مع الخرم قيل له: أقصم، فإذا دخله النقص من الخرم قيل له: أعقص، فإذا دخله العقل مع الخرم قيل له: أجمّ. والمعصوب ما سكن خامسه المتحرك، والمنقوص ما سكن خامسه المتحرك وذهب سابعه الساكن، والمقطوف ما ذهب من آخره سبب خفيف وسكن آخر ما بقي، ولا يدخل القطف إلا في العروض والضرب من تمام الوافر. شطر الكامل الكامل له ثلاثة أعاريض وتسعة ضروب، فالعرض الأول تام، له ثلاثة ضروب: ضرب تام مثله، وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره، وضرب أحذّ مضمر. والعروض الثاني أحذّ له ضربان: ضرب مثله وضرب مضمر. والعروض الثالث مجزوء له أربعة ضروب: ضرب مرفّل، وضرب مذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره. العروض التام: الضرب التام يا وجه معتذر ومقلة ظالم ... كم من دم ظلما سفكت بلا دم أوجدت وصلي في الكتاب محرّما ... روجدت قتلي فيه غير محرّم كم جنة لك قد سكنت ظلالها ... متفكّها في لذّة وتنعّم

تقطيعه:

وشربت من خمر العيون تعلّلا ... فإذا انتشيت أجود جود المرزم «1» «وإذا ضحوت فما أقصّر عن ندى ... كما علمت شمائلي وتكرّمي» تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلا من الإضمار والسلامة حال الزّمان فبدّل الآمالا ... وكسا المشيب مفارقا وقذالا «2» غنيت غواني الحيّ عنك وربما ... طلعت إليك أكلّة وحجالا أضحى عليك حلالهنّ محرّما ... ولقد يكون حرامهنّ حلالا إنّ الكواعب إن رأينك طاويا ... وصل الشباب طوين عنك وصالا «3» «وإذا دعونك عمّهنّ فإنه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا» تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلاتن الضرب الأخذ المضمر يوم المحبّ لطوله شهر ... والشهر يحسب أنه دهر بأبي وأمي غادة في خدّها ... سحر وبين جفونها سحر الشمس تحسب أنها شمس الضّحى ... والبدر يحسب أنها البدر فسل الهوى عنها يجبك، وإن نأت ... فسل القفار يجيبك القفر «4» «لمن الديار برامتين فعاقل ... درست وغيّر آيها القطر» «5» تقطيعه متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلن

العروض الأحذ ضربه مثله

العروض الأحذ ضربه مثله أمّا الخيط فشدّ ما ذهبوا ... بانوا ولم يقضوا الذي يجب فالدار بعدهم كوشم يد ... يا دار فيك وفيهم العجب أين التي صيغت محاسنها ... من فضّة شيبت بها ذهب ولّى الشباب فقلت أندبه ... لا مثل ما قالوا ولا ندبوا «دمن عفت ومحا معالمها ... هطل أجشّ وبارح ترب» تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن، فعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلن الضرب الأحذ المضمر عينيّ كيف غررتما قلبي ... وأبحتماه لوعة الحبّ يا نظرة أذكت على كبدي ... نارا قضيت بحرّها نحبي خلّوا جوى قلبي أكابده ... حسبي مكابدة الجوي حسبي عيني جنت من شؤم نظرتها ... ما لا دواء له، على قلبي جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب» تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن، فعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلن العروض المجزوء والضرب المجزوء المرفل هتك الحجاب عن الضمائر ... طرف به تبلى السرائر يرنو فيمتحن القلو ... ب كأنه في القلب ناظر «1» يا ساحرا ما كنت أع ... رف قبله في الناس ساحر أقصيتني من بعد ما ... أدنيتني فالقلب طائر «وغررتني وزعمت أنّ ... ك لابن بالصيف تامر»

تقطيعه:

تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلاتن الضرب المذال يا مقلة الرّشإ الغري ... ر وشقّة القمر المنير «1» ما رنّقت عيناك لي ... بين الأكلّة والسّتور إلا وضعت يدي على ... قلبي مخافة أن يطير هبني كبعض حمام مكّ ... ة واستمع قول النذير: «أبنيّ لا تظلم بمكّ ... ة لا الصغير ولا الكبير» تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلان الضرب المجزوء قل ما بدا لك وافعل ... واقطع حبالك أوصل هذا الربيع فحيّه ... وانزل بأكرم منزل وصل الذي هو واصل ... فإذا كرهت فبدّل وإذا نبا بك منزل ... أو مسكن فتحوّل «2» «وإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعا وتجمّل» «3» تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره يا دهر مالي أصفي ... وأنت غير مواتي

تقطيعه:

جرعتني غصصا بها ... كدّرت صفو حياتي أين الذين تسابقوا ... في المجد للغايات قوم بهم روح الحيا ... ة تردّ في الأموات «وإذا هموا ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحسنات» تقطيعه: متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، فعلاتن يجوز في الكامل من الزحاف: الإضمار والوقص والخزل، فالإضمار فيه حسن، والوقص فيه صالح، والخزل فيه قبيح. فالمضمر ما سكن ثانيه المتحرك. والموقوص ما ذهب ثانيه المتحرك. والمخزول ما سكن ثانيه المتحرك وذهب رابعه الساكن. ويدخله من العلل القطع والحذذ، فالمقطوع ما تقدم ذكره، والأحذ ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع. [تمت الدائرة الثانية] شطر الهزج الهزج له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض، وضربان: ضرب سالم، وضرب محذوف. العروض المجزوء الممنوع من القبض ضربه مثله أيا من لام في الحبّ ... ولم يعلم جوى قلبي ملام الصبّ يغويه ... ولا أغوى من القلب فأنّى لمت في هند ... محبّا صادق الحبّ

تقطيعه:

وهند مالها شبه ... بشرق لا ولا غرب «إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي» تقطيعه: مفاعيلن، مفاعيلن ... مفاعيلن، مفاعيلن الضرب المجزوء المحذوف متى أشفي غليلي ... بنيل من بخيل غزال ليس لي منه ... سوى الحزن الطويل جميل الوجه أخلاني ... من الصبر الجميل حملت الضّيم فيه من ... حسود أو عذول «وما ظهري لباغي الضّيم ... بالظهر الذّلول» «1» تقطيعه: مفاعيلن، مفاعيلن ... مفاعيلن، فعولن يجوز في الهزج من الزحاف: القبض، والكف، فالكف فيه حسن، والقبض فيه قبيح، وقد فسرنا المقبوض والمكفوف في الطويل أيضا، ويدخله الخرم في الابتداء، فيكون أخرم، فإذا دخله الكف مع الخرم قيل له: أخرب، فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أشتر، والخرم كله قبيح. شطر الرجز الرجز له أربعة أعاريض وخمسة ضروب: فالعروض الأول تام، له ضربان: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ.

العروض التام. الضرب التام

والعروض الثاني مجزوء، له ضرب مثله مجزوء. والعروض الثالث مشطور، له ضرب مثله، والعروض الرابع منهوك، له ضرب مثله. العروض التام. الضرب التام لم أدر جنّيّ سباني أم بشر ... أم شمس ظهر أشرقت لي أم قمر أم ناظر يهدي المنايا طرفه ... حتى كأن الموت منه في النّظر يحيي قتيلا ما له من قاتل ... إلّا سهام الطّرف ريشت بالحور «1» ما بال رسم الوصل أضحى داثرا ... حتى لقد أذكرتني مما دثر «دار لسلمى إذ سليمى جارة ... قفر ترى آيانها مثل الزّبر» «2» تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن ... مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي قلب بلوعات الهوى معمود ... حيّ كميت حاضر مفقود «3» من ذا يداوي القلب من داء الهوى ... إذ لا دواء للهوى موجود أم كيف أسلو غادة ما حبّها ... إلا قضاء ماله مردود «القلب منها مستريح سالم ... والقلب منّي جاهد مجهود تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن ... مستفعلن مستفعلن، مستفعل

العروض المجزوء. الضرب المجزوء

العروض المجزوء. الضرب المجزوء أعطيته ما سألا ... حكّمته لو عدلا وهبته روحي فما ... أدري به ما فعلا أسلمته في يده ... عيّشه أم قتلا قلبي به في شغل ... لا ملّ ذاك الشّغلا «قيّده الحبّ كما ... قيد راع جملا» تقطيعه: مفتعلن، مفتعلن ... مفتعلن، مفتعلن العروض المشطور. الضرب المشطور يأيها المشغوف بالحبّ التّعب ... كم أنت في تقريب ما لا يقترب دع ودّ من لا يرعوي إذا غضب ... ومن إذا عاتبته يوما عتب «إنك لا تجني من الشّوك العنب» تقطيعه: مفتعلن، مستفعلن، مستفعلن العروض المنهوك. الضرب المنهوك بياض شيب قد نصع ... رقعته فما ارتقع إذا رأى البيض انقمع ... ما بين يأس وطمع لله أيّام النّخع ... يا ليتني فيها جذع أخبّ فيها وأضع تقطيعه: متفعلن، مفتعلن ويجوز في حشو الرجز: الخبن، والطي، والخبل، فالخبن فيه حسن، والطيّ فيه

شطر الرمل

صالح، والخبل فيه قبيح، وقد مضى تفسير الطيّ والخبن والخبل في البسيط. ويدخله من العلل القطع، وقد ذكرناه، ويكون مجزوءا، والمجزوء ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء، ويأتي مشطورا، والمشطور ما ذهب شطره، ويأتي منهوكا، والمنهوك ما ذهب من شطره جزآن وبقي على جزء. شطر الرمل الرمل له عروضان وستة ضروب، فالعروض الأول محذوف جائز فيه الخبن، له ثلاثة ضروب: ضرب متمّم، وضرب مقصور جائز فيه الخبن، وضرب محذوف مثل عروضه، والعروض الثاني مجزوء له ثلاثة ضروب: ضرب مسبّغ، وضرب مجزوء مثل عروضه الجائز فيه الخبن، وضرب محذوف جائز. فيه الخبن. العروض المحذوف الجائز فيه الخبن لضرب المتمم أنا في الّلذات مخلوع العذار ... هائم في حب ظبي ذي احورار «1» صفرة في حمرة في خدّه ... جمعت روضة ورد وبهار بأبي طاقة آس أقبلت ... تتثنّى بين حجل وسوار قادني طرفي وقلبي للهوى ... كيف من طرفي ومن قلبي حذاري «لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغضّبان بالماء اعتصاري» تقطيعه: فاعلاتن، فاعلاتن، فعلن ... فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المقصور يا مدير الصّدغ في الخدّ الأسيل ... ومجيل السّحر بالمطّرف الكحيل

تقطيعه:

هل لمحزون كئيب قبلة ... منك يشفي بردها حرّ الغليل وقليل ذاك إلّا أنه ... ليس من مثلك عندي بالقليل بأبي أحور غنّى موهنا ... بغناء قصّر الليل الطويل «يا بني الصّيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذّليل» تقطيعه: فاعلاتن، فاعلاتن، فعلن ... فاعلاتن، فعلاتن، فاعلات الضرب المحذوف شادن يسحب أذيال الطّرب ... يتثنّى بين لهو ولعب «1» بجبين مفرغ من فضّة ... فوق خدّ مشرب لون الذهب كتب الدمع بخدّي عهده ... للهوى والشوق يملي ما كتب ما لجهلي ما أراه ذاهبا ... وسواد الرأس مني قد ذهب «قالت الخنساء لمّا جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب» » تقطيعه: فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن ... فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن العروض المجزوء. الضرب المسبع يا هلالا في تجنّيه ... وقضيبا في تثنّيه والذي لست أسمّيه ... ولكني أكنّيه شادن ما تقدر العين ... تراه من تلاليه كلّما قابله شخص ... رأى صورته فيه «لان حتى لو مشى الذّ ... رّ عليه كاد يدميه» تقطيعه: فاعلاتن، فاعلاتن ... فعلاتن، فاعلاتان

الضرب المجزوء

الضرب المجزوء يا هلالا قد تجلّى ... في ثياب من حرير وأميرا بهواه ... قاهرا كلّ أمير ما لخدّيك استعارا ... حمرة الورد النضير ورسوم الوصل قد ... ألبستها ثوب دثور «1» «مقفرات دارسات ... مثل آيات الزبور» تقطيعه: فاعلاتن، فاعلاتن ... فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المجزوء المحذوف الجائز فيه الخبن يا قتيلا من يده ... ميّتا من كمده «2» قدحت للشوق نارا ... عينه في كبده هائم يبكي عليه ... رحمة ذو حسده كلّ يوم هو فيه ... مستعيد من غده «قلبه عند الثّريّا ... بائن عن جسده» «3» تقطيعه: فاعلاتن، فاعلاتن ... فاعلاتن، فعلن

شطر السريع

يجوز في الرمل من الزحاف: الخبن، والكف، والشكل، فالخبن فيه حسن والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح، وقد فسرنا المكفوف والمخبون. فأما المشكول فهو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان. ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين على حسب ما يدخل في المديد، ويدخله من العلل: الحذف، والقصر، والإسباغ، وقد فسرنا المحذوف والمقصور، وأما المسبغ فهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن مما يكون في آخره سبب خفيف، وذلك «فاعلاتن» يزاد عليها حرف ساكن فيكون «فاعلاتان» . [تمت الدائرة الثالثة] . شطر السريع السريع له أربعة أعاريض وسبعة أضرب. فالعروض الاول مكشوف مطوي لازم الثاني، له ثلاثة ضروب: ضرب موقوف مطوي لازم الثاني، وضرب مكشوف مطوي لازم الثاني مثل عروضه وضرب أصلم سالم. والعروض الثاني مخبول مكشوف، له ضربان: ضرب مثل عروضه، وضرب أصلم سالم. والعروض الثالث مشطور موقوف ممنوع من الطيّ، ضربه مثله. والعروض الرابع مشطور مكشوف ممنوع من الطيّ ضربه مثله.

العروض المكسوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف المطوى اللازم الثاني

العروض المكسوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف المطوى اللازم الثاني بكيت حتى لم أدع عبرة ... إذ حملوا الهودج فوق القلوص «1» بكاء يعقوب على يوسف ... حتى شفى غلته بالقميص لا تأسف الدهر على ما مضى ... والق الذي ما دونه من محيص «2» «قد يدرك المبطىء من حظّه ... والخير قد يسبق جهد الحريص» تقطيعه: مستفعلن، مفتعلن، فاعلن ... مستفعلن، مفتعلن، فاعلات الضرب المكشوف المطوى اللازم الثاني لله درّ البين ما يفعل ... يقتل من شاء ولا يقتل بانوا بمن أهواه في ليلة ... ردّ على آخرها الأوّل يا طول ليل المبتلى بالهوى ... وصبحه من ليله أطول فالدار قد ذكّرني رسمها ... ما كدت من تذكاره أذهل «هاج الهوى رسم بذات الغضى ... مخلولق مستعجم محول» تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، فاعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فاعلن الضرب الاصلم السالم قلبي رهين بين أضلاعي ... من بين إيئاس وإطماع من حيثما يدعوه داعي الهوى ... أجابه لبّيك من داعي من لسقيم ماله عائد ... وميّت ليس له ناعي

تقطيعه:

لما رأت عاذلتي ما رأت ... وكان لي من سمعها واعي «قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلا لقد أبلغت أسماعي» «1» تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، فاعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المخبول المكسوف ضربه مثله شمس تجلّت تحت ثوب ظلم ... سقيمة الطرف بغير سقم ضاقت عليّ الارض مذ صرمت ... حبلي فما فيها مكان قدم «2» شمس واقمار تطوف بها ... طوف النصارى حول بيت صنم «النّشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الاكفّ عنم» تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، فعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فعلن الضرب الاصلم السالم أنت بما في نفسه اعلم ... فاحكم بما أحببت أن تحكم ألحاظه في الحبّ قد هتكت ... مكتومه والحب لا يكتم يا مقلة وحشيّة قتلت ... نفسا بلا نفس ولم تظلم قالت تسلّيت فقلت لها ... ما بال قلبي هائم مغرم «يا أيها الزاري على عمر ... قد قلت فيه غير ما تعلم» «3»

تقطيعه:

تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، فعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله خلّيت قلبي في يدي ذات الخال ... مصفّدا مقيّدا في الاغلال قد قلت للباكي رسوم الاطلال ... «يا صاح ما هاجك من ربع خال» تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، مفعولان العروض المشطور المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله ويحي قتيلا ما له من عقل ... بشادن يهتزّ مثل النّصل «1» مكحّل ما مسّه من كحل ... لا تعذلاني إنني في شغل «يا صاحبي رحلي أقلّا عذلي» «2» تقطيعه: مستفعلن، مستفعلن، مفعولن يجوز في السريع من الزحاف: الخبن، والطي، والخبل، فالخبن فيه حسن، والطي صالح، والخبل فيه قبيح.

شطر المنسرح

ويدخله من العلل: الكشف، والوقف، والصلم، فالمكشوف ما ذهب سابعه المتحرّك، والموقوف ما سكن سابعه، والاصلم ما ذهب من آخره وتد مفروق، والمشطور ما ذهب شطره. شطر المنسرح المنسرح له ثلاثة أعاريض وثلاثة ضروب، فالعروض الاوّل ممنوع من الخبل، له ضرب مطوي، والعروض الثاني منهوك موقوف ممنوع من الطيّ، له ضرب مثله، والعروض الثالث منهوك مكشوف ممنوع من الطيّ، له ضرب مثله. العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوى بيضاء مضمومة مقرطفة ... ينقدّ عن نهدها قراطقها «1» كأنما بات ناعما جذلا ... في جنة الخلد من يعانقها وأي شيء ألذّ من أمل ... نالته معشوقة وعاشقها دعني أمت من هوى مخدّرة ... تعلق نفسي بها علائقها «من لم يمت عبطة يمت هرما ... الموت كأس والمرء ذائقها» «2» تقطيعه: مستفعلن، مفعلات، مفتعلن ... مستفعلن، مفعولات مفتعلن العروض المنهوك الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله أقصرت بعض الإقصار ... عن شادن نائي الدار

تقطيعه:

صبّرني لمّا صار ... ولم أكن بالصّبّار «1» «وقال لي باستعبار ... صبرا بني عبد الدار» تقطيعه: مستفعلن، مفعولات العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله عاضت بوصل صدّا ... تريد قتلي عمدا «2» لما رأتني فردا ... أبكى وألقى جهدا «قالت وأبدت ردّا ... ويلم سعد سعدا» تقطيعه: مستفعلن، مفعولن يجوز في المنسرح من الزحاف: الخبن، والطيّ، والخبل، فالخبن فيه حسن، والطي فيه صالح، والخبل قبيح. ويدخله من العلل: الوقف، والكشف، وقد فسرناهما في السريع. والمنهوك ما ذهب شطره ثم ذهب منه جزء بعد الشطر. شطر الخفيف الخفيف له ثلاثة اعاريض وخمسة ضروب:

العروض التام. الضرب التام الجائز فيه التشعيث

فالعروض الاول منه تامّ له ضربان: ضرب يجوز فيه التشعيث، وضرب محذوف يجوز فيه الخبن. والعروض الثاني جائز فيه الخبن. وله ضرب مثله. والعروض الثالث مجزوء، له ضربان: ضرب مثله مجزوء، وضرب مجزوء مقصور مخبون. العروض التامّ. الضرب التامّ الجائز فيه التشعيث أنت دائي وفي يديك دوائي ... يا شفائي من الجوى وبلائي إنّ قلبي يحبّ من لا أسمّي ... في عناء أعظم به من عنائي كيف لا كيف أن ألذّ بعيش ... مات صبري به ومات عزائي ايها اللائمون ماذا عليكم ... أن تعيشوا وأن أموت بدائي «ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء» تقطيعه: فاعلاتن، متفعلن، فعلاتن ... فاعلاتن، متعفلن، مفعولن الضرب المحذوف يجوز فيه الخبن ذات دلّ وشاحها قلق ... من ضمور وحجلها شرق «1» بزّت الشمس نورها، وحباها ... لحظ عينيه شادن خرق «2» ذهب خدّها يذوب حياء ... وسوى ذاك كلّه ورق إن أمت ميتة المحبّين وجدا ... وفؤادي من الهوى حرق

تقطيعه:

فالمنايا من بين غاد وسار ... كلّ حيّ برهنها غلق تقطيعه: فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن ... فاعلاتن، متفعلن، فعلن الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن ضربه مثله يا غليلا كالنار في كبدي ... واغتراب الفؤاد عن جسدي ليت من شفني هواه رأى ... زفرات الهوى على كبدي غادة نازح محلّتها ... وكلتني بلوعة الكمد «1» «ربّ خرق من دونها قذف ... ما به غير الجنّ من أحد» تقطيعه: فاعلاتن، مستفعلن، فعلن ... فاعلاتن، مستفعلن، فعلن العروض المجزوء والضرب المجزوء ما لليلى تبدّلت ... بعدنا ودّ غيرنا أرهقتنا ملامة ... بعد إيضاح عذرنا فسلونا عن ذكرها ... وتسلّت عن ذكرنا لم نقل إذ تحرمت ... واستهلّت بهجرنا لم نقل إذ تحرمت ... واستهلّت بهجرنا «ليب شعري ماذا ترى ... أمّ عمرو في أمرنا»

تقطيعه:

تقطيعه: فاعلاتن، مستفعلن ... فاعلاتن، مستفعلن الضرب المجزوء المقصور المخبون أشرقت لي بدور ... في ظلام تنير طار قلبي بحبّها ... لقلب يطير يا بدورا أنا بها ... الدهر عان أسير إن رضيتم بأن أمو ... ت فموتي حقير «كل خطب إن لم تكو ... نوا غضبتم يسير» تقطيعه: فاعلاتن، مستفعلن ... فاعلاتن، فعولن يجوز في الخفيف من الزحاف: الخبن، والكف، والشكل، فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح. ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن وفاعلاتن: لا يسقطان معا، وقد يثبتان، وذلك أن وتد «مس تفع لن» في الخفيف والمجتث، كله مفروق في وسط الجزء، وقد بينا التعاقب في المديد. ويدخله من العلل، التشعيث، والحذف، والقصر، وقد بينا المحذوف والمقصور، وأما التشعيث فهو دخول القطع في الوتد من «فاعلاتن» التي من الضرب الأول من الخفيف، فيعود «مفعولن» .

شطر المضارع

شطر المضارع المضارع له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض، وضرب مجزوء ممنوع من القبض مثل عروضه، وهو: أرى للصّبا وداعا ... ولا يذكر اجتماعا كأن لم يكن جديرا ... بحفظ الذي أضاعا ولم يصبنا سرورا ... ولم يلهنا سماعا فجدّد وصال صبّ ... متى تعصه أطاعا «وإن تدن منه شبرا ... يقرّبك منه باعا» تقطيعه: مفاعيلن فاعلاتن ... مفاعيلن فاعلاتن يجوز في حشو المضارع من الزحاف: القبض، والكف، في مفاعيلن، ولا يجتمعان فيه لعلة التراقب، ولا يخلو من واحد منهما، وقد فسرنا التراقب مع التعاقب. ويدخله في فاعلاتن الكف، فأما القبض فهو ممنوع منه وتد فاع لاتن في المضارع، لانه مفروق وهو «فاع» ، والتراقب في المضارع بين السببين في «مفاعيلن» في الياء والنون، لا يثبتان معا ولا يسقطان معا، وهو في المقتضب بين الفاء والواو من «مفعولات» . شطر المقتضب المقتضب له عروض واحد مجزوء مطوي. وضرب مثل عروضه، وهو: يا مليحة الدعج ... هل لديك من فرج «1»

تقطيعه:

أم تراك قاتلتي ... بالدلال والغنج من لحسن وجهك من ... سوء فعلك السمج عاذليّ حسبكما ... قد غرقت في لجج «1» «هل عليّ ويحكما ... إن لهوت من حرج» تقطيعه: فاعلات مفتعلن ... فاعلات مفتعلن يدخل التراقب في أول البيت، في السببين المتقابلين، على حسب ما ذكرناه في المضارع. شطر المجتث له عروض واحد مجزوء. ضربه مثله وشادن ذي دلال ... معصّب بالجمال يضنّ أن يحتويه ... معي ظلام الليالي أو يلتقي في منامي ... خياله مع خيالي غصن نما فوق دعص ... يختال كلّ اختيال «البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال» تقطيعه: مستفعلن، فاعلاتن ... مستفعلن، فاعلاتن يجوز في المجتث من الزحاف: الخبن، والكف، والشكل، فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.

شطر المتقارب

ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن، وفاعلاتن، على حسب ما يدخل الخفيف، وذلك لان وتد مستفع لن في المجتث مفروق كما هو في الخفيف مفروق وذلك «تفع» . [تمت الدائرة الرابعة] . شطر المتقارب المتقارب له عروضان وخمسة أضرب. فالعروض الاول منها تام يجوز في الحذف والقصر، له أربعة ضروب: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقصور، وضرب محذوف معتمد، وضرب أبتر. والعروض الثاني مجزوء محذوف معتمد، له ضرب مثله معتمد. العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام لحال عن العهد لمّا أحالا ... وزال الأحبّة عنه فزالا محل تحلّ عراها السّحاب ... وتحكي الجنوب عليه الشّمالا «1» فيا صاح مقام المحبّ ... وريع الحبيب فحطّ الرّحالا سل الرّبع عن ساكنيه فإنّي ... خرست فما أستطيع السّؤالا «ولا تجعلنّي هداك المليك ... فإنّ لكلّ مقام مقالا» تقطيعه: فعولن، فعولن، فعولن، فعولن ... فعول، فعول، فعولن، فعولن

الضرب المقصور

الضرب المقصور فؤادي رميت وعقلي سبيت ... ودمعي مريت ونومي نفيت يصدّ اصطباري إذا ما صددت ... وينأى عزائي إذا ما نأيت عزمت عليك بمجرى الوشاح ... وما تحت ذلك مما كنيت وتفاح خدّ ورمّان صدر ... ومجناهما خير شيء جنيت تجدد وصلا عفا رسمه ... فمثلك لمّا بدا لي بنيت «على رسم دار قفار وقفت ... ومن ذكر عهد الحبيب بكيت» تقطيعه: فعولن، فعولن، فعولن، فعول ... فعولن، فعولن، فعول، فعول الضرب المحذوف المعتمد أياويح نفسي وويل امّها ... لما لقيت من جوى همّها فديت التي قتلت مهجتي ... ولم تتّق الله في دمها أغضّ الجفون إذا ما بدت ... وأكني إذا قيل لي سمّها أداري العيون وأخشى الرّقيب ... وأرصد غفلة قيّمها «سبتني بجيد وخدّ ونحر ... غداة رمتني بأسهمها» تقطيعه: فعولن، فعولن، فعولن، فعولن ... فعول، فعولن، فعول، فعل الضرب الأبتر لا تبك ليلى ولا ميّه ... ولا تندبن راكبا نيه وابك الصّبا إذا طوى ثوبه ... فلا أحد ناشر طيّه ولا القلب ناس لما قد مضى ... ولا تارك أبدا غيّه ودع عنك يأسا على أرسم ... فليس الرّسوم بمبكيّه

تقطيعه:

«خليليّ عوجا على رسم دار ... خلت من سليمى ومن ميّه» «1» تقطيعه: فعولن، فعولن، فعولن، فعولن ... فعولن، فعولن، فعولن، فع ضربه مثله أأحرم منك الرّضا ... وتذكر ما قد مضى وتعرض عن هائم ... أبى عنك أن يعرضا قضى الله بالحبّ لي ... فصبرا على ما قضى رميت فؤادي فما ... تركت به منهضا فقوسك شريانه ... ونبلك جمر الغضا «2» تقطيعه: فعول، فعولن، فعل ... فعول، فعولن، فعل يجوز في المتقارب من الزحاف، القبض، وهو فيه حسن، ويدخله الخرم في الابتداء على حسب ما يدخل الطويل. [تمت الدوائر] . وقد أكملنا في هذا الجزء مختصر المثال في ثلاث وستين مقطعة، وهي عدد ضروب العروض، والتزمنا فيها ذكر الزحاف والعلل التي يقوم ذكرها في الجزء الاول الذي اختصرنا فيه فرش العروض، ليكون هذا الكتاب مكتفيا بنفسه لمن قد تأدى إليه معرفة الاسباب والاوتاد ومواضعها من الاجزاء الثمانية التي ذكرناها في مختصر الفرش.

أبيات الطويل

واحتجنا بعد هذا إلى اختلاف الابيات التي استشهد بها الخليل في كتابه، لتكون حجة لمن نظر في كتابنا هذا، فاجتلبنا جملة الابيات السالمة والمعتلة، وما لكل شطر منها: أبيات الطويل العروض المقبوض. الضرب السالم أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّر أهون من بعض ضرب مقبوض ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد أثلم مكفوف شاقتك أحداج سليمي بعائل ... فعيناك للبين يجودان بالدمع أثرم هاجك ربع دارس باللّوى ... لأسماء عفّى المزن والقطر «1» محذوف معتمد ما كلّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... وما كلّ مؤت نصحه بلبيب أقيموا بني النعمان عنا صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا «2» أبيات المديد عروض مجزوء: ضرب مجزوء يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار «3»

ضرب مجزوء: مخبون صدر

ضرب مجزوء: مخبون صدر ومتى مايع كلاما ... يتكلّم فيجبك بعقل مكفوف عجز لن يزال قومنا مخصبين ... صالحين ما اتّقوا واستقاموا مشكول عجز لمن الدّيار غيّرهنّ ... كلّ جون المزن داني الرّباب «1» مشكول طرفاه ليت شعري هل لنا ذات يوم ... بجنون فارع من تلاق العروض المحذوف اللازم الثاني الضرب المقصور، اللازم الثاني لا يضرنّ امرءا عيشه ... كلّ عيش صائر للزوال الضرب المحذوف، اللازم الثاني اعلموا أني لكم حافظ ... شاهدا ما كنت أو غائبا الضرب الأبتر، اللازم الثاني إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «2»

العروض المحذوف المخبون

العروض المحذوف المخبون الضرب المحذوف المخبون للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه الضرب الأبتر ربّ نار بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا «1» أبيات البسيط العروض المخبون. الضرب المخبون يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك مخبون لقد خلت ... صروفها عجب ... فأحدثت عبرا وأعقبت دولا مطوي ارتحلوا غدوة وانطلقوا بكرا ... في زمر منهم تتبعها زمر الضرب المقطوع اللازم الثاني قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني ... جرداء معروقة اللّحيين سرحوب «2» والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشر محذور «3»

العروض المجزوء

العروض المجزوء الضرب المذال إنّا زممنا على ما خيّلت ... سعد بن زيد وعمرا من تميم مخبون قد جاءكم أنكم يوما إذا ... فارقتم الموت سوف تبعثون مطوي يا صاح قد أخلفت أسماء ما ... كانت تمنّيك من حسن الوصال الضرب المجزوء ماذا وقوفي على ربع خلا ... مخلولق دارس مستعجم «1» مخبون إني لمثن عليها استمعوا ... فيها خصال تعدّ أربع مطوي تلقى الهوى عن بني صادق ... نفسي فداه وأمي وأبي الضرب المقطوع الممنوع من الطيّ سيروا معا إنما ميعادكم ... يوم الثلاثاء بطن الوادي قلت استجيبي فلما لم تجب ... سالت دموعي على ردائي العروض المقطوع الممنوع من الطي ما هيج الشوق من أطلالي ... أضحت قفارا كوحي الواحي

أبيات الوافر

أبيات الوافر العروض المقطوف، الضرب المقطوف لنا غنم نسوّقها غزار ... كأنّ قرون جلّتها العصيّ إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع معقول منازل لفرتني قفار ... كأنما رسومها شطور أعصب إذا نزل الشتاء بدار قوم ... تجنّب جار بيتهم الشتاء أقصم ما قالوا لنا سيدا ولكن ... تفاحش قولهم فأتوا بهجر أجم وإنك خير من ركب المطايا ... وأكرمهم أبا وأخا ونفسا العروض المجزوء الممنوع من العقل : ضربه مثله لقد علمت ربيعه أنّ ... حبلك واهن خلق» أهاجك منزل أقوى ... وغيّر آيه الغير الضرب المعصوب عجبت لمعشر عدلوا ... بمعتمر أبا عمرو

أبيات الكامل

أبيات الكامل العروض التام: الضرب التام وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي المضمر إنّي امرؤ من خير عبس منصبي ... شطري وأحمي سائري بالمنصل «1» موقوص يذبّ عن حريمه بنبله ... وسيفه ورمحه ويحتمي مخزول منزلة صم صداها وعفا ... رسمها إن سئلت لم تجب الضرب المقطوع، ممنوع إلا من الإضمار وإذا دعونك عمهنّ فإنه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال الضرب الأحذّ المضمر لمن الديار برامتين فعاتل ... درست وغيّر آيها القطر «2» العروض الأحذّ السالم: الضرب الأحذّ المضمر لمن الديار عفا معالمها ... هطل أجشّ وبايح ترب «3»

الضرب الأحذ المضمر

الضرب الأحذ المضمر ولانت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولجّ في الذعر العروض المجزوء: الضرب المرفّل ولقد سبقتهم إليّ ... فلم نزعت وأنت آخر المضمر وغررتني وزعمت أنك ... لابن في الصيف تامر «1» موقوص ذهبوا إلى أجل وكلّ ... مؤجّل حتي كذاهب الضرب المذال جدث يكون مقامه ... أبدا بمختلف الرياح مضمر وإذا اغتبطت أو ابتأست ... حمدت ربّ العالمين موقوص كتب الشقاء عليهما ... فهما له متيسران مخزول جاوبت إذا دعاك ... معالنا غير مخاف الضرب المجزوء وإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعا وتجمّل «2»

مضمر

مضمر وإذا الهوى كره الهدى ... وأبي التقى فاعص الهوى موقوص ولو أنها وزنت شمام ... بحلمه شالت له مخزول خلطت مراراتها ... بحلاوة كالعسل الضرب المقطوع الممنوع إلا من إضمار وإذا هم ذكروا الإساء ... ة أكثروا الحسنات مضمر وأبو الحليس وربّ مكّة ... فارغ مشغول أبيات الهزج العروض المجزوء الممنوع من القبض: ضربه مثله إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي مكفوف فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمي مقبوض فقالت لا تخف شيئا ... فما عندك من باس أثرم أعادوا ما استعاروه ... كذاك العيش عاريه

أحزب

أحزب ولو كان أبو بشر ... أميرا ما رضيناه أبتر وفي الذين ماتوا ... وفيما جمعوا عبره الضرب المحذوف وما ظهري لباغي الضيم بالظهر الذلول مثله قتلنا سيّد الخزر ... ج سعد بن عباده أبيات الرجز العروض التام: الضرب التام دار لسلمى إذا سليمى جارة ... قفر ترى آياتها مثل الزبر مخبون وطالما وطالما سقى ... بكفّ خالد وأطعما مطوي فأرسل المهر على آثارهم ... وهيأ الرمح لطعن فطعن مخبول ما ولدت والدة من ولد ... أكرم من عبد مناف حسبا الضرب المقطوع الممنوع من الطي القلب منها مستريح سالم ... والقلب مني جاهد مجهود

العروض المجزوء:

لا خير فيمن كفّ عنا شرّه ... إذا كان لا يرجى ليوم خيره العروض المجزوء: الضرب المجزوء قد هاج قلبي منزل ... من أمّ عمرو مقفر مخبول مات الفعال كله ... إذ مات عبد ربّه مطوي هل يستوي عندك من ... تهوى ومن لا تمقه مخبول لامتك بنت مطر ... ما أنت وابنة مطر العروض المشطور الضرب المشطور ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا ... إنك لا تجني من الشوك العنب مخبون قد تعلمون أنني ابن أختكم مطوي ما كان من شيخك إلا عمله

مخبول

مخبول هلا سألت طللا وخيما مطوي العروض المنهوك يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع مخبون فارقت غير وامق مخبول يا صاح فيما غضبوا أبيات الرمل العروض المحذوف والجائز فيه الخبن الضرب المتمم مثل سحق البرد عفّى بعدك القطر مغناه وتأويب الشّمال مخبون صدر وإذا راية مجد رفعت ... نهض الصّلت إليها فحواها مكفوف عجز ليس كل من أراد حاجة ... ثم جدّ في طلابها قضاها مشكول عجز فدعوا أبا سعيد عامرا ... وعليكم أخاه فاضربوه

مشكول طرفان

مشكول طرفان إنّ سعدا بطل ممارس ... صابر محتسب لما أصابه الضرب المقصور يا بني الصيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل أحمدت كسري وأمسي قيصر ... مغلقا من دونه باب الحديد الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن قالت الخنساء لما جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب «1» مخبون كيف ترجون سقوطي بعدما ... لفع الرأس مشيب وصلع الضرب المشبع يا خليليّ اربعا فاستخبرا رسما بعسفان مخبون واضحات فارسيا ... ت وأدم عربيات الضرب المجزوء مقفرات دارسات ... مثل آيات الزبور الضرب المشبع لان حتى لو مشى الذّ ... رّ عليه كاد يدميه الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن ما لما قرّت به العي ... نان من هذا ثمن

مخبون

مخبون قلبه عند الثريا ... بائن من جسده أبيات السريع قد يدرك المبطيء من حظّه ... والخير قد يسبق جهد الحريص العروض المكفوف: المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف اللازم الثاني أزمان سلمى لا يرى مثلها ال ... راءون في شام ولا في عراق مخبول قالها وهو بها عارف ... ويحك أمثال طريف قليل مخبون أرد من الأمور ما ينبغي ... وما تطيقه وما يستقيم الضرب المكسوف اللازم الثاني لا تكسع الشّول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج «1» هاج الهوى رسم بذات الغضى ... مخلولق مستعجم محول الضرب الأصلم السالم قالت ولم تقصد لقيل الخفا ... مهلا فقد أبلغت أسماعي الضرب المخبون المكسوف النشر مسك والوجوه دنا ... نير واطراف الأكف عنم

العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطي

يأيها الزاري على عمرو ... قد قلت فيه غير ما تعلم «1» العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطيّ يا صاح ما هاجك من ربع خال ... ينضحن في حافاته بالأبوال مخبون لا بد منه فاحذرن وإن فتن مشطور يا صاحبي رحلي أقلا عذلي مخبون الضرب المشطور المكسوف الممنوع من الطيّ يا رب إن أخطأت أو نسيت ... وبلدة بعيدة النياط أبيات المنسرح العروض الممنوع من الخبل: الضرب المطوي إن ابن زيد ما زال مستعملا ... للخير يهدي في مصره العرفا من لم يمت عبطة يمت هرما ... والموت كأس والمرء ذائقها «2» مثله إن سميرا أرى عشيرته ... قد حدبوا دونه وقد أنفوا «3»

المطوي

المطوي منازل عفاهن بذي الأراك ... كل وابل مسبل هطل مخبون في بلد معروفة سمته ... قطعه عابر على جمل مخبول صبرا بني عبد الدار العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي: ضربه مثله ويل امّ سعد سعدا أبيات الخفيف العروض التام: الضرب التام الجائز فيه التشعيث حلّ أهلي بطن الغميس فبادوا ... لي وحلت علويّة بالسخال ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء مخبون صدر وفؤادي كعهده بسليمى ... بهوى لم يزل ولم يتغير مكفوف عجز وأقل ما يظهر من هواكا ... ونحن نستكثر حين يبدو مشكول عجز إن قومي جحاجحة كرام ... متقادم مجدهم أخيار «1»

مشكول طرفان الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن

مشكول طرفان الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن إن قدرنا يوما على عامر ... نمتثل منه أو ندعه لكم مخبون رب خرق من دونها قذف ... ما به غير الجنّ من أحد العروض المجزوء: الضرب المجزوء ليت شعري ماذا ترى ... أم عمرو في أمرنا مثله اسلمي أمّ خالد ... ربّ ساع لقاعد الضرب المقصور المخبون كل خطب إن لم تكونوا غضبتم يسير أبيات المضارع العروض المجزوء الممنوع من القبض وإن تدن سنه شبرا ... يقربك منه باعا مقبوض دعاني إلى سعاد ... دواعي هوى سعاد أحزب وقد رأيت مثل الرجال ... فما أرى مثل زيد

أشتر

أشتر قلنا لهم وقالوا ... كل له مقال أبيات المقتضب العروض المجزوء المنطوي: الضرب المجزوء المنطوي هل عليّ ويحكما ... إن لهوت من حرج مخبون أعرضت فلاح لها ... عارضان كالبرد أبيات المجتث العروض المجزوء البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال الضرب المجزوء ولو علقت بسلمى ... علمت أن ستموت أولئك خير قومي ... إذ ذكر الخيار أنت الذي ولدتك أسماء بنت الحباب أبيات المتقارب العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر: الضرب التام فأما تميم تميم بن مر ... فألقاهم القوم روبى نياما «1»

مثله

مثله فلا تعجلنّي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا مقبوض أفاد فجاد وساد وزاد ... وذاد وعاد وقاد وأفضل أثلم رمينا قصاصا وكان التقاصّ ... حقّا وعدلا على المسلمينا المجزوء المعتمد وروحك في النادي ... وتعلم ما في غد أثرم قلت سدادا لمن جاءي ... فأحسنت قولا وأحسنت رأيا مثل الأوّل ولولا خداش أخذت دواب سعد ولم أعطه ما عليها الضرب المقصور ويأوى إلى نسوة بائسات ... وشعث مراضيع مثل السّعالى «1» مثله على رسم دار قفار وقفت ... ومن ذكر عهد الحبيب بكيت من مقصور الضرب المحذوب المعتمد وأبني من الشعر شعرا عويصا ... ينسّى الرواة الذي قد رووا

الضرب الأبتر: غير معتمد الاعتماد في المتقارب بإثبات النون في «فعولن» التي قبل القافية

سبتني بخدّ وجيد ونحر ... غداة رمتني بأسهمها الضرب الأبتر: غير معتمد الاعتماد في المتقارب بإثبات النون في «فعولن» التي قبل القافية خليلىّ عوجا على رسم دار ... خلت من سليمى ومن ميّه مثله صفية قومي ولا تعجزي ... وبكّى النساء على حمزه الضرب المحذوب أمن دمنة أقفرت ... لسلمى بذات الغضا علل القوافي القافية حرف الرويّ الذي يبنى عليه الشعر، ولا بد من تكريره فيكون في كل بيت، والحروف التي تلزم حرف الرويّ أربعة: التأسيس، والردف، والوصل، والخروج. فأما التأسيس فألف يكون بينها وبين حرف الروى حرف متحرك بأي الحركات كان، وبعض العرب يسميه الدخيل، وذلك نحو قول الشاعر: «كليني لهمّ يا أميمة ناصب» فالألف من «ناصب» تأسيس، والصاد دخيل، والباء رويّ، والياء المتولدة من كسرة الباء وصل. وأما الردف فإنه احد حروف المدّ واللين، وهي: الياء، والواو، والألف، يدخله قبل حرف الرويّ، وحركة ما قبل الردف بالفتح إذا كان الردف ألفا، وبالضم إذا كان واوا، وبالكسر إذا كان ياء مكسورا ما قبلها، وقد تجتمع الياء والواو في شعر واحد. لأن الضمة والكسرة أختان، كما قال الشاعر:

أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير فجاء بغيور مع عسير، ولا يجوز مع الالف غيرها، كما قال الشاعر: بان الخليط ولو طوّعت ما بانا «1» وجنس ثالث من الردف، وهو أن يكون الحرف قبله مفتوحا ويكون الردف ياء أو واوا، نحو قول الشاعر: كنت إذا ما جئته من غيب ... يشمّ رأسي ويشمّ ثوبي وأما الوصل فهو إعراب القافية وإطلاقها، ولا تكون القافية مطلقة إلا بأربعة أحرب: ألف ساكنة مفتوح ما قبلها من الروي، وياء ساكنة مكسور ما قبلها من الرويّ، وهاء متحركة أو ساكنة مكنية ولا يكون شيء من حروف المعجم وصلا غير هذه الاربعة الاحرف: الالف، والواو، والياء، والهاء المكنية، وإنما جاز لهذه أن تكون وصلا ولم يجز لغيرها من حروف المعجم، لان الالف والياء والواو حروف إعراب ليست أصليات وإنما تتولد مع الإعراب وتشبّهت الهاء بهن لانها زائدة مثلهن، ووجودها يكون خلفا منهن في قولهم: أرقت الماء، وهرقت الماء، وأيا زيد، وهيا زيد، ونحو قول الشاعر: قد جمعت من أمكن وأمكنه ... من هاهنا وهاهنا ومن هنه وهو يريد: هنا، فجعل الهاء خلفا من الألف. وأما الخروج، فإن هاء الوصل إذا كانت متحركة بالفتح تبعتها ألف ساكنة وإذا كانت متحركة بالكسر تبعتها ياء ساكنة، وإذا كانت متحركة بالضم تبعتها واو ساكنة، فهذه الالف والياء والواو يقال لها الخروج، وإذا كانت هاء الوصل ساكنة لم يكن لها خروج، نحو قول الشاعر: ثار عجاج مستطير قسطله «2»

وأما الحركات اللوازم للقوافي فخمس، وهي: الرس، والحذو، والتوجيه، والمجري، والنفاذ. فأما الرس ففتحة الحرف الذي قبل التأسيس. وأما الحذو ففتحة الحرف الذي قبل الردف او ضمته او كسرته. وأما التوجيه فهو ما وجه الشاعر عليه قافيته من الفتح والضم والكسر، يكون مع الروى المطلق او المقيد إذا لم يكن في القافية ردف ولا تأسيس. وأما المجري ففتح حرف الروى المطلق او ضمته أو كسرته. وأما النفاذ فإنه فتحة هاء الوصل أو كسرتها او ضمتها، ولا تجوز الفتحة مع الكسرة، ولا الكسرة مع الضمة، ولكن تنفرد كل حركة منها على حالها. وقد يجتمع في القافية الواحدة: الرس، والتأسيس، والدخيل، والروي، والمجرى والوصل، والنفاذ، والخروج، كما قال الشاعر: يوشك من فرّ من منيّته ... في بعض غرّاته يوافقها فحركة الواو الرس، والالف تأسيس، والفاء دخيل، والقاف رويّ، وحركته المجرى، والهاء هاء الوصل، وحركتها النفاذ، والالف الخروج. ونحو قول الشاعر: عفت الدّيار محلّها فمقامها فحركة القاف الحذو، والالف الردف، والميم الرويّ: وحركتها المجرى، والهاء وصل، وحركتها النفاذ، والالف الخروج. وكل هذه الحروف والحركات لازمة للقافية.

باب ما يجوز أن يكون تأسيسا وما لا يجوز

باب ما يجوز أن يكون تأسيسا وما لا يجوز إذا كان حرف الالف، الف التأسيس، في كلمة، وكان حرف الروي في كلمة أخرى منفصلة عنها، فليس بحرف تأسيس، لانفصاله من حرف الرويّ وتبعاعده منه، لأن بين حرف الروي والتأسيس حرفا متحركا، وليس كذلك الردف، لأن الردف قريب من الرويّ ليس بينهما شيء، فهو يجوز ان يكون في كلمة ويكون الروي في كلمة أخرى منفصلة منها، نحو قول الشاعر: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها فألف «إلا» ردف واللام حرف الروي، وهي في كلمة منفصلة من الردف فجاز ذلك، لقرب ما بين الردف والروي، ولم يجز في التأسيس لتباعده من الروي، نحو قول الشاعر: فهنّ يعكفن به إذا حجا ... عكف النّبيط يلعبون الفنزجا «1» فلم يجعلها تأسيسا لتباعدها عن الروي وانفصالها منه، ومثله: وطالما وطالما وطالما ... غلبت عادا وغلبت الأعجما فلم يجعل الألف تأسيسا. وقد يجوز أن تكون تأسيسا إذا كان حرف الرويّ مضمرا، كما قال زهير: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الامر أو يبدو لهم ما بدا ليا فجعل ألف بدا ليا تأسيسا وهي [في] كلمة منفصلة من القافية لما كانت القافية في مضمر، وكذلك قول الشاعر:

باب ما يجوز أن يكون حرف روي وما لا يجوز أن يكونه

وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا «1» وأما «غلامك» و «سلامك» في قافية فلا تكون الالف إلا تأسيسا، لان الكاف التي هي حرف، لا تنفصل من «غلام» . باب ما يجوز أن يكون حرف رويّ وما لا يجوز أن يكونه أعلم أن حروف الوصل كلها لا يجوز أن تكون رويا، لانها دخلت على القوافي بعد تمامها، فهي زوائد عليها، ولانها تسقط في بعض الكلام، فإذا كان ما قبل حرف الوصل ساكنا فهو حرف الرويّ، لانها لا تكون [وصلا] وقبلها حرف الروي ساكنا، نحو قول الشاعر: أصبحت الدنيا لأربابها ... ملهى وأصبحت لها ملهى كأنني أحرم منها على ... قدر الذي نال أبي منها وإذا حرّكت ياء الوصل أو واو الوصل، جاز لها أن تكون رويا، كما قال زهير: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا وقال عبد الله بن قيس الرّقيّات: إنّ الحوادث بالمدينة قد ... شيّبتني وقرعن مروتيه «2» كذلك الهاء من طلحة وحمزة وما أشبههما، [يجوز أن تكون وصلاو] ان تكون رويا، [الجواز] أن تطلق فتعود تاء، فإذا كان ذلك فأنت فيها بالخيار: إن شئت جعلتها رويا، أو وصلا لما قبلها، وجعلها أبو النجم رويا فقال: أقول إذ جئن مربّجات ... ما أقرب الموت من الحياة «3»

كذلك التاء [من] نحو اقشعرت واستهلّت، والكاف [من] نحو مالكا وفعالكا، فقد يجوز أن تكون رويا، وقد يجوز أن تكون وصلا، وإنما جاز أن تكون رويا، لانها أقوى من حرف الوصل، وجاز أن تكون وصلا، لانها دخلت على القوافي بعد تمامها، وقد جعلت الخنساء التاء وصلا ولزمت ما قبلها، فقالت: أعينيّ هلّا تبكيان أخاكما ... إذا الخيل من طول الوجيف اقشعرّت «1» فلزمت الراء في الشعر كله وجعلت التاء صلة. وقال آخر فجعل التاء رويا: الحمد لله الذي استقلّت ... بإذنه السّماء واطمأنّت وقال حسان فجعل الكاف رويا: دعوا فلجات الشام قد حيل بينها ... بطعن كأفواه المخاض الاوارك «2» بأيدي رجال هاجروا نحو ربّهم ... بأسيافهم حقّا وأيدي الملائك وقال: إذا سلكت بالرّمل من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك وهنالك كافها زائدة، تقول للرجل هنالك، وللمرأة هنالك. وقال غيره: أيا خالدا يا خير أهل زمانكا ... لقد شغل الافواه حسن فعالكا فجعل الكاف رويّا، وقد يجوز أن تكون وصلا ويلزم ما قبلها، وكذلك فعالكم وسلامكم: الميم الآخرة حرف الروي، كما قال الشاعر: بنو أميّة قوم من عجيبهم ... أنّ المنون عليهم والمنون هم الميم حرف الرويّ، وقد جعلها بعض الشعراء وصلا مع الهاء والكاف التي قبلها،

لانهما حرفا إضمار، كالهاء والكاف، ولحقت الاسم بعد تمامه كما لحقت الهاء والكاف في نحو قوله: زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنّني بك قد نقلت إليهما ومثله لامية بن أبي الصلت: لبّيكما لبّيكما ... ها أنا ذا لديكما وأما النسبة، مثل ياء قرشي وثقفي وما أشبه ذلك، إذا كانت خفيفة فأنت فيها بالخيار: إن شئت جعلتها رويا، وإن شئت وصلا، نحو قول الشاعر: إني لمن أنكرني ابن اليثربي ... قتلت علباء وهند الجملي فجعل الياء الخفيفة رويا، وإذا كانت النسبة مثقلة، مثل قرشي وثقفّي، لم تكن إلا رويا. وإذا قال شعرا على «حصاها» و «رماها» ، لم تكن الهاء الا حرف الرويّ، ومن بنى شعرا على «اهتدى» فجعل الدال رويا، جاز له ان يجعل مع ذلك «أحمدا» ، وإن جعل الياء من «اهتدى» حرف الروي، لم يجز معها «أحمدا» وجاز له معها «بشرى، وحبلى، وعصا، وأفعى» ، ومن ذلك قول الشاعر: داينت أروي والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا وأدّت بعضا فلزم الضاد من «تقضى» وجعل الياء وصلا، فشبهها بحرف المد الذي في القافية، ومثله: ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري ومثله: هجرتك بعد تواصل دعد ... وبدا لدعد بعض ما يبدو و «يرمي» مع «يقضي» جائز إذا كان الياء حرف الرويّ لانها من أصل الكلمة. ومما لا يجوز أن يكون رويا، الحروف المضمرة كلها، لدخولها على

القوافي بعد تمامها، مثل: اضربا، واضربوا، واضربي، لان الف «اضريا» لحقت اضرب وواو «اضربوا» لحقت اضرب، وياء «اضربي» لحقت اضرب- بعد تمامها، فلذلك كانت وصلا، ولانها زائدة مع هذا في نحو قول الشاعر: لا يبعد الله جيرانا تركتهم ... لم أدر بعد غداة البين ما صنع يريد: ما صنعوا. ومثله: يا دار عبلة بالجواء تكلّمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلم يريد: واسلمي، فجعل الياء وصلا، وبعضهم جعلها رويا على قبح. وأما ياء «غلامي» فهي أضعف من ياء «اسلمي» ، لانها قد تحذف في بعض المواضع تقال: هذا غلام، تريد غلامي، وقالوا: يا غلام أقبل، في النداء وواغلاماه، فحذفوا الياء، وبعضهم يجعلها رويا على ضعفها، كما قال: إني آمرؤ أحمي ذمار إخوتي ... إذا رأوا كريهة يرمون بي ومثله: إذا تغدّيت وطابت نفسي ... فليس في الحيّ غلام مثلي قال الاخفش: وقد كان الخليل يجيز «إخواني» مع «أصحابي» ويأبى عليه العلماء، ويحتج بقول الشاعر: بازل عامين حديث سنّي ... لمثل هذا ولدتني أمّي «1» وحرف الإضمار إذا كان ساكنا كان ضعيفا، فإذا تحرّك قوي وجاز أن يكون رويا، كقول الشاعر: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا وإنما جاز للكاف أن يكون رويا ولم يجز ذلك للهاء وكلاهما حرف إضمار، لان

الكاف أقوى عندهم من الهاء وأثبت في الكلام، وإذا خاطبت الذكر والمؤنث لا تبدل صورتها كما تبدل الهاء في غلامه وغلامها، وإذا قلت: مررت بغلامك، ورأيت غلامك، فالكاف في حال واحدة، والهاء مضطربة في قولك: رأيت غلامه، ومررت بغلامه، وإنما جاز فيها ان تكون وصلا أيضا كما تكون الهاء، لانها تشبهت بالهاء، إذ كانت حرف إضمار كالهاء، ودخلت على الاسم كدخول الهاء، وكانت اسما للحرف كما تكون الهاء، وإنما خالفتها بالشيء اليسير، وأما قولك: ارمه، واغزه، فلا تكون الهاء ههنا رويا، لانها لحقت الاسم بعد تمامه، ولانها زوائد فيه وأنها دخلت لتبين حركة [الزاي] من اغزه والميم من ارمه، وقد تكون تدخل للوقف أيضا. واذا كانت الهاء اصلية لم تكن إلا رويا، مثل قول الشاعر: قالت أبنّا لي وإلا أسفه ... ما السّوء إلا غفلة المدلّه ومن بنى شعرا على «حيّ» جاز له فيه «طيّ» و «رمى» ، لأنّ الياء الاولى من حيّ، ليست بردف، لانها من حرف مثقل قد ذهب مدّه ولينه، قال سيبويه: وإذا قال الشعر: تعالى، أو تعالوا، لم تكن الياء والواو إلا رويا، لان ما قبلهما انفتح، فلما صارت الحركة التي قبلهما غير حركتهما ذهبت قوّتهما في المدّ وأكثريتهما، وكذلك: أخشى واخشوا، وكل ياء أو واو انفتح ما قبلها، وكذلت هذه الياء والواو إذا تحرّكتا لم تكونا إلا حرف روي، لذهاب اللين والمدّ وكذلك قوله: رأيت قاضيا، وراميا، وأريد ان يغزو، وتدعو، في قافيتين من قصيدة. وأمّا الميم من غلامهم وسلامهم، فقد تكون رويا، وقد تكون وصلا ويلزم ما قبلها، كما قال الشاعر: يا قاتل الله عصبة شهدوا ... خيف منّي لي ما كان أسرعهم إن نزلوا لم يكن لهم لبث ... أو رحلوا أعجلوا مودّعهم لا غفر الله للحجيج إذا ... كان حبيبي إذا نأوا معهم! فالعين هنا حرف الرويّ، والهاء والميم صلة، كحروف الإضمار كلها التي تقدّم

ذكرها، ولا يحسن أن يكون رويا إلا ما كان منها محرّكا، لأنّ المتحرّك أقوى من الساكن، وذلك مثل ياء الإضافة التي ذكرنا، أو ما كان منها حرفا قويا: مثل الكاف والميم والنون، فإنها تكون رويا ساكنة كانت أو متحرّكة، وذلك مثل قول الشاعر: قفي لا يكن هذا تعلّة وصلنا ... لبين، ولا ذا حظّنا من نوالك ثم قال: أبرّ وأوفى ذمّة بعهوده ... إذا وازنت شمّ الذّرى بالحوارك وقال آخر: قل لمن يملك الملو ... ك وإن كان قد ملك قد شريناك مرة ... وبعثنا إليك بك وقال آخر في الهاء: رموني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم ولآخر: نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم فهم لي فخر إذا عدّدوا ... كما أنا في الناس فخر لهم وقال آخر في النون: طرحتم من التّرحال أمرا فعمّنا ... فلو قد رحلتم صبّح الموت بعضنا وقال آخر: فهل يمنعني ارتيادي البلا ... دمن حذر الموت أن يأتين أليس أخو الموت مستوثقا ... عليّ فإن قلت قد أنسأن وأمّا الهاء فقد أجمعوا ان لا تكون رويا لضعفها، إلا أن يكون ما قبلها ساكنا كما قد ذكرنا.

باب عيوب القوافي

ومن بنى شعرا على «اخشوا» جاز له معها «طغوا، وبغوا، وعصوا» ، فتكون الواو رويا لانفتاح ما قبلها وظهورها، مع القبح، لانها مع الضمة صلة، ولا تكون هذه إلا رويا. باب عيوب القوافي السناد، والإيطاء، والإقواء، والإكفاء، والإجازة، والتضمين، والإصراف. السناد على ثلاثة أوجه: الأوّل منها اختلاف الحرف الذي قبل الردف بالفتح والكسر نحو قول الشاعر: ألم تر أنّ تغلب أهل عزّ ... جبال معاقل ما يرتقينا شربنا من دماء بني تميم ... بأطراف القنا حتى روينا والوجه الثاني اختلاف التوجيه في الروي المقيد، وهو اجتماع الفتحة التي قبل الروي مع الكسرة والضمة كهيئتها في الحذو، وذلك كقوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... ألّف شتّى ليس بالراعي الحمق ومثله: تميم بن مرّة وأشياعه ... وكندة حولي جميعا صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تخرّقت الارض واليوم قر والوجه الثالث من السناد أن يدخل حرف الردف ثم يدعه، نحو قول الشاعر: وبالطوف بالاخيار ما اصطحابه ... وما المرء إلا بالتقلّب والطّوف فراق حبيب وانتهاء عن الهوى ... فلا تعذليني قد بدا لك ما أخفي وأمّا القافية المطلقة فليس اختلاف التوجه فيها سنادا. وأمّا الإقواء والإكفاء فهما عند بعض العلماء شيء واحد، وبعضهم يجعل الإقواء في العروض خاصة دون الضرب، ويجعلون الإكفاء والإيطاء في الضروب دون

العروض، فالإقواء عندهم ان ينتقص قوّة العروض فيكون «مفعولن» في الكامل، ويكون في الضرب «متفاعلن» فيزيد العجز على الصدر زيادة قبيحة، فيقال: أقوى في العروض، اي أذهب قوته، نحو قول الشاعر: لمّا رأت ماء السّلى مشروبا ... والفرث يعصر في الإناء أرنّت «1» ومثله: أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الإطهار والخليل يسمى هذا المقعر، وزعم يونس أنّ الإكفاء عند العراب هو الإقواء، وبعضهم يجعله تبديل القوافي، مثل أن يأتي بالعين مع الغين، لشبههما في الهجاء، وبالدال مع الطاء، لتقارب مخرجيهما، ويحتج بقول الشاعر: جارية من ضبّة بن أدّ ... كأنها في ذرعها المنغطّ ... «2» والخليل يسمى هذا: الإجازة، وأبو عمرو يقول: الإقواء: اختلاف إعراب القوافي بالكسر والضم والفتح، وكذلك هو عند يونس وسيبويه، والإجازة عند بعضهم: اجتماع الفتح مع الضم أو الكسر في القافية، ولا تجوز الإجازة إلا فيما كان فيه الصول هاء ساكنة، نحو قول الشاعر: الحمد لله الذي ... يعفو ويشتدّ انتقامه وربّنا ربّهم ... لا يستطيعون اهتضامه ومثله: فديت من أنصفني في الهوى ... حتى إذا أحكمه ملّه أبنّ ما كنت ومن ذا الذي ... قبلي صفا العيش له كلّه والإكفاء: اختلاف القوافي بالكسر والضم عند جميع العلماء بالشعر، إلا ما ذكر يونس.

باب ما يجوز في القافية من حروف اللين

وأمّا المضمّن، فهو أن لا تكون القافية مستغنية عن البيت الذي يليها نحو قول الشاعر: وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ أني «1» شهدت لهم مواطن صالحات ... تنبّيهم بودّ الصّدر منّي وهذا قبيح، لان البيت الاول متعلق بالبيت الثاني لا يستغني عنه، وهو كثير في الشعر. وأما الإيطاء وهو أحسن ما يعاب به الشعر، فهو تكرير القوافي، وكلما تباعد الإيطاء كان أحسن، وليست المعرفة مع النكرة إيطاء، وكان الخليل يزعم أن كل ما اتفق لفظه من الاسماء والافعال، وإن اختلف معناه، فهو إيطاء، لان الإيطاء عنده إنما هو ترديد اللفظتين المتفقتين من الجنس الواحد، إذا قلت للرجل تخاطبه: أنت تضرب، وفي الحكاية عن المرأة: هي تضرب، فهو إيطاء وكذلك في قافية: أمر جلل، وأنت تريد تعظيمه، وهو في قافية أخرى: جلل، وأنت تريد تهوينه- فهو إيطاء. ... حتى إذا كان اسم مع فعل، وإن اتفقا في الظاهر، فليس بإيطاء، مثل اسم يزيد، وهو اسم ويزيد وهو فعل. باب ما يجوز في القافية من حروف اللين اعلم أن القوافي التي يدخلها حروف المد، وهي حروف اللين، فهي كل قافية حذف منها حرف ساكن وحركة، فتقوم المدة مقام ما حذف، وهو من الطويل «فعولن» المحذوف. ومن المديد «فاعلان» المقصور، و «فعلن» الأبتر.

ومن البسيط «فعلن» المقطوع «مفعولن» المقطوع، فأما «مستفعلان» المذال فاختلف فيه، فأجازه قوم بغير حرف مدّ، لانه قد تم وزيد عليه حرف بعد تمامه، وألزمه قول المدّ، لالتقاء الساكنين، وقالوا: المدة بين الساكنين تقوم مقام الحركة، وإجازته بغير حرف مدّ أحسن، لتمامه. وأما الوافر فلا يلزم شيء منه حرف مدّ. وأما الكامل فيدخل منه حرف اللين في «فعلاتن» المقطوع، وفي «متفاعلان» المذال. وأما الهزج فلا يلزمه حرف مدّ. وأما الرجز فيلزم «مفعولن» منه المقطوع حرف المدّ. وأما الرمل فيلزم «فاعلان» وحدها، لالتقاء الساكنين. وأما السريع فيلزم «فاعلان» الموقوف، لالتقاء الساكنين، وكذلك «مفعولات» . وأما المنسرح فيلزم «مفعولات» كما يلزم السريع. وأما الخفيف فإنه يلزم «فعولن» المقصور وإن كان قد نقص منه حرفان وليس في المد خلف من حرفين، ولكن لما نقص من أول الجزء حرف، وهو سين «مستفعلن» قام ما أخلف بالمدة مقام ما نقص من آخر الجزء، لانه بعد المدة. وأما المضارع والمقتضب والمجتث فليس فيها حرف مدّ، لتمام أواخرها وأما المتقارب فألزموا «فعول» المقصور حرف المدّ: لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: وكل هذه القوافي قد يجوز أن تكون بغير حرف المد لأنّ رويها تام صحيح على مثل حاله بحرف المد، وقد جاء مثل ذلك في أشعارهم، ولكنه شاذ قليل، وأن تكون بحرف المد احسن، لكثرته ولزوم الشعراء إياه.

مقطعات على حروف الهجاء وضروب العروض

ومما قيل بغير حرف مدّ: ولقد رحلت العيس ثم زجرتها ... قدما وقلت عليك خير معدّ وقال آخر: إن تمنع النوم النسا يمنعن مقطعات على حروف الهجاء وضروب العروض ومن قولنا مقطعات على تأليف حروف الهجاء وضروب العروض: [الطويل] الأول من الطويل: سالم وأزهر كالعيّوق يسعى بزهراء ... لنا منهما داء وبرء من الداء «1» ألا بأبي صدغ حكى العين عطفه ... وشارب مسك قد حكى عطفة الراء فما السّحر ما يعزى إلى أرض بابل ... ولكن فتور اللحظ من طرف حوراء «2» وكفّ أدارت مذهب اللون أصفرا ... بمذهبة في راحة الكفّ صفراء الضرب الثاني من الطويل: مقبوض معذّبتي رفقا بقلب معذب ... وإن كان يرضيك العذاب فعذّبي لعمري لقد باعدت غير مباعد ... كما أنني قرّبت غير مقرّب بنفسي بدر أخمد البدر نوره ... وشمس متى تبدو إلى الشمس تغرب لو أنّ امرأ القيس بن حجر بدت له ... لما قال «مرا بي على أمّ جندب» الضرب الثالث من الطويل المحذوف المعتمد محبّ طوى كشحا على الزّفرات ... وإنسان عين خاض في غمرات «3»

المديد

فيامن بعينيه سقامي وصحتي ... ومن في يديه ميتتي وحياتي بحبّك عاشرت الهموم صبابة ... كأنّي لها ترب وهنّ لداتي فخدّي أرض للدموع ومقلتي ... سماء لها تنهلّ بالعبرات [المديد] الضرب الأول من المديد وهو السالم طلّق الّلهو فؤادي ثلاثا ... لا ارتجاع لي بعد الثلاث وبياض في سواد عذاري ... بدّل التّشبيب لي بالمراثي غير أنّي لا أطيق اصطبارا ... وأراني صابرا لا نتكاثي بإناث في صفات ذكور ... وذكور في صفات إناث الضرب الثاني من المديد وهو المقصور اللازم اللين صدعت قلبي صدع الزّجاج ... ماله من حيلة أو علاج مزجت روحي ألحاظها ... بالهوى فهو لروحي مزاج يا قضيبا فوق دعص نقا ... وكثيبا تحت تمثال عاج «1» أنت نوري في ظلام الدّجى ... وسراجي عند فقد السّراج الضرب الثالث من المديد وهو المحذوف اللازم اللين مستهام دمعه سائح ... بين جنبيه هوى فادح كلما أمّ سبيل الهدى ... عاقه السانح والبارح

الضرب الرابع من المديد وهو المحذوف المقطوع

حلّ فيما بين أعدائه ... وهو عن أحبابه نازح أيّها القادح نار الهوى ... اصلها يا أيّها القادح الضرب الرابع من المديد وهو المحذوف المقطوع عاد منها كلّ مطبوخ ... غير داذيّ ومفضوخ «1» واعتقد من أهل ودّ الحمى ... كلّ ودّ غير مشدوخ وانتشق ريّاك من ملتقى ... شارب بالمسك ملطوخ «2» إنّ في العلم وآثاره ... ناسخا من بعد منسوخ الضرب الخامس من المديد وهو المحذوف المخبون يا مجال الرّوح في جسدي ... والذي يفترّ عن برد وفريد الحسن واحده ... منتهاه منتهى العدد خذ بكفّي إنني غرق ... في بحار جمّة المدد ورياح الهجر قد هدمت ... ما أقام الوصل من أودي الضرب السادس من المديد وهو الأبتر أذكرتني طير تاناذ ... فقرى الكرخ ببغداذ»

البسيط

قهوة ليست بباذقة ... لا ولا بتع ولا داذي «1» مرّة يهذي الحليم بها ... بأبي ذلك من هاذي فهي أستاذ الشراب بنا ... والمعاني دأب أستاذ [البسيط] الضرب الأول من البسيط وهو المخبون نور تولّد من شمس ومن قمر ... في طرفه قدر أمضى من القدر أصلى فؤادي بلا ذنب جوى حرق ... لم يبق من مهجتي شيئا ولم يذ لا والرّحيق المصفّى من مراشفه ... وما بخديه من ورد ومن طر ما أنصف الحبّ قلبي في حكومته ... ولا عفا الشوق عني عفو مقتد الضرب الثاني من البسيط وهو المقطوع خرجت أجتاز قفرا غير مجتاز ... فصادني أشهل العينين كالبازي صقر على كفّه صقر يؤلّفه ... ذا فوق بغل وذاك فوق قفّاز كم موعد لي من ألحاظ مقلته ... لو أنه موعد يقضى بإنجاز أبكي ويضحك منّي طرفه هزوا ... نفسي الفداء لذاك الضاحك الهازي الضرب الثالث من البسيط وهو المجزوء المذال يا غصنا مائسا بين الرّياط ... مالي بعدك بالعيش اغتباط «2»

الضرب الرابع من البسيط وهو المجزوء السالم

يا من إذا ما بدا لي ماشيا ... وددت أنّ له خدّي بساط تترك عيناه من أبصره ... مختلطا عقله كلّ اختلاط قلت متى نلتقي يا سيّدي ... قال غدا نلتقي عند الصراط الضرب الرابع من البسيط وهو المجزوء السالم يا ساحرا طرفه إذ يلحظ ... وفاتنا لفظه إذا يلفظ يا غصنا ينثني من لينه ... وجهك من كلّ عين يحفظ أيقظ طرفي إذا ما قد بدا ... من طرفه ناعس مستيقظ «1» ظبي له وجنة من رقّة ... تجرحها مقلتي إذ تلحظ الضرب الخامس من البسيط وهو المقطوع يا من دمي دونه مسفوك ... وكل حرّ له مملوك كأنه فضّة مسبوكة ... أو ذهب خالص مسبوك ما أطيب العيش إلّا أنه ... عن عاجل كلّه متروك والخير مسدودة أبوابه ... ولا طريق له مسلوك العروض المقطوع: المجزوء ضربه مثله إليك يا غرّة الهلال ... وبدعة الحسن والجمال

العروض الأول من الوافر: المقطوف ضربه مثله

مددت كفّا بها انقباض ... فأين كفي من الهلال شكوت ما بي إليك وجدا ... فلم ترقّي ولم تبالي أعاضك الله عن قريب ... حالا من السّقم مثل حالي العروض الأول من الوافر: المقطوف ضربه مثله بنفسي من مراشفه مدام ... ومن لحظات مقلته سهام ومن هو إن بدا والبدر تمّ ... خفى من حسنه البدر التّمام أقول له وقد أبدى صدودا ... فلا لفظ إليّ ولا ابتسام تكلم ليس يوجعك الكلام ... ولا يمحو محاسنك السلام العروض الثاني من الوافر مجزوء سالم ضربه مثله سلبت الرّوح من بدني ... ورعت القلب بالحزن فلي بدن بلا روح ... ولي روح بلا بدن قرنت مع الرّدى نفسي ... فنفسي وهو في قرن فليت السحر من عيني ... ك لم أره ولم يرني العروض الثالث من الوافر: المجزوء المعصوب غزال من بني العاص ... أحسّ بصوت قنّاص فأتلع جيده ذعرا ... وأشخص أيّ إشخاص أيا من أخلصت نفسي ... هواه كلّ إخلاص أطاعك من صميم القل ... ب عفوا كلّ معتاص

العروض الأول من الكامل: التام ضربه مثله

العروض الأول من الكامل: التام ضربه مثله في الكلّة الصفراء ريم أبيض ... يشفي القلوب بمقلتيه ويمرض «1» لمّا غدا بين الحمول مقوّضا ... كاد الفؤاد عن الحياة يقوّض صد الكرى عن جفن عينك معرضا ... لمّا رآه يصدّ عنك ويعرض أديت من حبي إليك فريضة ... إن كان حبّ الخلق ممّا يفرض الضرب الثاني: المقطوع أومت إليك جفونها بوداع ... خود بدت لك من وراء قناع «2» بيضاء أنماها النعيم بصفرة ... فكأنها شمس بغير شعاع أما الشباب فودّعت أيامه ... ووداعهنّ موكّل بوداع لله أيام الصّبا لو أنّها ... كرّت عليّ بلذّة وسماع الضرب الثالث: الأحذ المضمر أصغى إليك بكأسه مصغ ... صلت الجبين معقرب الصّدغ كأس تؤلّف بالمحبّة بيننا ... طورا وتنزغ أيّما نزغ في روضة درجت بزهرتها الصبا ... والشمس درج من الفرغ «3» فاشرب بكف أغنّ عقرب صد ... غه للقلب منك منيّه الّلدغ

الضرب الرابع: الأحذ الممنوع من الإضمار العروض الثاني

الضرب الرابع: الأحذ الممنوع من الإضمار العروض الثاني يا دمية نصبت لمعتكف ... بل ظبية أوفت على شرف بل درّة زهراء ما سكنت ... بحرا ولا اكتنفت ورا صدف أسرفت في قتلي بلا ترة ... وسمعت قول الله في السّرف إني أتوب إليك معترفا ... إن كنت تقبل توب معترف الضرب الخامس: الأحذ المضمر يا فتنة بعثت على الخلق ... ما بينها والموت من فرق شمس بدت لك من مغاربها ... يفترّ مبسمها عن البرق ما كنت أحسب قبل رؤيتها ... للشمس مطلعا سوى الشّرق يا من يضنّ بفضل نائله ... لو في يديه مفاتح الرّزق العروض الثالث، له أربعة ضروب الضرب السادس: المجزوء المرفل طلعت له والليل دامس ... شمس تجلّت في حنادس «1» تختال في لين المجا ... سد بين حارسة وحارس يا من لبهجة وجهه ... يستأسر البطل الممارس لم يبق من قبلي سوى ... رسم تغيّر فهو دارس الضرب السابع: المجزوء المذال دع قول واشية وواش ... واجعلهما كلبي هراش

الضرب الثامن: المجزوء الصحيح

واشرب معتّقة تسلسل في العظام وفي المشاش الضرب الثامن: المجزوء الصحيح ألحاظ عيني تلتهي ... في روض ورد يزدهي رتعت بها وتنزّهت ... فيها ألذّ تنزّه يا أيّها الخنث الجفو ... ن بنخوة وتكرّه والمكتسي غنجا أما ... ترثي لأشعث أمره الضرب التاسع: المجزوء المقطوع بسلامة الثاني أطفت شرارة لهوي ... ولوت بشدة عدوي شعل علون مفارقي ... ومضت ببهجة سروي لمّا سلكت عروضها ... ذهب الزّحاف بحزوي يا أيها الشّادي صه ... ليست بساعة شدو الهزج له عروض واحد وضربان (الضرب المجزوء الممنوع من القبض) ألا يا دين قلبي للشّ ... باب الغضّ إذ ولّى جعلت الغيّ سربالي ... وكان الرّشد بي أولى بنفسي جائر في الح ... كم يلفى جوره عدلا وليس الشهد في فيه ... بأحلى عنده من «لا» الضرب الثاني: المحذوف هنا تفني قوافي الشّعر في هذا الرّوي قواف ألبست حليا ... من الحسن البديّ تعالت عن جرير بل ... زهير بل عديّ

ثم الجزء السادس ويليه- إن شاء الله- الجزء السابع وأوله كتاب الياقوتة الثانية، في علم الألحان واختلاف الناس فيه

الجزء السابع

الجزء السابع كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه لابن عبد ربه قال أبو عمر احمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في أعاريض الشعر وعلل القوافي، وفسرنا جميع ذلك بالمنظوم والمنثور. ونحن قائلون بعون الله وإذنه في علم الالحان واختلاف الناس فيه، ومن كرهه، ولأي وجه كره؛ ومن استحسنه، ولاي وجه استحسن؛ وكرهنا ان يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والامثال، عطلا من هذه الصناعة، التي هي مراد السمع، ومرتع النفس وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس.. ابن مسلم وابن دأب قال ابو سعيد بن مسلم: قلت لابن دأب: قد أخذت من كل شيء بطرف غير شيء واحد، فلا أدري ما صنعت فيه. فقال: لعلك تريد الغناء؟ قلت: أجل. قال: أما إنك لو شهدتني وأنا أترنم بشعر كثيّر عزة حيث يقول: وما مرّ من يوم عليّ كيومها ... وإن عظمت أيام أخرى وجلّت لاسترخت تكّتك «1» ! قال: قلت: أتقول لي هذا! قال: اي والله: وللمهدي أمير المؤمنين كنت أقوله.

فصل في الصوت الحسن

فصل في الصوت الحسن للمفسرين قال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ «1» : هو الصوت الحسن. للنبي صلّى الله عليه وسلم وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لابي موسى الاشعري لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود. لأهل الطب وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمو له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات؛ ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوّم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب. ليلى الاخيلية والحجاج وقالت ليلى الاخيلية للحجاج حين سألها عن ولدها وأعجبه ما رأى من شبابه: إني والله ما حملته سهوا، ولا وضعته يتنا، ولا أرضعته غيلا، ولا أنمته تئقا. تعني لم أنوّمه مستوحشا باكيا؛ وقولها: ما حملته سهوا، تعني في بقايا الحيض؛ ويقال: حملت المرأة وضعا وتضعا، إذ حملت في استقبال الحيض؛ وقولها: ولا وضعته يتنا، تعني منكسا؛ وقولها: ولا أرضعته غيلا، تعني لبنا فاسدا.

للفلاسفة

للفلاسفة وزعمت الفلاسفة أن النغم فضلّ بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالالحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنّ إليه الروح؛ ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي ان تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا؛ ألا ترى ان اهل الصناعات كلّها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم، ترنّموا بالالحان، فاستراحت لها أنفسهم. وليس من احد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه؛ ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد، إلا وفيه معاناة على البدن، وتعب على الجوارح. غيره، لكفى. وقد يتوصل بالالحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة؛ ذلك أنها تبعث على مكارم الاخلاق، من اصطناع المعروف، وصلة الرحم، والذبّ عن الاعراض، والتجاوز عن الذنوب؛ وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله في ضميره. وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر به نعيم الآخرة!. لابن أبي داود وقال أحمد بن أبي داود إن كنت لاسمع الغناء من مخارق عند المعتصم، فيقع علي البكاء!. حتى إن البهائم لتحنّ إلى الصوت الحسن وتعرف فضله؛ وقال العتابي وذكر رجلا، فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء، والنحل على الغناء.

لصاحب الفلاحات

لصاحب الفلاحات وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء، وإن افراخها لتستنزل بمثل الزّجل والصوت الحسن. قال الراجز: والطّير قد يسوقه للموت ... إصغاؤه إلى حنين الصّوت وبعد، فهل خلق الله شيئا اوقع بالقلوب وأشدّ اختلاسا للعقول، من الصوت الحسن، لا سيما إذا كان من وجه حسن، كما قال الشاعر: ربّ سماع حسن ... سمعته من حسن مقرّب من فرح ... مبعّد من حزن لا فارقاني أبدا ... في صحة من بدني وهل على الارض رعديد «1» مستطار الفؤاد، بتغنّى بقول جرير بن الخطفي: قل للجبان إذا تأخّر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي إلا ثاب إليه روحه، وقوي قلبه؟ أم على الأرض بخيل قد تقفّعت «2» أطرافه لؤما، ثم غنى بقول حاتم الطائي: يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إنّ الجواد يرى في ماله سبلا إلا انبسطت أنامله ورشحت أطرافه؟ أم هل على الارض غريب نازح الدار بعيد المحل، يتغنى بشعر علي بن الجهم: يا وحشتا للغريب في البلد النّا ... زح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا يقول في نأويه وغربته ... عدل من الله كلّ ما صنعا إلا انقطعت كبده حنينا إلى وطنه، وتشوّقا إلى سكنه؟

اختلاف الناس في الغناء

اختلاف الناس في الغناء اختلف الناس في الغناء، فاجازه عامة اهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق. رأي من اجازه فمن حجّة من اجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلم به، وحضّ عليه، وندب اصحابه اليه، وتجند به على المشركين؛ فقال لحسان: شنّ الغارة على بني عبد مناف، فو الله لشعرك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. و [الشعر] هو ديوان العرب ومقيّد احكامها الشاهد على مكارمها؛ وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به. حسان وابنه قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الاصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار وقد كفّ بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكلما قدّم شيء من الطعام قال حسان لابنه عبد الرحمن: أطعام يد أم طعام يدين؟ فيقول له طعام يد. حتّى قدّم الشّواء، فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده؛ فلما رفع الطعام اندفعت قينة تغني لهم بشعر حسان: انظر خليلي بباب جلّق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد «1» جمال شعثاء إذا هبطن من ال ... منحشّ دون الكثبان فالسّند «2» قال: فجعل حسان يبكي، وجعل عبد الرحمن يوميء إلى القينة أن ترددّه! قال الاصمعي: فلا أدري ما الذي اعجب عبد الرحمن من بكاء ابيه!. لعائشة وقالت عائشة رضي الله عنها: علّموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.

النبي صلّى الله عليه وسلم والشريد وأردف النبي صلّى الله عليه وسلم الشريد، فاستنشده من شعر امية، فأنشده مائة قافية، وهو يقول: هيه! استحسانا لها. فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه، قالوا: الشعر حسن ولا نرى ان يؤخذ بلحن حسن؛ وأجازوا ذلك في القرآن وفي الاذان؛ فإن كانت الالحان مكروهة فالقرآن والاذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة، فالشعر احوج إليها لإقامة الوزن واخراجه على حدّ الخبر؛ وما الفرق بين أن ينشد الرجل: أتعرف رسما كاطّراد المذانب مرسلا، أو يرفع بها صوته مرتجلا. وإنما جعلت العرب الشعر موزونا لمدّ الصوت فيه والدندنة؛ ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور. النبي صلّى الله عليه وسلم واحتجوا في اباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعائشة: اهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا. قال: أو ما علمت ان الانصار قوم يعجبهم الغزل، ألا بعثتم معها من يقول؟ أتيناكم أتيناكم ... فحيّونا نحيّيكم ولولا الحبّة السمرا ... ءلم نحلل بواديكم واحتجوا بحديث عبد الله بن أنس ابن عم مالك، وكان من أفضل رجال الزهري، قال: مر النبي صلّى الله عليه وسلم بجارية في ظل فارع «1» وهي تغني:

عمر بن الخطاب

هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج! فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا حرج إن شاء الله. والذي لا ينكره اكثر الناس، غناء النصب، وهو غناء الركبان. عمر بن الخطاب حدّث عبد الله بن المبارك عن اسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا عليّ. فأعدنا عليه، فقال: أنتما كحماري العباديّ، قيل له: أي حماريك شرّ؟ قال: ذا، ثم ذا!. أنس بن مالك وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبا. ابن أبي وقاص ومن حديث الجماني عن حماد بن زيد عن سليمان بن يسار، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقي له مصلّى فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الاخرى وهو يتغنى، فقلت: سبحان الله أبا إسحاق! أتفعل مثل هذا وأنت محرم؟ فقال: يا بن أخي، وهل تسمعني أقول هجرا «1» . عمرو النابغة الجعدي ومن حديث المفضل عن قرّة بن خالد بن عبد الله بن يحيى، قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك. فاسمعه كلمة

ابن جريج وعطاء

له. قال: وإنك لقائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب. ابن جريج وعطاء عاصم عن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على الحان الغناء والحداء، قال: وما بأس ذلك يابن أخي!. داود عليه السلام قال، وحدّث عبيد بن عمير الليثي، أنّ داود النبي عليه السلام، كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور لتجتمع عليه الجنّ والإنس والطير، فيبكي ويبكي من حوله؛ وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم. رأي من كرهه ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه يسعر القلوب، ويستفز العقول، ويستخف الحليم، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عزّ وجلّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَيَتَّخِذَها هُزُواً «1» ، وأخطئوا في التأويل؛ إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السّير والاحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ويقولون إنها أفضل منه؛ وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا؛ وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر، فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ابن جامع وسفيان وقد حدّث ابراهيم بن المنذر الخزاعي أنّ ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير، ففرّقه في ضعفاء أهلها؛ فقال سفيان بن عيينة: بلغني أنّ هذا السهمي قدم بمال كثير. قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى؟ قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء

للحسن البصري

يغنيهم؟ قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول؟ فقال له فتى من تلاميذه: يقول: أطوّف بالبيت مع من يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل قال: بارك الله عليه، ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا؟ قال: وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلوا من المحكم المنزل قال: وأحسن أيضا، أحسن الله إليه، ثم ماذا؟ قال: عسى فارج الهمّ عن يوسف ... يسخّر لي ربّة المحمل قال: أمسك! أمسك! أفسد آخرا ما أصلح أوّلا! ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسّن الحسن من قوله وقبّح القبيح؟. وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها، كما كره بعضهم الملاذّ ولبس العباءة، وكره الحوّاريّ «1» ، وأكل الكشكار، وترك البرّ وأكل الشعير، لا على طريق التحريم، فإنّ ذلك وجه حسن ومذهب جميل؛ فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله. يقول الله تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ «2» . وقد يكون الرجل أيضا جاهلا بالغناء او متجاهلا به، فلا يأمر به ولا ينكره. للحسن البصري قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ قال: نعم العون الغناء على طاعة الله، يصل الرجل به رحمه، ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعمّ سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه؛ قال الحسن: والله يابن أخي ما ظننت أنّ عاقلا يفعل هذا بنفسه أبدا! وإنّما أنكر عليه الحسن تشويه وجهه وتعويج فمه؛ وإن كان أنكر

لابن جريج وابن عبيد

الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق، وقد ذكرنا أنهم يكرهونه. لابن جريج وابن عبيد قال إسحاق بن عمارة: حدثني ابو المغلس عن أبي الحارث، قال: اختلف في الغناء عند محمد بن ابراهيم والي مكة، فأرسل إلى ابن جريح وإلى عمرو بن عبيد، فأتياه، فسألهما، فقال ابن جريج: لا بأس به، شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده وعنده ابن سريج المغني، فكان إذا غنى لم يقل له اسكت، وإذا سكت لم يقل له غنّ، وإذا لحن ردّ عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «1» ، فأيهما يكتب الغناء، الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال؟ فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما؛ لانه لغو كحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم. لابي يوسف قال اسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزمري قال: قال أبو يوسف القاضي: ما أعجب امركم يأهل المدينة في هذه الاغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها! قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف «2» المحصنة من جاراته، ويكفر بربه؛ فأين هذا من هذا؟ من اختار شعرا جيدا ثم اختار جرما حسنا فردّده عليه فأطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب ... ؟ فقال أبو يوسف: قطعتني! ولم يحر جوابا. الرشيد والزهري قال إسحاق: وحدّثني ابراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة

ابن عمر وابن جعفر

ممن يحرّم الغناء؟ قال: قلت: من قنّعه الله بخزيه، قال: بلغني أنّ مالك بن أنس يحرّمه. قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرّم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمّك محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى: سليمى أزمعت بينا ... فأين بوصلها أينا ولو سمعت مالكا يحرّمه ويدي تناله لا حسنت أدبه! قال: فتبسم الرشيد. ابن عمر وابن جعفر وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه، قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر، فغدا عليه يوما وعنده جارية في حجرها عود، فقال ابن عمر: ما ذاك يا أبا محمد؟. قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن؟ فإن أصاب ظنّك فلك الجارية. قال: ما أراني إلا قد أخذتها، هذا ميزان رومي!. فضحك ابن جعفر وقال: صدقت، هذا ميزان يوزن به الكلام، والجارية لك؛ ثم قال: هات فغنّت: أيا شوقا إلى البلد الامين ... وحي بين زمزم والحجون ثم قال: هل ترى بأسا؟ قال: هل غير هذا؟ قال: لا. قال: فما أرى بذا بأسا. ابن عمر وابن محرز وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني: لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل فقال له عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله! قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في معنى يفسده «إن شاء الله» .

عمر بن عبد العزيز ومغن

عمر بن عبد العزيز ومغن حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثني ابن الشرفي عن الاصمعي قال سمع عمر بن عبد العزيز راكبا يغني في سفره: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي فمنهنّ سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد «1» وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا في الطخية المتورّد «2» وتقصير يوم الدّجن والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الطّراف الممدّد «3» فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عوّدي: لولا أن أنفر في السرية، وأقسم بالسوية، وأعدل في القضية!. جرير والاسلمي العابد قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد وهو في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فسلمت عليه، فأومأ إليّ وأشار بالجلوس، فجلست، فلما سلم أخذ بيدي وأشار إلى حلقي، وقال: كيف هو؟ قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني: يا لقومي بحبلك المصروم ... يوم شطّوا وأنت غير ملوم أصبح الرّبع من أمامة قفرا ... غير مغنى معازف ورسوم قلت: إذا شئت، قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله. ابن المبارك وحدث ابو عبد الله المروزي بمكة في المسجد الحرام، قال: حدثنا حسان وسويد صاحبا ابن المبارك، قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه، فلما

الاوقص المخزومي

نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا في كل يوم، التفت إلينا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر، وتركنا ههنا أبواب الجنة مفتوحة! قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أزقة المصيصة، إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني: أذلني الهوى فأنا الذّليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل فأخرج برنامجا من كمه، فكتب البيت؛ فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: ربّ جوهرة في مزبلة!. الاوقص المخزومي قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة، فما رؤي مثله في العفاف والنبل، فبينما هو نائم ذات ليلة في علّية له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه، فأشرف المخزومي عليه، فقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ: خذه عني! فأصلحه عليه!. وقال الاوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بنيّ، إنّك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالدين، فإن الله يرفع به الخسيسة ويتمّ به النقيصة، فنفعني الله بقولها. الشعبي وبشر وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة، قال: حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لاخيه عبد الملك بن مروان، وعنده جارية في حجرها عود؛ فلما دخل الشعبي امرها فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للامير ان يستحي من عبده. قال: صدقتم: ثم قال للجارية: هاتي ما عندك. فأخذت العود وغنت: ومما شجاني أنها يوم ودّعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر

قرشي ورجل يغني في المسجد

فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إليّ التفاتا أسلمته المحاجر فقال الشعبي: الصغير أكيسهما «1» . يريد الزير، ثم قال: يا هذه، أرخي من يمّك، وشدّي من زيرك «2» . فقال له بشر: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما. قال: صدقت، ومن لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه. قرشي ورجل يغني في المسجد وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنّى رجل في المسجد الحرام وهو مستلق على قفاه صوتا، ورجل من قريش يصلي في جواره؛ فسمعه خدّام المسجد فقالوا: يا عدو الله، تغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة، فتجوز القرشي في صلاته؛ ثم سلم واتبعه، فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله، إنّما كان يقرأ! فقال يا فساق، أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون انه غنّى خلوا سبيله! فلما خلّوه قال له القرشي: والله لولا انك أحسنت وأجدت ما شهدت لك، اذهب راشدا. أبو حنيفة وجار له وكان لابي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب، وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام، ويحييه جاره الكيال بالشراب، ويغني على شرابه: أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فأخذه العسس «3» ليلة فوقع في الحبس، وفقد أبو حنيفة صوته واستوحش له؛ فقال لاهله: ما فعل جارنا الكيال؟ قالوا: أخذه العسس فهو في الحبس. فلما اصبح ابو حنيفة وضع الطويلة على رأسه، وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى، فاستأذن عليه، فأسرع في إذنه- وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك- فأقبل عليه عيسى

الدارمي وتاجر عراقي

بوجهه، وقال: أمر ما جاء بك أبا حنيفة! قال: نعم، أصلح الله الامير، جار لي من الكيالين، أخذه عسس الامير ليلة كذا، فوقع في حبسك. فأمر عيسى باطلاق كل من أخذ في تلك الليلة، إكراما لابي حنيفة؛ فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكرا له، فلما رآه أبو حنيفة قال: أضعناك يا فتى؟ يعرّض له بقصيدته؛ قال: لا والله، ولكنك بررت وحفظت. الدارمي وتاجر عراقي : الاصمعي قال: قدم عراقي بعدل «1» من خمر العراق الى المدينة، فباعها كلها إلا السود، فشكا ذلك الى الدارمي، وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد فقال: ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلّها على حكمك؟ قال: ما شئت!! قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه! فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الاول، وقال شعرا ورفعه إلى صديق له من المغنين، فغنى به وكان الشعر: قل للمليحة في الخمار الاسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبّد «2» قد كان شمّر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد ردّي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحقّ دين محمد فشاع هذا الغناء في المدينة: وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الاسود. فلم تبق مليحة بالمدينة الا اشترت خمارا اسود، وباع التاجر جميع ما كان معه؛ فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه، رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه. عروة بن أذينة : وحدث عبد الله بن مسلم بن قتيبة ببغداد، قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال:

القس

كان عروة بن أذينة يعدّ ثقة ثبتا في الحديث، روى عنه مالك بن أنس؛ وكان شاعرا لبقا في شعره غزلا، وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين؛ فمن ذلك قوله، وغنى به الحجازيون: يا ديار الحيّ بالأجمه ... لم يبيّن رسمها كلمه وهو موضع صوته، ومنه قوله: قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطّي هواك وما ألقي على بصري قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة، فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت القائل: إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد لا والله ما قال هذا رجل صالح قط! القس : قال: وكان عبد الرحمن الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة، وإنه مر يوما بسلامة وهي تغني، فقام يستمع غناءها، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى، فلم يزل به حتى دخل، فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك. فغنّته فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك في أن أحوّلها إليك؟ فأبى ذلك عليه، فلم يزل به حتى أجابه، فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها؛ ولما شعرت لحظه إيّاها غنته: ربّ رسولين لنا بلّغا ... رسالة من قبل أن يبرحا لم يعملا خفّا ولا حافرا ... ولا لسانا بالهوى مفصحا حتى استقلا بجوابيهما ... بالطائر الميمون قد أنجحا

أخبار عبد الله بن جعفر

الطرف والطّرف بعثناهما ... فقضيا حاجا وما صرّحا قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك؛ فقالت له يوما: والله إنّي أحبّك! قال لها: وأنا والله أحبّك! قالت: وأحب أن أضع فمي ... قال: وأنا والله ... قالت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك [اليوم] عداوة يوم القيامة؛ أما سمعت الله تعالى يقول: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «1» ؟ ثم نهض وعاد إلى طريقه التي كان عليها، وأنشأ يقول: قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فأعجب لما تأتي به الأيام «2» فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقسام وله فيه: إن سلامة التي ... أفقدتني تجلّدي «3» لو تراها وعودها ... حين يبدو وتبتدي للجريرين والغري ... ض وللقرم معبد خلتهم بين عودها ... والدّساتين واليد أخبار عبد الله بن جعفر هو ومعاوية : حدث سعيد بن محمد العجلي بعمان، حدثني نصر بن علي عن الأصمعي، قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء؛ فأقبل معاوية عاما من ذلك حاجا، فنزل المدينة، فمر ليلة بدار عبد الله بن جعفر فسمع عنده غناء على أوتار، فوقف ساعة يستمع، ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله! أستغفر الله! فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضا، فإذا عبد الله قائم يصلي، فوقف ليستمع قراءته، فقال الحمد لله!

ثم نهض وهو يقول: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ » . فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعدّ له طعاما ودعاه إلى منزله، وأحضر ابن صيّاد المغني، ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرّك أو تارك وغنّ. فلما وضع معاوية يده في الطعام حرّك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي بن زيد وكان معاوية يعجب به. يا لبينى أوقدي النارا ... إنّ من تهوين قد حارا ربّ نار بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا ولها ظبي يؤجّجها ... عاقد في الخصر زنارا «2» . قال فأعجب معاوية غناؤه، حتى قبض يده عن الطعام، وجعل يضرب برجله الأرض طربا؛ فقال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين؛ إنما هو مختار الشعر يركّب عليه مختار الألحان، فهل ترى به بأسا؟ قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان. قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام، فأنزله في دار عياله، وأظهر من إكرامه وبرّه ما كان يستحقه؛ فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوجة معاوية؛ فسمعت ذات ليلة غناء عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته في حرمك! فجاء معاوية فسمع شيئا حرّكه وأطربه، فقال: والله إنّي لأسمع شيئا تكاد الجبال تخرّ له، وما أظنّه إلا من تلقية الجن! ثم انصرف، فلما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلي، فأنبه فاختة، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي: ملوك بالنهار، رهبان بالليل! ثم إن معاوية أرق ذات ليلة، فقال لخادمه حديج: اذهب فانظر من عند عبد الله، وأخبره بخروجي إليه. فذهب فأخبره، فأقام كلّ من كان عنده؛ ثم جاء معاوية، فلم

هو ومغنية سمعها

ير في المجلس غير عبد الله، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال معاوية: مره يرجع إلى مجلسه. ثم قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع إلى مجلسه ... حتى لم يبق إلا مجلس رجل، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان، يا أمير المؤمنين! قال له معاوية: فإنّ أذني عليلة، فمره فليرجع إلى موضعه. وكان موضع بديح المغني، فأمره ابن جعفر، فرجع إلى موضعه، فقال له معاوية: داو أذني من علّتها! فتناول العود ثم غنى: أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم ... بحومانة الدرّاج فالمتثلم «1» فحرّك عبد الله بن جعفر رأسه، فقال معاوية: لم حرّكت رأسك يا بن جعفر؟ قال: أريحيّة أجدها يا أمير المؤمنين، لو لاقيت عندها لابليت، ولئن سئلت عندها لأعطيت! وكان معاوية قد خضب «2» ، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا. وكانت عند معاوية جارية أعزّ جواريه عنده، كانت متولية خضابه، فغناه بديح: أليس عندك شكر للتي جعلت ... ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم «3» وجدّدت منك ما قد كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم فطرب معاوية طربا شديدا وجعل يحرك رجله، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك! فقال معاوية: كلّ كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه إذني. فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار، ومائة ثوب من خاص ثيابه، وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب. هو ومغنية سمعها : وعن ابن الكلبي والهيثم بن عدي، قالا: بينا عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة، إذ سمع غناء، فأصغى إليه، فإذا بصوت شجيّ رقيق لقينة تغني:

أخبار ابن أبي عتيق

قل للكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج «1» فنزل عبد الله عن دابته، ودخل على القوم بلا إذن؛ فلما رأوه قاموا إليه إجلالا ورفعوا مجلسه؛ ثم أقبل عليه صاحب المنزل، فقال: يا بن عم رسول الله دخلت منزلنا بلا إذن، وما كنت لهذا بخليق! فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن! قال: ومن أذن لك؟ قال: قينتك هذه؛ سمعتها تقول: قل للكرام ببابنا يلجوا فولجنا، فإن كنا كراما فقد أذن لنا، وإن كنا لئاما خرجنا مذمومين! فضحك صاحب المنزل، وقال صدقت جعلت فداك! ما أنت إلا من أكرم الأكرمين. ثم بعث عبد الله إلى جارية من جواريه، فقال لها: غني فغنت، فطرب القوم، وطرب عبد الله؛ فدعا بثياب وطيب فكسا القوم وصاحب المنزل وطيّبهم ووهب له الجارية، وقال له: هذه أحذق بالغناء من جاريتك. أخبار ابن أبي عتيق هو وعائشة : ذكر رجل من أهل المدينة أنّ ابن أبي عتيق- وهو عبد الله بن محد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق- دخل على عائشة أم المؤمنين- وهي عمته- فوضع رأسه في حجرها- أو على ركبتها- ثم رفع عقيرته يتغني: ومقيّر حجل جررت برجله ... بعد الهدؤ له قوائم أربع فاطرب زمان اللهو من زمن الصّبا ... وانزع إذا قالوا أبي لا ينزع فليأتينّ عليك يوما مرّة ... يبكي عليك مقنّعا لا تسمع قالت عائشة: يا بنيّ، فاتق ذلك اليوم.

هو وكثير

هو وكثير : حدّث أبو عبد الله محمد بن عرفة بواسط. قال: حدثني أحمد بن [محمد بن] يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب راوية كثير قال: قال لي كثير يوما: قم بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئناه، فوجدناه عنده ابن معاذ المغني، فلما رأى كثيرا، قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثيّر؟ [قال: بلى] ، فاندفع يغني بشعره حيث يقول: أبائنة سعدى؟ نعم ستبين! * كما انبتّ من حبل القرين قرين أإن زمّ أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين كأنت لم تسمع ولم تر قبلها ... تفرّق أحباب لهنّ حنين فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثيّر فقال: وللدّين صحبتهن يا بن أبي جمعة؟ ذلك والله أشبه بهن وأدعى للقلوب إليهن، وإنما يوصفن بالبخل والامتناع، وليس بالأمانة والوفاء؛ وابن قيس الرقيات أشعر منك حيث يقول: حبّذا الادلال والغنج ... والتي في طرفها دعج «1» والتي إن حدّثت كذبت ... والتي في ثغرها فلج «2» وخبّروني هل على رجل ... عاشق في قلبه حرج فقال كثيّر: قم بنا من عند هذا! ثم نهض. هو وابن جعفر : وقال عبد الله بن جعفر لابن أبي عتيق، لو غنتك فلانة جاريتي صوتا ما أدركت ذكاتك! قال ابن أبي عتيق: قل لها تفعل وليس عليك إن مت ضمان! فأخذ بيده عبد الله بن جعفر وأدخله منزله، ثم أمر الجارية فخرجت، وقال لها: هات. فغنت:

هو وعبد الملك وابن جعفر

بهواك صيّرني العذول نكالا ... وجد السبيل إلى المقال فقالا ونهيت نومي عن جفوني فانتهى ... وأمرت ليلي أن يطول فطالا قال: فرمى بنفسه ابن أبي عتيق إلى الأرض وقال: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ «1» . هو وعبد الملك وابن جعفر : أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق، وحدّثه عن إقلاله وكثرة عياله. أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأتاه ابن جعفر، فأعلمه بما دار بينه وبين عبد الملك. وبعثه إليه. فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالسا بين جاريتين قائمتين عليه، يميسان «2» كغصني بان بيد كل جارية مروحة تروّح بها عليه، مكتوب بالذهب في المروحة الواحدة: إنني أجلب الرّيا ... ح وبي يلعب الخجل وحجاب إذا الحبيب ... ثنى الرأس للقبل وغياث إذا النّد ... يم تغني أو ارتجل وفي المروحة الأخرى: أنا في الكفّ لطيفه ... مسكني قصر الخليفه أنا لا أصلح إلا ... لظريف أو ظريفه أو وصيف حسن القدّ ... شبيه بالوصيفه قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هوّنتا الدنيا عليّ، وأنستاني سوء حالي؛ قلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم! فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة، فإذا تذكرت امرأتي- وكنت لها محبا- تذكرت النار! قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إليّ بما حكى له ابن جعفر عني، ويخبرني بمالي عنده من جميل

الرأي؛ فأكذبت له كلّ ما حكاه له ابن جعفر عني، ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة؛ فامتلأ عبد الملك سرورا بما ذكرت له، وغما بتكذيب ابن جعفر؛ فلما عاد إليه ابن جعفر، عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حلّيت به نفسي؛ فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين، وإنّه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك، فضلا عن كثيره! ثم خرج عبد الله فلقيني، فقال: ما حملك أن كذّبتني عند أمير المؤمنين؟ قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر، ثم أتفاقر عنده! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي! فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان، قال: فالجاريتان له! قال: فلما صارتا إليّ زرت عبد الله بن جعفر، فوجدته قد امتلأ فرحا، وهو يشرب، وبين يديه عس «1» فيه عسل ممزوج بمسك وكافور، فقال: مهيم! قلت: قد والله قبضت الجاريتين. قال: فاشرب. فتناولت العس فجرعت منه جرعة، فقال لي: زد؛ فأبيت عليه، فقال لجارية له عنده تغنيه: إن هذا قد حاز اليوم غزالتين من عند أمير المؤمنين؛ فخذي في نعتهما؛ فإنهما كما فلّكت «2» صدورهما. فحركت الجارية العود ثم غنت: عهدي بها في الحيّ قد جردت ... صفراء مثل المهرة الضامر قد حجم الثّدي على نحرها ... في مشرق ذي بهجة ناضر لو أسندت ميتا إلى صدرها ... قام ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميّت الناشر قال: فلما سمعت الأبيات طربت، ثم تناولت العس فشربت عللا بعد نهل، ورفعت عقيرتي أغني: سقوني وقالوا لا تغنّ ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنّت

هو وأبو السائب

هو وأبو السائب : قال: وخرج أبو السائب وابن أبي عتيق يوما يتنزهان في بعض نواحي مكة فمال أبو السائب ليبول وعليه طويلته؛ فانصرف دونها، فقال له ابن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك؟ قال: ذكرت قول كثيّر: أرى الإزار على لبنى فأحسده ... إن الإزار على ما ضمّ محسود فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه! فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها، وقال: أتسبقني أنت إلى برّ الشيطان! سليمان ومغن : سمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره، فقال: اطلبوه. فجاءوا به، فقال: أعد عليّ ما تغنيت به. فغنى واحتفل- وكان سليمان أغير الناس- فقال لأصحابه: كأنها والله جرجرة «1» الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت! وأمر به فخصي. الفرزدق والأحوص : وقالوا: إن الفرزدق قدم المدينة، فنزل على الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الذي حمت لحمه الدبر «2» ، فقال [له] الأحوص: ألا أسمعك غناء؟ قال: تغنّ. فغناه: أتنسى إذ تودّعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام بنفسي من تجنّبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النّيام «3» قال الفرزدق: لمن هذا الشعر؟ قال: لجرير. ثم غناه:

الأحوص ومعبد وعقيلة

إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا فقال: لمن الشعر؟ فقال لجرير: ثم غناه: أسري لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئا ألذّ من الخيال الطارق إنّ البليّة من يملّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق فقال: لمن هذا الشعر؟ فقال: لجرير. قال: ما أحوجه مع عفافه إلى خنوثة شعري، وما أحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره! وقال جرير: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب، لشببت تشبيبا تحنّ منه العجوز إلى أيام شبابها، حنين الجمل إلى عطنه! الأحوص ومعبد وعقيلة : وقال الأحوص يوما لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا، فألفيا على بابها معاذ الأنصاري وابن صياد؛ فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فإنها قالت: نحن على الأحوص غضاب، فانصرف الأحوس وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال: ضنّت عقيلة عنك اليوم بالزّاد ... وآثرت حاجة الثّاوي على الغادي «1» قولا لمنزلهما: حيّيت من طلل ... وللعقيق: ألا حيّيت من واد «2» إنّي وهبت نصيبي من مودّتها ... لمعبد ومعاذ وابن صيّاد قرشي ومغن في المسجد : وجعل رجل يترنم في مسجد المدينة، ورجل من قريش يسمع؛ فأخذه بعض القوم فقالوا: يا عدوّ الله؛ أتغني في المسجد الحرام! وذهبوا به إلى صاحب الحكم، واتبعهم.

دارات معبد

القرشي فقال لصاحب الحكم: أصلحك الله، إنما كان يقرأ! فأطلق سبيله، فقال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت في غنائك وأقمت دارات معبد لكنت عليك أشدّ من الأعوان. دارات معبد : والصوت المنسوب إلى دارات معبد، قول أعشى بكر: هريرة ودّعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم «1» ويروى أن معبدا دخل على قتيبة بن مسلم والي خراسان وقد فتح خمس مدائن فجعل يفخر بها عند جلسائه؛ فقال له معبد: والله لقد صغت بعدك خمسة أصوات، إنها لأكثر من الخمس المدائن التي فتحت! والأصوات: الأول: ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل والثاني: هريرة ودّعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم والثالث: ودّع لبابة قبل أن تترحّلا ... واسبل فإنّ سبيله أن تسبلا والرّابع: لعمري لئن شطت بغنمة دارها ... لقد كدت من وشك الفراق أبيح «2» والخامس: تغذّ بي الشّهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها «3» أصل الغناء ومعدنه قال أبو المنذر بن هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد،

صانع العود

والهزج؛ فأما النصب فغناء الركبان والقينات؛ وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم. وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشيا وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة؛ وهذه القرى مجامع أسواق العرب. صانع العود : وقيل إنّ أوّل من صنع العود: لامك بن قابيل بن آدم، وبكى به على ولده. ويقال إنّ صانعه بطلميوس صاحب المويسيقي، وهو كتاب اللحون الثمانية. أول من غنى : وكان أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان، ومن غنائهما. ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعلّ الله يصبحنا غماما «1» وإنما غنّتا بهذا اللحن حين حبس عنهما المطر؛ وكانت العرب تسمى القينة: الكرينة، والعود: الكران؛ والمزهر أيضا هو العود، وهو البربط. وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق: طويس، وهو علّم ابن سريج، والدلال، ونئومة الضحى؛ وكان يكنى أبا عبد النعيم، ومن غنائه وهو أول صوت غنى به في الإسلام: قد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب أخبار المغنين أولهم: طويس، وكان في أيام عثمان رضي الله عنه.

طويس وأبان

طويس وأبان : حدّثنا جعفر بن محمد قال: لما ولى أبان بن عثمان بن عفان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، قعد في بهو له عظيم، واصطف له الناس، فجاء طويس المغني وقد خضب «1» يديه غمسا، واشتمل على دف له، وعليه ملاءة مصقولة؛ فسلّم ثم قال: بأبي وأمي يا أبان، الحمد لله الذي أرانيك أميرا على المدينة؛ إني نذرت لله فيك نذرا إن رأيتك أن أخضب يدي غمسا وأشتمل على دفي وآتي مجلس إمارتك وأغنيك صوتا! قال: فقال: يا طويس، ليس هذا موضع ذاك. قال: بأبي أنت وأمي يا بن الطيّب أبحني. قال: هات يا طويس. فحسر عن ذراعيه وألقى رداءه ومشى بين السماطين «2» وغنى: ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب قال: فصفق أبان بيديه، ثم قام عن مجلسه فاحتضنه وقبّل بين عينيه، وقال: يلومونني على طويس! ثم قال له: من أسنّ، أنا أو أنت؟ قال: وعيشك لقد شهدت زفاف أمّك المباركة إلى أبيك الطيب! انظر إلى حذقه ورقة أدبه، كيف لم يقل: أمك الطيبة إلى أبيك المبارك. هو وبكر وسعيد : وعن الكلبي قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الحج وهو والي المدينة، وخرج الناس معه؛ وكان فيمن خرج: بكر بن إسماعيل الأنصاري، وسعيد بن عبد الرحمن ابن حسان بن ثابت؛ فلما انصرفا راجعين مرّا بطويس المغني، فدعاهما إلى النزول عنده؛ فقال بكر بن إسماعيل: قد البعير إلى منزلك. فقال له سعيد بن عبد الرحمن: أتنزل على هذا المخنّث؟ فقال: إنما هو منزل ساعة ثم نذهب. واحتمل طويس الكلام عن سعيد، فأتيا منزله، فإذا هو قد نظفه ونجّده، فأتاهما بفاكهة الشام

هو والنعمان بن بشير

فوضعها بين أيديهما، فقال له بكر بن إسماعيل، ما بقي منك يا طويس؟ قال: بقي كلّي يا أبا عمرو! قال: أفلا تسمعنا من بقاياك؟ قال: نعم. ثم دخل خيمته؛ فأخرج خريطة، وأخرج منها دبّا، ثم نقر وغنّى: يا خليلي نابني سهدي ... لم تنم عيني ولم تكد كيف تلحوني على رجل ... مؤنس تلتذّه كبدي «1» مثل ضوء البدر صورته ... ليس بالزّمّيلة النكد «2» من بني آل المغيرة لا ... خامل نكس ولا جحد «3» نظرت عيني فلا نظرت ... بعده عين إلى أحد ثم ضرب بالدف الأرض والتفت إلى سعيد بن عبد الرحمن فقال: يا أبا عثمان، أتدري من قائل هذا الشعر؟ قال: لا. قال: قالته خولة ابنة ثابت عمتك، في عمارة ابن الوليد بن المغيرة! ونهض، فقال له بكر: لو لم تقل ما قلته لم يسمعك ما أسمعك. وبلغت القصة عمر بن عبد العزيز، فأرسل إليهما فسألهما، فأخبراه؛ فقال: واحدة بأخرى والبادي أظلم. هو والنعمان بن بشير : الأصمعي قال: حدّثني رجل من أهل المدينة، قال: كان طويس يتغنى في عرس رجل من الأنصار، فدخل النعمان بن بشير العرس، وطويس يتغنى: أجدّ بعمرة عتبانها ... فتهجر أم شأننا شانها وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها «4» فقيل له: اسكت! اسكت لأنّ عمرة أمّ النعمان بن بشير؛ فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا، إنما قال:

هو وابن شريج والدلال ونومة الضحى

وعمرة بن سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها هو وابن شريج والدلال ونومة الضحى : وكان مع طويس بالمدينة، ابن سريج، والدلال، ونومة الضحى؛ ومنه تعلّموا، ثم نجم بعد هؤلاء: سلم الخاسر، وكان في صحبة عبد الله بن عبد الله بن جعفر، وعنه أخذ معبد الغناء، ثم كان ابن أبي السمح الطائي، وكان يتيما في حجر عبد الله بن جعفر، وأخذ الغناء عن معبد، وكان لا يضرب بعود، وإنما يغني مرتجلا، فإذا غنى لمعبد صوتا حققه، ويقول: قال الشاعر فلان، مططه معبد، وخففته أنا. ومن غنائه. نام صحبي ولم أنم ... لخيال بنا ألمّ إنّ في القصر غادة ... كحلت مقلتي بدم معبد والغريض : وكان معبد والغريض بمكة، ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة. ولما قدمت سكينة ابنة الحسين عليهما السلام مكة أتاها الغريض ومعبد فغنياها: عوجي علينا ربّه الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي «1» قالت: والله ما لكما مثل إلّا الجدي الحارّ والبارد، لا ندري أيهما أطيب. الغريض وختان : قال إسحاق بن إبراهيم: شهد الغريض ختانا لبعض أهله، فقال له بعض القوم: غنّ. فقال: هو ابن الزانية إن غنّى! قال له مولاه: فأنت والله ابن الزانية، فغنّ. قال: أكذلك أنا عندك؟ قال: نعم. قال: أنت أعلم. فغن: وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا ... بمكة مكحولا أسيلا مدامعه

ابن طنبورة في مجلس شريف

تشرّب لون الرازقيّ بياضه ... أو الزعفران خالط المسك رادعه فلوت الجنّ عنقه فمات. وقال غير إسحاق: بل غنى: أمن مكتومة الطّلل ... يلوح كأنه خلل لقد نزلوا قريبا من ... ك لو نفعوك إذ نزلوا تحاولني لتقتلني ... وليس بعينها حول ثم نجم ابن طنبورة، وأصله من اليمن، وكان أهزج الناس وأخفهم غناء؛ ومن غنائه: وفتيان على شرف جميعا ... دلفت لهم بباطية هدور «1» كأني لم أصد فيهم ببازي ... ولم أطعم بعرصتهم صقوري «2» فلا تشرب بلا لهو فإنّي ... رأيت الخيل تشرب بالصّفير ابن طنبورة في مجلس شريف : ويقال: إنه حضر مجلسا لرجل من الأشراف، إلى أن دخل عليهم صاحب المدينة، فقيل له: غنّ. فغنى: ويلي من الحييّيه ... ويل ليه! ويل ليه قد عشّش الحيّة في ... بييتيه بييتيه فضحك صاحب المنزل ووصله. ومنهم: حكم الوادي، وكان في صحبة الوليد بن يزيد ويغنى بشعره، ومن غنائه: خفّ من دار جيرتي ... يا بن داود أنسها قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم يقض لبسها «3»

الغزيل

فمتى تخرج العرو ... س لقد طال حبسها خرجت بين نسوة ... أكرم الجنس جنسها الغزيل وكان بالشام أيام الوليد بن يزيد، مغنّ يقال له الغزيّل ويكنى أبا كامل، وفيه يقول الوليد بن يزيد: من مبلغ عنّي أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهابل ومن غنائه: امدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش مغنو الرشيد وزامره وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين، ومنهم ابراهيم الموصلي وابن جامع السهمي، ومخارق؛ وطبقة اخرى دونهم، منهم زلزل، وعمرو الغزال، وعلّوية. وكان له زامر يقال له برصوما. وكان ابراهيم أشدّهم تصرفا في الغناء، وابن جامع احلالهم نغمة. لرشيد وبرصوما فقال الرشيد يوما لبرصوما: ما تقول في ابن جامع؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما أقول في العسل الذي من حيثما ذقته فهو طيب؟ قال: فإبراهيم الموصلي؟ قال: هو بستان فيه جميع الثمار والرياحين. قال: فعمرو الغزال؟ قال: هو حسن الوجه يا امير المؤمنين. ليوسف في المغنين قال إسحاق: قلت ليوسف: من أحسن الناس غناء؟ قال: ابن محرز، قلت:

المغنون في بيت ابراهيم

وكيف ذلك؟ قال: إن شئت أجملت وإن فصلت. قلت: أجمل. قال: كان يغني كلّ إنسان بما يشتهي، كأنه خلق من قلب كل إنسان. وكان إبراهيم اول من وقع الإقاع بالقضيب. المغنون في بيت ابراهيم وحدث يحيى بن محمد قال: بينا نحن على باب الرشيد ننتظر الإذن، اذ خرج الآذن فقال لنا: أمير المؤمنين يقرئكم السلام! قال: فانصرفنا، فقال لنا إبراهيم: تصيرون إلى منزلي! قال: فانصرفنا معه، قال: فدخلت دارا لم أر اشرف منها ولا أوسع، وإذا أنا بأفرشة خز مظهرة بالسنجاب، قال: فقعدنا، ثم دعا بقدح كبير فيه نبيذ، وقال: اسقني بالكبير، إني كبير ... إنما يشرب الصغير صغير ثم قال: اسقني قهوة بكوب كبير ... ودع المأكلة للحمير ثم شرب به، وأمر به فملىء وقال لنا: إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير! ثم أمر بجوار فأحطن بالدار، فما شبهت أصواتهن إلا بأصوات طير في أجمة «1» يتجاوبن. المأمون وإسحاق الموصلي وقال إسحاق بن ابراهيم الموصلي: لما أفضت الخلافة إلى المأمون، أقام عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الغناء، ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى، ثم واظب على السماع، وسأل عني فجرّحني عنده بعض من حسدني فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة! فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئا. وأمسك عن ذكري، وجفاني كلّ من كان يصلني، لما ظهر من سوء رأيه، فأضرّ ذلك بي، حتى جاءني يوما علّوية،

الرشيد وعبثر

فقال لي: أتأذن لى اليوم في ذكرك، فإنّي اليوم عنده؟ فقلت: لا، ولكن غنّه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك من أين هذا؟ فينفتح لك ما تريد، ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية؛ فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به، وهو: يا مشرع الماء قد سدّت مسالكه ... أما إليك سبيل غير مسدود» لحائم حار حتى لا حياة له ... مشرّد عن طريق الماء مطرود فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا؟ قال: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطرحته! قال: إسحاق! قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول، فسرت إليه؛ فلما دخلت قال: ادن. فدنوت؛ فرفع يديه مادّهما؛ فاتكأت عليه؛ فاحتضنني بيديه؛ وأظهر من اكرامي وبرّي ما لو اظهره صديق لي مواس لسرّني. الرشيد وعبثر قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضر مسامرة الرشيد ليلة عبثر المغني، وكان فصيحا متأدبا، وكان مع ذلك يغني الشّعر بصوت حسن، فتذاكروا رقة شعر المدنيين، فأنشد بعض جلسائه أبياتا لابن الدمينة حيث يقول: وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خلّ عينيك تدمعا بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا فأعجب الرشيد برقة الابيات، فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الشعر مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، حتى رق وصفا، فصار أصفى من الهواء، ولكن

زرياب

إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى، وأصلب وأقوى، لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين قال: وذلك لك. فغنى لجرير: إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا راحوا العشيّة روحة مذكورة ... إن حرن حرنا أو هدين هدينا فرموا بهنّ سواهما عرض الفلا ... إن متن متنا أو حيين حيينا قال: صدقت يا عبثرة! وخلع عليه واجازه. زرياب وكان لابراهيم الموصلي عبد أسود يقال له زرياب، وكان مطبوعا على الغناء علمه ابراهيم؛ وكان ربما حضر به مجلس الرشيد يغني فيه، ثم إنه انتقل إلى القيروان، إلى بني الاغلب، فدخل على زيادة الله بن الاغلب، فغناه بأبيات عنترة الفوارس، حيث يقول: فان تك أمّي غرابية ... من أبناء حام بها عبتني فإني لطيف ببيض الظّبا ... وسمر العوالي إذا جئتني ولولا فرارك يوم الوغى ... لقدتك في الحرب أوقدتني فغضب زيادة الله، فأمر بصفع قفاه واخراجه، وقال له: إن وجدت في شيء من بلدي بعد ثلاثة ايام ضربت عنقك! فجاز البحر إلى الاندلس، فكان عند الامير عبد الرحمن بن الحكم. قند وكان في المدينة في الصدر الاول مغنّ يقال له قند، وهو مولى سعد بن أبي وقاص، وكانت عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها تستظرفه، فضربه سعد، فحلفت

هو ومروان بن الحكم

عائشة لا تكلمه حتى يرضى عنه قند، فدخل عليه سعد وهو وجع من ضربه، فاسترضاه، فرضي عنه، وكلمته عائشة. هو ومروان بن الحكم وكان معاوية يعقب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة: يستعمل هذا سنة وهذا سنة؛ وكانت في مروان شدة وغلظة، وفي سعيد لين عريكة وحلم وصفح؛ فلقي مروان بن الحكم قندا المغني، وهو معزول عن المدينة وبيده عكازة؛ فلما رآه قال: قل لقند يشيّع الاظعانا ... ربّما سرّ عيننا وكفانا قال له قند: لا إله إلا الله، ما اسمجك واليا ومعزولا. ابن عائشة والحسن وروي ابن الكلبي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من احسن الناس غناء، وأنبههم فيه، وأضيقهم خلقا، إذا قيل له غنّ، يقول: أو لمثلي يقال هذا؟ عليّ عتق رقبة إن غنيت يومي هذا! فإن غنى وقيل له احسنت، قال: لمثلي يقال أحسنت؟ عليّ عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الايام سال وادي العقيق، فجاء بالعجب، فلم يبق بالمدينة مخبّأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني، وهو معتجر «1» بفضل ردائه؛ فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهم السلام- وكان فيمن خرج إلى العقيق- وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان «2» يمشيان بين يديه أمام دابته؛ فقال لهما: أنتما حرّان لوجه الله إن تفعلا ما آمركما به ولم أقطعكما إربا إربا؛ اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه، فخذا بضبعيه «3» فإن فعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق! قال: فمضيا

ابن المهدي

والحسن يقفوهما، فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه؛ فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة! قال: لبيك وسعديك، وبأبي أنت وأمي! قال: اسمع مني ما أقول، واعلم انك مأسور في أيديهما وهما حرّان [وقد أقسمت] إن لم تغنّ مائة صوت أن يطرحاك في العقيق وهما حرّان، وإن لم يفعلا ذلك لأقطعنّ أيديهما! فصاح ابن عائشة: واويلاه! وأعظم مصيبتاه! قال دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي! وأقبل يغني، فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه، فلما تمت أصواته مائة، كبّر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة، وقالوا للحسن: صلّى الله على جدّك حيا وميتا؛ فما اجتمع لاهل المدينة؛ وقالوا للحسن: صلى الله على جدّك حيا وميتا؛ فما اجتمع لاهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت! فقال الحسن إنما فعلت هذا بك يابن عائشة لاخلاقك الشّكسة! قال له ابن عائشة: والله ما مرت عليّ مصيبة أعظم منها، لقد بلغت اطراف أعضائي. فكان بعد ذلك إذا قيل له: ما أشدّ ما مر عليك؟ قال: يوم العقيق. ابن المهدي وكان ابراهيم بن المهدي- وهو الذي يقال له ابن شكلة- داهيا عاقلا عالما بأيام الناس شاعرا مفلقا، وكان يصوغ فيجيد. مخالفته على المأمون ويروى عن ابراهيم انه قد كان خالف على المأمون ودعا إلى نفسه، فظفر به المأمون فعفا عنه، وقال: لما ظفر به المأمون: ذهبت من الدّنيا كما ذهبت مني ... هوى الدهر بي عنها وأهوى بها عني فإن أبك نفسي أبك نفسا عزيزة ... وإن أحتبسها أحتبسها على ضنّ «1» هو والمأمون فلما فتحت له أبواب الرضا من المأمون، غنى بهما بين يديه؛ فقال له المأمون:

قصة يرويها للمأمون

أحسنت والله يا أمير المؤمنين! فقام ابراهيم رهبة من ذلك، وقال: قتلتني والله يا امير المؤمنين! لا والله إن جلست حتى تسمّيني باسمي. قال: اجلس يا ابراهيم. فكان بعد ذلك آثر الناس عند المأمون: ينادمه ويسامره ويغنّيه. قصة يرويها للمأمون فحدثه يوما فقال: بينا انا مع أبيك يا أمير المؤمنين بطريقة مكة، إذ تخلفت عن الرفقة وانفردت وحدي، وعطشت وجعلت اطلب الرفقة، فأتيت إلى بئر، فإذا حبشي نائم عندها، فقلت له: يا نائم، قم فاسقني! فقال: إن كنت عطشان فانزل واستق لنفسك. فخطر صوت ببالي، فترنمت به وهو: كفّناني إن متّ في درع أروى ... واسقياني من بئر عروة ماء «1» فلما سمع قام نشيطا مسرورا، وقال: والله هذه بئر عروة، وهذا قبره! فعجبت يا امير المؤمنين لما خطر ببالي في ذلك الموضع، ثم قال: أسقيك على أن تغنّيني؟ قلت: نعم، فلم أزل أغنيه وهو يجبذ «2» الحبل، حتى سقاني وأروى دابّتي، ثم قال: أدلك على موضع العسكر على أن تغنّيني؟ قلت: نعم. فلم يزل يعدو بين يدي وأنا اغنيه حتى أشرفنا على العسكر، فانصرف؛ وأتيت الرشيد فحدثته بذلك، فضحك. ثم رجعنا من حجّنا، فإذا هو قد تلقاني وأنا عديل الرشيد، فلما رآني قال: مغنّ والله! قيل له: أتقول هذا لاخي أمير المؤمنين؟ قال اي لعمر الله، لقد غناني! وأهدى إليّ أقطا «3» وتمرا، فأمرت له بصلة وكسوة، وأمر له الرشيد بكسوة أيضا. فضحك المأمون، وقال: غنّي الصوت. فغنيته فافتتن به، فكان لا يقترح عليّ غيره. وكان مخارق وعلّوية قد حرّفا القديم كله وصيّرا فيه نغما فارسية؛ فإذا أتاهما الحجازي بالغناء الاول الثقيل، قالا: يحتاج غناؤك إلى فصاده! واسم علوية: يوسف مولى لبني امية.

القيني وبعض المغنين على باب يزيد

وكان زلزل أضرب الناس للوتر، لم يكن قبله ولا بعده مثله، ولم يكن يغني، وإنما كان يضرب على ابراهيم وابن جامع وبرصوما. ومن غنائه في المأمون: ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مميّزة بين الضلالة والرّشد رأى الله عبد الله خير عباده ... فملّكه، والله أعلم بالعبد القيني وبعض المغنين على باب يزيد حدث سعيد بن محمد العجلي عن الاصمعي قال: كان أبو الطمحان القيني، وهو حنظلة بن الشرقي شاعرا مجيدا، وكان مع ذلك فاسقا، وكان قد انتجع يزيد بن عبد الملك، فطلب الإذن عليه أياما فلم يصل، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من شعري تغني بهما أمير المؤمنين، فإن سألك من قائلهما فأخبره أني بالباب، وما رزقني الله منه فهو بيني وبينك! قال: هات. فأعطاه هذين البيتين: يكاد الغمام الغرّ يرعد إن رأى ... محيّا ابن مروان وينهل بارقه يظلّ فتيت المسك في رونق الضّحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه «1» قال: فغني بهما في وقت أريحيّته، فطرب لهما طربا شديدا، وقال: لله در قائلهما! من هو؟ قال: ابو الطمحان القيني، وهو بالباب يا أمير المؤمنين. قال: وما قصة الدير؟ قال: قيل لابي الطمحان: ما أيسر ذنوبك؟ قال ليلة الدير! قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت ذات ليلة بدير نصرانية، فأكلت عندها طفيشلا «2» بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت؛ فضحك يزيد وأمر له بألفي درهم، وقال: لا يدخل علينا! فأخذها أبو الطمحان وانسلّ بها، وخيّب المغنّي.

المسدود وزنين ودبيس

المسدود وزنين ودبيس أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال: خرجت يوما إلى المسجد الجامع ومعي قرطاس لا كتب فيه بعض ما استفيده من العلماء، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل فإذا ببابه المسدود، وكان من احذق الناس بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت إلى المسجد الجامع، لعلي أستفيد فيه حكمة أكتبها. فقال: أدخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: اعلم الامير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان يحملوني حملا؛ فدخلت إلى دار لا والله ما رأيت احسن منها بناء، ولا اظرف فرشا، ولا صباحة وجوه؛ فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى، فلما أبصرني قال لي: ما يعيش من يحتشم! اجلس، فجلست، فقال: ما هذا القرطاس بيدك؟ قلت: يا سيدي حملته لاستفيد فيه شيئا، وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس. فمكثنا حينا، ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا احسن، فأكلنا؛ وحانت مني التفاتة، فإذا أنا بزنين ودبيس؛ وهما من أحذق الناس بالغناء، قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كلّ شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب؛ وقامت جارية تسقينا شرابا ما رأيت أحسن منه، في كل كأس لا أقدر على وصفها؛ فقلت: أعزك الله، ما أشبه بقول ابراهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر: حمراء صافية في جوف صافية ... يسعى بها نحونا خود من الحور «1» حسناء تحمل حسناوين في يدها ... صاف من الرّاح في صافي القوارير «2» وقد جلس المسدود وزنين ودبيس، ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء؛ فابتدأ المسدود فغنّى: لما استقلّ بأرداف تجاذبه ... واخضرّ فوق حجاب الدرّ شاربه «3»

وتمّ في الحسن والتامت محاسنه ... ومازجت بدعا فيها غرائبه وأشرق الورد في نسرين وجنته ... واهتزّ أعلاه وارتجّت حقائبه «1» كلمته بجفون غير ناطقه ... فكان من ردّه ما قال حاجبه ثم سكت، فغنى زنين: الحبّ حلو أمرّته عواقبه ... وصاحب الحبّ صبّ القلب ذائبه «2» أستودع الله من بالطّرف ودّعني ... يوم الفراق ودمع العين ساكبه ثم انصرفت وداعي الشوق يهتف بي ... ارفق بقلبك قد عزّت مطالبه وقال: وعاتبته دهرا فلما رأيته ... إذا ازداد ذلا جانبي عز جانبه عقدت له في الصدر منّي مودّة ... وخلّيت عنه مبهما لا أعاتبه ثم سكت، فغنى دبيس: بدر من الإنس حفّته كواكبه ... قد لاح عارضه واخضرّ شاربه إن يوعد الوعد يوما فهو مخلفه ... أو ينطق القول يوما فهو كاذبه عاطيته كدم الاوداج صافية ... فقام يشدو وقد مالت جوانبه «3» قال أبو عكرمة: فعجبت أنهم غنّوا بلحن واحد وقافية واحدة. قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة؟ فقلت: يا سيدي المنى دون هذا. ثم إن القوم غنّوا على هذا إلى انقضاء المجلس: إذا ابتدأ المسدود تبعه الرجلان بمثل ما غنى؛ فكان مما غنى المسدود: يا دير حنّة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصّاحي «4»

يعتاده كل محفيّ مفارقه ... من الدّهان عليه سحق أمساح ما يدلفون إلى ماء بآنية ... إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح ثم سكت فغنى زنين: دع البساتين من آس وتفّاح ... واعدل هديت إلى ذات الأكيراح واعدل إلى فتية ذابت لحومهم ... من العبادة إلّا نضو أشياح وخمرة عتّقت في دنّها حقبا ... كأنها دمعة في جفن سيّاح «1» ثم سكت فغنى دبيس: لا تحفلنّ بقول اللائم اللّاحي ... واشرب على الورد من مشمولة الراح كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... أغناك لألاؤها عن كلّ مصباح ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه ... والليل ملتحف في ثوب سيّاح فقام يشدو وقد مالت سوالفه ... يا دير حنّة من ذات الأكيراح ثم ابتدأ المسدود فغنى: باحورار العين والدّعج ... واحمرار الخدّ في الضّرج «2» وبتفّاح الخدود وما ... ضمّ من مسك ومن أرج كن رقيق القلب إنك من ... قتل من يهواك في حرج ثم سكت وغنى زنين: كسرويّ التّيه معتدل ... هاشميّ الدّلّ والغنج وله صدغان قد عطفا ... ببياض الخدّ كالسّبح «3» وإذا ما افتر مبتسما ... أطلق الاسرى من المهج ما لما بي من من فرج ... لا ابتلاني الله بالفرج

ثم سكت وغنى دبيس: تعمل الأجفان بالدّعج ... عمل الصهباء بالمهج بأبي ظبي كلفت به ... واضح الخدّين والفلج مرّ بي في زيّ ذي خنث ... بين ذات الضّال من أمج «1» قلت قلبي قد فتكت به ... قال ما في الدّين من حرج ثم سكت وغنى المسدود: ما يبالي اليوم ما صنعا ... من بقلبي يبدع البدعا كنت ذا نسك وذا ورع ... فتركت النّسك والورعا كم زجرت القلب عنك فلم ... يضغ لي بوما ولا نزعا لا تدعني للهوى غرضا ... إنّ ورد الموت قد شرعا ثم سكت وغنى دبيس: اسقني كأسا مصرّدة ... إنّ الليل قد طلعا «2» قد شربت الحبّ شرب فتى ... لم يدع في كأسه جرعا ثم ابتدأ أيضا دبيس فغنى: يقولون في البستان للعين لذة ... وفي الخمر والماء الذي غير آسن «3» إذا شئت أن تلقي المحاسن كلّها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن فغضب المسدود لما قطع عليه دبيس، وقال: غن على غير هذه القافية واللحن، ثم نرجع إلى حالنا الاولى: فقال ابو عكرمة: قد أصبت. فابتدأ المسدود فغنى: أدعوك من قلبي إذا لم أرك ... يا غاية الطرف إذا أبصرك قضى لك الله فسبحان من ... أحلك القلب ومن قدّرك لست بناسيك على حالة ... يا ليت ما يذكرني ذكّرك

صيّرني الله على ما أرى ... منك من الهجر ما صبّرك قال: فقال زنين: وأنا فلابد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي فقال: ما ترى؟ فقلت. أحسنت والله. فابتدأ يغني: يا هائم القلب عاص من عذلك ... ما نلت ممن هويته أملك دعاك داعي الهوى بخدعته ... حتى إذا ما أحببته خذلك فاحتل لداء الهوى وسطوته ... إنك إن لم تداوه قتلك ثم ابتدأ المسدود يغني: شققت جيبي عليك شقا ... وما لجيبي أردت شقا أردت قلبي فصادفته ... يداي بالجيب قد توقى مالك رقّي أبيت عتقي ... لولاك ما كنت مسترقا ثم سكت وغنى زنين: قد ذبت شوقا ومتّ عشقا ... يا زفرات المحبّ رفقا ثكلت نفسي وزرت رمسي ... إن كنت للهجر مستحقا ثم سكت وغنى دبيس: ظمئت شوقا وبحر عشقي ... يفيض عذبا ولست أسقي أنا الذي صرت من غرامي ... على فراش السّقام ملقى فمن زفير ومن شهيق ... ومن دموع تجود سبقا ثم ابتدأ المسدود فغنى: ماذا على نجل العيون لو أنهم ... أوموا إليك فسلموا أو عرّجوا «1» أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا ... أنّ المحبّ إلى الاحبّة يدلج

ثم سكت وغنى دبيس: هيّا فقد بدأ الصّباح الأبلج ... والشمس والبدر في خدّيك والضّرج «1» الدر ثغرك لولا ان ذا برد ... والحبر صدغك لولا ان ذا سبج انضجت قلبي ولو أن الورى لقيت ... قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا «2» ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى: يا صاحب المقل المراض ... انظر إليّ بعين راض إن تجفني متعمّدا ... لتذيقني جرع الحياض «3» فلطالما امكنتني ... منك المراشف عن تراض «4» ثم سكت وغنى زنين: هائم مدنف من الإعراض ... لا سبيل له إلى الإغماض موثق النوم مطلق الدمع ما يعر ... ف ملجا من الحتوف القواضي ما يرى جسمه سوى لحظات ... أمرضته من العيون المراض كن ساخطا واظهر بأنّك راض ... لا تبدين تكرّه الإعراض وانظر إليّ بمقلة غضبانة ... إن كنت لم تنظر بمقلة راض وارحم جفونا ما تجفّ من البكا ... في ليلة مسلوبة الإغماض واحكم فديتك بين جسمي والهوى ... فالحكم منك على الجوارح ماض ثم ابتدأ المسدود فغنى: يا ذا الذي حال عن العهد ... ومن يراني منه بالصدّ «5» بسمرة الخال وما قد حوى ... من حمرة في سالف الخد

إلا تعطفت على عاشق ... منفرد بالبثّ والوجد «1» ثم سكت وغنى زنين: أظلّ بكتمان الهوى وكأنما ... ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد وعيب عليّ الشّوق والوجد والبكا ... ولا أنا بالشكوى أنفّس من جهدي ثم سكت وغنى دبيس: تهزّأت بي لما خلوت من الوجد ... ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي وعيب عليّ الشوق والوجد والبكا ... وأنت الذي أجريت دمعي على خدّي صددت بلا جرم إليك أتيته ... أكان عجيبا لو صددت عن الصدّ «2» ألا إنّني عبد لطرفك خاضع ... وطرفك مولى لا يرق على عبد ثم غنى المسدود: أقمت ببلدة ورحلت عنها ... كلانا عند صاحبه غريب أقلّ الناس في الدنيا نصيبا ... محبّ قد نأى عنه الحبيب «3» ثم سكت وغنى زنين: ويقنعني ممن أحبّ كتابه ... ويمنعنيه، إنه لبخيل كفى حزنا أن لا أطيق وداعكم ... وقد حان منّي يا ظلوم رحيلي ثم سكت وغنى دبيس: يا واحد الحسن الذي لحظاته ... تدعو النّفوس إلى الهوى فتجيب من وجهه القمر المنير وحسنه ... غصن نضير مشرق وكثيب» ألناظريك على العيون رقيبة ... أم هل لطرفك في القلوب نصيب ثم ابتدأ المسدود فغنى:

من سمع صوتا فوافقه معناه فاستخفه الطرب

قلق لم يزل وصبر يزول ... ورضا لم يطل وسخط يطول لم تسل دمعتي عليّ من الرّحمة حتى رأيت نفسي تسيل جال في جسمي السّقام فجسمي ... مدنف ليس فيه روح تجول «1» ينقضي للقتيل حول فينسى ... وأنا فيك كلّ يوم قتيل ثم سكت وغنى زنين: ليس إلى تركك من حيلة ... ولا إلى الصبر لقلبي سبيل فكيفما شئت فكن سيدي ... فإنّ وجدي بك وجد طويل إن كنت أزمعت على هجرنا ... فحسبنا الله ونعم الوكيل قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود فقال له غنّ صوتا. فغنى: يا لجّة الدمع هل للدّمع مرجوع ... أم الكرى من جفون العين ممنوع «2» ما حيلتي وفؤادي هائم أبدا ... بعقرب الصّدغ من مولاى ملسوع لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من حرّق الهجران مصدوع ما أرّق العين إلا حبّ مبتدع ... ثوب الجمال على خدّيه مخلوع قال أبو عكرمة: فو الله الذي لا إله إلا هو، لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي، فما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا، ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا. من سمع صوتا فوافقه معناه فاستخفه الطرب حكي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: دخلت على هارون الرشيد فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهنّ على الرجال، غنيته بأبيات التي يقول فيها:

الموصلي والأمين

ملك الثّلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكلّ مكان مالي تطاوعني البريّة كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني ما ذاك إلا أنّ سلطان الهوى ... وبه قوين أعزّ من سلطاني فارتاح وطرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم. الموصلي والأمين : وغنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانيء فيه: رشأ لولا ملاحته ... خلت الدّنيا من الفتن «1» كلّ يوم يسترقّ له ... حسنه عبدا بلا ثمن يا أمين الله عش أبدا ... دم على الأيام والزمن أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن سنّ للناس القرى فقروا ... فكأنّ البخل لم يكن قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكبّ على إبراهيم يقبّل رأسه؛ فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتنا من البساط؛ فأمر له بثلاثة آلاف درهم؛ فقال إبراهيم: يا سيدي، قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟ «2» . جرير والشعراء : الرياشي عن الأصمعي؛ قال: قدم جرير المدينة، فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب فيهم، فسلموا عليه وحادثوه ساعة وخرجوا، وبقي أشعب. فقال له جرير: أراك قبيحا، وأراك لئيم الحسب؛ ففيم قعودك وقد خرج الناس؟ فقال له: أصلحك الله، إنّه لم يدخل عليك اليوم أحد أنفع لك مني! قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني آخذ

المسور وامرأ

رقيق شعرك فأزيّنه بحسن صوتي. فقال له جرير: فقل. فاندفع يغنيه: يا أخت ناجية السّلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذّل «1» لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل قال: فاستخف جرير الطرب لغنائه بشعره، حتى زحف إليه واعتنقه وقبّل بين عينيه، وسأله عن حوائجه فقضاها له. المسور وامرأ : الزبير بن بكار قال: كان المسور بن مخرمة ذا مال كثير، فأسرع فيه على إخوانه، فذهب فسأل امرأته- وكانت موسرة- فمنعته وبخلت عليه؛ فخرج يريد بعض خلفاء بني أمية منتجعا، فلما كان ببعض الطريق نزل ماء يقال له بلا كث، فقال له غلامه: كيف يقال لهذا الماء؟ قال: يقال له بلا كث، فقال [مغنّيا] : بينما نحن من بلا كث بالقا ... ع سراعا والعيس تهوي هويّا خطرت خطرة على القلب من ذكر ... راك وهنا فما استطعت مضيّا قلت لبّيك إذ دعاني لك الشّو ... ق، وللحاديين كرّا المطيّا فقال: هن بدن «2» إن لم تكرها رواجع. قال له: قد أشرفن على أمير المؤمنين قال: هن بدن إن لم تكرها رواجع! فانصرف، ودخل المصلى ليلا، فوجد رجال قريش حلقا يتحدثون، فقالوا له: زاد خير! فقال: زاد خير. حتى انتهى إلى داره، فقالت له امرأته: زاد خير! فأنشدها الأبيات، قالت: كل ما أملك في سبيل الله، إن لم أشاطرك مالي! فشاطرته مالها. عمر الوادي : وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد

خالد صامة

المدينة، فجعلت أسير في صمد «1» من الأرض، فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله فقلت: والله لأتوصّلنّ إليه. فإذا هو عبد أسود، فقلت له: أعد ما سمعت. فقال: والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلت، ولكن أجعله قراك؛ فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط وربما غنيته وأنا عطشان فأروى! ثم ابتدأ فغنى: وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو يعيدها «2» قال عمر: فحفظته منه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فإذا هو كما ذكره. خالد صامة : وتحدث الزبيريون عن خالد صامة بأنه كان من أحسن الناس ضربا بعود. قال: قدمت على الوليد بن يزيد في مجلس ناهيك به مجلسا، فألفيته على سريره، وبين يديه معبد، ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل غزيّل الدمشقي وكانوا يغنّون، حتى بلغت النوبة إليّ، فغنيته: سرى همّي وهمّ المرء يسري ... وغاب النّجم إلا قيد فتر «3» لهمّ ما أزال له قرينا ... كأنّ القلب أودع حرّ جمر على بكر أخي، فارقت بكرا ... وأيّ العيش يصلح بعد بكر فقال: أعد يا صام. ففعلت، فقال لي: من يقول هذا الشعر؟ قلت: يقوله عروة ابن أذينة يرثي أخاه بكرا. قال الوليد: وأي عيش يصلح بعد بكر! والله لقد حجّر واسعا، هذا والله العيش الذي نحن فيه، يصلح على رغم أنفه.

سكينة

سكينة : وقد قيل: إن سكينة بنت الحسين غنيت بهذا الشعر، فقالت: ومن بكر هذا! هو ذاك الأشتر الذي كان يأتينا؟ لقد طاب كلّ شيء بعده حتى الخبز والزيت! الرشيد وإسحاق الموصلي : وعن عبد الصمد بن المعذّل قال: سمعت إسحاق الموصلي يتحدث، قال: حججت مع الرشيد، فلما نزلت المدينة آخيت رجلا كانت له مروءة ومعرفة وأدب، وكان يغنّي، فإنّي ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن عليّ، فظننت أمرا قد حدث ففزع فيه إليّ، فأسرعت نحو الباب فقلت: ما جاء بك؟ قال: دعاني صديق إلى طعام عتيد، ومجلس شراب قد التقى طرفاه، وشواء رشراش «1» ، وحديث ممتع، وغناء مشبع؛ فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت، فأخذت مني حميا الكأس مأخذها، ثم غنيت بقول نصيب: بزينب ألمم قبل أن يرحل الرّكب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب فكدت أطير طربا، ثم وجدت في الطرب تنغيصا إذا لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته؛ ففزعت «2» إليك لأصفت لك هذه الحال ثم أرجع إلى صاحبي! وضرب بغلته مولّيا فقلت: قف أكلمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة. معاوية وزيد وسائب خاثر : وحدث أن معاوية بن أبي سفيان استمع على يزيد ذات ليلة، فسمع عنده غناء أعجبه؛ فلما أصبح قال له: من كان ملهيك البارحة؟ قال: سائل خاثر. قال: فأكثر له من العطاء.

عثمان بن حيان وابن أبي عتيق في تحريم الغناء

عثمان بن حيان وابن أبي عتيق في تحريم الغناء : وكان ابن أبي عتيق من نبلاء قريش وظرفائهم؛ فمن ظريف أخباره: أن عثمان بن حيان المرّي لما دخل المدينة واليا عليها، اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملا أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء. ففعل، وأجّلهم ثلاثا؛ فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، وكان غائبا، فحط رحله بباب سلّامة الزرقاء، وقال: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي! قالت: أو ما تدري ما حدث بعدك؟ وأخبرته الخبر؛ فقال: أقيمي إلى السّحر حتى ألقاه. فلقيه، فأخبره أنه إنما أقدمه حبّ التسليم عليه، وقال له: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والرثاء. فقال: إن أهلك أشاروا عليّ بذلك. فقال: إنهم وفّقوا ووفّقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين محاورة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم! فقال عثمان: إذا أدعها. فقال: إذا لا تدعك الناس؛ ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كان يجوز تركها تركتها. قال: فادع بها. فأمر ابن أبي عتيق فتنقّبت وأخذت سبحة «1» في يدها، وصارت إليه، فحدّثته عن مآثر آبائه، ففكه بها فقال ابن أبي عتيق: أريد أن أسمع الأمير قراءتها. ففعلت؛ فحركه حداؤها. ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها! فقال له: قل لها فلتغنّ. فغنت: شددّت خصاص البيت لما دخلته ... بكلّ بنان واضح وجبين «2» فنزل عثمان عن سريرة ثم جلس بين يديها، وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة! فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس: أذن لسلّامة ومنع غيرها! فقال له: قد أذنت لهم جميعا! وذكر لابن أبي عتيق أن المخنثين خصوا، وأنه خصي فلان فيهم- لواحد منهم

سليمان ومغن في عسكره

كان يعرفه-، فقال ابن أبي عتيق: إنا لله! لئن خصي لقد كان يحسن: لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دراسا خلقا ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة، فلما كبّر سلّم، ثم قال لأصحابه: أما إنه كان يحسن خفيفه، فأما ثقيله فلا. ثم كبّر. سليمان ومغن في عسكره : وكان سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة، فسمع مغنيا في عسكره، فقال: اطلبوه! فجاءوا به، فقال له: أعد ما تغنّيت به. فأعاد واحتفل، فقال لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه! ثم أمر به فخصي. ابن هشام ورجل صالح : وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: روي لنا أن رجلا من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام، فانشده إبراهيم قول الشاعر: ... إذا أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجرّ إليكم سادرا رسني «1» فقام الرجل فرمى بشقّ ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع إلى موضعه فجلس؛ فقال له إبراهيم: ما بالك؟ قال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته، فآليت أن لا أسمعه إلا جررت ردائي كما جر هذا الرجل رسنه! شاعر ومغن : ووقف رجل من الشعراء على رجل من المغنّين فأنشده: إني أتيت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئا لديك سوى ... «حيّ الحمول بجانب الرّمل»

دهمان المغني

قال له: انزل! دهمان المغني : مرّ دهمان المغني بقوم وعليه رداء يثربي، فقالوا له: بكم أخذت الرداء؟ فقال: ب ألا إنّ جيراننا ودّعوا أشعب وهاشمى : وحدّثني أبو العباس أحمد بن بكر ببغداد قال: حدثني إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: كان يقال قديما: إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة، فغنّه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج. وكذا فعل أشعب برجل من أهل مكة من بني هاشم، وكان أشعب قد انتجع أهل مكة من المدينة. قال أشعب: فلما دخلت عليه غنيته بغناء أهل المدينة وأهل العقيق، فلم ينجع ذلك فيه ولم يحرّك من طربه ولا أريحيّته؛ فلما عيل صبري غنيته بغناء ابن سريج المكي وقول ابن أبي ربيعة القرشي: نظرت إليها بالمحصّب من منى ... ولي نظر لولا التحرّج عارم فقلت أشمس أم مصابيح راهب ... بدت لك تحت السجف أم أنت حالم «1» بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم قال: فحرّكت والله من طربه، وكان الذي أردت؛ ثم غنيته لابن أبي ربيعة القرشي أيضا. ولولا أن يقول لنا قريش ... مقال الناصح الأدنى الشفيق لقلت إذ التقينا قبليني ... وإن كنا بقارعة الطريق فقال: أحسن والله! هكذا يطيب التلقّي، لا بالخوف والتوقّي! قال: فلما رأيته قد

مديني وجارية تغني

طرب للصوتين ولم يندّ لي بشيء، قلت: هو الثالث وإلا فعليه السلام. قال: فغنيته الثالث من غناء ابن سريج قول عمر بن أبي ربيعة، ويقال إنها لجميل: ما زلت أمتحن الدّساكر دونها ... حتى ولجت على خفيّ المولج «1» فوضعت كفّي عند مقطع خصرها ... فتنفّست نفسا ولم تتلهّج قالت: وحقّ أخي وحرمة والدي ... لأنبّهنّ الحيّ إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسّمت ... فعلمت أن يمينها لم تحرج فرشفت فاها آخذا بقرونها ... رشف النزيف ببرد ماء الحشرج فصاح الهاشمي: أوّه! أحسن والله وأحسنت! وأمر لي بألف درهم وثلاثين حلة وخلعة كانت عليه. وغنى ابن سريج رجلا من بني هاشم بقول جرير: بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهنّ صديق وما ذقت طعم العيش منذ نأيتم ... وما ساغ لي بين الجوانح ريق قال: فخطف من ثوبه ذراعا، وقال: هذا والله العقيان في نحور القيان! مديني وجارية تغني : قال: وصحب شيخ من أهل المدينة شابّا في سفينة ومعهم جارية تغني، فقال له: إن معنا جارية تغني، ونحن نجلّك؛ فإذا أذنت لنا فعلنا. قال: فأنا أعتزل وافعلوا ما شئتم. فتنحّى وغنت الجارية: حتى إذا الصّبح بدا ضوؤه ... وغابت الجوزاء والمرزم «2» أقبلت والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقم «3» فرمى الناسك بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه ويقول: أنا الأرقم! فأخرجوه

قاضي مكة ومغنية

وقالوا: ما صنعت؟ فقال: والله إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون! قاضي مكة ومغنية : وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبة لرجل من الأشراف، فلما انقضى الطعام اندفعت جارية تغني: إلى خالد حتى أنخنا بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمّل «1» فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه، ثم جثى على ركبتيه وقال: اهدوني فإني بدنة. هاشمي ومغن : كان رجل من الهاشميين يحب السماع؛ فبعث إلى رجل من المغنين فاقترح عليه صوتا كان كلفا به، فغناه إياه، فطرب الهاشمي وشق ثوبا كان عليه، ثم قال للمغني: افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي! قال: أصلحك الله، إنك تجد خلفا من ثوبك، وإني لا أجد خلفا من ثوبي قال: أنا أخلف لك. قال: فأفعل وتفعل؟ قال: أخرجتنا من حد الطرب إلى حد السّوم. من قرع قلبه صوت فمات منه أو أشرف يزيد ومغنية : حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة، قال: حدثني أبي، قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأفضلهم أدبا، قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية؛ فوقعت عند يزيد بن عبد الملك، فأخذت بمجامع قلبه، فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك قرابة أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفا؟ قالت: يا أمير المؤمنين، أما قرابة فلا،

ولكنّ بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي، كنت أحبّ أن ينالهم من خير ما صرت إليه! فكتب إلى عامله بالمدينة في أشخاصهم، وأن يعطي كل رجل منهم عشرة آلاف درهم، وأن يعجل بسراحهم إليه؛ ففعل عامل المدينة ذلك؛ فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم، فأذن لهم وأكرمهم وسألهم [عن] حوائجهم؛ فأما الاثنان فذكرا حوائجهما فقضاها لهما وأما الثالث فسأله عن حاجته؛ فقال: يا أمير المؤمنين، مالي حاجة! قال: ويحك! ولم؟ ألست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها! قال: ويحك! فسلني، فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم وكرامة، قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنّيني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال، فافعل، قال: فتغير وجه يزيد. وقام من مجلسه، فدخل على الجارية فأعلمها؛ قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين؟ أفعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر، وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت؛ فقعد يزيد على أحدها، وقعدت الجارية على الآخر، وقعد الفتى على الثالث؛ ثم دعا بطعام فتغدّوا جميعا، ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت؛ ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني: لا أستطيع سلّوا عن مودّتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا فامرها فغنّت، فشرب يزيد وشرب الفتى، ثم شربت الجارية؛ ثم أمر بالأرطال فملئت، ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: تأمرها تغني: تخيّرت من نعمان عود أراكة ... لهند، ولكن من يبلّغه هندا؟ ألا عرّجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا قال: فغنت بهما، وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية؛ ثم أمر بالأرطال فملئت؛ ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين مرها تغني: منّا الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرّق بيننا الدهر

عبد الملك وابن جعفر في الغناء

والله ما أسلوكم أبدا ... ما لاح نجم أو بدا فجر قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خرّ الفتى مغشيا عليه؛ فقال يزيد للجارية: انظري ما حاله! فقامت إليه فحرّكته، فإذا هو ميت! فقال لها: ابكيه! قالت لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حيّ! قال لها: ابكية، فو الله لو عاش ما انصرف إلا بك! فبكته، وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه. عبد الملك وابن جعفر في الغناء : قال: وحدّث أبو يوسف بالمدينة قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجذامي عن أبيه، أنّ عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان، فأقام عنده حينا؛ فبينا هو ذات ليلة في سمره، إذ تذاكروا الغناء؛ فقال عبد الملك: قبح الله الغناء! ما أوضعه للمروءة، وأجرحه للعرض، وأهدمه للشّرف، وأذهبه للبهاء! وعبد الله ساكت، وإنما عرّض بعبد الله، وأعانه عليه من حضر من أصحابه- فقال عبد الملك: مالك أبا جعفر لا تتكلم؟ قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق؟ قال: أما إني نبّئت أنك تغني! قال: أجل يا أمير المؤمنين، قال: أفّ لك وتفّ! قال: لا أفّ ولا تفّ، فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك، قال: وما هو؟ قال: يأتيك الأعرابي الجافي، يقول الزّور؛ ويقذف المحصنات؛ فتأمر له بألف دينار، وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي، فأختار لها من الشعر أجوده، ومن الكلام أحسنه، ثم تردّده عليّ بصوت حسن؛ فهل بذلك بأس؟ قال: لا بأس، ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع؟ قال: نعم، اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة، فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما، فعلقت منهما حتى غلبت عليهما؛ فوصفت ليزيد بن معاوية، فكتب إليّ: إمّا أهديتها إليّ، وإمّا بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة! فبذل لي فيها ما كنت أحسب أنّ نفسه لا تسخو به، فأبيت عليه. فبينما هي عندي على تلك الحال، إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أنّ فتى من

طريفة وأيوب المغني

أهل المدينة سمع غناءها فعلقها وشغف بها، وأنه يجيء في كل ليلة مستترا يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف؛ فراعيت مجيئه، فإذا الفتى قد أقبل مقنّع الرأس، فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا، فلم أدع بها تلك الليلة، وجعلت أتأمّل موضعه، فبات مكانه الذي هو فيه؛ فلما انشق الفجر اطلعت عليه، فإذا هو في موضعه، فدعوت قيّمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزيّني هذه الجارية وأعجلي بها إليّ. فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحرّكته، فانتبه مذعورا؛ فقلت له: لا بأس عليك! خذ بيد هذه الجارية فهي لك، وإن هممت ببيعها فردّها إليّ! فدهش وأخذه الخبل ولبط به «1» ؛ فدنوت من أذنه! فقلت: ويحك! قد أظفرك ببغيتك، فقم فانطلق بها إلى منزلك! فإذا الفتى قد فارق الدنيا، فلم أر شيئا قط أعجب منه! قال عبد الملك: وأنا والله ما سمعت شيئا قط أعجب من هذا ولولا أنك عاينته ما صدّقت به؛ فما صنعت بالجارية؟ قال: تركتها عندي، وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكانا من قلبي، وكرهت أن أوجّه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد عليّ، فما زالت تلك حالها حتى ماتت! طريفة وأيوب المغني : ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال: إني قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئا لديك سوى ... «حيّ الحمول بجانب الرّمل» فقال له: انزل، فلك ما طلبت، فنزل، فأخرج عوده ثم غناه بقول امريء القيس: حيّ الحمول بجانب الرمل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي فلبط «2» بطريفة، فإذا هو في الأرض منجدل، فلما أفاق قام يمسح التراب عن

أخبار عنان وغيرها من القيان

وجهه؛ فقيل له: ويحك! ما كانت قصتك؟ قال: ارتفع والله من رجلي شيء حارّ، وهبط من رأسي شيء بارد، فالتقيا وتصادما؛ فوقعت لا أدري ما كانت حالي. أخبار عنان وغيرها من القيان حدّث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثنا ابراهيم بن عمر قال: كان الرشيد قد استعرض عنان جارية الناطفي ليشتريها، وقال لها: أنا والله أحبّك! ثم أمسك عن شرائها؛ فجلس ليلة مع سمّاره، فغناه بعض من حضر من المغنين بأبيات جرير حيث يقول: إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا «1» قال: فطرب الرشيد لها طربا شديدا، وأعجب بالابيات، وقال لجلسائه: هل منكم أحد يجيز هذه الابيات بمثلهنّ، وله هذه البدرة؟ - وبين يديه بدرة من دنانير- قال: فلم يصنعوا شيئا؛ فقال خادم على رأسه: أنا لك بها يا أمير المؤمنين. قال: شأنك. فاحتمل البدرة؛ ثم أتى الناطفيّ فقال له: استأذن لي على عنان. فأذنت له، فدخل وأخبرها الخبر؛ فقالت: ويحك! وما الابيات؟ فأنشدها إياها، فقالت له: اكتب: هيّجت بالقول الذي قد قلته ... داء بقلبي ما يزال كمينا قد أينعت ثمراته في طينها ... وسقين من ماء الهوى فروينا كذب الذين تقوّلوا يا سيدي ... إنّ القلوب إذا هوين هوينا فقالت له: دونك الابيات. فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون، فقال: ويحك! من قالها؟ قال: عنان جارية الناطفي. فقال: خلعت الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي! قال: فبعث إلى مولاها فاشتراها منه بثلاثين ألفا، وباتت بقية تلك الليلة عنده! وقال الاصمعي: ما رأيت الرشيد مبتذّلا قط إلا مرة، كتبت إليه عنان جارية الناطفى رقعة فيها:

الباهلي في امر عنان

كنت في ظلّ نعمة بهواكا ... آمنا لا أخاف جفاكا فسعى بيننا الوشاة فأقرر ... ت عيون الوشاة بي فهناكا ولعمري لغير ذا كان أولى ... بك في الحق يا جعلت فداكا قال: فأخذ الرقعة بيده وعنده ابو جعفر الشطرنجي، فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي فيقول فيه شعرا وله عشرة آلاف درهم؟ فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان، فبدر ابو جعفر: مجلس ينسب السرور إليه ... لمحبّ ريحانه ذكراكا فقال: يا غلام، بدرة! قال الاصمعي: وقلت: لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيّتي عن سواكا قال: أحسنت والله يا أصمعي، لها ولك بهذا البيت عشرون ألفا. قال جرير: كلما دارت الزجاجة والكأ ... س أعارته صبوة فبكاكا فقال: أنا أشعركم حيث أقول: قد تمنيت ان يغشّين ... الله نعاسا لعلّ عيني تراكا قلنا له: صدقت والله يا أمير المؤمنين. الباهلي في امر عنان وقال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إليّ خبر عنان، وأنها ذكرت لهارون وقيل إنها من أشعر الناس، خرجت معترضا لها؛ فما راعني إلا الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي، فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام وشراب ومجالسة عنان؟ فقلت: ما بعد عنان مطلب! ومضينا حتى أتينا منزله، فعقل دابته ثم دخل فقال: هذا بكر شاعر باهلة يريد مجالستك اليوم. فقالت: والله، إني كسلانة! فحمل عليها بالسوط؛ ثم قال

أبو نواس وعنان

لي: ادخل. فدخلت ودمعها يتحدّر كالجمان في خدها، فطمعت بها؛ فقلت: هذي عنان أسبلت دمعها ... كالدرّ إذ ينسل من خيطه ثم قلت: أجيزي. فقالت: فليت من يضربها ظالما ... تجفّ كفّاه على سوطه فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها، فمن سببك أوذينا! قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي، لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل: فأنشدتها: فما زال يشكو الحبّ حتى حسبنه ... تنفّس من أحشائه فتكلما قال: فأطرقت ساعة ثم أنشدت: ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكي دمعا بكيت له دما! قلت لها: فما عندك في اجازة هذا البيت: بديع حسن بديع صدّ ... جعلت خدّي له ملاذا فأطرقت ساعة ثم قالت: فعاتبوه فعنّفوه ... فأوعدوه، فكان ماذا ... ؟ أبو نواس وعنان وجلس أبو نواس إلى عنان، فقالت: كيف علمك بالعروض وتقطيع الشعر يا حسن؟ قال: جيد. قالت تقطع هذا البيت: أكلت الخردل الشا ... ميّ في صفحة خبّاز فلما ذهب يقطّعه ضحكت به وأضحكت، فأمسك عنها وأخذ في ضروب من الاحاديث؛ ثم عاد سائلا لها، فقال: كيف علمك بالعروض؟ قالت: حسن يا حسن فقال: قطعي هذا البيت: حوّلوا عنّا كنيستكم ... يا بني حمّالة الحطب

المأمون وسوسن المغني وجارية

فلما ذهبت تقطّعه ضحك أبو نواس، فقالت: قبحك الله! ما برحت حتى أخذت بثأرك! المأمون وسوسن المغني وجارية حدّث أبو عبد الله بن عبد البر المدني قال: حدثني إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: كان للمأمون جماعة من المغنين، وفيهم مغنّ يسمى سوسنا، عليه وسم جمال قال: فبينما هو عنده يغني إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه فعلقته، فكانت إذا حضر سوسن تسوّي عودها وتغني: ما مررنا بالسّوسن الغضّ إلا ... كان دمعي لمقلتي نديما حبّذا أنت والمسمّى به أنت وإن كنت منه أذكى نسيما فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره؛ فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون، فدعا بها ودعا بالسيف والنّطع «1» ؛ ثم قال: اصدقيني أمرك قالت: يا أمير المؤمنين، ينفعني عندك الصدق؟ قال لها: إن شاء الله! قالت: يا أمير المؤمنين، اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته، فأمسك المأمون عن عقوبتها، وأرسل إلى المغني فوهبها له وقال لا يربنا!. قال أبو الحسن: وكان الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه، ومن سكر من ندمائه ترك ولم يخرج؛ فشرب يوما فسكر ورقد، وانقلب أصحابه، إلا مغنيا أظهر التراقد، وبقيت معه مغنية للواثق؛ فلما خلا المجلس وقع المغني في سحاءة «2» ودفعها إليها: إني رأيتك في المنام كأنني ... مترشّف من ريق فيك البارد وكأنّ كفّك في يدي وكأنما ... بتنا جميعا في فراش واحد ثم انتبهت ومنكباك كلاهما ... في راحتيّ وتحت خدّك ساعدي «3»

يزيد ومسلمة في حبابة

فأجابته: خيرا رأيت وكل ما أبصرته ... ستناله منّي برغم الحاسد وتبيت بين خلاخلي ودمالجي ... وتجول بين مراسلي ومجاسدي «1» فنكون أنعم عاشقين تعاطيا ... ملح الحديث بلا مخافة راصد فلما مدت يدها لترمي إليه بالسحاءة، رفع الواثق رأسه فأخذ السحاءة من يدها، وقال لهما: ما هذه؟ فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل هذا كلام ولا كتاب ولا رسول غير اللحظ، إلا ان العشق قد خامرهما. فأعتقها وزوّجها منه، فلما أشهد له وتم النكاح، أقامها الواثق إلى بيت من بعض البيوت، فوقع بها ثم خرج فقال له: أردت أن تكشّخني «2» فيها وهي خادمتي، فقد كشختك فيها وهي زوجتك!. يزيد ومسلمة في حبابة : قال: ولما كلف يزيد بحبابة واشتغل بها وأضاع الرعية، دخل عليه مسلمة أخوه فقال: يا أمير المؤمنين، تركت الظهور للعامّة، والشهود للجمعة، واحتجبت مع هذه الأمّة! فارعوي قليلا وظهر للناس؛ فأوصت حبابة إلى الاحوص أن يقول أبياتا يهوّن فيها على يزيد ما قال مسلمة؛ فقال وغنّت بها حبابة: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد منع المحزون أن يتجلدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجر- من يابس الصخر جلمدا هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنّان وفنّدا فلما سمعها ضرب بجربّانه «3» الارض وقال: صدقت صدقت؛ على مسلمة لعنة الله! ثم عاد إلى سيرته الاولى.

يزيد بعد موت حبابة

يزيد بعد موت حبابة : وحدث ابن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الهيثم بن أبي بكر قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفا شديدا، فلما توفيت أكب عليها أياما يترشفها ويتشممها؛؛ ثم انتنت، فقام عنها وأمر بجهازها؛ ثم خرج بين يدي نعشها؛ حتى إذا بلغ القبر نزل فيه؛ حتى إذا فرغ من دفنها وانصرف لصق إليه مسلمة اخوه يعزيه ويؤنسه؛ فلما أكثر عليه قال: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد وكلّ خليل زارني فهو قاتل ... من اجلك: هذه هامة اليوم أو غد «1» قال: وطعن في جنازتها، فدفنّاه إلى سبعة عشر يوما. المعتصم وجارية وذكر المعتصم جارية كانت غلبت عليه وهو بمصر، ولم يكن خرج بها معه؛ فدعا مغنيا له فقال له: ويحك! اني ذكرت جارية، فأقلقني الشوق إليها؛ فهات صوتا يشبه ما ذكرت لك. فأطرق مليا ثم غنى: وددت من الشوق المبرّح أنني ... أعار جناحي طائر فأطير فما لنعيم لست فيه بشاشة ... وما لسرور لست فيه سرور وإنّ امرأ في بلدة نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور فقال: واد ما عدوت ما في نفسي! وأمر له بجائزة، ورحل من ساعته، فلما بلغ الفرما قال: غريب في قرى مصر ... يقاسي الهمّ والسّدما «2» لليلك كان بالميدا ... ن اقصر منه بالفرما

أشعب وقينة

وقال المأمون في قينة له: لها في لحظها لحظات حتف ... تميت بها وتحيي من تريد فإن غضبت رأيت الناس قتلي ... وإن ضحكت فأرواح تعود وتسبي العالمين بمقلتيها ... كأنّ العالمين لها عبيد وأنشد البحتري في قينة له: أمازحها فتغضب ثم ترضى ... وفعل جمالها حسن جميل فإن تغضب فأحسن ذات دلّ ... وإن ترضى فليس لها عديل وقال المعتز في قينة له: فأمسيت في ليلين للشّعر والدّجا ... وشمسين من كأس ووجه حبيب وقال هارون الرشيد في قينة له رحمه الله: تبدي صدودا وتخفي تحته مقة ... فالنّفس راضية والطرف غضبان «1» يا من وضعت له خدّي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان وقال ابراهيم الشيباني: القينة لا تخلص محبة لأحد، ولا تؤتى إلا من باب طمع. وقال علي بن الجهم: قلت لقينة: هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدني إليك فإنّ الحبّ أقصاني» فقالت: تأتي من باب الذهب، وأنشدت: اجعل شفيعك منقوشا تقدّمه ... فلم يزل مذنبا من ليس بالدّاني «3» أشعب وقينة وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة فجلس عندها يوما يطارحها الغناء؛ فلما أراد الخروج قال لها: نوّليني خاتمك أذكرك به. قالت: إنه ذهب، وأخاف ان تذهب؛

أبو الحارث وقينة

ولكن هذ خذ العود، لعلك تعود! وناولته عودا من الأرض!. وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إذا نظرها، فطلبت منه أن يسلفها دراهم، فانقطع عنها وتجنب دارها، فعلمت له دواء ولقيته به؛ فقال لها: ما هذا؟ قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك! قال: اشربيه أنت للطمع، فان انقطع طمعك انقطع فزعي. وأنشأ يقول: أنا والله أهواك ... ولكن ليس لي نفقه فإمّا كنت تهويني ... فقد حلّت لي الصّدقه أبو الحارث وقينة وقعد أبو الحارث جمّيز إلى قينة بالمدينة صدر نهاره، فجعلت تحدّثه ولا تذكر الطعام؛ فلما طال ذلك به قال: مالي لا أسمع للطعام ذكرا؟ قالت: سبحان الله! أما تستحي؟ أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال لها: جعلت فداك، لو أن جميلا وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان، لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا!. أبو نواس وقينة وقال الشيباني: كانت بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، فتظهر له أنها لا تحب غيره؛ وكان كلما جاءها وجد عندها فتى يجلس عندها ويتحدث إليها؛ فقال فيها: ومظهرة لخلق الله ودّا ... وتلقى بالتّحيّة والسّلام أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزّحام فيامن ليس يكفيها صديق ... ولا خمسون ألفا كلّ عام أراك بقيّة من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام

ابو نواس وقيان

ابو نواس وقيان وقال الشيباني حضر أبو نواس مجلسا فيه قيان؛ فقلن له: ليتنا بناتك. قال: نعم، ونحن على المجوسية. وقال العتبي: حضرت قينة مجلسا، فتغنت فأجادت، فقام إليها شيخ من القوم فجلس بين يديها، وقال: كل مملوك لي حرّ، وكل امرأة لي طالق، لو كانت الدنيا لي كلها صررا في كمي لقطعتها لك؛ فأما إذا لم يكن فجعل الله كل حسنة لي لك، وكلّ سيئة عليك عليّ. قالت: جزاك الله خيرا، فو الله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا. فقام شيخ آخر وقعد بين يديها وقال لها: كل مملوك لي حر، وكل امرأة لي طالق، إن كان وهب لك شيئا ولا حمل عنك ثقلا؛ لانه ماله حسنة يهبها لك، ولا عليك سيئة يحملها عنك؛ فلأيّ شيء تحمدينه؟. حدّث احمد بن عمر المكي قال: سمعت إسحاق بن ابراهيم الموصلي يقول: كان بالمدينة رجل جعفري، من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان يحب الغناء، وكان بالمدينة قينة يقال لها بصيص، وكان الجعفري يتعشّقها، فقال يوما لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها، فقد والله أيتمت ولدي، وأرملت نسائي، وأخربت ضيعتي. فقاموا معه، حتى إذا جاءوا إلى بابها دقّه، فخرجت إليه، فإذا هي أملح الناس دلّا وشكلا، فقال لها: يا جارية، أتغنّين: وكنت أحبكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام فاستحيت وخجلت وبكت وقالت: يا جارية، هاتي عودي؛ والله ما أحسن هذا ولكن أحسن غيره. فغنت: تحمل اهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحيا والله صاحبنا حتى تصبب عرقا، ثم قال لها: يا سيدتي، أفتحسنين أن تغني: وأخضع للعتبى إذا كنت ظالما ... وإن ظلموا كنت الذي أتفضل

خبر الذلفاء

قالت: والله ما اعرف هذا ولكن غيره. فغنت: فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله ... وأنزلكم منا بأكرم منزل قال: فدفع الباب ودخل، وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه؛ وقال: لعن الله الاهل والولد والضّيعة!. خبر الذلفاء قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الاسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان، وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الاحمر، مفروش بالديباج «1» الأخضر، في وسط بستان ملتف، قد أثمر وأينع؛ واذا بإزاء كل شقّ من البستان ميدان ينبت الربيع قد ازهر وعلى رأسه وصائف. كلّ واحدة منهن احسن من صاحبتها؛ وقد غابت الشمس، فنضرت الخضرة، وأضعفت في حسنها الزهرة، وغنّت الاطيار فتجاوبت، وسفت الرياح على الاشجار فتمايلت؛ [وقد حلي البستان] بأنهار فيه قد شقّقت، ومياه قد تدفقت: فقلت: السلام عليك أيها الامير ورحمة الله وبركاته. وكان مطرقا، فرفع رأسه وقال: أبا زيد! في مثل هذا الحين يصاب احد حيا؟ قلت: أصلح الله الامير، أو قد قامت القيامة بعد!. قال: نعم، على أهل المحبة سرا والمراسلة بينهم خفية. ثم أطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، ما يطيب في يومنا هذا؟. قلت: أعز الله الامير، قهوة صفراء، في زجاجة بيضاء، تناولها مقدودة هيفاء، مضمومة لفّاء [مكحولة] دعجاء، أشربها من كفها، وأمسح فمي بفمها!. فأطرق سليمان مليا لا يحير جوابا، ينحدر من عينه عبرات بلا شهيق؛ فلما رأت

الوصائف ذلك ننحين عنه؛ ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، حللت في يوم فيه انقضاء اجلك ومنتهى مدتك وتصرّم عمرك! والله لاضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك. قلت: نعم أصلح الله الامير؛ كنت جالسا عند باب اخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا انا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد؛ عليها قميص اسكندراني يتبين منه بياض بدنها، وتدوير سرّتها، ونقش تكتها؛ وفي رجليها نعلان حمراوان، وقد أشرق بياض قدمها على حمرة نعليها؛ مضمومة بفرد ذؤابة تضرب الى حقويها وتسيل كالعثاكيل «1» على منكبيها، وطرّة «2» قد أسبلت على مثنى جبينها، وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها، وحاجبان قد قوّسا على محجري عينيها، وعينان مملوءتان سحرا، وأنف كأنه قصبة درّ، وفم كأنه جرح يقطر دما؛ وهي تقول: عباد الله، من لي بدواء من لا يشتكي، وعلاج من لا ينتمي؟ طال الحجاب، وأيضا الجواب؛ فالفؤاد طائر، والقلب عازب، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس؛ رحمة الله على قوم عاشوا تجلّدا، وماتوا تبلّدا؛ ولو كان إلى الصبر حيلة وإلى العزاء سبيل لكان أمرا جميلا!. ثم أطرقت طويلا، ثم رفعت رأسها؛ فقلت: أيتها الجارية، إنسية أنت أم جنيّة؟ سمائية أم أرضية؟ فقد اعجبني ذكاء عقلك؛ وأذهلني حسن منطقك!. فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: اعذر أيها المتكلم الاريب، فما أوحش الساعة بلا مساعد، والمقاساة لصبّ معاند! ثم انصرفت؛ فو الله- أصلح الله الامير- ما أكلت طيبا إلا غصصت به لذكرها، ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها!. قال سليمان: أبا زيد، كاد الجهل أن يستفزني، والصبا ان يعاودني، والحلم أن

يعزب عني؛ لحسن ما رأيت، وشجو ما سمعت؛ تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر: إنما الذّلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «1» شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها، والله إني من لا يموت إلا بحزنها، ولا يدخل القبر إلا بغصّتها، وفي الصبر سلوة، وفي توقّع الموت نهية؛ قم أبا زيد فاكتم المفاوضة؛ يا غلام، ثقّله ببدرة. فأخذتها وانصرفت. قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان، صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط «2» ، فأخرج على دهناء الغوطة، وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة، تحتها أنواع الزهر الغض، من بين أصفر فاقع، وأحمر ساطع، وأبيض ناصع؛ فهي كالثوب الحرمي وحواشي البرد الاتحميّ «3» يثير منها مرّ الرياح نسيما يربي على رائحة العنبر، وفتيت المسك الاذفر، وكان له مغن ونديم وسمير، يقال له سنان، به يأنس، وإليه يسكن، فأمره ان يضرب فسطاطه بالقرب منه، وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزّه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان، في اكمل سرور، وأتم حبور، إلى أن انصرف مع الليل الى فسطاطه، فنزل به جماعة من اخوانه، فقالوا له: قرانا أصلحك الله قال: وما قراكم؟ قالوا أكل وشرب وسمع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه، إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك وإن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه. قالوا: غنّنا صوت كذا. قال: فرفع عقيرته يتغنى بهذه الابيات: محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... في آخر اليل لمّا ظلّها السحر تثني على الخدّ منها من معصفرة ... والحلي باد على لبّاتها خضر «4»

أبو السمراء وامرأة بالمدينة

في ليلة التّمّ لا يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر لم يحجب الصّوت أجراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصّوت منحدر لو خلّيت لمشت نحوي على قدم ... يكاد من لينه للمشي ينفطر فسمعت الذلفاء صوت سنان، فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع؛ فجعلت لا تسمع شيئا من [حسن] خلق ولطافة قدّ، إلا الذي وافق المعنى؛ ومن نعت الليل واستماع الصوت؛ إلا رأت ذلك كله في نفسها ومهبها، فحرك ذلك ساكنا في قلبها، فهملت «1» عيناها، وعلا نشيجبها «2» ، فانتبه سليمان فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال لها: ما هذا يا ذلفاء؟ فقالت: ألا ربّ صوت رائع من مشوّة ... قبيح المحيّا واضع الأب والجدّ يروعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد فقال سليمان: دعيني من هذا فو الله لقد خامر قلبك منه خامر! يا غلام، عليّ بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان، فحذّره ولك عشرة آلاف درهم وأنت حر لوجه الله تعالى! فخرج الرسول فسبق رسول سليمان؛ فلما أتي به قال: يا سنان، ألم أنهك عن مثل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذيّ نعمته؛ فإن رأى امير المؤمنين أن لا يضيع حظّه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه، ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه، وأن الحصان إذا صهل ودقت له الفرس، وأن الفحل إذا هدر صغت له الناقة، وأن التيس إذا نبّ «3» استحرمت له الشاة؟ وإياك والعود إلى ما كان منك يطول غمّك. أبو السمراء وامرأة بالمدينة قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من

قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإذا بامرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان، وإذا هي ترجّع بصوت خفي شجي، فالتفتّ فرأيتها فوقفت، فقالت: هل من حاجة؟ قلت تزيدين في السماع! قالت: وأنت قائم؟ لو قعدت! فقعدت كالخجل، فقالت: كيف علمك بالغناء؟ فقلت: علم لا أحمده، قالت: فعلام أنفخ بغير نار؟ ما منعك من معرفته؟ فو الله إنه لسحوري وفطوري! قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي؟ قالت: يا هذا، وهل له موضع يوضع به وهو في علوه في السماء الشاهقة؟ قلت: فكل هؤلاء النسوة اللاتي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك؟ قالت؟: فيهن وفيهن ... ، ولي بينهن قصة. قلت: ومان هي؟ قالت: كنت أيام شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي ترى من القبح والدمامة، وكنت أشتهي الجماع شهوة شديدة وكان زوجي شابا وضيئا، وكان لا ينتشر عليّ حتى أتحفه وأطيّبه وأسكره، فأضرّ ذلك بي؛ وكان قد علقته امرأة قصّار «1» تجاورني، فزاد ذلك في غمي؛ فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه، وغلبة امرأة القصار على زوجي؛ فقالت: أدلّك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك! قلت: وابأبي أنت! إذا تكونين أعظم الخلق منة عليّ. قالت: اختلفي إلى مجمع مولى الزبير، فإنه حسن الغناء، فاعلقي من غنائه أصواتا عشرة، ثم غنيّ بها زوجك، فإنه سيجامعك بجوارحه كلها! قالت: فالتطت بمجمعه، فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة؛ فكنت إذا أقبل زوجي اضطجعت ورفعت عقيرتي «2» ثم تغنيت، فإذا غنيت صوتا بت على نيّف، وإن غنيت صوتين بت على اثنين، وان غنيت ثلاثة فثلاثة. فكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني، وقلت: يا هذه، ما أظن أنه خلق مثلك! قالت: اخفض من صوتك، قلت: ما كان أعظم منّة من المشورة قالت:

ابن الجهم وقينة

حسبك بها منة، وحسبك بي شاكرة، قلت: ففي قلبك من تلك الشهوة شيء؟ قالت: لذع في الفؤاد، وأما تلك الغلمة «1» التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها! فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة إن أزم حالك؟ قالت: لا، أنا في فائت من العيش! فلما نهضت لاقوم قالت: على رسلك، لا تنصرف خائبا! ثم ترنمت بصوت تخفيه من جارتها: ولي كبد مقروحة، من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح أبى الناس كلّ الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علّة بصحيح ابن الجهم وقينة : أبو بكر بن جامع عن الحسين بن موسى، قال: كتب علي بن الجهم إلى قينة كان يتعشقها: خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وتيّمته دهرا كأنّ به سحرا «2» دعي الهجر لا أسمع به منك إنما ... سألتك أمرا ليس يعري لكم ظهرا فكتبت إليه: صدقت، جعلت فداك؛ ليس يعرى لنا ظهرا، ولكنه يملأ لنا بطنا! أبو بكر الكاتب وقينة ابن حماد : وكان أبو بكر الكاتب مفتتنا بقينة محمد بن حماد، فأهدى إليها ممسكة، فقال فيها بعض الكتاب: أهدى إليها قميصا ... ينيكها فيه غيره فللسعادة حرها ... وللشّقاوة أيره

هاشمي وقينتان ومضحك

هاشمي وقينتان ومضحك : حدث أبو عبد الله بن عبد البر بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكان له قينتان، يقال لإحداهما رشا، وللأخرى جؤذر؛ وكان يحب الغناء، وكان بالمدينة مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس أحد؛ فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به، فلما أتاه قال: ما الفائدة فيك وفي لذتك ولا لذة لي؟ قال له: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذا، فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكّر العشر، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه؛ وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرّز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين. وأهل اليمن يسمون الكنف المراحيض فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض؟ قالت: إحداهما لصاحبتها: ما يقول: قالت يقول: غنياني: رحضت فؤادي فخلّيتني ... أهيم من الحبّ في كلّ واد «1» فاندفعتا تغنيانه؛ فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني، أظنهما مكيّتين وأهل مكة يسمونها المخارج. قال: يا حبيبتي، أين المخرج؟ قالت إحداهما للأخرى: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني: خرجت بها من بطن مكّة بعد ما ... أصات المنادي للصلاة فأعلما «2» فاندفعتا تغنيانه؛ فقال في نفسه: لم يفهما والله عني، أظنهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب؛ فقال لهما: يا حبيبتي، أين المذهب؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول: غنياني: ذهبت من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقا كلّ هذا التّجنّب فغنتاه الصوت؛ فقال في نفسه: لم يفهما عني، وما أظنهما إلا مدنيتين وأهل المدينة

قولهم في العود

يسمونها بيت الخلاء؛ فقال لهما: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني: خلّى على جوى الأحزان إذ ظعنا ... من بطن مكّة والتسهيد والحزنا «1» قال: فغنتاه؛ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أحسب الفاسقتين إلا بصرتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش؛ فقال لهما: أين الحشّ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغنيه: فلقد أوحش الجهيدان منها ... فمناها فالمنزل المعمور «2» فاندفعتا تغنيانه؛ فقال: ما أراهما إلا كوفيتين. وأهل الكوفة يسمونها الكنف. قال: يا حبيبتي، أين الكنيف؟ قالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل؟ ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني. تكنّفني الهوى طفلا ... فشيّبني وما اكتهلا قال: فغلبه بطنه، وعلم أنهما تولعان به، والهاشمي يتقطع ضحكا؛ فقال لهما: كذبتما يا زانيتان، ولكني أعلمكما ما هو. فرفع ثيابه فسلح عليهما، وانتبه الهاشمي فقال له: سبحان الله! أتسلح على وطائي؟ قال: الذي خرج من بطني أعزّ عليّ من وطائك؛ إن هاتين الزانيتين إنما حسبتا أني أسأل عن الحش للضراط، فأعلمتهما ما هو. قولهم في العود يزيد وعبيد الله في البربط : قال يزيد بن عبد الملك يوما وذكر عنده البربط «3» ، فقال: ليت شعري ما هو؟ فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو: هو محدوب

الظهر، أرسح البطن، له أربعة أوتار إذا حرّكت لم يسمعها أحد إلا حرّك أعطافه وهزّ رأسه! مرّ إسحاق بن إبراهيم الموصلي برجل ينحت عودا. فقال: لمن ترهف هذا السيف؟ ومن قولنا في هذا المعنى: يا مجلسا أينعت منه أزاهره ... ينسيك أوّله في الحسن آخره لم يدر هل بات فيه ناعما جذلا ... أو بات في جنة الفردوس سامره «1» فالعود يخفق مثناه ومثلثه ... والصّبح قد غرّرت فيه عصافره وللحجارة أهزاج إذا نطقت ... أحيا بها الكبرة المحنيّ ناقره «2» وحنّ بينهما الكثبان عن نغم ... تبدي عن الصبّ ما تخفي ضمائره «3» كأنما العود فيما بيننا ملك ... يمشي الهوينا وتتلوه عساكره كأنه إذ تمطّى وهي تتبعه ... كسرى بن هرمز تقفوه أساوره ذاك المصون الذي لو كان مبتذلا ... ما كان يكسر بيت الشّعر كاسره صوت رشيق وضرب لو يراجعه ... سجع القريض إذا ضلّت أساطره «4» لو كان زرياب حيّا ثم أسمعه ... لمات من حسد إذ لا يناظره وقال بعض الكتّاب في العود: وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدي ضمير سواه في الكلام كما ... يبدي ضمير سواه منطق الكلم وقال الحمدوني فيه: وسجّعت رجع صوت بين أربعة ... سرّ الضمائر فيما بينها علن

قولهم في المبردين في الغناء

فولّدت للنّدامى بين نغمتها ... وكفّها فرحا تفصيله حزن فما تلعثم عنها لفظ مزهرها ... ولا تحير في ألحانها لحن تهدي إلى كلّ حرّ من طبائعها ... بنانها نغما أثمارها فتن وترتعي العين منها روض وجنتها ... طورا وتسرح في ألفاظها الأذن وقال عكاشة بن الحصين: من كفّ جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرّفت عنّابا «1» وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشمال حسابا ومن قولنا في العود: يا ربّ صوت يصوغه عصب ... نيطت بساق من فوقها قدم جوفاء مضمومة أصابعها ... مسكّنات تحريكها نغم أربعة جزّئت لأربعة ... أجزاؤها بالنّفوس تلتحم أصغرها في القلوب أكبرها ... يبعث منها الشّفاء والسقم «2» إذ أرنّت بغمز لافظها ... قلت حمام يجيبهنّ حم لها لسان بكفّ ضاربها ... يعرب عنها وما لهنّ فم قولهم في المبرّدين في الغناء قال أبو نواس: قل لزهير إذا شدا وحدا ... أقلل أو اكثر فأنت مهذار سخنت من شدّة البرودة حتى صرت عندي كأنك النار وقال أيضا: لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج بارد حار

وقال أيضا: قد نضجنا ونحن في الجيش طرّا ... أنضجتنا كواكب الجوزاء «1» فأصيبوا لنا حسينا ففيه ... عوض من جليد برد الشتاء لو يغنّي وفوه ملآن خمرا ... لم يضره من برد ذاك الغناء وله: وكان أبو المغلس إذ يغنّي ... يحاكي غاطسا في عين شمس يميل بشدقه طورا وطورا ... كأنّ بشدقه ضربان ضرس وقال دعبل: ومغنّ إن تغنّى ... أورث الندمان همّا أحسن الأقوام حالا ... فيه من كان أصمّا وقال الحمدوني: بينما نحن سالمون جميعا ... إذ أتانا ابن سالم مختالا فتغنّى صوتا فكان خطاء ... ثم ثنّى أيضا فكان محالا سالنا حاجة على ما تغنى ... فخلعنا على قفاه النّعالا! ولعباس الخياط: رأيت نصرا شاديا يضرب ... فقمت من مجلسنا أهرب لأنه ينبح من عوده ... عليك من أوتاره أكلب كأنما تسمع في حلقه ... دجاجة يخنقها ثعلب ما عجبي منه ولكنني ... من الذي يسمعه أعجب وقال آخر: ومغنّ يخرى على جلسائه ... ضرب الله شدقه بغنائه

باب من الرقائق

وقال مؤمن في ربيع المغنى، وكان يتغنى وينقر في الدواة: غناؤك يا ربيع أشدّ بردا ... إذا حمي الهجير من الصّقيع ونقرك في الدّواة أشدّ منه ... فما يصبو إليك سوى رقيع أغثنا في المصيف إذا تلظى ... ودعنا في الشّتاء وفي الربيع باب من الرقائق وقد جبل أكثر الناس على سوء الاختيار، وقلة التحصيل والنظر مع لؤم الغرائز، وضعف الهمم. وقلّ من يختار من الصنائع أرفعها، ويطلب من العلوم أنفعها. ولذلك كان أثقل الأشياء عليهم وأبغضها إليهم مئونة التحفظ، وأخفها عندهم وأسهلها عليهم إسقاط المروءة. وقيل لبعضهم: ما أحلى الأشياء كلها؟ قال الارتكاس «1» . وقيل لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: هتك الحياء واتباع الهوى. وقيل لعمرو بن العاص: ما أطيب العيش؟ قال: ليقم من هنا من الأحداث قال: فلما قاموا، قال: [أطيب] العيش كله إسقاط المروءة. وأي شيء أثقل على النفس من مجاهدة الهوى ومكابدة الشهوة؟ ومن ذلك كان سوء الاختيار أغلب على طبائع من حسن الاختيار. المبرد وكتابه الروضة : ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي- على علمه باللغة ومعرفته باللسان- وضع كتابا سماه بالروضة، وقصد فيه إلى أخبار الشعراء المحدثين، فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، حتى انتهى إلى الحسن بن هانيء- وقلما يأتي له بيت ضعيف، لرقة فطنته، وسبوطة بنيته، وعذوبة ألفاظه- فاستخرج له من البرد أبياتا ما سمعناه ولا رويناها، ولا ندري من أين وقع عليها، وهي:

ألا لا يلمني في العقار «1» جليسي ... ولا يلحني في شربها بعنوس تعشّقها قلبي فبغّض عشقها ... إليّ من الأشياء كلّ نفيس وأين هذا الاختيار من اختيار عمرو بن بحر الجاحظ، حين اجتلب ذكره في كتاب الموالي، فقال: ومن الموالي الحسن بن هانيء، وهو من أقدر الناس على الشعر، وأطبعهم فيه؛ ومن قوله: فجاء بها صفراء بكرا يزفّها ... إليّ عروسا ذات دلّ معتّق فلما جلتها الكأس أبدت لناظري ... محاسن ليث بالجمال مطوّق ومن قوله: ساع بكأس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب قامت تريك وشمل الليل مجتمع ... صبحا تولّد بين الماء والعنب كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب وجلّ أشعاره في الخمريات بديعة لا نظير لها، فخطرفها كلها وتخطاها إلى التي جانسته في برده، فما أحسبه لحقه هذا الاسم «المبرّد» إلا لبرده؛ وقد تخيّر لأبي العتاهية أشعارا تقتل من بردها، وشنّفها «2» وقرّطها «3» بكلامه، فقال: ومن شعر أبي العتاهية المستظرف عند الظرفاء، المتخير عند الخلفاء، قوله: يا قرّة العين كيف أمسيت ... أعزز علينا بما تشكّيت وقوله: آه من وجدي وكربي ... آه من لوعة حبي» ما أشدّ الحبّ يا سبحانك اللهمّ ربّي!

من سوء الاختيار

من سوء الاختيار ونظير هذا من سوء الاختيار، ما تخيّره أهل الحذق بالغناء والصانعون للألحان من الشعر القديم والحديث؛ فإنهم تركوا منه الذي هو أرق من الماء، وأصفى من الهواء؛ وكلّ مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، وغنّوا بقول الشاعر: فلا أنسى حياتي ما ... عبدت الله لي ربا وقلت لها أنيليني ... فقالت تعرف الذّنبا! «1» ولو تعلم ما بي لم ... تر الذنب ولا العتبا وأقلّ ما كان يجب في هذا الشعر، أن يضرب قائله خمسمائة، وصانعه أربعمائة، والمغنّي به ثلاثمائة، والمصغي إليه مائتين! ومثله: كأنها الشمس إذا ما بدت ... تلك التي قلبي لها يضرب تلك سليماي إذا ما بدت ... ومن أنا في ودّها أرغب كأنّ في النفس لها ساحرا ... ذاك الذي علمه المذهب يعني المذهب الحبي ومثله: يا خليلي، أنتما عللاني ... بين كرم مزهر وجنان خبّراني أين حلت منايا ... يا عباد الله لا تكتماني إنما حلت بواد خصيب ... ينبت الورس مع الزعفران «2» حلفا بالله لو وجداني ... غرقا في البحر ما أنقذاني ومثله: أبصرت سلمى من منى ... يوما فراجعت الصّبا يا درّة البحر متى ... تشهد سوقا يشترى ومثله: يا معشر الناس هذا ... أمر وربّي شديد لا تعنفي يا فلانه ... فإنّني لا أريد

باب من رقائق الغناء

ومثله: أرقت فأمسيت لا أرقد ... وقد شفني البيض والخوّد «1» فصرت لظبي بني هاشم ... كأني مكتحل أرمد أقلّب أمري لدى فكرتي ... وأهبط طورا فما أصعد وأصعد طورا ولا علم لي ... على أنني قبلكم أرشد ومثله: ما أرجّي من حبيب ... ضنّ عني بالمداد «2» لو بكفّيه سحاب ... ما ارتوت منه بلادي أنا في واد ويمسي ... هو لي في غير واد ليته إذ لم يجد لي ... بالهوى ردّ فؤادي ومثله: ما لسلمى تجنّبت ... ما لها اليوم ما لها إن تكن قد تغضّبت ... أصلح الله حالها باب من رقائق الغناء لإسحاق في شعر الراعي : قال الزبير بن بكار: سألت إسحاق: هل تغني من شعر الراعي شيئا؟ قال: وأين أنت من قوله: فلم أر مظلوما على حال عزّة ... أقلّ انتصارا باللسان وباليد سوى ناظر ساج بعين مريضة ... جرت عبرة منها ففاضت بإثمد «3»

لابن الدمينة

لابن الدمينة : ومن شعر ابن الدمينة، وهو عبد الله بن عبيد الله، والدمينة أمّه، وهو من أرق شعراء المدينة بعد كثيّر عزة وقيس بن الخطيم: بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... له بهتة حتى يقال مريب جرى السّيل فاستبكاني السّيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتيّ غروب وما ذاك إلّا أن تيقّنت أنه ... يمرّ بواد أنت منه قريب يكون أجاجا قبلكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فيطيب «1» أيا ساكني شرقيّ دجلة كلّكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب! ومن قول يزيد بن الطثرية، وغنى به ابن صياد المدني وغيره: بنفسي من لو مرّ برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله ومن هابني في كلّ شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله ومما يغني به من قول جرير: أتذكر إذ تودّعنا سليمى ... بعود بشامة؟ سقي الشام! بنفسي من تجنّبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النّيام متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام ومما غنى به نومة الضحى: يا موقد النار قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس «2» ما أوحش الناس في عيني وأقبحهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس ومما يغنّى به من شعر ذي الرّمة، وهو من أرق شعر يغنى به، قوله:

لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى ... تباريح من ذكراك فالموت أروح «1» وأكثر ما كان يغني به معبد بشعر الأحوص، ومن جيد ما غنّى به له قوله: كأنّي من تذكر أمّ حفص ... وحبل وصالها خلق رمام صريع مدامة غلبت عليه ... تموت لها المفاصل والعظام سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السّلام فإن يكن النكاح أحل شيء ... فإنّ نكاحها مطرا حرام ومن شعر المتوكل بن عبد الله بن نهشل، وكان كوفيا في عصر معاوية، وهو القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... قفي قبل التّفرّق يا أماما وردّي قبل بينكم السّلاما «2» ... ترجّيها وقد شطت نواها ومنّتك المنى عاما فعاما «3» ... فلا وأبيك لا أنساك حتى تحاوب هامتي في القبر هاما ومما يغنّى به من شعر عدي بن الرقاع: تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها «4» ولقد أصبت من المعيشة لذّة ... ولقيت من شظف الخطوب شدادها «5» وعلمت حتى ما أسائل عالما ... عن حرف واحدة لكي أزدادها

كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن

كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهنّ قال ابو عمر احمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في الغناء واختلاف الناس فيه. ونحن قائلون بعون الله تعالى وتوفيقه في النساء وصفاتهن، وما يحمد ويذم من عشرتهن؛ إذ كان كله مقصورا على الحليلة الصالحة والزوجة الموافقة؛ والبلاء كله موكل بالقرينة السوء، التي لا تسكن النفس إلى كريم عشرتها، ولا تقرّ العين برؤيتها. لعروة بن الزبير قال الاصمعي: حدثني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير قال: ما رفع احد نفسه بعد الايمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع أحد نفسه بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء! ثم قال: لعن الله فلانة ألفت بني فلان بيضا طوالا، فقلبتهم سودا قصارا. وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: المرأة العاقلة تبني بيتها، والسفيهة تهدمه. وقال: الجمال كاذب، والحسن مخلف؛ وإنما تستحق المدح المرأة الموافقة. الرسول صلّى الله عليه وسلم وعكاف. مكحول، عن عطية بن بشر، عن عكّاف بن وداعة الهلاليّ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له؛ يا عكاف، ألك امرأة؟ قال: لا! قال: فأنت إذا من إخوان الشياطين! إن

قولهم في المناكح

كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فانكح، فإن من سنّتنا النكاح. وقالت عائشة: النكاح رقّ «1» ؛ فلينظر أحدكم عند من يرقّ كريمته «2» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أوصيكم بالنساء، فإنّهنّ عندكم عوان. يعني أسيرات. قولهم في المناكح صعصعة وابن الظرب خطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الظّرب حكيم العرب ابنته عمرة- وهي ام عامر بن صعصعة- فقال: يا صعصعة، إنك أتيتني تشتري من كبدي، فارحم ولدي، قبلتك أو رددتك، والحسيب «3» كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب، وقد أنكحتك خشية أن لا أجد مثلك؛ أفرّ من السرّ إلى العلانية.. يا معشر عدوان، خرجت بين أظهركم كريمتكم، من غير رغبة ولا رهبة، وأقسم لولا قسم الحظوظ على [قدر] الجدود ما ترك الأول للآخر ما يعيش به. ابن حجر وابن محلم العباس بن خالد السهمي قال: خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أمّ أياس، فقال: نعم، أزوّجكما، على أن أسمّي بنيها وأزوّج بناتها. فقال عمرو ابن حجر: اما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبائنا وعمومتنا، واما بناتنا فننكحهن أكفاءهن من الملوك، ولكني أصدقها عقارا في كندة، وامنحها حاجات قومها، لا تردّ لاحد منهم حاجة! فقبل ذلك منه أبوها، وأنكحه إياها؛ فلما كان بناؤه بها خلت بها أمها فقالت: أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشّك الذي فيه درجت، إلى

زرارة ولقيط وابنة ذي الجدين

رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي له خصالا عشرا تكن لك ذخرا: أما الاولى والثانية، فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة؛ وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح؛ وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتغيص النوم مغضبة؛ وأما السابعة والثامنة، فالاحتفاظ بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير؛ وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصنّ له أمرا، ولا تفشنّ له سرّا؛ فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سرّه لم تأمني غدره؛ ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتما، والكآبة بين يديه إذا كان فرحا. فولدت له الحارث بن عمرو، جدّ امرىء القيس الشاعر. زرارة ولقيط وابنة ذي الجدين الشيباني قال: حدثنا بعض أصحابنا، ان زرارة بن عدس نظر إلى ابنه لقيط فقال: مالي أراك مختالا؟ كأنك جئتني بابنة ذي الجدّين أو مائة من هجائن «1» النعمان! فقال: والله لا يمسّ رأسي دهن حتى آتيك بهما أو أبلي عذرا! فانطلق حتى اتى ذا الجدين- وهو قيس بن مسعود الشيباني- فوجده جالسا في نادي قومه من شيبان، فخطب إليه ابنته علانية؛ فقال له: هلا ناجيتني؟ قال: ومن أنت؟ قال: لقيط بن زرارة، قال: لا جرم، لا تبيتن فينا عزبا ولا محروما! فزوّجه وساق عنه المهر، وبنى بها من ليلته تلك. ثم خرج إلى النعمان، فجاء بمائتين من هجائنه؛ وأقبل إلى أبيه وقد وفى نذره فبعث إليه قيس بن مسعود بابنته مع ولده بسطام بن قيس؛ فخرج لقيط يتلقاها في الطريق ومعه ابن عم له يقال له قراد، فقال لقيط:

قيس بن زهير والنمر

هاجت عليّ ديار الحيّ أشجانا ... واستقبلوا من نوى الجيران قربانا «1» تامت فؤادك لم تقض التي وعدت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا فانظر قراد وهل في نظرة جزع ... عرض الشقائق؛ هل بيّنت أظعانا فيهنّ جارية نضح العبير بها ... تكسى ترائبها درّا ومرجانا كيف اهتديت ولا نجم ولا علم ... وكنت عندي نئوم الليل وسنانا «2» ولما رحل بها بسطام بن قيس، قالت: مرّوا بي على أبي أودعه! فلما ودعته قال لها: يا بنية، كوني له امة يكن لك عبدا وليكن أطيب طيبك الماء؛ ثم لا أذكرت ولا أيسرت؛ فإنك تلدين الأعداء، وتقرّبين البعداء! إن زوجك فارس من فرسان مضر، [وإنه يوشك أن يقتل او يموت] ؛ فإذا كان ذلك فلا تخمشي [عليه] وجها، ولا تحلقي شعرا. فلما قتل لقيط تحملت إلى اهلها، ثم مالت إلى محلّة عبد الله بن دارم فقالت: نعم الأحماء كنتم يا بني دارم، وأنا أوصيكم بالغرائب خيرا، فلم أر مثل لقيط. ثم لحقت بقومها، فتزوجها ابن عمّ لها، فكانت لا تسلو عن ذكر لقيط، فقال لها زوجها: اي يوم رأيت فيه لقيطا احسن في عينك؟ قالت: خرج يوما يصطاد، فطرد البقر فصرع منها، ثم أتاني مختضبا بالدماء، فضمني ضمة، ولثمني لثمة، فليتني مت ثمة! فخرج زوجها ففعل مثل ذلك، ثم أتاها، فضمها، ولثمها، ثم قال لها: من أحسن، أنا أم لقيط عندك؟ قالت: مرعى ولا كالسعدان. قيس بن زهير والنمر أبو الفضل عن بعض رجاله، قال: قدم قيس بن زهير- بعد ما قتل أهل الهباءة- على النمر بن قاسط، فقال:

الفاكه وزوجته هند في ريبة

يا معشر النمر، نزعت إليكم غريبا حزينا، فانظروا لي امرأة اتزوّجها. قد أذلها الفقر، وأدّبها الغنى، لها حسب وجمال. فزوّجوه على هيئة ما طلب، فقال: إني لا أقيم فيكم حتى أعلمكم اخلاقي: إني غيور فخور نفور؛ ولكني لا أغار حتى أرى، ولا أفخر حتى أفعل، ولا آنف حتى أظلم. فأقام فيهم حتى ولد له غلام سماه خليفة، ثم بدا له ان يرتحل عنهم، فجمعهم ثم قال: يا معشر النمر، إن لكم عليّ حقا، وأنا أريد أن أوصيكم، فآمركم بخصال، وأنهاكم عن خصال: عليكم بالاناة، فإن بها تنال الفرصة؛ وسوّدوا من لا تعابون بسؤدده؛ وعليكم بالوفاء، فإن به يعيش الناس؛ وباعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة؛ ومنع ما تريدون منعه قبل القسم؛ وإجارة الجار على الدهر؛ وتنفيس المنازل؛ [عن بيوت اليتامى، وخلط الضيف بالعيال] وأنهاكم عن الرهان، فإني به ثكلت مالكا. وأنهاكم عن البغي، فإنه صرع زهيرا. وعن السرف في الدماء، فإن يوم الهباءة أورثني الذلّ، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق ولا تردّوا الأكفاء عن النساء فتحوجوهنّ إلى البلاء؛ فإن لم تجدوا الأكفاء فخير أزواجهن القبور؛ واعلموا اني اصبحت ظالما مظلوما: ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا، وظلمت بقتلي من لا ذنب له. الفاكه وزوجته هند في ريبة كان الفاكه بن المغيرة المخزومي أحد فتيان قريش، وكان قد تزوج هند ابنة عتبة، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا اذن، فقال يوما في ذلك البيت وهند معه؛ ثم خرج عنها وتركها نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت. فلما وجد المرأة نائمة ولّى عنها، فاستقبله الفاكه بن المغيرة، فدخل على هند وأنبهها، وقال: من هذا الخارج من عندك؟ قالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني، وما رأيت أحدا قط.

هند وزواجها من أبي سفيان

قال: الحقي بأبيك! وخاض الناس في أمرها، فقال لها أبوها: يا بنية العار وإن كان كذبا، أبثيني شأنك، فإن كان الرجل صادقا دسست عليه من يقتله فيقطع عنك العار، وإن كان كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن. قالت: والله يا أبت إنه لكاذب! فخرج عتبة فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبيّن ما قلت، وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. قال: ذلك لك. فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش، ونسوة من بني مخزوم. وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف. فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيّر وجه هند، وكسف بالها. فقال لها أبوها: أي بنية، ألا كان هذا قبل ان يشتهر في الناس خروجنا؟ قالت: يا أبت، والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنكم تأتون بشرا يخطيء ويصيب، ولعله ان يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب. فقال لها أبوها: صدقت. ولكني سأخبره لك فصفّر بفرسه، فلما أدلى «1» عمد إلى حبة بر فأدخلها في إحليله، ثم اوكى عليها وسار. فلما نزلوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم، فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر، وقد خبأنا لك خبيئة، فما هي؟ قال: برّة في كمرة. قال: أريد أبين من هذا. قال: حبة برّ في إحليل مهر. قال: صدقت. فانظر في أمر هؤلاء النسوة. فجعل يمسح رأس كل واحدة منهن، ويقول: قومي لشأنك! حتى إذا بلغ إلى هند مسح يده على رأسها، وقال: قومي غير رقحاء ولا زانية، وستدلين ملكا يسمى معاوية. فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها، فنترت «2» يده من يدها، وقالت [إليك عني!] والله لأحرصنّ أن يكون ذلك الولد من غيرك! فتزوجها أبو سفيان، فولدت له معاوية. هند وزواجها من أبي سفيان وذكروا ان هند بنت عتبة بن ربيعة قالت لابيها: يا أبت: إنك زوّجتني من هذا

الرجل ولم تؤامرني في نفسي، فعرض لي معه ما عرض؛ فلا تزوّجني من احد حتى تعرض عليّ امره، وتبيّن لي خصاله، فخطبها سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب. فدخل عليها أبوها وهو يقول: أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضا لك يا هند الهنود ومقنع وما منهما إلا يعاش بفضله ... وما منهما إلا يضرّ وينفع وما منهما إلا كريم مرزّأ ... وما منهما إلا أغرّ سميدع «1» فدونك فاختاري فأنت بصيرة ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع قالت: يا أبت، والله ما أصنع بهذا شيئا، ولكن فسّر لي أمرهما وبيّن لي خصالهما، حتى أختار لنفسي أشدّهما موافقة لي. فبدأ بذكر سهيل بن عمرو، فقال: أما أحدهما ففي ثروة واسعة من العيش، إن تابعتيه تابعك، وإن ملت عنه حطّ إليك، تحكمن عليه في أهله وماله. واما الآخر فموسّع عليه، منظور إليه، في الحسب الحسيب، والرأي الأريب، مدره أرومته، وعزّ عشيرته. شديد الغيرة، كثير الظّهرة، لا ينام على ضعة، ولا يرفع عصاه عن أهله. فقالت: يا أبت، الأوّل سيد مضياع للحرّة، فما عست ان تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جناحه، إذا تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت، فساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت؛ فاطو ذكر هذا عني، ولا تسمّه عليّ بعد. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة، الحرّة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عشيرة فتعيره، ولا تصيّره بذعر فتضيره، وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوّجنيه. فزوجها من أبي سفيان، فولدت له معاوية، وقبله يزيد؛ فقال في ذلك سهيل بن عمرو: نبّئت هندا تبّر الله سعيها ... تأبّت وقالت وصف أهوج مائق «2»

سهيل وابن له

وما هوجي يا هند إلا سجيّة ... أجرّ لها ذيلي بحسن الخلائق ولو شئت خادعت الفتى عن قلوصه ... ولاطمت بالبطحاء في كل شارق «1» ولكنني أكرمت نفسي تكرّما ... ودافعت عنها الذّم عند الخلائق وإني إذا ما حرّة ساء خلقها ... صبرت عليها صبر آخر عاشق فإن هي قالت خلّ عني تركتها ... وأقلل بترك من حبيب مفارق فإن سامحوني قلت أمري إليكم ... وإن أبعدوني كنت في رأس حالق فلم تنكحي يا هند مثلي وإنّني ... لمن لم يمقني فاعلمي غير وامق «2» فبلغ أبا سفيان، فقال: والله لو أعلم شيئا يرضي أبا زيد سوى طلاق هند لفعلته! وألح سهيل في تنقيص أبي سفيان، فقال أبو سفيان: رأيت سهيلا قد تفاوت شأوه ... وفرّط في العلياء كلّ عنان وأصبح يسمو للمعالي وإنه ... لذو جفنة مغشية وقيان وشرب كرام من لؤيّ بن غالب ... عراض المساعي عرضة الحدثان ولكنّه يوما إذا الحرب شمّرت ... وأبرز فيها وجه كلّ حصان «3» تطأطأ فيها ما استطاع بنفسه ... وقنّع فيها رأسه ودعاني فأكفيه ما لا يستطاع دفاعه ... وألقيت فيها كلكلي وجراني «4» سهيل وابن له قال: وتزوج سهيل بن عمرو امرأة، فولدت له ولدا؛ فبينا هو سائر معه إذ نظر إلى رجل يركب ناقة ويقود شاة، فقال لأبيه: يا أبت، هذه ابنة هذه! يريد الشاة ابنة الناقة! فقال أبوه: يرحم الله هذا! يعني ما كان من فراستها فيه.

الرسول صلى الله عليه وسلم وأم هانىء

الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأم هانىء وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، لو تزوجت أم هانيء بنت أبي طالب، فقد جعل الله لها قرابة، فتكون صهرا أيضا! فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: والله أحبّ إليّ من سمعي وبصري ولكن حقه عظيم، وأنا موتمة «1» ؛ فإن قمت بحقه خفت أن أضيّع أيتامي، وإن قمت بأمرهم قصّرت عن حقه! فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناها على ولد في صفره وأرعاها على بعل في ذات يده، ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت جملا لاستثنيتها. زواج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من حفصة ولما توفيت رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عثمان بن عفان، عرض عليه عمر ابنته حفصة؛ فسكت عنه عثمان- وقد كان بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يزوّجه ابنته الاخرى- فشكا عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكوت عثمان عنه؛ فقال له: سيزوّج الله ابنتك خيرا من عثمان، ويزوّج عثمان خيرا من ابنتك! فتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، وتزوّج عثمان ابنته. خطبته صلّى الله عليه وسلّم لخديجة ولما خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خديجة بنت خويلد بن عبد العزى، ذكرت ذلك لورقة بن نوفل- وهو ابن عمها- فقال: هو الفحل لا يقدع «2» أنفه، تزوّجيه. وخطب عمر بن الخطاب أمّ كلثوم بنت أبي بكر، وهي صغيرة، فأرسل [عمر] إلى عائشة، فقالت: الأمر إليك. فلما ذكرت ذلك عائشة لأم كلثوم، قالت: لا حاجة لي فيه! فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم إنه خشن العيش، شديد على النساء! فأرسلت عائشة إلى المغيرة بن شعبة فأخبرته فقال لها: أنا أكفيك! فأتى

علي وعمر في ام كلثوم

عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني عنك أمر أعيذك بالله منه! قال: ما هو؟ قال: بلغني أنك خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم، أفرغبت بها عني، أم رغبت بي عنها؟ قال: لا واحدة منهما، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف خليفة رسول الله في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك؛ فكيف بها؟ إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك! فقال: كيف لي بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها؛ وأدلك على خير لك منها، أمّ كلثوم بنت عليّ من فاطمة بنت رسول الله؛ تتعلق منها بسبب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. علي وعمر في ام كلثوم وكان علي قد عزل بناته لولد جعفر بن أبي طالب؛ فلقيه عمر فقال: يا أبا الحسن، أنكحني ابنتك ام كلثوم ابنة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: قد حبستها لابن جعفر! قال: إنه والله ما على الارض احد يرضيك من حسن صحبتها بما أرضيك به، فأنكحني يا ابا الحسن. قال: قد أنكحتكها يا أمير المؤمنين! فأقبل عمر فجلس في الروضة بين القبر والمنبر، واجتمع إليه المهاجرون والانصار؛ فقال: زفّوني! قالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ قال: بأمّ كلثوم. فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كلّ سبب ونسب ينقطع يوم القيام إلا سببي ونسبي» ! وقد تقدمت لي صحبة، فأحببت أن يكون لي معها سبب. فولدت له أمّ كلثوم زيد بن عمر، ورقية بنت عمر؛ وزيد بن عمر هو الذي لطم سمرة بن جندب عند معاوية إذا تنقّص عليا فيما يقال. سلمان وعمر في ابنته وخطب سلمان الفارسي إلى عمر ابنته، فوعده بها؛ فشق ذلك على عبد الله بن عمر، فلقي عمرو بن العاص فشكا ذلك إليه؛ فقال له: فأكفيكه! فلقي سلمان فقال

زواج بلال وأخيه

له: هنيئا لك يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يتواضع لله عز وجل في تزويجك ابنته! فغضب سلمان وقال: لا، والله لا تزوجت إليه أبدا. زواج بلال وأخيه وخرج بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أخيه، إلى قوم من بني ليث، يخطب إليهم لنفسه ولأخيه، فقال: أنا بلال وهذا أخي، كنا ضالّين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله؛ فإن تزوّجونا فالحمد لله، وإن تردّونا فالمستعان الله! قالوا: نعم وكرامة! فزوجوهما. زواج عثمان من نائلة قالت تماضر امرأة عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان: هل لك في ابنة عم لي، بكر جميلة، ممتلئة الخلق، اسيلة الخد «1» ، أصيلة الرأي، تتزوجها؟ قال: نعم. فذكرت له نائلة بنت الفرافصة الكلبية، فتزوجها وهي نصرانية، فتحنّفت وحملت إليه من بلاد كلب، فلما دخلت عليه قال لها: لعلك تكرهين ما ترين من شيبي؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين، إني من نسوة أحب ازواجهن إليهن الكهل! قال: إني قد جزت الكهول، وأنا شيخ! قالت: أذهبت شبابك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خير ما ذهبت فيه الاعمار! قال: أتقومين إلينا ام نقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك أرض السماوة وأريد أن أنثني إلى عرض البيت! وقامت إليه: فقال: لها: انزعي ثيابك. فنزعتها؛ فقال: حلي مرطك «2» . قالت: أنت وذاك. قال أبو الحسن: فلم تزل نائلة عند عثمان حتى قتل؛ فلما دخل إليه وقته بيدها، فجذمت «3» أناملها، فأرسل إليها معاوية بعد ذلك يخطبها، فأرسلت إليه: ما ترجو من امرأة جذماء!

فاطمة بنت الحسين بن علي وابن عمرو

وقيل: إنها قالت لما قتل عثمان: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبي! فدعت بفهر فهتمت فاها، وقالت: والله لاقعد أحد مني مقعد عثمان أبدا!. فاطمة بنت الحسين بن علي وابن عمرو وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي عند حسن بن حسن بن علي، فلما احتضر قال لبعض اهله: كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إذا سمع بموتي قد جاء يتهادى في ازار له مورد قد أسبله، فيقول: جئت أشهد ابن عمي، وليس يريد إلا النظر إلى فاطمة، فإذا جاء فلا يدخلنّ! قال: فو الله ما هو إلا أن أغمضوه، فجاء عبد الله بن عمرو في تلك الصفة التي وصفها، فمنع ساعة؛ فقال بعض القوم: لا يدخل: وقال بعضهم: افتحوا له، فإن مثله لا يردّ. ففتحوا له، ودخل؛ فلما صرنا إلى القبر قامت عليه فاطمة تبكي، ثم اطلعت إلى القبر فجعلت تصكّ وجهها بيديها حاسرة؛ قال: فدعا عبد الله بن عمرو وصيفا له فقال: انطلق إلى هذه المرأة وقل لها: يقرئك ابن عمّك السلام، ويقول لك: كفّي عن وجهك؛ فإن لنا به حاجة! فلما بلغها الرسالة أرسلت يديها فأدخلتهما في كميها حتى انصرف الناس. فتزوجها عبد الله بن عمرو بعد ذلك، فولدت له محمد بن عبد الله؛ وكان يسمى المذهب، لجماله؛ وكانت ولدت من حسن بن حسن، عبد الله بن حسن الذي حارب أبو جعفر ولديه إبراهيم ومحمدا ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن حتى قتلهما. محمد بن عبد الله ابن عمرو وعن سلمة بن محارب قال: ما رأيت قرشيا قط كان أكمل ولا اجمل من محمد بن عبد الله بن عمرو الذي ولدته فاطمة بنت الحسين. وكانت له ابنة ولدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير: كانت امها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير وأم عروة أسماء

شريح والشعبي في نساء تميم

بنت أبي بكر الصديق. وأم محمد فاطمة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأم فاطمة بنت الحسين أمّ إسحق بنت طلحة بن عبيد الله، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان سودة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب. شريح والشعبي في نساء تميم : وعن الهيثم بن عدي الطائي قال: حدثنا مجالد عن الشعبي قال: قال لي شريح: يا شعبي، عليك بنساء بني تميم، فإني رأيت لهن عقولا، قال: وما رأيت من عقولهن؟ قال: أقبلت من جنازة طهرا، فمررت بدورهم فإذا أنا بعجوز على باب دار، والى جنبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري، فعدلت فاستسقيت وما بي عطش؛ فقالت: أي الشراب احب اليك؟ فقلت: ما تيسّر. قالت: ويحك يا جارية! ائتيه بلبن؛ فإني أظن الرجل غريبا! قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه زينب ابنة جرير، إحدى نساء حنظلة. قلت: فارغة هي أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة. قلت: زوّجينيها. قالت: إن كنت لها كفئا- ولم تقل كفوا، وهي لغة تميم- فمضيت إلى المنزل فذهبت لاقيل، فامتنعت مني القائلة؛ فلما صليت الظهر أخذت بأيدي اخواني من القرّاء الاشراف: علقمة، والاسود، والمسيب، وموسى بن عرفطة؛ ومضيت أريد عمها، فاستقبل فقال: يا أبا أمية، حاجتك؟ قلت: زينب بنت أخيك. قال: ما بها رغبة عنك! فأنكحنيها، فلما صارت في حبالي ندمت، وقلت: أي شيء صنعت بنساء بني تميم؟ وذكرت غلظ قلوبهن، فقلت: أطلّقها! ثم قلت: لا، ولكن أضمها إليّ، فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك. فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت عليّ، فقلت: إن من السّنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين فيسأل الله من خيرها ويعوذ به من شرها. فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها، فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفة قد صبغت في عكر العصفر. فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناحيتها، فقالت: على رسلك أبا أمية! كما أنت! ثم قالت:

الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله؛ اني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبيّن لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأزدجر عنه ... وقالت: إنه قد كان لك في قومك منكح، وفي قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله امرا كان، وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به: إمساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك. قال: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وأسلم، وبعد؛ فإنك قد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظّك، وإن تدعيه يكن حجة عليك؛ أحب كذا وأكره كذا، ونحن جميع فلا تفرقّي، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها. وقالت شيئا لم أذكره: كيف محبتك لزيارة الاهل؟ قلت: ما احب ان يملّني أصهاري! قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن لهم، ومن تكرهه أكرهه؟ قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. قال: فبتّ يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أرى إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بعجوز تأمر وتنهى في الدار! فقلت: من هذه؟ قالوا: فلانة ختنك «2» . فسري عني ما كنت اجد، فلما جلست أقبلت العجوز فقالت: السلام عليك أبا أمية. قلت: وعليك السلام، من أنت؟ قالت: انا فلانة ختنك. قلت: قربك الله. قالت: كيف رأيت زوجتك؟ قلت خير زوجة. فقال لي: أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ منها في حالتين: إذا ولدت غلاما، أو حظيت عند زوجها؛ فإن رابك ريب فعليك بالسوط؛ فو الله ما جاز الرجال في بيوتهم شرّا من المرأة المدللة. قلت: أما والله لقد أدّبت فأحسنت الادب، ورضت

الفرزدق وأمة له

فأحسنت الرياضة. قالت: تحبّ ان يزورك ختانك؟ قلت! متى شاءوا. قال: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية. فمكثت معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء، الا مرة واحدة، وكنت لها ظالما: أخذ المؤذّن في الإقامة بعد ما صليت ركعتي الفجر، وكنت إمامى الحيّ، فإذا بعقرب تدب: فأخذت الإناء فأكفأته عليها؛ ثم قلت: يا زينب؛ لا تتحركي حتى آتي! فلو شهدتني يا شعبي وقد صليت ورجعت فإذا انا بالعقرب قد ضربتها، فدعوت بالسكت والملح؛ فجعلت امغث «1» أصبعها وأقرأ عليها بالحمد والمعوّذتين. وكان لي جار من كندة يفزع امرأته ويضربها؛ فقلت في ذلك: كنتم زعمتم أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيت الله بل تظلمونها فإن لا تعدّوا أمّها من نسائكم ... فإنّ أباها والد لن يشينها وإنّ لها أعمام صدق وإخوة ... وشيخا إذا شئتم تأيّم دونها قالت النوار: فإذا لا نشاء. الفرزدق وأمة له : وقال الفرزدق في امته الزنجية: يا رب خود من بنات الزنج ... تنقل تنّورا شديد الوهج أغير مثل القدح الخلنج ... يزداد طيبا بعد طول الهرج «2» يعلي الهذلي وطلحة الطلحات وعن الهيثم بن عدي: عن ابن عياش قال: حدثنا يعلى الهذلي قال: كنت بسجستان مع طلحة الطلحات، فلم أر أحدا كان أسخى منه ولا أشرف نفسا؛ فكتب إليّ عمي من البصرة: إني قد كبرت، ومالي كثير، وأكره أن أوكله غيرك فأقدم أزوّجك ابنتي وأصنع بك ما أنت أهله.

قال: فخرجت على بغلة لي تركية، فأتيت البصرة في ثلاثين يوما، ووافيته في صلاة العصر، فوجدته قاعدا على دكانه، فسلمت عليه، فقال لي من أنت؟ قلت له: ابن اخيك يعلي، قال: وأين ثقلك «1» ؟ قلت: تعجلت إليك حين أتاني كتابك وطربت نحوكم. قال: يابن اخي، أتدري ما قالت العرب؟ قلت: لا. قال: قالت العرب: شر الفتيان المفلس الطروب! قال: فقمت إلى بغلتي فأعددت سرجي عليها، فما قال لي شيئا، ثم قال: إلى أين؟ قلت: إلى سجستان! قال: في كنف الله. قال: فخرجت فبتّ في الجسر، ثم ذكرت أم طلحة، فانصرفت أسأل عنها حتى أتيت منزلها- وكان طلحة أبرّ الناس بها- فقلت: رسول طلحة، فقالت ائذنوا له. فدخلت، فقالت: ويحك! كيف ابني؟ قلت: على احسن حال. قالت: فلله الحمد! وإذا بعجوز قد تحدرت، قالت: فما جاء بك؟ قلت: كيت وكيت. قالت: يا جارية. ائتني بأربعة آلاف درهم! ثم قالت: ائت عمك فابتن بابنته، ولك عندنا ما تحب! قلت: لا والله لا أعود إليه أبدا، قالت: يا جارية ائتني ببغلة رحالتي. ثم قالت، راوح بين هذه وبغلتك حتى تأتي سجستان. قلت: اكتبي بالوصاة بي والحالة التي استقبلتها. فكتبت بوجعها التي كانت فيه، وبعافية الله إياها، وبالوصاة بي؛ فلم تدع شيئا. ثم دفعت حتى أتيت سجستان، فأتيت باب طلحة، وقلت للحاجب: رسول صفية بنت الحرث. وأنا عابس باسر، فدخل؛ فخرج طلحة متوشّحا، وخلفه وصيف يسعى بكرسي، فقمت بين يديه، فقال: ويلك! كيف أمي؟ قلت: بأحسن حالة. قال: انظر كيف تقول؟ قلت: هذا كتابها. قال: فعرف الشواهد والعلامات، قلت: اقرأ كتاب وصيتها. قال: ويحك! ألم تأتني بسلامتها؟ حسبك! فأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال لحاجبه: اكتبه في خاصة أهلي، قال: فو الله ما أتى عليّ الحول حتى تم لي مائة ألف. قال ابن عياش: فقلت له: هل لقيت عمك بعد ذلك؟ قال لا والله ولا ألقاه أبدا.

السلاماني وقريب له

السلاماني وقريب له وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: اخبرني موسى السلاماني، مولى الحضرمي، وكان أيسر تاجر بالبصرة، قال: بينا أنا جالس إذ دخل عليّ غلام لي فقال: هذا رجل من أهل أمّك يستأذن عليك- وكانت أمه مولاة لعبد الرحمن بن عوف- فقلت: ائذن له. فدخل شاب حلو الوجه، يعرف في هيئته انه قرشي، في طمرين «1» . فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، خال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: في الرحب والقرب. ثم قلت: يا غلام، برّه وأكرمه وألطفه، وأدخله الحمام، واكسه قميصا رقيقا، ومبطنا قوهيا، ورداء عمريا. وحذونا له نعلين حضرميين فلما نظر الشاب في عطفيه وأعجبته نفسه قال: يا هذا، ابغني أشرف أيّم بالبصرة أو أشرف بكربها! قلت: يابن أخي، معك مال؟ قال: أنا مال كما أنا! قلت: يابن أخي، كفّ عن هذا. قال: انظر ما أقوله لك! قلت: فإن أشرف ايّم بالبصرة هند ابنة أبي صفرة. أخت عشرة، وعمة عشرة، وحالها في قومها حالها. وأشرف بكر بالبصرة الملاة بنت زرارة بن اوفى الجرشي قاضي البصرة قال اخطبها علي. قلت: يا هذا، إن أباها قاضي البصرة! قال: انطلق بنا إليه. فانطلقنا إلى المسجد فتقدم، فجلس الى القاضي، فقال له: من أنت يا بن أخي؟ قال له: عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال مرحبا بك، ما حاجتك؟ قال: جئت خاطبا. قال: ومن ذكرت؟ قال: الملاة ابنتك. قال: يا بن اخي، ما بها عنك رغبة. ولكنها امرأة يفتات عليها [في] أمرها، فاخطبها إلى نفسها. فقام إليّ، فقلت: ما صنعت؟ قال: قال كذا وكذا. قلت: ارجع بنا ولا تخطبها. قال: اذهب بنا اليها. فدخلنا دار زرارة، فإذا دار فيها مقاصير، فاستأذنا على أمها، فلقيتنا بمثل كلام الشيخ، ثم قالت: وها هي في تلك الحجرة. قلت له: لا تأتها. قال: أليست بكرا؟ قلت: بلى. قال: ادخل بنا إليها. فاستأذنا، فأذنت لنا، فوجدناها جالسة وعليها ثوب قوهي رقيق معصفر، تحته

ابن علفة وعبد الملك

سراويل يرى منه بياض جسدها، ومرط قد جمعته على فخذيها، ومصحف على كرسي بين يديها. فأشرجت «1» المصحف ثم نحته، فسلمنا، فردّت، ثم رحبت بنا، ثم قالت: من أنت؟ قال: أنا عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري خال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ومدّ بها صوته، قالت: يا هذا؛ إنما يمدّ هذا الصوت للساسانيين! قال موسى: فدخل بعضي في بعض! ثم قالت: ما حاجتك؟ قال: جئت خاطبا. قالت: ومن ذكرت؟ قال: ذكرتك! قالت: مرحبا بك يا أخا اهل الحجاز، ما الذي بيدك؟ قال: لنا سهمان بخيبر اعطاناهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ومدّ بها صوته- وعين بمصر، وعين باليمامة، ومال باليمن. قالت: يا هذا، كل هذا عنا غائب، ولكن ما الذي يحصل بأيدينا منك؟ فإني أظنك تريد أن تجعلني كشاة عكرمة، أتدري من عكرمة؟ قال: لا. قالت: عكرمة بن ربعي. فإنه كان نشأ بالسواد، ثم انتقل الى البصرة وقد تغذي باللبن. فقال لزوجته: اشتري لنا شاة نحتلبها وتصنعين لنا من لبنها شرابا وكامخا. ففعلت وكانت عندهم الشاة إلى ان استحرمت «2» ، فقالت: يا جارية خذي بأذن الشاة وانطلقي بها إلى التيّاس. فانزي عليها! ففعلت فقال التياس: آخذ منك على المنزوة درهما! فانصرفت إلى سيدتها فأعلمتها. فقالت: إنما رأينا من يرحم ويعطي، وأما من يرحم ويأخذ فلم نره! ... ولكن يا أخا أهل المدينة، أردت أن تجعلني كشاة عكرمة. فلما خرجنا قلت له: ما كان أغناك عن هذا! قال: ما كنت أظن أن امرأة تجترىء على مثل هذا الكلام. ابن علفة وعبد الملك وعن الاصمعي قال: كان عقيل بن علّفة المري غيورا فخورا، وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لبعض ولده، فقال: جنبني هجناء ولدك.

ابن علفة وأولاده

ابن علفة وأولاده وكان إذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه. فخرج مرة فنزلوا ديرا من أديرة الشام يقال له دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل: قضت وطرا من دير سعد وربّما ... علاء عرض ناطحنه بالجماجم «1» ثم قال لابنه: أجز يا عميس. فقال: فأصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم ثم قال لابنته: يا جرباء أجيزي، فقالت: كأنّ الري أسقاهم صرخديّة ... عقارا تمشّت في المطا والقوائم «2» فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ ثم سل السيف وهض إليها، فاستغاثت بأخيها عميس، فانتزعه بسهم فأصاب فخذه، فبرك. ومضوا وتركوه حتى إذا بلغوا ادنى المياه قالوا لهم: إنا أسقطنا جزورا لنا فأدركوه. وخذوا معكم الماء! ففعلوا. وإذا عقيل بارك وهو يقول: إنّ بنيّ زمّلوني بالدّم ... من يلق أبطال الرّجال يكلم «3» ومن يكن درء به يقوّم ... شنشنة أعرفها من أخزم الشنشنة: الطبيعة. وأخزم: فحل كريم. وهذا مثل للعرب. عبد الملك وابنة عبد الرحمن الشيباني عن عوانة قال: خطب عبد الملك بن مروان ابنة عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، فأبت أن تتزوّجه. وقالت: والله لا تزوّجني أبو الذباب! فتزوجها يحيى بن الحكم. فقال عبد الملك: والله لقد تزوجت أفوه أشوه. فقال يحيى: أما إنها أحبت مني ما كرهت منك. وكان عبد الملك ردىء الفم يدمى فيقع عليه الذباب فسمي ابا الذباب.

أخت أبي سفيان

أخت أبي سفيان وعن العتبي قال: خطب قريبة ابنة حرب أخت أبي سفيان بن حرب، اربعة عشر رجلا من أهل بدر، فأبتهم وتزوجت عقيل بن أبي طالب. قالت: إن عقيلا كان مع الأحبة يوم قتلوا، وإن هؤلاء كانوا عليهم! ولاحته يوما فقالت: يا عقيل، أين أخوالي؟ أين أعمامي؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة! قال لها: إذا دخلت النار فخذي على يسارك. زياد وسعيد بن العاص في ابنته وكتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه ابنته، وبعث إليه بمال كثير وهدايا؛ فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا، وأن يقسمها بين جلسائه؛ فقال الحاجب: إنّها أكثر من ظنك. قال سعيد: أنا أكثر منها! ثم وقّع إلى زياد في أسفل كتابه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» . الحسن ورجل يزوج ابنته وقال رجل للحسن: إن لي بنية، فمن ترى أن أزوجها؟ قال: زوّجها ممن يتقي الله فإن أحبّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. عبد الملك وعمر بن عبد العزيز وقال عبد الملك بن مروان، لعمر بن عبد العزيز: قد زوّجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة، فقال عمر: وصلك الله يا أمير المؤمنين، فقد كفيت المسئلة، وأجزلت في العطية. وقيل للحسن: فلان خطب إلينا فلانة. قال: أهو موسر من عقل ودين؟ قالوا: نعم. قال: فزوّجوه.

لحيوة بن شريح

لحيوة بن شريح وقال رجل لحيوة بن شريح: إني أريد أن أتزوج. فماذا ترى؟ قال: كم المهر؟ قال: مائة. قال: فلا تفعل؛ تزوّج بعشرة وأبق تسعين، فإن وافقتك ربحت التسعين، وإن لم توافقك تزوجت عشرا؛ فلا بد في عشرة نسوة من واحدة توافقك. هبنقة القيسي وراغب في الزواج وقال رجل: أردت النكاح فقلت: لاستشيرن أول من يطلع عليّ ثم أعمل برأيه؛ فكان أول من طلع هبنقة القيسي، وتحته قصبة؛ فقلت له: أريد النكاح، فما تشير [به] علي؟ قال: البكر لك، والثيب «1» عليك، وذات الولد لا تقربها واحذر جوادي لا ينفحك! «2» . مكثر ومقل في زواج وعن الاصمعي قال: أخبرني رجل من بني العنبر عن رجل من اصحابه وكان مقلّا؛ فخطب إليه مكثر من مال مقلّ من عقل، فشاور فيه رجلا يقال له ابو يزيد؛ فقال: لا تفعل، ولا تزوّج إلا عاقلا ديّنا؛ فإنه إن لم يكرمها لم يظلمها. ثم شاور رجلا آخر يقال له ابو العلاء، فقال له: زوّجه، فإن ما له لها وحمقه على نفسه. فزوّجه، فرأى منه ما يكره في نفسه وابنته؛ وأنشده فقال: ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ... ولهفي إذا أطعت أبا العلاء وكانت هفوة من غير ريح ... وكانت زلقة من غير ماء زواج معبد بن خالد المفضل بن محمد الضبي قال: اخبرني مسعر بن كدام عن معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد- وكان النساء يجلسن لخطّابهن- قال:

جارية لأمية وراغب في زواجها

فجئت لانظر إليها؛ وكان بيني وبيها رواق: فدعت بجفنة عظيمة من الثريد «1» مكللة باللحم، فأتت على آخرها وألقت العظام نقية، ثم دعت بشنّ عظيم مملوءة لبنا، فشربته حتى أكفأته على وجهه، وقالت: يا جارية ارفعي السجف «2» ، فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا شابة جميلة؛ فقالت: يا عبد الله، أنا أسدة، من بني أسد، وعليّ جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي؛ فعلام ترى؟ فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وإن أحببت أن تتأخر فتأخر! فقلت: أستخير الله في أمري وأنظر! قال: فخرجت ولم أعد!. جارية لأمية وراغب في زواجها قال: وحدثنا بعض اصحابنا ان جارية لأمية بن عبد الله بن خالد بن اسيد ذات ظرف وجمال، مرت برجل من بني سعد، وكان شجاعا فارسا، فلما رآها قال: طوبى لمن كانت له امرأة مثلك! ثم إنه أتبعها رسولا يسألها: ألها زوج؟ ويذكره لها؛ فقالت للرسول: ما حرفته؟ فأبلغه الرسول قولها: فقال: ارجع اليها فقل لها: وسائلة ما حرفتي؟ قلت: حرفتي ... مقارعة الابطال في كلّ شارق إذا عرضت لي الخيل يوما رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي وأصبر نفسي حين لا حرّ صابر ... على ألم البيض الرّقاق البوارق فأنشدها الرسول ما قال، فقالت له: ارجع اليه وقل له: انت أسد فاطلب لنفسك لبوة، فلست من نسائك! وأنشدت هذه الأبيات: ألا إنما أبغي جوادا بماله ... كريما محيّاه قليل الصدائق فتى همّه مذ كان خود كريمة ... يعانقها بالليل فوق النمارق «3» ويشربها صرفا كميتا مدامة ... نداماه فيها كلّ خرق موافق «4»

رجل بين زوجتين

رجل بين زوجتين يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوّج رجل امرأة حديثة على امرأة له قديمة، فكانت جارية الحديثة تمرّ على باب القديمة فتقول: وما يستوي الرّجلان رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت ثم تعود فتقول: وما يستوى الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد فمرت جارية القديمة على الحديثة فأنشدت: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما القلب إلا للحبيب الأوّل كم منزل في الارض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل المغيرة وغلام حارثي وعن الشعبي قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: ما غلبني احد قط إلا غلام من بني الحارث بن كعب، وذلك اني خطبت امرأة من بني الحارث، وعندي شاب منهم، فأصغى إليّ فقال: أيها الامير، لا خير لك فيها! قلت: يا ابن اخي ومالها؟ قال: إني رأيت رجلا يقبّلها! قال: فبرئت منها؛ فبلغني أن الفتى تزوجها قلت: ألم تخبرني انك رأيت رجلا يقبّلها؟ قال: بلى رأيت أباها يقبلها. أبو سعيد وابن سيرين في الزواج أبو سعيد قال: صحبت ابن سيرين عشرين سنة، فقال لي يوما: يا أبا سعيد إن تزوجت فلا تتزوج امرأة تنظر في يدها، ولكن تزوج امرأة تنظر في يدك.

صفات النساء وأخلاقهن

صفات النساء وأخلاقهن لعبدة بن الطبيب قال أبو عمرو بن العلاء: أعلم الناس بالنساء عبدة بن الطبيب حيث يقول: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... عليم بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهنّ نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب وهذه الابيات لعلقمة بن عبدة المعروف بالفحل وأول القصيدة: طحا بك قلب في الحسان طروب لمعاذ بن جبل وعن رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم وإني اخاف عليكم فتنة السراء؛ وهي النساء، اذا تحلين بالذهب، ولبسن ريط الشام وعصب اليمن، فأتعبن الغني، وكلّفن الفقير ما لا يطاق. وقال عبد الملك بن مروان، من أراد ان يتخذ جارية للمتعة فليتخذها بربرية ومن أراد للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد للخدمة فليتخذها رومية. لابن هبيرة وعن أبي الحسن المدائني قال: قال يزيد بن عمر بن هبيرة: اشتروا لي جارية شقّاء مقّاء رسحاء، بعيدة ما بين المنكبين، ممسوحة الفخذين. قوله: شقاء: يريد كأنها شقة جبل؛ مقاء: طويلة؛ رسحاء: صغيرة العجيزة، أرادها للولد، لان الارسح أفرس من العظيم العجيزة. وقال عمر بن هبيرة لرجل: ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيدا، ولا بأرسح فتكون فارسا.

يونس ومستشير له في زواج

وقال الاصمعي وذكر النساء: بنات العم اصبر، والغرائب انجب، وما ضرب رؤس الابطال كابن الاعجمية. يونس ومستشير له في زواج أبو حاتم عن الاصمعي عن يونس بن مصعب عن عثمان بن ابراهيم بن محمد قال: أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجا، فقلت: يا ابن أخي، أقصيرة النسب أو طويلته؟ فلم يفهم عني؛ فقلت: يا ابن اخي، إني اعرف في العين إذا عرفت، وأنكر فيها إذا انكرت، واعرف فيها إذا لم تعرف ولم تنكر، أما إذا عرفت فتتحاوص «1» ، واما اذا انكرت فتجحظ «2» ، واما اذا لم تعرف ولم تنكر فتسجو؛ وقد رأيت عينك ساجية؛ فالقصيرة النسب التي إذا ذكرت أباها اكتفت به، والطويلة النسب التي تعرف حتى تطيل في نسبتها؛ فإياك أن تقع في قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم؛ فتضيع نفسك فيهم. الوليد وعقائله وعن العتبي قال كان عند الوليد بن عبد الملك اربع عقائل: لبابة بنت عبد الله بن عباس، وفاطمة بنت يزيد بن معاوية، وزينب بنت سعيد بن العاص، وأمّ جحش بنت عبد الرحمن بن الحرث؛ فكنّ يجتمعن على مائدته ويفترقن فيفخرن فاجتمعن يوما، فقالت لبابة: اما والله إنك لتسويني بهنّ وانك تعرف فضلي عليهن! وقالت بنت سعيد: ما كنت ارى أن للفخر عليّ مجازا، وانا ابنة ذي العمامة إذ لا عمامة غيرها! وقالت بنت عبد الرحمن بن الحارث: ما احبّ بأبي بدلا، ولو شئت لقلت فصدقت وصدّقت! وكانت بنت يزيد بن معاوية جارية حديثة السن، فلم تتكلم؛ فتكلم عنها الوليد فقال نطق من احتاج إلى نفسه، وسكت من اكتفى بغيره؛ اما والله لو

للحجاج في نسوته

شاءت لقالت: أنا ابنة قادتكم في الجاهلية، وخلفائكم في الاسلام! فظهر الحديث حتى تحدّث به في مجلس ابن عباس، فقال: الله اعلم حيث يجعل رسالته. للحجاج في نسوته الشيباني عن عوانة قال: ذكر النساء عند الحجاج، فقال عندي أربع نسوة: هند بنت المهلب، وهند بنت اسماء بن خارجة، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد، وأمة الرحمن بنت جرير بن عبد الله البجلي. فأما ليلتي عند هند بنت المهلب فليلة فتى بين فتيان، يلعب ويلعبون؛ وأما ليلتي عند هند بنت اسماء فليلة ملك بين الملوك؛ وأما ليلتي عند ام الجلاس فليلة اعرابي مع اعراب في حديثهم وأشعارهم. وأما ليلتي عند امة الرحمن بنت جرير فليلة عالم بين العلماء والفقهاء. أبو الحر المخنث وعن العتبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان بالمدينة مخنث يدلّ على النساء، يقال له أبو الحر، وكان منقطعا إليّ، فدلني على غير ما امرأة أتزوجها، فلم أرض عن واحدة منهن، فاستقصرته يوما، فقال: والله يا مولاي لادلنّك على امرأة لم تر مثلها قط، فإن لم ترها كما وصفت فاحلق لحيتي! فدلني على امرأة، فتزوجتها، فلما زفت إلي وجدتها اكثر مما وصف، فلما كان في السحر إذا انسان يدق الباب، فقلت: من هذا قال: أبو الحر، وهذا الحجّام «1» معه فقلت: قد وفر الله لحيتك أبا الحر، الأمر كما قلت!. للرسول صلّى الله عليه وسلّم في مخنث ابن بكير عن مالك بن هشام بن عروة عن أبيه: ان مخنّثا كان عند أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال لعبد الله بن ابي امية ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمع: أبا عبد الله، إن

فتح الله لكم الطائف غدا فأنا أدلّك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يدخل عليكن هؤلاء. قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان، يريد عكن «1» البطن، أنها إذا أقبلت أربع، وإذا أدبرت ثمان. وضرب البعث على رجل من اهل الكوفة، فخرج إلى اذربيجان، فاقتاد جارية وفرسا، وكان مملكا بابنة عمه، فكتب إليها ليغيرها: ألا أبلغوا أمّ البنين بأننا ... غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد «2» بعيد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء كالتمثال زيّنها العقد فهذا لأيام العدوّ، وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند فلما ورد كتابه قرأته وقالت: يا غلام، هات الدواة. فكتبت إليه تجيبه: ألا أقره السلام وقل له ... غنينا- ففيقوا- بالغطارفة المرد بحمد أمير المؤمنين أقرّهم ... شبابا- وأغزاكم- خوالف في الجند إذا شئت غنّاني غلام مرجّل ... ونازعته من ماء معتصر الورد وإن شاء منهم ناشىء مدّ كفّه ... إلى كبد ملساء أو كفل نهد «3» فما كنتم تقضون من حاج أهلكم ... شهودا، قضيناها على النّأي والبعد «4» فلما ورد كتابها، لم يزد على أن ركب فرسه وأردف الجارية، والحق بها، فكان اول شيء بدأ لها به السلام أن قال: بالله هل كنت فاعلة؟ قالت: الله اجل في قلبي وأعظم، وأنت في عيني أذلّ وأحقر من أن أعصى الله فيك! فكيف ذقت طعم الغيرة؟ فوهب لها الجارية وانصرف إلى بعثه.

معاوية وابن صوحان

معاوية وابن صوحان وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: أي النساء أشهى إليك؟ قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيهنّ أبغض؟ قال: أبعدهنّ مما ترضى. قال: هذا النقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل. وقال صعصعة لمعاوية: يا أمير المؤمنين، كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان! يريد غلبة امرأته فاختة بنت قرظة عليه؛ فقال معاوية: إنهنّ يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام!. جرير البجلي وابن الخطاب وعن سفيان بن عيينة قال: شكا جرير بن عبد الله البجلي الى عمر بن الخطاب ما يلقى من النساء، فقال: لا عليك؛ فإن التي عندي ربما خرجت من عندها فتقول: إنما تريد أن تتصنع لقيان بني عدي. فسمع كلامهما ابن مسعود، فقال: لا عليكما، فإن ابراهيم الخليل شكا إلى ربه رداءة في خلق سارة، فأوحى الله إليه: أن البسها على لباسها ما لم ترد في دينها وصمة. فقال عمر: إن بين جوانحك لعلما. الحجاج وابن القرية وكتب الحجاج إلى أيوب بن القرية: أن اخطب على عبد الملك بن الحجاج امرأة جميلة من بعيد، مليحة من قريب، شريفة في قومها ذليلة في نفسها، مواتية لبعلها. فكتب إليه: قد أصبتها لولا عظم ثدييها. فكتب إليه: لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثدياها، فتدفيء الضجيع، وتروي الرضيع. ابو العباس وابن صفوان وقال أبو العباس امير المؤمنين لخالد بن صفوان: يا خالد، إن الناس قد أكثروا

ابن صفوان وامرأة

في النساء؛ فأيهنّ أعجب إليك؟ قال: أعجبهنّ يا أمير المؤمنين التي ليست بالضّرع الصغير، ولا الفانية الكبير، وحسبك من جمالها ان تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب، اعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، كانت في نعمة ثم أصابتها فاقة، فأترفها الغنى وأدّبها الفقر. ابن صفوان وامرأة ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في المسجد بالبصرة، فقال ما هذه الجماعة؟ قالوا: على امرأة تدلّ على النساء. فأتاها فقال لها: ابغني امرأة. قالت: صفها لي. قال: أريدها بكرا كثيّب، أو ثيّبا كبكر، حلوة من قريب، فخمة من بعيد؛ كانت في نعمة فأصابتها فاقة، فمعها أدب النعمة وذل الحاجة، فإذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا اهل آخرة. قالت: لقد أصبتها لك. قال: وأين هي؟ قالت: في الرفيف الاعلى من الجنة فاعمل لها!. لأعرابي في النساء وسئل اعرابي في النساء، وكان ذا تجربة وعلم بهنّ؛ فقال: أفضل النساء أطولهن إذا قامت، واعظمهن إذا قعدت، وأصدقهن إذا قالت؛ التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئا جوّدت؛ التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها؛ العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود. غطفاني وعبد الملك وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان: صف لي أحسن النساء. فقال: خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين، ردماء «1» الكعبين، مملوءة الساقين، جماء الركبتين، لفّاء الفخذين، مقرمدة الرفغين «2» ، ناعمة الاليتين، منيفة المأكمتين «3» ،

فعمة العضدين، فخمة الذراعين، رخصة الكفين، ناهدة الثديين، حمراء الخدين، كحلاء العينين، زجّاء الحاجبين، لمياء الشفتين، بلجاء الجبين، شمّاء العرنين «1» شنباء الثغر، حالكة الشعر، غيداء العنق، عيناء العينين، مكسّرة البطن، ناتئة الركب. فقال: ويحك! وأنّى توجد هذه؟ قال: تجدها في خالص العرب، او في خالص الفرس. وقال رجل لخاطب: ابغني امرأة لا تؤنس جارا، ولا توهن دارا، ولا تثقب نارا. يريد: لا تدخل على الجيران، ولا يدخل عليها الجيران، ولا تغري بينهم بالشر. وفي نحو هذا يقول الشاعر: من الاوانس مثل الشمس لم يرها ... في ساحة الدار لا بعل ولا جار وقال الاعشى: لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولا ترى الشمس إلا دونها الكلل وقال آخر: ابغني امرأة بيضاء مديدة، فرعاء جعدة؛ تقوم فلا يصيب قميصها منها إلا مشاشة منكبيها، وحلمتي ثدييها، ورانفتي أليتيها. وقال الشاعر: أبت الروادف والثّديّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا وإذا الرّياح مع العشيّ تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا ولآخر: إذا انبطحت فوق الاثافي رفعنها ... بثديين في نحر عريض وكعثب «2»

من أخبار عائشة بنت طلحة

ونظر عمران بن حطان إلى امرأته، وكانت من أجمل النساء وكان من أقبح الرجال؛ فقال: إني وإياك في الجنّة إن شاء الله! قالت له: كيف ذاك؟ قال: إني أعطيت مثلك فشكرت، وأعطيت مثلي فصبرت. من أخبار عائشة بنت طلحة ونظر ابو هريرة إلى عائشة بنت طلحة؛ فقال: سبحان الله! ما احسن ما غذاك اهلك! والله ما رأيت وجها أحسن منك، إلا وجه معاوية على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان معاوية من احسن الناس وجها. ونظر ابن أبي ذئب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالبيت، فقال لها: من أنت؟ فقالت: من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا فقال لها: صان الله ذلك الوجه عن النار! فقيل له: أفتنتك أبا عبد الله؟ قال: لا، ولكن الحسن مرحوم. وقال يونس: اخبرني محمد بن إسحاق، قال: دخلت على عائشة بنت طلحة، فوجدتها متكئة ولو ان بختية «1» نوخت خلفها ما ظهرت! السرّي بن إسماعيل عن الشعبي، قال: إني لفي المسجد نصف النهار، إذ سمعت باب القصر يفتح؛ فإذا بمصعب بن الزبير ومعه جماعة، فقال: يا شعبي اتبعني. فاتبعته؛ فأتى دار موسى بن طلحة، فدخل مقصورة، ثم دخل اخرى، ثم قال: يا شعبي اتبعني؛ فاتبعته؛ فإذا امرأة جالسة، عليها من الحليّ والجواهر ما لم أر مثله، ولهي أحسن من الحلي الذي عليها؛ فقال: يا شعبيّ، هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر: وما زلت من ليلى لدن طرّ شاربي ... إلى اليوم أخفي حبّها وأداجن «2» وأحمل في ليلى لقوم ضغينة ... وتحمل في ليلى عليّ الضّغائن»

زواج عمرو بن حجر من بنت عوف

هذه عائشة ابنة طلحة، فقالت له: أما إذ جلوتني عليه فأحسن إليه! فقال: يا شعبي، رح العشية [الى المسجد] فرحت، فقال: يا شعبي، ما ينبغي لمن جليت عليه عائشة بنت طلحة أن ينقص عن عشرة آلاف، فأمر لي بها! وبكسوة، وقارورة غالية، فقيل للشعبي في ذلك اليوم: كيف الحال! قال: وكيف حال من صدر عن الامير ببدرة، وكسوة، وقارورة غالية، ورؤية وجه عائشة بنت طلحة. زواج عمرو بن حجر من بنت عوف وكان عمرو بن حجر ملك كندة- وهو جد امريء القيس- أراد ان يتزوج ابنة عوف بن محلّم الشيباني، الذي يقال فيه: «لا حرّ بوادي عوف» لإفراط عزه، وهي أم إياس، وكانت ذات جمال وكمال؛ فوجه إليها امرأة يقال لها عصام، لتنظر إليها وتمتحن ما بلغه عنها: فدخلت على امها امامة ابنة الحرث: فأعلمتها ما قدمت له، فأرسلت إلى ابنتها [فقالت] : أي بنية، هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك؛ فلا تستري عنها شيئا ارادت النظر اليه، من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عصام عليها، فنظرت إلى ما لم تر عينها مثله قطّ، بهجة وحسنا وجمالا، وإذا هي أكمل الناس عقلا، وأفصحهم لسانا؛ فخرجت من عندها وهي تقول: «ترك الخداع من كشف القناع» . فذهبت مثلا، ثم اقبلت إلى الحرث، فقال لها: «ما وراءك يا عصام» ؟ فأرسلها مثلا. قالت: «صرّح المخض عن الزبد» . فذهبت مثلا. قال: أخبريني: قالت أخبرك صدقا وحقا: رأيت جبهة كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلالها الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطّا بقلم، أو سوّدا بحمم، قد تقوّسا على مثل عين العبهرة «1» التي لم يرعها قانص ولم يذرعها قسورة، بينهما أنف كحد السيف الصمقول، لم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفّت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان،

صفة المرأة السوء

شق فيه فم كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غرّ، ذوات أشر، وأسنان تبدو كالدر، وريق كالخمر، له نشر الروض بالسحر، يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يقلّبه به عقل وافر، وجواب حاضر، تلتقي دونه شفتان حمراوان كالورد، يجلبان ريقا كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركّب في صدر تمثال دمية يتصل به عضدان ممتلئان لحما، مكتنزان شحما، وذراعان ليس فيهما عظم يحس، ولا عرق يجس، ركبت فيهما كفان دقيق قصبهما، ليّن عصبهما، تعقد إن شئت منهما الانامل، وتركّب الفصوص في حفر المفاصل، وقد تربع في صدرها حقان كأنهما رمانتان، [يخرقان عليها نيابها] ، من تحته بطن طوي كطيّ الطباطيّ المدمجة، كسى عكنا كالقراطيس المدرجة، تحيط تلك العكن بسرّة كمدهن العاج المجلوّ، كسى عكنا كالقراطيس المدرجة، تحيط تلك العكن بسرّة كمدهن العاج المجلوّ، خلف ذلك ظهر كالجدول ينتهي الى خصر لولا رحمة الله لا نخزل، تحته كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص «1» رمل، لبّده سقوط الطل، يحمله فخذان لفاوان، كأنهما نضيد الجمان، تحملها ساقان خدلّجتان «2» كالبردى وشّيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزرد، ويحمل ذلك قدمان كحذو اللسان، تبارك الله، مع صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما، فأما ما سوى ذلك فتركت أن أصفه غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر. قال: فأرسل إلى أبيها يخطبها، فكان من أمرهما ما تقدّم ذكره في صدر هذا الكتاب. صفة المرأة السوء قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إياكم وخضراء الدّمن» . يريد الجارية الحسناء في المنبت السوء.

ابن قتيبة بين امرأة وزوجها

وفي حكمة داود: «المرأة السوء مثل شرك الصياد، لا ينجو منها إلا من رضي الله عنه» . الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال عمر بن الخطاب: النساء ثلاثة: هينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على اهلها. واخرى وعاء للولد. وثالثة غل قمل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده. وقيل لاعرابي عالم بالنساء: صف لنا شر النساء. قال شرّهنّ النحيفة الجسم القليلة اللحم، الطويلة السقم، المحياض الممراض الصفراء، المشئومة العسراء، السليطة الذّفراء، السريعة الوثبة، كأن لسانها حربة، تضحك من غير عجب، وتقول الكذب، وتدعو على زوجها بالحرب، أنف في السماء، واست في الماء. وفي رواية محمد بن عبد السلام الخشني قال: إياك وكل امرأة مذكرة منكرة، حديدة العرقوب «1» ؛ بادية الظّنبوب «2» ، منتفخة الوريد، كلامها وعيد، وصوتها شديد؛ تدفن الحسنات، وتفشي السيئات؛ تعين الزمان على بعلها، ولا تعين بعلها على الزمان؛ ليس في قلبها له رأفة، ولا عليها منه مخافة؛ إن دخل خرجت، وان خرج دخلت، وإن ضحك بكت، وإن بكى ضحكت؛ وإن طلقها كانت حرفته، وإن أمسكها كانت مصيبته؛ سفعاء ورهاء «3» ، كثيرة الدعاء قليلة الإرعاء، تأكل لمّا، وتوسع ذما؛ صخوب غضوب، بذيّة دنية؛ ليس تطفأ نارها، ولا يهدأ إعصارها؛ ضيقة الباع، مهتوكة القناع، صبيها مهزول؛ وبيتها مزبول، إذا حدثت تشير بالاصابع، وتبكي في المجامع، بادية من حجابها، نباحة على بابها، تبكي وهي ظالمة، وتشهد وهي غائبة، قد دلّي لسانها بالزور، وسال دمعها بالفجور. ابن قتيبة بين امرأة وزوجها نافرت امرأة فضالة زوجها إلى مسلم بن قتيبة، وهو والي خراسان فقالت: أبغضه

والله لخلال فيه. قال: وما هي؟ قالت: قليل الغير، سريع الطيرة، شديد العتاب، كثير الحساب، قد أقبل بخره، وأدبر ذفره، وهجمت عيناه، واضطربت رجلاه، يفيق سريعا، وينطق رجيعا، يصبح حلسا، ويمسي رجسا، إن جاع جزع، وإن شبع جشع. ومن صفة المرأة السوء يقال: امرأة سمعنّة نظرنّة؛ وهي التي إذا تسمّعت أو تبصّرت فلم تر شيئا تظنّته تظنّيا. قال أعرابي: إنّ لنا لكنّه ... سمعنّة نظرنّه معنّة مفنّه ... كالرّيح حول القنّه إلّا تره تظنّه وقال يزيد بن عمر بن هبيرة: لا تنكحنّ برشاء، ولا عمشاء، ولا وقصاء «1» ، ولا لثغاء؛ فيجيئك ولد ألثغ؛ فو الله لولد أعمى أحبّ من ولد ألثغ. وقال: آخر عمر الرجل خير من أوّله؛ يثوب حلمه، وتثقل حصاته، وتحمد سريرته، وتكمل تجاربه، وآخر عمر المرأة شر من أوله؛ يذهب جمالها، ويذرب لسانها، وتعقم رحمها، ويسوء خلقها. وعن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قال لك احد: تزوجت نصفا؛ فاعلم ان شر النصفين ما بقي في يده! وأنشد: وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإنّ أطيب نصفيها الذي ذهبا وقال الحطيئة في امرأته: أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع «2»

علامة الحب والبغض

وقال في أمّه: تنحّي فاجلسي منّي بعيدا ... أراح الله منك العالمينا أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسرّ الصالحينا وقال زيد بن عمير في أمته: أعاتبها حتى إذا قلت اقلعت ... أبى الله إلّا خزيها فتعود فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهي أبدا يزنى بها وتقود علامة الحب والبغض ويقال: إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها، فعلامة ذلك ان تكون عند قربه منها مرتدة الطرف عنه، كأنها تنظر إلى انسان غيره؛ وإذا كانت محبة له، لا تقلع عن النظر إليه. وقال آخر يصف امرأة لثغاء: أوّل ما أسمع منها في السّحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر والسوءة السوءاء في ذكر القمر ولآخر في زوجته: لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السّوء باق معمّر فياليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذّبها فيه نكير ومنكر عبد الملك وابن زنباع كان روح بن زنباع أثيرا عند عبد الملك، فقال له يوما: أرأيت امرأتي العبشمية؟ قال: نعم. قال: بماذا شبهتها؟ قال: بمشجب بال قد أسىء صنعه. قال: صدقت، وما صنعت يدي عليها قط إلا كأني وضعتها على الشّكاعي «1» ، وأنا أحب أن تقول ذلك

ابن زنباع وزوجه

إلى ابنيها الوليد وسليمان! فقام إليه فزعا فقبل يده ورجله، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أن لا تعرّضني لهما! قال: ما من ذلك بد! وبعث من يدعوهما؛ فاعتزل روح وجلس ناحية من البيت؛ فقال لهما [عبد الملك] : أتدريان لم بعثت إليكما؟ إنما بعثت لتعرفا لهذا الشيخ حقّه وحرمته! ثم سكت. ابن زنباع وزوجه أبو الحسن المدائني: كان عند روح بن زنباع، هند بنت النعمان بن بشير، وكان شديدة الغيرة، فأشرفت يوما تنظر إلى وفد جذام [إذ] كانوا عنده، فزجرها؛ فقال: والله إني لابغض الحلال من جذام؛ فكيف تخافي على الحرام فيهم. وقالت له يوما: عجبا منك! كيف يسودك قومك؛ وفيك ثلاث خلال: أنت من جذام. وأنت جبان. وأنت غيور؟ فقال لها: اما جذام فإني في ارومتها، وحسب الرجل ان يكون في ارومة قومه؛ وأما الجبن فإني مالي إلا نفس واحدة، فأنا احوطها؛ فلو كانت لي نفس اخرى جدت بها؛ واما الغيرة فأمر لا أريد ان أشارك فيه، وحقيق بالغيرة من كانت عنده حمقاء مثلك، مخافة أن تأتيه بولد من غيره فتقذفه في حجره! فقالت: وهل هند إلّا مهرة عربيّة ... سليلة أفراس تجلّلها بغل فإن أنجبت مهرا عريقا فبالحرى ... وإن يك إقراف فما أنجب الفحل رجل وامرأة تخطب له وعن الاصمعي قال: قال ابو موسى: جاءت امرأة إلى رجل تدله على امرأة يتزوجها، فقال: أقول لها لمّا أتتني تدلّني ... على امرأة موصوفة بجمال أصبت لها والله زوجا كما اشتهت ... إن احتملت منه ثلاث خصال فمنهنّ عجز لا ينادي وليده ... ورقّة إسلام وقلّة مال

صفة الحسن

صفة الحسن عن ابي الحسن المدائني قال: الحسن أحمر، وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن «1» والتضمّخ بالطيب، كما تضرب بيضة الادحيّ واللؤلؤة المكنونة؛ وقد شبه الله عز وجل في كتابه فقال: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ «2» . وقال الشاعر: كأنّ بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهنّ قيظ ليله ومد وقال آخر: مروزيّ الأديم تغمره الصّف ... رة حينا لا يستحق اصفرار وجرى من دم الطبيعة فيه ... لون ورد كسا البياض احمرار وقالت امرأة خالد بن صفوان له: لقد أصبحت جميلا! فقال لها: وما رأيت من جمالي، وما فيّ رداء الحسن ولا عموده ولا برنسه؟ قالت: وكيف ذلك؟ قال: عمود الحسن الشّطاط «3» ، ورداؤه البياض، وبرنسه سواد الشعر. وقالوا: إن الوجه الرقيق البشرة الصافي الاديم، إذا خجل يحمرّ وإذا فرق يصفر. ومنه قولهم: ديباج الوجه؛ يريدون تلوّنه. وقال عديّ بن زيد يصف لون الوجه: حمرة خلطت صفرة في بياض ... مثل ما حاك حائك ديباجا «4» وقال: إن الجارية الحسناء تتتلون بلون الشمس، فهي بالضحى بيضاء، وبالعشي صفراء.

ومن قولهم في الجارية

وقال الشاعر: بيضاء ضحوتها وصف ... راء العشيّة كالعراره «1» وقال ذو الرمة: بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب ومن قولنا: بيضاء يحمرّ خدّاها إذا خجلت ... كما جرى ذهب في صفحتي ورق ومن قولنا: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّا يعود من الحياء عقيقا ومن قولنا: كم شادن لطف الحياء بوجهه ... فأصاره وردا على وجناته ومن قولنا: عقائل كالآرام أما وجوهها ... فدرّ ولكنّ الخدود عقيق ومن قولهم في الجارية جميلة من بعيد، مليحة من قريب؛ فالجميلة التي تأخذ بصرك جملة على بعد، فإذا دنت لم تكن كذلك؛ والمليحة التي كلما كرّرت فيها بصرك زادتك حسنا. وقال بعضهم: الجميلة السمينة، من الجميل، وهو الشحم، والمليحة أيضا من الملحة، وهو البياض، والصبيحة مثل ذلك، يشبهونا بالصبح في بياضه.

المنجبات من النساء

المنجبات من النساء قالوا: أنجب النساء الفروك «1» ، وذلك أن الرجل يغلبها على الشبق، لزهدها في الرجل. أبو حاتم عن الأصمعي قال: النجيبة التي تنزع بالولد إلى أكرم العرقين. وقال عمر بن الخطاب: يا بني السائب، إنكم قد أضويتم «2» ، فانكحوا في النزائع «3» . وقالت العرب: بنات العمّ اصبر، والغرائب أنجب. والعرب تقول: اغتربوا لا تضووا: أي أنكحوا في الغرائب، فإن القرائب يضوين «4» البنين. وقالوا: إذا أردت أن يصلب ولد المرأة فأغضبها ثم قع عليها؛ وكذلك الفزعة. وقال الشاعر: ممن حملن وهنّ عواقد ... حبك النّطاق فشبّ غير مهبّل حملت به في ليلة مزءودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل قالت أم تأبط شرا: والله ما حملته تضعا ولا وضعا، ولا وضعته يتنا، ولا أرضعته غيلا، ولا أنمته مئقا. حملته وضعا وتضعا: وهي ان تحمله في مقبل الحيض. ووضعته يتنا: وضعته منكسا، تخرج رجلاه قبل رأسه. وأرضعته غيلا: أرضعته لبنا فاسدا، وذلك ان ترضعه وهي حامل. وأنمته مئقا. اي مغضبا مغتاظا.

من أخبار النساء

ومن امثال العرب قولهم: أنا مئق وأنت نئق، فلا نتفق. المئق: المغضب المغتاظ. والنئق: الذي لا يحتمل شيئا. من أخبار النساء لابن أبي ربيعة في مقتل زوجة المختار : لما قتل مصعب بن الزبير ابنة النعمان بن بشير الأنصارية، زوجة المختار ابن أبي عبيد، أنكر الناس ذلك عليه وأعظموه؛ لأنه أتى بما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه في نساء المشركين؛ فقال عمر بن أبي ربيعة: إنّ من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول «1» قتلت باطلا على غير ذنب ... إنّ لله درّها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول «2» الخوارج وامرأة أرادوا قتلها : ولما خرجت الخوارج بالأهواز، أخذوا امرأة فهمّوا بقتلها؛ فقالت لهم: أتقتلون من ينشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. فأمسكوا عنها. باب الطلاق الرشيد والأصمعي محمد بن الغار قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد ابن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول: توصّلت بالملح، وأدركت بالغريب.

المغيرة وزوجته فارعة

وقال عمي للرشيد في بعض حديثه: بلغني يا أمير المؤمنين أن رجلا من العرب طلق في يوم خمس نسوة! قال إنما يجوز ملك الرجل على أربع نسوة؛ فكيف طلق خمسا؟ قال: كان لرجل أربع نسوة، فدخل عليهنّ يوما فوجدهنّ متلاحيات متنازعات- وكان شنطيرا «1» ، فقال: إلى متى هذا التنازع؟ ما إخال هذا الأمر إلا من قبلك- يقول ذلك لامرأة منهن- اذهبي فأنت طالق! فقالت له صاحبتها: عجلت عليها بالطلاق، ولو أدّبتها بغير ذلك لكنت حقيقا! فقال لها: وأنت أيضا طالق! فقالت له الثالثة: قبحك الله! فو الله لقد كانتا إليك محسنتين، وعليك مفضلتين! فقال: وأنت أيتها المعدّدة أياديهما طالق أيضا! فقالت له الرابعة، وكانت هلالية وفيها أناة شديدة: ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلا بالطلاق! فقال لها: وأنت طالق أيضا! وكان ذلك بمسمع جارة له، فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه، فقالت: والله ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم، أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة! قال: وأنت أيضا أيتها المؤنّبة المتكلفة طالق، إن أجاز زوجك! فأجابه من داخل بيته: قد أجزت! قد أجزت. المغيرة وزوجته فارعة : ودخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة الثقفية وهي تتخلل حين انفتلت من صلاة الغداة؛ فقال لها: لئن كنت تتخللين من طعامك اليوم إنك لجشعة، وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لشبعة، كنت فبنت «2» ، فقالت: والله ما اغتبطنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنّا، وما هو لشيء مما ذكرت، ولكني استكت «3» فتخللت لسواك؛ فخرج المغيرة نادما على ما كان منه، فلقيه يوسف بن أبي عقيل فقال له: إني نزلت الآن عن سيدة نساء ثقيف؛ فتزوجها فإنها ستنجب؛ فتزوجها فولدت له الحجاج.

الحسن وعائشة بنت طلحة

الحسن وعائشة بنت طلحة : وقال الحسن بن علي بن حسين لامرأته عائشة بنت طلحة: أمرك بيدك! فقالت: قد كان عشرين سنة بيدك فأحسنت حفظه، فلم أضيعه إذ صار بيد ساعة واحدة؛ وقد صرفته إليك! فأعجبه ذلك منها وأمسكها. لرجل في طلاق امرأته : وقال أبو عبيدة: طلق رجل امرأته وقال: لقد طلّقت أخت بني غلاب ... طلاقا ما أظنّ له ارتدادا ولم أك كالمعدل أو أويس ... إذا ما طلقا ندما فعادا قال أبو عبيدة: وطلاق المعدّل وأويس يضرب به المثل. لآخر في مثله : ونكح رجل امرأة من عديّ، فلما اهتداها رأت ربع داره أحسن ربع، وشمل عياله أجمع شمل؛ فقالت: أما والله لئن بقيت لهم لأشتّتن أمرهم! وقالت في ذلك: أرى نارا سأجعلها إرينا ... وأترك أهلها شتّى عزينا فلما انتهى ذلك إلى زوجها طلقها، وقال في ذلك: ألا قالت هديّ بني عديّ ... أرى نارا سأجعلها إرينا «1» فبيني قبل أن تلحي عصانا ... ويصبح أهلنا شتى عزينا وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد كواكب الجوزاء! وقيل لأعرابي: هل لك في النكاح؟ قال: لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها.

ابن زبان والزبير

وعن الزهري قال: قال أبو الدرداء لامرأته: إذا رأيتني غضبت فترضيّني، وإن رأيتك غضبت ترضّيتك، وإلا لم نصطحب! قال الزهري: وهكذا تكون الإخوان. قال الأصمعي: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة ائذني له. فتقول: ادخل. فاستأذنت عليه مرارا فلم أسمعه يذكر أمامة؛ فقلت: يرحكم الله، ما أسمعك تذكر أمامة؛ قال: فوجم وجمة، فندمت على ما كان مني، ثم أنشأ يقول: ظعنت أمامة بالطلاق ... ونجوت من غلّ الوثاق «1» بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي «2» لو لم يرح بطلاقها ... لأرحت نفسي بالإباق ودواء ما لا تشتهي ... هـ النفس تعجيل الفراق والعيش ليس يطيب من ... إلفين من غير اتّفاق وعن الشيباني قال: طلق أبو موسى امرأته وقال فيها: تجهّزي للطلاق وارتحلي ... فذا دواء المجانب الشرس ما أنت بالحنّة الودود ولا ... عندك نفع يرجى لملتمس «3» لليلتي حين بنت طالقة ... ألذّ عندي من ليلة العرس بتّ لديها بشرّ منزلة ... لا أنا في لذّة ولا أنس تلك على الخسف لا نظير لها ... وإنني ما يسوغ لي نفسي ابن زبان والزبير : أقبل منظور بن زبّان بن سيار الفزاري إلى الزبير فقال: إنما زوّجناك ولم نزوّج عبد الله! قال: ما له؟ قال: إنها تشكوه. قال: يا عبد الله طلّقها! قال عبد الله: هي طالق! قال ابن منظور: أنا ابن قهدم. قال الزبير: أنا ابن صفية أتريد أن يطلق

خديجة بين محمد وإبراهيم

المنذر أختها؟ قال: لا، تلك راضية بموضعها. خديجة بين محمد وإبراهيم : وتزوج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان خديجة بنت عروة ابن الزبير، فذكر لها جماله- وكان يقال له المذهب من حسنه، وكان رجلا مطلاقا- فقالت: محمد هو الدنيا لا يدوم نعيمها. فلما طلقها خطبها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي؛ فكتب إليها: أعيذك بالرحمن من عيش شقوة ... وأن تطمعي يوما إلى غير مطمع إذا ما ابن مظعون تحدّر وسقه ... عليك فبوئي بعد ذلك أو دعي «1» فردّته ولم تتزوجه. الحجاج وزواجه بابنة جعفر : وعن العتبي عن أبيه قال: أمهر الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر تسعين ألف دينار فبلغ ذلك خالد بن يزيد بن معاوية، فأمهل عبد الملك، حتى إذا أطبق الليل دق عليه الباب؛ فأذن له عبد الملك، ودخل عليه فقال له: ما هذا الطروق أبا يزيد؟ قال: أمر والله لم ينتظر له الصبح، هل علمت أن أحدا كان بينه وبين من عادى ما كان بين آل أبي سفيان وآل الزبير بن العوام؟ فإني تزوجت إليهم، فما في الأرض قبيلة من قريش أحبّ إليّ منهم؛ فكيف تركت الحجاج وهو سهم من سهامك يتزوج إلى بني هاشم، وقد علمت ما يقال فيهم في آخر الزمان؟ قال: وصلتك رحم. وكتب إلى الحجاج يأمره بطلاقها وألا يراجعه في ذلك. فطلقها. فأتاه الناس يعزونه، وفيهم عمرو بن عتبة؛ فجعل الحجاج يقع بخالد ويتنقّصه، ويقول: إنه صيّر الأمر إلى من هو أولى به منه، وإنه لم يكن لذلك أهلا!

من طلق امرأته ثم تبعتها نفسه

فقال له عمرو بن عتبة: إن خالدا أدرك من قبله، وأتعب من بعده، وعلم علما فسلّم الأمر إلى أهله، ولو طلب بقديم لم يغلب عليه، أو بحديث لم يسبق إليه. فلما سمعه الحجاج استحى، فقال: يا بن عتبة، إنا نسترضيكم بأن نعتب عليكم، ونستعطفكم بأن ننال منكم؛ وقد غلبتم على الحلم فوثقنا لكم به، وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا فتعرّضنا للذي تحبون. من طلق امرأته ثم تبعتها نفسه بين العريان وبنت عمران : الهيثم بن عدي قال: كانت تحت العريان بن الأسود بنت عمّ له، فطلّقها، فتبعتها نفسه؛ فكتب إليها يعرّض لها بالرجوع؛ فكتبت إليه. إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بدلا ... إنّ الغزال الذي ضيّعت مشغول فكتب إليها: من كان ذا شغل فالله يكلؤه ... وقد لهونا به والحبل موصول وقد قضينا من استطرافه طرفا ... وفي الليالي وفي أيّامها طول! الوليد وزوجته سعدى : وطلق الوليد بن يزيد امرأته سعدى، فلما تزوجت اشتد ذلك عليه، وندم على ما كان منه؛ فدخل عليه أشعب، فقال له: أبلغ سعدى عني رسالة، ولك مني خمسة آلاف درهم! فقال: عجّلها! فأمر له بها؛ فلما قبضها قال: هات رسالتك. فأنشده: أسعدى ما إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق؟ بلى، ولعل دهرا أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو فراق فأتاها فاستأذن، فدخل عليها. فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب؟ فقال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة. وأنشدها الشعر؛ فقالت لجواريها: خذن هذا

ابن أبي بكر وامرأته

الخبيث! فقال: يا سيدتي، إنه جعل لي خمسة آلاف درهم! قالت: والله لأعاقبنك أو لتبلغن إليه ما أقول لك. قال: سيدتي، اجعلي لي شيئا، قالت: لك بساطي هذا. قال: قومي عنه! فقامت عنه وألقاه على ظهره، وقال: هاتي رسالتك. فقالت: أنشده. أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع فلما بلغه وأنشده الشعر، سقط في يده وأخذته كظمة، ثم سرّي عنه، فقال: اختر واحدة من ثلاث: إما أن نقتلك، وإما أن نطرحك من هذا القصر، وإما أن نلقيك إلى هذه السّباع! فتحير أشعب وأطرق حينا؛ ثم رفع رأسه فقال: يا سيدي، ما كنت لتعذّب عينين نظرتا إلى سعدى! فتبسم وخلى سبيله. ابن أبي بكر وامرأته : وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه، عبد الرحمن بن أبي بكر: أمره أبوه بطلاقها، ثم دخل عليه فسمعه يتمثل: فلم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء تطلّق فأمره بمراجعتها. الفرزدق ونوار : وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه، الفرزدق الشاعر: طلق النّوار، ثم ندم في طلاقها وقال: ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت منّي مطلّقة نوار وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار «1» فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... بأمر ليس لي فيه خيار

من أخبار النوار

من أخبار النوار : وكانت النوار بنت عبد الله قد خطبها رجل رضيته، وكان وليّها غائبا، وكان الفرزدق وليّها إلا أنه كان أبعد من الغائب؛ فجعلت أمرها إلى الفرزدق، وأشهدت له بالتفويض إليه؛ فلما توثّق منها بالشهود، أشهدهم أنه قد زوّجها من نفسه! فأبت منه ونافرته إلى عبد الله بن الزبير؛ فنزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله [ابن الزبير] ، ونزلت النوار على زوجة عبد الله بن الزبير، وهي بنت منظور ابن زبان،؛ فكان كل ما أصلح حمزة من شأن الفرزدق نهارا أفسدته المرأة ليلا؛ حتى غلبت المرأة وقضي ابن الزبير على الفرزدق؛ فقال: أمّا البنون فلم تقبل شفاعتهم ... وشفّعت بنت منظور بن زبّانا ليس الشّفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا وقال الفرزدق في مجلس ابن الزبير: وما خاصم الأقوام من ذي خصومة ... كورهاء مدنو إليها خليلها «1» فدونكها يا بن الزبير فإنها ... ملعّنة يوهي الحجارة قيلها فقال ابن الزبير: إن هذا شاعر، وسيهجوني؛ فإن شئت ضربت عنقه وإن كرهت ذلك؛ فاختاري نكاحه وقرّي. فقرّت واختارت نكاحه، ومكثت عنده زمانا، ثم طلقها وندم في طلاقها. وعن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخروم عن رواية الفرزدق، قال: قال لي الفرزدق يوما: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النوار! فقلت له: إني أخاف أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه. قال: انهض بنا. فجئنا حتى وقفنا على الحسن، فقال [الفرزدق] : كيف أصبحت أبا سعيد؟ قال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس؟ فقال: تعلمنّ أني طلقت النوار ثلاثا! قال الحسن

قيس بن ذريح وطلاق امرأته

وأصحابه: قد سمعنا فانطلقنا، فقال لي الفرزدق: يا هذا، إن في نفسي من النوار شيئا! فقلت: حذرتك! فقال: ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت مني مطلّقة نوار وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار ولو أني ملكت بها يميني ... لكان عليّ للقدر الخيار قيس بن ذريح وطلاق امرأته : وممن طلق امرأته وتبعتها نفسه، قيس بن الذريح؛ وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها وندم؛ فقال في ذلك: فواكبدي على تسريح لبنى ... فكان فراق لبنى كالخداع تكنفّني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمر وليس بمستطاع كمغبون يعضّ على يديه ... تبيّن غبنه بعد البياع وطلق رجل امرأته، فقالت: أبعد صحبة خمسين سنة؟ فقال: مالك عندنا ذنب غيره! ابن أم الحكم بين رجل وامرأته : العتبي قال: جاء رجل بامرأة كأنها برج فضة، إلى عبد الرحمن بن أم الحكم وهو على الكوفة، فقال: إن امرأتي هذه شجّتني! فقال لها: أنت فعلت به؟ قالت: نعم، غير متعمّدة لذلك؛ كنت أعالج طيبا، فوقع الفهر من يدي على رأسه؛ وليس عندي عقل، ولا تقوى يدي على القصاص! فقال عبد الرحمن للرجل: يا هذا، علام تحبسها وقد فعلت بك ما أرى؟ قال: أصدقتها أربعة آلاف درهم، ولا تطيب نفسي بفراقها! قال: فإن أعطيتها لك أتفارقها؟ قال: نعم. قال: فهي لك. قال: هي طالق إذا! فقال عبد الرحمن: احبسي علينا نفسك. ثم أنشأ يقول:

في مكر النساء وغدرهن

يا شيخ ويحك من دلّاك بالعزل ... قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل رضت الصّعاب فلم تحسن رياضتها ... فاعمد لنفسك نحو الجلّة الذّلل في مكر النساء وغدرهنّ في حكمة داود عليه السلام؛ وجدت من الرجال واحدا في ألف، ولم أجد واحدة في النساء جميعا. الغنائي والكندي وهند : وقال الهيثم بن عدي: غزا الغسانيّ الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فلم يصبه في منزله، فأخذ ما وجد له واستاق امرأته؛ فلما أصابها أعجبت به، فقالت له: انج، فو الله لكأني أنظر إليه يتبعك فاغرا فاه كأنه بعير آكل مرار! وبلغ الحارث، فأقبل يتبعه حتى لحقه فقتله، وأخذ ما كان معه وأخذ امرأته، فقال لها: هل أصابك؟ قالت: نعم والله ما اشتملت النساء على مثله قط! فأمر بها فأوقفت بين فرسين، ثم استحضرهما حتى تقطعت. ثم قال: كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الودّ حبّها خيثعور «1» إن من غرّه النّساء بودّ ... بعد هند لجاهل مغرور» وقالت الحكماء: لا تثق بامرأة، ولا تغترّ بمال وإن كثر. وقالوا: النساء حبائل الشيطان. وقال الشاعر: تمتّع بها ما ساعفتك، ولا تكن ... جزوعا إذا بانت، فسوف تبين وصنها وإن كانت تفي لك، إنها ... على مدد الأيام سوف تخون وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لآخر من طلّابها ستلين

السلولي وامرأة خطبها

وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين «1» وإن أسبلت يوم الفراق دموعها ... فليس لعمر الله ذاك يقين وقالت الحكماء: لم تنه امرأة قط عن شيء إلا فعلته. وقال طفيل الغنوي: إنّ النّساء متى ينهين عن خلق ... فإنه واقع لا بدّ مفعول وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أرسل عبد الله بن همام السلولي شابّا إلى امرأة ليخطبها عليه. فقالت له: فما يمنعك أنت؟ فقال لها: ولي طمع فيك! قالت: ما عنك رغبة! فتزوجها؛ ثم انصرف إلى ابن همام، فقال له: ما صنعت؟ قال والله ما تزوجتني إلا بعد شرط! قال: أو لهذا بعثتك؟ فقال ابن همام في ذلك: رأت غلاما على شرط الطّلابة لا ... يعيا بإرقاص برديّ الخلاخيل مبطّنا بدخيس اللحم تحسبه ... مما يصوّر في تلك التّماثيل «2» أكفا من الكفء في عقد النّكاح وما ... يعيا به حلّ هميان السّراويل تركتها والأيامى غير واحدة ... فاحبسه عن بيتها يا حابس الفيل السلولي وامرأة خطبها : وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش، قال: كان النساء يجلسن لخطابهن، فكانت امرأة من بني سلول تخطب، وكان عبد الله بن همام السلولي يخطبها؛ فإذا دخل عليها تقول له: فداك أبي وأمي! وتقبل عليه تحدثه، وكان شاب من بني سلول يخطبها، فإذا دخل عليها الشاب وعندها عبد الله بن همام قالت للشاب قم إلى النار! وأقبلت بوجهها وحديثها على عبد الله؛ ثم إن الشاب تزوّجها، فلما بلغ ذلك عبد الله بن همام قال:

في السراري

أودى بحبّ سليمى فاتك لقن ... كحيّة برزت من بين أحجار إذا رأتني تفدّيني وتجعله ... في النار، يا ليتني المجعول في النار وله فيها: ماذا تظنّ سليمى إن ألمّ بها ... مرجّل الرأس ذو بردين مزّاح «1» حلو فكاهته، خزّ عمامته ... في كفّه من رقى الشيطان مفتاح! «2» في السراري إبراهيم عليه السلام وهاجر : تسرّى الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر، فولدت له إسماعيل عليه السلام. وتسرّى النبي عليه الصلاة والسلام مارية القبطية، فولدت له إبراهيم. ولما صارت إليه صفية بنت حيّ، كان أزواجه يعيّرنها باليهودية، فشكت ذلك إليه، فقال لها: أما إنك لو شئت لقلت فصدقت وصدّقت: أبي إسحاق، وجدّي إبراهيم، وعمي إسماعيل، وأخي يوسف. هشام وزيد بن علي : ودخل زيد بن عليّ على هشام بن عبد الملك، فقال له [هشام] : بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة! فقال له: أما قولك إني أحدّث نفسي بالخلافة فلا يعلم الغيب إلا الله، وأما قولك إني ابن أمة، فإسماعيل ابن أمة، أخرج الله من صلبه خير البشر محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وإسحاق بن حرّة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير.

الرغبة في السراري

الرغبة في السراري : قال الأصمعي: وكان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء، حتى نشأ منهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد [بن أبي بكر] ، وسالم بن عبد الله [بن عمر] ؛ ففاقوا أهل المدينة فقها وعلما وورعا؛ فرغب الناس في السراري. عبد الملك وابن الحسين في جارية تزوجها : وتزوج علي بن الحسين جارية له وأعتقها، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يؤنّبه، فكتب إليه عليّ: إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم به النقيصة وأكرم به من اللؤم؛ فلا عار على مسلم؛ وهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوج أمته وامرأة عبده! فقال عبد الملك: إن عليّ بن الحسين يشرف من حيث يتّضع الناس. وقال الشاعر: لا تشتمنّ امرءا في أن تكون له ... أمّ من الرّوم أو سوادء عجماء فإنما أمّهات القوم أوعية ... مستودعات، وللأحساب آباء وقال بعضهم: عجبت لمن لبس القصير كيف يلبس الطويل؛ ولمن أحفى «1» شعره كيف أعفاه، وعجبا لمن عرف الإماء كيف يقدم على الحرائر. وقالوا: الأمة تشترى بالعين وتردّ بالعيب؛ والحرّة غل «2» في عنق من صارت إليه. الهجناء للعرب والفرس : العرب تسمي العجميّ إذا أسلم: المسلماني؛ ومنه يقال: مسالمة السواد، والهجين

عندهم: الذي أبوه عربي وأمه أعجمية؛ والمذرّع: الذي أمه عربية وأبوه أعجمي وقال الفرزدق: إذا باهليّ أنجبت حنظليّة ... له ولدا منها؛ فذاك المذرّع والعجمي: النصراني ونحوه وإن كان فصيحا. والأعجمي: الأخرس اللسان وإن كان مسلما. ومنه قيل: زياد الأعجم؛ وكان في لسانه لكنة. والفرس تسمى الهجين: دوشن؛ والعبد: واش ونجاش. ومن تزوّج أمة: نفاش، وهو الذي يكون العهد دونه، وسمي أيضا: بوركان. والعرب تسمّي العبد الذي لا يخدم إلا ما دامت عليه عين مولاه: عبد العين. وكان العرب في الجاهلية لا تورث الهجين. وكانت الفرس تطرح الهجين ولا تعدّه، ولو وجدوا أمّا أمة على رأس ثلاثين أما، ما أفلح [ولدها] عندهم ولا كان آزاد، ولا كان بيدهه مزاد. والآزاد عندهم: الحرّ، والمزاد: الريحان. وقال ابن الزبير لعبد الرحمن بن أم الحكم: تبلّغت لمّا أن أتيت بلادهم ... وفي أرضنا أنت الهمام القلمّس «1» ألست ببغل أمّه عربيّة ... أبوه حمار أدبر الظهر ينخس؟ «2» وشبه المذرع بالبغل؛ إذ قيل له: من أبوك؟ قال: أمي الفرس! ومما احتجت به الهجناء: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوّج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد بن الأسود، وزوّج خالدة بنت أبي لهب من عثمان بن أبي العاص الثقفي. وبذلك احتج عبد الله بن جعفر إذ زوّج ابنته زينب من الحجاج بن يوسف فعيّره

بنو أمية وأولاد الإماء

الوليد بن عبد الملك، فقال عبد الله بن جعفر: سيف أبيك زوّجه! والله ما فديت بها إلا خيط رقبتي. وأخرى: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد زوّج ضباعة من المقداد، وخالدة من عثمان بن أبي العاص، ففيه قدوة وأسوة. وزوّج أبو سفيان ابنته أم الحكم بالطائف في ثقيف. وقال لهذم الكاتب في عبد الله بن الأهتم وسأله فحرمه: وما بنو الأهتم إلا كالرّحم ... لا شيء إلا أنهم لحم ودم جاءت به جذام من أرض العجم ... أهتم سلّاح على ظهر القدم مقابل في الّلؤم من خال وعمّ بنو أمية وأولاد الإماء : وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء، وقالوا لا تصلح لهم العرب. زياد بن يحيى قال: حدّثنا جبلة بن عبد الملك: قالوا: سابق عبد الملك [بين] سليمان ومسلمة؛ فسبق سليمان مسلمة، فقال عبد الملك: ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرّهان فتدرك! وما يستوي المرءان، هذا ابن حرّة ... وهذا ابن أخرى ظهرها متشرّك وتضعف عضداه ويقصر سوطه ... وتقصر رجلاه فلا يتحرّك وأدركه خالاته فنزعنه ... ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ يدرك ثم أقبل عبد الملك على مصقلة بن هبيرة الشيباني فقال: أتدري من يقول هذا؟ قال: لا أدري. قال: يقوله أخوك الشّنّيّ. قال مسلمة: يا أمير المؤمنين، ما هكذا قال حاتم الطائي. قال عبد الملك: وماذا قال حاتم؟ فقال مسلمة: قال حاتم: وما أنكحونا طائعين بناتهم ... ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا فما زادها فينا السّباء مذلّة ... ولا كلّفت خبزا ولا طبخت قدرا ولكن خلطناها بخير نسائنا ... فجاءت بهم بيضا وجوههم زهرا

بنو أمية في أولاد الأمهات

وكائن ترى فينا من ابن سبيّة ... إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا ويأخذ رايات الطّعان بكفّه ... فيوردها بيضا؛ ويصدرها حمرا أغرّ إذا اغبرّ اللثام رأيته ... إذ ما سرى ليل الدّجى قمرا بدرا فقال عبد الملك كالمستحي: وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا بنو أمية في أولاد الأمهات : قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد؛ فكان الناس يرون أن ذلك لاستهانة بهم، ولم يكن لذلك، ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن أم ولد؛ فلما ولي الناقص ظن الناس أنه الذي يذهب ملك بني أمية على يديه- وكانت أمه بنت يزدجرد بن كسرى- فلم يلبث إلا سبعة أشهر حتى مات؛ ووثب مكانه مروان بن محمد- وأمه كردية- فكانت الرواية عليه. ولم يكن لعبد الملك ابن أسدّ رأيا، ولا أذكى عقلا، ولا أشجع قلبا، ولا أسمح نفسا، ولا أسخى كفّا من مسلمة؛ وإنما تركوه لهذا المعنى. شيء عن يحيى ابن أبي حفصة : وكان يحيى بن أبي حفصة أخو مروان بن أبي حفصة يهوديا، أسلم على يد عثمان بن عفان، فكثر ماله، فتزوّج خولة بنت مقاتل بن قيس بن عاصم، ونقدها خمسين ألفا. وفيه يقول القلاخ: رأيت مقاتل الطّلبات حلى ... نحور بناته كمر الموالي «1» فلا تفخر بقيس، إنّ قيسا ... خريتم فوق أعظمه البوالي! وله فيه: نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر

باب في الادعياء

أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت التّراب والحجر لله درّ جياد أنت سائسها ... برذنتها وبها التّحجيل والغرر «1» فقال مقاتل يردّ عليه: وما تركت خمسون ألفا لقائل ... عليك- فلا تحفل- مقالة لائم فإن قلتم زوّجت مولى؛ فقد مضت ... به سنّة قبلي وحبّ الدراهم ويقال: إن غيره قال ذلك. باب في الادعياء زياد بن عبيد أول دعيّ كان في الإسلام واشتهر، زياد بن عبيد، دعيّ معاوية؛ وكان من قصته انه وجهه بعض عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العراق الى عمر بفتح كان، فلما قدم واخبر عمر بالفتح في احسن بيان وأفصح لسان، قال له عمر: أتقدر على مثل هذا الكلام في جماعة الناس على المنبر؟ قال: نعم، وعلى احسن منه، وانا لك أهيب! فأمر عمر بالصلاة جامعة؛ فاجتمع الناس، ثم قال لزياد: قم فاخطب وقص على الناس ما فتح الله على إخوانهم المسلمين. ففعل وأحسن وجوّد، وعند أصل المنبر علي بن ابي طالب، وأبو سفيان بن حرب فقال أبو سفيان لعليّ: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك؟ قال: فكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمّه سمية! قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخاف هذا الجالس على المنبر- يعني عمر- أن يفسد عليّ إهابي. فلما ولي معاوية استلحقه بهذا الحديث، واقام له شهودا عليه؛ فلما شهد الشهود قام زياد على اعقابهم خطيبا، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: هذا أمر لم اشهد اوله، ولا علم لي بآخره؛ وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهد الشهود بما قد سمعتم، والحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيّعوا؛ فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب مشكور. ثم جلس.

عبد الله بن حجاج

فقال فيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فقد ضاقت بما يأتي اليدان أتغضب ان يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زان؟ وأشهد أن قربك من زياد ... كقرب الفيل من ولد الاتان وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشدّ عليّ من قول يزيد بن مفرغ الحميري: فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير؟ عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أنّ ابنها من قريش في الجماهير سبحان من ملك عبّاد بقدرته ... لا يدفع الناس محتوم المقادير وكان ولد سمية: زيادا: وأبا بكرة، ونافعا؛ فكان زياد ينسب في قريش، وأبو بكرة في العرب، ونافع في الموالي؛ فقال فيهم يزيد بن مفرغ: إن زيادا ونافعا وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب إن رجالا ثلاثة خلقوا ... من رحم أنثى مخالفي النّسب ... ذا قرشي، فيما يقول، وذا ... مولى وهذا ابن أمه عربي! وقال بعض العراقيين في ابي مسهر الكاتب: حمار في الكتابة يدّعيها ... كدعوى آل حرب في زياد فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرّقت ثوبك بالمداد وقال آخر في دعيّ: لعين يورث الابناء لعنا ... ويلطخ كلّ ذي نسب صحيح عبد الله بن حجاج ولما طالت خصومة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ونصر بن حجاج عند معاوية، في عبد الله بن حجاج، مولى خالد بن الوليد- أمر معاوية حاجبه أن يؤخر أمرهما حتى يحتفل مجلسه، فجلس معاوية وقد تلفّع بمطرف خزّ أخضر، وأمر بحجر فأدني

للاصمعي في دعي

منه، وألقى عليه طرف المطرف، ثم اذن لهما وقد احتفل المجلس فقال نصر بن حجاج: أخي وابن ابي، عهد إليّ أنه منه. وقال عبد الرحمن: مولاي وابن عبد أبي وامته، ولد على فراشه. فقال معاوية: يا حرسيّ، خذ هذا الحجر- وكشف عنه- فادفعه إلى نصر بن حجاج. وقال يا نصر، هذا مالك في حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . فقال نصر: أفلا أجريت هذا الحكم في زياد يا أمير المؤمنين؟ قال ذاك حكم معاوية وهذا حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وليس في الارض احمى من الادعياء؛ لتستحق بذلك العربية. قال الشاعر: دعيّ واحد أجدى عليهم ... من الفي عالم مثل ابن داب ككلب السّوء يحرس جانبيه ... وليس عدوّه غير الكلاب للاصمعي في دعي وقال الأصمعي: استمشى رجل من الادعياء، فدخل عليه رجل من اصحابه فوجد عنده شيحا «1» وقيصوما «2» ؛ فقال له: ما هذا؟ فقال، ورفع صوته: الطبيعة تتوق إليه! يريد أن طبيعته من طباع العرب؛ فقال فيه الشاعر: يشمّ الشّيح والقيصو ... م كي يستوجب النّسبا وليس ضميره في الصّد ... ر إلا التّين والعنبا ابو سعيد المخزومي وعن اسماعيل بن احمد قال: أرأيت على أبي سعيد الشاعر المخزومي كردوانيا مصبوغا بتوريد، فقلت: أبا سعيد، هذا خز؟ قال: لا ولكنه دعيّ على دعيّ وكان أبو سعيد دعيّا في بني مخزوم؛ وفيه قال الشاعر: متى تاه على الناس ... شريف يا أبا سعد

تزوج ابن عبد العزيز في عبد القيس

فته ما شئت إذ كنت ... بلا أب ولا جدّ وإذا حظّك في النّسبة بين الحرّ والعبد وإن قارفك الفحش ... ففي أمن من الحدّ تزوج ابن عبد العزيز في عبد القيس وعن احمد بن عبد العزيز قال: نزلت في دار رجل من بني عبد القيس بالبحرين فقال لي: بلغني أنك خاطب؟ قلت نعم. قال: فأنا أزوّجك. قلت له: إني مولى. قال: اسكت وأنا أفعل! فقال ابو بجير فيهم: أمن قلة صرتم إلى أن قبلتم ... دعاوة زرّاع وآخر تاجر وأصهب روميّ وأسود فاحم ... وأبيض جعد من سراة الاحامر شكولهم شتى وكلّ نسيبكم ... لقد جئتم في الناس إحدى المناكر متى قال إنّي منكم فمصدّق ... وإن كان زنجيّا غليظ المشافر أكلّهم وافى النّساء جدوده ... وكلهم أوفى بصدق المعاذر؟ وكلهم قد كان في أوّليّة ... له نسبة معروفة في العشائر؟ على علمكم ان سوف ينكح فيكم ... فجدعا ورغما للأنوف الصّواغر «1» فهلا أبيتم عفّة وتكرّما ... وهلّا وجلتم من مقالة شاعر؟ «2» تعيبون أمرا ظاهرا في بناتكم ... وفخركم قد جاز كلّ مفاخر متى شاء منكم مغرم كان جدّه ... عمارة عبس خير تلك العمائر وحصن بن بدر أو زرارة دارم ... وزبّان زبّان الرئيس ابن جابر فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسبا ... لعلّ نجارا من هلال بن عامر وعلّ رجال الترك من آل مذحج ... وعل تميما عصبة من يحابر وعلّ رجال العجم من آل عالج ... وعل البوادي بدّلت بالحواضر زعمتم بأنّ الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر

جعفر بن سليمان وولده أحمد

وديلم من نسل ابن ضبة باسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر بنو الاصفر الاملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الاكاسر أأطمع في صهري دعيّا مجاهرا ... ولم نر شرا في دعيّ مجاهر «1» ويشتم لؤما عرضه وعشيره ... ويمدح جهلا طاهرا وابن طاهر وقال زرارة بن ثروان، أحد بني عامر بن ربيعة بن عامر: قد اختلط الأسافل بالأعالي ... وباح الناس واختلط النّجار وصار العبد مثل أبي قبيس ... وسيق مع المعلهجة العشار «2» وإنك لن يضيرك بعد حول ... أطرف ناك أمّك أم حمار وقال عقيل بن علّفة: وكنا بني غيظ رجالا فأصبحت ... بنو مالك غيظا، وصرنا لمالك لحي الله دهرا ذغذع المال كلّه ... وسوّد أستاه الإمإ الفوارك «3» جعفر بن سليمان وولده أحمد وذكر جعفر بن سليمان بن علي يوما ولده، وأنهم ليسوا كما يحب، فقال له ولده أحمد بن جعفر: عمدت إلى فاسقات المدينة ومكة وإماء الحجاز، فأوعيت فيهم نطفك، ثم تريد أن ينجبن! ألا فعلت في ولدك ما فعل ابوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها. الاشعث وعلي ودخل الاشعث بن قيس على عليّ بن أبي طالب، فوجد بين يديه صبية تدرج؛ فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال هذه زينب بنت أمير المؤمنين. قال زوّجنيها يا أمير المؤمنين! قال: اعزب، بفيك الكثكث «4» ، ولك الاثلب! أغرّك ابن أبي قحافة حين زوّجك أم فروة؟ إنها لم تكن من الفواطم ولا العواتك من سليم. فقال: قد

زوّجتم أخمل مني حسبا، وأوضع مني نسبا: المقداد بن عمرو، وإن شئت فالمقداد بن الاسود. قال عليّ: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعله، وهو أعلم بما فعل؛ ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك. وفي هذا المعنى قال الكميت بن زيد: وما وجدت بنات بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا وما حملوا الحمير على عتاق ... مطهّمة فيلفوا مبغلينا بني الاعمام انكحنا الأيامى ... وبالآباء سمّينا البنينا أراد تزويج أبرهة الحبشي في كندة. عن العتبي: قال: أنشدني أبو إسحاق ابراهيم بن خداش لخالد النجار: اليوم من هاشم بخ، وأنت غدا ... مولى، وبعد غد حلف من العرب إن صح هذا فأنت الناس كلّهم ... يا هاشميّ، ويا مولى، ويا عربي قال: وكان الهيثم بن عديّ فيما زعموا دعيا، فقال فيه الشاعر: الهيثم بن عديّ من تنقله ... في كلّ يوم له رحل على حسب إذا اجتدى معشرا من فضل نسبتهم ... فلم ينيلوه عدّاهم إلى نسب فما يزال له حلّ ومرتحل ... إلى النصارى وأحيانا إلى العرب إذا نسبت عديّا في بني ثعل ... فقدّم الدال قبل العين في النسب! وقال بشّار العقيلي: إنّ عمروا، فاعرفوه ... عربيّ من زجاج مظلم النّسبة لا يع ... رف إلّا بالسّراج! وقال فيه: ارفق بنسبة عمرو، حين تسبه ... فإنه عربيّ من قوارير ما زال في كير حدّاد يردّده ... حتى بدا عربيّا مظلم النّور وقال أيضا في أدعياء: هم قعدوا فانتقوا لهم حسبا ... يدخل بعد العشاء في العرب

والناس قد أصبحوا صيارفة ... أعلم شيء بزائف الحسب وقال أبو نواس في أشجع بن عمرو: قل لمن يدّعي سليمى سفاها ... لست منها ولا قلامة ظفر إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو وقال فيه: أيا متحيّرا فيه ... لمن يتعجب العجب لأسماء تعلّمهنّ ... أشجع حين ينتسب ولا حمد بن أبي الحارث الخراز في حبيب الطائي: لو أنّك إذ جعلت أباك أوسا ... جعلت الجدّ حارثة بن لام وسمّيت التي ولدتك سعدى ... فكنت مقابلا بين الكرام! وله فيه: أنت عندي عربيّ ... ليس في ذاك كلام شعر فخذيك وساقي ... ك خزامي وثمام «1» وضلوع الصدر من ... جسمك نبع وبشام وقذى عينيك صمغ ... ونواصيك ثغام «2» لو تحرّكت كذا لا ... نجفلت منك نعام وظباء سانحات ... ويرابيع عظام «3» وحمام يتغنّى ... حبّذا ذاك الحمام أنا ما ذنبي إن ك ... ذّبني فيك الكرام القفا يشهد أدما ... عرفت فيك الانام

في الباه وما قيل فيه

كذّبوا ما أنت إلّا ... عربيّ والسلام! وقال في المعلى الطائي: معلّى لست من طيّ ... فإن قبلتك فارهنها وإبنك فارم في أجأ ... فلا ترغب به عنها كأنّ دماملا جمعت ... فصوّر وجهه منها ولآخر: تعلّمها وإخوته ... فكلّهم بها درب لقد ربوا عجوزهم ... ولو زيّنتها غضبوا فيالك عصبة إن حدّ ... ثوا عن أصلهم كذبوا لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب كما لم تخف سافرة ... وتخفى حين تنتقب وقال خلف بن خليفة في الادعياء: فقل للاكرمين بني نزار ... وعند كرائم العرب الشّفاء أآخر مرّتين سبيتمونا ... وفي الإسلام ما كره السّباء؟ إذا استحللتم هذا وهذا ... فليس لنا على ذاكم بقاء فلا تأمن على حال دعيّا ... فليس له على حال وفاء في الباه وما قيل فيه ذكر عند مالك بن أنس الباه، فقال: هو نور وجهك، ومخّ ساقك؛ فأقل منه أو أكثر. وقال معاوية: ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه. وقال الحجاج لابن شماخ العكلي: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظماء «1» ، وأرد فلا أشرب.

عائشة بنت طلحة

وقيل لرؤبة: ما عندك يا أبا الجحّاف؟ قال: يمتد ولا يشتدّ، ويرد ولا يشرب. وقيل لآخر: ما عندك لهن؟ قال: ما يقطع حجّتها، ويشفي غلمتها «1» . وقال كسرى: كنت أراني إذا كبرت انهن لا يحببنني، فإذا أنا لا أحبّهن! وأنشد الرياشي لأعرابيّ من بني أسد: تمنّيت لو عاد شرخ الشباب ... ومن ذا على الدّهر يعطي المنى وكنت مكينا لدى الغانيات ... فلا شيء عندي لها ممكنا «2» فأما الحسان فيأبينني ... وأما القباح فآبى أنا ودخل عيسى بن موسى على جارية، فلم يقدر على شيء، فقال: النفس تطمع والأسباب عاجزة ... والنفس تهلك بين اليأس والطمع وخلا ثمامة بن أشرس بجارية له، فعجز؛ فقال: ويحك! ما أوسع حرك! فقالت: أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ... ويستكي الضّيق منه حين يلقاه وقال آخر لجاريته: ويعجبني منك عند الجماع ... حياة الكلام وموت النّظر وقال آخر: شفاء الحبّ تقبيل ولمس ... وسبح بالبطون على البطون ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالذّوائب والقرون عائشة بنت طلحة وقالت امرأة كوفية: دخلت على عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقيل هي مع

زوجها في القيطون؛ فسمعت زفيرا ونخيرا لم يسمع قط مثله. ثم خرجت وجبينها يتفصّد «1» عرقا؛ فقلت لها: ما ظننت ان حرّة تفعل مثل هذا! فقالت: إن الخيل العتاق تشرب بالصفير. وقيل لاعرابيّ: ما عندك للنساء؟ فأشار إلى متاعه وقال: وتراه بعد ثلاث عشرة قائما ... نظر المؤذّن شكّ يوم سحاب! وقال الفرزدق: أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز وقالت: رقّ أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها: بل اتسع القفيز «2» وقال الراجز: لا يعقب التّقبيل إلّا زبّي ... ولا يداوي من صميم الحبّ. إلا احتضان الرّكب الأزبّ ... ينزع منه الاير نزع الضبّ «3» روى زياد عن مالك عن محمد بن يحيى بن حسان، ان جدته عاتبت جدّه في قلة اتيانه إياها؛ فقال لها: أما وأنت على قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ قالت: وما قضاء عمر؟ قال: قضي ان الرجل إذا اتى امرأته عند كلّ طهر فقد أدّى حقها. قالت: أفترك الناس كلهم قضاء عمر واقمت وأنا وأنت عليه. وقال اعرابيّ حين كبر وعجز: عجبت من أيري كيف يصنع ... أدفعه بأصبعي ويرجع يقوم بعد النّشر ثم يصرع

كثير وعزة

كثير وعزة ودخلت عزّة صاحبة كثيّر على ام البنين زوج عبد الملك بن مروان، فقالت لها: أخبريني عن قول كثير: قضى كلّ ذي دين فوفى غريمه ... وعزّة ممطول معنّ غريمها ما هذا الدين الذي طلبك به؟ قالت: وعدته بقبلة فتحرّجت منها. قالت: أنجزيها وعليّ إثمها. عن أبي البيداء علي بن عبد العزيز قال: كان ابو البيداء رجلا عنّينا، وكان يتجلد ويقول لقومه: زوّجوني امرأتين. فقالوا له: إن في واحدة كفاية. قال: أمّا لي فلا. فقالوا: نزوّجك واحدة فإن كفتك وإلا نزوّجك أخرى. فزوّجوه اعرابية؛ فلما دخل بها اقام معها اسبوعا، فلما كان في اليوم السابع اتوه فقالوا له: ما كان من امرك في اليوم الاول؟ قال: عظيم جدّا.. فقالوا: ففي اليوم الثالث؟ قال: لا تسلوني فاستجابت امرأته من وراء الستر فقالت: كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا أدخل في بيت أنق «1» فيه غزال حسن الدّلّ خرق ... مارسه حتى إذا ارفضّ العرق انكسر المفتاح وانسدّ الغلق حماد عجرد وجارية اهديت جارية إلى حماد عجرد، وهو جالس مع أصحابه على لذة، فتركهم وقام بها إلى مجلس له فافتضها، وكتب إليهم: قد فتحت الحصن بعد امتناع ... بسنان فاتح للقلاع

نساء كلب

ظفرت كفّي بتفريق جمع ... جاءنا تفرقه باجتماع وإذا شملي وشمل خليلي ... إنما يلتام بعد انصداع آخر: لم توافق طباع هذي طباعي ... فأنا وهي دهرنا في صراع وتحرّيت أن أنال رضاها ... فأبت غير جفوة وامتناع فتفكّرت لم بليت بهذا؟ ... فإذا أنّ ذا لضعف المتاع! وقع بين رجل وامرأته شرّ، فجعل يحيل عليها بالجماع، فقالت: فعل الله بك! كلما وقع بيننا شيء جئتني بشفيع لا أقدر على ردّه. وأقبل رجل إلى علي بن ابي طالب رضي الله عنه، فقال: إن لي امرأة كلما غشيتها تقول: قتلتني قتلتني، قال: اقتلها وعليّ إثمها. نساء كلب وقال هشام بن عبد الملك للابرش الكلبي: زوّجني امرأة من كلب. ففعل وصارت عنده، فقال له هشام ودخل عليه: لقد وجدنا في نساء كلب سعة! فقال له الابرش: إن نساء كلب خلقن لرجال كلب. وقالوا: من ناك لنفسه لم يضعف أبدا ولم ينقطع، ومن فعل ذلك لغيره فذاك الذي يصفي وينقطع. يعنون: من فعل ذلك ليبلغ اقصى شهوة المرأة ويطلب الذّكر عندها.... وقال الشاعر. من ناك للذكر أصفى قبل مدّته ... لا يقطع النّيك إلّا كلّ منهوم في النكاح وقالوا: من قل جماعه فهو أصحّ بدنا وأطول عمرا ويعتبرون ذلك بذكر

الحيوان، وذلك انه ليس في الحيوان اطول عمرا من البغل، ولا أقصر عمرا من العصافير؛ وهي أكثر سفادا. والله اعلم.

كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين

كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النساء والأدعياء، وما قيل في ذلك من الشعر. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كتابنا هذا ذكر المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين؛ فإن أخبارهم حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة، أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها؛ فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع، وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميرا في الوحدة وأنيسا في الوحشة، وصاحبا في السفر، وأنيسا في الحضر. المهدي ومدع للنبوة : قال أبو الطيب اليزيدي: أخذ رجل ادعى النبوّة أيام المهدي، فأدخل عليه فقال له: أنت نبيّ؟ قال: نعم! قال: وإلى من بعثت؟ قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد؟ ساعة بعثت وضعتموني في الحبس! فضحك منه المهدي وخلّى سبيله. سليمان بن علي وآخر : ادّعى رجل النبوّة بالبصرة، فأتي به سليمان بن علي مقيّدا، فقال له: أنت نبيّ مرسل؟ قال: أما الساعة فإني مقيد! قال: ويحك! من بعثك؟ قال: أبهذا يخاطب

المأمون وآخر

الأنبياء يا ضعيف؟ والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها «1» عليكم! قال: فالمقيّد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم؛ الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها! فضحك سليمان، وقال له أنا أطلقك وأمر جبريل، فإن أطاعك آمنا بك وصدّقناك. قال: صدق الله: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ «2» ! فضحك سليمان، وسأل عنه فشهد عنده أنه ممرور «3» ، فخلى سبيله. المأمون وآخر : قال ثمامة بن أشرس: شهدت المأمون أتي برجل ادّعى النبوّة وأنه إبراهيم الخليل، فقال المأمون: ما سمعت أجرأ على الله من هذا. قلت: أكلّمه. قال: شأنك به. فقلت له: يا هذا، إنّ إبراهيم كانت له براهين. قال: وما براهينه؟ قلت: أضرمت له نار وألقي فيها فصارت بردا وسلاما؛ فنحن نضرم لك نارا ونطرحك فيها، فإن كانت عليك بردا كما كانت على إبراهيم آمنّا بك وصدقناك. قال: هات ما هو ألين عليّ من هذا. قال: براهين موسى. قال: وما كانت براهين موسى؟ قال: عصاه التي ألقاها فصارت حية تسعى تلقف» ما يأفكون، وضرب بها البحر فانفلق؛ وبياض يده من غير سوء. قال: هذا أصعب؛ هات ما هو ألين من هذا. قلت: براهين عيسى. قال: وما براهين عيسى؟ قلت: كان يحيي الموتى، ويمشي على الماء، ويبريء الأكمه والأبرص. فقال في براهين عيسى جئت بالطامة الكبرى! قلت: لا بدّ من برهان! فقال: ما معي شيء من هذا؛ قد قلت لجبريل: إنكم توجّهوني إلى شياطين، فأعطوني حجة أذهب بها إليهم، وأحتجّ عليهم؛ فغضب وقال: بدأت أنت بالشر قبل كل شيء، اذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم. وقال: هذا من الأنبياء لا يصلح إلا للحمر. فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا هاج به مرار، وأعلام ذلك فيه. قال: صدقت؛ دعه.

المهدي وآخر

المهدي وآخر : ادّعى رجل النبوّة في أيام المهدي، فأدخل عليه؛ فقال له: أنت نبيّ؟ قال: نعم. قال: ومتى نبئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي المواضع جاءتك النبوّة؟ قال: وقعنا والله في شغل! ليس هذا من مسائل الأنبياء؛ إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت لك فاعمل بقولي؛ وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك! فقال المهدي: هذا ما لا يجوز؛ إذ كان فيه فساد الدين. قال: وا عجبا لك! تغضب لدينك لفساده، ولا أغضب أنا لفساد نبؤتي؟ أنت والله ما قويت عليّ إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة وما أشبههما من قوادك. وعلى يمين المهدي شريك القاضي؛ قال: ما تقول في هذا النبي يا شريك؟ قال [المتنبّيء] : شاورت هذا في أمري وتركت أن تشاورني! قال: هات ما عندك؟ قال: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل. قال: رضيت. قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر. قال: فإنّ الله يقول: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ «1» ؛ فلا تطعني ولا تؤذني؛ ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين؛ فإنهم أتباع الأنبياء؛ وأدع الملوك والجبابرة؛ فإنهم حطب جهنم! فضحك المهدي وخلى سبيله. القسري وآخر : قال خلف بن خليفة: ادّعى رجل النبوّة في زمن خالد بن عبد الله القسري، وعارض القرآن؛ فأتي به خالد؛ فقال له: ما تقول: قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «2» فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل ساحر وكافر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة؛ فمرّ به خلف بن خليفة الشاعر، وقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن أن لا تعود!

ابن حازم وآخر

ابن حازم وآخر : قال: وإني لقاعد على مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد، فإذا بجماعة قد أحاطت برجل ادّعى النبوّة، فقدّم إلى عبد الله؛ فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: وما عليك؟ بعثت إلى الشيطان! فضحك عبد الله بن حازم وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم! ابن أشرس وآخر : وقال ثمامة بن أشرس: كنت في الحبس، فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر، فقلت له: من أنت جعلت فداك؟ وما ذنبك؟ - وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها- قال: جاءوا بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي، أنا نبيّ مرسل! قلت: جعلت فداك! معك دليل؟ قال: نعم، معي أكبر الأدلة؛ ادفعوا إليّ امرأة أحبلها لكم، فتأتي بمولود يشهد بصدقي! قال ثمامة: فناولته الكأس وقلت له: اشرب، صلى الله عليك! ابن عتاب وآخر : محمد بن عتاب قال: رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل، فأشرفت عليه، فإذا رجل له جهارة «1» وبنية، قلت: ما قصة هذا؟ قالوا: ادّعى النبوّة. قلت: كذبتم عليه، مثل هذا لا يدّعي الباطل! فرفع رأسه إليّ فقال: وما علمك أنهم قالوا عليّ الباطل؟ قلت له: وأنت نبيّ قال: نعم. قلت له: ما دليلك؟ قال: دليلي أنك ولد زنا! قلت: نبيّ يقذف المحصنات؟ قال: بهذا بعثت! قلت: أنا كافر بما بعثت به! قال: ومن كفر فعليه كفره. فإذا حصاة عائرة «2» جاءت حتى صكت صلعته، قال: ما رماها إلا ابن الزانية، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: ما أردتم بي خيرا حين طرحتموني في يدي هؤلاء الجهال.

المأمون وابن أكثم مع آخر

المأمون وابن أكثم مع آخر : ادّعى رجل النبوّة في أيام المأمون، فقال ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبيء وإلى دعواه. [قال يحيى] : فركبنا متنكرين ومعنا خادم، حتى صرنا إليه، وكان مستترا بمذهبة، فخرج آذنه وقال: من أنتما؟ فقلنا: رجلان يريدان أن يسلما على يديه. فأذن لهما ودخلا، فجلس المأمون عن يمينه، ويحيى عن يساره؛ فالتفت إليه المأمون فقال له: إلى من بعثت؟ قال: إلى الناس كافة. قال: فيوحى إليك، أم ترى في المنام، أم ينفث في قلبك، أم تناجى، أم تكلم؟ قال: بل أناجى وأكلّم. قال: ومن يأتيك بذلك؟ قال: جبريل، قال: فمتى كان عندك؟ قال: قبل أن تأتيني بساعة! قال: فما أوحى إليك؟ قال: أوحى إليّ أنه سيدخل عليّ رجلان، فيجلس أحدهما عن يميني والآخر عن يساري؛ فالذي عن يساري ألوط خلق الله! قال المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله! وخرجا يتضاحكان. ابن عباس ومتنبيء : تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر، ولقي ابن عياش، وكان مغرما بالشراب، فقال له: أشعرت أنه بعث نبي يحلّ الخمر؟ قال: إذا لا يقبل منه حتى يبرىء الأكمه والأبرص. وأتى به عامل الكوفة، فاستتابه فأبى أن يتوب ويرجع، فأتته أمّه تبكي، فقال لها: تنحّي ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أمّ موسى! وأتاه أبوه يطلب إليه، فقال: له: تنحّ يا آزّر! فأمر به العامل فقتل وصلب. بعض الكوفيين مع آخر : وذكر بعض الكوفيين قال: بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي، إذ جاءني صديق لي، فقال لي: إنه ظهر في الكوفة رجل يدّعي النبوّة، فقم بنا إليه نكلّمه ونعرف ما عنده. فقمت معه، فصرنا إلى باب داره، فقرعنا الباب وسألنا الدخول عليه، فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه، إن كان على حق اتبعناه، وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه ولم نؤذه؛ فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت

المأمون وآخر

على وجه الأرض، وإذا هو أصلع؛ فقال صاحبي وكان أعور: دعني حتى أسائله. قلت: دونك. قال: جعلت فداك، ما أنت؟ قال: نبي! قال: وما دليلك؟ قال: أنت أعور عينك اليمنى، فأقلع عينك اليسرى تصير أعمى؛ ثم أدعو الله فيردّ عليك بصرك! فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل! قال: فاقلع أنت عينيك جميعا! وخرجنا نضحك. المأمون وآخر : وأتي المأمون بإنسان متنبيء، فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم. علامتي أني أعلم ما في نفسك. قال: قرّبت عليّ؛ ما في نفسي؟ قال له: في نفسك أني كذاب! قال: صدقت! وأمر به إلى الحبس فأقام به أياما؛ ثم أخرجه فقال: أوحى إليك بشيء؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس! فضحك المأمون وأطلقه. متنبيء اسمه نوح : وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحا صاحب الفلك؛ وذكر أنه سيكون طوفان على يديه [يهلك به الناس] إلا من اتبعه، ومعه صاحب له قدر آمن به وصدّقه، فأتي به الوالي فاستتابه فلم يتب، فأمر به فصلب، واستتاب صاحبه فتاب؛ فناداه [المتنبيء] من الخشبة: يا فلان، أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة؟ فقال: يا نوح قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري «1» ! المأمون وثمامة مع متنبيء : قال: وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ، فقال: يا ثمامة، ناظره. فقال: ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين! ثم التفت إلى المتنبيء فقال له: ما شاهدك على النبوّة؟ قال: تحضر لي يا ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك، فتلد غلاما ينطق في المهد يخبرك أني نبي! فقال ثمامة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله!

أخبار الممرورين والمجانين

فقال المأمون: ما أسرع ما آمنت به! قال: وأنت يا أمير المؤمنين ما أهون عليك أن تتناول امرأتي على فراشك! فضحك المأمون وأطلقه. أخبار الممرورين والمجانين من أخبار عليان : قال أبو الحسن: كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك، وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه، وكان راوية للشعر بصيرا بجيده؛ فذكر عن عبد الله ابن إدريس صاحب الحديث. قال [ابن إدريس] : أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار؛ فقال لي الخادم: هذا عليان قد هجم علينا، والصبيان في طلبه. فقلت: ادفع الباب في وجوه الصبيان، وأخرج إليه طعاما وطبقا عليه رطب مشان «1» وملبقات «2» وأرغفة. فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه، وقال: هذا رحمة الله- وأشار إلى الطعام- كما أن أولئك من عذاب الله- وأشار إلى الصبيان- ثم جعل يأكل والصبيان يرجمون الباب، وهو يقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ «3» ! قال: ابن إدريس: فلما انقضى طعامه قلت له يا عليان، مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: إني كالمسنّ: أشحذ ولا أقطع! وكان بصيرا بالشعر، فقلت: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجب عن القلب. قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل قول جميل: ألا أيّها النّوّام ويحكم هبّوا ... أسائلكم: هل يقتل الرجل الحبّ؟ قال: فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف، وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع؛

ثم قال: ألا ترى النصف الأوّل كيف استأذن على القلب فلم يأذن له، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له؟ قلت: وماذا؟ قال: مثل قول الشاعر: ندمت على ما كان منذ فقدتني ... كما ندم المغبون حين يبيع قال: ألا تستطيب قوله «فقدتني» بالله يا ابن إدريس؟ قلت: بلى. فضرب بيده على فخذي وقال: قم يثبت الله لك قرنك! وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة. وحكي عنه ابن إدريس قال: مررت به في مربعة كندة، وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص وهو يخبط بها في الرماد؛ فقلت له: ما تصنع ههنا يا ابن أبي مالك؟ قال: ما كان يصنع صاحبنا. قلت: ومن صاحبك؟ قال: مجنون بني عامر. قلت: وما كان يصنع؟ قال: أما سمعته يقول: عشيّة مالي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والجصّ في الدار مولع قلت: ما سمعته! فرفع رأسه إليّ متضاحكا، فقال: ما يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً «1» فأنت سمعته أو رأيته هذا كلام من كلام العرب ولا علم لك به. قلت: يا بن أبي مالك، متى تقوم القيامة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، غير أنه من مات قامت قيامته. قلت: فالمصلوب يعذّب عذاب القبر؟ قال: إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب، وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا، فإن لله لطفا لا يدرك. قلت: ما تقول في النبيذ حلال أم حرام؟ قال: حلال. قلت: أتشربه؟ قال إن شربته فقد شربه وكيع، وهو قدوة. قلت: أتقتدي بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي

مجنون بالبصرة

في تحريمه، وأنا أسنّ منه؟ قال: إن قول وكيع مع اتفاق أهل البلد عليه أحبّ إليّ من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك. قلت: فما تقول في الغناء؟ قال: قد غنى البراء ابن عازب، وعبد الله ابن رواحة؛ وسمع الغناء عبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن جعفر ... قلت: أيش كان عبد الله ابن جعفر؟ قال: إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان. مجنون بالبصرة : وكان بالبصرة مجنون يأوى إلى دكان خياط، وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة «1» ولف عليها خرقة، لئلا يؤذي بها الناس؛ فكان إذا أحرده الصبيان، التفت إلى الخياط وقال له: قد حمي الوطيس، وطاب اللقاء! فما ترى؟ فيقول: شأنك بهم. فيشدّ عليهم ويقول: أشدّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها فإذا أدرك منهم صبيا رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته، فيتركه وينصرف؛ ويقول: عورة المؤمن حمى، ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين! ثم يقول وينادي: أنا الرجل الضّرب الذي يعرفونني ... خشاش «2» كرأس الحيّة المتوقّد! ثم يرجع إلى دكان الخياط، ويلقي العصا من يده ويقول: فألقت عصاها واستقرت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر عليان وتاجر بالبصرة : وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد، وكانت له جارية تدعى جيرين، وكان بها كلفا، فمر يوما بعليان وقد أحاط به الناس، فقالوا له: هذا أبو سعيد

صباح الموسوس

صاحب جيرين. فناداه: أبا سعيد! قال: نعم. قال: أتحب جيرين؟ قال: نعم. قال: وتحبك؟ قال: نعم فأنشأ يقول: نبّئتها عشقت حشّا فقلت لهم ... ما يعشق الحشّ إلا كلّ كنّاس «1» فضحك الناس من أبي سعيد ومضى. صباح الموسوس : ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس، فقال له: ابن أبي الزرقاء، أسمنت برذونك، وأهزلت دينك! أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخفّ! فوقف ابن أبي الزرقاء، فقيل له: هو صباح الموسوس. قال: ما هذا بموسوس! بهلول المجنون : وقال إبراهيم الشيباني: مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا؛ فقلت: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة، بعثته إليّ لآكله لها. وكان البهلول هذا يتشيع، فقيل له: اشتم فاطمة وأعطيك درهما! فقال: بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم! أمارات الحمق : وقال ابن عبد الملك: يعرف حمق الرجل في أربع: لحيته، وشناعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه. دخل عليه شيخ طويل العثنون؛ فقال، أما هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثلاث. فقيل له: ما كنيتك؟ قال: أبو الياقوت. قيل: فنقش خاتمك؟ قال: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ «2» ، قيل: أي الطعام تشتهي؟ قال: خلنجبين.

ابن عبد العزيز ومجنون

ابن عبد العزيز ومجنون : وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادي: يا أبا العمرين، فقال: لو كان عاقلا لكفاه أحدهما. وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به: لا تتهم الله في قضائه. قال: أقول لك شيئا على الأمانة؟ قال: قل. قال: والله ما بي غيره! من أخبار أبي عتاب : ودخل أبو عتاب على عمرو بن هذاب وقد كفّ بصره والناس يعزونه، فقال له: أبا يزيد، لا يسوءك فقدهما، فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك. ودخل على قوم يعود مريضا لهم، فبدأ يعزّيهم! قالوا: إنه لم يمت! فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله! يموت إن شاء الله. ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام، فقال: لولا أنك أبي، وأسنّ مني لعرفت. أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: كان الغاضريّ من أحمق الناس. فقيل له: ما رأيت من حمقه؟ فسكت، فلما أكثر عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره؟ وأين ترابه الذي خرج منه؟ وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام. الشعبي ورجل من النوكي : ودخل رجل من النّوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته، فقال: أيكم الشعبي؟ فقال [الشعبي] : هذه [وأشار إلى امرأته] ! فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان، هل يؤجر؟ قال: إن كان قال لك «يا أحمق» فإني أرجو له.

الشعبي ومجنون آخر

الشعبي ومجنون آخر : وسأل رجل آخر الشعبيّ فقال: ما تقول في رجل في الصلاة أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليها دم، أترى له أن يحتجم؟ فقال الشعبي: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة. وقال له آخر: كيف تسمي امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاح ما شهدناه. صوفي في أيام المهدي : العتبي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بشرا يقول: كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلا عاملا ورعا، فتحمّق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الأثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلّا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه؛ فيقول: جزاك الله خيرا أبا بكر عن الرعية، فقد عدلت وقمت بالقسط، وخلفت محمدا عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حلّ وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حلّ وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام، فقال: جزاك الله خيرا أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفيء، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه، فيقول له: خلطت في تلك السنين، ولكن الله تعالى يقول: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ

عَلَيْهِمْ «1» ! ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين! ثم يقول: هاتوا عليّ بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه، فيقول: جزاك الله عن الأمة خيرا أبا الحسن، فأنت الوصي ووليّ النبي، بسطت العدل وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرية المباركة، وزوج الزكية الطاهرة؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس. ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبيّ، فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة؛ وأنت الذي جعل الخلافة ملكا، واستأثر بالفيء، وحكم بالهوى، واستنصر بالظلمة؛ وأنت أول من غيّر سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونقض أحكامه، وقام بالبغي، اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة! ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام، فقال له: يا قوّاد! أنت الذي قتلت أهل الحرةّ، وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتمثلت بشعر الجاهلية. ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «2» وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا على حقائب الإبل؛ اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر واليا بعد وال، حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألفت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق، بعد شقاق ونفاق؛ اذهبوا به فألحقوه بالصديقين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس، فسكت فقيل له:

من أخبار عيناوة

هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم؟ ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعا. من أخبار عيناوة ومن مجانين الكوفة: عيناوة وطاق البصل. قيل لعيناوة: من أحسن، أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء. من أخبار طاق البصل وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق، وكان عيناوة جيد القفا، فربما مر به من يعبث فيصفعه، فحشا قفاه خراء وقعد على قارعة الطريق، فإذا صفعه احد قال: شمّ يدك يا فتى! فلم يصفعه أحد بعد ذلك. رجل وأحمق ووعد رجل رجلا من الحمقى أن يهدي له نعلا حضرمية، فطال عليه انتظارها فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال: انظر في هذا الماء إن كان يهدي إليّ بعض إخواني نعلا مضرمية. من أخبار مجيبة وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة فقفد «1» عيناوة فتى كان أرضعته مجيبة، فقال له لما وجده: كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك؟ فو الله لقد زقّت لي فرخا ما زلت أرى الرعونة «2» في طيرانه!. هبنقة وجر نفش ومن المجانين: هبنقة القيسي، وجرنفش السدوسي، واسم هبنقة: يزيد بن ثروان، وكنيته: ابو نافع، وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل، فسئل عن

الفرزدق والجرنفش

ذلك فقال إنما اكرم ما أكرم الله، وأهين ما أهان الله. وشرد بعير له، فجعل بعيرين لمن دلّ عليه، فقيل له: أتجعل بعيرين في بعير؟ قال: إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته! وافترس الذئب له شاة، فقال لرجل: خلّصها من الذئب وخذها، فان فعلت فأنت والذئب واحد. وساوم رجل هبنقة «1» فقال: اشتريتها بستة، وهي خير من سبعة، وأعطيت فيها ثمانية، وإن أردتها بتسعة، وإلا فزن عشرة! وكان باقل الذي يضرب به المثل في العيّ، اشترى شاة بأحد عشر درهما فسئل: بكم اشتريت الشاة؟ ففتح يديه جميعا وأشار بأصابعه وأخرج لسانه، ليتّم العدد أحد عشر. الفرزدق والجرنفش ولما قرّب الفرزدق رأس بغلته من الماء، قال له الجرنفش: نحّ رأس بغلتك حلق الله شأفتك! قال: لماذا عافاك الله؟ قال لانك كذوب الحنجرة زاني الكمرة، فصاح الفرزدق: يا بني سدود. فاجتمعوا إليه، فقال: سوّدوا الجرنفش عليكم، فما رأيت فيكم أعقل منه. الجرنفش وهبنقة قال الأصمعي: سوبق بين الجرنفش وهبنقة، أيهما أجنّ وأحمق، فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص، وجاء هبنقة بحجارة ثقال وترس، فبدأ الجرنفش فقبض على حجر. ثم قال: درّي عقاب، بلبن وأشخاب! ثم رفع صوته وقال: الترس! فرمى الترس فأصابه، فانهزم هبنقة، فقيل له: لم انهزمت؟ فقال: إنه قال: الترس! ورمى الترس فلم يخطئه، فلو أنه قال العين ورماها أما كان يصيب عيني؟

ابن المعتمر وامرأة

ابن المعتمر وامرأة وتبع داود بن المعتمر امرأة ظنّها من الفواسد، فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك. فضحكت المرأة وقالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير. فأما إذا صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان. بينه وبين اخرى ووقع داود هذا بجارية، فلما أمعن في الفعل قال لها: أثيّب أم بكر؟ فقالت له: سل المجرّب. بين غزوان وأمه قالت ام غزوان الرقاشي لابنها، وهو يقرأ في المصحف: يا غزوان، لعلك تجد في هذا المصحف حمارا كان أبوك في الجاهلية فقده! فقال: يا أماه، بل اجد فيه وعدا حسنا ووعيدا شديدا. رجل من النوكى وشيخ في الحمام ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرّة كأنها مدهن عاج، فقال له: يا شيخ، دعني اجعل ذكري في سرّتك! فقال له: يابن أخي، وأين يكون استك حينئذ؟ مجانين القصاص قال ابو دحية القاص: ليس فيّ خير ولا فيكم، فتبلّغوا بي حتى تجدوا خيرا مني. وقال في قصصه يوما: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا! قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.

باب نوكى الاشراف.

وقال ثمامة بن أشرس، سمعت قاصا ببغداد يقول: اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه، فقال: ما لكم، كثّر الله بكم القبور. قال: ورأيت قاصا يحدّث الناس بقتل حمزة، فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة واستخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو ازدردتها ما مستها النار! ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم اطعمنا من كبد حمزة. باب نوكى الاشراف. ابن زيد مناة من النوكى المتقدمين: مالك بن زيد مناة بن تميم، لما دخل على امرأته ناجية مغضبا، فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت: ضع شملتك. قال جسدي أحفظ لها! قالت: اخلع نعليك. قال: رجلاي أحق بهما! فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه، فلما شم رائحة الطيّب وثب عليها. ابن لجيم ومن النوكى: عجل بن لجيم، قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا في حلبة فجاء سابقا، فقال لابيه: كيف ترى أن أسمّيه يا أبت؟ قال: افقأ إحدى عينيه وسمّه الأعور. قال الشاعر: رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأيّ عباد الله أنوك من عجل؟ أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الامثال تضرب في الجهل؟ ومن بني عجل: دغة التي يضرب بها المثل في الحمق، وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الامثال.

عبيد الله بن مروان

عبيد الله بن مروان ومن نوكى الاشراف: عبيد الله بن مروان عم الوليد بن عبد الملك، بعث إلى الوليد قطيفة حمراء، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء. فكتب إليه: قد وصلت القطيفة وأنت والله يا عمّ أحمق أحمق. معاوية بن مروان ومنهم معاوية بن مروان، وقف على باب طحان، فرأى حمارا يدور بالرحا وفي عنقه جلجل، فقال للطحان؛ لم جعلت الجلجل في عنق الحمار؟ قال: ربما ادركتني سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه وقف فصحت به فانبعث. قال: أفرأيت إن وقف وحرّك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا- وحرك رأسه-[فما علمك أنه واقف] ؟ فقال له: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الامير؟ وهو القائل وضاع له باز: أغلقوا أبواب المدينة لا يخرج البازي! وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا: مات جارك أبو فلان، فمر له بكفن! فقال: ما عندنا اليوم شيء، ولكن عودوا إلينا إذا نبش. وأقبل إليه رجل أحمق منه، فقال له: تعيرنا أصلحك الله ثوبا نكفن فيه ميتا؟ قال: أخشى أنه ينجسه، فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر! عيينة بن حصن ومن النوكى الاشراف: عيينة بن حصن، دخل على عثمان بغير اذن، وكانت عنده ابنته، فقال له عثمان، ألا استأذنت! قال: ما ظننت ان هنا من احتاج ان استأذن عليه؛ قال: ادن فتعشّ. فقال: انا صائم. قال: تصوم الليل وتفطر النهار! وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسميه السفيه المطاع. أبان بن عثمان ومن حمقى قريش: ابان بن عثمان بن عفان، قال الشعبي: قدم أبان على معاوية

معاوية بن مروان أيضا

فقال: يا أمير المؤمنين، زوّجني ابنتك. قال: يا ابن اخي، هما اثنتان: إحداهما عند ابن عامر، والاخرى عند اخيك عمرو. قال: كنت أظن ان لك ثالثة! قال: يا ابن اخي، تخطب إليّ ولا تدري لي بنت ام لا! رحم الله أباك. معاوية بن مروان أيضا ومرّ معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه؛ فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا ترى است صاحبها لا تفلح أبدا، ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب. وهو الذي يقول لابي امرأته: ملأتني البارحة ابنتك دما! قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لازواجهن [وقال له أيضا يوما آخر: لقد نكحت ابنتك بعصبة ما رأت مثلها قط! قال] : لو كنت خصيا ما زوجناك، وعلى الذي غرّنا بك لعنة الله! أبو العاج وكان ابو العاج واليا بواسط، فأتاه صاحب شرطته بقوّادة، فقال: ما هذه؟ قال: قوادة؛ قال: وما تصنع؟ قال: تجمع بين الرجال والنساء! قال: وإنما جئتني بها لتعرّفها بداري؟ خلّ عنها لعنك الله ولعنها. الربيع العامري وكان الربيع العامري واليا باليمامة، فأتى بكلب قد عقر كلبا، فأقاده؛ فقال فيه الشاعر: شهدت بأنّ الله حقّ لقاؤه ... وأن الربيع العامريّ رقيع أقاد لنا كلبا بكلب فلم يدع ... دماء كلاب العامريّ تضيع وقال عوانة: استعمل معاوية رجلا من كلب، فذكر يوما المجوس وعنده النار،

ثلاثة اخوة من بني عتاب

فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمّاتهم، والله لو أعطيت مائة الف درهم ما نكحت أمي [فبلغ ذلك معاوية، فقال قبحه الله أترونه لو زادوا فعل، وعزله] . ثلاثة اخوة من بني عتاب وكان بالبصرة ثلاثة اخوة من بني عتاب بن أسيد، كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج! وكان الآخر يضحّي عن أبي بكر وعمر، ويقول أخطآ السّنة في ترك الأضحية، وكان الثالث يفطر أيام التشريق «1» عن عائشة، ويقول: غلطت رحمها الله صومها أيام التشريق. الرشيد ورجل من النوكى ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه قال له: يا أمير المؤمنين، ولّني نهر بوق. فقال له: ويلك! أولّيك نصفه، اكتبوا عهده على بوق. قال: فولّني أرمينية. قال: إذا يبطىء على أمير المؤمنين خبرك. أهل العي والجهل المشبهون بالمجانين ابن أبي سود خطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان، فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والارض في ستة أشهر! فقالوا له: بل في ستة أيام! فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها. عدي بن زياد وخطب عدي بن زياد الإيادي فقال في خطبته: أقول لكم ما قال العبد الصالح

ابن ورقاء

لقومه: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «1» فقالوا له: إن هذا ليس من قول العبد الصالح، إنما هو من قول فرعون! فقال: من قاله فقد أحسن! ابن ورقاء وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال: أقول لكم كما قال الله في كتابه: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول والي باليمامة وخطب وال باليمامة فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي، وقد اهلك امة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم. فسمي مقوّم الناقة. ابن سنان وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودّعوه وهو يريد مكة حاجا؛ فقال: لا تبكوا، فإني أرجو أن أضحّي عندكم! كردم السدوسي ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له: أين القبلة في دارك هذه؟ فقال: إنما سكنّاها منذ ستة أشهر. ودخل كردم السدوسي على رجل، فدعاه إلى الغذاء؛ فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليل أرز فأكثرت منه! عناق وقيل لابي عبد الملك عناق: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الاسواري أفضل من

كردم

سلام أبي المنذر؟ قال: لانه لما مات سلام ابو المنذر مشى أبو عليّ في جنازته، فلما مات أبو عليّ لم يمش في جنازته! كردم ومرض كردم، فقال له عمه: أيّ شيء تشتهي؟ فقال: رأس كبشين! قال: لا يكون. قال: فرأسي كبش! قال: لا يكون: فقال: لست أشتهي شيئا. ابن طارق وقال مسعدة بن طارق الذرّاع: إنا لوقوف على حدود دار نقسمها، إذ أقبل عيص سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم، ونحن في خصومة لنصلح بينهم؛ فقال: خبروني عن هذه الدار هل ضم بعضها إلى بعض أحد؟ ... فأنا منذ ستين سنة أفكّر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازا. وأقبل كردوم السدوسي إلى قوم ليكسر لهم دورا، فوجد دارا منها فيها زنقة «1» فقال: ليست هذه الدار لكم. فقالوا: بلى، والله ما نازعنا أحد قط فيها. قال: فليست الزنقة لكم. قالوا: فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة. فكسر صحن الدار، فقال: عشرون في عشرين مائتان! قالوا: من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا؛ عشرون في عشرين مائتان. فرضى وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها، فالتمسها في كتابه فلم يجدها؛ فقال: لم يمت هذا الرجل بعد، ولو مات لوجدت فريضته في كتابي. وعزى قوما فقال: أجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم، فقيل له في ذلك، فقال: مثل قول مروان بن الحكم: بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم.

أبو ادريس السمان

أبو ادريس السمان وكان ابو إدريس السمان يكتب: فلا صحبك الله إلا بالعافية، ولا حيا وجهك إلا بالكرامة! رجل ووكيله العتبي قال: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه، فرجع إليه مضروبا؛ فقال: ما لك ويلك؟ قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني؟ قال: [قال:] : هن الحمار في حر امّ الذي أرسلك! قال له: دعني من افترائه عليّ؛ وأخبرني أنت كيف جعلت لاير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر امي؟ هلا قلت: أير الحمار في هن أمّ من ارسلك! أبو نواس ووراق وقال أبو نواس: قلت لاحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني: إيّما أسنّ أنت أم أخوك؟ قال: إذا جاء رمضان استوينا! المأمون وابن اشرس قال ثمامة بن أشرس للمأمون: مررت في غبّ مطر والارض ندية والسماء متغيمة والريح شمال، وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة، وقد قعد على قارعة الطريق، وحجّام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب «1» وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه، فقلت: يا شيخ، لم تحتجم في هذا البرد؟ قال: لهذا الصّفار الذي بي. أبو عتاب وبره بأمه وقيل لابي عتاب: كيف برّك بأمّك؟ قال: والله ما قرعتها بسوط قط!

النوكى من نساء الأشراف

النوكى من نساء الأشراف دغة العجلية، وجهيزة، وشولة، وذراعة، وسارية الليل، وريطة بنت كعب، وهي التي نقضت غزلها أنكاثا، وفيها يقال في المثل: خرقاء وجدت صوفا. وقال عمرو بن عثمان: شيعت القاضي عبد العزيز بن عبد المطّلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله، وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول: أرّق عينيّ ضراط القاضي فقال لي: يا أبا حفص، أراها تعني قاضي مكة؟ من حكم المجانين وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله، كما قالوا: ربّ رمية من غير رام. قيل لدغة: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يفيق، والغائب حتى يرجع. ومن أخبار اهل العي المشبهين بالمجانين أبو طالب دخل أبو طالب صاحب الحنطة على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد، ليشتري طعاما من طعامهم؛ فقال لها: قد رأيت متاعك وقلبته، قالت له: هلا قلت طعامك يا أبا طالب! قال: قد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة، قالت: يا أبا طالب، الست قد قلّبت الشعير فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسدا.

رجلان من النوكى وعبد لهما

رجلان من النوكى وعبد لهما قال الأصمعي: كان بين رجلين من النّوكى عبد. فقام أحدهما يضربه، فقال له شريكه: ما تصنع؟ قال: أنا أضرب نصيبي منه! قال: وأنا أضرب حصتي فيه! وقام فضربه؛ فكان من رأى العبد أن سلح عليهما وقال: اقسما هذه على قدر الحصص. باكية على قبر ومرّ بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي، فقال لها: ما هذا الميّت منك؟ قالت: زوجي! قال: وما كان عمله؟ قالت: كان يحفر القبور! قال: أبعده الله، أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها. ابن أشرس ورجل من النوكى وطلب رجل من النّوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالا ويؤخّره به؛ قال: هاتان حاجتان، وأنا أقضي لك إحداهما. قال: رضيت. قال: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك. امرأة ابي رافع وصيرفي وكان ابو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم، مع بله فيهم وعيّ شديد؛ فمن ذلك: أن امرأة ابي رافع رأته في نومها بعد موته، فقال لها: أتعرفين فلانا الصيرفي؟ قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار. فلما انتبهت غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر، وسألته عن المائتي دينار؛ فقال رحم الله أبا رافع، والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط! فأقبلت إلى مسجد المدينة، فوجدت مشايخ من آل أبي رافع، كلهم مقبول القول، جائز الشهادة؛ فقصت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادّعاه أبو رافع؛ قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة! قرّبي صاحبك إلى السلطان، ونحن نشهد لك عليه!

عامر بن عبد الله

فلما علم الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها، وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤدّيها: قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا. قالوا: نعم والصلح خير، ونعم الصلح الشطر؛ فأدّ إليها مائة دينار من المائتين! فقال لهم: أفعل، ولكن اكتبوا بيني وبينها كتابا يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟ قال: تكتبون لي عليها انها قبضت مني مائة دينار صلحا على المائتي دينار التي ادّعاها ابو رافع عليّ في نومها، وأنها قد أبرأتني منها، وشرطت على نفسها ان لا ترى أبا رافع في نومها مرة اخرى، فيدعي عليّ بغير هذه المائتي دينار، فتجيء بفلان وفلان يشهدان عليّ لها! فلما سمعوا الوثيقة انتبه القوم لانفسهم، وقالوا: قبحك الله وقبح ما جئت به. عامر بن عبد الله ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير، أتي بعطائه وهو في المسجد، فقام ونسيه في موضعه؛ فلما أتى البيت ذكره، فقال: يا غلام، ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد! قال: وأين يوجد وقد دخل المسجد بعدك جماعة؟ وبقي أحد يأخذ ما ليس له!؟ وسرقت نعله مرة، فلم يلبس نعلا بعدها حتى مات، وقال: أكره أن أتخذ نعلا يجيء من يسرقها فيأثم! وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني: من أصحابي من أرجو بركته ودعاءه ولا أقبل شهادته. عابد في بني اسرائيل قال الأصمعي: كان الشعبي يحدّث انه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهّب في صومعته، وله حمار يرعى حول الصومعة؛ فاطّلع عليه من الصومعة فرآه يرعى، فرفع يده إلى السماء فقال: يا رب، لو كان لك حمار كنت أرعاه مع حماري وما كان

ابن سيرين ومجنون

يشق عليّ! فهمّ به نبي كان فيهم في ذلك الزمان، فأوحى الله إليه: دعه، فإنما أثيب كل إنسان على قدر عقله. ابن سيرين ومجنون هشام بن حسان قال: أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها! قال: وما رأيت؟ قال كنت أرى ان لي غنما، فكنت أعطي بها ثمانية دراهم، فأبيت من البيع ففتحت عيني فلم أر شيئا، فأغلقتها ومددت يدي؟ وقلت: هاتوا أربعة. فلم أعط شيئا فقال له ابن سيرين: لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها! قال: يمكن الذي ذكرت. شعراء المجانين منهم أبو ياسين الحاسب، وجعيفران، وجرنفش، وأبو حية النميري، وريسيموس، وصالح بن شرزاد الكاتب. وكان أبو حية أجنّ الناس وأشعر الناس، وهو القائل: ألا حيّ أطلال الرسوم البواليا ... لبسن البلى مما لبسن الّلياليا إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه أمر لا يملّ التّقاضيا وهو القائل أيضا: فلأبعثنّ مع الرّياح قصيدة ... منى مغلغلة إلى القعقاع ترد المنازل لا تزال غريبة ... في القوم بعد تمتّع وسماع وهو القائل أيضا: فأبدت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم وأما جعيفران الموسوس الشاعر، وهو من مجانين الكوفة، فإنه لقى رجلا فأعطاه درهما وقال له: قل شعرا على الجيم فقال:

أبو وائل

عادني الهمّ فاعتلج ... كلّ همّ إلى فرج سلّ عنك الهموم بال ... كأس والراح تنفرج وهو القائل: ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدّعيه هذا يقول بنيّ ... وذا يخاصم فيه والأمّ تضحك منهم ... لعلمها بأبيه قال أبو الحسن: استأذن جعيفران على بعض الملوك، فأذن له، وحضر غذاؤه، فتغذى معه؛ فلما كان من الغد استأذن فحجبه، ثم أتاه في الثالثة فحجمه، فنادى بأعلى صوته: عليك إذن فإنا قد تغذينا ... لسنا نعود، وإن عدنا تعدّينا يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها ... داء بقلبك ما صمنا وصلّينا! أبو وائل : العتبي قال: قال أبو وائل لأبي: إن فيّ حماقة، ولكن إن طلبت الشّعر وجدت عندي منه علما. قال: وهل تقول منه شيئا؟ قال: نعم، أقول أجود من قولك، وأنا الذي أقول: لو أنّ جومل كلّمتني بعد ما ... نسيت جوانحي البكاء وأقبر لحسبت ميّت أعظمي سيجيبها ... أو أنّ باليها الرّحيم سينشر «1» قال له أبي: أما الشعر فحسن، إلا أن اسم المرةأ قبيح. قال: الآن اسم المرأة جمل، ولكنني ملحته بحومل! فقال له: إن هذا من الحماقة التي بريء إلينا منها. قال العتبي: قال أبي وأنشدني أبو وائل:

أبو الواسع ومجنون

ما أوجع البين من غريب ... فكيف إن كان من حبيب «1» يكاد من شوقه فؤادي ... إذا تذكرته يموت فقال له أبي: إن هذا باء وهذا تاء. قال: لا تنقط أنت شيئا. قلت: يا هذا إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع. قال: أنا أقول لا تنقط: وهو يشكل! ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب، أخي الحسن بن وهب، دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاد، بشعر يرثيها فيه، فأنشده: لأمّ سليمان علينا مصيبة ... مغلغلة مثل الحسام البواتر وكنت سراج البيت يا أمّ سالم ... فأمسى سراج البيت وسط المقابر فقال سليمان: ما نزل بأحد ما نزل بي: ماتت أمي، ورثيت بمثل هذا الشعر ونقل اسمي من سليمان إلى سالم! ومن قول صالح بن شيرزاد هذا: لا تعدلنّ دواء بالنساء فإن ... كان الضراك فذاك الآذر يطوس «2» أبو الواسع ومجنون : ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع وحوله بنوه، فاستأذنه في الإنشاد فاستعفى، فلم يزل به حتى أذن له؛ فأنشده شعرا، فلما انتهى فيه إلى قوله: وكيف تنفى وأنت اليوم رأسهم ... وحولك الغرّ من أبنائك الصّيد «3» قال له: ليتك تركتنا رأسا برأس.

ابن سيار ومجنون

ابن سيار ومجنون : وقيل: وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت، ومدحه ببيتين؛ فقال له: والله ما تركت قافية لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك. قال: سأقول غير هذا. فغدا عليه بشعر يقول فيه: هل تعرف الدار لأمّ الغمر ... دع ذا وحبّر مدحة في نصر «1» فقال له نصر: لا ذا ولا ذاك. وقال بعض العلماء: ما شبّهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من مجانين أهل مكة للشعر؛ فإنه قال: ما سمعت بأكذب من بني تميم؛ زعموا أن قول القائل: بيت زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل «2» ... زعموا أن هذه أسماء رجال منهم! قال بعض أهل الأدب: قلت له: وما عندك أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة الحجر، ومجاشع زمزم جشعت بالماء، وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة! قلت له: فنهشل؟ قال نهشل ... ؟ وفكر فيه ساعة، ثم قال: قد أصبته؛ وهو مصباح الكعبة طويل أسود؛ فذلك النهشل! من أخبار مجانين دير هزقل : قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا، فملنا إلى دير هزقل ننظر إلى المجانين، فإذا المجانين كلهم قد رأونا، ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه وجلس ناحية عنهم؛ فقلنا: إن كان فهذا فوقفنا به، فسلمنا عليه فلم يردّ السلام؛ فقلنا له: ما تجد؟ فقال: الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبثّ ما أجد «3»

نفسان لي نفس تضمّنها ... بلد وأخرى حازها بلد وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس بفوقها جلد وأظنّ غائبتي كشاهدتي ... فكأنّها تجد الذي أجد فقلت له: أحسنت والله! فأومأ إلى شيء ليرمينا به، وقال: أمثلي يقال له أحسنت! قال: فولينا عنه هاربين، فقال: أسألكم بالله ألا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم لي أحسنت، وإن أسأت قلتم لي أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا، وقلنا له: قل. فأنشأ يقول: لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحّلوها وسارت بالدّمى الإبل «1» وقلّبت من خلال السّجف ناظرها ... ترنو إليّ ودمع العين منهمل «2» وودّعت ببنان عقده عنم ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل» ويلي من البين! ماذا حلّ بي وبها ... من نازل البين؟ حلّ البين وارتحلوا «4» يا راحل العيس عرج كي أودّعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل «5» إني على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا قال: فقلنا له: ماتوا! فصاح وقال: وأنا والله أموت: وتربع وتمدد فمات، فما برحنا حتى دفناه. وقال محمد بن يزيد المبرّد: دخلنا دير هزقل، فإذا بمجنون بيده حجر، وقد تفرّق الناس عنه، وهو يقول: يا معشر إخواني، اسمعوا مني. ثم أنشأ يقول: وذي نفس صاعد ... يئن بلا عائد يكرّ على جحفل ... ويضعف عن واحد «6»

أبو الجهم ومبرسم

وأنشد أبو العباس لمان الموسوس: له وجنات في بياض وحمرة ... فحافاتها بيض وأوساطها حمر رقاق يحول الماء فيها كأنها ... زجاج أريقت في جوانبها الخمر وقال محمد بن يزيد: أصابتنا سحابة جود، ثم أقلعت سريعا، فمر بي مان الموسوس فقال: لا تظنّ الذي جرى ... مطرا كان ممطرا إنما ذاك كلّه ... دمع عيني تحدّرا «1» وتوالت غيومها ... من همومي تفكّرا هكذا حال من يرى ... من حبيب تغيّرا وقف مان الموسوس على أبي دلف، فأنشده: كرات عينك في العدا ... تغنيك عن سلّ السّيوف فقال أبو دلف: والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت! وأمر له بعشرة الآف درهم، فأبى أن يقبضها وقال: نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة. ولمان الموسوس: من الظباء ظباء همّها السّخب ... وحليها الدّرّ والياقوت والذهب يا حسن ما سرقت عيني وما انتهبت ... والعين تسرق أحيانا وتنهب إذا يد سرقت فالحدّ يقطعها ... والحدّ في سرقة العينين لا يجب أبو الجهم ومبرسم : ومرّ عليّ بن الجهم بمبرسم قد اجتمع الناس عليه، وتحلّقوا حوله؛ فلما رآه المبرسم قصد نحوه، وأخذ بعنانه، ثم أنشأ يقول: لا تحلفنّ بمعشر ال ... همج الذين أراهم

أبو فحمة

فوحقّ من أبلى بهم ... نفسي ومن عافاهم لو قيس موتاهم بهم ... كانوا هم موتاهم ثم نظر حوله فرأى جميل الهيئة حسن الوجه، فشق ثيابه وقال: هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم أبو فحمة قال أبو البحتري الشاعر: كان يبلغني أن ببغدا مجنونا يكنى أبا فحمة، له بديهة حسنة، فتعرضت له، فأتيح لي لقاؤه في بعض سكت بغداد؛ فقلت له: كيف أصبحت أبا فحمة؟ فأنشأ يقول: أصبحت منك على شفاجرف ... متعرّض لموارد التّلف «1» وأراك نحوي غير ملتفت ... متحرّفا عن غير منحرف يا من أطال بهجره كلفي ... أسفي عليك أشدّ من كلفي قال أبو البحتري: فأخرجت له قبصة نرجس كانت في كمّي فحيّيته بها، فجعل يشمها مليا، ثم أنشأ يقول: لمّا تزوجت الجنوب بهاطل ... جون هتون زبرج دلّاح «2» أضحى يلقّحها بوسمي الصّبا ... فاستثقلت حملا بغير نكاح «3» حتى إذا حان المخاض تفجّرت ... فأتت بولدان بلا أرواح حاك الربيع لها ثيابا وشّيت ... بيد النّدى وأنامل الأرواح من أصفر في أزهر قد زانه ... تبر على ورق من الأوضاح ركّبن في عمد الزّبرجد فاغتدى ... نحو الغزالة ناظرا بملاح

من شعر ماني

من شعر ماني : قال الحسن بن هانيء: لقيت مانيا الموسوس، فأنشدني: شعر حيّ أتاك من لفظ ميت ... صار بين الحياة والموت وقفا قد برت جسمه الحوادث حتى ... كاد عن أعين البريّة يخفى لو تأمّلتني لتبصر شخصي ... لم تبيّن من المحاسن حرفا من شعر جعيفران : ثم مضيت فأتيت جعيفران الموسوس، وهو شيخ من بني هاشم أرتّ «1» اللسان، وعليه قيد من فضة، وفي عنقه غل من ذهب؛ فقال لي: من أين دببت يا حسن؟ قلت: من بيت مانويه. فقال: في حرام مانويه. فدعا بدواة وقرطاس، وقال لي: اكتب. ما غرّد الديك ليلا في دجنّته ... إلا حثثت إليك السير مجهودا «2» ولا هدت كلّ عين لذّ راقدها ... بنومة في لذيذ العيش ممهودا إلا امتطيت الدّجا شوقا إليك ولو ... أصبحت في حلق الأقياد مصفودا «3» أسعى مخاطرة بالنّفس يا أملي ... والليل مدّرع أثوابه السّودا فلم ترقّ ولم ترث لمكتئب ... زوّدته حركات القلب تزويدا هيهات لا غدر في جنّ ولا بشر ... من الخلائق إلا فيك موجودا من شعر عدرد : ثم قال: خرق رقعة مانويه. فخرقتها ثم مضيت، فلقيت عدرد المصاب وحوله الصبيان، وهو يلطم وجهه ويبكي، وينادي: أيها الناس، الفراق مرّ المذاق! فقلت له: أبا محمد، من أين أقبلت؟ قال: شيعت الحاج. قلت، وما الذي حملك على

أديب ذاهب العقل

تشييعهم؟ فقال: لي فيهم سكن «1» . قلت: فهل قلت فيهم شيئا؟ قال: نعم. وأنشدني: هم رحلوا يوم الخميس عشيّة ... فودّعتهم لمّا استقلوا وودّعوا فلما تولّوا ولّت النفس معهم ... فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع؟ إلى جسد ما فيه لحم ولا دم ... وما هو إلا أعظم تتقعقع وعينان قد أعياهما كثرة الكبا ... وأذن عصت عذّالها ليس تسمع أديب ذاهب العقل : أبو بكر الوراق قال: حدّثني صديق لي؛ قال: رأيت رجلا من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة، وخلفه دابة له تدور معه، فاستوقفته وقلت له: يا فلان، ما حالك؟ وأين النعمة؟ قال: تغير قلبي فتغيرت النعمة! قلت: بم تغيّر؟ قال: بالحب! ثم بكى وأنشأ يقول: أرى التجمّل شيئا لست أحسنه ... وكيف أخفي الهوى والدّمع يعلنه «2» أم كيف صبر محبّ قلبه دنف ... الهجر ينحله والشّوق يحزنه؟ «3» وإنه حين لا وصل يساعفه ... يهوى السّلوّ، ولكن ليس يمكنه وكيف ينسى الهوى من أنت همّته ... وفترة اللحظ من عينيك تفتنه؟ فقلت: أحسنت والله! فقال: قف قليلا، فو الله لأطرحنّ في أذنيك أثقل من الرصاص وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل! وأنشد: للحبّ نار على عيني مضرمة ... لم تبلغ النار منها عشر معشار الماء ينبع منها من محاجرها ... يا للرّجال لماء فاض من نار! ثم وقف وأنشد: أعاد الصّدود فأحيا العليلا ... وأبدى الجفاء فصبرا جميلا «4»

ابن أوس ومان في غلام

وردّ الكتاب ولم يقره ... لئلّا أردّ إليه الرسولا وأحسب نفسي على ما ترى ... ستلقى من الهجر همّا طويلا وأحسب قلبي على ما أرى ... سيذهب سنّي قليلا قليلا! ثم ترك يدي ومضى: وحكى أبو العباس المبرد قال: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون وبين يديه جام «1» زجاج فيه سكر طبرزد وملح جريش؛ قال: فسلمت، فرد وعرض عليّ الأكل؛ فقلت: ما أريد شيئا، هنّأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت بالغداء فإني بتّ جائعا. ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول: اعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واحلف على من أبى، واشكر لمن أكلا فلا تكن سابريّ العرض محتشما ... من القليل، فلست الدهر محتفلا «2» ودعا برطل؛ ودخل رجل من أجلة الفقهاء، فمد يده إليه، فقال؛ والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئا، فلا تسقنيها شيخا! فردّ يده إلى عمرو بن مسعدة فأخذها منه، وقال: يا أمير المؤمنين، الله الله! إني عاهدت الله في الكعبة أن لا أشربها أبدا! ففكر طويلا؛ والكأس في يد عمرو بن مسعدة، حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها؛ ثم قال: ردّا عليّ الكأس إنّكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد «3» خوفتماني الله ربّكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي! ابن أوس ومان في غلام : محمد بن يزيد الأسدي قال: حدّثني حبيب بن أوس قال: كنت في غرفة لي على

أخبار البخلاء

شاطىء دجلة في وقت الخريف، فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال، قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها، وقد احمرّ جلده من برد الماء؛ وإذا مان الموسوس يرمقه ببصره، فلما خرج من الماء قال: خمش الماء جلده الرطب حتى ... خلته لابسا غلالة خمر «1» قلت له: لعنك الله يا ماني! أبعد الجهاد والغزو تحبّ غلاما قد بات مؤخرا في الحانات؟ فقال لي: ليس مثلك يخاطب يا أحمق، وإنما يخاطب هذا وأشار إلى السماء، وقال: بكفّيك تقليب القلوب وإنني ... لفي ترح ممّا ألاقي فما ذنبي؟ خلقت وجوها كالمصابيح فتنة ... وقلت اهجر وها عزّ ذلك من خطب! «2» فإما أبحت الصبّ ما قد خلقته ... وإما زجرت القلب عن لوعة الحب! أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال: أيا ربّ تخلق ما تخلق ... وتنهي عبادك أن يعشقوا؟ إلهي، خلقت حسان الوجوه ... فأيّ عبادك لا يعشق وقال أبو بكر الموسوس في نصراني: أبصرت شخصك في نومي يعانقني ... كما تعانق لام الكاتب الألفا يا من إذا درس الإنجيل ظلّ له ... قلب الحنيف عن الإسلام منصرفا! وله فيه: زنّاره في خصره معقود ... كأنه من كبدي مقدود أخبار البخلاء بخل أهل مرو، ولأبن أشرس فيهم : أجمع الناس على بخل أهل مرو، ثم أهل خراسان.

مروزي اشتكى سمالا

قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج ويثير الحب إليها ويلطف بها، إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده، فعلمت أن لؤمهم في المآكل. ورأيت في مرو طفلا صغيرا في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة. فقال: ليس تسع يدك! فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب والجبلّة «1» المفطورة. مروزي اشتكى سمالا : واشتكى رجل مروزيّ ضررا من سعال؛ فدلّوه على سويق اللوز، فاستثقل النفقة ورأى الصبر على الوجع أخف عليه؛ فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الأوقات حتى أتيح له بعض الموفقين، فدله على ماء النخالة، وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب ماءها، فجلا صدره. ووجده بعضهم، فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء وقال لأم عياله اطبخي لأهل بيتنا النخالة، فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر فقالت له زوجته: قد جمع الله لك في هذا الدواء دواء وغذاء! لابن صبيح : وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلا من أهل خراسان فإذا هو قد أتي بمسرجة فيها فتيل رقيق، وقد ألقى في دهن المسرجة شيئا من ملح، وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة، فإذا غشا المصباح أخرج به رأس الفتيل؛ فقلت: ما بال هذا العود مربوطا؟ فقال: هذا عود قد شرب الدهن، فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان، فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة.

للجزامي

قال: فبينا أنا أتعجب وأسأل الله العافية، إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو ونظر إلى العود فقال: أبا فلان، فررت من شيء ووقعت فيما هو شرّ منه؛ أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء؟ أو ليس [قد] كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج أروى؛ وهو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلا مثلك زمانا، حتى وفقني الله إلى ما [هو] أرشد؛ اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة أو مسلة صغيرة؛ فإن الحديد أبقى، وهو مع ذلك غير نشاف؛ والعود والقصبة ربما تعلقت بهما العشرة من قطن الفتيلة فتشخص معها؛ وربما كان ذلك سببا لانطفائها! قال الخراساني: ألا وإنك لا تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين. للجزامي : قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الجزامي، واسمه عبد الله بن كاسب، ونحن في العسكر؛ إن للشيب سهكة «1» وبياض الشعر الأسود هو موته، كما أن سواده حياته، ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض، والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامّة والطيب غال ممتنع الجانب، فلست أرى شيئا هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل؛ فإن ريحه طيّبة، والشعر سريع القبول [منه] ؛ وأقل ما تصنع أن ما ينفي سهك الشيب؛ حتى يكون حال لا لنا ولا علينا. لابن أشرس : وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، واعلموا أن أعدي عدوّ له المملوك، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل! وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره، فإن الباقلاة تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته!

من بخل هشام بن عبد الملك

من بخل هشام بن عبد الملك : ومن البخلاء هشام بن عبد الملك: قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام فأطرفته وحدثته، فقال: سل حاجتك. فقلت: يا أمير المؤمنين، تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا وقال: فيم؟ ولم؟ وبم؟ ألعبادة أحدثتها أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين؟ ألا لا يا ابن صفوان، ولو كان لكثر السؤال ولم يحتمله بيت المال! فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسدّد؛ فأنت والله كما قال أخو خزاعة: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة قربى أو صديق توافقه منعت وبعض المنع حزم وقوّة ... ولم يستلبك المال إلا حقائقه قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له؟ قال: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من يلومه. وخرج هشام بن عبد الملك متنزها ومعه الأبرش الكلبي، فمر براهب في دير، فعدل إليه، فأدخله الراهب بستانا له، وجعل يجتني له أطايب الفاكهة؛ فقال له هشام: يا راهب؛ بعني بستانك! فسكت عنه الراهب، ثم أعاد عليه، فسكت عنه؛ فقال له: مالك لا تجيبني؟ فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك! قال: لماذا ويحك؟ قال: لعلك أن تشبع! فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أما سمعت ما قال هذا؟ قال: والله إن لقيك حرّ غيره. من بخل ابن الزبير : ومن البخلاء عبد الله بن الزبير، وكانت تكفيه أكلة لأيام، ويقول: إنما بطني شبر في شبر، فما عسى أن تكفيه أكلة. وقال فيه أبو وجرة مولى الزبير: لو كان بطنك شبرا قد شبعت وقد ... أبقيت فضلا كبيرا للمساكين فإن تصبك من الأيام جائحة ... لم نبك منك على دنيا ولا دين

من بخل ابن الجهم

ما زلت في سورة الأعراف تدرسها ... حتى فؤادي كمثل الخزّ في الّلين إنّ امرأ كنت مولاه فضيّعني ... يرجو الفلاح لعبد عين مغبون وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري! فقال فيه الشاعر: رأيت أبا بكر، وربّك غالب ... على أمره، يبغي الخلافة بالتّمر! وأقبل إليه أعرابيّ فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيناك! قال: أراك تجعل روحي نقدا ودراهمك نسيئة! وأتاه أعرابي يسأله جملا، ويذكر أن ناقته نقبت «1» ؛ فقال؛ انعلها من النعال السبتية، واخصفها بهلب! قال له الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلا ولم آتك مستوصفا؛ فلا حملت ناقة حملتني إليك! قال: إنّ وصاحبها. من بخل ابن الجهم : ومن رؤساء أهل البخل محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء، وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء- تواطئوا على ذمّي، واستهلوا بشتمي، حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق، حتى لا يمتدّ إليّ أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راج. وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا! قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام، هات الغداء. وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحد قط في ماله إلا شغله عن الطمع في غيره، ولا شفع في صديق، ولا تكلم في حاجة محرم، إلا ليلقن المسئول حجّة المنع، ويفتح على السائل باب الحرمان!

من بخل ابن أبي حفصة

من بخل ابن أبي حفصة : ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر؛ قال أبو عبيدة عن ابن الجهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة، فقدّم إليّ تمرا، وأرسل غلامه بفلس وسكرّجة يشتري زيتا، فأتى الغلام بالزيت، فقال له: خنتني وسرقتني! قال: وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت. من بخل الصيرفي : ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي؛ استلف من بقال على بابه در همين وقيراطا، فمطله بها ستة أشهر، ثم قضاه در همين وثلاث حبات [شعير] ؛ فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار، وأنا يقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي، واستقضي الحبة في بابك والحبتين؛ صاح على بابك حمال، [والمال لم يحضرك] ولا يحضر تلك الساعة وكيلك، فأعنتك وأسلفتك در همين وأربع شعيرات، فتقضيني بعد ستة أشهر در همين وثلاث شعيرات؟ فقال زبيدة: يا مجنون، أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربع صيفية؛ لأن هذه ندية وتلك يابسة، وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلا! للأصمعي في بخيل : قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: الموت أو أشرب من لبنه! فأقبل مع صاحب له، حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن؛ فقال ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله ههنا. وكان قال لي: اسقني لبنا! قال صاحب اللبن: هذا هين موجود؛ ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه به فأسنده صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم

طعام البخلاء

تجشأ، فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه! ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة «1» عصا أو عقدة رشاء «2» ؛ لأن عقدة الرّشاء المبلول لا تكاد تنحل. قيل لمدنية: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يردّه! قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له! قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال. والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائبا: جاء فلان على غبيراء الظهر وجاء على حاجبه صوفة، وجاء بخفّي حنين. وقال أبو عطاء السندي، في يزيد بن عمرة بن هبيرة: ثلاث حكتهنّ لفرم قيس ... طلبت بها الأخوة والسّناء رجعن على حواجبهنّ صوف ... وعند الله أحتسب الجزاء طعام البخلاء لمروزي وزواره قال الأصمعي: كان المروزيّ يقول لزوّاره إذا أتوه: هل تغدّيتم اليوم؟ فإن قالوا: نعم. قال: والله لولا انكم تغديتم لاطعمتكم لونا ما أكلتم مثله، ولكن ذهب اول الطعام بشهوتكم! وإن قالوا: لا. قال: والله لولا انكم لم تتغدّوا لسقيتكم أقداحا من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله! فلا يصير في أيديهم منه شيء من نجل ثمامة وكان ثمامة إذا دخل عليه اصحابه وقد تعشّوا عنده قال لهم: كيف كان

أبو جعفر

مبيتكم ومنامكم؟ فإن قال احدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون، قال: النفس إذا اخذت قوتها أطمأنت! وإذا قال احدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من افراط الكظّة «1» والإسراف في البطنة! ثم يقول: كيف كان شربكم للماء؟ فإن قال أحدهم: كثيرا. قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير وإن قال: قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلا! وكان إذا اطعم اصحابه استلقى على قفاه ثم يتلو قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً «2» . ودخل عليه رجل وبين يديه طبق فراريج، فغطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للرجل الداخل: ادخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري. أبو جعفر وشوي لابي جعفر الهاشمي دجاج ففقد فخذا من دجاجة، فأمر فنودي في منزله: من هذا الذي تعاطى فعقر! والله لا أخبز في التنور شهرا أو تردّ! فقال ابنه الاكبر: يا أبت، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. سهل بن هارون وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هرون، فأطلنا الحديث حتى أضرّ به الجوع، فدعا بغذائه، فإذا بصحفة عدمليّة «3» فيها مرق لحم ديك قد هرم، لا تحز فيه السكين، ولا تؤثر فيه الضرس [فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصحفة، ففقد الرأس، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: لم؟ قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذلك؟ فو الله إني لا بغض من يرمي برجله فضلا عن رأسه، والرأس رئيس الاعضاء،

زياد بن عبد الله

وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك! وفيه العين التي يضرب بها المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك؛ ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه، فإن كان بلغ من جهلك أن لا تأكله فعندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري، رميت به في بطنك! زياد بن عبد الله وأهدى رجل من قريش لزياد بن عبيد الله وهو على المدينة طعاما فثقل عليه ذلك، فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه! فجمعوا، وكشف عن الطعام، فإذا طعام له بال، فندم على الإرسال للمساكين، وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس! لا اعلم انه اجتمع فيه منكم اثنان! عبد الله بن يحيى وقال: دخلت على عبد الله بن يحيى بن خالد بن أمية، وقوم يأكلون عنده، فمدّ يده إلى رغيف من الخوان فرفعه، وجعل يرطله «1» بيد ويقول: يزعمون أن خبزي صغير، فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه. قال: ودخلت عليه يوما والمائدة موضوعة، والقوم يأكلون، وقد رفع بعضهم يده، فممدت يدي لآكل، فقال: اجهز على الجرحى، ولا تتعرض للاصحاء! يقول: تعرّض للدجاجة التي قد نيل منها، والفرخ المأخوذ منه؛ فأما الصحيح فلا تتعرض له. هذا معناه في الجرحى [والاصحاء] .

لجمين في بخيل

لجمين في بخيل وسأل يحيى بن خالد ابا الحارث جمّين عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقبّبة، وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل، وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون. قال: فمن يأكل معه؟ قال: الذباب. قال له يحيى: وأرى ثوبك مخرقا، أفلا يكسوك ثوبا وأنت في صحبته؟ قال: جعلت فداك، والله لو ملك بيتا من بغداد إلى الكوفة مملوءا إبرا، وفي كل ابرة منها خيط، وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قدّ من دبر، ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده، لم يفعل. لابن مسلمة أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة، فقال يهجو ابن الاغلب: لو أنّ قصرك يا ابن أغلب كلّه ... إبر يضيق بهن رب المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قدّ قميصه لم تفعل! «1» وقيل لجمّين: أتغذيت عند فلان! قال: لا، ولكنني مررت به يتغذى! قيل: فكيف علمت أنه يتغذى؟ قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسى البندق يرمون الذباب في الهواء! وقال أبو الحارث جمّين: دخلت على فلان، فوضع بين أيدينا مائدة- كنا أشوق إلى الطعام إذ رفعت منا إليه إذ وضعت-! اعرابي على مائدة هشام وحضر اعرابي سفرة هشام بن عبد الملك، فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الاعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمنك يا اعرابي! قال: وإنك لتلاحظنني

المغيرة وبخله

ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا اكلت عندك أبدا! وخرج وهو يقول: وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الاكيل على عمد وقال آخر: ولو عليك اتّكالي في الغداء إذا ... لكنت أوّل مقتول من الجوع يقول عند دعاء الضّيف مبتدئا ... صوت ضعيف وداع غير مسموع المغيرة وبخله قال المدائني: كان للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة، جدي يوضع على مائدته بعد الطعام، لا يمسه هو ولا احد ممن يحضر، فحضر مائدته أعرابيّ، فبسط يده، وأسرع في الأكل، فقال: يا اعرابي، إنك لتأكل الجدي بحرد «1» كأنّ أمه نطحتك، فقال له الاعرابي: أصلحك الله، وانت تشفق عليه كأنّ أمّه أرضعتك! ثم بسط الاعرابي يده إلى بيضة بين يده، فقال: خذها فإنها بيضة العقر! فلم يحضر طعامه بعد ذلك. أشعب ووالي المدينة ودخل أشعب على والي المدينة، فحضر طعامه، وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر، فبدر إليه أشعب فمزقه، فقال له: يا أشعب، إن اهل السجن ليس لهم إمام يصلى بهم، فإن رأيت ان تكون لهم إماما تصلي بهم، فإن في ذلك أجرا! فقال: والله ما احبّ هذا الأجر، ولكن زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله! الكندي قال عمرو بن ميمون: تغدّيت يوما عند الكندي، فدخل عليه رجل كان جارا وصديقا له، فلم يعرض عليه الطعام، ونحن نأكل، فاستحيت أنا منه، فقلت: سبحان

بخيل وولده

الله، لو دنوت فأصبت معنا! قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء! قال: فكنفه والله كتافا لو بسط يده لأكل بعده لكان كافرا! قال: ومررت ببعض طرق الكوفة، فإذا أنا برجل يخاصم جارا له، فقلت: ما بالكما؟ فقال احدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى عليّ رأسا، فاشتريته له وتغدينا. فأخذت عظمامه فوضعتها عند باب داري اتجمل بها عند جيراني، فجاء هذا وأخذها ووضعها على باب داره، يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس. بخيل وولده قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما، فاشتروا له، وأمر بطبخه حتى تهرّأ، فأكل منه حتى انتهت نفسه [ولم يبق إلا العظم] ، وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحدا منكم إلا من أحسن صفة أكله! فقال الاكبر: أتعرّقه «1» يا أبت، حتى لا أدع للذرّة فيه مقيلا! قال: لست بصاحبه! فقال الاوسط: أتعرّقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول! قال: لست بصاحبه! فقال الاصغر: أتعرّقه يا أبت، ثم أدقه دقا، وأسفه سفا؟ قال: أنت صاحبه، وهو لك دونهم. الثوري وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان ابو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرءوس ويصفها، وكان يسمّي الرأس عرسا لما فيه من الالوان الطيبة، وربما سماه الكامل والجامع؛ ويقول: الرأس شيء واحد، وهو ذو الوان عجيبة وطعوم مختلفة، والرأس فيه الدماغ، وطعمه مفرد، وفيه العينان، وطمعمهما مفرد، والشحمة التي بين أصل الاذن ومؤخر العين، وطعمها مفرد، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ، وأرطب من الزبد، وأدسم من السلاء؛ وفي الرأس اللسان، وطعمه مفرد، والخيشوم، والغضروف، ولحم الخدين، وكل شيء من هذه طعمه مفرد؛ والرأس سيد البدن،

لاعرابي في الرأس

والدماغ هو معدن العقل، وحاسة الحواس وبه قوام البدن، وفيه يقول الشاعر: إذا نزعوا رأسي، وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري ... لاعرابي في الرأس وقيل لاعرابي: اتحسن أن تأكل الرأس؟ قال: نعم؛ أعض العينين، وأفك لحييه، وأنقي خديه، وأرمي بالدماع إلى من هو أحق مني، وكانوا يكرهون أكل الدماغ، ولذا يقول قائلهم. ولا أبتغي المخّ الذي في الجماجم نصيحة ابي عبد الرحمن لابنه وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إياك ونهم الصبيان وبغر» السباع، واخلاق النوائح، ونهش الاعراب، وكل ما بين يديك، فإنما حظك منه ما قابلك، واعلم أنه إذا كان في الطعام شيء ظريف، من لقمة كريمة، او مضغة شهية، فانما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل، ولست بواحد منهما، وقد قالوا. مدمن اللحم كمد من الخمر؛ أي بنيّ، لا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، ولا تنهش نهش السباع، وعوّد نفسك الأثرة «2» ، ومجاهدة الهوى والشهوة؛ فإن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعدّ نفسك من الزّمنى؛ واعلم أن الشّبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت. ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة؛ لانه قاتل نفسه، وقاتل نفسه الأم من قاتل غيره أي بني، والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو كظة ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم صحة؛ والوجبات عيش الصالحين أي بني، لأمر ما طالت أعمار الرهبان، وصحت

ابو الاسود الدؤلي

أبدان الاعراب؛ لله درّ الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم «1» ، وان الداء كله هو من فضول الطعام؛ فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بنيّ، ما صار الضبّ أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلّغ بالنسيم؛ وما زعم الرسول أن الصوم وجاء «2» إلا انه جعله حاجزا دون الشهوات: فافهم تأديب الله وتأديب الرسول؛ أي بني، قد بلغت تسعين عاما ما نغض لي سنّ، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت وكف انف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول؛ وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد؛ فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك. ابو الاسود الدؤلي ومن البخلاء: أبو الأسود الدؤلي: وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط وبين يديه طبق تمر، فقالت: السلام عليك! قال ابو الاسود: كلمة مقبولة. ووقف عليه اعرابي، وهو يأكل فقال الاعرابي: أدخل؟ قال وراءك أوسع لك! قال: الرمضاء احرقت رجلي! قال: بل عليهما تبردان! قال أتأذن لي ان آكل معك؟ قال: سيأتيك ما قدّر لك! قال: تالله ما رأيت رجلا الأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا انك نسيت! ثم اقبل ابو الاسود يأكل، حتى [إذا] لم يبق في الطبق الا تميرات يسيرة نبذها له، فوقعت تمرة منها، فأخذها الاعرابي ومسحها بكسائه، فقال ابو الاسود. يا هذا، إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها له. قال: كرهت ان ادعها للشيطان! قال: لا والله، ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها. الأصمعي قال: مرّ رجل بأبي الاسود الدؤلي وهو يقول: من يعشّي الجائع؟ فقال ابو الاسود: عليّ به، فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع! فلما اكل ذهب ليخرج؛ قال: أين تريد؟ قال: أريد اهلي. قال: لا ادعك تؤذي المسلمين الليلة

ابن ابي حفصة وضيف

بسؤالك! اطرحوه في الادهم «1» ! فبات عنده مكبولا حتى اصبح! ابن ابي حفصة وضيف قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة، فأخلى له المنزل ثم هرب عنه، مخافة ان يلزمه قراه تلك الليلة؛ فخرج الضيف فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب إليه. يأيّها الخارج من بيته ... وهاربا من شدّة الخوف ضيفك قد جاء بزاد له ... فارجع تكن ضيفا على الضّيف! وقال آخر: بتّ ضيفا لهشام ... في شرابي وطعامي وسراجي الكوكب الدّ ... رّيّ في داج الظلام «2» لا حراما أجد الخ ... بز ولا غير الحرام! وله: بت ضيفا لهشام ... فشكا الجوع! عدمته! وبكى- لا صنع الله ... له- حتى رحمته وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع، فيلحّ عليه أن يتغدّى عنده في منزله، فيمطله ابن المقفع، فيقول: أتراني أتكلف لك شيئا؟ لا والله، لا أقدم لك إلا ما عندي، فلا تتثاقل عليّ! فلم يزل به حتى أجابه، وأتى به إلى منزله، فإذا ليس عنده إلا كسر يابسة وملح جريش، فقدمه له؛ ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك! فألح في السؤال، فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقّنّ ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: أرح نفسك وانج والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة.

حميد الارقط

وانتقل رجل من البخلاء إلى دار فابتاعها، فلما حلها وقف سائل، فقال له: صنع الله لك! ثم وقف ثان، فقال له مثل ذلك، ثم وقف ثالث، فقال له مثل ذلك؛ فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان! فقالت له: يا أبت، ما تمسكت لهم بهذا القول فما تبالي كثروا ام قلوا؟ الأصمعي: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قرونا. البرم: الذي يأكل مع اصحابه ولا يجعل لهم شيئا، والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين. حميد الارقط وألأم اللئام وأبخل البخلاء حميد الارقط، الذي يقال له هجّاء الاضياف؛ وهو القائل في ضيف نزل به وآكله: ما بين لقمته الاولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور «1» وله: تجهّر- كفّاه ويحدر حلقه ... إلى الزّور ما ضمّت عليه الأنامل أتانا وما سواه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل فما زال عنه اللّقم حتى كأنه ... من العيّ لما ان تكلم باقل وله في الاضياف: لا مرحبا بوجوه القوم إذ دخلوا ... دسم العمائم تحكيها الشياطين باتوا وجلّة تمر حلّ بينهم ... كأنّ أيديهم فيها السكاكين فأصبحوا والنوى عالي معرّسهم ... وليس كلّ النّوى تلقى المساكين «2» ما قالت الشعراء في طعام البخلاء فمن اهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب:

والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا وقوله فيهم: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار «1» قوم إذا استنبح الاضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار وقال الراعي: اللاقطين النّوى تحت الشياه كما ... نحت كرادم دهم في مخاليها «2» فأين هؤلاء من قول الآخر: أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره ولآخر: أبو نوح، أتيت إليه يوما ... فغدّاني برائحة الطعام وجاء بلحم لا شيء سمين ... فقدّمه على طبق الكلام فلمّا أن رفعت يدي سقاني ... كئوسا حشوها ريح المدام فكنت كمن سقى ظمآن آلا ... وكنت كمن تغدّى في المنام «3» ولآخر: تراهم خشية الاضياف خرسا ... يصلّون الصلاة بلا أذان ولحماد بن جعفر: حديث أبي الصلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسده تخوّف تخمة إخوانه ... فعوّدهم أكلة واحده ولآخر:

أتانا بخبز له حامض ... كمثل الدراهم في رقّته إذا ما تنفّس حول الخوان ... تطاير في البيت من خفّته فنحن كظوم له كلنا ... نردّ التنفس من خشيته فيكلمه اللّحظ من رقّة ... ويأكله الوهم من قلّته نزل رجل من العرب ببخيل، فقدّم إليه جرادا، فعافه وأمر برفعه، وقال: لحا الله بيتا ضمّني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل مظلم فأبصرت شيخا قاعدا بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم أتانا ببرقان الدّبى في إنائه ... ولم يك برقان الدّبى لي مطعم فقلت له غيّب إناءك واعتزل ... فهذا وهذا لا أبا لك مسلم ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة عجوزا من محارب، فلم تقره شيئا؛ فرحل عنها وقال: تضيّفت في برد وريح تلفّني ... وفي طرمساء غير ذات كواكب إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفّعت الظّلماء من كلّ جانب تصلى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب فما راعها إلا بغام مطيّتي ... تريح بمحسور من الصوت لاغب «1» فجنّت جنونا من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب «2» سرى في جليد الليل حتى كأنما ... تخرّم بالأطراف شوك العقارب «3» تقول وقد قرّبت كوري وناقتي ... إليك فلا تذعر عليّ ركائبي فسلّمت والتسليم ليس يسرّها ... ولكنه حق على كلّ جانب «4» فردّت سلاما كارها ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحيّ؟ قالت: معشر من محارب

من المشتوين القدّ في كلّ شتوة ... وإن كان عام الناس ليس بناصب فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... عليّ مبيت السّوء ضربة لازب وقمت إلى مهريّة قد تعوّدت ... يداها ورجلاها حثيث المواكب ألا إنها نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب وقال الخليل بن أحمد: كفّاه لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه فكف عن الخير مقبوضة ... كما نقصت مائة سبعه وكفّ ثلاثة آلافها ... وتسع مئات لها شرعه وقال غيره: وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار وقال احمد بن نعيم السلمي في بني حسان: إذا احتفلوا للضيف لهوج قدرهم ... جراديم أشباه النّخاعة تبلع «1» تبلّ جيار الضيف حتى تردّه ... وتصبح من عين استه تتطلّع ويقريك من أكرهته من سوادهم ... قرى الحيّ أو أدنى لجوع وأبشع عظاما وأرواثا وبعرا وإن يكن ... لدى القوم نار يشتوي لك ضفدع ولآخر: فبتنا كأنهم بينهم أهل مأتم ... على ميّت مستودع بطن ملحد يحدّث بعض بعضنا بمصابه ... ويأمر بعض بعضنا بالتجلّد! «2» ولآخر: ذهب الكرام فلا كرام ... وبقي الغطاريف اللّئام

من لا يقيل ولا يني ... ل، ولا يشمّ له طعام ولآخر: صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف، فذاك البرّ من قسمه فإن هممت به فافتك بخبزته ... فإنّ موقعها من لحمه ودمه قد كان يعجبني لو أنّ غيرته ... على جرادته كانت على حرمه ولآخر: إنّ هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لناظر من سبيل هو في سفرتين من أدم الطّا ... ئف في سلتين في منديل في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل وقال ابو نواس في فضل الرقاشي: رأيت قدور الناس سودا من الطّلا ... وقدر الرّقاشييّن زهراء كالبدر يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيها على قلم الظّفر إذا ما تنادوا للرّحيل سعى بها ... أمامهم الحوليّ من ولد الذرّ وقال في إسماعيل الكاتب: خبز إسماعيل كالوش ... ي إذا ما انشقّ يرفا «1» عجبا من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى إن رقاءك هذا ... ألطف الأمّة كفا فإذا قابل بالنّص ... ف من الجردق نصفا «2» أحكم الصّنعة حتى ... ما يرى مغرز إشفى ولآخر: ارفع يمينك من طعامه ... إن كنت ترغب في كلامه

باب من اخبار البخلاء

سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عطافه ولآخر: رأيت الخبز عزّ لديك حتى ... حسبت الخبز في جوف السحاب وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذّباب ولآخر: يحذر- أن تتخم إخوانه ... إنّ أذى التخمة محذور ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصّوم والصائم مأجور ومن قولنا في نحوه: لا يفطر الصائم من أكله ... لكنه صوم لمن أفطرا في وجهه من لؤمه شاهد ... يكفى به الشاهد أن يخبرا لم يعرف المعروف أفعاله ... قطّ كما لم ينكر المنكرا وقال آخر: خليليّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن فرعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين كأن عبيد الله لم يلق ماجدا ... ولم يدر أنّ المكرمات تكون فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين إذا جئته في حاجة سدّ بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين باب من اخبار البخلاء بين بخيلين الرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء، فقال له: احملني! فقال: ما كنت لا نزل واحملك! قال. ما انت بحاتم حيث يقول:

انخها فأردفها، فإن حملتكما ... فذاك؛ وإن كان العقاب فعاقب «1» قال: ما فيها محمل، ولابي طاقة على المشي. وقد قال شاعرهم حاتم: أماويّ إمّا مانع فمبيّن ... وإما عطاء لا ينهنه الزجر «2» وقال كثير عزة: مهين تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما «3» سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة، فلم يقضها، فتشفع إليه برجل فقضاها؛ فقال: ذممت ولم تحمد، وأدركت حاجتي ... تولّى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب المجد رأي مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرّة ... عصاها، وإن همّت بشرّ أطاعها احتاج ابو الاسود الدؤلي مرة، فبعث إلى جار له موسر يستسلفه، وكان حسن الظن به، فاعتل عليه ورده؛ فقال: لا تشعرنّ النّفس يأسا فإنما ... يعيش بجدّ حازم وبليد ولا تطمعن في مال جار لقربه ... فكلّ قريب لا ينال بعيد وكتب إلى آخر يستسلفه، فكتب إليه: المؤنة كثيرة، والفائدة قليلة، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه ابو الاسود: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت صادقا فجعلك الله كاذبا! وقال بعض الشعراء في بخيل:

ميّت مات وهو في كنف العي ... ش مقيم في مظلّ عيش ظليل في عداد الموتى، وفي عامر الدّن ... يا أبو جعفر أخي وخليلي لم يمت ميتة الحياة ولكن ... مات عن كلّ صالح وجميل ولآخر: فأمّا قراه كله فلنفسه ... ومال يزيد كلّه ليزيد «1» ولآخر: له يومان: يوم ندى، ويوم ... يسلّ السيف فيه من القراب «2» فأمّا جوده فعلى النّصارى ... وأمّا بأسه فعلى الكلاب ولآخر: قدحت بأظفاري، وأعملت معولي ... فصادفت جلمودا من الصّخر أملسا «3» تجهّم لمّا قمت في وجه حاجتي ... وأطرق حتى قلت: قد مات أو عسى فأجمعت أن أنعاه لمّا رأيته ... يفوق فواق الموت حتى تنفّسا وأنشد أبو جعفر البغدادي للجولديّ: جاء بدينارين لي صالح ... أصلحه الله وأخزاهما أدناهما تحمله ذرّة ... وتلعب الريح بأقواهما بل لو وزنّا لك ظلّيهما ... ثم عمدنا فوزّنّاهما لكان لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلّاهما ولحماد عجرد: أورق بخيرك تؤمل للجزيل، فما ... ترجى الثّمار إذا لم يروق العود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود إنّ الكريم ترى في الناس عفّته ... حتى يقال غنيّ وهو مجهود «4»

باب ما قيل في البخلاء

وأنشد: جاد ابن موسى من دنانيره ... لنا بدينارين إسرارا كلاهما في الكفّ من خفّة ... لو نفخا من فرسخ طارا قلت، وقلبي لهما منكر: ... أدّهما للخبر قسطارا «1» فكان هذا عنده بهرجا ... وكان هذا عنده بارا ثم وزنّا واحدا منهما ... كان له القسطار مختارا فكان في كفّة ميزانه ... ينقص قيراطا ودينارا باب ما قيل في البخلاء سمع رجل أبا العتاهية ينشد: فارمي بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلّا بخيلا فقال له: بخّلت الناس كلّهم! قال: فأرني واحدا سمحا! وقال ابن أبي حازم: وقالوا لو مدحت فتى كريما! فقلت وأين لي بفتى كريم؟ بلوت ومرّ بي خمسون عاما ... وحسبك بالمجرّب من عليم فلا أحد يعدّ ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم ولآخر: لمّا رآنا فرّ بوابه ... وارتدّ من غير يد بابه كلب له من بغضه حاجب ... يحجبه إن غاب حجّابه ومن قولنا: جعل الله رزق كلّ عدوّ ... لي بكفّ لبعض من لا أسمّي كفّ من لا يهزّ عطفيه يوما ... لمديح، ولا ينال بدمّ يتلقّى الرجاء منه بوجه ... رائح الخدّ والجبين بسمّ

احتجاج البخلاء

جئته زائرا، فما زال يشكو ... لي حتى حسبته سيدمّي ألف الّلوم فيه من كلّ طرف ... معرقا فيه بين خال وعمّ قد نهاني النّصيح عنه مرارا ... بأبي أنت من نصيح وأمّي ومن قولنا: يراعة غرّني منها وميض سنا ... حتى مددت إليه الكفّ مقتبسا «1» فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا «2» كأنما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا كلب يهرّ إذا ما جاء زائره ... حتى إذا جاء مهدي تحفة نبسا «3» ومن قولنا: صحيفة طابعها الّلوم ... عنوانها بالبخل مختوم أهداكها والخلف في طيّها ... والمطل والتّسويف واللوم من وجهه نحس، ومن قربه ... رجس، ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن كنت ضيفا له ... فخبزه في الجوف هاضوم «4» تكلمه الألحاظ من رقّة ... فهو بلحظ العين مكلوم لا تأتدم شيئا على أكله ... فإنه بالجوع مأدوم «5» احتجاج البخلاء الأصمعي قال: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حالا منهم!

كندي وتغلبي

وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم! وقال لهم أيضا: لا تجاودوا الله، فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل، ولكنه علم أن قوما لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوما لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى! وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي. ونحوه قول ابن الجهم: منع الجميع أرضى للجميع. كندي وتغلبي : وقال رجل من تغلب: أتيت رجلا من كندة أسأله، فقال: يا أخا بني تغلب إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إليّ منك، وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبة طوبة، والله يا أخا بني تغلب ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس. وقال آخر: من أعطى من الفضول قصّر عن الحقوق. ابن هارون وسائل : وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه، قال: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال: درهم واحد! قال: يا ابن أخي لقد هوّنت الدرهم وهو طائع الله في أرضه الذي لا يعصى، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم! ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هوّنته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم. من وصية لقمان لابنه : وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بنيّ، أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما

الجاحظ والخزامي

تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك، خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى: يلومونني في البخل جهلا وضلّة ... وللبخل خير من سؤال بخيل ونظيره قول المتلمس: وحبس المال خير من نفاد ... وضرب في البلاد بغير زاد وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وقيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه! قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله! قال: لا، ولكن أخاف أن لا أموت في أوله! الجاحظ والخزامي : وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم؛ لأنه لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلّم لي المال وسمّني بأي اسم شئت! فقال: جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرق عجيب وبون بعيد: إن في قولهم بخيل، سببا لمكث المال؛ وفي قولهم سخي، سببا لخروج المال عن ملكي؛ واسم البخيل فيه حفظ وذمّ، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع، ومكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية، ومسمعة وطرمذة» ؛ وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعري ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه! وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك أن لا يقيم عليك، ومن احتاج

من وصية الأسدي لبنيه

إليك أن لا يزول عنك؛ فمن حبك لصديقك وضنك بمودته أن لا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك؛ فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسبابه من الشكر؛ والمعين على الغدر شريك الغادر، كما أن مزيّن الفجور شريك الفاجر. من وصية الأسدي لبنيه : وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بنيّ، تعلموا الردّ؛ فإنه أسدّ من العطاء ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم، أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم؛ ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني، خير له من أن يقال سخيّ وهو فقير. وقال الحزامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك؛ فما ظنك إن كان أقصر مني، أليس يتخيّل في قميصي؟ وإن كان أطول مني، أليس يصير آية للسابلين، فمن أسوأ أثرا على صديقه ممن جعله ضحكة؟ فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي؛ ومتى يتفق هذا؟ أبو نواس وفقيه : وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة ونحن نريد بغداد، رجل من أهل خراسان، وكان من فقهائهم وعقلائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس عليّ في هذا مسألة؛ إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف، وأكلي وحدي هو الأصل، وأكلي مع الجماعة تكلّف ما ليس عليّ. ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم، فجعل يقلبه ويقول. في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ وفي شق آخر: قل هو الله أحد؛ ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذة ورقية! ورمي به في الصندوق. وكان أبو عيسى بخيلا، وكان إذا وقع الدرهم بيده طنّه «1» بظفره وقال: يا درهم

ابن أشرس وسائل

كم من مدينة دخلتها؟ وأيد دوّختها؟ فالآن استقرّ بك القرار، واطمأنت بك الدار! ثم رمى به في الصندوق. ابن أشرس وسائل : وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجة ... قال: وأنا لي إليك حاجة! قال: وما حاجتك إليّ؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها! قال: قد فعلت. قال: فإن حاجتي لك أن لا تسألني حاجة! فانصرف الرجل عنه. وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل اسقني، أتى بإناء على قدر اليد أو أصغر، وإذا قال أطعمني، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشراب أخوان! أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء؛ الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه، أو كان قليلا في منبته؛ ألا ترى الباقلا الأخضر أطيب من الكمثري، والباذنجان أطيب من الكمأة «1» ؛ ولكن أهل التحصيل والنظر قليل، وإنما يشتهون قدر الثمن! وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، وأعدى عدو له المالح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلا بقشره، فإن الباقلّا يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته؛ فما حاجتكم أن تصيروا طعاما لطعامكم؟ ابن هبيرة وعقيلي : الأصمعي قال قد جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة، فمتّ إليه بقرابة وسأله أن يعطيه، فلم يعطه شيئا؛ ثم عاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيلي الذي سألتك

رسالة سهل بن هارون في البخل

منذ أيام! فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام! فقال معذرة إليك، إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي! قال: ذلك ألأم لك عندي، وأهون بك عليّ؛ نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه، ومات مثل يزيد ولم تعلم به! يا حرسيّ، اسفع «1» بيده! ومن أشعار البخلاء التي يتمثلون بها: وزهّدني في كلّ خير صنعته ... إلى الناس ما جرّبت من قلة الشكر ولآخر: ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه ... فإذا أضلّك جيبه فاستبدل ولابن هرمة: قد يدرك الشّرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الإخوان؛ وقولهم: كلام الليل يمحوه النهار وقولهم: بروق الصيف كاذبة الوعود رسالة سهل بن هارون في البخل بسم الله الرحمن الرحيم، أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير وجعلكم من أهله؛ قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار. وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيّابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن

أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهي مرشدا وأن تغري بمشفق. وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإصلاح فاسدكم، وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم؛ وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم، ولأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم؛ ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ «1» ؛ فما كان أحقنا بكم في حرمتنا بكم أن ترعوا حقّ قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب برّا وفخرا لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا. عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين، فهو أطيب لطمعه، وأزيد في ريعه؛ وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أملكوا «2» العجين، فإنه أحد الريعين. وعبتموني حين ختمت على سدّ عظيم «3» ، وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة؛ ومن رطبة غريبة، على عبد نهم، وصبيّ جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة؛ وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادة القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب- التابع والمتبوع، والسيد والمسود؛ كما لا تستوي مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم في العنوان؛ ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين، وعلف حماره السمسم المقشّر! فعبتموني بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق، وعلى كيس فارغ،

وقال: طينة خير من ظنّة، فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء! وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج، ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق؛ وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا طبخ أحدكم لحما فليزد من الماء، فمن لم يصب لحما أصاب مرقا» . وعبتموني بخصف «1» النعل، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفرّق مع التضييع؛ والاجتماع مع الحفظ. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخصف نعله، ويرقع ثوبه؛ ويلعق أصابعه، ويقول: «لو أهدي إليّ ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت» . وقال عليه الصلاة والسلام: «من لم يستحي من الحلال خفّت مئونته، وقل كبره» ؛ وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق. وبعث زياد رجلا يرتاد له محدّثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكنني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديدا؛ فتفرّست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرا وسما به موضعا؛ كما جعل لك زمان رجالا، ولكل مقام مقالا؛ وقد أحيا الله بالسم، وأمات بالدواء، وأغصّ بالماء؛ وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين؛ وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرسك النعل؛ وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة؛ ولبس سالم بن عبد الله بجلد أضحية «2» ؛ وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن كان لا بد فاجعلها بيوضا. وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي؛ فلقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشفّ

من الكفاية؛ فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء «1» ، وجدت في الأعضاء فضلا على الماء؛ فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوّله، ولكان نصيب [العضو] الأول كنصيب الآخر؛ فعبتموني بذاك وشنعتم عليّ؛ وقد قال الحسن وذكر السّرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ؛ فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلأ. وعبتموني أن قلت: لا يغترّنّ أحدكم بطول عمره، وتقوّس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوته، وأن يرى نحوه أكثر ذريته؛ فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه؛ فلعله أن يكون معمرا؛ وهو لا يدري، وممدودا له في السنّ وهو لا يشعر؛ ولعله أن يرزق الولد على اليأس، أو يحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على بال ولا يدركه عقل، فيستردّه ممن لا يردّه، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه؛ أصعب ما كان عليه الطلب، وأقبح ما كان به أن يطلب؛ فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وعبتموني بأن قلت بأن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك [أسرع] وأن الحفظ للمال المكتسب، والغنى المجتلب، وإلى ما يعرض فيه لذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب- أسرع؛ ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفسا بالذل. وعبتموني بأن قلت: إن كسب الحلال يضمن الإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وأن الطيب يدعو إلى الطيب، وأن الإنفاق في الهوى حجاز دون الحقوق؛ فعبتم عليّ هذا القول؛ وقد قال معاوية: لم أر تبذيرا قط إلا وإلى جنبه تضييع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا

فيما ذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم: أنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات؛ فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى بقيّة، فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة؛ فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع؛ و [قد] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرّقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين. وقال ابن سيرين [لبعض البحريّين] : كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرّقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر؛ ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع. وعبتموني بأن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكرا، وللمال لنزوة؛ فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله؛ فعبتموني بذلك؛ وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا من غنيّ أمن الفقر. وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقال الشاعر في يحيى بن خالد بن برمك: وهوب تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما «1» وعبتموني حين زعمت أني أقدّم المال على العلم؛ لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس قبل أن يعرف فضل العلم فهو أصل، والأصل أحق بالتفضيل من الفرع؛ فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: آلأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال، وجهل الأغنياء بحقّ العلم؛ فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه، وشيء يغنى فيه بعضهم عن بعض؛ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج؛ وقال أبو

أخبار الطفيليين

بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد، وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض. وعبتموني حين قلت: [إن] فضل الغني على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة، وقد قال الحضين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشيء! قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه، لأن المال مخدوم؛ وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن [لك] فيه إلا أنه عزّ في قلبك، وذلّ في قلب عدوّك، لكان الحظ فيه جسيما، والنفع فيه عظيما. ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو؛ ولستم عليّ تردّون، ولا رأيي تفنّدون، فقدّموا النظر قبل العزم، وادّكروا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم، والسلام عليكم. ومن اللؤم: التطفيل، وهو التعرّض للطعام من غير أن يدعى إليه. أخبار الطفيليين طفيل العرائس : أولهم طفيل العرائس، وإليه نسب الطفيليون. وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرسا فلا يتلفّت تلفت المريب، وليتخير المجالس؛ وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل المرأة أنه من أهل الرجل؛ ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة؛ فإن كان البواب غليظا وقاحا فتبدأ به وتأمره وتنهاه، من غير أن تعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال. قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى، وخشب منبر الخليفة، وخوان الطعام.

أبو العرقين

أبو العرقين : وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: «اللؤم شؤم» ، فقيل له: هذا رأس التطفيل! طفيلي بالبصرة : أحمد بن علي الحاسب قال: مرّ طفيليّ بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المجلس فقالوا له: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك! قال: إنما اتّخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية فأتوقّع الدعوة، والحشمة قطيعة، وطرحها صلة؛ وقد جاء في الأثر: صل من قطعك، وأعط من حرمك؛ وأنشد: كلّ يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشمّ القتار شمّ الذّباب «1» فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخان أو دعوة لصحاب لم أعرّج دون التقحّم لا أر ... هب طعنا أو لكزة البواب مستهينا بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هيّاب فتراني ألفّ بالرغم منهم ... كلّ ما قدموه لفّ العقاب «2» ومنهم أشعب الطماع؛ قيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتسارّان إلا ظننتهما يأمران لي بشيء! وفيه يقال: «أطمع من أشعب» . أشعب الطماع : وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقا، فقال له: أسألك بالله ألا ما زدت في سعته طوقا أو طوقين! فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعلّ يهدى إليّ فيه شيء!

أمير وطفيلي

ساوم أشعب رجلا في قوس عربية، فسأله دينارا فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جوّ السماء وقع مشويا بين رغيفين، ما أعطيتك بها دينارا! وبينا قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتانا، إذ استأذن عليهم أشعب؛ فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية، ويأكل معنا الصغار. ففعلوا وأذن له، فقالوا له: كيف رأيك في الحيتان؟ فقال: والله إن لي عليها لحردا شديدا وحنقا، لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان! قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك! فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير، ثم وضعه عند أذنه- وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس- فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه؛ لأن سنه يصغر عن ذلك، ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت، فهي أدركت أباك وأكلته! أمير وطفيلي وكان رجل من لامراء يستظرف طفيليا يحضر طعامه وشرابه، وكان الطفيلي اكولا شروبا، فلما رأى الامير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي: قد قلّ أكلي وقلّ شربي ... وصرت من بابة الامير «1» فليدع بي وهو في أمان ... أن أشّرب الراح بالكبير طفيلي في صنيع وأقبل طفيلي إلى صنيع «2» ، فوجد بابا قد أرتج ولا سبيل إلى الوصول؛ فسأل عن صاحب الصنيع إن كان له ولد غائب او شريك في سفر؟ فأخبر عنه أن له ولد بلد كذا، فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه، ثم أقبل متدلّلا فقعقع الباب قعقعة

اشعب على ثريدة

شديدة واستفتح، وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل؛ ففتح له الباب، وتلقاه الرجل فرحا فقال: كيف فارقت ولدي؟ قال: له بأحسن حال، وما أقدر ان اكلمك من الجوع! فأمر بالطعام فقدم إليه، وجعل يأكل؛ ثم قال له الرجل: ما كتب كتابا معك؟ قال: نعم. ودفع إليه الكتاب، فوجد الطين طريا، فقال له: ارى الطين طريا! قال: نعم وأريدك انه من الكدّ ما كتب فيه شيئا! فقال: أطفيلي انت؟ قال: نعم أصلحك الله! قال: كل لا هنأك الله! اشعب على ثريدة وقيل لا شعب: ما تقول في ثرده مغمور بالزبد مشققة باللحم؟ قال فأضرب كم؟ قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون، ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة! وقيل لمزبّد المديني، وقد أكل طعاما كظّه: قيء نقا «1» ولحم جدي! امرأتي طالق لو وجدتهما قيئا لأكلتهما! وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام اليك؟ قال: القريض «2» . قيل له: ولم ذا؟ قال: لانه يؤخر إلى يوم آخر. طفيلي وكتبة ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم؛ قالوا: أعرفت فينا احدا؟ قال: نعم، عرفت هذا. وأشار إلى الطعام! فقالوا: قولوا بنا فيه شعرا: فقال الأول: لم أر مثل سرطه ومطّه «3»

الجماز وطفيلي

وقال الثاني: ولفّه دجاجه ببطه وقال الثالث: كأنّ جالينوس تحت إبطه فقال الاثنان للثالث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم، فما يصنع جالينوس تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارش كلما خاف عليه التخمة؛ تهضم بها طعامه! الجماز وطفيلي ومرّ طفيلي على جماز؛ فقال له ما تأكل؟ قال: [قيء] كلب في قحف خنزير! ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون؟ فقالوا من بغضه: سمّا! فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم! ومرّ طفيلي على قوم كانوا يأكلون وقد أغلقوا الباب دونه، فتسوّر عليهم من الجدار وقال: منعتموني من الارض فجئتكم من السماء! وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة. وقيل لآخر: كم كان اصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر؟ قال: كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر درهما. طفيلي وزنادقة حملوا للمأمون قال محمد بن احمد الكوفي: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له بالبصرة؛ فجمعوا، وأبصرهم طفيلي، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع! فانسلّ فدخل وسطهم، ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعدّ لهم، فدخلوا الزورق، فقال الطفيلي: هي نزهة! فدخل معهم، فلم يكن بأسرع من أن قيّدوا وقيّد معهم الطفيلي، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعو بأسمائهم رجلا رجلا، فيأمر بضرب رقابهم، حتى

وصل إلى الطفيلي وقد استوفى العدّة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا والله ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم، فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك ويلك؟ قال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كان يعرف من احوالهم شيئا، ولا مما يدينون الله به؛ إنما انا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة! فضحك المأمون وقال: يؤدّب! وكان ابراهيم بن المهدي قائما على رأس المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، واحدّثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا ابراهيم، قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عندك يوما؛ فطفت في سكك بغداد متطرّبا، فانتهيت إلى موضع، فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها، فوقفت على خياط فقلت: لمن هذه الدار؟ قال: لرجل من التجار من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان ابن فلان. فنظرت إلى الدار، فإذا بشباك فيها مطلّ، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، وبقيت باهتا ساعة؛ ثم أدركني ذهني، فقلت للخياط: أهو ممن يشرب؟ قال: نعم، وأحسب ان عنده اليوم دعوة، وليس ينادمه إلا تجار عمل مستورون. فبينا أنا كذلك إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب، فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كنا هما؟ قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأكما ابو غلان أعزه الله. وسايرتهما حتى بلغا الباب، فأدخلاني وقدّماني، فدخلنا؛ فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت عليهما من موضع؛ فرحّب بي، وأجلست في أفضل المواضع؛ فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الالوان، فكان طعمها أطيب من ريحها؛ فقلت في نفسي: هذه الالوان قد أكلتها، وبقي الكف والمعصم، كيف اصل إلى صاحبتهما؟ ثم رفع الطعام، وجاءونا بوضوء، فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة، فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل عليّ بالحديث. وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة؛ حتى إذا شربنا أقداحا، خرجت علينا جارية كأنها بان،

تنثني كالخيزران فأقبلت فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست، وأتى بالعود فوضع في حجرها فجسته، فاستبنت في جسّها حذقها، ثم اندفعت تغني: توهّمها طرفي فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر وصافحها كفّي فآلم كفّها ... فمن مسّ كفي في أناملها عقر فجعلت يا أمير المؤمنين بلابلي تطرب لحسن شعرها، ثم اندفعت تغني: أشرت إليها: هل عرفت مدّتي؟ ... فردّت بطرف العين: إني على العهد فحدت عن الإظهار عمدا لسرّها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد فصحت: يا سلام! وجاءني من الطرب ما لا املك نفسي معه؛ ثم اندفعت فغنت الثالث: أليس عجيبا أن بيتا يضمّني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم؟ سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف يسلّم فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، وأنها لم تخرج عن الفنّ الذي ابتدأت به؛ فقلت: بقي عليك يا جارية! فضربت بعودها الارض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء! فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي؛ فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى. فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه، ثم غنيت: ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم قدم المدى فبلينا راحوا العشيّة روحة منكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا

فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبّت على رجلي تقبلها، وقالت: معذرة إليك! فو الله ما سمعت أحدا يغني هذا الصوت غناءك! وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها، وطرب القوم والله واستحثوا الشراب، فشربوا بالكاسات والطاسات؛ ثم اندفعت أغني: أبى الله أن تمشي ولا تذكرينني ... وقد سفحت عيناي من ذكرك الدّما فردّي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاحل العقل مغرما إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما «1» إلى الله أشكو انها مداريّة ... وإني لها بالودّ ما عشت مكرما فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا ثم اندفعت أغني الثالث: هذا محبّك مطويّ على كمده ... حرّى مدامعه تجري على جسده «2» له يد تسأل الرحمن راحته ... مما جنى، ويد أخرى على كبده فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه! وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه؛ فلما شربنا اقداحا قال: يا هذا! ذهب ما مضى من أيامي ضياعا إذ كنت لا اعرفك؛ فمن انت يا مولاي؟ ولم يزل يلحّ حتى أخبرته الخبر، فقام وقبّل رأسي وقال: وأنا اعجب يا سيدي أن يكون هذا الادب إلا لمثلك، وأنّى لي أن اجالس الخلفاء ولا اشعر؟ ثم سألني عن قصتي فأخبرته، حتى بلغت خبر الكف والمعصم؛ فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل ...

طفيلي وقوم يتغدون

ثم لم يزل ينزل جواريه واحدة بعد اخرى، وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول: ليست هي! حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي واختي، والله لا نزلنّهما إليك. فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداءك، أبدأ بالاخت قبل الزوجة فعساها هي. فبرزت، فلما رأيت كفّها ومعصمها قلت: هي هذه! فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم؛ وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، فقال للمشايخ: هذه اختي فلانة، أشهدكم اني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وامهرتها عنه عشرين ألفا! فرضيت النكاح، فدفع إليها بالبدرة، وفرق الاخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي امهد لك بعض البيوت فتنام مع اهلك! فاحتشمني «1» ما رأيت من كرمه، فقلت: بل احضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت. فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي؛ فو الله يا أمير المؤمنين، لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا؛ فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين. فعجب المأمون من كرم الرجل، وأطلق الطفيليّ وأجازه، وألحق الرجل في أهل خاصته. طفيلي وقوم يتغدون ومرّ طفيليّ بقوم يتغدّون، فقال: سلام عليكم معشر اللئام! فقالوا: لا والله، بل كرام. فثنى رجله وجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين! الفضل بن يحيى وطفيلي ودخل طفيليّ من اهل المدينة على الفضل بن يحيى وبيده تفاحة، فألقاها إليه وقال: حيّاك الله يا مدني، أتأكل التحيات؟ قال: أي والله، والزاكيات الطيبات كنت آكلها!

ابراهيم الموصلي وطفيلي

ابراهيم الموصلي وطفيلي وقال ابراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه: نعم النّديم نديم لا يكلّفني ... ذبح الدّجاج ولا ذبح الفراريج يكفيه لونان من كشك ومن عدس ... وإن يشاء فزيتون بطسّوج «1» وقال طفيليّ في نفسه: نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى تنس يدعنا التّطفيل ونقل: علّنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول! وقال آخر وأتى طعاما لم يدع إليه، فقيل له: من دعاك؟ فأنشأ: دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدعوة وكان ذا أحسن من موعد ... مخلفه يدعو إلى الجفوه ودخل طفيليّ في صنيع رجل من القبط، فقال له: من أرسل إليك؟ فأنشأ: أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم ... إنّ المحبّ إذا ما لم يزر زارا فقال القبطي: زرزارا! ليس ندري من هو؟ اخرج من بيتي! طفيلي وزنادقة ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل: فرأى لهم هيئة حسنة وثيابا نقية، فظنهم يدعون إلى وليمة، فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحدا منهم، فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله، لست والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم! فقال: ليس هذا ما ينجيك مني، اضربوا عنقه! فقال: أصلحك الله، إن كنت ولا بدّ فاعلا فأمر السياف ان يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورّطني هذه الورطة! فضحك صاحب الشرطة، وكشف عنه، فأخبروه أنه طفيلي معروف، فخلّى سبيله.

شيخ وحدث

وقال طفيلي: ألا ليت خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد فأطلب فيما بينهنّ شهادة ... بموت كريم لا يشقّ له الحد وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في أصبعك لا ذكرك به! قالت: إنه ذهب، وأخاف ان تذهب؛ ولكن خذ هذا العود، لعلك تعود. شيخ وحدث اصطحب شيخ وحدث من الاعراب، فكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ متخلع الاضراس بطيء الأكل، فكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعا، وكان اسم الحدث جعفرا، فقال الشيخ فيه: لقد رابني من جعفر أن جعفرا ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له مسّك الحبّ لم تبت ... سمينا وأنساك الهوى شدّة الأكل وقال الحدث: إذا كان في بطني طعام ذكرتها ... وإن جعت يوما لم تكن لي على ذكر ويزداد حبّي إن شبعت تجدّدا ... وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري أشعب وجارية وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة، ويظهر لها التعاشق، إلى ان سألته سلفة نصف درهم، فانقطع عنها، وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقا أخرى، فصنعت له نشوقا وأقبلت به إليه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: نشوق «1» عملته لك لهذا الفزع الذي بك! فقال: اشربيه انت للطمع [الذي بك] ؛ فلو انقطع طمعك انقطع فزعي! وأنشأ يقول:

لأشعب في الغناء

أخلفي ما شئت وعدي ... وامنحيني كلّ صدّ قد سلا بعدك قلبي ... فاعشقي من شئت بعدي إنّي آليت لا أع ... شق من يعشق نقد نقدي! لأشعب في الغناء وقيل لاشعب: ما احسن الغناء؟ قال: نشيش «1» المقلى! قيل له. فما اطيب الزمان؟ قال: إذا كان عندك ما تنفق! وكان أشعب يغني: ألا أخبرت أخبارا ... أتت في زمن الشّدة: وكان الحبّ في القلب ... فصار الحبّ في المعده وقال آخر في طفيلي من اهل الكوفة: زرعنا، فلما تمّم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد بلينا بكفيّ حليف مجاعة ... أضرّ بزرع من دبى وجراد وقال هشام اخو ذي الرّمة لرجل اراد سفرا: إن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت ان لا تكون كلب الرفاق فافعل. أبو نواس وشطار وخرج ابو نواس متنزها مع شطار من اصحابه، فنزلوا روضة ووضعوا شرابا، فمر بهم طفيليّ، فتطارح عليهم؛ فقال له أبو نواس. ما اسمك؟ قال: ابو الخير. فرحب به وقعد معهم؛ ثم مرت بهم جارية فسلمت، فردّ عليها، وقال لها: ما اسمك؟ قالت: زانة. قال ابو نواس لاصحابه: اسرقوا الياء من ابو الخير، فأعطوها زانة، فتكون زانية، ويكون ابو الخير ابا الخر كما هو ففعلوا.........

الجاحظ وغيره من صنيع

الجاحظ وغيره من صنيع : الجاحظ قال: دعا أبو عبيد الله الواسطي إلى صنيع، فدعاني، فدعوت أبا الفلوسكيّ، فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان؟ قال: نعم. قال فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع، ولم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب فتدخل تجاهنا، فوجدنا البواب ذا غلظ وجفاء، فمنعنا، فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر احد يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا؛ فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا، فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس؛ فقعد فيه؛ ثم قال لي: ههنا عندنا يا أبا عثمان! فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت إلي أنفسها؟ قال الفلوسكي: تسميه ضيفا. فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف؟ قال: تسميه ضيفنا. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفن؟ قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية. قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسما، ثم تتحكم تحكّم صاحب البيت. باب من أخبار المحارفين منهم أبو الشمقمق الشاعر، وكان أديبا ظريفا ومحارفا «1» ، وكان صعلوكا متبرما بالناس، وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه، خرج فينظر من فروج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه؛ فأقبل إليه يوما بعض إخوانه الملطفين له، فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث: «إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة» . فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزّازا «2» ! ثم أنشأ يقول: أنا في حال تعالى الله ... ربّي أيّ حال ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي

ولقد أهزلت حتى ... محت الشمس خيالي ولقد أفلست حتى ... حلّ أكلي لعيالي وله: أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطية غير رجلي؟ كلما كنت في جميع فقالوا ... قرّبوا للرّحيل، قرّبت نعلي! حيثما كنت لا أخلّف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي! وقال ابو الشمقمق أيضا: [لو] قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم مالي فيه تلبيس والله يعلم مالي فيه شائبة ... إلا الحصيرة والأطمار والدّيس «1» وقال أيضا: برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على احد حجابي فمنزلي الفضاء، وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السّحاب فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... عليّ مسلما من غير باب لأني لم اجد مصراع باب ... يكون من السحاب إلى التراب ولا انشقّ الثّرى عن عود نحت ... أؤمّل أن أشاريه ببابي ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي «2» ولا حاسبت يوما قهرمانا ... محاسبة فأغلط في حسابي وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدّهر ذا أبدا ودابي وقال أيضا: لو ركبت البحار صارت فجاجا ... لا ترى في متونها أمواجا فلو أنّي وضعت ياقوتة حمراء ... في راحتي لصارت زجاجا

ولو انّي وردت عذبا فراتا ... عاد لا شكّ فيه ملحا أجاجا فإلى الله أشتكي وإلى الفضل ... فقد أصبحت بزاتي دجاجا وقال عمر بن الهدير: وقفت، فلا أدري إلى أين أذهب ... وأيّ أموري بالعزيمة أركب عجبت لأقدار عليّ تتابعت ... بنحس فأفنى طول دهري التعجّب ولما التمست الرّزق فانحلّ حبله ... ولم يصف لي من بحره العذب مشرب خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... لدقع الغنى إيّاي إذ جئت ومشجب «1» فأولدتها الحزن النّقي، فما له ... على الارض غيري والد حين ينسب فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... عليّ دياجيه لما لاح كوكب ولو خفت شرا فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب ولو جاد إنسان عليّ بدرهم ... لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب «2» ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب ولو لمست كفّاي عقدا منظّما ... من الدّرّ أضحى وهو ودع مثقّب «3» وإن يقترف ذنبا ببرقة مذنب ... فإنّ برأسي ذلك الذنب يعصب «4» وإن أر خيرا في المنام فنازح ... وإن أر شرّا فهو مني مقرّب ولم أغد في أمر أريد نجاحه ... فقابلني إلا غراب وأرنب أمامي من الحرمان جيش عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب! وقال آخر: ليس إغلاقي لبابي أنّ لي ... فيه ما أخشى عليه السّرقا إنما اغلقته كي لا يرى ... سوء حالي من يمرّ الطرقا منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا!

وقال الحسن بن هانىء في هذا المعنى: الحمد لله ليس لي نشب ... فخفّ ظهري وقلّ زوّاري» من نظرت عينه إلي فقد ... أحاط علما بما حوت داري جمري في البيت كامن وعلى ... مدرجة الرائحين أسراري وقال بعض المحارفين: لزمتني حرفة ما تنقضي ... أبدا حتى أوارى في الجدث كلزوم الطوق إلا أنها ... تسجد الدهر والطوق يرث «2»

كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الانسان وسائر الحيوان

كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الانسان وسائر الحيوان قال أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في المتنبئين، والممرورين والبخلاء، والطفيليين. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في طبائع الإنسان وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، والنعمة والسرور؛ إذ لم يكن مدار الدنيا إلا عليها، ولا قوام الأبدان إلا بها؛ وإذ هي نمو الفراسة، وتركيب الغريزة، واختلاف الهمم، وطيب الشيم وتفاضل الطعوم. وقد تكلم الناس في النعمة والسرور، على تباين أحوالهم، واختلاف هممهم وتفاوت عقولهم، وما يجانس كل رجل منهم في طبعه، ويؤلفه في نفسه، ويميل إليه في وهمه؛ وإنما اختلف الناس في هذا المذهب لاختلاف أنفسهم، فمنهم من نفسه غضبية، فإنما همه منافسة الأكفاء، ومغالبة الأقران، ومكاثرة العشيرة ومنهم من نفسه ملكية، فإنما همه اليقين في العلوم، وإدراك الحقائق، والنظر في العواقب؛ ومنهم من نفسه بهيمية، فإنما همه طلب الراحة، وانهماك النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح؛ وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كلّه، فقالوا: يوم المطر للشرب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس. وهي أغلب الطبائع على الإنسان، لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة وقلة العمل، فمنه قولهم: الرأي نائم والهوى يقظان؛ وقولهم: الهوى إله معبود؛ وقولهم: ربيع القلب ما اشتهى، وقولهم: لا عيش كطيب النفس.

النفس الملكية

النفس الملكية قيل لضرار بن عمرو: ما السرور؟ قال: إقامة الحجة وإدحاض الشبهة. وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إحياء السنة وإماتة البدعة. وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقة، واستنباط الدقيقة. وقال الحجاج بن يوسف لخريم الناعم: ما النعمة؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش. قال له زدني. قال: فالصحة فأني رأيت المريض لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال له: الغنى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع [بعيش] . قال له: زدني. قال: فالشباب، فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش. قال له: زدني، قال: ما أجد مزيدا. وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: الأمن والعافية. النفس الغضبية قيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير. وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ. وقيل لعبد الله بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحة والنماء. وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسرّه. وقيل لأبي مسلم صاحب الدعوة: ما السرور؟ قال: ركوب الهمالجة «1» ، وقتل الجبابرة. وقيل له: ما اللذة؟ قال إقبال الزمان، وعز السلطان.

النفس البهيمية

النفس البهيمية قيل لامريء القيس: ما السرور؟ قال: بيضاء رعبوبة «1» ، بالطّيب مشبوبة، باللحم مكروبة «2» . وكان مفتونا بالنساء. وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية. وكان مغرما بالشراب. وقيل لطرفة: ما السرور؟ فقال: مطعم هنيّ، ومشرب رويّ، وملبس دفيّ، ومركب وطيّ. وكان يؤثر الخفض والدعة. وقال طرفة: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وربّك لم أحفل متى قام عوّدي فمنهنّ سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد «3» وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا في الطّخية المتورّد «4» وتقصير يوم الدّجن، والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء الممدّد وسمع هذه الأبيات عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال: وأنا والله لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي، لولا أن أعدل في الرعية، وأقسم بالسوية، وأنفر في السرية. وقال عبد الله بن نهيك: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وربّك لم أحفل متى قام رامس فمنهنّ سبق العاذلات بشربة ... كأن أخاها مطلع الشمس ناعس ومنهنّ تقريط الجواد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الكميّ الفوارس

معاوية وابن جعفر

ومنهنّ تجريد الكواعب كالدّمى ... إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ قال: قبلة على غفلة. وكان صاحب وصائف. وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال «1» ، ومحادثة الرجال. وقيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: دار قوراء «2» ، وجارية حوراء، وفرس مرتبط بالفناء. وقيل للحسن بن هانيء: ما السرور؟ قال: مجالسة الفتيان، في بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الريحان، وأنشأ يقول: قلت بالعين لموسى ... ونداماي نيام يا رضيعي ثدي أمّ ... ليس لي عنه فطام إنما العيش سماع ... ومدام وندام فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام معاوية وابن جعفر : وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: ليس هذا من مسائلك يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك لتقولنّ. قال: هتك الحيا، واتباع الهوى. معاوية وابن العاص : وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما العيش؟ قال ليخرج من هنا من الأحداث! فخرجوا، فقال: العيش كله في إسقاط المروءة! وقال هشام بن عبد الملك: ألذّ الأشياء كلها جليس مساعد يسقط عني مئونة التحفظ. قيل لأعرابي: ما السرور؟ قال لبس البالي في الصيف، والجديد في الشتاء.

البنيان

وقيل لآخر: ما النعيم؟ قال: الماء الحارّ في الشتاء، والبارد في الصيف. البنيان قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من بني بنيانا فليتقنه» . وقالت الحكماء: لذة الطعام والشراب ساعة، ولذة الثوب يوم، ولذة المرأة شهر، ولذة البنيان دهر، كلما نظرت إليه تجددت لذته في قلبك، وحسنه في عينك. وقالوا: دار الرجل جنته في الدنيا. وقالوا: ينبغي للدار أن تكون أول ما يبتاع وآخر ما يباع. يحيى وابنه جعفر : وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر بن يحيى حين اختط داره ليبنيها: هي قميصك إن شئت فضيق وإن شئت فوسع. الرشيد وعبد الملك : وقال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: كيف منزلك بمنبج؟ قال دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها. قال: وكيف ذلك وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أحتذي مثاله. الرشيد وابن صالح : ولما دخل هارون منبجا قال لعبد الملك بن صالح: هذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين ولي به! قال: كيف ماؤه؟ قال: أطيب ماء. قال: كيف هواؤه؟ قال: أفسح هواء. وذكر عند جعفر بن يحيى الدار الفسيحة الجوّ الطيبة النسيم، فقال رجل عنده: لقد دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكان قلبي ينضج بالسرور، ولا أجد لذلك علة إلا طيب نسيمها وانفساح هوائها.

قولهم في الدار الضيقة

وقيل للحسن بن سهل: كيف نزلت الأطراف؟ قال: لأنها منازل الأشراف، ينالون فيها ما أرادوا بالقدرة؛ وينالهم فيها من أرادهم بالحاجة. قولهم في الدار الضيقة ما هي إلا قرار حافر؛ وما هي إلا وجار «1» ضبع، وما هي إلا قترة قانص؛ وما هي إلا مفحص «2» قطاة. وقالوا: ما هي إلا حملة يعسوب «3» برأس سنان. ومن مات في دار ضيقة قيل فيه: خرج من قبر إلى قبر. من كره البنيان كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء بيته، فقال: ابن ما يكنك عن الهواجر وأذى المطر. وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يستأذنه في بناء مدينة، فكتب إليه: ابنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظلم. ومر عمر بن الخطاب ببناء يبنى بآجر وجص؛ فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعامل من عمالك. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها! وأرسل إليه من يشاطره ماله. وقيل ليزيد بن المهلب: مالك لا تبني؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس! ومر رجل من الخوارج بدار تبنى فقال: من هذا الذي يقيم كفيلا؟ والخوارج تقول: كل مال لا يخرج بخروجك ويرجع برجوعك فإنما هو كفيل بك. ولما بنى أبو جعفر داره بالأنبار، دخلها مع عبد الله بن الحسن، فجعل يريه بنيانه فيها وما شيد من المصانع والقصور؛ فتمثل عبد الله بن الحسن بهذه الأبيات:

اللباس

ألم تر حوشبا أضحى يبنّي ... قصورا نفعها لبني بقيله؟ يؤمّل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله! وقالوا في الحجاج بن يوسف إذ بنى مدينة واسط: بناها في غير بلده، وأورثها غير ولده. اللباس إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه، قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة. علي بن عاصم عن أبي إسحاق الشيباني قال: مررت بمحمد بن الحنفية واقفا بعرفات، على برذون، وعليه مطرف خزّ أصفر. الشيباني عن ابن جريج أن ابن عباس كان يرتدي رداء بألف. أبو حاتم عن الأصمعي أن ابن عون اشترى برنسا، فمر على معاذة العدوية فقالت: مثلك يلبس هذا؟ قال: فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: ألا أخبرتها أن تميما الداريّ اشترى حلة بألف يصلي فيها. أيوب السختياني : وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني يكاد يمس الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص، وإنها اليوم في تشميره. رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجل في خلقين : وفي موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه، أن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أنمار، فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: هلمّ يا رسول الله إلى الظل. فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال جابر: وعندنا صاحب له نجهزه يذهب يرعى ظهرنا، قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب إلى الظّهر،

الربيع بن زياد وعلي

وعليه ثوبان، قد أخلقا فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ماله ثوبان غير هذين؟ قلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيد كسوته إياهما. قال: فادعه فمره فليلبسهما. قال: فدعوته فلبسهما ثم ولى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ماله، ضرب الله عنقه! أليس هذا خيرا له؟ فسمعه الرجل، فقال: في سبيل الله يا رسول الله! فقتل الرجل في سبيل الله. الربيع بن زياد وعلي : العتبي قال: أصابت الربيع بن زياد الحارثي نشابة «1» على جبينه، فكانت تنتقض عليه في كل يوم، فأتاه عليّ بن أبي طالب عائدا، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن قال: أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلا ذهاب بصري لتمنيت ذهابه! قال له: وما قيمة بصرك عندك! قال: لو كانت لي الدنيا فديته بها! قال: لا جرم، ليعطينّك الله على قدر ذلك إن شاء الله، إن الله يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده بعد تضعيف كثير! قال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد؟ قال: وماله؟ قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغمّ أهله، وأحزن ولده! فقال: عليّ عاصما! فلما أتاه عبس في وجهه، وقال: ويلك يا عاصم، أترى الله أباح لك اللذات وهو يكره أخذك منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك؛ أو ما سمعته يقول: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ «2» ، ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «3» ؛ وقوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها «4» ؟ أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال، أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال وقد سمعته عز وجل يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «5» ، ويقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ

لباس الصوف

وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «1» ؛ وإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «2» ، وقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ «3» . فقال عاصم: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الجشب؟ قال: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يشنع على الفقير فقره، قال: فما برح حتى لبس الملاء ونبذ العباء. لباس الصوف حماد وفرقد : قدم حماد بن سلمة البصرة فجاء فرقد السبخي وعليه ثياب صوف، فقال له حماد: ضع عنك نصرانيّتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم، فيخرج علينا وعليه معصفرة، ونحن نرى أن الميتة قد حلت له! ابن واسع وقتيبة : قال أبو الحسن المدائني: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم والي خراسان وعليه مدرعة «4» صوف، فقال له قتيبة: [ما يدعوك إلى لبس هذه؟ فسكت؛ فقال له قتيبة] : أكلمك فلا تجيبني! قال: أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي، أو أقول فقرا فأشكو ربي. وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفا لها قد هلكتم.

التزين والتطيب

وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ومقعدهما واحد في مسجد المدينة. فلا ينكر بعضهما على بعض شيئا. وقال محمود الوراق في أصحاب الصوف: تصوّف كي يقال له أمين ... وما يعني التصوّف والأمانه؟ ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانه التزين والتطيب دخل رجل على محمد بن المنكدر يسأله عن التزين والطيب فوجده قاعدا على حشايا مصبغة، وجارية تغلفه بالغالية؛ فقال له: يرحمك الله، جئت أسألك عن شيء فوجدتك فيه! قال: على هكذا أدركت الناس. وفي حديث: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والشعث، حتى لو لم يجد أحدكم إلا زيتونة فليعصرها وليدّهن بها» . وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: «ما لي أراك شعثاء، مرهاء «1» ، سلتاء «2» ؟» . قالت: يا رسول الله، أو لسنا من العرب؟. قال: «بلى، ربما أنسيت العرب الكلمة فيعلمنيها جبريل» . الشعثاء: التي لا تدهن. والمرهاء: التي لا تكتحل. والسلتاء: التي لا تختضب. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما نلت من دنياكم إلا النساء والطيب» . وروى مالك عن يحيى بن سعيد، أن أبا قتادة الأنصاري قال: يا رسول الله، إن لي جمّة «3» ، أفأرجّلها يا رسول الله؟. قال: «نعم، وأكرمها» .

قال: فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين. وروى مالك عن زيد بن أسلم، أن عطاء بن يسار أخبره قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية؛ فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن اخرج فأصلح رأسك ولحيتك! ففعل، ثم رجع؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟ وقد تمادحت العرب بحسن الهيئة وطيب الرائحة، فقال النابغة: رقاق النّعال طيّب حجزاتهم ... يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب «1» يحيّيهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج بين المساحب «2» يصونون أجسادا قديما نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب وقال الفرزدق: بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقا حواشيها رقاقا نعالها يجرّون هدّاب اليمان كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها وقال طرفة: أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كلّ أمون وطمر ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هدّاب الأزر وقال كثيّر عزة: أشمّ من الغادين في كلّ حلّة ... يميسون في صبغ من العصب متقن لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرّميّ الملسّن وقال آخر: من النفر السمّ الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا

الرحلة والركوب

جلا الإذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدّهان رأسه فهو أنزع «1» إذا النّفر السّود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقّوا وأوسعوا وقال آخر: يشبّهون ملوكا في مجلّتهم ... وطول أنضية الأعناق والّلمم «2» إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحو كأنهم مرضى من الكرم وقال آخر في عليّ بن داود الهاشمي: أمّا أبوك فذاك الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود كأن ديباجتي خدّيه من ذهب ... إذا تعصّب في أثوابه السّود الرحلة والركوب عمرو بن العاص ورجل : سمع عمرو بن العاص رجلا يقول: الرحلة قطعة من العذاب. فقال له: لم تحسن، بل العذاب قطعة من الرحلة. هارون وزبيدة في طريقها إلى مكة : ولما مشى هارون إلى مكة ومشت معه زبيدة، كانت تبسط الدرانك «3» أمامهم وتطوى خلفهم؛ فلما أعيا، دعا بخادم له فألقى ذراعه عليه وتأوه، وقال: والله لركوب حمار منهوس خير من المشي على الدرانك. قال الشاعر: وما عن رضى صار الحمار مطيّتي ... ولكنّ من يمشي سيرضى بما ركب

الخيل

وقال أعرابي: يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع الخيل قد مضى من قولنا في وصف الخيل وفضائلها في كتاب الحروب ما كفى من إعادتها هنا. البغال قال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار «1» ، سفواء «2» العرف، حصاء الذنب، سوطها عنانها، وهمها أمامها. الفضل وهاشمي : وعاتب الفضل بن الربيع بعض الهاشميين في ركوب بغلة، فقال: هذا مركب تصاغر عن خيلاء الفرس وارتفع عن ذلة الحمار، وخير الأمور أوساطها. الحمير قيل للفضل الرقاشي: إنك لتؤثر الحمير على سائر الدواب! قال: لأنها أرفق وأوفق. قلت: ولم ذلك؟ قال: لا يستدل بالمكان على طول الزمان؛ ثم هي أقل داء، وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صريعا، وأقل جماحا؛ وأشهر فارها، وأقل تطيرا؛ يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه، ويعدّ مقتصدا وقد أسرف في ثمنه. وقال جرير بن عبد الله: لا تركب حمارا؛ إن كان حديدا أتعب يديك، وإن كان بليدا أتعب رجليك.

طباع الإنسان وسائر الحيوان

طباع الإنسان وسائر الحيوان زعم علماء الطب أن في الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلا: فللدم منها ستة أرطال، وللمرّة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال؛ فإن غلب الدم الثلاث طبائع تغير منه الوجه وورم، ويخرج ذلك إلى الجذام؛ وإن غلب الثلاث طبائع الدم انبث المد، فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضا فليعدل جسده بالافتصاد، وينقيه بالمشي؛ فإن لم يفعل اعتراه ما وصفنا؛ إمّا جذام «1» وإما مدّ» . أسأل الله العافية. ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان، إلا في النصف من تموز إلى النصف من آب؛ فذلك ثلاثون يوما لا يصلح فيها علاج، إلا أن ينزل مرض لا بدّ من مداواته. جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم قال: الغلام يشب كل سنة أربع أصابع. في التوراة : حدّثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه، أنه قرأ في التوراة أن الله عز وجل حين خلق آدم ركب جسده من أربعة أشياء، ثم جعلها وراثة في ولده تنمى في أجسادهم وينمون عليها إلى يوم القيامة: رطب ويابس، وسخن، وبارد؛ قال: وذلك أني خلقته من تراب وماء، وجعلت فيه نفسا [وروحا] ؛ فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحراراته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح؛ ثم خلقت للجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع أخر، وهي ملاك الجسد وقوامه بإذني، لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة إلا بالأخرى: المرّة السوداء، والمرة الصفراء، والدم الرطب الحار، والبلغم البارد؛ ثم

للنبي صلى الله عليه وسلم

أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرة الصفراء؛ فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كل واحدة فيه وفقا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته، واعتدلت بنيته؛ وإن زادت واحدة منهن غلبتهن وقهرتهن ومالت بهن، ودخل على أخواتها السقم من ناحيتها بقدر ما زادت،؛ وإن كانت ناقصة عنهن؛ ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السقم من نواحيهن، لقلتها عنهن حتى تضعف عن طاقتهن وتعجز عن مقاومتهن. قال وهب بن منبه: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، وصرامته في قلبه، ورعبه في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه؛ وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا. الأصمعي: من لم يخفّ شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبدا ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبدا. للنبي صلّى الله عليه وسلم : حدث زيد بن أخزم قال: حدثني بشر بن عمر عن أبي الزناد [عن أبيه] عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «كل ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب، ومنه خلق ومنه يركّب» . وقالت الحكماء: الخنث يعتري الأعراب والأكراد والزنج والمجانين وكل صنف، إلا الخصيان؛ فإنه لا يكون خصي مخنّثا. وقالوا: كل ذي ريح منتنة وذفر كالتيس وما أشبهه، إذا خصى نقص ريحه وذهب صنانه، غير الإنسان، فإنه إذا خصى زاد نتنه واشتد صنانه وخبث عرقه وريحه. قالوا: وكل شيء من الحيوان يخصى فإن عظمه يرق، وإذا رق عظمه استرخى

لحمه، إلا الإنسان؛ فإنه إذا خصى طال عظمه وعرض. وقالوا: الخصي والمرأة لا يصلعان أبدا، والخصي تطول قدمه وتعظم. وبلغني أنه كان لمحمد بن الجهم برذون «1» رقيق الحافر فخصاه؛ فجاد حافره وحسن. قالوا: والخصي تلين معاقد عصبه وتسترخي، ويعتريه الاعوجاج والفدع «2» في أصابعه، وتسرع دمعته، ويتخدّد جلده، ويسرع غضبه ورضاه، ويضيق صدره عن كتمان السر. وزعم قوم أن أعمارهم تطول لترك الجماع كما تطول أعمار البغال. وقالوا: إن قلة أعمار العصافير من كثرة الجماع. وقالوا: في الغلمان من لا يحتلم أبدا، وفي النساء من لا تحيض أبدا؛ وذلك عيب. ومن الناس من لا يسقط ثغره ولا يستبدل منه، منهم عبد الصمد بن علي، ذكروا أنه دخل قبره برواضعه «3» ! وقالوا الضبّ والخنزير لا يلقيان من أسنانهما أبدا. وقالت الحكماء: إنه ليس شيء من الحيوان يستطيع أن ينظر إلى أديم السماء غير الإنسان، كرمه الله بذلك. وقالوا: إن الجنين يغتذي بدم الحيض يسيل إليه من قبل السرة؛ ولذلك لا تحيض الحوامل إلا القليل. وقد رأينا من الحوامل من تحيض؛ وذلك لكثرة الدم. وتقول العرب: حملت المرأة سهوا؛ إذا حاضت عليه. وقال الهذلي: ومبرّإ من كلّ غبّر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل

يعني أنها لم تر عليه دم حيض في حملها به. قالوا: فإذا خرج الولد من الرحم دفعت الطبيعة ذلك الدم الذي كان الجنين يغتذيه إلى الثديين؛ وهما عضوان ناهدان عصبيان يصيّرانه لبنا خالصا سائغا للشاربين. وقالوا: يعيش الإنسان حيث تعيش النار، ويتلف حيث لا تبقى النار. وأصحاب المعادن والحفائر إذا هجموا على نفق في بطن الأرض أو مغارة قدّموا شمعة في طرف قناة، فإن عاشت النار وثبتت دخلوا في طلبها، وإلا أمسكوا. والعرب تتشاءم ببكر ولد الرجل إذا كان ذكرا. وكان قيس بن زهير أزرق بكرا ابن بكرين. وحدث محمد بن عائشة عن حماد عن قتادة عن عبد الله بن حارث بن نوفل، قال: بكر البكرين شيطان مخلّد لا يموت إلى يوم القيامة. يعني من الشياطين. قالوا: وابن المذكّرة من النساء والمؤنث من الرجال أخبث ما يكون، لأنه يأخذ بأخبث خصال أبيه وخصال أمه. والعرب تذكر أن الغيرى لا تنجب: وقال عمرو بن معديكرب: ألست تصير إذا ما نسب ... ت بين المغارة والأحمق وقالت الحكماء: كل امرأة أو دابة تبطيء عن الحمل، إن واقعها الفحل في الأيام التي يجري فيها الماء في العود فإنها تحمل بإذن الله. وقالت الحكماء: الزنج شرار الخلق وأردؤهم تركيبا، لأن بلادهم سخنت جدا فأحرقتهم في الأرحام، وكذلك من بردت بلاده فلم تنضجه الرحم؛ وإنما فضل أهل بابل لعلة الاعتدال؛ والشمس هي التي شيّطت شعور الزنج فقبّضتها؛ والشعر إن أدنيته من النار تقبّض، فإن زدته شيئا تفلفل، فإن زدته احترق.

عمر بين رجلين في غلام

وقالوا: أطيب الأمم أفواها الزنج وإن لم تستنّ «1» ، وذلك لرطوبة أفواهها وكثرة الريق فيها؛ وكذلك الكلاب من سائر الحيوان أطيبها أفواها. لكثرة الماء فيها، وخلوف «2» فم الصائم يكون لقلة الريق، وكذلك الخلوف في آخر الليل. وقالت الحكماء أيضا: كل الحيوان إذا ألقى في الماء سبح: إلا الإنسان والقرد والفرس الأعسر، فإن هذه تغرق ولا تسبح. قالوا: وليس في الأرض هارب من حرب أو غيرها يستعمل الحضر إلا أخذ على يساره؛ ولذلك قالوا: فمال على وحشيّه، وأنحى على شؤمى يديه. وقالوا: كل ذي عين من ذوات الأربع، السباع والبهائم الوحشية والإنسية فإنما الأشفار منها بجفنها الأعلى، إلا الإنسان، فإن الأشفار- يعني الهدب.. بجفنيه معا: الأعلى والأسفل. وقالوا: كل جلد ينسلخ إلا [جلد] الإنسان، فإن جلده لا ينسلخ. عمر بين رجلين في غلام : وحدث أبو حاتم عن الأصمعي قال: اختصم رجلان إلى عمر رضي الله عنه في غلام، كلاهما يدعيه؛ فسأل عمر أمّه؛ فقالت: غشيني أحدهما ثم هرقت دما ثم غشيني الآخر. فدعا عمر بالرجلين فسألهما، فقال أحدهما: أعلن أم أسرّ؟ قال: أسرّ. قال: اشتركنا فيه! فضربه عمر حتى اضطجع: ثم سأل الآخر، فقال مثل ذلك؛ فقال عمر: ما كنت أرى مثل هذا يكون، ولقد علمت أن الكلبة يسفدها «3» الكلاب؛ فتؤدي إلى كل كلب نجله. وركب الناس في أرجلهم، وركب ذوات الأربع في أيديها؛ وكل طائر كفه [في] رجله.

ما نقص من خلقة الحيوان

الليث ابن سعد عن ابن عجلان، أن امرأته حملت [له مرّة] ، فأقامت حاملا خمس سنين ثم ولدت، وحملت له مرة أخرى فأقامت حاملا ثلاث سنين ثم ولدت. وولد الضحّاك بن مزاحم وهو ابن ثلاثة عشرة شهرا. وقال جويبر: ولد الضحاك لسنتين، [وولد] شعبة لسنتين. ما نقص من خلقة الحيوان حدّث أبو حاتم عن أبي عبيدة والأصمعي وأبو زيد قالوا: الفرس لا طحال له، والبعير لا مرارة له، والظليم لا مخ له. وقال زهير: [كأن الرّحل منها فوق صعل] «1» ... من الظّلمان جؤجؤه هواء وكذلك طبر الماء والحيتان لا ألسنة لها، ولا أدمغة لها؛ وصفن البعير لا بيضة فيه، والسمكة لا رئة لها، و [لذلك] لا تتنفس، وكل ذي رئة ينتفس. المشتركات من الحيوان الراعي بين الورشان والحمامة. والجوامز من الإبل بين العراب والفوالج. والحمير الأخدرية من الأخدر- فرس كان لأردشير كسرى، توحش واجتمع بعانات حمير فضرب فيها- وأعمارها كأعمار الخيل. والزرافة بين الناقة من نوق الحبش وبين البقرة الوحشية وبين الضّبعان، واسمها اشتر كاوبلنك «2» ، [أي بين الجمل والكركند] ، وذلك أن الضبعان ببلاد الحبشة يسفد الناقة فتجيء بولد خلقه بين خلق الناقة والضبعان، فإن كان ولد الناقة ذكرا عرض للمهاة «3» فألقحها زرافة، وسميت

الأنعام

زرافة لأنها جماعة وهي واحدة كأنها جمل وبقرة وضبع؛ والزرافة في كلام العرب: الجماعة. وقال صاحب المنطق: الكلاب تسفدها الذئاب في أرض سلوق، فيكون منها الكلاب السّلوقية. الأنعام حدّث يزيد بن عمرو عن عبد العزيز الباهلي عن الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه عن جدّه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلق الله دابة أكرم من النعجة» . وذلك أنه ستر حياها دون حيا غيرها. وحدّث أبو حاتم عن الأصمعي عن أبان بن عمر قال: كان لنا جمل يعرف كشح الحامل من غير أن يشمّها. وقيل لابنة الخسّ: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل: فمائة من الضأن؟ قالت: غنى؟ قيل: فمائة من الإبل؟ قالت: منى. والعرب تضرب المثل في الصّرد «1» بالمعزى، فتقول: أصرد من عنز جرباء. سئل دغفل العلامة عن بني مخزوم، فقال: معزى مطيرة، عليها قشعريرة، إلا بني المغيرة؛ فإن فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام. ومما تقوله الأعراب على ألسنة البهائم: تقول المعزى: الاست جهوى «2» ، والذئب ألوى «3» ، والجلد زقاق «4» ، والشعر دقاق «5» . والضأن تضع مرة في السنة، وتفرد ولا تتئم، والماعز قد تلد مرتين في السنة وتضع الثلاثة وأكثر وأقل. والنماء والعدد والبركة في الضأن؛ ونحو هذا الخنازير؛ ربما تضع الأنثى عشرين

خنزيرا، ولا نماء فيها ولا بركة. ويقال: الجواميس ضأن البقر، والبخت ضأن الإبل، والبراذين ضأن الخيل، والجرذان ضأن الفأر، والدّلدل ضأن القنافذ، والنمل ضأن الذّرّ. وتقول الأطباء في لحم المعز: إنه يورث الهم، ويحرّك السوداء، ويورث النسيان، ويخبّل الأولاد، ويفسد الدم؛ ولحم الضأن يضرّ بمن يصرع من المرة إضرارا شديدا، حتى يصرعهم في غير أوان الصرع: [وأوان الصرع] الأهلّة وأنصاف الشهور؛ وهذان الوقتان هما وقت مدّ البحر وزيادة الماء؛ ولزيادة القمر إلى أن يصير بدرا اثر بيّن في زيادة الدماغ والدم وجميع الرطوبات، قال الشاعر: كأن القوم عشّوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم «1» وفي الماعز أيضا: إنها ترضع من خلفها وهي محفّلة حتى تأتي على كل ما في ضرعها؛ وقال ابن أحمر: إني وجدت بني أعيا وجاملهم ... كالعنز تعطف روفيها فترتضع وإذا رعت الماعزة في فضل نبت ما تأكله الضائنة، ولم ينبت ما تأكله الماعزة، لأن الضائنة تقرضه بأسنانها والماعزة تقلعه وتجذبه من أصله. وإذا حملت الماعزة أنزلت اللبن في أوّل الحمل إلى الضرع، والضائنة لا تنزل اللبن إلا عند الولادة؛ ولذلك تقول العرب: رمّدت «2» المعزى فرنّق رنّق، ورمّدت الضأن فربّق ربّق «3» . وذكور كل شيء أحسن من إناثه، إلا التيوس؛ فإن الصّفايا أحسن منها. وأصوات ذكور كلّ شيء أجهر وأغلظ، إلا إناث البقر؛ فإنها أجهر أصواتا من ذكورها.

النعام

وقرأت في كتاب للروم: إذا أردت أن تعرف ما لون جنين النعجة، فانظر إلى لسانها، فإن الجنين يكون على لونه. وقرأت فيه: إن الإبل تتحامى أمهاتها [وأخواتها] فلا تسفدها. وقالوا: كل ثور أفطس، وكل بعير أعلم «1» ، وكل ذباب أقرح «2» . وقالوا: البعير إذا صعب وخافوه استعانوا عليه حتى يبرك ويعقل، ثم يركبه فحل آخر فيذل؛ وقد يفعل ذلك بالثور. وقال بعض القصاص: مما فضل الله به الكبش أن جعله مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التيس أن جعله مهتوك الستر مكشوف القبل والدبر. وفي مناجاة عزير: اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن النبات الحبة، ومن البيوت مكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس. وفي الحديث: «إن الغنم إذا أقبلت اقبلت، وإذا أدبرت أقبلت؛ والإبل إذا أدبرت أدبرت، وإذا أقبلت أدبرت، ولا يأتي نفعها إلا من جانبها الأشأم «3» . والأقط قد يكون من المعزى. قال امرؤ القيس: لنا غنم نسوّقها غزار ... كأن قرون جلّتها عصيّ فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ «4» النعام قالوا في الظليم: إن الصيف إذا أقبل وابتدأ بالحمرة ابتدأ لون وظيفيه [بالحمرة، ولا يزالان يتلوّنان ويزدادان حمرة] إلى أن تنتهي حمرة البسرة «5» ولذلك قيل له: خاضب، وللنعام: خواضب.

الطير

وفي الظليم: إن كل ذي رجلين إذا انكسرت إحدى رجليه نهض على الأخرى، والظليم إذا انكسرت إحدى رجليه جثم؛ ولذا قال الشاعر في نفسه وأخيه: [فإني وإياه كرجلي نعامة ... على ما بنا من ذي غنى وفقير يقول: لا غنى بواحد منا عن الأخر. [وقال آخر] : إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا دونها صبرا قالوا: وعلة ذلك أنه لا مخ في عظمه، وكل عظم كسر يجبر، إلا عظما لا مخ فيه. والظليم يغتذي المرو والصخر فتذيبه قانصته بطبعها حتى يصير كالماء. وفي النعامة: إنها أخذت من البعير المنسم والوظيف والعنق والخزامة، ومن الطير الريش والجناحين والمنقار؛ فهي لا بعير ولا طائر. وقال الأحمير السعدي: كنت ممن خلعني قومي وأطلّ السلطان دمي وهربت وتردّدت في البوادي، حتى ظننت أني قد جزت نخل وبار أو قريبا منه، وذلك أني كنت أرى النوى في رجع الذئاب، وكنت أغشى الذئاب وغيرها من بهائم الوحش ولا تنفر مني، لأنها لم تر أحدا قبلي، وكنت أمشي إلى الظبي السمين فآخذه [وعلى ذلك رأيت جميع تلك الوحوش] إلا النعام، فإني لم أره قط إلا نافرا فزعا. الطير بلغني عن مكحول أنه قال: كان من دعاء داود النبي عليه السلام: يا رازق النعّاب «1» في عشه. وذلك أن الغراب إذا فقس عن فراخه خرجت بيضاء، فإذا رآها كذلك نفر عنها؛ وتفتح أفواهها فيرسل الله ذبابا يدخل في أفواهها فيكون ذلك غذاءها حتى تسودّ، فإذا اسودّت عاد الغراب إليها فغذاها ورفع الله الذباب عنها!

وقال الرياشي: ليس شيء تغيب أذناه من جميع الحيوان إلا وهو يبيض، وليس شيء تظهر أذناه إلا وهو يلد. قال: وهذا يروى عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه. وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل أربعة من الطير: الصرد «1» ، والهدهد، والذرّة، والنحلة. وقالوا: الطير ثلاثة أضرب: بهائم الطير، وهو مالقط الحبوب والبزور؛ وسباع الطير، وهي التي تتغذى باللحم؛ والمشترك، وهو مثل العصفور، يشارك بهائم الطير في أنه ليس بذي مخلب ولا منسر، وإذا سقط العصفور على عود قدّم أصابعه الثلاث وأخّر الدابرة، وسباع الطير تقدم أصبعين وتؤخر أصبعين ويشارك سباع الطير فإنه يلقم فراخه ولا يزقّها، وأنه يأكل اللحم ويصطاد الجراد والنمل. قالوا: والعصفور شديد الوطء، والفيل خفيف الوطء. وقال صاحب الفلاحة: العقاب والحدأة يتبدّلان، فيصير العقاب حدأة «2» والحدأة عقابا؛ والأرانب تتبدل فتصير الأنثى ذكرا والذكر أنثى؛ وذكر الغربان لا يحضن، وكذلك ذكر الإوز وذكر الدجاج. وقال كعب الأحبار: ما ذهب طائر في السماء قط أكثر من اثنى عشر ميلا. ومن حديث سفيان الثوري عن أنس بن مالك، قال: عمر الذباب أربعون يوما، والبعوضة ثلاثة أيام، والبرغوث خمسة أيام. قال: والحمام تعجب بالكمّون وتألف الموضع الذي يكون فيه، وكذلك العدس، ولا سيما إذا نقع في عصير حلو، ومما يصلحن عليه ويكثرن أن تدخّن بيوتهن بالعلك، وأيمن مواضعها وأصلحها أن يبنى لها بيت على أساطين خشب ويجعل فيه ثلاث

كوى: كوّة في سمك البيت «1» ، وكوّة من قبل المغرب، وكوّة من قبل المشرق، وباب من قبل الجنوب. قال: والسذاب «2» إذ ألقي في اللبن تحامته السنانير البرية. هشام بن محمد قال: حدثني ابن الكلبي قال: أسماء نساء بني نوح صلّى الله عليه وسلّم إذا كتبن في زوايا بيت البرج سلمت الفراخ ونمت وسلمت من الآفات قال هشام: فجربته أنا وغيري فوجدناه كما قال: واسم امرأة سام بن نوح: محلت محم، واسم امرأة حام: نف نسا، واسم امرأة يافث: فالر. والطير الذي يخرج من وكره بالليل، البومة والصدى والهامة والضوع والوطواط والخفاش وغراب الليل. قالوا: وإذا خرج فرخ الحمامة نفخ أبواه في حلقه، لتتسع الحوصلة بعد التحامها وتنفتق؛ فإذا اتسعت زقاه عند ذلك اللعاب، [ثم زقاه صاروج «3» صروح الحيطان ليدبغا به الحوصلة] ، ثم زقاه بعد ذلك الحب. قال المثنى بن زهير: لم أر شيئا قط في رجل أو امرأة إلا رأيته في الحمام: رأيت حمامة لا تمنع شيئا من الذكور، ورأيت حمامة لا تقمط «4» إلا بعد شدة الطلب، ورأيت حمامة تتزين للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة تقمط الذكر، ورأيت ذكرا يقمط كل ما لقي ولا يزاوج، ورأيت ذكرا له أنثيان يحضن مع هذه وهذه. [ويزقّ مع هذه وهذه] . قالوا: ومن عجائب الخفاش أنه لا يبصر في الضوء الشديد ولا في الظلمة الشديدة وتحبل [الأنثى] وتلد وتحيض وترضع، وتطير بلا ريش، وتحمل ولدها تحت

البيض

جناحها، وربما قبضت عليها بفيها، وربما ولدت وهي تطير؛ ولها أذنان وأسنان وجناحان متصلان برجليها. قالوا: والخطاف يتبع الربيع حيث كان، وتقلع إحدى عينيه فترجع. البيض قالوا: والبيض يكون من أربعة أشياء: منه ما يكون من السفاد، ومنه ما يكون من التراب، ومنه ما يكون من نسيم ريح يصل إلى أرحامها، ومنه شيء يعتري الحجل وما شاكله في الطبيعة: فربما كانت الأنثى [منه] على سفالة الريح التي تهب [من شق الذكر] في بعض الزمان فتحتشي لذلك بيضا، وكذلك النخلة التي تكون [بجنب] الفحال «1» وتحت ريحه فتلقم تلك الرائحة وتكتفي بذلك؛ والدجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها محّ وإذا لم يكن لها مح لم يكن لبيضها فرخ، لأن الفرخ يخلق من بياض البيض وغذاؤه الصفرة. السباع يقال: إنه ليس في السباع أطيب أفواها من الكلاب، ولا في الوحش أطيب أفواها من الظباء. ويقال: ليس [شيء] أشد بخرا من الأسد والصقر، ولا في السباع أسبح من كلب؛ وليس في الأرض فحل من سائر الحيوان لذكره حجم إلا الإنسان والكلب؛ والأسد لا يأكل الحارّ ولا الحامض، ولا يدنو من النار؛ وكذلك أكثر السباع. وتقول الروم: الأسد يذعر لصوت الذئب؛ ولا يدنو من المرأة الطامث والأسد إذا بال شغر كما يشغر الكلب وهو قليل الشرب ونجوه كنجو الكلب؛ ودواء عضته كدواء عضة الكلب.

قالوا: والعيون التي تضيء بالليل: عيون الأسد والنمور والأفاعي والسنانير. وقالوا: ثلاثة من الحيوان ترجع في قيئها: الأسد والكلب والسّنّور. وقالوا: تمام حمل الكلبة ستون يوما، فإن وضعت قبل ذلك لم تكد أولادها تعيش؛ وإناث الكلاب تحيض كل سبعة أيام يوما، وعلامة ذلك أن يرم ثفر «1» الكلبة، ولا تريد السفاد في ذلك الوقت، وذكور السلوقية تعيش عشرين سنة، وتعيش إناثها اثنتي عشرة سنة؛ وليس يلقي الكلب من أسنانه إلا النابين، والذئاب تسفد» والكلاب في أرض سلوق، فتكون منها الكلاب السلوقية؛ والكلب من الحيوان يحتلم كما يحتلم الإنسان. وقالوا في طبع الذئب محبة الدم: ويبلغ بطبعه أن يرى ذئبا مثله قد دمى، فيثب عليه فيمزقه؛ قال الشاعر: وكنت كذئب السوء لمّا رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدّم ويقولون: ربما ينام الذئب بإحدى عينيه ويفتح الأخرى؛ قال حميد ابن ثور: ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان نائم «3» قالوا: والذئب أشد السباع مطالبة، وإذا عجز عوى عواء استغاثة فتسامعت به الذئاب فأقبلت حتى تجتمع على الإنسان أو غيره فتأكله؛ وليس شيء من السباع يفعل ذلك غيرها. وقضيت الذكر من الأرانب [ربما كان] من عظم، وكذلك قضيب الثعلب والأرنب تنام مفتوحة العين. وليس لشيء من ذكر الحيوان ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل، ولسان الفيل

الحيوان الذي لا يصلح إلا بأمير

مقلوب طرفه إلى داخل، وزعمت الهند أن نابي الفيل [هما] قرناه؛ يخرجان مستبطنين حتى يخرقا الحنك ويخرجان منكسين. وقال صاحب المنطق: ظهر فيل عاش أربعمائة سنة. وحدثني شيخ لنا عن الزيادي قال: رأيت فيلا أيام أبي جعفر قيل إنه سجد لسابور ذي الأكتاف ولأبي جعفر. والفيلة تضع في سبع سنين. الحيوان الذي لا يصلح إلا بأمير الناس والفأر والغرانيق والكراكي والنحل والحشرات. قتادة عن ابن عمر قال: الفأرة يهودية، ولو سقيتها ألبان الإبل ما شربتها، والفأر أصناف: منها الزّباب، وهو أصم لا يسمع؛ والخلد، وهو أعمى؛ وتقول العرب هو أسرق من زبابة وفأرة البيش، والبيش سم قاتل؛ ويقال: هو قرون السّنبل؛ وله فأرة تغتذيه لا تأكل غيره، وفأرة المسك من غير هذا، وفارة الإبل: أرواحها إذا عرقت. قالوا: والأفعى إذا نفثت في فيها حمّاض الأترج «1» وأطبقت لحييها الأعلى على الأسفل لم تقتل بعضتها أياما. قالوا: الثوم والملح وبعر الغنم نافع جدا إذا وضع على موضع لسعة الحية. والحيات تقتل يريح السذاب والشيح، وتعجب باللفاح «2» والبسباس «3» والبطيخ والخردل والحرف «4» واللبن والخمر. وليس في الأرض حيوان أصبر على الجوع من الحية، ثم الضب بعدها؛ وإذا هرمت الحية صفر بدنها، وقنعت بالنسيم.

قالوا: وكل شيء يأكل فهو يحرك فكه الأسفل، ما عدا التمساح؛ فإنه يحرك فكه الأعلى. وبمصر سمكة يقال لها الرعاد، من اصطادها لم تزل يده ترعد ما دامت في شبكته. والجعل «1» إذا دفنته في الورد سكنت حركته حتى تحسبه ميتا، فإذا دفنته في الروث تحركت ورجعت نفسه! والبعير إذا ابتلع خنفساء قتلته إذا وصلت [إلى] جوفه حية. والضب يذبح ثم يمكث ليلة، ثم يقرّب من النار فيتحرك. والأفعى تذبح فتبقى أياما تتحرك، وإذا وطئها أحد نهشته، ويقطع ثلثها الأسفل فتعيش وينبت ذلك المقطوع. قالوا: وللضب ذكران، وللضبة حران، حكاه أبو حاتم عن الأصمعي؛ ويقال لذكره: النّزك، وأنشد: سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كل حاف في البلاد وناعل «2» وسامّ أبرض لا يدخل بيتا فيه زعفران. ومن عضه كلب كلب احتاج أن يستر وجهه من الذباب لئلا يسقط عليه. وخرطوم الذباب يده ومنه يغني، وفيه يجري الصوت كما يجري الزامر الصوت في القصبة بالنفخ! والسلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعترا جبليا. وابن عرس إذا قاتل الحية أكل السذاب «3» . والكلاب إذا كان في أجوافها داء أكلت سنبل القمح. والأيل «4» إذا نهشته الحية أكل السراطين قال ابن ماسويه: فلذلك يظن أن

السراطين صالحة لمن نهشته الحية. قال صاحب المنطق: الحية إذا اشتكت كبدها من وقع الأرانب والثعالب تعالجت بأكل الكمأة حتى تبرأ. وبعض الناس يعملون من الأوزاغ سما أنفذ من البيش ومن ريق الأفاعي. وإذا زرع في نواحي الزرع خردل يجتنبه دبى الجراد. وإذا أخذ المراد اسنج وخلط بعجين ثم طرح للفأر وأكل منه مات وكذلك برادة الحديد. وإذا أخذ الأفيون والشونيز والبارزذ وقرون الأيل وبابونج وظلف من أظلاف العنز، فخلط ذلك جميعا، ثم يدق وينخل نخلا جيدا ويعجن بخل عتيق ثم يقطع قطعا، فيدخّن بقطعة منه هربت الحيات والهوام والنمل والعقارب من ريحه. والبعوض تهرب من دخان الكبريت والعلك. وقالت الحكماء: لحم ابن عرس نافع من الصرع، ولحم القنفذ نافع من الجذام والسل والشنج ووجع الكلى؛ يجفف ويشوى ويطعمه العليل مطبوخا ويضمد به المتشنج. وعين الأفعى وعين الجراد لا تدوران. وإنما تنسج من العناكب الأنثى من ساعة تولد. والقمل يخلق في الرءوس على لون الشعر إن كان أسود أو أبيض أو مصبوغا. وأم حبين لا تقيم بمكان تكون فيه السرفة، وهي دويبّة يضرب بها المثل في الصنعة، فيقال: أصنع من سرفة «1» . أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال أبو بكر الهجري: ما من شيء يضر إلا وفيه منفعة. وقيل لبعض الأطباء إن فلانا يقول: إنما أنا مثل العقرب، أضر ولا أنفع فقال:

مصايد الطير

ما أقل علمه بها، إنها لتنفع إذا شق بطنها ووضعت على مكان اللدغة، وقد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطيّن الجوانب، ثم يوضع الفخار في تنور، فإذا صارت العقرب رمادا سقى من ذلك الرماد مثل نصف دانق من به حصاة فتّتها من غير أن يضر سائر الأعضاء، وقد تلسع من به حمى عتيقة فتقلع عنه، وقد تلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج، وقد تلقى العقرب في الدهن وتترك فيه حتى يأخذ الدهن منها ويجتذب قواها، فيكون ذلك الدهن مفرّقا للأورام الغليظة. وقال المأمون: قال لي بختيشوع وسلمويه وابن ماسويه: إن الذباب إذا دلك على [موضع] لسعة الزنبور سكن ألمها؛ فلسعني زنبور، فحككت على موضع لسعته عشرين ذبابة؛ فما سكن إلا في قدر الحين الذي يسكن فيه من غير علاج! فلم يبق في يدي منهم إلا أن قالوا: كان هذا الزنبور حتفا، ولولا هذا العلاج له لقتلك. وقال محمد بن الجهم: لا تتهاونوا بكثير مما ترون من علاج العجائز، فإن كثيرا منه وقع إليهن من قدماء الأطباء؛ كالذباب يلقى في الإثمد فيسحق معه، فيزيد في نور البصر، ويشد مراكز شعر الأجفان في حافات الجفون. قالوا: وللسع الأفاعي والحيات ينفع ورق الآس الرطب، يعصر ويسقى من مائة قدر نصف رطل. مصايد الطير قال صاحب الفلاحة: من أراد أن يحتال للطير والدجاج حتى يتحيرن ويغشى عليهن فيصيدهن، عمد إلى الحلتيت «1» . أذبه بالماء ثم اجعل فيه شيئا من عسل، وانقع فيه برّا «2» يوما وليلة، ثم ألقه إلى الطير، فإذا لقطه تحير وغشي عليه، فلا يقدر على الطيران إلا أن يسقى لبنا خالطه سمن. قال: وإن عمد إلى طحين برّ غير منخول فعجن بخمر ثم طرح للطير والحجل فأكلن منه تحيرن وأخذن.

مصايد السباع

ومما يصاد به الكراكيّ وغيرها من الطير، أن يوضع لهنّ في مواقعهن إناء فيه خمر، ويجعل فيه خربق «1» أسود، وينقع فيه شعير، ثم يلقى لهنّ، فإذا أكلن منه أخذهنّ الصائد كيف شاء. وقال غيره: تصاد العصافير بأيسر حيلة: تؤخذ شبكة في صورة المحبرة [اليهودية المنكوسة] ، ويجعل في جوفها عصفور، فتنقضّ عليه العصافير وتدخل عليه، فما دخل لم يقدر على الخروج، فيصيد الرجل منها في يومه ما شاء وهو وادع. وقال: ويصاد طير الماء الساكن بالقرعة، وذلك أن تؤخذ قرعة يابسة صحيحة فيرمى بها في الماء، فإنها تتحرّك بتحرّك ذلك الماء، فإذا أبصرها الطير تتحرّك فزع، فإذا كثر ذلك عليه أنس حتى ربما سقط عليها، ثم تؤخذ قرعة مثلها فيقطع رأسها، ويفتق فيها موضع عينين ثم يدخل الصائد رأسه فيها، ويدخل الماء ويمشي رويدا، وكلما دنا من الطائر مدّ يده تحت الماء حتى يقبض عليه ويغمس يده به تحت الماء ويكسر جناحيه، ويخليه فيبقى طافيا على الماء يسبح برجليه ولا يطيق الطيران، وسائر الطير لا تنكر انغماسه في الماء، فإذا فرغ من صيد ما يريد رمى بالقرعة ثم التقطه وحمله. مصايد السباع السباع العادية تصاد بالزّبى والمغوّيات «2» ، وهي آبار تحفر في أنشاز «3» الأرض، ولذلك يقال: قد بلغ السيل الزبى. قال صاحب الفلاحة: ومما تصاد به السباع العادية، أن يؤخذ سمك من سمك البحر الكبار السمان، فتقطع قطعا، ثم تشرح وتكتل كتلا، ثم تؤجج نار في غائط من الأرض تقرب منه السباع، ثم تقذف تلك الكتل فيها واحدة بعد أخرى، حتى ينتشر

تفاضل البلدان

دخان تلك النار، وقتار «1» تلك الكتل في تلك الأرض؛ ثم تطرح حول تلك النار قطع من لحم قد جعل فيه الخربق الأسود «2» والأفيون، وتكون تلك النار في موضع لا ترى فيه حتى تقبل تلك السباع لريح القتار وهي آمنة، فتأكل من قطع ذلك اللحم، ويغشى عليها، فيصيدها الكامنون لها كيف شاءوا. تفاضل البلدان الأصمعي يرفعه إلى قتادة قال: الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف فرسخ، فبلد السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ، وبلد الروم ثمانية آلاف فرسخ، وبلد الفرس ثلاثة آلاف فرسخ، وبلد العرب ألف. الأصمعي قال: جزيرة العرب ما بين نجران إلى العذيب. وقال غيره: أرض العرب ما بين بحر القلزم وبحر الهند. قالوا: وسواد البصرة: الأهواز، وفارس؛ وسواد الكوفة: كسكر إلى الزاب إلى عمل حلوان إلى القادسية؛ وهذه كلها من عمل العراق؛ وعمل العراق من هيت إلى الصين والهند والسند، ثم كذلك إلى الري، وخراسان كلها إلى بلد الديلم والجبال؛ وأصفهان سرة العراق، افتتحها أبو موسى الأشعري؛ والجزيرة ليست من عمل العراق، وهي ما بين الدجلة والفرات، والموصل من الجزيرة، ومكة والمدينة ومصر ليست من عمل العراق. الأصمعي قال: البصرة كلها عثمانية، والكوفة كلها علوية، والشام كلها أموية، والجزيرة خارجية، والحجاز سنية، وإنما صارت البصرة عثمانية من يوم الجمل؛ إذ قاموا مع عائشة وطلحة والزبير؛ فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل لرجل من أهل البصرة: أتحب عليا؟ قال: كيف أحبّ رجلا قتل من قومي من لدن كانت الشمس هكذا ... إلى أن صارت هكذا ... ثلاثين ألفا. والكوفة علوية، لأنها وطن علي رضي الله عنه وداره.

والشام أموية، لأنها مركز ملك بني أمية وبيضتهم. والجزيرة خارجية، لأنها مسكن ربيعة، وهي رأس كل فتنة، وأكثرها نصارى وخوارج، ومنازلهم الخابور، وهو واد بالجزيرة. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبني تغلب: يا خنازير العرب! والله لئن صار هذا الأمر إليّ لأضعنّ عليكم الجزية! وقال هارون الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة! قال: بلى، ولكنّ منابرهم الجذوع! الأعمش عن سليم قال: ذكر عمر بن الخطاب الكوفة فقال: جمجمة العرب، وكنز الإيمان، ورمح الله في الأرض، ومادة الأمصار. علي بن محمد المديني قال: الكوفة جارية حسناء تصنّع لزوجها، فكلما رآها سرته. وقال محمد بن عمير بن عطارد: الكوفة سفلت عن الشام ورباها، وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مريئة مريعة، عذية «1» ندية؛ وإذا أتتنا الشمال هبت على مسيرة شهر على مثل رضراض «2» الكافور، وإذا هبت الجنوب «3» جاءت بريح السواد وورده وياسمينه وأترجّه؛ فماؤها عذب، وعيشها خصب. قال ابن عياش الهمداني لأبي بكر الهذلي [يوم فاخره] عند أبي العباس- وذكرت عنده الكوفة والبصرة- فقال: إنما مثل الكوفة مثل اللهاة من البدن، يأتيها الماء ببرده وعذوبته؛ ومثل البصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغيّر وفساد. وقال الحجاج: الكوفة بكر حسناء، والبصرة عجوز بخراء «4» أوتيت من كل حلي وزينة. وقال جعفر بن سليمان: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق. والمربد عين

لعبد الله بن عمر في المختار

البصرة، ودارين عين المربد. وقال الأصمعي: تذكروا عند زياد الكوفة والبصرة، فقال زياد: لو أضللت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني عليها! وقال حذيفة: أهل البصرة لا يفتحون باب هدى، ولا يغلقون باب ضلالة، وقد رفع الطاعون عن جميع أهل الأرض إلا عن أهل البصرة! ومما نقم على أهل الكوفة أنهم أغدر الناس: طعنوا الحسن بن علي وانتهكوا عسكره، وخذلوا الحسين بن علي بعد أن استدعوه حتى قتل، وشكوا سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب وزعموا أنه لا يحسن أن يصلي، فدعا عليهم أن لا يرضيهم الله عن وال ولا يرضي واليا عنهم، وقد دعا عليهم عليّ بن أبي طالب فقال: اللهم ارمهم بالغلام الثقفي- يعني الحجاج بن يوسف، وشكوا عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة، وطردوا سعيد بن العاص، وخذلوا زيد بن عليّ، وادعى النبوّة منهم غير واحد، منهم المختار بن أبي عبيد. وكتب المختار إلى الأحنف بلغني أنكم تكذبونني وتكذبون رسلي، وقد كذّبت الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم! لعبد الله بن عمر في المختار : وقيل لعبد الله بن عمر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! قال: صدق؛ الشياطين يوحون إلى أوليائهم. سكينة وأهل الكوفة : ولما أرادت سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم الرحيل من الكوفة إلى المدينة بعد قتل زوجها المصعب، حف بها أهل الكوفة وقالوا: أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! فقالت: لا جزاكم الله خيرا من قوم، ولا أحسن الخلافة عليكم، قتلتم أبي، وجدّي، وأخي، وعمي، وزوجي، أيتمتموني صغيرة، وأيّمتموني كبيرة! «1»

عبد الملك وأهل الكوفة

عبد الملك وأهل الكوفة : ولما دخل عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل المصعب، أقبل إليه جماعة فقال: من هؤلاء؟ قالوا أمراؤك أهل الكوفة. قال: قتلة عثمان! قالوا: نعم، وقتلة عليّ! قال: هذه بهذه. بين الكواء ومعاوية : قدم عبد الله بن الكواء على معاوية، فقال: أخبرني عن أهل البصرة. قال: يقبلون ويدبرون شتى. قال: فأخبرني عن أهل الكوفة. قال: أنظر الناس في صغيرة وأوقفهم في كبيرة. قال: فأخبرني عن أهل المدينة. قال: أحرص الناس على الفتنة وأعجزهم عنها! قال فأخبرني عن أهل مصر. قال: لقمة آكل. قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين حشّين «1» ، قال: فأخبرني عن أهل الشام. قال: جند أمير المؤمنين، ولا أقول فيهم شيئا! قال: لتقولن. قال: أطوع خلق الله لمخلوق، وأعصاهم للخالق، ولا يخشون في السماء ساكنا. قتادة قال: قيست البصرة في زمن خالد بن عبد الله القسري، فوجدوا طولها فرسخين وعرضها فرسخين. الأصمعي قال: قال ابن شهاب الزهري: من قدم أرضا فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شربه، عوفي من وبائها. الأصمعي قال: دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكأن قلبي ينضح بالسرور؛ وما أجد لذلك علة إلا انفساخ جوها وطيب نسيمها. ودخل سليمان بن عبد الملك الطائف فنظر إلى بيادر الزبيب، فقال: ما تلك الجرار السود؟ قيل له: ليست بجرار يا أمير المؤمنين، ولكنها بيادر الزبيب. قال: لله درّ قسيّ، في أي عش أودع فراخه! يريد بقسيّ ثقيفا؛ كذلك كان اسمه.

الشامات

الأصمعي قال: من أمثال العامة يقولون: حمّى خيبر، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وطواعين الشام. الأصمعي قال: ذكروا أن على باب سمرقند مكتوب: بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ. قال الأصمعي: بين بغداد وأفريقية ألف فرسخ، وبين البصرة والكوفة ثمانون فرسخا، وواسط بينهما متوسطة، فلذلك سميت واسط. الشامات أول حدّ الشام من طريق مصر أمج، ثم غزة، ثم الرملة رملة فلسطين، ومدينتها العظمى فلسطين. وعسقلان، وبها بيت المقدس، وفلسطين هي الشام الأولى. ثم الشام الثانية وهي الأردن، ومدينتها العظمى طبرية، وهي التي على شاطىء البحيرة، والغور واليرموك، وبيسان، فيما بين فلسطين والأردن. ثم الشام الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس ثم الشام الرابعة، وهي أرض حمص. ثم الشام الخامسة وهي قنّسرين، ومدينتها العظمى حيث السلطان: حلب، وبين قنسرين وحلب أربعة فراسخ، وساحلها أنطاكية، مدينة عظيمة على شاطىء البحر، في داخلها البساتين والأنهار والمزارع، وهي مدينة حبيب النجار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وبها مسجد ينسب إلى حبيب النجار. ومن ثغور الشام الخامسة: المصيّصة، وطرسوس، ونهرا جيحان وسيحان. الجزيرة ثم الجزيرة، وهي ما بين دجلة والفرات، وبها نهران يقال لهما الخابور والبليخ ومخرجهما من رأس العين، [وهي] مدينة عظيمة بالجزيرة في داخلها عين هي عنصر الخابور والبليخ، وعلى الخابور منازل ربيعة، وأكثرها نصارى وخوارج ونصيبين من

العراقان

الجزيرة، وهي مدينة عظيمة مطلة على جبل الجوديّ. والموصل من الجزيرة أيضا. والرقة وحران من الجزيرة أيضا. ومن ثغور الجزيرة في جهة عمّورية من أرض الروم: زبطرة وملطية. وفي جوف الفرات جزائر فيها مدن يقال لها عانة وعانات؛ وعلى شط الفرات مما يلي الجزيرة قرقيسيا، ومما يلي الشام: الرّحبة، رحبة مالك بن طوق. العراقان هما البصرة والكوفة، وقد تقدم ذكرهما واختلاف الناس فيهما. وفيما أحدثت خلفاء بني هاشم بالعراق: الأنبار، وهي مدينة أبي العباس، أول من ولي الخلافة من بني هاشم، ابتناها واتخذها دار خلافته؛ ثم ولي أخوه أبو جعفر المنصور، فانتقل إلى بغداد، وهي مدينة السلام. وابتنى بها الكرخ في جوف بغداد، وهي دار خلافة بني هاشم، حتى قام المعتصم محمد بن هارون، فانتقل منها إلى سامرّا، وتفسير سامرا أن سام بن نوح عليه السلام بناها، وإنما هو بالسريانية، وهي دار الخلافة إلى الآن. فارس منها الأهواز، مدينة عظيمة، وبلدها واسع جدا، وهي من سواد البصرة؛ وتستر مدينة يعمل فيها التستري، وهي ملاحف؛ ومدينة يقال لها جور، وإليها ينسب ماء الورد الجوري، ومدينة يقال لها إصطخر، بها تعمل الأكسية الإصطخرية الجياد السود؛ ومدينة يقال لها السوس، بها تعمل الثياب السوسية من الخز وغيره؛ ومدينة يقال لها العسكر، وإليها تنسب الثياب العسكرية؛ ومدينة يقال لها الأفساسار، وبها تعمل الأكسية الأفساسارية الجياد، ومدينة يقال لها دستوا، وبها تعمل الثياب الدستوائية؛ ومدينة يقال لها الدسكرة، دسكرة الملك كانت لكسرى؛ ومدينة يقال لها حلوان، وهي أول الجبال من خراسان وآخر العراق.

خراسان

خراسان أول مدنها الري، وهي آخر الجبال من خراسان، وإليها ينسب من الرجال الرازي، ومن خراسان مرو، وهي دار خلافة المأمون، ومنها خرج أبو مسلم صاحب الدعوة، ومن ينسب إليها من الرجال، يقال له مروزي، ومن الثياب مروي؛ ومدينة يقال لها قومس، وإليها تنسب الطيقان «1» القومسية؛ ومدينة يقال لها هراة، إليها ينسب الهروي من الرجال والمتاع؛ ومدينة يقال لها بلخ، وإليها ينسب البلخي، وبها معادن البجادي «2» العتيق، وهو جنس من الفصوص تسميه العامة البزادي؛ ومدينة يقال لها خوارزم، وإليها ينسب الخوارزمي، وهي على شط البحر المحيط؛ وبلخ على شط النهر العظيم، الذي يقال له جيحون بخراسان، ثم جرجان، وهي مدينة عظيمة على شط البحر المحيط، وإليها ينسب الوشى الجرجاني والمتاع، ثم قوهى، وهي مدينة عظيمة إليها ينسب القوهي من الثياب: ثم كابل، وهي مدينة يؤتى منها بالإهليلج «3» الكابليّ، ثم سمرقند، وهي مدينة عظيمة، إليها ينسب السمرقندي من الثياب، وبين بغداد وبينهما مسيرة ستة أشهر، وهي مما يلي كرمان، وهي على بطائح السند. وبلاد السند من آخر خراسان، ما بين المغرب والمشرق من جهة القبلة؛ وآخر مدن خراسان مدينة يقال لها تبّت، وهي من أرض الترك وبها مجمع المسك؛ ومدينة يقال لها فرمانة، وأهلها جنس من العجم يقال لهم الصّغد، وهم الذين يقطعون آذانهم من الحزن إذا مات لهم كبير. ومن المدن التي في صدر خراسان على الجبال، مدينة يقال لها قرميسين، ثم الدّينور، وإليها ينسب الدينوري؛ ومدينة همذان، مدينة عظيمة؛ وطبرستان مدينة عظيمة، فيها تعمل الأكسية الطبرية؛ ثم قمّ، وهي مدينة عظيمة، منها يؤتى بالزعفران؛ ثم أصبهان، وهي مدينة عظيمة؛ ثم طوس، وهي من ثغور الجبال.

مصر

مصر من ناحية الشام: الفسطاط، وهي مدينة بها منبران ومسجدان، يجمع فيهما العسكر حيث السلطان؛ وعين شمس، بها منبر، وكانت مدينة فرعون، وفيها بنيانه قائم؛ والفرمان، لها منبر؛ والعريش الذي يقال له عريش مصر، له منبر، وهي آخر مصر وأول الشام. ومن أسفل الأرض: بوصير، لها منبر؛ وتنيس، لها منبر؛ وإليها تنسب الثياب التنيسية، وبها طراز للخليفة؛ وشطا، لها منبر، وإليها ينسب الشطوي؛ ودبيق، لها منبر، وإليها ينسب الدبيقي من الثياب؛ والإسكندرية، لها منبر. ومن ناحية الحجاز، القلزم، لها مبنر؛ وأيلة، لها منبر. ومن ناحية الصعيد: القيس وإليها ينسب القيسي من الثياب؛ والصّفن، وإليها تنسب الأكسية الصفنية الحمر، ودلاص، لها منبر، وهي مجمع سحرة مصر؛ والفيوم، مدينة لها منبر، تؤدّي كل يوم ألف دينار؛ وخلف ذلك قوص وبها تكون معادن الذهب والجوهر والزبرجد. صفة المسجد الحرام صحنه كبير واسع، ذرعه طولا من باب بني جمع إلى باب بني هاشم الذي يقابل دار العباس بن عبد المطلب، أربعمائة ذراع وأربع أذرع؛ وذرعه عرضا من باب الصفا إلى دار الندوة لاصقا بوجه الكعبة الشرقي، ثلاثمائة ذراع وأربع أذرع؛ وله ثلاث بلاطات محدقة به من جهاته كلها منتظم بعضها ببعض، وهي داخلة في الذرع الذي ذكرت، فوقها سماوتها «1» مذهبة، وحافاتها على عمد رخام بيض، عددها في طوله من الشرق إلى الغرب مع وجه الصحن، خمسون عمودا، وفي عرضه ثلاثون

صفة الكعبة

عمودا، بين كل عمودين مثل عشر أذرع، وجملة عمد المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثون عمودا، طول كل عمود منهما عشر أذرع، ودوره ثلاث أذرع، والمذهبة من رؤس العمد ثلاثمائة وعشرون رأسا وسور المسجد كله من داخله مزخرف بالفسيفساء، وأبوابه على عمد رخام ما بين الأربعة إلى الثلاثة إلى الاثنين، وهي ثلاثة وعشرون بابا لا غلق عليها، يصعد عليها في عدة من درج. صفة الكعبة وبيت الله الحرام بوسط المسجد، كان ارتفاعه في عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال- والله أعلم- تسع أذرع، وطوله في الأرض ثلاثون ذراعا وعرضه اثنتان وعشرون ذراعا؛ وكان له ثلاثة سقوف؛ ثم بنته قريش في الجاهلية فاقتصرت على قواعد إبراهيم، ورفعته ثماني عشرة ذراعا، ونقصت من طوله في الأرض ست أذرع وشبرا تركته في الحجر، فلما هدمه ابن الزبير ردّه على قواعد إبراهيم ورفعه سبعا وعشرين ذراعا، وفتح له بابين: بابا إلى الشرق، وبابا إلى الغرب، يدخل على الشرقي ويخرج على الغربي، فكان كذلك حتى قتل، فلما تغلب الحجاج على مكة استأذن عبد الملك بن مروان في هدم ما كان ابن الزبير زاده من الحجر في الكعبة، فأذن له، فردّه على قواعد قريش وسدّ الباب الغربي ولم ينقص من ارتفاعه شيئا. فذرع وجهه القبلي اليوم من الركن الأسود إلى الركن اليماني، عشرون ذراعا؛ ووجهه الجنوبي من الركن العراقي إلى الركن الشامي- وهو الذي يلي الحجر- إحدى وعشرون ذراعا؛ ووجهه الشرقي من الركن العراقي إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود، خمس وعشرون ذراعا؛ ووجهه الغربي من الركن اليماني إلى الركن الشامي، خمس وعشرون ذراعا. وحول البيت- كله إلا موضع الركن الأسود- درجة مجصصة يكون ارتفاعها عظم الذراع في عرض مثله، وقاية للبيت من السيل؛ وباب البيت في وجهه الشرقي على قدر القامة من الأرض، طوله ست أذرع وعشر أصابع، وعرضه ثلاث أذرع

وثمان عشرة إصبعا، والباب من ساج «1» ، غلظ كل باب ثلاث أصابع، ظاهرها ملبس بالذهب، وباطها بالفضة، في كل باب ستّ عوارض، ولها عروتان يضرب فيهما قفل من ذهب. وحواجبه كلها مذهبة ما عدا الحاجب الأيمن؛ فإن العلويّ الثائر لما تغلب على مكة قلع ذهبه فترك على حاله؛ وتحت العتبة العليا عتبة مذهبة، والبابان من ورائهما، والعتبة السفلى مستورة بالديباج إلى الأرض، وبين الركن الأسود والباب خمس أذرع أو نحوها، وهو الملتزم فيما يذكر عن ابن عباس. والحجر الأسود على رأس صخرتين من وجه الأرض، قد نحت من الصخر مقدار ما أدخل فيه الحجر، وأشفت الصخرة الثالثة عليهما مثل أصبعين والحجر أملس مجزّع «2» حالك السواد في قدر الكف المحنيّة قد لزّ من جوانبه بمسامير الفضة، وفيه صدوع، وفي جانب منه صفيحة فضة، حسبتها شظية منه شظيت فجبرت بها، وصخر الركن الأسود أحرش، أكبر من صخرنا قليلا. وللبيت سقفان: سقف دون سقف، وفيهما أربع روازن «3» ينفذ بعضها إلى بعض للضوء، وللسقف الأسفل ثلاث جوائز من ساج منقشة مذهبة. وفي داخل البيت في الحائط الغربي قبالة الباب، الجزعة على ست أذرع من قاع البيت، وهي سوداء مخططة ببياض، طولها اثنتا عشرة إصبعا في مثل ذلك وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع، ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلها على حاجبه الأيمن حين صلى في البيت. والحجر بجوفي البيت محجور من الركن العراقي الشامي تحجيرا محنيا غير مرتفع، قد انقطع طرفاه دون الركنين اللذين يليانه بمثل ذراعين، للدخول والخروج، يكون

ما بين موسطة جنبي التحجير والبيت كما بين الركنين، وارتفاع التحجير نصف قامة، وهو ملبس بالرخام من داخله وخارجه وأعلاه، وجعل بين كل رخامتين عمود من رصاص؛ وقاع الحجر كله مفروش بالرخام، ومصب الميزاب فيه، وقبلتها إليه، والميزاب موسطة أعلى جدار الكعبة، وخارجا عنه مثل أربعة أذرع في سعته، وارتفاع حيطانه ثمان أصابع، ملبس ظاهره وباطنه بصفائح الذهب، والصفائح مسمرة بمسامير مروّسة من ذهب. والبيت كله مستور إلا الركن الأسود، فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف، وإذا دنا وقت الموسم كسي القباطيّ، وهي ديباج أبيض خراساني، فيكون بتلك الكسوة ما كان الناس محرمين، فإذا أحلّ الناس، وذلك يوم النحر حلّ البيت فكسي الديباج الأحمر الخراساني، وفيه دارات مكتوب فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام القابل، ثم يكسى أيضا على حال ما وصفت، فإذا كثرت الكسوة وخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت، وهم بنو شيبة. وذكر بعض المصريين أنه حضر كشف البيت سنة خمس وستين، فرأى ملاطه الزعفران والّلوبان. وذكر أيضا عن بعض المكيين حديث يرفعونه إلى مشايخهم أنهم نظروا إلى الحجر الأسود إذ هدم ابن الزبير البيت وزاد فيه، فقدّروا طوله ثلاث أذرع، وهو ناصع البياض- فيما ذكروا- إلا وجهه الظاهر؛ واسوداده فيما ذكروه- والله أعلم- لاستلام الجاهلية إياه ولطخه بالدم. والمقام بشرقي البيت على سبع وعشرين ذراعا منه، وجه المصلّي خلفه مستقبل البيت إلى الغرب، والركن العراقي على يمينه، والباب والركن الأسود على يساره وهو فيما ذكر من رآه حجر غير مربوع يكون ذراعا في ذراع، وفيه أثر قدم إبراهيم عليه السلام، وطول القدم مثل عظم الذراع، والحجر موضوع على منبر لئلا يمرّ به السيل،

فإذا كان وقت الموسم وضع عليه تابوت حديد مثقب لئلا تناله الأيدي. وحول البيت كله سوار ستّ غلاظ مربعة من حديد مذهبة، ورءوسها مذهبة أيضا، يوقد عليها بالليل للطائفين، بين كل عمود منها والبيت نحو ما بين المقام والبيت. وزمزم بشرقي الركن الأسود، بينهما مثل الثلاثين ذراعا، وهي بئر واسعة، تنّورها من حجر مطوّق أعلاه بالخشب، وسقفها قبو مزخرف بالفسيفساء على أربعة أركان تحت كل ركن منهما عمودان من رخام متلاصقان، وقد سد ما بين كل ركنين منهما بشرجب «1» خشب، وردّ إلى باب من جهة المشرق، وحول القبو كله مثل البرطلة» ، وبشرقي زمزم بيت مقدر، سقفه مزخرف بالفسيفساء أيضا مقفل عليه، وشرقي هذا البيت بيت كبير مربع له ثلاثة أقباء، وفي كل وجه منه باب. وحمام المسجد كثير أنيس، يكاد الإنسان أن يطأه بقدمه، لأنسه بالناس؛ وهو في لون حمام الأبرجة عندنا، إلا أنه أقدر منه، وليس منه حمامة تجلس على البيت ولا تطير عليه، ولقد همني ذلك، فرأيتها حين تكاد أن تحاذي البيت وهي مستعلية في طيرانها ذلك، غطست حتى تصير دونه، وأخذت عن يمينه أو يساره، وزرقها ظاهر بارز على البيوت التي في المسجد، إلا بيت الله الحرام فانه نقى ليس فيه ولا عليه أثر، فسبحان معظّمه ومقدّسه ومطهّره، وتعالى علوا كبيرا! وبين باب الصفا- وهو بقبلي البيت- والصفا، الشارع، وهو ببطن الوادي؛ وبعد الشارع فناء كبير فيه الباعة، ثم الصفا في أصل جبل أبي قبيس، قد أحدق به البناء إلا من الوجه الذي يرقى إليها منه، والرقي إليها على ثلاث درج مبنية بالصخر، والواقف على الصفا مستقبل الجوف ينظر إلى البيت من باب الصفا. والمروة بشرقي المسجد، وهي من الصفا بين المشرق والمغرب، قد أحدق بها البناء

أيضا إلا من وجه المصعد إليها، وهو من أعلى القصور، بينها وبين المسجد الحرام الزقاق الضيق، فالواقف على المروة مستقبل البيت تجاه الفرجة يرى الميزاب وما اتصل به من البيت، وبين الصفا والمروة شبيه بما بين باب السقاية والمسجد الجامع، والساعي بينهما إذا هبط من الصفا يريد المروة سلك في الشارع وهو بطن الوادي، عن يمينه القصور، وعن يساره المسجد؛ ويعترضه بطن واد إذا انصب فيه أرقل «1» حتى يخرج عن آخره، وله علمان أخضران في جانبي الوادي، أحدهما وهو الأوّل خلف باب الصفا لاصق بالسور، والثاني أمامه بائن، عن السور جعلا ليفهم بهما حدّ الوادي الذي يرمل فيه. ومنى قرية بشرقي مكة، تنحو إلى القبلة قليلا خارجة عن الحرم، على نحو الفرسخ منها؛ وفيها بنيان وسقايات، وأول ما يلقى منها الخارج من مكة إليها، جمرة العقبة، بعد يوم النحر، أيام التشريق؛ وبها مسجد أكبر من جامع قرطبة، وهو مسجد الخيف، له مما يلي المحراب أربع بلاطات معترضة، سقفها من جرائد النخل، وعمدها مجصّصة «2» ، والمنبر على يسار المحراب، والباب الذي يخرج منه الإمام عن يمينه، وفي وسط صحن المسجد منارة، وفي كل جانب منها سقيفة. والمزدلفة، وهي المشعر الحرام، بين منى وعرفة، وهي من منى على نحو الفرسخين، ولها مسجد مجصّص لا بناء فيه إلا الحائط الذي فيه المحراب، والباب الذي يخرج منه الإمام عن يمينه، وفي الوسط صحن المسجد؛ وليس فيها ساكن. وعرفة بشرقي منى على نحو الفرسخين منها، ليس بها ساكن ولا بناء، إلا سقايات وقنوات يجري فيها الماء، وليس بمسجدها بنيان إلا الحائط الذي فيه المحراب؛ وموقف الناس يوم عرفة بعرفة في الجبل وما يليه مما تحته؛ والجبل بين المشرق والجوف من مسجدها، وفي الموضع الذي يقف فيه الإمام ماء جار. ومحراب منى وعرفة والمزدلفة إلى نحو المغرب.

صفة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

صفة مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بلاطاته في قبلته معترضة من الشرق إلى الغرب، في كل صف من صفوف عمدها سبعة عشر عمودا، ما بين كل عمودين منها فجوة كبيرة واسعة، والعمد التي في البلاطات القبلية بيض مجصصة شاطّة «1» جدّا، وسائر عمد المسجد رخام؛ والعمد المجصصة على قواعد عظيمة مربعة، ورءوسها مذهبة عليها نجف «2» منقشة مذهبة، ثم السماوات على النجف، وهي أيضا منقشة مذهبة؛ وقبالة المحراب موسطة «3» البلاطات، بلاط مذهب، كله شقت به البلاطات من الصحن إلى أن ينتهي إلى البلاط الذي بالمحراب ولا يشقه، وفي البلاط الذي يلي المحراب تذهيب كثير، وفي وسطه سماء كالترس المقدّر مجوّف كالمحار «4» ، مذهب؛ وقد أخذ وجه السور القبلي من داخل المسجد بإزار رخام من أساسه إلى قدر القامة منه، ولف على الإزار بطوق رخام في غلظ الأصبع، ثم من فوقه إزار دونه في العرض مخلّق بالخلوق، ثم فوقه إزار مثل الأوّل فيه أربعة عشر بابا في صف من الشرق إلى الغرب في تقدير كوى المسجد الجامع بقرطبة، منقشة مذهبة، ثم فوقه إزار رخام أيضا؛ فيه صنيفة سماوية فيها خمسة سطور مكتوبة بالذهب بكتاب ثخين غلظه قدر أصبع، من سور قصار المفصّل، ثم فوقه إزار رخام مثل الأوّل الأسفل، فيه ترسة «5» من ذهب منقشة، وبين كل ترسين منها عمود أخضر في حافاته قضبان من ذهب، ثم فوقه إزار رخام فيه صنيفة منقشة، عرضها مثل عظم الذراع، لها قضبان وأوراق من ذهب، ثم فوقه إزار فسيفساء عريض، ثم السماوات عليه؛ والمحراب في موسطة السور القبلي، على قوسه قصّة من ذهب ناتئة غليظة، في وسطها مرآة مربعة ذكر أنها كانت لعائشة رضي الله عنها.

وقبو المحراب مقدّر جدّا، وفيه دارات بعضها مذهبة وبعضها حمر وسود، وتحت القبو صنيفة ذهب منقشة، تحتها صفائح ذهب مثمنة، فيها جزعة مثل جمجمة الصبي الصغير مسمرة؛ ثم تحتها إلى الأرض إزار رخام مخلّق بالخلوق، فيه الوتد الذي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوكأ عليه في المحراب الأوّل عند قيامه من السجود فيما ذكر، والله أعلم. وعن يمين المحراب باب يدخل منه الإمام ويخرج، وعن يساره باب صغير مشطرج، قد سدّ بعوارض من حديد، وبين هذين البابين والمحراب ممشى مسطح لطيف. والمقصورة من السور الغربي لاصقة بالباب إلى الفصيل اللاصق بالسور الشرقي، ومن هذا الفصيل يصعد إلى ظهر المسجد، وهي قديمة مختصرة العمل، لها شرفات وأربعة أبواب، وخارج المقصورة قريب منها عن يسار المحراب سرب في الأرض يهبط فيه درج يفضي منها إلى دار عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والمنبر عن يمين المحراب في أول البلاط الثالث من المحراب في روضة مفروشة من الرخام مجوز حولها به، وله درج، وسمر في أعلاه لوح لئلا يجلس أحد على الدرجة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس عليها، وهو مختصر، ليس فيه من النقوش ودقة العمل ما في منابر زماننا الآن، والجذع أمام المنبر، وشرقي المنبر تابوت يستر به مقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقبره صلوات الله عليه وسلامه بشرقي المسجد في آخر مسقّفه القبلي مما يلي الصحن، بينه وبين السور الشرقي مثل عشر أذرع، قد حظر حوله بحائط بينه وبين السقف مثل ثلاث أذرع، وله ستة أركان، ولبّس بإزار رخام أكثر من قامة، وما فوق القامة مخلق بالخلوق. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة؛ ومنبري على ترعة من ترع الجنة.

صفة مسجد بيت المقدس وما فيه من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

وعلى ظهر المسجد حذاء القبر حجر محجور لئلا يمشى عليه، والبلاطات الجنوبية والغربية أربع، منتظم بعضها فوق بعض في طولها مع وجه الصحن من القبلة إلى الجوف ثمانية عشر عمودا، وحنايا المسجد كلها مما يلي الصحن مشدودة من جهاتها الأربع إلى مناكب العمد بخشب منقش. وللمسجد ثلاث منارات: اثنتان للجنوب وواحدة للمشرق؛ وحيطان المسجد كلها من داخله مزخرفة بالرخام والذهب والفسيفساء، أولها وآخرها، وله ثمانية عشر بابا، عتبها مذهبة، وهي أبواب عظيمة لا غلق عليها، أربعة منها في الجنوب، وسبعة في الشرق، وسبعة في الغرب. وقاع المسجد كله مفروش بالحصى وليس له حصر، ووجه سور المسجد كله من خارج منقش بالكذّان «1» ، وكذلك الشرفات. فينبغي للداخل في المسجد أن يأتي الروضة التي قال فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها روضة من رياض الجنة» ، فيصلي فيها ركعتين، ثم يأتي قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل وجهه، فيستدبر القبلة ويستقبل القبر، ويسلم عليه صلّى الله عليه وسلّم، وعلى أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولا يلصق بالقبر، فإنه من فعل الجهال، وقد كره ذلك، فإذا فعل ما ذكر استقبل القبلة ودعا بما أمكنه بعد الصلاة على النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وعرّفنا به، ورزقنا شفاعته برحمته، آمين! صفة مسجد بيت المقدس وما فيه من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام طول المسجد سبعمائة ذراع وأربع وثمانون ذراعا، وعرضه أربعمائة ذراع وخمس وخمسون ذراعا بذراع الإمام، ويسرج في المسجد ألف وخمسمائة قنديل، وعدّة ما فيه من الخشب ستة آلاف خشبة وتسعمائة خشبة، وعدد ما فيه من الأبواب خمسون بابا،

وعدد ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون عمودا، والعمد التي داخل الصخرة ثلاثون عمدا، والعمد التي خارج الصخرة ثمانية عشر عمودا، وفيه الصخرة الملبسة صفائح الرصاص، عليها ثلاثة آلاف صفيحة، وثلاثمائة واثنتان وتسعون صفيحة، ومن فوق ذلك صفائح النحاس مطلية بالذهب، يكون عليها عشرة آلاف صفيحة، ومائتان وعشر صفائح؛ وجميع ما يسرج في الصخرة من القناديل أربعمائة قنديل وأربعة وستون قنديلا، بمعاليق النحاس وسلاسل النحاس؛ وكان طول صخرة بيت المقدس في السماء اثنى عشر ميلا، وكان أهل أريحاء يستظلون بظلها، وأهل عمواس مثل ذلك؛ وكان عليها ياقوتة حمراء تضيء لأهل البلقاء، وكان يغزل في ضوئها أهل البلقاء. وفي المسجد ثلاث مقاصير للنساء، طول كل مقصورة ثمانون ذراعا في عرض خمسين ذراعا، وفيه من السلاسل لتعليق القناديل ستمائة سلسلة، طول كل سلسلة ثمان عشرة ذراعا، وفيه من غرابيل النحاس سبعون غربالا، وفيه من الصنوبر التي للقناديل سبع صنوبرات، وفيه من المصاحف الجامعة سبعون مصحفا، وفيه من الكبار التي في الورقة منها جلد، ستة مصاحف على كراسي تجعل فيها؛ وفيه من المحاريب عشرة، ومن القباب خمس عشرة قبة، وفيه أربعة وعشرون جبا «1» للماء، وفيه أربع مناور للمؤذّنين، وجميع سطوح المسجد والقباب والمنارات ملبسة صفائح مذهبة، وله من الخدم بعيالاتهم مائتا مملوك وثلاثون مملوكا، يقبضون الرزق من بيت مال المسلمين؛ ووظيفته في كل شهر من الزيت سبعمائة قسط بالإبراهيمي، وزن القسط «2» رطل ونصف بالكبير؛ ووظيفته في كل عام من الحصر ثمانية آلاف، ووظيفته في كل عام من السّرافة لفتائل القناديل اثنا عشر دينارا ولزجاج القناديل ثلاثة وثلاثون دينارا، ولصناع يعملون في سطوح المسجد في كل عام خمسة عشر دينارا.

آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس

آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس مربط البراق الذي ركبه النبي صلّى الله عليه وسلّم، تحت ركن المسجد؛ وفي المسجد باب داود عليه الصلاة والسلام وباب سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام وباب حطة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ «1» ، وهي قول لا إله إلا الله؛ فقالوا: حنطة، وهم يسخرون، فلعنهم الله بكفرهم؛ وباب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وباب التوبة الذي تاب الله فيه على داود، وباب الرحمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ «2» يعني واد جهنم الذي بشرقي بيت المقدس، وأبواب الأسباط أسباط بني إسرائيل وهي ستة أبواب؛ وباب الوليد، وباب الهاشمي، وباب الخضر، وباب السكينة وفيه محراب مريم ابنة عمران رضي الله عنها، الذي كانت الملائكة تأتيها فيه بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء؛ ومحراب زكريا الذي بشرته فيه الملائكة بيحيى وهو قائم يصلي في المحراب، ومحراب يعقوب، وكرسي سليمان صلوات الله عليه، الذي كان يدعو الله عليه، ومغارة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام التي كان يتخلى فيها للعبادة، والقبة التي عرج النبي صلّى الله عليه وسلّم منها إلى السماء، والقبة التي صلّى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنبيين، والقبة التي كانت السلسة تهبط فيها زمان بني إسرائيل للقضاء بينهم، ومصلى جبريل عليه السلام، ومصلى الخضر عليه السلام. فإذا دخلت الصخرة فصلّ في ثلاثة أركانها، وصلّ على البلاطة التي تسامت الصخرة، فإنها على باب من أبواب الجنة. ومولد عيسى بن مريم على ثلاثة أميال من المسجد، ومسجد إبراهيم عليه السلام وقبره على ثمانية عشر ميلا من المدينة، ومحراب المسجد بغربيه.

فضائل بيت المقدس

فضائل بيت المقدس ينصب الصراط ببيت المقدس، ويؤتى بجهنم- نعوذ بالله منها- إلى بيت المقدس وتزف الجنة يوم القيامة مثل العروس إلى بيت المقدس، وتزف الكعبة بحاجّها بها إلى بيت المقدس، ويقال لها مرحبا بالزائرة والمزورة؛ ويزف الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر يومئذ أعظم من جبل أبي قبيس. ومن فضائل بيت المقدس أن الله رفع نبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء من بيت المقدس، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام إلى السماء من بيت المقدس ويغلب المسيخ الدجال على الأرض كلّها إلا بيت المقدس، وحرم الله على يأجوج ومأجوج أن يدخلوا بيت المقدس، والأنبياء كلهم من بيت المقدس، والأبدال «1» كلهم من بيت المقدس، وأوصى آدم وموسى ويوسف وجميع أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم أن يدفنوا ببيت المقدس. نتف من الأخبار لابن المغيرة في المرزباني : فرج بن سلام قال: حدثني سليمان بن المغيرة قال: كنت أجد من أبي أيوب المرزباني رائحة طيبة، ليست برائحة شراب ولا رائحة طيب؛ فقلت له: أخبرني عن هذه الرائحة. فقال: عفص آمر به فيدق وينخل، فألتّه بقطران شامي، ثم آخذ منه كل غداة على إصبعي فأدلك به أسناني وعمورها «2» ، فتطيب نكهتها وتشتد لثتها وعمورها. الرياشي قال: كانوا إذا أرادوا جارية، مضغت نصف جوزة وأكلتها؛ فلا تزال طيبة النكهة سائر ليلتها.

لابن عبد العزيز في ساحرة

لابن عبد العزيز في ساحرة : عبد الصمد بن همام قال: كتب عامل عمان إلى عمر بن عبد العزيز. إنا أتينا بساحرة، فألقيناها في الماء فطفت على الماء. فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا فخلّ عنها! بين الحسن ورجل : وقال رجل للحسن: أبا سعيد، الملائكة خير أم الأنبياء؟ قال: قال الله جل ثناؤه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «1» ، وقال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «2» ، وقال: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ «3» . للضحاك : العتبي قال: حدثني أبو النصر عن جرير عن الضحاك قال: من سمع الأذان في بيته فقام فصلى فقد أجاب. أبو حاتم عن العتبي قال: سمي المحرم [محرّما] ، لأنه جعل حراما؛ وصفر لإصفار مكة من أهلها؛ والربيعان؛ للخصب فيهما، والجماديان، لجمود الماء فهما من شدة البرد، ورجب، لترجيب «4» العرب أسنتها؛ وشعبان، لأنه شعب «5» بين رجب ورمضان؛ ورمضان لإرماض الأرض من الحر؛ وشوال، لأن الإبل شالت بأذنابها فيه لحملها؛ وذو القعدة، لقعودهم فيه عن الغزو من أجل الحج؛ وذو الحجة، للحج.

يونس ورؤبة

يونس ورؤبة : الرياشي عن محمد بن سلام عن يونس النحوي قال: قال لي رؤبة وأنا أسأله عن الغريب؛ حتى متى تسألني عن هذه الأباطيل وأزوّقها لك؟ أما ترى الشيب قد أخذ في عارضيك ولحيتك؟ وقال الخليل بن أحمد: إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجلس عند غيره. الرياشي عن الأصمعي قال: لا تكون حطمة «1» حتى يكون قبلها بريق تأتي فتحطم. ومن حديث أبي رافع، عن أبي ذرّ قال: قلت يا رسول الله صلّى الله عليك كم عدد النبيين؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. أبو بكر بن عياش عن العجلي عن قتادة قال: طول الدنيا مائة ألف وأربعة وعشرون ألف فرسخ. ومن حديث عبد الله بن عمر قال: العرش مطوّق بحية، والوحي ينزل في السلاسل. ومن حديث ابن أبي شيبة: أن العباس بن عبد المطلب، كان أقرب شحمة أذن إلى السماء، وكان إذا طاف بالبيت يشبه الفسطاط العظيم، وإذا مشى بين قوم تحسبه راكبا. ومن حديث عروة بن الزبير عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: خلق الله الملائكة من نور، والجانّ من نار، وآدم من تراب. وسأل أعرابيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: متى القيامة؟ فقال له: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء والله، غير أني أحبّ الله ورسوله. قال: المرء مع من أحب.

رياد عن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إياكم والشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء! زياد عن مالك قال: إذا لم يكن في الرجل خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره، وإذا رأيت الرجل يستحل مال عدوّه فلا تأمنه على مال صديقه. وقال بعضهم: سمعت حذيفة يحلف لعثمان في شيء بلغه عنه، ما قاله، ولقد سمعته يقوله؛ فسألته عن ذلك، فقال: يا بن أخي، أشتري ديني بعضه ببعض لئلا يذهب كله! أخذه الشاعر فقال: نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع زياد عن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الغيرة من الإيمان، والمراء من النفاق. الأصمعي قال: سأل عليّ بن أبي طالب الحسن ابنه رضوان الله عليهما: كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع. قال: وكيف ذلك؟ قال: الإيمان كلّ ما سمعته أذناك وصدّقه قلبك، واليقين ما رأته عيناك فأيقن به قلبك؛ وليس بين العين والأذنين إلا أربع أصابع. الرياشي قال: ضرب عليّ كرم الله وجهه بيده زانيا فأوجعه إيجاعا شديدا، فقال له عمّ المضروب: بعض هذا الضرب فقد قتلته! فقال علي رضي الله عنه: إنه وتر «1» من ولدها من قبل أبيها وأمّها من النبيين والصالحين إلى آدم!

النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة

قال الرياشي: فكنت أعجب من شنعة حدّ الرجم، فلما سمعت شنعة الذنب هان عليّ الحدّ! الأصمعي عن أبي عمرو قال: دم الحيض غذاء المولود. أقبل أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم [في المسجد] ينشد ضالة له، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا وجدتها! إنما المساجد لما بنيت له! الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة: عاتكة بنت يزيد بن معاوية؛ أبوها خليفة، وجدّها خليفة، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة، وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة، وولدها يزيد بن عبد الملك خليفة، وأربّاؤها الوليد وسليمان وهشام، خلفاء. النبي صلّى الله عليه وسلّم في فتح مكة : قتادة عن أنس بن مالك قال: أمن النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة، فإنه قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة؛ وهم: عبد العزى بن يزيد بن خطل، ومقبس بن صبابة الكندي، وعبد الله [بن سعد] بن أبي سرح وسارة؛ فأما عبد العزى فإنه قتل وهو متعلق بأستار الكعبة، وأما عبد الله [بن سعد] بن أبي سرح: فإنه كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فبايعه وشفع له عنده، وأما مقيس؛ فإنه كان له أخ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتل خطأ، فبعث مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني فهر، ليأخذ له عقله من الأنصار، فلما اجتمع له العقل «1» أخذه وانصرف مع الفهري، فنام الفهري في بعض الطريق، فوثب عليه مقيس فقتله، ثم أقبل وهو يقول: شفى النفس من قد مات بالقاع مسندا ... يضرّج ثوبيه دماء الأخادع قتلت به فهرا، وأغرمت عقله ... سراة بني النجّار أرباب فارع «2» حللت به نذري وأدركت تؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع! «3»

المصعب وقتل مرة

وأما سارة فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئا؛ ثم أتاها رجل فبعث معها كتابا إلى أهل مكة يتقرّب به إليهم ليحفظ في عياله، وكان عياله بمكة، فأخبر جبريل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، فلحقاها، ففتشاها فلم يقدرا على شيء، فأقبلا راجعين، ثم قال أحدهما لصاحبه: والله ما كذّبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها! فرجعا إليها، فسلا سيفيهما، ثم قالا: لتدعنّ إلينا الكتاب أو لنذيقنك الموت! فأنكرته، ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا تردّاني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقبلا منها ذلك، فحلّت عقاص «1» رأسها وأخرجت الكتاب من قرن من قرونها؛ فرجعا بالكتاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فدفعاه إليه؛ فدعا الرجل وقال له: ما هذا الكتاب؟ فقال له: أخبرك يا رسول الله، إنه ليس ممن معك أحد إلا وله بمكة من يحفظه في عياله غيري؛ فكتبت بهذا الكتاب ليكافئوني في عيالي! فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «2» . المصعب وقتل مرة : أمر المصعب بن الزبير رجلا من بني أسد بن خزيمة بقتل مرة بن محكان السعدي، فقال مرة: بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميما إذا الحرب العوان اشمعلّت «3» ولست وإن كانت إليّ حبيبة ... بباك على الدنيا إذا ما تولّت

لجرير في ابن سعد الأسدي

لجرير في ابن سعد الأسدي : كان ابن سعد الأسدي قد تولى صدقات الأعراب لعمر بن عبد العزيز وأعطياتهم، فقال فيه جرير يشكوه إلى عمر: حرمت عيالا لا فواكه عندهم ... وعند ابن سعد سكّر وزبيب وقد كان ظني بابن سعد سعادة ... وما الظنّ إلا مخطيء ومصيب فإن ترجعوا رزقي إليّ فإنه ... متاع ليال والأداء قريب تحيّا العظام الراجعات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم : لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك، كان أبو خيثمة فيمن تخلف عنه. فأقبل، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيّب ثمر بستانها، ومهدت له في ظل حائط؛ فقال: ظل ممدود، وثمرة رطبة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الضّح والريح، ما هذا بخير! ثم ركب ناقته ومضى في أثره؛ فقالوا: يا رسول الله، نرى رجلا يرفعه الآل «1» . فقال: كن أبا خيثمة! فكانه. الضح: الشمس، تقول العرب في أمثالها: جاء فلان بالضح والريح، إذا أقبل بخير كثير. نتف من الطب قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم. بريد: ما نزعتم عن القسيّ، ونزوتم على ظهور الخيل؛ وإنما أراد الحركة، والله أعلم، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: سافروا تصحوا.

للنبي صلى الله عليه وسلم في السنا

وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط: الأكل، والمشي، والجماع؛ فأما الأكل، فإن الأمعاء تضيق لتركه؛ وأما المشي، فإن من لم يتعاهده أوشك أن يطلبه فلا يجده؛ وأما الجماع، فإنه كالبئر، إن نزحت جمّت «1» ، وإن تركت يخثر «2» ماؤها. وحق هذا كله القصد فيه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من استقل برأيه فلا يتداوى، فربّ دواء يورث الداء» . وقالت الحكماء: إياك وشرب الدواء ما حملتك الصحة. وقالوا: مثل الدواء في البدن مثل الصابون في الثوب: ينقيه ويخلقه. الأصمعي عن رجل عن عمه، قال: لقيت طبيب كسري شيخا كبيرا قد شدّ حاجبيه بخرقة، فسألته عن دواء المشي «3» ، فقال: سهم يرمى به في جوفك أصاب أم أخطأ. وفي كتاب التفصيل للهند: الدواء من فوق، والدواء من تحت، والدواء لا من فوق ولا من تحت. تفسيره: من كان داؤه فوق سرته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرته حقن بالدواء، ومن لم يكن له داء لا من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء ولم يحقن به. للنبي صلّى الله عليه وسلّم في السنا : وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسماء بنت عميس: بم كنت تستمشين في الجاهلية؟ قالت: بالشبرم» . قال: حار حار. ثم قالت: استمشيت بالسنا «5» . قال: لو أن شيئا يرد القدر لردّه السنا. ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج عليهم وهم يتذاكرون الكمأة ويقولون

فيها: جدري الأرض. فقال: إن الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين، وهي شفعا من السم. وأهدى تميم الداري إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم زبيبا، فلما وضعه بين يديه قال لأصحابه: كلوا، فنعم الطعام الزبيب، يذهب النصب، ويشد العصب، ويطفيء الغضب، ويصفي اللون، ويطيب النكهة، ويرضى الرب. وقال طلحة بن عبيد الله: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس في جماعة من أصحابه، وفي يده سفرجلة يقلبها، فلما جلست إليه دحرج بها نحوي، وقال: دونكها أبا محمد، فإنها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطخاء «1» الصدر. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من النّشر: شرب العسل نشرة «2» ، والنظر إلى الماء نشرة، والنظر إلى الخضرة نشرة، والنظر إلى الوجه الحسن نشرة» وقال عثمان بن عفان: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بلغ الخمسين أمن الأدواء الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص. ومن حديث زيد بن أسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله. ومن حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أنزل الدواء الذي أنزل الداء. ومن حديث زيد بن أسلم أن رجلا أصابه جرح في بعض مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا له رجلين من بني أنمار، فقال: أيكما أطبّ؟ فقال له رجل من أصحابه: في الطب خير؟ قال: إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية، يسعط به من

العذرة «1» ، ويلدّ به من ذات الجنب «2» . يريد القسط الهندي، وهو الذي تسميه العامة: الكست. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها دواء من كل داء إلا السام. يعني الشونيز. وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: عليكم بالإثمد «3» عند النوم، فإنه يحدّ البصر، وينبت الشعر. وفيه أن عبد الله بن مسعود قال: عليكم بالشفاءين: القرآن، والعسل. الأصمعي قال: ثلاث ربما صرعت أهل بيت عن آخرهم: الجراد، ولحوم الإبل، والفطر. وهو الفقع. ويقول أهل الطب: إن أردأ الفطر ما ينبت في ظلال الشجر، ولا سيما في ظلال الزيتون، فإنه قتّال. وقال وهب بن منبه: إذا صام الرجل زاغ بصره، فإذا أفطر على الحلوى رجع إليه بصره. وأقبل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني كنت في الجاهلية ذا فطنة وذا ذهن، وأنكرت نفسي في الإسلام! فقال له: أكنت تنام في القائلة! قال: نعم. قال: فعد إلى ما كنت عليه من نوم القائلة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: عليكم بالشجرة التي كلم الله منها موسى بن عمران، زيت الزيتون فادّهنوا به، فإن فيه شفاء من الباسور.

معاوية والمغيرة

وقال: في الزيتونة يقول الله: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ «1» . وتقول الأطباء: إذا خرج الطعم «2» من قبل ست ساعات فهو من ضرر، وإذا أقام في الجوف أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو من ضرر. معاوية والمغيرة : دخل المغيرة بن شعبة على معاوية فقال له معاوية: أنكرت من نفسي خصلتين: قلّ طعمي، ورقّ عظمي؛ فإن تدثرت بالثقيل أثقلني، وإن تدثرت بالخفيف أصابني البرد. قال: نم يا أمير المؤمنين بين جاريتين سمينتين، يدفئانك بشحومهما، ويحملان عنك ثقل الدثار بمناكبهما، وأكثر من الألوان، وكل من كلّ لون ولو لقمة؛ فإن ذلك إذا اجتمع كثيره نفع. فدخل عليه بعد ذلك فقال له معاوية: يا أعور، قد جربنا ما قلت فوجدناه موافقا. التعويذ والرقي أبو بكر بن أبي شيبة عن عقبة عن شعبة عن أبي عصمة قال: سألت سعيد بن المسيّب عن تعليق التعويذ، قال: لا بأس به. وكان مجاهد يكتب للصبيان التعويذ ويعلقه عليهم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من قال إذا أصبح: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة؛ لم يضره عين ولا حية ولا عقرب. وفي مسند ابن أبي شيبة أن خالد بن الوليد كان يفزع في نومه، فشكا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: أخبرني جبريل أن عفريتا من الجن يكيدك، فقل: أعوذ بكلمات الله التامات المباركات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من

الحجامة والكي

السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر كلّ ذي شر. فقالهن خالد، فذهب ذلك عنه. وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بينا هو يصلي ذات ليلة، إذ وضع يده على الأرض فلدغته عقرب، فتناول نعله فقتلها؛ فلما انصرف قال: لعن الله العقرب، ما تدع نبيا ولا غيره! ثم دعا بماء وملح فجعله في إناء، ثم صب على إصبعه منه، ومسحها وعوّذها بالمعوّذتين. وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. والحمة: السم. سفيان بن عيينة قال: بينا عبد الله بن مسعود جالسا تعرض عليه المصاحف، إذ أقبلت أعرابية فقال: أبا فلان- لرجل جالس إليه- لقد لدغ مهرك، وتركته كأنه يدور في فلك، فقم فاسترق له. فقال له ابن مسعود: لا تسترق له، واذهب فانفث في منخره الأيمن أربعا، وفي الأيسر ثلاثا، وقل: اذهب الباس يا رب الناس، فإنه لا يذهبه إلا أنت. ففعل، فلم يبرح حتى أكل وشرب وبال وراث. دخل أبو بكر على عائشة وهي تشكو ويهودية ترقيها، فقال لها: ارقيها بكتاب الله. الحجامة والكي قال عبد الله بن عباس: احتجم النبي صلّى الله عليه وسلّم في رأسه من أذى كان به. وفي مسند ابن أبي شيبة: ان عيينة بن حصن دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يحتجم في فأس رأسه، فقال: ما هذا؟ قال: هذا خيرا ما تداويتم به. وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: خير ما تداويتم به الحجامة «1» والقسط

السم والسحر

العربي، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة «1» . وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: خير يوم تحتجمون فيه، سبعة عشر، وتسعة عشر؛ وأحد وعشرون. وفيه أنه قال: إن كان في شيء مما تعالجون به خير ففي شرطة من محجم، أو لذعة من نار تواقع أللما، أو شربة من عسل؛ وما أحب أن أكتوي. السم والسحر النبي صلّى الله عليه وسلّم والشاة المسمومة في مسند ابن أبي شيبة: أن يهود خيبر أهدوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شاة مسمومة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجمعوا لي من ههنا من اليهود. فجمعوا له، فقال لهم: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ قالوا: نعم! قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك السم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني «2» ، فهذا أو ان قطعت أبهري» «3» . أبو بكر وابن كلدة الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام، وعنده الحارس بن كلدة طبيب العرب؛ فأكلا منه، فقال الحارث لأبي بكر: لقد أكلنا والله في هذا الطعام سم سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول، فماتا جميعا عند انقضاء السنة. النبي صلّى الله عليه وسلّم ويهودي ساحر وفي مسند ابن أبي شيبة: أن رجلا من اليهود سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم فاشتكى لذلك أياما:

العين

فأتاه جبريل فقال له: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا وجعلها في مكان كذا. فأرسل عليا رضي الله عنه فاستخرجها وجاء بها فجعل يحلها، فكلما حل عقدة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفة؛ ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما أنشط «1» من عقال. وفي مسند ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: طبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- والطب: السحر- فبعث إلى رجل فرقاه. العين تقول العرب: رجل معين، إذا أخذ بالعين. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو سبق القدر شيء لسبقته العين! وتقول العرب: إن العين تسرع بالإبل إلى أوصامها «2» ، وبالرجال إلى أسقامها. ونظر عامر بن أبي ربيعة إلى سهل بن حنيف يستحم، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة! قال: فلبط «3» به، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عامر بن أبي ربيعة أن يتوضأ له ثم يطهره بمائة، ففعل، فقام سهل بن حنيف كأنما أنشط من عقال. أبيات في الطب وجدناها في كتاب فرج بن سلام النافجاء بشيرج ملتوت ... فيه شفاء للرياح مميت يغلى لذلك حلبة في مائها ... يسقاه مصطحبا وحين يبيبت وقال: ليس شيء أنفى عن الجسم ... للريح من الأنجدان والمحروت. وقال: في الحرف سبعون دواء وفي الكمّون فيما قبل ستونا «4»

قد قاله هرمس في كتبه ... فلا تدع حرفا وكمّونا وقال: بسعتر بر داو كل مبلغم ... وذا المرّة الصّفراء بالرازيانق وذو المرّة السّوداء ذاك علاجه ... تعاهد فصد العرق من كفّ حاذق وذو الدّم فليكثر لذاك حجامة ... فما غيرها شيء له بموافق وقال: لا تكن عند أكل سخن وبهر ... ودخول الحمام تشرب ماء فإذا ما اجتنبت ذلك منه ... لم تخف ما حييت في الجوف داء وقال: إن أردت الرّقاد في الليل فاجعل ... قطنة عنده على الأذنين فبه تظهر السلامة للأذ ... نين مما يضرّ بالعينين وقال: لا تشرب الماء بعد النّوم من ظمإ ... ولا تبت أبدا من غير منتفض «1» فجوف من بات من ماء ومن ثقل ... ومن رياح دعا كلّا إلى مرض وقال: أحسن في الحمام ماء مسخنا ... وليكن ذلك في البيت السّخن يسلم البطن من الدّاء ولا ... يعتريه وجع طول الزّمن

وقال: إن دخلت الحمام فضرب على رأ ... سك بالماء السّخن سبع مرار فبه تظهر السلامة من كلّ صداع بقدرة الجبار وقال: لا تجامع، ولا تمطى، ولا تد ... خل- إذا ما شبعت- في الحمام فهو دفع لكلّ ما يتقيه ال ... مرء من فالج وكلّ سقام وقال: ما كان في الرأس أخرجه بغرغرة ... والقيىء يخرج ما في الصدر من عفن «1» وكلّ ما كان في صلب فذلك لا ... يسيل إلا بأخلاط من الحقن وقال: على الريق في البرد احسن ماء مسخّنا ... وفي الصيف ماء باردا حين تصبح وذلك فيما قيل فيه مصحّة ... وذاك على إدمانه الجسم يصلح وقال: إنّ من باكر الغداء وبعد ال ... عصر منه تعاهد للعشاء فبإذن الإله يبقى صحيحا ... سالما في الحياة من كلّ داء

وقال: إنّ رأس الطّبّ أن تد ... لك بالزّئبق دلكا ... ... باطن الرّجلين عند النوم ... ينفى السّقم عنكا وقال: شجر البراغيث الكريه مشمّه ... يبري بإذن الله من داء الحبن «1» وقال: إنّ السّواك ليستحبّ لسنّة ... ولأنه مما يطيب به الفم لم تخش من حفر إذا أدمنته ... وبه يسيل من الّلهاة البلغم «2» وقال: احتجم بين كلّ شهرين ولتل ... ف على أثرة من الأيام سبعة منك للزّبيب بلا عج ... م تبدّيه قبل كلّ طعام فهو للعين واللهاة وللحل ... ق أمان لها من الأسقام «3» وقال: ولا تغط الرأس في وقت ما ... تخرج من الحمام واخش الضرر إنّ بخار الرّأس في وقت ما ... وصفته داء يصيب البصر وقال: إنّ الجماع على الحمام مصحّة ... ولذاذة تاهت على اللذّات

الرسول صلى الله عليه وسلم وشاكية من زوجها

وقال: السمك المالح إن لم يكن ... بدّ من الأكل له فانعم ... ... بالطّبخ أكثر زّيته ثم كل ... من قبل مأدوما من المطعم وقال: اطل منك الشعر كلّ أربعاء لا يدور وليكن غسلك بالبا ... رد منه والطّهور إنه يزعر منه ... شعر الجسم الكثير إنني طبّ بما يج ... هله الناس خبير «1» الرسول صلّى الله عليه وسلّم وشاكية من زوجها وحدّث محمد بن ابراهيم الورّاق قال: حدثني محمد بن عبيد الله بن الحارث بن إسحاق بمصر قال: حدثنا محمد داود بن ناجية قال: حدثنا زياد بن يونس الحضرمي عن محمد بن هلال المدني عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشتكي زوجها، فقال: إنها تذكر كثرة الجماع؛ قال: يا رسول الله، أفأزني، قال لا، ولكن إذا جاءنا سبي فتعال حتى نعطيك جارية. فقدم عليه سبي؛ فجاء إليه فقال له: يا رسول الله، وعدي. فقال له: اختر! فقال له: اختر لي. فقال: خذ هذه، فإني أراها زرقاء «2» ، فلعلها ... قال: فما لبثنا أن جاءت المرأة فقالت: يا رسول الله، ما زاده الأمر إلا تجدّدا. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، أفأزني! قال: لا. ثم قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لعلك تكثر

الهدايا

الاطّلاء. قال: نعم. قال: فأقل طلاءك «1» يقلّ جماعك. قال محمد: قال لي ابن ناجية: وأنا كما تراني شيخ كبير، قد أتى عليّ ثمانون سنة، إذا أحببت الوطء اطّليت في كل خمس عشرة ليلة. الهدايا كتب سعيد» بن حميد إلى بعض أهل السلطان في يوم النيروز: «لألها السيد الشريف، عشت أطوال الأعمار بزيادة من العمر موصولة بقرائنها من الشكر، لا ينقضي حق نعمة حتى يجدد لك أخرى، ولا يمرّ بك يوم إلا كان مقصرا عما بعده، موفيا عما قبله. إني تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة [في مثل هذا اليوم] ، فالتمست التأسّي بهم في الإهداء، وإن قصرت بي الحال عن الواجب، [فرأيت] أني إن أهديت نفسي فهو ملك لك، لاحظ فيها لغيرك؛ ورميت بطرفي إلى كرائم مالي، فوجدتها منك، فكنت إن أهديت منها شيئا كالمهدي مالك إليك؛ وفزعت إلى مودتي فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة، فرأيتني إن جعلتها هديتي لم أجدد لهذا اليوم الجديد برّا ولا لطفا؛ ولم أميز منزلة من الشكر بمنزلة من نعمتك، إلا كان الشكر مقصرا عن الحق، والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة؛ فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك، والإقرار بما يجب لك برّا أتوصل به إليك؛ وقلت في ذلك: إن أهد مالا فهو واهبه ... وهو الحقيق عليه بالشكر أو أهد شكري فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر والشمس تستغني إذا طلعت ... أن تستضيء بسنّة البدر «2»

وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك: النفس لك، والمال منك، والرجاء موقوف عليك، والأمل مصروف نحوك؛ فما عسى أن أهدي إليك في هذا اليوم، وهو يوم سهلت فيه العادة، سبيل الهدايا للسادة؛ وكرهت أن نخيله من سنته، فنكون من المقصرين؛ أو أن ندعى أن في وسعنا ما يفي بحقك علينا، فنكون من الكاذبين؛ فاقتصرنا على هدية تقتضي بعض الحق، وتنفي بعض الجفوة وتقوم عندك مقام أجمل البر؛ ولا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة، في أتم أحوال العافية، وأعلى منازل الكرامة، تمرّ بك الأعياد الصالحة والأيام المفرحة، فتخلقها وأنت جديد تستقبل أمثالها، فتلقاك ببهائها وجمالها؛ وقد بعثت الرسول بالسكّر لطيبه وحلاوته، وتركت السفرجل لفأله، والدرهم لبغائه على كل من ملكه (1) ؛ ولا زلت حلو المذاق على أوليائك، مرّا على أعدائك، متقدّما عند خلفاء الله الذين تليق بهم خدمتك، وتحسن أفنيتهم بمثلك. وقد جمعنا في هذه القصيدة ثناء ومسرّة واعتذارا وتهنئة وهي: عاط في المهرجان كأسا شمولا ... وأطعني ولا تطيعن عذولا فهو يوم قد كان آباؤك الغ ... رّ يحلّونه محلّا جليلا إن للصيف دولة قد تقضّت ... وأراك الشتاء وجها جميلا وتجلّت لك الرياض عن النّو ... ر فكانت عن كل شيء بديلا فتمتع باللهو، لا زلت جذلا ... ن وطرف الزمان عنك كليلا لم أجد لي هديّة حين حصّل ... ت كثيرا ملكته وقليلا يعدل الشكر والثناء، وإن لم ... يك شكري لما أتيت عديلا فجعلت الذي أطيق من الشك ... ر ما عجزت عنه دليلا يا لها من هديّة تقنع المه ... دى إليه ولا تعنّي الرسولا وكتب بعض الشعراء إلى بعض أهل السلطان في المهرجان:

هذه أيام جرت فيها العادة، بإلطاف العبيد للسادة، وإن كانت البضاعة تقصّر عما تبلغه الهمة، فكرهت أن أهدي فلا أبلغ مقدار الواجب: فجعلت هديتي هذه الأبيات، وهي: ولمّا أن رأيت ذوي التصابي ... تباروا في هدايا المهرجان جعلت هدّيتي ردّا مقيما ... على مرّ الحوادث والزمان وعبدا حين تكرمه ذليلا ... ولكن لا يقرّ على الهوان «1» يزيدك حين تعطيه خضوعا ... ويرضى من نوالك بالأماني! «2» وأهدى أبو العتاهية إلى بعض الملوك نعلا وكتب معها: نعل بعثت بها لتلبسها ... رجل بها تسعى إلى المجد لو كان يصلح أن أشرّكها ... خدّي جعلت شراكها خدّي «3» وأهدى عليّ بن الجهم كلبا، وكتب: استوص خيرا به، فإن له ... عندي يدا لا أزال أحمدها يدلّ ضيفي عليّ في غسق اللي ... ل إذا النار نام موقدها أهدى أحمد بن يوسف ملحا مطيّبا إلى إبراهيم بن المهدي، وكتب إليه: الثقة بك سهّلت السبيل إليك، فأهديت هدية من لا يحتشم، إلى من لا يغتنم. وأهدى إبراهيم بن المهدي إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي جراب ملح وجراب أشنان «4» ، وكتب إليه: لولا أن القلة قصّرت عن بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برّك، ولكن البضاعة قعدت بالهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة البر، وليس لي فيها ذكر؛ فبعت بالمبتدإ به

ليمنه وبركته، والمختوم به لطيبه ونظافته؛ وأمّا ما سوى ذلك فالمعبّر عنا فيه كتاب الله تعالى إذ يقول: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ... «1» إلى آخر الآية. وكتب إبراهيم بن المهدي إلى صديق له: لو كانت التحفة على حسب ما يوجبه حقّك، لأجحف بنا أدنى حقوقك؛ ولكنه على قدر ما يخرج الوحشة ويوجب الأنس، وقد بعثت بكذا وكذا. وكتب رجل إلى المتوكل على الله وقد أهدى إليه قارورة من دهن الأترج: إن الهدية يا أمير المؤمنين، إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلّت كانت أنفع وأوقع؛ وأرجو أن لا تكون قصرت بي همة أصارتني إليك، ولا أخرّني رشاد دلني عليك، وأقول: ما قصّرت همة بلغت بها ... بابك يا ذا الندى وذا الكرم حسبي بودّيك إن ظفرت به ... ذخرا وعزّا يا واحد الأمم أهدى حبيب بن أوس الطائي إلى الحسن بن وهب قلما، وكتب معه إليه هذه الأبيات: قد بعثنا إليك أكرمك الله ... بشيء فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندا كفّك الغمر ... ولا نيلك الكثير الجزيل فاستجز قلّة الهديّة مني ... فقليل المقلّ غير قليل ومن قولنا في هذا المعنى وقد أهديت سلة عنب ومعها: أهديت بيضا وسودا في تلوّنها ... كأنّها من بنات الروم والحبش عذراء تؤكل أحيانا وتشرب أح ... سيانا فتعصم من جوع ومن عطش

وأهديت حوتين وكتبت معهما: أهديت أزرق مقرونا بزرقاء ... كالماء لم يغذها شيء سوى الماء ذكاتها الأخذ، ما تنفكّ طاهرة ... بالبرّ والبحر أمواتا كأحياء «1» وأهديت طبق ورد ومعه: ورياحين أهديها لريحانة المنى ... جنتها يد التّخجيل من حمرة الخدّ وورد به حيّيت غرّة ماجد ... شمائله أذكى نسيما من الورد» ووشي ربيع مشرق اللون ناضر ... يلوح عليه ثوب وشي من الحمد بعثت بها زهراء من فوق زهرة ... كتركيب معشوقين خدّا على خدّ وكتبت على كأس: اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي واحلل وشاح الكعاب رفقا ... واحذر على خصرها الرقيق وقل لمن لام في التّصابي ... إليك! خلّى عن الطريق وأنشد أحمد بن أبي طاهر في هذا المعنى: ما ترى في هديّة من فقير ... حيل ما بينه وبين اليسار ترك المال والهدايا إلى النا ... س، وأهدى غرائب الأشعار محكمات كأنها قطع الرو ... ض تحلّت أنواره بالبهار «3» وأنشد ابن يزيد المهلبي في المعتمد. سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت هدايا المهرجان قصائد تملأ الآفاق مما ... أحلّ الله من سحر البيان وقال آخر: جعلت فداك، للنيروز حق ... لكان جميعه لك مسترقا

وأهديت الثناء بنظم شعر ... وكنت لذاك منى مستحقا لأن هدية الألطاف تفنى ... وإن هدية الأشعار تبقى «1» وقال حبيب: فو الله لا أنفكّ أهدي شواردا ... إليك يحمّلن الثناء المنخّلا ألذّ من السلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوقا وأيسر محملا «2» وقال مروان بن أبي حفصة: بدولة جعفر حمد الزمان ... لنا بك كلّ يوم مهرجان جعلت هديتي لك فيه وشيا ... وخير الوشي ما نسج اللسان وقال أحمد بن أبي طاهر: من سنّة الأملاك فيما مضى ... من سالف الدهر وإقباله هدية العبد إلى ربّه ... في جدّة الدهر وأحواله فقلت ما أهدى إلى سيدي؟ ... حالي وما خوّلت من حاله إن أهد نفسي فهي من نفسه ... أو أهد ما لي فهو من ماله فليس إلا الحمد والشكر وال ... مدح الذي يبقى لأمثاله وقال الحمدوني وأهدى إليه سعيد بن حميد أضحيّة مهزولة: لسعيد شويهة ... نالها الضرّ والعجف «3» فتغنّت وأبصرت ... رجلا حاملا علف: «بأبي من بكفّه ... برء دائي من الدّنف» «4» فأتاها مطمّعا ... فأتته لتعتلف ثم ولّى فأقبلت ... تتغنّى من الأسف:

من جارية للمأمون

«ليته لم يكن وقف ... عذّب القلب وانصرف» وقال الحمدوني: كتبت إلى الحسن بن إبراهيم، وكان كل سنة يبعث إليّ بأضحية، فتأخرت عني سنة، فكتبت إليه: سيّدي أعرض عني ... وتناسى الودّ مني مرّ بي أضحى وأضحى ... أخلفاني فيه ظني لا يراني فيهما أه ... لا لظلف ولقرن فتعذّيت بيأس ... ثم ضحّيت بجني واصطبحت الراح يوما ... ثم أنشدت أغني «1» لا لجرم صدّ عني ... صدّ عني بالتجنّي من جارية للمأمون : أهدت جارية من جواري المأمون تفاحة له، وكتبت إليه: إني يا أمير المؤمنين لما رأيت تنافس الرعية في الهدايا إليك، وتواتر ألطافهم عليك، فكرت في هدية تخف مؤونتها، وتهون كلفتها، ويعظم خطرها، ويجلّ موقعها؛ فلم أجد ما يجتمع فيه هذا النعت، ويكمل فيه هذا الوصف، إلا التفاح؛ فأهديت إليك منها واحدة في العدد، كثيرة في التصرّف؛ وأحببت يا أمير المؤمنين أن أعرب لك عن فضلها، وأكشف لك عن محاسنها، وأشرح لك لطيف معانيها، وما قالت الأطباء فيها، وتفنّن الشعراء في أوصافها، حتى ترمقها بعين الجلالة، وتلحظها بمقلة الصيانة؛ فقد قال أبوك الرشيد رضي الله عنه: أحسن الفاكهة التفاح، اجتمع فيه الصفرة الدّرّية، والحمرة الخمرية، والشّقرة الذهبية، وبياض الفضة، ولون التبر؛ يلذ بها من الحواس: العين ببهجتها، والأنف بريحها، والفم بطعمها. وقال أرسطاطاليس الفيلسوف عند حضوره الوفاة، واجتمع إليه تلاميذه: التمسوا لي تفاحة أعتصم

للعباس الهمداني

بريحها، وأقضى وطري من النظر إليها. وقال إبراهيم بن هانىء: ما علّل المريض المبتلى، ولا سكنت حرارة الثكلى «1» ، ولا ردّت شهوة الحبلى، ولا جمعت فكرة الحيران، ولا سكنت حنقة الغضبان، ولا تحيّت الفتيان في بيوت القيان، بمثل التفاح. والتفاحة يا أمير المؤمنين، إن حملتها لم تؤذك، وإن رميت بها لم تؤلمك؛ وقد اجتمع فيها ألوان قوس قرح، من الخضرة والحمرة والصفرة؛ وقال فيها الشاعر: حمرة التّفاح مع خضرته ... أقرب الأشياء من قوس قزح فعلى التفاح فاشرب قهوة ... وآسقنيها بنشاط وفرح ثم غنّي لكي تطربني ... طرفك الفتّان قلبي قد جرح فإذا وصلت إليك يا أمير المؤمنين، فتناولها بيمينك، واصرف إليها بغيتك، وتأمل حسنها بطرفك، ولا تخدشها بظفرك، ولا تبعدها عن عينك، ولا تبذلها لخدمك؛ فإذا طال لبثها عندك، ومقامها بين يديك، وخفت أن يرميها الدهر بسهمه، ويقصدها بصرفه، فتذهب بهجتها، وتحيل نضرتها، فكأنها: هنيئا مريئا غير داء مخامر والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. للعباس الهمداني : وكتب العباس الهمداني إلى المأمون في يوم نيروز: أهدى لك الناس المرا ... كب والوصائف والذّهب «2» وهدّيتي حلو القصا ... ئد والمدائح والخطب فاسلم سلمت على الزما ... ن من الحوادث والعطب فقال المأمون: احملوا إليه كلّ ما أهدي لنا في هذا اليوم!

تمّ الجزء السابع ويليه إن شاء الله الجزء الثامن، وهو الأخير وأوله: كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب

الجزء الثامن

الجزء الثامن كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب قال الفقيه أبو عمر بن محمد بن عبد ربه: قد مضى في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان والنتف. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الطعام والشراب اللذين بهما تنمو الفراسة وهما قوام الأبدان، وعليهما بقاء الأرواح. قال المسيح عليه الصلاة والسلام في الماء: هذا أبي. وفي الخبز: هذا أمي. يريد أنهما يغذيان الأبدان كما يغذيهما الأبوان. وهذا الكتاب جزآن: جزء في الطعام، وجزء في الشراب. فالذي في الطعام منهما متقصّ جميع ما يتم ويتصرف به أغذية الطعام من المنافع والمضار، وتعاهد الأبدان بما يصلحها من ذلك في أقواته وضروب حالاته، واختلاف الأغذية مع اختلاف الأزمنة بما لا يخلي المعدة وما لا يكظّها، فقد جعل الله لكل شيء قدرا. والذي في الشراب منهما مشتمل على صنوف الأشربة، وما اختلف الناس فيه في الأنبذة «1» ، ومحمود ذلك ومذمومه، فإنا نجد النبيذ قد أجازه قوم صالحون، وقد وضعنا لكل شيء من ذلك بابا فيحتاط كل رجل لنفسه بمبلغ تحصيله، ومنتهى نظره؛ فإن الرائد لا يكذب أهله.

أطعمة العرب

أطعمة العرب الوشيقة من اللحم: وهو أن يغلى إغلاءة ثم يرفع، يقال منه: وشقت أشق وشقا. قال الحسن بن هانىء: حتى رفعنا قدرنا بضرامها ... واللّحم بين موذّم وموشّق «1» والصفيف مثله، ويقال هو القديد، يقال: صففته أصفه صفّا. والربيكة: شيء يطبخ من برّ وتمر، ويقال منه: ربكته أربكه ربكا. والبسيسة: كلّ شيء خلطته بغيره، مثل السويق بالأقط، ثم تلته بالسمن أو بالزيت؛ أو مثل الشعير بالنوى للإبل، ويقال: بسسته أبسّه بسّا. والعبيثة (بالعين غير معجمة) طعم يطبخ ويجعل فيه جراد؛ وهو الغثيمة أيضا. والبغيث والغليث: الطعام المخلوط بالشعير؛ فإذا كان فيه الزّؤان فهو المغلوث. والبكيلة، والبكالة جميعا: وهي الدقيق يخلط بالسويق ثم يبل بماء أو سمن أو زيت، يقال: بكلته أبكله بكلا. والفريقة: شيء يعمل من اللبن. فإذا قطعت اللحم صغارا قلت: كتّفته تكتيفا. أبو زيد قال: إذا جعلت اللحم على الجمر قلت: حسحسته، وهو أن تقشر عنه الرماد بعد أن يخرج من الجمر؛ فإذا أدخلته النار ولم تبالغ في طبخه قلت: ضهّبته وهو مضهّب. والمضيرة: سميت بذلك لأنها طبخت باللبن الماضر، وهو الحامض. والهريسة، لانها تهرس. والعصيدة «2» ، لأنها تعصد. واللفيتة لأنها تلفت.

أسماء الطعام

والفالوذ- وهو السرطراط، ومن أسماء الفالوذ أيضا: السريط- لأنه يسترط، مثل يزدرد؛ ويقال: لا تكن حلوا فتسترط «1» ، ولا مرّا فتعقي. يقال: أعقى الشيء: اشتدت مرارته. الرغيدة: اللبن الحليب يغلى ثم يذرّ عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق لعقا. الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق. والسخينة: حساء كانت تعمله قريش في الجاهلية فسميت به، قال حسان: زعمت سخينة أن ستغلب ربّها ... وليغلبن مغالب الغلّاب والعكيس: الدقيق يصب عليه الماء ثم يشرب. قال منظور الأسدي: ولما سقيناها العكيس تمذّحت ... خواصرها وازداد رشحا وريدها «2» أسماء الطعام الوليمة: طعام العرس. والنّقيعة: طعام الإملاك «3» . والإعذار: طعام الختان والخرس: طعام الولادة. والعقيقة: طعام سابع الولادة. والنقيعة: طعام يصنع عند قدوم الرجل من سفره، ويقال: أنقعت إنقاعا. والوكيرة: طعام يصنع عند البناء يبنيه الرجل في داره. والمأدبة: كل طعام يصنع لدعوة، يقال: آدبت أودب إيدابا، وأدبت أدبا، قال طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر الآدب: صاحب المأدبة. والجفلى: دعوة العامة. والنّقرى: دعوة الخاصة. والسّلفة: طعام يعلل به قبل الغداء. والقفيّ: الطعام الذي يكرم به الرجل يقال منه: قفوته فأنا أقفوه قفوا؛ والقفاوة: ما يرفع من المرق للإنسان، قال الشاعر:

صفة الطعام وفضله

ونقفي وليد الحيّ إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع «1» صفة الطعام وفضله قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكرموا الخبز، فإن الله سخر له السموات والأرض، وكلوا سقط «2» المائدة» . وقال الحسن البصري: ليس في الطعام سرف. وتلا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا «3» . وقال الاصمعي: الكبادات أربع: العصيدة، والهريسة، والحيس، والسّميذ. أبو حاتم: والسويق طعام المسافر، والعجلان، والمريض، والنفساء، وطعام من لا يشتهي الطعام. أبو خالد عن الأصمعي قال: قال أبو صوارة: الأرز الأبيض بالسمن المسلي والسكر الطّبرزذ «4» ، ليس من طعام أهل الدنيا! وقال مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أكل الخبيص يزيد في الدماغ. وقال الحسن لفرقد: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج. قال: يا أبا سعد، أخاف أن لا أؤدي شكره! قال: يا لكع! وهل تؤدي شكر الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء؟ أما سمعت قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «5» .

طعام عبد الأعلى

وسمع الحسن رجلا يعيب الفالوذج، فقال: لباب البرّ بلعاب النحل بخالص السمن؛ ما عاب هذا مسلم! وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض إليّ من الزبد والكمأة «1» . فقال الاحنف: ربّ ملوم لا ذنب له. وقيل لشريح القاضي: أيهما أطيب. اللوزينق أو الجوزينق؟ فقال: لا أحكم على غائب. ولد لعبد الرحمن بن أبي ليلى مولود فصنع الأجبصة، ودعا الناس، وفيهم مساور الورّاق، فلما أكلوا قال مساور الورّاق: من لم يدسّم بالثريد سبالنا ... بعد الخبيص فلا هناه الفارس الرقاشي قال: أخبرنا أبو هفان أن رقبة بن مصقلة طرح نفسه بقرب حماد الراوية في المسجد، فقال له حماد: مالك؟ قال صريع فالوذج. قال له حماد: عند من؟ فطالما كنت صريع سمك مملوح خبيث! قال: عند من حكم في الفرقة وفصل في الجماعة قال: وما أكلت عنده؟ قال: أتانا بالأبيض المنضود، والملوز المعقود، والذليل الرعديد، والماضي المودود. طعام عبد الأعلى محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلال بن أبي بردة وهو أمير على البصرة للجارود ابن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر؟ قال: نعم. قال: فصفه لي. قال: نأتيه فنجده متصبّحا «2» - يعني نائما- فنجلس حتى يستيقظ، فيأذن لنا فنساقطه الحديث؛ فإن حدثناه أحسن الاستماع، وإن حدثنا أحسن الحديث؛ ثم يدعو بمائدته، وقد تقدّم إلى جواريه وأمهات أولاده أن لا تلطفه واحدة

الفرزدق وابن الحصين

منهن إلا إذا وضعت مائدته؛ ثم يقبل خبازه فيمثل بين يديه، فيقول: ما عندك اليوم؟ فيقول: عندي كذا، عندي كذا ... فيعدد كل ما عنده، ويصفه؛ يريد بذلك أن يحبس كلّ رجل نفسه وشهوته على ما يريد من الطعام، وتقبل الألطاف من ههنا وههنا، وتوضع على المائدة؛ ثم يؤتى بثريدة شهباء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين من العراق «1» ؛ فنأكل معه، حتى إذا ظن أن القوم قد كادوا يمتلئون، جثا على ركبتيه ثم استأنف الأكل معهم. فقال [ابن] أبي بردة: للَّه درّ عبد الأعلى، ما أربط جأشه على وقع الأضراس. وحضر أعرابيّ طعام عبد الأعلى، فلما وقف الخباز بين يديه ووصف ما عنده قال: أصلحك الله، أتأمر غلامك يسقيني ماء، فقد شبعت من وصف هذا الخباز! وقال له عبد الأعلى يوما: ما تقول يا أعرابي، لو أمرت الطباخ فعمل لون كذا، ولون كذا؟ قال: أصلحك الله، لو كانت هذه الصفة في القرآن لكانت موضع سجود. الفرزدق وابن الحصين أبو عبيدة قال: مر الفرزدق بيحيى [بن الحصين] بن المنذر الرقاشي فقال له: هل لك أبا فراس في جدي رضيع، ونبيذ من شراب الزبيب؟ قال: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة «2» . وقال الأحوص لجرير لما قدم المدينة. ماذا ترى أن نعدّ لك؟ قال: شواء وطلاء «3» وغناء. قال: قد أعدّ لك. وقال مساور الورّاق في وصف الطعام: آسمع بنعتي للملوك ولا تكن ... فيما سمعت كميّت الأحياء إنّ الملوك لهم طعام طيب ... يستأثرون به على الفقراء

إني نعتّ لذيذ عيشي كلّه ... والعيش ليس لذيذه بسواء ثم اختصصت من اللذيذ وعيشه ... صفة الطعام لشهوة الحلواء فبدأت بالعسل الشديد بياضه ... شهد تباكره بماء سماء إني سمعت لقول ربك فيهما ... فجمعت بين مبارك وشفاء أيام أنت هناك بين عصابة ... حضروا ليوم تنعّم أكفاء لا ينطقون إذا جلست إليهم ... فيما يكون بلفظة عوراء «1» متنسمين رياح كلّ هبوبة ... بين النخيل بغرفة فيحاء «2» فقعدت ثم دعوت لي بمبذرق ... متشمّر يسعى بغير رداء «3» قد لفّ كمّيه على عضلاته ... قلص القميص مشمّر سعّاء فأتى بخبز كالملاء منقّط ... فبناه فوق أخاون الشّيزاء «4» حتى ملاها ثم ترجم عندها ... بالفارسيّة داعيا بوحاء «5» فإذا القصاع من الخلنج لديهم ... تبدو جوانبها مع الوصفاء ارفع وضع وهنا وهاك وههنا ... قصف الملوك ونهمة القرّاء يؤتون ثمّ بلون كلّ طريفة ... قد خالفته موائد الخلفاء من كلّ فرنيّ وجدي راضع ... ودجاجة مربوبة عشواء ومصوص درّاج كثير طيّب ... ونواهض يؤتّى بهنّ شواء «6» وثريدة ملمومة قد سقّفت ... من فوقها بأطايب الأعضاء وتزيّنت بتوابل معلومة ... وخبيّصات كالجمان نقاء هذا الثّريد وما سواه تعلّل ... ذهب الثريد بنهمتي وهوائي ولقد كلفت بنعت جدي راضع ... قد صنته شهرين بين رعاء

باب آداب الأكل والطعام

قد نال من لبن كثير طيّب ... حتى تفتّق من رضاع الشّاء من كلّ أحمر لا يقر إذا ارتوى ... من بين رقص دائم ونزاء «1» متعكّن الجنبين صاف لونه ... عبل القوائم من غذاء رخاء فإذا مرضت فداوني بلحومها ... إني وجدت لحومهنّ دوائي ودع الطبيب ولا تثق بدوائه ... ما حالفتك رواضع الأجداء إنّ الطبيب إذا حباك بشربة ... تركتك بين مخافة ورجاء وإذا تنطع في دواء صديقه ... لم يعد ما في جونة الرّقّاء» نعت الطبيب هليلجا وبليلجا ... ونعتّ غيرهما من الأدواء «3» رطب المشان مجزّعا يؤتى بها ... والرازقيّ فما هما بسواء «4» وبنانيا زرقا كأنّ بطونها ... قطع الثّلوج نقيّة الأمعاء «5» ليست بآكلة الحشيش ولا التي ... يبتاعها الخنّاق في الظلماء باب آداب الأكل والطعام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الأكل في السوق دناءة» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ويشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «سمّوا إذا أكلتم، واحمدوا إذا فرغتم» . وكان يلعق أصابعه بعد الطعام. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعد الطعام ينفي اللمم» «6» . ومن الأدب في الوضوء أن يبدأ صاحب البيت فيغسل يده قبل الطعام ويتقدم أصحابه الى الطعام.

البطنة وقولهم فيها

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أملكوا «1» العجين فإنه أحد الرّيعين» «2» . وكان فرقد يقول لأصحابه: إذا أكلتم فشدّوا الأزر على أوساطكم، وصغّروا اللقم، وشدّدوا المضغ، ومصوا الماء [مصّا] ، ولا يحل أحدكم إزاره فيتسع معاه، وليأكل كلّ واحد من بين يديه. وقالوا: كان ابن هبيرة يباكر الغداء؛ فسئل عن ذلك، فقال: إن فيه ثلاث خصال: أما الواحدة فإنه ينشف المرّة، والثانية أنه يطيّب النكهة والثالثة: أنه يعين على المروءة: قيل: وكيف يعين على المروءة؟ قال: إذا خرجت من بيتي وقد تغديت لم أتطلع إلى طعام أحد من الناس. البطنة وقولهم فيها قالوا: البطنة تذهب الفطنة. وقال مسلمة بن عبد الملك لملك الروم: ما تعدّون الأحمق فيكم؟ قال الذي يملأ بطنه من كل ما وجد. وحضر أبو بكرة سفرة معاوية، ومعه ولده عبد الرحمن، فرآه يلتقم لقما شديدا؛ فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة، فقال له معاوية: ما فعل آبنك التلقامة «3» ؟ قال: اعتل، قال: مثله لا يعدم العلة. ورأى أبو الأسود الدؤلي رجلا يلقم لقما منكرا، فقال [له] : كيف اسمك؟ قال: لقمان. قال: صدق الذي سماك! ورأى أعرابيّ رجلا سمينا، فقال له: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك!

لأعرابي

وقعد أعرابي على مائدة المغيرة، فجعل ينهش ويتعرّق، فقال المغيرة: يا غلام ناوله سكينا، قال الاعرابي: كل امرىء سكينه «1» في رأسه. لأعرابي قال أعرابيّ: كنت أشتهى ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين [من اللحم، لها جناحان] من العراق: فأضرب فيها كما يضرب وليّ السوء في مال اليتيم! وقال أعرابي: ألا ليت لي خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرني فرسانها الزّبد «2» فأطلب فيما بينهنّ شهادة ... بموت كريم لا يعدّ له لحد واصطحب شيخ وحدثّ من الأعراب في سفر، وكان لهما قرص في كل يوم وكان الشيخ مخلع الأضراس، وكان الحدث يبطش بالقرص ويقعد يشكو العشق، والشيخ يتضوّر جوعا؛ وكان الحدث يسمى جعفرا، فقال الشيخ فيه: لقد رابنى من جعفر أنّ جعفرا ... يطيش بقرصي ثمّ يبكي على جمل فقلت له لو مسّك الحبّ لم تبت ... بطينا ونسّاك الهوى شدّة الأكل الأصمعي قال: تقول العرب في الرجل الأكول: إنه برم قرون. البرم: الذي يأكل مع الجماعة ولا يجعل شيئا. والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين ويأكل أصحابه تمرة تمرة. وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القران. وكان عبد الله بن الزبير: إذا قدم التمر إلى أصحابه [قال] : قال عبد الله بن عمر: إياكم والقران، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه. وقيل لميسرة الأكول: كم تأكل كلّ يوم؟ قال: من مالي أو من مالي غيري؟ قيل

نهم سليمان بن عبد الملك

له: من مالك. قال مكّوك «1» . قيل: فمن مال غيرك؟ قال: اخبزوا واطرحوا! وقال رجل من العراق في قينة حفص الكاتب: قيينة حفص ويلها ... فيها خصال عشره أوّلها أنّ لها ... وجها قبيح المنظره ودارها في وهدة ... أوسع منها القنطره تأكل في قعدتها ... ثورا وتخرى بقره قال تأبّط شرا: ما أحببت شيئا قطّ حبي ثلاثة: أكل اللحم، وركوب اللحم، وحكّ اللحم باللحم. وقال أبو اليقظان: كان هلال بن الأسعر التميمي أكولا، فيزعمون أنه أكل فصيلا وأكلت امرأته فصيلا؛ فلما أراد أن يجامعها لم يصل إليها، فقالت له: وكيف تصل إليّ وبيني وبينك بعيران! وكان الواثق، واسمه هارون بن محمد بن هارون، أكولا، وكان مفتونا بحب الباذنجان، وكان يأكل في أكلة واحدة أربعين باذنجانة؛ فأوصى إليه أبوه، وكان وليّ عهده: ويلك! متى رأيت خليفة أعمى؟ فقال للرسول: أعلم أمير المؤمنين أني تصدقت بعينيّ جميعا على الباذنجان! نهم سليمان بن عبد الملك وكان سليمان بن عبد الملك من الأكلة، حدث عنه العتبي عن أبيه عن الشمرد وكيل عمرو بن العاص قال: لما قدم سليمان الطائف، دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو بن العاص، فجال فيه ساعة، ثم قال: ناهيكم بما لكم هذا مالا! ثم ألقى صدره على غصن، وقال: ويلك يا شمردل ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى، إن عندي جديا كانت تغدو عليه بقرة وتروح أخرى. قال: عجل به. فأتيته به كأنه عكة سمن، فأكله وما دعا عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي الفخذ قال: هلم أبا حفص.

نهم مزرد

قال: إني صائم. فأتى عليه، ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى والله، عندي خمس دجاجات هنديات كأنهنّ رئلان «1» النعام. قال: فأتيته بهن، فكأن يأخذ برجلي الدجاجة فيلقى عظامها نقية، حتى أتى عليهن؛ ثم قال: يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى واللَّه، إن عندي حريرة «2» كأنها قراضة الذهب. فقال: عجل بها. فأتيته بعسّ يشيب فيه الرأس، فجعل يلاقيها بيده ويشرب؛ فلما فرغ تجشّأ، فكأنما صاح في جب، ثم قال: يا غلام، أفرغت من غذائي؟ قال: نعم قال: وما هو؟ قال: ثمانون قدرا. قال: ائتني بها قدرا قدرا. قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقلّ ما أكل لقمة؛ ثم مسح يده واستلقى على فراشه، ثم أذن للناس ووضعت المائدة وقعد فأكل مع الناس، فما أنكرت من أكله شيئا. نهم مزرد وقال الأصمعي: كنت يوما عند هارون الرشيد، فقدمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعي، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: حدثني بحديث مزرّد أخي الشماخ. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن مزردا كان رجلا جشعا نهما، وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد عليه؛ وكان ذلك مما يضرّ به ويحفظه؛ فذهبت يوما في بعض حقوق أهلها، وخلفت مزردا في بيتها ورحلها، فدخل الخيمة، فأخذ صاعين من دقيق، وصاعا من عجوة، وصاعا من سمن؛ فضرب بعضه ببعض فأكله، ثم أنشأ يقول: ولما مضت أمّي تزور عيالها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع «3» خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتريّع ودبّلت أمثال الأثافي كأنها ... رءوس رخال قطّعت لا تجمّع «4» وقلت لبطني: أبشر اليوم إنه ... حمى أمّنا مما تفيد وتجمع

موت سليمان بن عبد الملك:

فإن كنت مصفورا فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثانا فذا يوم تشبع «1» قال: فاستضحك هارون حتى أمسك بطنه واستلقى على ظهره، ثم قعد فمدّ يده وقال: خذ، فذا يوم تشبع يا أصمعي! وقال حميد الأرقط- وهو الذي هجا الأضياف- يصف أكل الضيف: ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور وقال أيضا: تجهّز كفّاه ويحدر حلقه ... إلى الزّور ما ضمّت عليه الانامل أتانا وما ساواه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل فما زال عنه اللّقم حتى كأنه ... من العيّ لمّا أن تكلّم باقل وقال: لا أبغض الضيف ما بي جلّ مأكله ... إلا تنفّجه حولي إذا قعدا «2» ما زال ينفخ جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعلّ الضيف قد ولدا «3» وقال: لا مرحبا بوجوه القوم إذ نزلوا ... دسم العمائم تحكيها الشياطين ألقيت جلّتنا شطرين بينهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين فأصبحوا والنّوى عالى معرّسهم ... وليس كلّ النوى تلقي المساكين «4» موت سليمان بن عبد الملك: أبو الحسن المدائني قال: أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك، وهو بدابق، بسلّين، أحدهما مملوء بيضا، والآخر مملوء تينا، فقال: اقشروا. فجعل يأكل بيضة وتينة حتى فرغ من السلين؛ ثم أتوه بقصعة مملوءة مخّا بسكر؛ فأكله، فأتخم ومرض فمات.

عيب الحمية:

عيب الحمية: والأكلة كلهم يعيبون الحمية، ويقولون، الحمية إحدى العلتين. وقالوا: من احتمى فهو على يقين من المكروه وهو في شك من العافية! وقالوا: الحمية للصحيح ضارّة وللعليل نافعة. الحمية وقولهم فيها قيل لبقراط: مالك تقل الأكل جدا؟ قال: إني إنما آكل لأحيا، وغيري يحيا ليأكل! وأجمعت الأطباء على أن رأس الداء كلّه إدخال الطعام على الطعام. وقالوا: احذروا إدخال اللحم على اللحم؛ فإنه ربما قتل السباع في القفر. وأكثر العلل كلها إنما يتولد من فضول الطعام. والحمية مأخوذة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: رأى صهيبا يأكل تمرا وبه رمد، فقال «أتأكل تمرا وأنت أرمد؟» . ودخل على عليّ رضي الله عنه وهو عليل، وبيده عنقود عنب، فنزعه من يده. وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم» . وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم «1» . يريد قلة الأكل، ومنه قيل للحمية: الأزمة، وللكثير أزمات. وقيل لآخر: ما أفضل الدواء؟ قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه. أبو الأشهب عن أبي الحسن قال: قيل لسمرة بن جندب: إن ابنك إذا أكل طعاما كظّه «2» حتى كاد أن يقتله. قال: لو مات ما صليت عليه!

عبد الملك ومدعو إلى غدائه:

عبد الملك ومدعو إلى غدائه: ودعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء، فقال. ما فيّ فضل يا أمير المؤمنين. قال: لا خير في الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل! فقال: يا أمير المؤمنين، عندي مستزاد، ولكن أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين. وقال الأحنف بن قيس: جنّبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل يكون وصّافا لبطنه وفرجه. وقيل لبعض الحكماء: أي الطعام أطيب؟ قال: الجوع؛ ما ألقيت إليه من شيء قبله. وقال رجل من أهل الشام لرجل من أهل المدينة: عجبت منكم أن فقهاءكم أظرف من فقهائنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا! قال: أو تدري من أين ذلك؟ قال: لا أدري. قال: من الجوع، ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لما خلا جوفه! الثوري في ابنه: وقال الجاحظ: كان أبو عثمان الثوري يجلس ابنه معه ويقول له: إياك يا بنيّ ونهم الصبيان، وأخلاق النوائح، ونهش الأعراب؛ وكل مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة، أو مضغة شهيّة، أو شيء مستطرف، فإنما ذلك للشيخ المعظّم، أو للصبي المدلّل، ولست بواحد منهما، وقد قالوا: مد من اللحم كمد من الخمر. أي بنيّ، عوّد نفسك الأثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال؛ فإن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة، وسرف البطنة؛ فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعدّ نفسك من الزّمنى؛ واعلم أن الشّبع داعية البشم «1» ، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت؛ ومن مات هذه الميتة فقد مات

سياسة الأبدان بما يصلحها

ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره. أي بنيّ، والله ما أدّى حقّ الركوع والسجود ذو كظة، ولا خشع للَّه ذو بطنة، والصوم مصحّة، والوجبات «1» عيش الصالحين. أي بنيّ، لأمر ما طالت أعمار الهند، وصحت أبدان العرب؛ وللَّه درّ الحارث بن كلدة إذ زعم أن الدواء هو الأزم، فالداء كله من فضول الطعام؛ فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة! أي بني، لم صار الضب أطول عمرا؟ إلا لأنه يتبلغ بالنسيم؛ ولم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الصوم وجاء «2» ؟ إلا لأنه جعله حجابا دون الشهوات؛ فافهم تأديب الله عز وجل، وتأديب رسوله عليه الصلاة والسلام. أي بني، قد بلغت تسعين عاما ما نغضت لي سنّ، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين «3» أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول؛ ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد؛ فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك! سياسة الأبدان بما يصلحها الحجاج وطبييه: قال الحجاج بن يوسف للباذون طبيبه: صف لي صفة آخذ بها في نفسي ولا أعدوها. قال له: لا تتزوّج من النساء إلا شابة. ولا تأكل من اللحم إلا فتيّا، ولا تأكله حتى تنعم طبخه، ولا تشرب دواء إلا من علة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعاما إلا أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام واشرب عليه، فإذا

عبد الملك وأبو الزعيزعة:

شربت فلا تأكل ولا تحبس الغائط ولا البول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مائة خطوة. وسئل يهود خيبر: بم صححتم على وباء خيبر؟ قالوا: بأكل الثوم، وشرب الخمر، وسكنى اليفاع «1» ، وتجنّب بطون الأودية والخروج من خيبر عند طلوع النجم «2» وعند سقوطه. وقال قيصر لقس بن ساعدة: صف لي مقدار الأطعمة؛ فقال: الإمساك عن غاية الإكثار، والبقيا على البدن عند الشهوة. قال: فما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة الإنسان قدره. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف الإنسان عند علمه. عبد الملك وأبو الزعيزعة: وسأل عبد الملك بن مروان أبا المفوز: هل أتخمت قط؟ قال: لا. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنّا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نكظّ المعدة ولا نخليها. وقيل لبزرجمهر: أي وقت فيه الطعام أصلح؟ قال: أما لمن قدر فإذا جاع، و [أما] لمن لم يقدر فإذا وجد! وقال: أربع تهدم العمر وربما قتلن: الحمّام على البطنة. والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجافّ، وشرب الماء البارد على الريق. وقال إبراهيم النظام: ثلاثة أشياء تفسد العقل: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، ودوام النظر في البحر. هارون والأطباء: الأصمعي قال: جمع هارون من الأطباء أربعة: عراقيا، وروميا، وهنديا، ويونانيا؛ فقال: ليصف لي كلّ واحد منكم الدواء الذي لا داء معه. فقال العراقي:

تدبير الصحة

الدواء الذي لا داء معه حبّ الرشاد الأبيض. وقال الهندي: الهليلج الأسود. وقال الرومي: الماء الحارّ، وقال اليوناني وكان أطبّهم: حب الرشاد الأبيض يولد الرطوبة، والماء الحارّ يرخي المعدة، والهليلج الأسود يرق المعدة؛ ولكن الدواء الذي لا داء معه: أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه. تدبير الصحة ثم نذكر بعد هذا من وصف الطعام وحالاته، وما يدخل على الناس من ضروب آفاته، بابا في تدبير الصحة الذي لا تقوم الأبدان إلا به، ولا تنمّى النفوس إلا عليه. وقد قال الشافعي: العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان؛ ولم نجد بدّا- إذ كانت جملة هذه المطاعم التي بها نمو الغراسة «1» ، وعليها مدار الأغذية تضرّ في حالة وتنفع في أخرى- من ذكر ما ينفع منها ومقدار نفعه، وما يضرّ منها ومبلغ ضرّه؛ وأن نحكم على كل ضرب منها بالأغلب عليه من طبائعه. وقلما نجد شيئا ينفع في حالة إلا وهو ضار في الأخرى؛ ألا ترى أن الغيث الذي جعله الله رحمة لخلقه، وحياة لأرضه، قد يكون منه السيول المهلكة، والخراب المخيف؟ وأن الرياح التي سخرها الله مبشرات بين يدي رحمته، قد أهلك بها قوما وانتقم من قوم؟ وفي هذا المعنى قال حبيب الطائي: ولم تر نفعا عند من ليس ضائرا ... ولم تر ضرّا عند من ليس ينفع قال خالد بن صفوان [يوما] لخادمه: أطعمنا جبنا، فإنه يشهّي الطعام، ويهيج المعدة، وهو حمض العرب. قال: ما عندنا منه شيء. فقال: لا بأس عليك، فإنه يقدح «2» الأسنان، ويشد البطن. ولما كانت أبدان الناس دائبة التحلل، لما فيها من الحرارة الغريزية من داخل، وحرارة الهواء المحيط بها من خارج- احتاجت إلى أن يخلف عليها ما تحلل، واضطرت لذلك إلى الأطعمة والأشربة، وجعلت فيها قوة الشهوة ليعلم بها وقت

ما يصلح لكل طبيعة من الأغذية

الحاجة منها إليها، ومقدار ما يتناول منها، والنوع الذي يحتاج إليه؛ ولأنه لا يخلف الشيء الذي يتحلل ولا يقوم مقامه إلا مثله، وليس تستطيع القوة التي تحيل الطعام والشراب في بدن الإنسان أن تحيل إلا ما شاكل البدن وقاربه؛ فإذا كان هذا هكذا فلا بد لمن أراد حفظ الصحة أن يقصد لوجهين: أحدهما أن يدخل على البدن الأغذية الموافقة لما يتحلل منه، والأخرى أن ينفي عنه ما يتولد فيه من فضول الأغذية. ما يصلح لكل طبيعة من الأغذية وينبغي لك أن تعرف اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، لتعرف بذلك موافقة كلّ نوع من الأطعمة لكل صنف من الناس؛ وذلك أن الأغذية مختلفة؛ منها معتدلة، كالتي يتولد منها الدم الخالص النقيّ؛ ومنها غير معتدلة، كالتي يتولد منها البلغم والمرّة الصفراء والسوداء والرياح الغليظة؛ ومنها لطيفة ومنها غليظة؛ ومنها ما يتولد عنه كيموس «1» لزج وكيموس غير لزج؛ ومنها ما له خاصة منفعة أو مضرة في بعض الأعضاء دون بعض. وكذلك الأبدان أيضا، منها معتدل مستول عليه في طبيعته الدم الخالص النقي، ومنها غير معتدل يغلب عليه البلغم أو إحدى المرّتين، ومنها متخلخل سريع التحلل، ومنها مستحصف «2» عسر التحلل، ومنها ما يكون في بعض أعضائها دون بعض؛ فقد يجب متى كان المستولي على البدن الدم النقي أن تكون أغذيته قصدا في قدرها، معتدلة في طبائعها؛ ومتى كان الغالب عليه البلغم، فيجب أن تكون مسخنة، أو يغتذي بما يزيد في الحرارة ويقمع في الرطوبة؛ ومتى كان الغالب عليه المرّة السوداء فينبغي له أن يغتذي بالأغذية الحارة الرطبة؛ ومتى كان الغالب عليه المرة الصفراء فيغتذي بالأغذية الباردة الرطبة، ومتى كان بدنه مستحصفا «3» ، عسر التحلل فينبغي أن يغتذي بأغذية يسيرة لطيفة جافة، ومتى كان متخلخلا فينبغي له أن يغتذي بأغذية لزجة، لكثرة ما يتحلل من البدن.

الحركة والنوم مع الطعام

فهذا التدبير ينبغي أن يلتزم، ما لم يكن في بعض أعضاء البدن ألم، فينبغي أن يستعمل النظر في الأغذية الموافقة للعضو الألم؛ لأنا ربما اضطررنا إلى استعمال ما يوافق العضو الألم، وإن كان مخالفا لسائر البدن؛ كما أنه لو كانت الكبد باردة ضيقة المجاري، احتجنا إلى استعمال الأغذية اللطيفة وتجنّب الأغذية الغليظة، وإن كان سائر البدن غير محتاج إليها لضعف أو نحافة؛ لئلا تحدث الغليظة في الكبد سددا؛ وربما كانت الكبد حارة، فتحذر الأغذية الحلوة وإن احتاج إليها [البدن] لسرعة استحالتها إلى المرة الصفراء، وربما كانت المعدة ضعيفة، فتحتاج إلى ما يقوّيها من الأغذية؛ وربما كان يولد الطعام فيها بلغما، فتحتاج إلى ما يجلوه ويقطعه؛ وربما كان يتولد فيها المرة الصفراء سريعا، فتحتاج إلى ما يقمع الصفراء وإلى تجنّب الأشياء المولدة لها؛ وربما كان الطعام يبقى على رأس المعدة طافيا، فيستعمل الأغذية الغليظة الراسبة، ليثقل بثقلها إلى أسفل المعدة؛ وتأمره بحركة يسيرة بعد الطعام، لينحط الطعام عن رأس المعدة. وربما كان فضل الطعام بطيء الانحدار عن المعدة والأمعاء، فتحتاج إلى ما يحدره ويلين البطن؛ وربما كان رأس المعدة حارا قابلا للحار، فيتجنب الأغذية الحارة وإن احتاج إليها سائر البدن. الحركة والنوم مع الطعام وينبغي ألا تقتصر على ما ذكرنا دون النظر في مقدار الحركة قبل الطعام، والنوم بعده؛ فمتى كانت الحركة قبل الطعام كثيرة غذيناه بأغذية غليظة لزجة إلى اليبس مما هي بطيئة التحلل، ولم نأمره بالحمية لقلة الحاجة إليها، ومتى لم تكن قبل الطعام حركة، أو كانت يسيرة، فينبغي أن لا يقتصر على الحمية بقلة الطعام ولطافته، دون أن يستعين على تخفيف ما يتولد في البدن من الفضول باستفراغ الأدوية المسهلة، وبالحمّام، وبإخراج الدم؛ ومتى كانت الحركة كافية استعملنا الأغذية المعتدلة في كثرتها، وقدر لطافتها وغلظها؛ ومتى كان النوم بعد الطعام كثيرا احتجنا إلى استعمال أغذية كثيرة غزيرة بالغذاء، لطول الليل وكثرة النوم؛ ومتى كان النوم قليلا احتجنا إلى الطعام الخفيف اللطيف، كالذي يغتذى به في الصيف، لقصر الليل وقلة النوم.

تقدير الطعام وما يقدم منه وما يؤخر

تقدير الطعام وما يقدم منه وما يؤخر ويجب في الطعام أن يقدر فيه أربعة أنحاء: أولها: ملاءمة الطعام لبدن المغتذي به في الوقت الذي يغتذي به فيه، كما ذكرنا أيضا أنه متى كان الغالب على البدن الحرارة احتاج إلى الأغذية الباردة، ومتى كان الغالب عليه البرد احتاج إلى الأغذية الحارة، ومتى كان معتدلا احتاج إلى الأغذية المعتدلة المشاكلة له. والنحو الثاني: تقدير الطعام، بأن يكون على مقدار قوة الهضم، لأنه وإن كان في نفسه محمودا، وكان ملائما للبدن، وكان أكثر من قدر احتمال قوة الهضم، ولم يستحكم هضمه، تولد منه غذاء رديء. والنحو الثالث: تقديم ما ينبغي أن يقدّم من الطعام، وتأخير ما ينبغي أن يؤخر منه؛ ومثل ذلك أنه ربما جمع الإنسان في أكلة واحدة طعاما يلين البطن وطعاما يحبسه، فإن هو قدم الملين وأتبعه الآخر، سهل انحدار الطعام منه: ومتى قدم الطعام الحابس وأتبعه الملين، لم ينحدر وفسدا جميعا. وذلك أن الملين حال فيما بينه وبين نزول الطعام الحابس، فبقي في المعدة بعد انهضامه، ففسد به الطعام الآخر. ومتى كان الطعام الملين قبل الحابس انحدر الملين بعد انهضامه، وسهل الطريق لانحدار الحابس. وكذلك أيضا لو جمع أحد في أكلة واحدة طعاما سريع الانهضام وآخر بطيء الانهضام، فينبغي له أن يقدّم البطيء الانهضام ويتبعه السريع الانهضام، ليصير البطيء الانهضام في قعر المعدة. لأن قعر المعدة أسخن، وهو أقوى على الهضم، لكثرة ما فيه من أجزاء اللحم المخالطة له، وأعلى المعدة عصبي بارد لطيف ضعيف الهضم، ولذلك إذا طفا الطعام على رأس المعدة لم ينهضم. والنحو الرابع: أن يتناول الطعام الثاني بعد انحدار الأول وقد قدّم قبله حركة كافية وأتبعه بنوم كاف، استمراءه؛ ومن أخذ الطعام وقد بقي في معدته أو أمعائه بقية من الطعام الأول غير منهضمة، فسد الطعام الثاني ببقية الأوّل.

باب الحركة والنوم مع الطعام

باب الحركة والنوم مع الطعام ومن أكل الطعام بعد حركة كافية وأخذه على حاجة من البدن إليه، وافى الطعام الحركة الغريزية قد اشتعلت. ومن تناول طعاما من غير حركة وأخذه مع غير حاجة من البدن إليه، وافى الطعام الحركة الغريزية خامدة بمنزلة النار الكامنة في الزناد. ومن أتبع الطعام بنوم، بطنت الحرارة الغريزية فيه فاجتمعت في باطن البدن فهضمت طعامه. ومن أتبع الطعام بحركة، انحدر عن معدته غير منهضم وانبث في العروق غير مستحكم، فأحدث سددا وعللا في الكبد والكلى وسائر الأعضاء. وربما كانت الأطعمة لضعف المعدة تطفو فيها وتصير في أعلاها، فلا تأمره بالنوم حتى ينحدر الطعام عن المعدة بعض الانحدار ويصير في قعر المعدة. وربما أمرنا بحركة يسيرة كما ذكرنا آنفا، لانحدار الطعام عن المعدة بعض الانحدار. وإن أكثر الشراب منع الطعام من الانهضام، لأنه يحول فيما بين جرم» المعدة وبين الطعام، وإذا لم تلق المعدة الطعام لم تحله إلى مشاكلة البدن وموافقته، فيبقى فيها غير منهضم. فيجب لذلك على من أخذ الطعام أن يتناول معه من الشراب ما يسكن به حرّ العطش ويصبر على قدر احتماله من العطش، ويصبر حتى ينهضم، ثم يتناول بعد ذلك من الشراب ما أحب، فإنه بعد ذلك يعين على انحدار الطعام وترقيقه لتنفيذه في المجاري الدّقاق. ويجب أيضا أن يكون أخذه للطعام في وقت حركة الشهوة؛ وذلك أنه إذا تحركت الشهوة ولم يبادر بأخذ الطعام، اجتذبت المعدة من فضول البدن ما إذا صار في المعدة أبطل الشهوة، وأفسد الطعام إذا خالطه. الأوقات التي يصلح فيها الطعام أجود الأوقات كلها للطعام الأوقات الباردة. لجمعها الحرارة في باطن البدن فأما الأوقات الحارة فينبغي أن يجتنب أخذ الطعام فيها، لأن حرارة الهواء تجذب الحرارة

الباطنة الغريزية إلى ظاهر البدن ويخلو منها باطنه، فتضعف الحرارة في باطنه عن هضمه. فلذلك كانت القدماء تفضل العشاء على الغداء لما يلحق العشاء من اجتماع الحرارة على باطن البدن، لبرد الليل والنوم، ولأن الحرارة في النوم تبطيء، ويسخن باطن البدن ويبرد ظاهره. واليقظة على خلاف ذلك، لأن الحرارة تنتشر في ظاهر البدن وتضعف في باطنه. والذي يحتاج إلى كثرة الغذاء من الناس من كان الغالب على بدنه الحرارة، وكانت معدته لحرارتها سريعة الانهضام، وكانت كبده لحرارتها سريعة التوليد للمرة الصفراء؛ فلذلك يحتاج إلى الأطعمة الغليظة البطيئة الانهضام ويستمرئها، ويستمريء لحم البقر ولا يستمريء لحم الدجاج وما أشبهه من الأطعمة الخفيفة. ولا يصلح شيء من هذه إلا في وقت تحرّك الشهوة، فإنه أفضل وقت يؤخذ فيه الطعام؛ وللعادة في هذا حظ عظيم. ألا ترى أنه من اعتاد الغداء فتركه واقتصر على العشاء عظم ضرر ذلك عليه؟ ومن كانت عادته أكلة واحدة فجعلها أكلتين لم يستمريء طعامه، ومن كانت عادته أن يجعل طعامه في وقت من الأوقات فنقله إلى غير ذلك الوقت أضر ذلك به، وإن كان قد نقله إلى وقت محمود؛ فيجب لذلك أن يتبع العادة إذا تقادمت فطالت، وإن كانت ليست بصواب، إذا لم يجد شيئا اضطره إلى نقله؛ لأن العادة طبيعة ثانية كما ذكر الحكيم أبقراط، فإن حدث شيء يدعوه إلى الانتقال عنها فأوفق الأمور في ذلك أن ينقل عنها قليلا قليلا. وللشهوة أيضا في استمراء الطعام أعظم الحظ؛ لأنها دليل على الموافقة والملاءمة، فمتى كان طعامان متساويان في الجودة، وكانت شهوة المحتاج إليهما إلى أحدهما أميل، رأينا إيثار المشتهي على الآخر، لأنه أوفق للطبيعة، وأسهل عليها في الاستمراء. ومتى كان أحدهما أجود من الآخر، وكانت شهوة المحتاج إليهما أميل إلى أردئهما. اخترناه على الأجود إذا لم نخف منه ضررا لكثير ما ينال منه من المنفعة، لقبول المعدة له واستمرائها إياه. فقد بان أنه يحتاج في حال الأغذية وجودة تخير الأطعمة إلى معرفة اختلاف الطبائع وحالاتها؛ فقد بينت اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، وما يجب على كل

الأطعمة اللطيفة

واحدة منها من أنواع الأطعمة والأشربة؛ وبقي أن نبين اختلاف قوى الأطعمة والأشربة. وأن أصف أنواع الأغذية وأسمّى ما في كل صنف منها إن شاء الله تعالى. الأطعمة اللطيفة هي التي يتولد منها دم لطيف، فمنها لباب خبز الحنطة، والحب المقشور، ولحم الفراريج، ولحم الدّراج «1» والطّهيوج «2» والحجل، وفراخ الحجل، وأجنحة الطيور، وما لان لحمه من صغار السمك ولم تكن فيه لزوجة، والقرع، والماش «3» ؛ وما أشبه. وهذا الجنس من الأطعمة نافع لمن ليست له حركة وكانت الحرارة الغريزية في بدنه ضعيفة ولم يأمن أن يتولد في بدنه كيموس غليظ، أو يتولد في كبده أو طحاله سدد، أو في كلاه، أو في صدره، أو في دماغه، أو في شيء من مفاصله من البلغم. الاطعمة اللطيفة في نفسها الملطفة لغيرها هي التي يكون ما يتولد منها لطيفا، ويلطّف ما يلقاه من الكيموس اللزج الغليظ في البدن. وهذا الجنس من الأطعمة أربعة أصناف: صنف منها حلو لطيف لما فيه من قوة الجلاء، مثل: ماء الشعير، والبطيخ، والتين اليابس، والجوز، والعسل والفستق وما يعمل منه من الناطف. وهذا الجنس من منفعته من جنس الأول من الأطعمة اللطيفة، إلا أنه أبلغ في تلطيف البدن. والصنف الثاني حار، حرّيف، كالحرف، والثوم، والكراث، والكرفس

الاطعمة الغليظة في نفسها الملطفة لغيرها

والكرنب، والصّعتر، والنعنع، والرازيانج، والشرب الأصفر اللطيف العتيق الحار. وهذا كله نافع لمن احتاج إلى فتح السدد التي في الكبد، والطحال، والصدر والدماغ، وتقطيع البلغم وترقيقه. ولا ينبغي لأحد أن يكثر استعماله، لأنه يرقق الدم أولا ويصيره مائيا، فيقل لذلك غذاء البدن ويضعف، ثم إنه يسخن البدن سخونة مفرطة، فيصير أكثره مرة صفراء، ثم إنه بعد ذلك إذا تمادى مستعمله في استعماله حلل لطيف الدم وترك غليظه، فصار أكثره مرة سوداء، وربما تولد من ذلك حجارة في الكلى؛ ومضرة هذا الصنف أشد ما تكون على من كانت المرة الصفراء غالبة عليه. والصنف الثالث: يذهب ويلطف بملوحته، كالمري «1» وما لان لحمه وقل شحمه من السمك إذا ملح، والسلق، وماء الجبن، وكلّ ما جعل فيه من الأطعمة الملح، والمري، البورق. ومنافع هذا الصنف ومضاره قريبة من منافع الأشياء الحريفة ومضارّها، إلا أن هذا الصنف في تنقية المعدة والأمعاء وتليين الطبيعة أبلغ. والصنف الرابع: يقطع ويلطف بحموضته، كالخل، والسكنجبين، وحماض «2» الأترجّ، وماء الرمان الحاض، وكل ما يتخذ بها من الأطعمة. وهذا الصنف نافع لمن كانت معدته وسائر بدنه حارا إذا تولد فيه بلغم من غلظ ما يتناول من الأغذية ومن كثرتها. الاطعمة الغليظة في نفسها الملطفة لغيرها منها: البصل، والجزر، والفجل، والسلجم «3» ، وما أشبه ذلك. فهذه الأطعمة في نفسها غليظة وتلطّف ما تلقى من الشيء الغليظ بما فيها من الحدّة

الاطعمة الغليظة

والحرافة؛ وهي تولد كيموسا غليظا، ومتى ما طبخ شيء منها أو شوي ذهب عنه قوة الحرافة والتقطيع، وبقي جرمه غليظا رديئا؛ وقد يتناول للمنفعة بتقطيع هذه الأطعمة وتلطيفها، ويسلم من غلظ جرمها، على إحدى ثلاث جهات: إما أن تطبخ فتلطف، كالذي يفعل بالبصل؛ وإما أن تعصر أو تطبخ ثم يستعمل ماؤها؛ وإما أن تؤكل نيئة فتقطع البلغم، كالذي يفعل بهما جميعا. الاطعمة الغليظة الغالب على الأطعمة الغليظة كلها اليبس واللزوجة؛ فمنها شيء يكون اليبس واللزوجة من طبعه، ومنها ما يكتسب اليبس من غيره. فالذي يكون اليبس من طبعه. العدس، ولحم الأرانب، والبلوط، والشاه بلوط، والكمأة، والباقلي المقلوّ؛ هذه كلها غليظة، لأن اليبس في طبائعها. وأما الذي يكتسب اليبس من غيره، فالكبود «1» ، والبيض المسلوق، والمشوي وما قلي، واللبن المطبوخ طبخا كثيرا، والضروع، وعصير العنب المطبوخ، لا سيما إن كان العصير غليظا؛ فهذه كلها غليظة، لأن الحرارة بالطبخ أحدثت لها يبسا وانعقادا. وأما لحوم الإبل، ولحوم التيوس، ولحوم البقر، والكروش، والأمعاء، فإنها غليظة بصلابتها؛ وكذلك الترمس، وثمر الصنوبر، والسلجم «2» ، واللوبيا، وما خبز على الفرن؛ فإن ظاهره غليظ، لما أحدثت به النار من اليبس، وباطنه غليظ، لما فيه من اللزوجة؛ وكذلك كل ما لم يجد عجنه أو خبزه أو إنضاجه من خبز التنور، وكل ما خبز على الطابق بدهن أو غيره، والفطير، والشهد، واللبن، والأدمغة؛ فإنها كلها غليظة، للزوجة فيها طبيعية. وأما الفالوذج فإنه غليظ للزوجته والانعقاد الحادث له من الطبخ.

الأطعمة المتوسطة بين اللطيفة والغليظة

وأما الباذنجان فإنه غليظ لليبس وللّزوجة في طبعه. وأما الخبز فإنه غليظ لاجتماع الحالات الثلاث فيه. فأما السمك الصلب اللزج فإنه غليظ لاجتماع الصلابة واللزوجة فيه. وأما الآذان والشّفاه وأطراف العضو، فإنها تولد كيموسا لزجا ليس بالغليظ وقد تولد ما يعرض من الأغذية الباردة عن هضمها وتلطيفها، كالذي يعرض من أكل الفاكهة قبل نضجها، ومن أكل الخيار والقثاء، وشحم الأترج واللبن الحامض. فهذه الأطعمة الغليظة كلها إن صادفت بدنا حارا كثير التعب قليل الطعام كثير النوم بعيد الطعام انهضمت وغذت البدن غذاء كثيرا نافعا، وقوّته تقوية كثيرة. وأحمد ما تستعمل هذه الأغذية في الشتاء، لاجتماع الحرارة في باطن البدن وطول النوم؛ ومتى أحس أحد في نومه نقصانا بيّنا وأكلها من يجد الحرارة في بدنه قليلة ولا سيما في معدته، ومن تعبه قليل ونومه بعد الطعام قليل- لم يستحكم انهضامها، وتولد منها في البدن كيموس غليظ حار يابس، يتولد منه سدة في الكبد والطحال؛ فلذلك ينبغي لمن أكل طعاما غليظا من غير حاجة إليه لعلة أو شهوة أن يقلّ منه ولا يعوّده، ولا يدمنه. وما كان من الأطعمة الغليظة له مع غلظه لزوجة، فهو أغذاها للبدن؛ فإن لم ينهضم فهو أكثرها توليدا للسدد. الأطعمة المتوسطة بين اللطيفة والغليظة تصلح لمن كان بدنه معتدلا صحيحا، ولم يكن تعبه كثيرا؛ وأجود الأغذية له المتوسطة، لأنها لا تنهكه ولا تضعفه كاللطيفة، ولا تولد خاما «1» ولا سددا كالغليظة.

الأطعمة الحارة

وهي كل ما أحكم صنعه من الخبز، ولحوم البقر، والدجاج، والجداء، والحولية من المعز. وأما لحوم الخرفان والضأن كلها فرطبة لزجة. وأما لحم فراخ الحمام والقطا فهو يولد دما سخنا وأغلظ من الدم المعتدل. وأما فراخ الوراشين «1» فإنها مثل فراخ الحمام والقطا «2» والإوز، فأجنحتها معتدلة وسائر البدن كثير الفضول. وكل ما كثرت حركته من الطير وكان مرعاه في موضع جيد الغذاء صافي الهواء، كان أجود غذاء وألطف؛ وكل ما كان على خلاف ذلك فهو أردأ غذاء وأوسخ. وكل ما لم يستحكم نضجه من البيض، وخاصة ما ألقي على الماء الحار وأخذ من قبل أن يشتد، فهو معتدل. وكل ما كان من لحم السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة، والزهومة «3» ، وما كان مرعاه نقيا من الأوساخ والحمأة، فهو معتدل جيّد الغذاء. ومن الفواكه التين والعنب إذا استحكم نضجهما على الشجر وأسرعت الانحدار إلى الجوف، كان ما يتولد منها معتدلا، فإن لم تسرع الانحدار فلا خير فيها. ومن البقول الهندبا، والخس، والهليون. ومن الأشربة كلها ما كان لونه ياقوتيا صافيا ولم يكن عتيقا جدا. الأطعمة الحارّة يحتاج إليها من كان الغالب عليه البرودة، في الأوقات والبلاد الباردين؛ وينبغي أن يتجنبها من كان حارّ البدن، وفي الأوقات الحارّة والبلاد الحارة.

الأطعمة الباردة

منها: الحنطة المطبوخة، والخبز المتخذ من الحنطة، والحمص، والحلبة، والسمسم، والشهدانج، والعنب الحلو، والكرفس، والجرجير، والفجل، والسلجم، والخردل، والثوم، والبصل، والكراث، والخمر العتيق. وأسخن الأشربة الحارّة العتيق الأصفر. الأطعمة الباردة ينبغي أن يستعملها من كان حارّ البدن، وفي الأوقات الحارّة والبلد الحارّ. وهي: الشعير وما يتخذ منه، والجاورس، والدّخن، والقرع، والبطيخ، والخيار، والقثاء، والإجاص، والخوخ، والجمار، وما بين الحموضة والعفوصة «1» ، من العنب، والزبيب، والطلع «2» ، والبلح، والخس، والهندبا، والبقلة الحمقاء، والخشخاش، والتفاح، والكمثري، والرمان. فما كان من الرمان عفصا فهو بارد غليظ، وما كان حامضا فهو بارد لطيف. فأما الخل فهو بارد لطيف، وهو ضارّ بالعصب. وما كان أيضا من الشراب عفصا فهو أقل حرارة، وما كان من ذلك حديثا غليظا فهو بارد. الأطعمة اليابسة يحتاج إلى الأطعمة اليابسة من كان الغالب على بدنه الرطوبة، وفي الأوقات الرطبة والبلد الرطب. منها العدس، والكرنب، والسويق، وكل ما يشوى ويطبخ ويقلى، وكل ما أكثر فيه السّذاب والمري والخل والإبزار والخردل، ولحم المسنّ من جميع الحيوان.

الأطعمة الرطبة

الأطعمة الرطبة يحتاج إلى الأطعمة الرطبة من أفرط عليه اليبس، وفي الأوقات اليابسة والبلاد اليابسة. وهي: الشعير، والقرع، والبطيخ، والقثّاء، والخيار، والجوز الرطب، والعنب، والنبق، والإجاص، والتوت، والجمار، والخس، والبقلة اليمانية، والقطف «1» ، والباقلي «2» الرطب، والحمص الرطب، واللوبيا الرطبة وكل ما يطبخ بالماء ويسلق به وتقل فيه الإبزار والخل والمري والسذاب، وجميع لحوم صغار الحيوان. الأطعمة القليلة الفضول أجنحة الطيور، وأكارع المواشي ورقابها، ما يربى في البر «3» من الحيوان في المواضع الجافة. الأطعمة الكثيرة الفضول منها لحم الأوز خلا الأجنحة، والأكباد كلها من جميع الحيوان، والنخاع، والدماغ، والطيور التي في الفيافي والآجام، والحمص الطري، والباقلي الطري، ولحم الضأن، ولحم المراضع من كل الحيوان، ولحم كل ساكن غير سريع النهوض، وما كان من السمك على ما ذكرنا صلبا لزجا. الأطعمة التي غذاؤها كثير كل ما غلظ من الأطعمة إذا انهضم غذى كثيرا، وكل ما كان له فضول كان غذاؤه كثيرا.

الأطعمة التي غذاؤها قليل

وقد يحتاج إلى الأطعمة الكثيرة الغذاء من احتاج إلى أن يأخذ طعاما قليلا يغذّي غذاء كثيرا، كالناقة والمسافر، وكالذي يثقل معدته الكثير من الطعام وبدنه يحتاج إلى غذاء كثير. فمن ذلك لحم البقر، والأدمغة، والأفئدة، وحواصل الطير كلها، والسمك الغليظ اللوح، والسميذ، والباقلي، والحمص، واللوبيا، والترمس، والعدس، والتمر، والبلّوط، والشاة بلّوط «1» ، والسّلجم، تغذو غذاء كثيرا لغلظها- واللبن الحليب، والشراب الأحمر. وغذاء اللبن كله أغلظه وأرقه، أقلّ غذاء. وأغلظ اللبن لبن البقر ولبن النعاج، وأرقه لبن الاتن «2» وألبان الّلقاح، وألبان الماعز متوسطة بين ذلك. وأغذى الأشربة النبيذ الأحمر الغليظ الحلو، ثم الغليظ الأسود الحلو، ثم الغليظ الأبيض الحلو، ثم من بعد هذه الأشربة العفصة الغليظة الحلوة وكل ما مال إلى الحمرة والحلاوة كان أغذى، والأبيض أقلها غذاء. الأطعمة التي غذاؤها قليل كل ما كان من الأطعمة لطيفا كان غذاؤه قليلا، وكل ما أفرط فيه اليبس أو الرطوبة، أو كثرة الفضل، قل غذاؤه، كالأكارع، والكروش، والمصارين، والشحم، والآذان، والرئة، ولحم الطير كله، وما ملح من الحيوان- قليل الغذاء لليبس الذي فيه- وكذلك الزيتون، والفستق، والجوز، واللوز، والبندق، والغبيرا «3» ، والزّعرور «4» ، والخرّوب، والبطم «5» ، والكمثري العفص، والزبيب العفص؛ فإنما قلّ غذاؤهما للعفوصة.

الأطعمة التي تولد كيموسا جيدا

وأما السمك، والقرع، والرمان، والتوت، والإجاص، والمشمش، فإنما قل لكثرة رطوبتها؛ وغذاؤها غير باق سريع التحلل. وأما خبز الشعير، والخشكار «1» . والباقلي الرطب؛ وجميع البقول، مثل الكرنب، والسلق، والحماض، والبقلة الحمقاء، والفجل، والخردل، والحرف، والجزر- فقليل الغذاء، لكثرة الفضل فيها. وأما البصل، والثوم، والكراث؛ فإنها إذا أكلت نيئة لم تغذ، وإذا طبخت غذّت غذاء يسيرا. وأما التين، والعنب، فإنهما بين ما قل غذاؤه وما كثر غذاؤه. الأطعمة التي تولد كيموسا جيدا كل ما كان معتدلا من الأطعمة لم تفرط فيه قوّة ولم يجاوز القدر فيه، ولد دما خالصا نقيا صحيحا، وكل ما كان كذلك فهو موافق لجميع الأبدان وفي جميع الأوقات، وهو لجميع الأبدان المعتدلة في جميع الأوقات، وفي الأوقات المعتدلة أوفق؛ لأن ما تجاوز الاعتدال من الأبدان يحتاج من الأطعمة إلى ما فيه قوّة تجاوز الاعتدال؛ وكذلك الأبدان المعتدلة في الأوقات التي ليست بمعتدلة. وفي الأطعمة ما هو غليظ وما هو لطيف وما هو بين ذلك، وأجودها لجميع الناس ما كان معتدلا منها، بين الغليظ واللطيف، وما هو بين ذلك. وقد وصفنا الأطعمة الغليظة واللطيفة والمتوسطة. ومتى يصلح كل صنف منها؛ فبقي علينا أن نخبر بجملة الأطعمة المولدة الكيموس الجيّد، وقسمتها على ما قسمناها. فمن ذلك خبز الحنطة النقي المحكم الصنعة إن كان من يومه، ولحم الدجاج،

والجداء، وحولية الماعز، وما كان من السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة، وما لم يكن له زهومة «1» ولم يكن له سمن كثير، وما كان مرعاه فيما ليس فيه أوساخ ولا حمأة ولم يكن سريع العفونة، وكل ما اشتد واستحكم نضجه من البيض، وكل شراب طيب الريح ياقوتي اللون ليست فيه حلاوة- كل ذلك يولد كيموسا «2» معتدلا بين اللطيف والغليظ. وأما الدراج «3» ، والفراريج وأجنحة جميع الطير، وما صغر من السمك وكان مرعاه على ما وصفنا، وما ألقي عليه من السمك الملح فصار رخصا وذهبت لزوجته، وماء كشك الشعير، والشراب الطيب الرائحة الاحمر- فكل ذلك جيد الكيموس لطيف. واما اللبن الحليب فإنه جيد الكيموس، إلا ان فيه غلظا؛ ولذلك ربما تجبن في المعدة؛ فلهذه العلة يخلط به العسل والملح، ويرق بالماء. وأجود اللبن واعدله لبن الماعز؛ لانه ألطف من لبن الضأن والبقر، وأغلظ من لبن الأتن واللّقاح «4» . وينبغي للبن أن يؤخذ من حيوان صحيح شابّ جيد الغذاء. ولا يحتلب في وقت ما يضع الحيوان، ولا بعد ذلك بزمان طويل لأن اللبن من الحيوان في وقت ما يضع غليظ، ثم يرق بعد ذلك قليلا قليلا حتى يصير مائيا، فلذلك كان أوّله وآخره رديئا. وأجود ما يؤخذ من اللبن ساعة يحلب، قبل ان يغيره الهواء؛ لانه سريع الاستحالة.

الأطعمة التي تولد كيموسا رديئا

وأما الخشكار «1» من الخبز الرطب، وكل ما لم تحكم صنعته من الخبز السميذ، وخبز الفرن، ولحم العجل؛ ومن اجزاء الغنم الضرع والكبد والفؤاد، ومن الحبوب الباقلي، ومن الشراب ما كان طيب الرائحة حلوا- فكل ذلك يولد كيموسا غليظا جدّا. الأطعمة التي تولد كيموسا «2» رديئا كل ما لم يكن معتدلا من الاغذية لم يولّد دما خالصا صافيا. والأطعمة الرديئة الكيموس ثلاثة أصناف: منها ما يزيد في البلغم، ومنها ما يزيد في الصفراء، ومنها ما يزيد في السوداء. وينبغي لجميع الناس ان يجتنبوا الإكثار منها وادمان استعمالها وإن كانوا لها مستمرئين؛ لأنها وإن لم يتبين لها ضرر في عاجل الامر، يجتمع منها في بدن مدمن استعمالها مع طول الزمان كيموس رديء، وكذا امراض رديئة، واولى الناس بتجنّب كل صنف من أصنافها من كان الغالب على بدنه ما يزيد فيه ذلك الصنف. فأقول: إن كل ما يتخذ من الخبز من دقيق كثير النخالة، أو ما عتق من الحنطة- رديء الكيموس يزيد في السوداء. ولحم الضأن كله يزيد في البلغم، ولحم الماعز المسن كله يزيد في السوداء، وأردؤه لحم التيوس. ولحم البقر والجزور والارانب والظباء والايايل «3» - كل هذا يزيد في السوداء؛ وشرّ هذه اللحوم لحم الجزور، وبعده لحم التيوس، لا سيما ما لم يخص منها، وبعده لحم المسن من الضأن، وبعده لحم البقر؛ وكل ما خصي من هذه كان أجود غذاء.

وأما لحوم الارانب والظباء والايايل، فهو دون جميع ما ذكرنا من الرداءة. ومن أعضاء الحيوان: الكلى، رديئة الكيموس، لزهومتها وما استفادت من رداءة البول. والدماغ يزيد في البلغم، وكل البطون يزيد في البلغم، لكثرة الزلال فيها. والبيض المطجّن «1» يولد غذاء غليظا فاسدا، وكذلك الجبن، ولا سيما ما عتق منها. والعدس يزيد في السوداء. والدخن» والجاورس يولدان دما غليظا. وما صلب لحمه من السمك وغلبت عليه اللزوجة يولد البلغم، فإن ملح وعتق يولد السوداء. والتين اليابس إن اكثر اكله ولد فضلا عفنا يكثر منه القمل. والكمثري والتفاح إن اكلا غير نضجين ولدا كيموسا رديئا، وكذلك القثاء والخيار؛ فأما البطيخ والقرع فربما انهضما ولم يحدثا في البدن حدثا رديئا، وربما فسدا في المعدة فولّدا كيموسا رديئا، ولا سيما إن صادفا في المعدة فضلا رديئا؛ فلذلك تعرض الهيضة «3» كثيرا من أكل البطيخ. والبقول كلها رديئة الكيموس، لكثرة الفضل فيها وقلة الغذاء. وأما البصل والثوم والكراث والفجل والجوز والسلجم، فرديئة لما فيها من الحرارة والحرافة، وربما زادت في الصفراء، وربما زادت في السوداء أيضا كما ذكرت آنفا، إلا انها إن طبخت وصب ماؤها وطبخت بماء ثان، ذهبت الحرافة والرداءة عنها. والباذروج «4» يسخّن الدم ويجففه تجفيفا شديدا.

الاطعمة المتوسطة الكيموس

والكرنب «1» يولد السوداء، وكذلك جميع البقول الرديئة. الاطعمة المتوسطة الكيموس وهي بين ما يولد الكيموس الجيد وما يولد الكيموس الرديء. فمنها خبز الخشكار، ولحم الخصيان من المعز والضأن. ومن الأعضاء: اللسان والامعاء والذنب. ومن الفاكهة: العنب والبطيخ- والمعلق من العنب أجود- والتين، واليابس من الجوز، والشاه بلوط. ومن البقول الخس، وبعده الهندبا، وبعده الخبازي، وبعده القطف والبقلة الحمقاء اليمانية، والحامض، وما لم يكن فيه حدّة كثيرة من الأصول. الاطعمة السريعة الانهضام إنما يسرع الانهضام لاحد وجهين: فالوجه الاول منها إذا كانت الاطعمة غير يابسة كالعدس، ولا صلبة كالترمس، ولا لزجة كالحنطة، ولا خشنة كالسمسم، ولا كريهة كالسذاب، ولا كثيرة الفضول كالأرز، ولا يغلب عليها برد شديد كاللبن الحامض، ولا حرّ شديد كالعسل. والوجه الثاني لطبيعة البطن المستمرىء لها، وذلك لاحد وجهين: الاول موافقة الأغذية، ومشاكلة الأبدان الطبيعية، كالأطعمة التي يشتهيها ويلذها الإنسان؛ فقد تجد الناس يختلفون في شهواتهم، ويستمرىء كل واحد منهم ما شهوته إليه أميل، وإن كان الذي لا يشتهيه احمد من الذي يشتهيه. والوجه الثاني: لمزاج عارض يصادف من الاطعمة مضادة، كالذي ترى ان من غلب عليه الحر لعلة من العلل، كان للاطعمة الباردة أشد استمراء، لما يطفىء من حرارة البدن، ويعدل البدن؛ ومن غلب عليه البرد

الاطعمة البطيئة الانهضام

استمرأ الحارّ ولم يستمرىء البارد؛ ومن رطب بدنه كله أو معدته استمرأ الأطعمة الجافة ولم يستمرىء الرطبة؛ وم عرض له اليبس خلاف ذلك. فقد بان بما ذكرناه ان الاطعمة اللطيفة والمتوسطة في نفسها سريعة الانهضام وقد يجوز ان تكون الاطعمة الغليظة أسرع انهضاما في بعض الابدان أيضا؛ فقشر الخبز المحكم، ولحم الدجاج، والفراريج، والدراج، والحجل، وكبود الاوز، واجنحتها- سريعة الهضم. وفي الجملة الجناح من كل طائر أسرع انهضاما من سائره، وليس في الطير كلها أسرع انهضاما من المواشي؛ وكل ما كان من الحيوان يابسا فصغيره أسرع انهضاما؛، وكذلك لحم العجاجيل «1» أسرع من لحم البقر، ولحم الجدي الحولي اسرع انهضاما من لحم المسن من الماعز؛ وكل ما كان من الحيوان أرطب فكبيره من قبل أن يسن أسرع انهضاما من صغيره؛ الا ترى ان الحولي من الضأن اسرع انهضاما من الخروف؟ وكل ما كان مرعاه من المواضع اليابسة كان اسرع انهضاما مما مرعاه في المواضع الرطبة؛ وكل ما كان جرمه «2» متخلخلا فهو أسرع انهضاما مما كان جرمه متلزّزا، ولذلك كان الجوز أسرع انهضاما من البندق، والبيض الحارّ أمرأ من البيض البارد، والشراب الحلو أمرأ من العفص «3» . الاطعمة البطيئة الانهضام إنما يعسر الانهضام من الطبيعة في الطعام إذا كان يابسا، او صلبا، او لزجا، او متلزّزا «4» ، او كثير الدسم، أو كثير الفضول، أو كريه الطعم، أو الحرافة فيه مفرطة، او البرد، او الحر، او مخالفا للمزاج الطبيعي إذا لم يشته.

الاطعمة الضارة للمعدة

فلحم البقر، ولحم الإبل، والكروش، والامعاء، والاوز، والآذان من جميع الحيوان، والجبن، والبيض البارد- عسرة الانهضام، ليبسها وصلابتها. وكذلك من الطير: الوراشين، والفواخت «1» ، والطواويس، والقوانص من جميع الطير- عسرة الانهضام. ومن الحبوب: الارز، والتّرمس، والعدس، والدّخن، والجاورس، والبلّوط، والشاه بلّوط. وأما لحم التيوس وأكارع البقر، فعسرة الانهضام لزهومتها «2» وكراهتها. وأما لحم الضأن، والكبود من جميع الحيوان، والاوز- فلكثرة الفضول فيها. وأما الجبن الحامض فلبرده. وأما الحنطة المصلوفة فللزوجتها وتلززها. وأما الباقلاء واللوبياء فلكثرة النفخ فيها. وأما السمسم فلكثرة دهنه. وأما العنب والتين وسائر الفواكه إذا لم يستحكم نضجها، والاترج والباذورج «3» ، والسلجم، والجوز، والشراب الحديث الغليظ- فلكثرة الفضول فيها. الاطعمة الضارة للمعدة السّلق رديء للمعدة، للذعه إياها ولما فيه من الحدة البورقية. والباذورج والسلجم ما لم يستقص طبخهما، للذع فيهما.

الاطعمة التي تفسد في المعدة

والبقلة اليمانية والقطف، للزوجتهما. فلذلك ينبغي ان يؤكلا بالخل، والمري. والحلبة رديئة للمعدة للذعها إياها. والسمسم رديء للمعدة، للزوجته وكثرة دهنه. واللبن لسرعة استحالته في المعدة. والعسل ما اكثر منه لذع المعدة وغثاها. والبطيخ أيضا يغثي، إذا لم ينضج في المعدة ولد كيموسا رديئا: فينبغي بعد أكل البطيخ أن يأكل طعاما كثيرا جيد الكيموس. والادمغة ايضا كلها رديئة للمعدة، فلذلك ينبغي أن تؤكل بالصعتر والفوذنج البرّي والخردل، والملح، وكذلك المخاخ. والنبيذ الحديث الغليظ الاسود العفص يسرع الحموضة في المعدة ويغثي. الاطعمة التي تفسد في المعدة المشمش، والسمسم، والتوت، والبطيخ- إذا لم يسرع انحدارها عن المعدة وصادفت كيموسا رديئا أسرع إليها الفساد؛ فيجب ان تؤكل قبل الطعام والمعدة نقية ليسرع انحدارها عنها ويسهل الطريق لما يؤكل بعدها من الطعام، فإن أكلت بعد الطعام فسدت لبقائها في المعدة، وأفسدت سائر الطعام بفسادها، وربما بلغ الفساد بها إلى أن تصير بمنزلة السم القاتل. الاطعمة التي لا يسرع إليها الفساد في المعدة من كان يفسد طعامه في معدته، فأجود الاطعمة له ما كان غليظا بطيء الانحدار مثل لحم البقر وأكارعها، وما أشبه ذلك مما ذكرناه من الاطعمة الغليظة.

الاطعمة الملينة المسهلة للبطن

الاطعمة الملينة المسهلة للبطن كل ما كان من الاطعمة فيه حلاوة او حدّة او ملوحة أو لزوجة؛ فمن ذلك ماء العدس وماء الكرنب، يلينان الطبع، وجرمهما يمسك البطن؛ وكذلك مرقة الهرمة، وخبز الخشكار «1» مع العسل، وزيتون الماء إذا كان قبل الطعام مع مري- ليّن البطن؛ فإذا كان أيضا مع الطعام بلا مري، فإنه يقوي المعدة على دفع الطعام لعفوصته. وكذلك ما عمل بالخل منه- وكل طعام عفص فإنه دابغ للمعدة مقوّ لها- فأما اللبن وماء الجبن فيلينان البطن، ولا سيما إذا خلط بهما الملح. ولحم الصغير من الحيوان، والسلق، والقطف، والبقلة اليمانية، والقرع، والبطيخ، والتين، والزبيب الحلو؛ والتوت الحلو، والجوز الرطب، والإجاص الرطب والسّكنجبين «2» ، والنبيذ الحلو- ملين للبطن. الاطعمة التي تحبس البطن إذا كان الطعام ينحدر عن المعدة قبل انهضامه احتجنا إلى الاطعمة الممسكة الحابسة للبطن. وكل ما غلب عليه من الاطعمة اليبس او العفوصة او الغلظ، كالسفرجل، والكمثري، وحب الآس، وثمر العوسج، وجرم «3» العدس، والبلّوط، والشاه بلّوط، والنبيذ العفص- يمسك البطن، لعفوصته وقبضه. والجاورس، والدخن، وسويق الشعير- تمسك البطن بيبوستها. ولحم الارانب، والكرنب المطبوخ بعد صب مائه الاول عنه ثم يطبخ بماء ثان- فإنه يمسك البطن ليبسه.

الاطعمة التي تولد السدد

واللبن المطبوخ، والجبن- كلاهما يمسك البطن لغلظه؛ وذلك ان يطبخ اللبن حتى تفنى مائيتّه، ويبقى جرمه، وربما ولد سددا في الكبد وحجارة في الكلى. وأما الاشياء الحامضة، كالتفاح الحامض، والرمان الحامض- فإن صادفت في المعدة كيموسا غليظا قطعته وحدرته ولينت البطن، وإن صادفت المعدة نقية امسكت البطن. الاطعمة التي تولد السدد اللبن الغليظ، والجبن- ربما احدثا سددا في الكبد وحجارة في الكلى لمن اكثر استعمالهما وكانت كلاه وكبده مستعدة لقبول الآفات. وجميع الاطعمة الحلوة رديئة للكبد والطحال، فإذا اكل معها الفوذنج الجبلي والصعتر، والفلفل- فتح سدد الكبد، والطحال. والرطب، والتمر، وجميع ما يتخذ من الحنطة سوى الخبز الجيد المضغة، والاشربة الحلوة أيضا- تولّد سددا في الكبد، وحجارة في الكلى، وتغلظ الطحال. الاطعمة التي تجلو المعدة وتفتح السدد ماء الكشك، كشك الشعير، يجلو المعدة ويفتح السدد. والحلبة، والبطيخ، والزبيب الحلو، والبقلاء، والحمص الاسود- ينقي الكلى ويفتت الحجارة المتولدة فيها. والكبر «1» بالخل، والعسل إذا اكل قبل الطعام- فإنه يجلو وينقي المعدة والامعاء، ويفتح السدد. والسلق أيضا يجلو ويفتح السدد في الكبد، لا سيما إذا اكل بخردل.

الاطعمة التي تنفخ

والبصل، والثوم، والكراث، والفجل- يقطع ويلطف الكيموس «1» الغليظ. والتين، رطبه ويابسه، يجلو وينقي الكلى. واللوز كله! ولا سيما المرّ منه- فإنه يجلو ويلطف ويفتح سدد الكبد والطحال، ويعين على نفث الرطوبة من الصدر والرئة. والنبيذ اللطيف إذا كانت له حدة وحرافة- يصفي اللون، وينقي العروق من الكيموس الغليظ، وينتفع به من كان يجد في بدنه كيموسا غليظا باردا. وأما النبيذ الرقيق فإنه يعين على نفث الرطوبة من الرئة، بتقويته الاعضاء وتلطيف ما فيها من الفضل الغليظة، وقد يفعل ذلك النبيذ الحلو. الاطعمة التي تنفخ الحمص، والباقلاء، ولا سيما إن طبخ بقشره، فإن طبخ مقشرا او مسحوقا كان أقل نفخا، وإن قلي أيضا كان أقل نفخا، وبعد هذه اللوبياء، والماش، والعدس، والشعير، إذا لم ينعم طبخها. والنّعناع، والانجذان، والحلتيت «2» ؛ والتين الرطب يولّد نفخا إلا انه ينحل سريعا لسرعة انحداره. وما استحكم نضجه من التين والعنب كان أقل نفخا، ويابس التين اقل نفخا من رطبه.

ما يذهب النفخ من الاطعمة

واللبن يولّد رياحا في المعدة. والعسل إذا طبخ ونزعت رغوته قل نفخه. والنبيذ الحلو العفص يولد نفخا. ما يذهب النفخ من الاطعمة كل طعام نافخ إذا احكمت صنعته وأجيد طبخه وإنضاجه قل نفخه، وكل ما قلي منه قل نفخه، وكل ما خلط به الابازير المحللة للرياح، كالكمون، والسذاب والانيسون، والكاشم «1» - يقل نفخه؛ والخل الممزوج بالعسل يلطف الرياح. كتاب إسحاق بن عمران إلى بعض اخوانه كتب إسحاق بن عمران المعروف بسمّ ساعة إلى رجل من اخوانه: اعلمك- رحمك الله- ان الخام والبلغم يظهران على الدم والمرة بعد الاربعين سنة فيأكلانهما، وهما عدوا الجسد وهادماه، ولا ينبغي لمن خلف الاربعين سنة ان يحرك طبيعة من طبائعه غير الخام والبلغم، ويقوّي الدم جاهدا، غير أنه ينبغي له في كل سبع سنين ان يفجر من دمه شيئا، ومن المرة مثل ذلك، لقلة صبره على الطعام اللذيذ والمشروب الرويّ، فتعاهد اصلحك الله ذلك من نفسك، واعلم ان الصحة خير من المال والاهل والولد، ولا شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى خير من العافية. ومما تأخذ به نفسك وتحفظ به صحتك، ان تلزم ما اكتب به إليك: في شهر ينير «2» : لا تأكل السلق، واشرب شرابا شديدا كل غداة.

وفي شهر فبرير: لا تأكل السلق. وفي مارس: لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين «1» في الحلاوة. وفي أبريل: لا تأكل شيئا من الاصول التي تنبت في الأرض، ولا الفجل. وفي مايه: لا تأكل رأس شيء من الحيوان. وفي يونيه: تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده على الريق. وفي يوليه: تجنب الوطء. وفي أغشت: لا تأكل الحيتان. وفي سبتمبر: تشرب اللبن البقري. وفي أكتوبر: لا تأكل الكراث نيئا ولا مطبوخا. وفي نبنبر: لا تدخل الحمام. وفي دجنبر: لا تأكل الارانب. زعم علماء الطب ان في الجسد من الطبائع الاربع اثني عشر رطلا فللدم منها ستة أرطال، وللمرة والسوداء والبلغم ستة أرطال، فإن غلب الدم والطبائع تغير منه الوجه وورم، وخرج ذلك إلى الجذام؛ وإن غلبت تلك الطبائع الدم أنبتت المرّة. قال: فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضا، فليعدل جسده بالاقتصاد وينقيه بالمشي. فإنه إن لم يفعل اعتراه ما وصفناه، إما جذام وإما مرة، نسأل الله العافية. ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الازمان إلا ايام السموم، إلا أن ينزل فيها مرض شديد لا بدّ من مداواته، او يظهر فيها موم «2» ، أو ذات الجنب، فإنه ينبغي للطبيب أن يعانيه «3» بفصاد او شيء خفيف، فإنها ايام ثقيلة، وهي [من] خمسة عشر يوما من تموز إلى النصف من آب، فذلك ثلاثون يوما لا يصلح فيها علاج- وكان

الخمر المحرمة في الكتاب

بقراطيس يجعلها تسعة وأربعين يوما- يقطع الغرر والخطر في ايام القيظ، فإذا مضى لا يلول ثلاثة أيام طاب التداوي كله. وأمر جالينوس في الربيع بالحجامة، والنورة، وأكل الحلاوة وشربها؛ ونهى عن القطانّي «1» ، واللبن الرائب، وعتيق الجبن، والمالح، والفاكهة اليابسة إلا ما كان مصلوقا.... وفي القيظ- وهو زمان المرة الحمراء- يأكل البارد الرطب على قدر قوّة الرجل في طبعه وسنه، وترك الجماع، وأكل الحوت الطري، والفاكهة الرطبة، والبقول؛ ولحم البقر والمعز؛ ومن القطاني العدس، ومن الاشربة المربب بالورد والسّكركة «2» من الشعير، والسكر بالماء المطبوخ، وأكل الكزبرة الخضراء في الاطعمة، وأكل الخيار والبطيخ، ولزوم دهن الورد وماء الورد، ورش الماء وبسط البيت بورق الشجر، ومن الدواء السكر بالمصطكا، يسحقهما مثلا بمثل ويأخذهما على الريق قدر الدرهم أو اكثر قليلا ... وفي زمان الخريف- وهو زمان السوداء، وهو أثقل الازمنة على اهل تلك الطبيعة- من الطعام والشراب بالحار الرطب، مثل الاحساء بالحلاوة، وأكل العسل وشربه؛ ونهى فيه عن الجماع، وأكل لحم المعز والبقر، وأمر بأكل صنوف حيوان البر والبحر، وحسو البيض، والدهن قبل الحمام، وإتيان النساء على غير شبع في آخر الليل وفي أول النهار، والتماس الولد على الريق من الرجل والمرأة فإن اولاد ذلك الزمان اشد وأقوى تركيبا، من غيرهم، كما قالت الحكماء. الخمر المحرمة في الكتاب اجمع الناس على ان الخمر المحرمة في الكتاب خمر العنب، وهي ما غلي وقذف

الزبد من عصير العنب، من غير أن تمسه نار، ولا يزال خمرا حتى يصير خلا، وذلك إذا غلبت عليه الحموضة وفارقتها النشوة؛ لأن الخمر ليست محرّمة العين كما حرمت عين الخنزير، وإنما حرمت لعرض دخل لها، فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالا كما كانت قبل الغليان حلالا، وعينها في كل ذلك واحدة، وإنما انتقلت أعراضها من حلاوة إلى مرارة، ومن مرارة إلى حموضة، كما ينتقل طعم الثمرة إذا أينعت من حموضة إلى حلاوة والعين قائمة، وكما ينتقل طعم الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة. ونظير الخمر فيما يحل ويحرم بعرض: المسك الذي هو دم عبيط «1» حرام، ثم يجف ويجدد رائحة فيصير حلالا طيبا، فهذه الخمر بعينها المجمع على تحريمها؛ وأصحاب النبيذ إنما يدورون حولها ويتعللون أنهم يشربون ما دون المسكر، ولا لذة لهم دون موافقة المسكر كما قال الشاعر: يدورون حول الشّيخ يلتمسونه ... بأشربة شتى هي الخمر تطلب وقول القائل: إياك أعني فاسمعي يا جاره قيل للاحنف بن قيس: أي الشراب اطيب؟ فقال: الخمر. قيل له: وكيف علمت ذلك وأنت لم تشربها؟ قال: إني رأيت من أحلت له لا يتعدّاها، ومن حرمت عليه إنما يدور حولها! وقال ابن شبرمة: ونبيذ الزّبيب، ما اشتدّ منه ... فهو للخمر والطّلاء نسيب «2»

أنواع الشراب

وقال عبد اللَّه بن القعقاع: أتانا بها صفراء يزعم أنّها ... زبيب، فصدقناه وهو كذوب فهل هي إلا ساعة غاب نحسها ... أصلّي لربي بعدها وأتوب وقال ابن شبرمة: أتانا الفرزدق، فقال: اسقوني. فقلنا: وما تريد أن نسقيك؟ قال: أقربه إلى الثمانين. يعني حدّ الخمر. أنواع الشراب وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الاشربة أفضل عاقبة في البدن؟ قال: ما صفا في العين، واشتدّ على اللسان، وطابت رائحته في الانف من شراب الكرم. قيل له: فما تقول في مطبوخه؟ فقال: مرعى ولا كالسعدان. قيل له: فما تقول في نبيذ التمر؟ قال: ميت احيا فيه بعض المنعة، ولا يكاد يحيا من مات مرة. قيل له: فما تقول في العسل؟ قال: نعم شراب الشيخ ذي الابردة «1» والمعدة الفاسدة. الوليد وابن شراعة علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته، إذا أتي بابن شراعة من الكوفة، فو اللَّه ما سأله عن نفسه ولا سفره حتى قال له: يا ابن شرّاعة، إني واللَّه ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب اللَّه ولا سنة رسوله. قال: فو اللَّه لو سألتني عنهما لا لفيتني فيهما حمارا! قال: وإنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة، قال: دهقانها «2» الخبير، وطبيبها العليم! قال: فاخبرني عن الطعام؟ قال: ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير ان انفعه واشهاه أمرؤه. قال: فما تقول في الشراب؟ قال: ليسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: فما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه! والحمار شريكي فيه. قال: فما تقول في السّويق «3» ؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال:

الرشيد والاصمعي

فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط الا استحييت من أمي! من طول ما أرضعتني به قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: جاموا به على الشراب. قال: ما تقول في الخمر؟ قال: أوّه! تلك صديقة روحي! قال: وانت واللَّه صديق روحي. [ثم] قال: وأيّ المجالس أحسن؟ قال: ما شرب الناس على وجه قط أحسن من السماء! الرشيد والاصمعي قال الاصمعي: دخلت على الرشيد وهو في الفرش. منغمس كما ولدته امه؛ فقال لي: يا أصمعي، من أين طرقت اليوم؟ قال: قلت: احتجمت. قال: وأي شيء اكلت عليها؟ قلت: سكباجة «1» وطباهجة «2» . قال: رميتها بحجرها. [ثم] قال: هل تشرب؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. اسقني حتى تراني مائلا ... وترى عمران ديني قد خرب قال: يا مسروق، أي شيء معك؟ قال: ألف دينار. قال: ادفعها إليه!. آفات الخمر وخبائثها أول ذلك انها تدهب العقل، وأفضل ما في الإنسان عقله، وتحسن القبيح وتقبح الحسن. قال أبو نواس: اسقني حتى تراني ... حسن عندي القبيح وقال أيضا: اسقني صرفا حميّا ... تترك الشيخ صبيا

أصحاب الشراب

وتريه الغيّ رشدا ... وتريه الرّشد غيا! وقال أيضا: عتّقت في الدّنّ حولا ... فهي في رقة ديني «1» وقال الناطق بالحق: تركت النّبيذ وأصحابه ... وصرت خدينا لمن عابه» شراب يضلّ سبيل الرشاد ... ويفتح للشّرّ أبوابه وإنما قيل لمشارب الرجل: نديم، من الندامة؛ لان معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه؛ فقيل لمن شاربه: نادمه؛ لأنه فعل مثل ما فعله، فهو نديم له؛ كما يقال: جالسه فهو جليس له؛ والمعاقر: المدمن، كأنه لزم عقر الشيء أي فناءه. وقال ابو الاسود الدؤلي: دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيا بمكانها فإن لا تكنها او تكنه فإنّه ... أخوها غذته أمّه بلبانها «3» أصحاب الشراب وقد شهر اصحاب الشراب بسوء العهد. وقلة الحفاظ، وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب. وما غلب دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك؛ قال الشاعر: أرى كلّ قوم يحفظون حريمهم ... وليس لاصحاب النّبيذ حريم إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلّهم رثّ الحبال سئوم إذا جئتهم حيّوك ألفا ورحّبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم فهذا بياني لم أقل بجهالة ... ولكنّني بالفاسقين عليم

عبد العزيز بن مروان ونصيب

وقال قصيّ بن كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر، فإنها تصلح الأبدان، وتفسد الاذهان. وقيل لعدي بن حاتم: مالك لا تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي! وقيل له: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: معاذ اللَّه أن أصبح حليم قومي وأمسي سفيههم! وقال يزيد بن الوليد: النشوة تحلّ الحبوة «1» . وقيل لعثمان بن عفان رضي اللَّه عنه: ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية ولا حرج عليك فيها؟ قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة، وما رأيت شيئا يذهب جملة ويعود جملة. وقال أيضا: ما تغنّيت، ولا تفتّيت «2» ، ولا شربت خمرا، ولا مسست فرجي بيدي، بعد أن خططت بها المفصّل «3» . عبد العزيز بن مروان ونصيب وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة؟ يريد المنادمة. قال: أصلح اللَّه الامير، الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليك بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت أن لا تفرّق بينهما فافعل! وربما ذهبت الكأس بالبيان، وغيرت الخلقة، فيعظم أنف الرجل ويحمّر ويترهّل. وقال جرير في الأخطل:

في أمية بن عبد الله وعبد الملك

وشربت بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدّنان كأنّ انفّك دمل «1» شبه بالدم في ورمه وحمرته. وقال آخر في حماد الرواية: نعم الفتى لو كان يعرف وجهه ... ويقيم وقت صلاته حمّاد هدلت مشافره الدّنان، فأنفه ... مثل القدوم يسنّها الحدّاد وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد في أمية بن عبد اللَّه وعبد الملك ودخل أمية بن عبد اللَّه [بن خالد] بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ فقال: قمت بالليل فأصاب الباب وجهي! فقال عبد الملك: رأتني صريع الخمر يوما بسوئها ... وللشّاربيها المدمنيها مصارع [قال] فقلت: لا آخذ اللَّه أمير المؤمنين بسوء ظنه! فقال! بل: آخذك اللَّه بسوء مصرعك!. وقال حسان بن ثابت: تقول شعثاء: لو صحوت عن ال ... كأس لا صبحت مثري العدد أنسي حديث النّدمان في فلق الصّب ... ح وصوت المسامر الغرد لا أحدس الحدس الجليس ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي وقال ابن الموصلي: سلام على سير القلاص مع الرّكب ... ووصل الغواني والمدامة والشّرب «2» سلام امرىء لم تبق منه بقيّة ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب لعمري لئن نكبت عن منهل الصّبا ... لقد كنت ورّادا لمنهله العذب

الحسن بن زيد وابراهيم بن هرمة

ليالي أمشي بين برديّ لاهيا ... أميس كغصن البانة الناعم الرّطب «1» الحسن بن زيد وابراهيم بن هرمة ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لابراهيم بن هرمة: لا تحسبني كمن باع لك دينه رجاء مدحك وخوف ذمّك، فقد رزقني اللَّه بولادة نبيّه الممادح وجنّبني القبائح، وإن من حقه عليّ أن لا أغضي على تقصير في حقّه وإني اقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنّك حدين: حدّ الخمر، وحدّ السكر؛ ولازيدنك لموضع حرمتك بي، فليكن تركك لها للَّه تعن عليه، ولا تجعله للناس فتوكل إليهم، فنهض ابن هرمة وقال: نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدّبني بآداب الكرام وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف اللَّه لا خوف الأنام وكيف تصبّري عنها وحبّي ... لها حبّ تمكّن في عظامي أرى طيب الحلال عليّ خبثا ... وطيب النفس في خبث الحرام زياد وحارثة ابن بدر وذكروا ان حارثة بن بدر الغداني كان فارس بني تميم، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه؛ فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو رجل مستهتر بالشراب! فقال لهم: كيف اطّراحي لرجل ما راكبني قط فمست ركبتي ركبته، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي، ولا سألته عن شيء قط إلا وجدت علمه عنده!. فلما مات زياد جفاه ولده عبيد اللَّه بن زياد؛ قال له حارثة: أيها الامير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد اللَّه: إن أبا المغيرة قد برع بروعا لا يلحقه معه عيب؛ وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من تغلب عليّ، وانت تديم

حارثة بن بدر في حرب الازارقة

الشراب، فدع النبيذ وكن أول داخل وآخر خارج. فقال حارثة: أنا لم أدعه للَّه، أفأدعه لك؟ قال: فاختر من عملي ما شئت. قال: ولني رامهرمز؛ فإنها أرض عذية «1» ، أو سرّق؛ فإن بها شرابا وصف لي عنها. فولاه إياها، فلما خرج شيعه الناس، وكتب إليه أنس بن أبي أنيس: أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق ولا تحقرن يا حار شيئا تخونه ... فحظك من ملك العراقين سرّق وبار تميما بالغنى إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق «2» فإنّ جميع الناس إمّا مكذّب ... يقول بما يهوى وإمّا مصدّق يقولون أقوالا ولا يعلمونها ... ولو قيل يوما حققوا لم يحقّقوا وقّع حارثة في أسفل كتابه: لا بعد عنك الرشد. حارثة بن بدر في حرب الازارقة ولما خرجت الازارقة على اهل البصرة، لاقاهم حارثة بن بدر وتولى حربهم في أصحابه من فرسان بني يربوع، حتى أصيب في تلك الحروب. وقال فيه الشاعر: فلولا ابن بدر للعراقين لم يقم ... لما قام فيه للعراقين إنسان إذا قيل من حامي الحقيقة أو مأت ... إليه معد بالأكفّ وقحطان وقال الشاعر: شربنا من الذّاذيّ حتى كأننا ... ملوك لهم في كلّ ناحية وفر «3» فلما اعتلت شمس النهار رأيتنا ... تخلّى الغنى عنا وعاودنا الفقر وكان أبو الهندي من ولد شبث بن ربعيّ الرياحي من بني يربوع وكان قد غلب

عليه الشراب على كريم منصبه، حتى كاد يبطله، وكان قد ضاف «1» على راع يسمى سالما، فسقاه قدحا من لبن، فكرهه وقال: سيغني أبا الهنديّ عن وطب سالم ... أبارق كالغزلان بيض نحورها مفدّمة قزّا كأن رقابها ... رقاب كراك أفزعتها صقورها «2» فما ذرّ قرن الشمس حتى كأنما ... أرى قرية حولي تزلزل دورها وكان عجيبا بالجواب، فجلس إليه رجل كان صلب أبوه في جناية، فجعل يعرّض له بالشراب، فقال ابو الهندي: احدهم يبصر القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع المعترض في است ابيه. ولقيه نصر بن سيار والي خراسان وهو يميد سكرا، فقال له: أفسدت مروءتك وشرفك! قال لو لم أفسد مرؤتي لم تكن أنت والي خراسان!. ومرض ابو الهندي، فلما وجد فقد الشراب جعل يبكي ويقول: رضيع المدام فارق الراح روحه ... فظلّ عليها مستهلّ المدامع أديرا عليّ الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم درّ المراضع وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكا؛ فاستعدى عليه وعلى ابنه، فهرب منه، وقال فيه ابو الهندي: قل للسّريّ ابن هند ظلت تواعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا أبا الوليد أما واللَّه لو عملت ... فيك الشّمول لما فارقتها أبدا «3» ولا نسيت حميّاها ولذّتها ... ولا عدلت بها مالا ولا ولدا «4» وشرب أبو الهندي في غرفة مع نديم له، فاطّلع منها فإذا بميّت يزفّ به على

المأمون وابن مسعدة

شرجع «1» ، فالتفت إلى صاحبه فقال: اصبب على قلبك من بردها ... إني أرى الناس يموتونا فكان هذا القول منه [أمارة] على [عدم] اتعاظه بالموت. وقال عبد الرحمن بن ام الحكم: وكأس ترى بين الأثافي وبينها ... قذى العين، قد نازعت أمّ أبان «2» ترى شاربيها حين يعبق ريحها ... يميلان أحيانا ويعتدلان فما ظنّ ذا الواشي بأروع ماجد ... وعذراء خود حين يلتقيان ... دعتني اخاها أمّ مرو ولم أكن ... اخاها ولم أرضع لها بلبان دعتني اخاها بعد ما كان بيننا ... من الامر ما لا يفعل الاخوان وقال: لا هنيئا بما شربت مريئا ... ثم قم صاغرا وغير كريم لا أحبّ النّديم يومض بالعي ... ن إذا ما انثنى لعرس النديم المأمون وابن مسعدة وقال ابو العباس المبرد: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون، وبين يديه جام «3» زجاج فيه سكر طبزذ وملح جريش؛ قال: فسلمت عليه، فردّ وعرض عليّ الاكل، فقلت: ما أريد شيئا هنأك اللَّه يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت الغداء قال: بتّ جائعا؟ ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول: اعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واعزم على من أبى واشكر لمن أكلا ولا تكن سابريّ العرض محتشما ... من القليل فلست الدهر محتفلا «4»

المأمون وابن أكثم وابن طاهر

ودعا برطل، ودخل شيخ من جلة الفقهاء فمدّ يده إليه، فقال: واللَّه يا امير المؤمنين ما شربتها ناشئا، فلا تسقنيها شيخا. فردّ يده إلى عمرو بن مسعدة، فأخذها منه وقال: يا امير المؤمنين، [اللَّه! اللَّه!] فإني عاهدت اللَّه في الكعبة ان لا أشربها أبدا! ففكر طويلا والكأس في يد عمرو بن مسعدة. فقال: ردّا عليّ الكأس إنكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد خوّفتماني اللَّه ربّكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي المأمون وابن أكثم وابن طاهر شرب المأمون ويحيى بن أكثم وعبد اللَّه بن، فتغامز المأمون وعبد اللَّه على سكر ابن يحيى، فغمز الساقي، فأسكره، وكان بين أيديهم رزم «1» من ورد ورياحين، فأمر المأمون فشق له لحد في الورد والرياحين، وصيروه فيه، وعمل بيتين في شعر ودعا قينة، فجلست عند رأسه وحرّكت العود وغنت: ناديته وهو حيّ لا حراك به ... مكفّن في ثياب من رياحين فقلت قم، قال رجلي لا تطاوعني ... فقلت خذ، قال كفي لا تواتيني فانتبه يحيى لرنة العود، وقال مجيبا لها: يا سيّدي وأمير الناس كلّهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدّين لا أستطيع نهوضا قد وهى جسدي ... ولا أجيب المنادى حين يدعوني فاختر لبغداد قاض إنني رجل ... الراح يقتلني والعود يحييني!

وعود السكارى

وعود السكارى حدثنا ابو جعفر البغدادي قال: كان بالجزيرة رجل يبيع نبيذا في ناجود «1» له وكان بيته من قصب، وكان يأتيه قوم يشربون عنده، فإذا عمل فيهم الشراب قال بعضهم لبعض: أما ترون بيت هذا النّبّاذ من قصب! فيقول بعضهم: عليّ الآجر! ويقول الآخر: علي الجصّ! ويقول الآخر: عليّ اجرة العامل! فإذا اصبحوا لم يعملوا شيئا. فلما طال ذلك على النبّاذ قال: لنا بيت يهدم كلّ يوم ... ويصبح حين يصبح جذم خصّ «2» إذا ما دارت الاقداح قالوا ... غدا نبني بآجرّ وجصّ «3» وكيف يشيّد البنيان قوم ... يمرّون الشتاء بغير قمص! حارثة بن بدر وزياد ودخل حارثة بن بدر على زياد وبوجهه أثر فقال له: ما هذا؟ قال. ركبت فرسي الاشقر فصرعني. قال: أما إنك لو ركبت الاشهب ما صرعك. أراد حارثة بالاشقر: النبيذ! وأراد زياد بالاشهب: اللبن. وكان قيس بن عاصم يأتيه في جاهليته تاجر خمر، فيبتاع منه، ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ ما عنده؛ فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرا قبيحا، فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم بشيء، ثم انتهب مال الخمار، وأنشأ يقول: من تاجر فاجر جاء الاله به ... كأن لحيته أذناب أجمال جاء الخبيث ببيسانية تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال «4» فلما صحا أخبر بما صنع، وما قال، فآلى ان لا يذوق خمرا أبدا.

وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله؛ قال المأمون: يا نطف الخمار. وترائع الظئور، وأشباه الخئولة. وقال الشاعر: لمّا رأيت الحظّ حظّ الجاهل ... ولم أر المغبون غير العاقل رحلت عيسا من كروم بابل ... فبتّ من عقلي على مراحل! «1» وقال آخر يصف السكر: أقبلت من عند زياد كالخرف ... أجرّ رجلي بخطّ مختلف كأنما يكتبان لام الف وقال آخر يصف السكر: شربنا شربة من ذات عرق ... بأطراف الزّجاج من العصير وأخرى بالمروّح، ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير كأن الدّيك ديك بني تميم ... أمير المؤمنين على السرير كأنّ دجاجهم في الدّار رقطا ... بنات الرّوم في قمص الحرير فبتّ أرى الكواكب دانيات ... ينلن أنامل الرّجل القصير أدافعهن بالكفّين عنّي ... وألثم لبّة القمر المنير «2» وقال الشاعر: دع النبيذ تكن عدلا، وإن كثرت ... فيك العيوب، وقل ما شئت يحتمل هو المشيد بأخبار الرجال؛ فما ... يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا كم زلّة من كريم ظلّ يشهرها ... من دونها تستر الابواب والكلل أضحت كنار على علياء موقدة ... ما يستسنّ لها سهل ولا جبل والعقل عقل مصون لو يباع لقد ... ألفيت بياعه أضعاف ما سألوا

من حد من الاشراف في الخمر وشهر بها

فاعجب لقوم مناهم في عقولهم ... أن يذهبوها بعلّ بعده نهل «1» قد عقدت بخمار الكأس ألسنهم ... عن الصواب ولم يصبح بها علل وزرّرت بسنات النوم أعينهم ... كأنّ أحداقها حول وما حولوا تخال رائحهم من بعد غدوتهم ... حبلى أضرّ بها في مشيها الحبل فإن تكلّم لم يقصد لحاجته ... وإن مشى قلت مجنون به خبل وقال: أخو الشّراب ضائع الصلاة ... وضائع الحرمة والحاجات وحاله من أقبح الحالات ... في نفسه والعرس والبنات أفّ له، أف، إلى أفّات ... خمسة آلاف مؤلفات من حدّ من الاشراف في الخمر وشهر بها منهم يزيد بن معاوية، وكان يقال له: يزيد الخمور وبلغه أن مسور بن مخرمة يرميه بشرب الخمر، فكتب إلى عامله بالمدينة ان يجلد مسورا حدّ الخمر، ففعل؛ فقال مسور: أيشربها صرفا بطين دنانها ... أبو خالد ويضرب الحدّ مسور؟ «2» وممن حدّ في الشراب: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان بن عفان لامه؛ شهد أهل الكوفة عليه انه صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران ثم التفت إليهم فقال: إن شئتم زدتكم! فجلده عليّ بن ابي طالب بين يدي عثمان وفيه يقول الحطيئة- وكان نديمه أبو زيد الطائي: شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيرا ولا يدري

ليزيدهم خيرا، ولو قبلوا ... لجمعت بين الشّفع والوتر «1» كبحوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري! ومنهم عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، شرب بمصر، فحدّه هناك عمرو بن العاص سرّا؛ فلما قدم على عمر جلده حدّا اخر علانية!. ومنهم العباس [بن علي] بن عبد اللَّه بن عباس، كان ممن شهر بالشراب ومنادمة الاخطل، وفيه يقول الاخطل: ولقد غدوت على التّجار بمنبج ... هرّت عواذله هرير الأكلب «2» لباس أردية الملوك يروقه ... من كلّ مرتقب عيون الرّبرب «3» ومنهم قدامة بن مظعون، من اصحاب رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، جلده عمر بن الخطاب بشهادة علقمة الخصي وغيره في الشراب. ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شحمة، حدّه أبوه في الشراب وفي أمر أنكره عليه؛ [فمات تحت حدّه] !. ومنهم عبد اللَّه بن عروة بن الزبير، حدّه هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب. ومنهم عاصم بن عمر بن الخطاب، حدّه بعض ولاة المدينة في الشراب. ومنهم عبد العزيز بن مروان، حده عمرو [بن سعيد] الأشدق. وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة الأشعري، وفيه يقول يحيى بن نوفل الحميري: وأمّا بلال فذاك الذي ... يميل الشراب به حيث مالا

يبيت يمصّ عتيق الشراب ... كمصّ الوليد يخاف الفصالا «1» ويصبح مضطربا ناعسا ... تخال من السّكر فيه احولالا ويمشي ضعيفا كمشي النزيف ... تخال به حين يمشي شكالا» وممن شهر بالشراب عبد الرحمن بن عبد اللَّه الثقفي القاضي بالكوفة، وفضح بمنادمة سعد بن هبّار، وفيه يقول حارثة بن بدر: نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبّار ما يسمع الناس أصواتا لهم عرضت ... إلا دويّا، دويّ النحل في الغار يدين أصحابه فيما يدينهم ... كأسا بكأس وتكرارا بتكرار فأصبح الناس اطلاحا أضرّ بهم ... حث المطيّ وما كانوا بسفّار «3» ومنهم أبو محجن الثقفي، وكان مغرما بالشراب، وقد حده سعد بن أبي وقاص في الخمر مرارا، وشهد القادسية مع سعد، وأبلى فيها بلاء حسنا؛ وهو القائل: إذا مت فادفّني إلى ظلّ كرمة ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني في الفلاة، فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ثم حلف بالقادسية ألا يشرب خمرا أبدا، وأنشأ يقول: إن كانت الخمر قد عزّت وقد منعت ... وحال من دونها الإسلام والحرج فقد أباكرها صهباء صافية ... طورا، وأشربها صرفا وأمتزج «4» وقد تقوم على رأسي مغنّية ... فيها إذا رفعت من صوتها غنج فتخفض الصوت أحيانا وترفعه ... كما يطنّ ذباب الرّوضة الهزج ومنهم عبد الملك بن مروان، وكان يسمى حمامة المسجد، لاجتهاده في العبادة قبل

الخلافة؛ فلما أفضت إليه الخلافة شرب الطّلاء «1» . وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت بعدي الطلا؟ فقال: إي واللَّه، وقتلت النفس!. ومنهم الوليد بن يزيد، ذهب به الشراب كل مذهب حتى خلع وقتل؛ وهو القائل: خذوا ملككم لا ثبّت اللَّه ملككم ... ثباتا يساوي ما حييت عقالا «2» دعوا لي سليمى والنّبيذ وقينة ... وكأسا، ألا حسبي بذلك مالا أبالملك أرجو أن أخلّد فيكم؟ ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا وسقى قوم أعرابية مسكرا، فقالت: أيشرب نساؤكم مثل هذا؟ قالوا: نعم. قالت: فما يدري أحدكم من أبوه!. ومنهم إبراهيم بن هرمة، وكان مغرما بالشراب، وحدّه عليه جماعة من عمال المدينة، فلما الحوا عليه وضاق ذرعه بهم، دخل إلى المهدي بشعره الذي يقول فيه: له لحظات عن خفافي سريرة ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل «3» لهم تربة بيضاء من آل هاشم ... إذا اسودّ من لؤم التراب القبائل إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أتى ... وإن قال: إني فاعل، فهو فاعل فأعجب المهدي بشعره، وقال: سل حاجتك. قال: تأمر لي بكتاب إلى عامل المدينة أن لا يحدّني على شراب! فقال له: ويلك! كيف نأمر بذلك؟ لو سألتني عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت. قال: يا أمير المؤمنين لو عزلت عامل المدينة ووليتني مكانه أما كنت تعزلني أيضا وتولي غيري؟ قال: بلى قال: فكنت أرجع إلى سيرتي الاولى [فأحدّ] .. فقال المهدي لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة، وما

الفرق بين الخمر والنبيذ

عندكم [فيها] من التلطف؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه يطلب ما لا سبيل إليه. إسقاط حدّ من حدود اللَّه، قال المهدي: إن عندي له حيلة، إذا أعيتكم حيلته؛ اكتبوا إلى عامل المدينة: من اتاك بابن هرمة سكران فاضرب ابن هرمة ثمانين واضرب الذي يأتيك به مائة! فكان ابن هرمة إذا مشى في أزقة المدينة، يقول: من يشترى مائة بثمانين ... ؟. وكان بأمج رجل يقال له حميد، وكان مفتونا بالخمر، فهجاه ابن عم له: حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشّيبة الأصلع «1» علاه المشيب على شربها ... وكان كريما- فما ينزع ودخل حميد يوما على عمر بن عبد العزيز، فقال له: من أنت؟ قال: أنا حميد. قال: حميد الذي....؟ قال: واللَّه يا أمير المؤمنين ما شربت مسكرا منذ عشرين سنة، فصدّقه بعض جلسائه؛ فقال له: إنما داعبناك. الفرق بين الخمر والنبيذ الخمر والنبيذ أول ذلك ان تحريم الخمر مجمع عليه لا اختلاف فيه بين اثنين من الائمة والعلماء، وتحريم النبيذ مختلف فيه بين الاكابر من اصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم والتابعين، حتى لقد اضطر محمد بن سيرين مع علمه وورعه أن يسأل عبيدة السّلماني عن النبيذ، فقال له عبيدة: اختلف علينا فى النبيذ. وعبيدة ممن أدرك أبا بكر وعمر؛ فما ظنك بشيء اختلف فيه الناس وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام متوافرون، فمن بين مطلق له ومحظر عليه، وكل واحد منهم مقيم الحجج لمذهبه والشواهد على قوله؟. والنبيذ كل ما ينبذ في الدّبّاء «2» والمزفّت فاشتد حتى يسكر كثيره، وما لم يشتد

فلا يسمى نبيذا، كما أنه ما لم يعمل من عصير العنب حتى يشتد لا يسمى خمرا، كما قال الشاعر: نبيذ إذا مرّ الذّباب بدنّه ... تقطّر أو خرّ الذباب وقيذا «1» وقيل لسفيان الثوري وقد دعا بنبيذ فشرب منه ووضعه بين يديه: يا أبا عبد اللَّه، أتخشى الذباب أن يقع في النبيذ؟ قال: قبحه اللَّه إن لم يذبّ عن نفسه!. وقال حفص بن غياث: كنت عند الاعمش وبين يديه نبيذ، فاستأذن عليه قوم من طلبة الحديث، فسترته، فقال لي: لم سترته؟ فكرهت أن أقول: لئلا يراه من يدخل، فقلت: كرهت أن يقع فيه الذباب. فقال لي: هيهات إنه أمنع من ذلك جانبا!. ولو كان النبيذ هو الخمر التي حرمها اللَّه في كتابه، ما اختلف في تحريمه اثنان من الأمة. حدث محمد بن وضّاح قال: سألت سحنونا، فقلت: ما تقول فيمن حلف بطلاق زوجته أن المطبوخ من عصير العنب هو الخمر التي حرمها اللَّه في كتابه؟ قال: بانت «2» زوجته منه. وذكر ابن قتيبة في كتاب الاشربة ان اللَّه تعالى حرّم علينا الخمر بالكتاب، والمسكر بالسنة، فكان فيه فسحة؛ فما كان محرّما بالكتاب فلا يحل منه لا قليل ولا كثير، وما كان محرّما بالسّنة فإن فيه فسحة أو بعضه، كالقليل من الديباج والحرير يكون في الثوب، والحرير محرّم بالسنة؛ وكالتفريط في صلاة الوتر وركعتي الفجر، وهما سنة؛ فلا نقول إن تاركها كتارك الفرائض من الظهر والعصر. وقد استأذن عبد الرحمن بن عوف رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم في لباس الحرير لبليّة كانت به.

مناقشة ابن قتيبة في قوله في الاشربة

وأذن لعرفجة بن سعد- وكان أصيب أنفه يوم الكلاب- باتخاذ أنف من الذهب. وقد جعل اللَّه فيما أحلّ عوضا مما حرّم، فحرّم الربا وأحل البيع، وحرم السفاح «1» وأحل النكاح، وحرم الديباج «2» وأحل الوشي، وحرم الخمر وأحل النبيذ غير المسكر؛ والمسكر منه ما أسكرك. مناقشة ابن قتيبة في قوله في الاشربة قال في كتابه: فإن قال قائل: إن المنكر هي الشربة المسكرة، اكذبه النظر؛ لان القدح الاخير إنما أسكر بالاول، وكذلك اللقمة الاخيرة إنما اشبعت بالاولى. ومن قال السكر حرام، قال: فإنما ذلك مجاز من القول، وإنما يريد: ما يكون منه السكر حرام، وكذلك التخمة حرام. وهذا الشاهد الذي استشهد به في تحريمه قليل ما أسكر كثيره، وتشبيهه ذلك بالتخمة- شاهد عليه لا شاهد له؛ لأن الناس مجمعون على أن قليل الطعام الذي تكون منه التخمة، حلال؛ وأن التخمة حرام؛ وكذلك ينبغي ان يكون قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالا، وكثيره حراما، وأن الشربة الاخيرة المسكرة هي المحرّمة. ومثل الاربعة أقداح التي يسكر منها القدح الرابع، مثل أربعة رجال اجتمعوا على رجل، فشجّه احدهم موضحة «3» ، ثم شجه الثاني منقلة «4» ، ثم شجه الثالث مأمومة «5» ، ثم أقبل الرابع فأجهز عليه؛ فلا نقول إن الاول، هو قاتله، ولا الثاني، ولا الثالث، وإنما قتله الرابع الذي اجهز عليه وعليه القود «6» .

خمور البلاد

وذكر ابن قتيبة في كتابه: بعد ان ذكر اختلاف الناس في النبيذ وما أدلى به كل قوم من الحجة، فقال: وأعدل القول عندي ان تحريم الخمر بالكتاب، وتحريم النبيذ بالسنة. وكراهية ما تغيّر وخدّر من الاشربة تأديب ... ثم زعم في هذا الكتاب بعينه أن الخمر نوعان: فنوع منهما أجمع على تحريمه: وهو خمر العنب من غير ان تمسه نار، لا يحل منه لا قليل ولا كثير؛ ونوع آخر مختلف فيه، وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد، ونبيذ التمر إذا صلب، ولا يسمى سكرا إلا نبيذ التمر خاصة. وقال بعض الناس: نبيذ التمر حل وليس بخمر واحتجوا بقول عمر: فما انتزع بالماء فهو حلال، وما انتزع بغير الماء فهو حرام. قال ابن قتيبة: وقال آخرون: هو خمر حرام كله. وهذا هو القول عندي؛ لأن تحريم الخمر نزل وجمهور الناس مختلفة، وكلها يقع عليها هذا الإسم في ذلك الوقت. خمور البلاد وذكر ان ابا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر اهل فارس من العنب، وخمر اهل اليمن من البتع، وهو نبيذ العسل؛ وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة؛ وخمر التمر يقال له: البتع، والفضيخ. مم يصنع الخمر وذكر ان عمر قال: الخمر من خمسة أشياء: من البر، والشعير، والتمر، والزبيب. والعسل. والخمر ما خامر العقل. ولأهل اليمن أيضا شراب من الشعير يقال له المزر. ويزعم ههنا ابن قتيبة ان هذه الاشربة كلها خمر، وقال: هذا هو القول عندي. وقد تقدم له في صدر الكتاب ان النبيذ لا يسمى نبيذا حتى يشتدّ ويسكر كثيره، كما أن

احتجاج المحرمين لقليل النبيذ وكثيره

عصير العنب لا يسمى خمرا حتى يشتد. وان صدر هذه الامة والائمة في الدين لم يختلفوا في شيء كاختلافهم في النبيذ وكيفيته ... ثم قال فيما حكم بين الفريقين: أما الذين ذهبوا إلى تحريمه كلّه ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ التمر، وبين ما طبخ وبين ما أنقع، فإنهم غلوا في القول جدا، ونحلوا قوما من أصحاب رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم وسلم البدريّين، وقوما من خيار التابعين، وائمة من السلف المتقدمين، شرب الخمر، وزيّنوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل وغلطوا في ذلك، فاتهموا نظرهم ونحلوهم الخطأ، وبرّءوا أنفسهم منه. فعجبت منه كيف يعيب هذا المذهب، ثم يتقلده، ويطعن على قائله ثم يقول به! إلا اني نظرت إلى كتابه، فرأيته قد طال جدا. فاحسبه أنسي في آخره ما ذهب اليه في أوله؛ والقول الاول من قوله هو المذهب الصحيح الذي تأنس إليه القلوب وتقبله العقول، لا قوله الآخر الذي غلط فيه!. احتجاج المحرمين لقليل النبيذ وكثيره ذهبوا اجمعون إلى ان ما اسكر كثيره من الشراب فقليله حرام كتحريم الخمر وقال بعضهم: بل هو الخمر بعينها، ولم يفرقوا بين ما طبخ وبين أنقع، وقضوا عليه كله أنه حرام؛ وذهبوا من الاثر إلى حديث رواه عبد اللَّه بن قتيبة عن محمد بن خالد ابن خداش عن ابيه عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أن رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر» . وحديث رواه ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه عن المعتمر بن سليمان عن ميمون بن مهدي عن أبي عثمان الانصاري عن القاسم عن عائشة: ان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام» .

مكاييل العرب

مكاييل العرب والفرق ستة عشر رطلا. وللعرب أربعة مكاييل مشهورة: أصغرها المدّ وهو رطل وثلث في قول الحجازيين، ورطلان في قول العراقيين. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ بالمدّ. والصاع: وهو أربعة أمداد، خمسة أرطال وثلث في قول الحجازيين، وثمانية أرطال في قول العراقيين. وكان رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يغتسل بالصاع. والقسط: وهو رطلان وثلثان في قول الناس جميعا. والفرق: وهو ستة عشر رطلا، ستة أقساط في قول الناس أجمعين. ... وذهبوا إلى حديث رواه ابن قتيبة عن محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة: أن رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» . مع أشياء كهذا من الحديث، يطول الكتاب باستقصائها إلا أن هذه أغلظها في التحريم وأبعدها من حيلة المتأوّل. قالوا: والشاهد على ذلك من النظر، أن الخمر إنما حرّمت لإسكارها وجناياتها على شاربها، ولأنها رجس كما قال اللَّه. ثم ذكروا من جنايات الخمر ما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا من آفات الخمر وجناياتها، ثم قالوا: والعلة التي لها حرمت الخمر من الإسكار والصداع والصد عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، قائمة بعينها في النبيذ كلّه المسكر، فسبيله سبيل الخمر، لا فرق بينهما في الدليل الواضح والقياس الصحيح؛ كما أن حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم في الفأرة إذا وقعت في السمن: أنه إن كان جامدا ألقيت وألقي ما حولها، وإن كان جاريا أريق السمن؛ فحملت العلماء الزيت ونحوه محمل السمن بالدليل الصحيح. وعلمت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقصد إلى السمن خاصة بنجس الفأرة، وإنما سئل عن الفأرة تقع في السمن فأفتى فيه، فقاس العلماء الزيت وغيره بالسمن ...

رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار في الأنبذة

.. وكما أمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار للتنقية من الأذى، فأجازوا كل ما أنقى من الخزف والخرق وغير ذلك، وحملوه محمل الأحجار الثلاثة، ولما حرمت الخمر بعلّة هي قائمة في النبيذ المسكر، حمل النبيذ محمل الخمر في التحريم. قالوا: ووجدناهم يقولون لمن غلب عليه غنث «1» النفس وصداع الرأس من الخمر: مخمور، وبه خمار، ويقال مثل ذلك في شارب النبيذ، ولا يقولون: منبوذ ولا به نباذ. والخمار مأخوذ من الخمر، كما يقال الكباد في وجع الكبد، والصدار في وجع الصدر. ... وذهبوا في تحريم النبيذ إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه نهى أن ينبذ في الدباء والمزفّت «2» . ... وقالوا: لمن أجاز قليل ما أسكر كثيره: إنه ليس بين شارب المسكر وموافقة السكر حد ينتهى إليه ولا يوقف عنده، ولا يعلم شارب المسكر متى يسكر، كما لا يعلم الناس متى يرقد؛ وقد يشرب الرجل من الشراب المسكر قدحين وثلاثة أقداح ولا يسكر، ويشرب منه غيره قدحا واحدا فيسكر؛ لأنه قد يختلف طبع الرجل في نفسه، فيسكر مرة من القدحين، ويشرب مرة أخرى ثلاثة أقداح فلا يسكر. رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار في الأنبذة «أما بعد فإن الناس كان منهم في هذا الشراب المحرّم أمر ساءت فيه رعة «3» كثير منهم، [وجمعوا مما يغشون به مما حرم اللَّه حراما كثيرا نهوا عنه] عند سفه أحلامهم، وذهاب عقولهم، فاستحلّ به الدم الحرام، والفرج الحرام؛ وأن رجالا

احتجاج المحلين للنبيذ كله

منهم ممن يصيب ذلك الشراب يقولون: شربنا طلاء، فلا بأس علينا في شربه! ولعمري فيما قرّب مما حرّم اللَّه بأسا، وإن في الأشربة التي أحل اللَّه، ومن العسل والسويق، والنبيذ والتمر، لمندوحة عن الأشربة الحرام، غير أن كل ما كان من نبيذ العسل والتمر والزبيب فلا ينبذ إلا في أسقية الأدم التي لازفت فيها، ولا يشرب منها ما يسكر! فإنه بلغنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى عن شرب ما جعل في الجرار والدّباء والظروف المزفتة، وقال: «كل مسكر حرام» ؛ فاستغنوا بما أحلّ لكم عما حرّم عليكم؛ وقد أردت بالذي نهيت عنه من شرب الخمر وما ضارع الخمر من الطلاء، وما جعل في الدباء والجرار والظروف المزفتة، وكل مسكر- اتخاذ الحجة عليكم؛ فمن يطع منكم فهو خير له، ومن يخالف إلى ما نهى عنه نعاقبه على العلانية، ويكفينا اللَّه ما أسرّ، فإنه على كل شيء رقيب؛ ومن استخفى بذلك عنا فإن اللَّه أشد بأسا وأشد تنكيلا!» . احتجاج المحلين للنبيذ كله قال المحلّون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ: إنما حرّمت الخمر بعينها، خمر العنب خاصة، بالكتاب، وهي معقولة مفهومة، لا يمتري «1» فيها أحد من المسلمين، وإنما حرمها اللَّه تعبّدا، لا لعلة الإسكار كما ذكرتم، ولا لأنها رجس كما زعمتم؛ ولو كان ذلك كذلك لما أحلها اللَّه للأنبياء المتقدمين، والأمم السالفين، ولا شربها نوح بعد خروجه من السفينة، ولا عيسى ليلة رفع، ولا شربها أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدر الإسلام. وأما قولكم إنها رجس، فقد صدقتم في اللفظ وغلطتم في المعنى؛ إذا كنتم أردتم أنها منتنة؛ فإن الخمر ليست منتنة، ولا قذرة ولا وصفها أحد بنتن ولا قذر وإنما جعلها اللَّه رجسا بالتحريم، كما جعل الزنا فاحشة ومقتا «2» ، أي معصية وإثما

بالتحريم؛ وإنما هو جماع كجماع النكاح، وهو عن تراض وبذل، كما أن النكاح عن تراض وبذل؛ وقد يبذل في السفاح ما لا يبذل في النكاح؛ ولذلك سمّى اللَّه تبارك وتعالى المحرّمات كلها خبائث فقال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «1» ؛ وسمى المحلّلات كلها طيبات، فقال: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ «2» ؛ وسمى كل ما جاوز أمره أو قصر عنه سرفا، وإن اقتصد فيه. وقد ذكر الخمر فيما امتنّ به على عباده قبل تحريمها. فقال تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً «3» . ولو أنها رجس على ما تأولتم ما جعلها اللَّه في جنته وسماها لذة للشاربين. وإن قلتم إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا، لأن اللَّه نفى عنها عيوب خمر الدنيا فقال تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ «4» ، فكذلك قوله في فاكهة الجنة: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ «5» . فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا، لأنها تأتي في وقت وتنقطع في وقت، ولأنها ممنوعة إلا بالثمن، ولها آفات كثيرة، وليس في فواكه الجنة آفة. وما سمعنا أحدا وصف الخمر إلا بضد ما ذكرتم، من طيب النسيم، وذكاء الرائحة. وقال الأخطل: كأنها المسك نهبى بين أرحلنا ... وقد تضوّع من ناجودها الجاري «6» وقال آخر: فتنفّست في البيت إذ مزجت ... كتنفّس الرّيحان في الأنف وقال أبو نواس: نحن نخفيها فيأبى ... طيب ريح فتفوح

.. وإنما قوله فيها رجس، كقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» أي كفرا إلى كفرهم. وأما منافعها التي ذكرها اللَّه تعالى في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما «2» فإنها كثيرة لا تحصى: فمنها أنها تدرّ الدم، وتقوّي المعدة، وتصفي اللون، وتبعث النشاط، وتفتق اللسان، ما أخذ منها بقدر الحاجة ولم يجاوز المقدار، فإذا جاوز ذلك عاد نفعها ضررا. وقال ابن قتيبة في كتاب الأشربة: كانت بنو وائل تقول: الخمر حبيبة الروح، ولذلك اشتق لها اسم من الروح، فسميت راحا، وربما سميت روحا. وقال إبراهيم النظام: ما زلت آخذ روح الدّنّ في لطف ... وأستبيح دما من غير مذبوح «3» حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والدّنّ مطّرح، جسم بلا روح وقد تسمى دما، لأنها تزيد في الدم؛ قال مسلم بن الوليد الأنصاري: مزجنا دما من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منّا الدم الدم قال ابن قتيبة: وحدّثني الرياشي أن عبيدا راوية الأعشى قال: سألت الأعشى عن قوله: وسلافة مما تعتّق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها «4» فقال: شربتها حمراء، وبلتها بيضاء. يريد أن حمرتها صارت دما. ومن منافع الخمر أنها تزيد في القوّة، وتولد الحرارة، وتهيج الأنفة، وتسخّي البخيل، وتشجع الجبان.

قال حسان بن ثابت: ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء «1» وقال طرفة: وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كلّ أمون وطمرّ» ثم راحو عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هدّاب الأزر وقال مسلم بن الوليد: تصدّ بنفس الخمر عما يغمّه ... وتنطق بالمعروف ألسنة البخل «3» وقال الحسن بن هانىء: إذا ما أتت دون الّلهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل ومن تسخيتها للبخيل المجبول قول بعض المحدثين: كساني قميصا مرتين إذا انتشى ... وينزعه عني إذا كان صاحيا فلي فرحة في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا «4» فيا ليت حظّي من سروري وترحتي ... ومن جوده ألّا عليّ ولا ليا «5» قالوا: ولولا أن اللَّه تعالى حرّم الخمر في كتابه لكانت سيدة الأشربة؛ وما ظنك بشراب الشربة الثانية منه أطيب من الأولى، والثالثة أطيب من الثانية، حتى يؤدّيك إلى أرفق الأشياء وهو النوم؛ وكل شراب سواها فالشربة الأولى أطيب من الثانية، والثانية أطيب من الثالثة، حتى تمله وتكرهه!

وسقى قوم أعرابيا كئوسا، ثم قالوا: كيف تجدك؟ قال: أجدني أسرّ، وأجدكم تحبّبون إليّ. وقالوا: ما حرّم اللَّه شيئا إلا عوّضنا ما هو خير منه أو مثله، وقد جعل اللَّه النبيذ عوضا من الخمر، نأخذ منه ما يطيب النفس، ويصفي اللون، ويهضم الطعام، ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل، ويصدع الرأس، ويغثي النفس، ويشرك الخمر في آفاتها وعظيم خبائثها. قالوا: وأما قولكم إن الخمر كلّ ما خمر، والنبيذ كله يخمّر فهو خمر، فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني، فتسمى ببعضها لعلة فيها وهي في آخر، ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر؛ ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبة تلقى فيه، ولا بسمى خمرا؟ وأن العجين قد يخمر فيسمى خميرا ولا يسمى خمرا؟ وأن نقيع التمر يسمى سكرا لإسكاره، ولا يسمى غيره من النبيذ سكرا وإن كان مسكرا؟ وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به؛ وقد رأيت اللبن يسكر إسكار كسكر النبيذ، ويقال: قوم ملبونون وقوم روبى، إذا شربوا الرائب فسكروا منه؛ وقال بشر بن أبي حازم: فأما تميم تميم بن مرّ ... فألفاهم القوم روبى نياما وأما قولكم: الرجل مخمور، وبه خمار، إذا أصابه صداع من الخمر؛ وقد يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ، فيقال: به خمار، ولا يقال به نباذ؛ فإن حجتنا في ذلك أن الخمار إنما يكون مما أسكر من النبيذ، وذلك حرام، لا فرق بينه وبين الخمر عندنا، فيقال فيه: ما يقال في الخمر، وإنما كان شربة «1» النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء، ومما لا يعرض منه خمار. وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر، فقال الأقيشر، وكان مغرما بالشراب: وصبهاء جرجانية لم يطف بها ... حنيف، ولم تنغر بها ساعة قدر «2»

أدعياء النسك:

أتاني بها يحيي وقد نمت نومة ... وقد غارت الشّعرى وقد خفق النّسر «1» فقلت اصطبحها أو لغيري فأهدها ... فما أنا بعد الشّيب ويلك والخمر! إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر فدعه ولا تنكر عليه الذي أتى ... وإن جرّ أرسان الحياة له الدهر فأعلمك أن الخمر هي التي لم تغل بها القدور. أدعياء النسك: وأما قول بعض الشعراء في شاربي النبيذ وما عابوهم به من قلة الوفاء ونقض العهد، فقد قالوا أقبح من ذلك في تارك النبيذ، قال حيص بيص: ألا لا يغرنك ذو سجدة ... يظلّ بها دائما يخدع [كأن بجبهته حيلة ... يسبّح طورا ويسترجع] وما للتّقى لزمت وجهه ... ولكن ليأتي مستودع ثلاثون ألفا حواها السّجود ... فليست إلى ربّها ترجع وردّ أخو الكأس ما عنده ... وما كنت في ردّه أطمع وقال آخر: أمّا النّبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء قوم يورّون عما في نفوسهم ... حتى إذا استمكنوا كانوا هم الدّاء مشمّرين إلى أنصاف سوقهم ... هم الذّئاب وقد يدعون قرّاء وقال أعرابيّ: صلّى فأزعجني وصام فراعني ... نحّ القلوص عن المصلّي الصائم! وقال: شمّر ثيابك واستعدّ لقائل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم

ومن احتجاج المحلين للنبيذ

وامش الدبيب إذا مشيت لحاجة ... حتى تصيب وديعة ليتيم «1» وقال بعض الظرفاء: أظهروا واللَّه سمتا ... وعلى المنقوش داروا «2» وله صلّوا وصاموا ... وله حجّوا وزاروا لو يرى فوق الثّريّا ... ولهم ريش لطاروا! فهؤلاء المراءون بأعمالهم، العاملون للناس والتاركون للناس، هم شرار الخلق وأراذل البرية. وقد فضل شربة النبيذ عليهم بإرسال الأنفس على السجية، وإظهار المروءة ولست أصف بهذا منهم إلا دينا، فليس في الناس صنف إلا ولهم حشو. ومن احتجاج المحلين للنبيذ ما رواه مالك بن أنس في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري: أنه قدم من سفر فقدّم إليه لحم من لحوم الأضاحي، فقال: ألم يكن رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم نهاكم عن هذا بعد ثلاثة أيام؟ فقالوا: قد كان بعدك من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها أمر. فخرج إلى الناس فسألهم، فأخبروه أن رسول اللَّه قال: «كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادّخروا وتصدقوا؛ وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والمزفّت، فانتبذوا وكل مسكر حرام؛ وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ولا تقولوا هجرا» . والحديثان صحيحان، رواهما مالك بن أنس وأثبتهما في موطئه، وإنما هو ناسخ ومنسوخ؛ وإنما كان نهيه أن ينتبذ في الدباء والمزفت، نهيا عن النبيذ الشديد؛ لأن الأشربة فيهما تشتد؛ ولا معنى للدباء والمزفت غير هذا. وقوله بعد هذا: «كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام» - إباحة لما كان حظر عليهم من النبيذ الشديد. وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل مسكر حرام» ، ينهاكم بذلك أن تشربوا حتى

تسكروا، وإنما المسكر ما أسكرك، ولا يسمى القليل الذي لا يسكر مسكرا، ولو كان ما يسكر كثيره يسمى قليله مسكرا، ما أباح لنا منه شيئا: والدليل على ذلك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شرب من سقاية العباس، فوجده شديدا، فقطب بين حاجبيه، ثم دعا بذنوب «1» من ماء زمزم فصب عليه، ثم قال: إذا اغتلمت «2» أشربتكم فاكسروها بالماء. ولو كان حراما لأراقه، ولما صب عليه ماء ثم شربه. وقالوا في قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل مسكر خمر» : هو ما أسكر الفرق «3» منه فملء الكف حرام؛ فإن هذا كله منسوخ، نسخه شربه للصّلب «4» يوم حجة الوداع. قالوا: ومن الدليل على ذلك أنه كان ينهى وفد عبد القيس عن شرب المسكر فوفدوا إليه بعد، فرآهم مصفرة ألوانهم، سيئة حالهم؛ فسألهم عن قصتهم، فأعلموه أنه كان لهم شراب فيه قوام أبدانهم فمنعهم من ذلك؛ فأذن لهم في شربه. ... وأن ابن مسعود قال: شهدنا التحريم وشهدتم، وشهدنا التحليل وغبتم. وأنه كان يشرب الصّلب من النبيذ التمر، حتى كثرت الروايات به عنه وشهرت وأذيعت، وأتبعه عامة التابعين من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم: من ذا يحرّم ماء المزن خالطه ... في جوف خابية ماء العناقيد؟ «5» إني لأكره تشديد الرواة لنا ... فيه، ويعجبني قول ابن مسعود! وإنما أراد أنهم كانوا يعمدون إلى الرّب الذي ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فيزيدون عليه من الماء قدر ما ذهب منه، ثم يتركونه حتى يغلي ويسكن جأشه، ثم يشربونه. وكان عمر يشرب على طعامه الصلب، ويقول: يقطع هذا اللحم في بطوننا. واحتجوا بحديث زيد بن أخزم عن أبي داود عن شعبة عن مسعر بن كدام عن ابن

عون الثقفي عن عبد اللَّه بن شداد عن ابن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من كلّ شراب. وبحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم طاف وهو شاك «1» على بعير ومعه محجن «2» ، فلما مر بالحجر استلمه بالمحجن، حتى إذا انقضى طوافه نزل فصلى ركعتين ثم أتى السقاية «3» فقال: اسقوني من هذا. فقال له العباس: ألا نسقيك مما يصنع في البيوت؟ قال: لا، ولكن اسقوني مما يشرب الناس. فأتي بقدح من نبيذ فذاقه، فقطّب، وقال: هلمّوا فصبّوا فيه الماء. ثم قال: زد فيه، مرة أو مرتين أو ثلاثا. ثم قال: إذا صنع أحد بكم هذا فاصنعوا به هكذا. والحديث رواه يحيى بن اليمان عن الثوري عن منصور بن خالد عن سعيد عن ابن مسعود الأنصاري: أنّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عطش وهو يطوف بالبيت، فأتي بنبيذ من السقاية، فشمّه، فقطب، ثم دعا بذنوب من ماء زمزم، فصبّ عليه ثم شربه، فقال له رجل: أحرام هذا يا رسول اللَّه؟ فقال: لا. وقال الشعبي: شرب أعرابي من إداوة عمر «4» ، فانتشى، فحدّه عمر؛ وإنما حدّه للسكر لا للشراب. ودخل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه على قوم يشربون ويوقدون في الأخصاص؛ فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم، وعن الإيقاد في الأخصاص «5» فأوقدتم. وهمّ بتأديبهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نهاك اللَّه عن التجسس فتجسست،

مالك بن دينار والنبيذ

ونهاك عن الدخول بغير إذن فدخلت! فقال: هاتان بهاتين. وانصرف وهو يقول: كل الناس أفقه منك يا عمر! وإنما نهاهم عن المعاقرة وعن إدمان الشراب حتى يسكروا، ولم ينههم عن الشراب- وأصل المعاقرة من عقر الحوض، وهو مقام الشاربة- ولو كان عنده ما شربوا خمرا لحدّهم. وبلغه عن عامل له بميسان أنه قال: ألا أبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم «1» إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصنّاجة تشدو على كلّ منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلّم «2» لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا في الجوسق المتهدّم فقال: إي واللَّه، إنه ليسوءني ذلك! فعزله وقال: واللَّه لا عمل لي عملا أبدا! وإنما أنكر عليه المدام، وشربه بالكبير، والصنج، والرقص، وشغله باللهو عما فوّض إليه من أمور الرعية، ولو كان ما شرب عنده خمرا لحدّه. مالك بن دينار والنبيذ محمد بن وضاح عن سعيد بن نصر عن يسار عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار، وسئل عن النبيذ: أحرام هو؟ فقال: انظر ثمن التمر من أين هو، ولا تسأل عن النبيذ أحلال هو أم حرام! وعوتب سعيد بن زيد في النبيذ، فقال: أما أنا فلا أدعه حتى يكون شرّ عملي. وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟

قول وكيع

فقال: نعم. فقيل: وكيف تشربه؟ فقال: عند غذائي وعشائي، وعند ظمئي. قيل: فما تركت منه؟ قال: التّكأة «1» ومحادثة الإخوان. وقال المأمون: اشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا سهل عليك فدعه. وإنما أراد أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الإسكار. وقيل لسعيد بن أسلم: أتشرب النبيذ؟ فقال: لا. قيل: ولم؟ قال: تركت كثيره للَّه، وقليله للناس! وكان سفيان الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمّر منه وجنتاه. واحتجوا من جهة النظر، أن الأشياء كلها حلال إلا ما حرّم اللَّه؛ قالوا: فلا نزيل نفس الحلال بالاختلاف ولو كان المحلّلون فرقة من الناس، فكيف وهم أكثر الفرق؟ وأهل الكوفة أجمعون على التحليل، لا يختلفون فيه، وتلوا قول اللَّه عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ «2» . قول وكيع حدث إسحاق بن راهويه قال: سمعت وكيعا يقول: النبيذ أحلّ من الماء! وعابه بعض الناس في ذلك، وقالوا: كيف يكون أحلّ من الماء، وهو وإن كان حلالا فهو بمنزلة الماء؟

ابن إدريس الكوفي

وليس على وكيع في هذا الموضع عيب ولا يرجع عليه فيه كذب! لأن كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم، كما يقولون، هو أشهر من الصبح، وأسرع من البرق، وأبعد من النجم، وأحلى من العسل، وأحرّ من النار. ابن إدريس الكوفي ولم يكن أحد من الكوفيين يحرّم النبيذ غير عبد اللَّه بن إدريس، وكان بذلك معيبا. وقيل لابن إدريس: من خيار أهل الكوفة؟ فقال: هؤلاء الذين يشربون النبيذ! قيل: وكيف وهم يشربون ما يحرم عندك؟ قال: ذلك مبلغهم من العلم. وكان ابن المبارك يكره شرب النبيذ ويخالف فيه رأي المشايخ وأهل البصرة. وقال أبو بكر بن عياش: [قلت له] : من أين جئت بهذا القول في كراهيتك النبيذ ومخالفتك أهل بلدك؟ قال: هو شيء اخترته لنفسي. قلت: فتعيب من شربه؟ قال: لا. قلت: أنت وما اخترت. وكان عبد اللَّه بن داود يقول: ما هو عندي وماء الفرات إلا سواء. وكان يقول: أكره إدارة القدح، وأكره نقبع الزبيب، وأكره المعتّق. قال: ومن أدار القدح لم تجر شهادته. وشهد رجل عند سوّار القاضي، فردّ شهادته لأنه كان يشرب النبيذ؛ فقال: أمّا الشراب فإني غير تاركه ... ولا شهادة لي ما عاش سوّار

حديث الحارث بن كلدة طبيب العرب مع كسرى أنوشروان الفارسي

حدث شبابة قال: حدثني غسان بن أبي صباح الكوفي عن أبي سلمة يحيى بن دينار عن أبي المظهر الورّاق قال: بينما زيد بن عليّ في بعض أزقّة الكوفة: إذ مرّ به رجل من الشيعة، فدعاه إلى منزله، وأحضر طعاما؛ فتسامعت به الشيعة، فدخلوا عليه حتى غص المجلس بهم، فأكلوا معه، ثم استسقى، فقيل له: أيّ الشراب نسقيك يا بن رسول اللَّه؟ قال: أصلبه وأشدّه. فأتوه بعسّ من نبيذ، فشرب وأدار العس عليهم فشربوا؛ ثم قالوا: يا بن رسول اللَّه، لو حدثتنا في هذا النبيذ بحديث رويته عن أبيك عن جدّك؛ فإن العلماء يختلفون فيه! قال: نعم حدثني أبي عن جدي أنّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لتركبنّ طبقة بني إسرائيل حذو القذّة «1» بالقذّة والنعل بالنعل. ألا وإنّ اللَّه ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت، أحل منه الغرفة والغرفتين وحرّم منه الريّ؛ وقد ابتلاكم بهذا النبيذ، أحلّ منه القليل وحرّم منه الكثير. وكان أهل الكوفة يسمون النبيذ: نهر طالوت؛ وقال فيه شاعرهم: اشرب على طرب من نهر طالوت ... حمراء صافية في لون ياقوت من كفّ ساحرة العينين شاطرة ... تربي على سحر هاروت وماروت «2» لها تماويت ألحاظ إذا نظرت ... فنار قلبك من تلك التّماويت «3» حديث الحارث بن كلدة طبيب العرب مع كسرى أنوشروان الفارسي روي أن الحارث بن كلدة الثقفي وفد على كسرى أنوشروان، فأذن له بالدخول،

فانتصب بين يديه، فقال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن كلدة. قال: أعربيّ؟ قال: نعم، من صميمها. قال: فما صناعتك؟ قال: طبيب. قال: وما تصنع العرب بالطبيب مع جهلها، وضعف عقولها، وقلة قبولها، وسوء غذائها، فقال: ذلك أجدر أيها الملك، إذا كانت بهذه الصفة، أن تحتاج إله ما يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل أمشاجها «1» ؛ [فإن العاقل يعرف ذلك من نفسه] . قال الملك: وكيف لها بأن نعرف ما تورده عليها، ولو عرفت الحق لم تنسب إلى الجهل. قال: الحارث: أيها الملك، إن اللَّه جل اسمه قسم العقول بين العباد كما قسم الأرزاق، وأخذ القوم نصيبهم؛ ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم، وعاجز وحازم. قال الملك: فما الذي يحمد من أخلاقهم، ويحفظ من مذاهبهم؟ قال الحارث: لهم أنفس سخية، وقلوب جريّة، وعقول صحية مرضيّة، وأحساب نقية، يمرق الكلام من أفواههم مروق السهم العائر «2» ، ألين من الماء، وأعذب من الهواء؛ يطعمون الطعام، ويضربون الهام، وعزّهم لا يرام، وجارهم لا يضام، ولا يروّع إذا نام؛ لا يقرّون بفضل أحد من الأقوام، ما خلا الملك الهمام، الذي لا يقاس به أحد من الأنام! قال: فاستوى كسرى جالسا. ثم التفت إلى من حوله فقال: أطرى قومه، فلولا أن تداركه عقله لذمّ قومه، غير أني أراه ذا عمى. ثم أذن له بالجلوس. فقال: كيف بصرك بالطب؟ قال: ناهيك! قال: فما أصل الطب؟ قال: ضبط الشفتين، والرفق باليدين. قال: أصبت، فما الداء الدويّ «3» ؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، هو الذي أفنى البرية، وقتل السباع في البريّة. قال: أصبت. فما الجمرة التي تلهّب منها الأدواء؟ قال: هي التخمة، إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت. قال: فما تقول في إخراج الدم؟ قال: في نقصان الهلال، في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة، والسرور حاضر. قال: فما تقول في الحمّام؟ قال: لا تدخل الحمام شعبان، ولا تغش

أهلك سكران، ولا تنم بالليل عريان، وارفق بجسمك يكن أرجى لنسلك. قال: فما تقول في شرب الدواء؟ قال: اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة، فإذا أحسست بحركة الداء فاحسمه بما يردعه؛ فإن البدن بمنزلة الأرض، إن أصلحتها عمرت، وإن فسدتها خربت. قال: فما تقول في الشراب؟ قال: أطيبه أهناه، وأرقّه أمراه؛ ولا تشرب صرفا يورثك صداعا، ويثير عليك من الداء أنواعا. قال: فأي اللّحمان أحمد؟ قال: الضأن الفتّي، أسمنه وأبذله، واجتنب أكل القديد والمالح، والمعز والبقر. قال: فما تقول في الفاكهة. قال: كلها في إقبال دولتها واتركها إذا أدبرت وولت وانقضى زمانها؛ وأفضل الفاكهة الرمان والأترجّ، وأفضل البقول الهندبا والخس، وأفضل الرياحين الورد والبنفسج. قال: فما تقول في شرب الماء؟ قال: هو حياة البدن، وبه قوته، وينفع ما شرب منه بقدر، وشربه بعد النوم ضرر. وأفضل المياه مياه الأنهار العظام، أبرده وأصفاه. قال: فما طعمه؟ قال: شيء لا يوصف و [هو] مشتق من الحياة. قال: فما لونه؟ قال: اشتبه على الأبصار لونه، يحكي لون كل شيء يكون فيه. قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو؟ قال: أصله من حيث يشرب الماء. يعني رأسه. قال: فما هو النور تبصر به الأشياء؟ قال: العين مركبة من [ثلاثة] أشياء، فالبياض شحمة، والسواد مائع، [والناظر ريح] . قال: فعلى كم طبع هذا البدن؟ قال: أربع طبائع: على المرة السوداء، وهي باردة يابسة؛ والمرة الصفراء، وهي حارة يابسة؛ والدم، وهو حار رطب؛ والبلغم، وهو بارد رطب قال: فلم لم يكن من طبع واحد؟ قال: لو خلق من شيء واحد لم ينحل ولم يمرض ولم يمت. قال: فمن طبعين ما حال الاقتصار عليهما؟ قال: لم يجز، لأنهما ضدان يقتتلان؛ ولذلك لم يجز من ثلاثة: موافقين ومخالف. قال: فأجمل إلي الحارّ والبارد في أحرف جامعة. قال: كل حلو حار وكل حامض بارد، وكل حرّيف حار، وكل مر معتدل، وفي المرّ حار وبارد. قال: فما أفضل ما عولج به المرة السوداء. قال: بكل حار لين. قال: فالمرة الصفراء؟ قال: كل بارد ليّن: فالبلغم؟ قال: كل حار يابس. قال: فالدم؟ قال: إخراجه إذا زاد، وتطفئته إذا سخن بالأشياء الباردة. قال: فالرياح؟ قال: بالحقن اللينة

ابن أبي الحواري وصالح العباسي

والأدهان الحارّة اللينة. قال: أفتأمر بالحقن؟ قال: نعم، قرأت في بعض الكتب أن الحقنة تنقي الجوف وتكسح الأدواء عنه؛ وعجبت لمن احتقن كيف يهرم أو يعدم الولد! وإن الجاهل كان الجاهل من أكل ما قد عرف مضرته، فيؤثر شهوته على راحة بدنه. قال: فما الحمية؟ قال: الاقتصاد في كل شيء، فإنه إذا أكل فوق المقدار ضيّق على الروح ساحته. قال: فما تقول في إتيان النساء؟ قال: كثرة غشيانهن رديء؛ [وإياك] وإتيان المرأة المولية «1» ، فإنها كالشن «2» البالي، تسقم بدنك وتجذب قوّتك؛ ماؤها سم قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك ولا تعطيك؛ وعليك بإتيان الشباب: فإن الشابة ماؤها عذب زلال، ومعانقتها غنج ودلال، فوها بارد، [وريقها عذب] ، وريحها طيب، ورحمها حرج «3» تزيدك قوّة [إلى قوتك] ونشاطا [إلى نشاطك] . قال: فأي النساء القلب لها أبسط، والعين برؤيتها آنس؟ قال: إن أصبتها مديدة القامة عظيمة الهامة، واسعة الجبين، عريضة الصدر، مليحة النحر، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء فرعاء، جعدة غضة، تخالها في الظلمة بدرا زاهرا تبسم عن أقحوان باهر، وإن تكشف تكشف عن بيضة مكنونة، وإن تعانق تعانق ما هو ألين من الزبد، وأحلى من الشهد، وأبرد من القند» ، وأعظم من الفردوس والخلد، وأذكى ريحا من الياسمين والورد. قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه. قال: فأي الأوقات [إتيانهن] أفضل؟ قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى، والنفس أشهى والرحم أدفى. قال: فأي الأوقات ألذ وأطرب؟ قال: نهارا، يزيدك النظر انتشارا! قال كسرى للَّه درك من عربيّ، لقد أعطيت علما، وخصصت به من بين الحمقى، وفطنة وفهما! ثم أمر بإعطائه وصلته، وقضى حوائجه. ابن أبي الحواري وصالح العباسي وحضر ابن أبي الحواري بالشام- وكان معروفا بالرقائق والزهد- مائدة صالح

بين قاض وشارب نبيذ

العباس مع فقهاء البلد، فحدثني البحتري عن عبادة، وكان ممن حضر المجلس أنه بعث إليه بقدح نبيذ فشربه، ثم بعث إليه بثان فامتنع من شربه! فأخذه الناس بألسنتهم، وقالوا: شربت المسكر على أخونة هؤلاء وصرت لهم حجة! قال: حسبكم! أردتم أن أكون ممن قال اللَّه تعالى: فيهم يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ «1» ! فكيف أدعه لكم وأشربه بعين اللَّه! بين قاض وشارب نبيذ وقال بعض القضاة لرجل كان يعذله: بلغني أنك تشرب المسكر! فقال: ما أشرب المسكر ولكني أشرب النبيذ الصلب. ألوان من التزهد فأين هؤلاء في ترك الرياء والتصنع، من رجل سرقت نعله فلم يشتر نعلا حتى مات، وعوتب في ذلك فقال: أخشى أن أشتري نعلا فيسرقها أحد فيأثم! وآخر لما نظر أهل عرفات قال: ما أظن اللَّه إلا قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم! وآخر أمر له عمر بن الخطاب بكيس، فقال: آخذ الكيس والخيط؟ فقال عمر: دع الكيس! ورجل سأل ابن المبارك فقال إني قاسمت إخوتي، وبيننا مبرز غير مقسوم وفيّ بطر «2» أفترى لي أن أدخله أكثر مما يدخله شركائي؟ وآخر قال: أفطرت البارحة على رغيف وزيتونة ونصف، أو زيتونة وثلث أو زيتونة وربع، أو ما علم اللَّه من زيتونة أخرى! فقال له بعض من حضر: أجلس يا فتى، إنه بلغنا أن من الورع ما يبغضه اللَّه، وأظنه ورعك هذا!

الأعمش قال: أتاني عبد اللَّه بن سعيد بن أبي بكر فقال لي: ألا تعجب؟ جاءني رجل فقال: دلني على شيء إذا أكلته أمرضني، فقد استبطأت العلة وأحببت أن أعتل فأوجر! فقلت له: سل اللَّه العافية، واستدم النعمة، فإن من شكر على النعمة كمن صبر على البلية. فألح عليّ، فقلت له: كل السمك، واشرب نبيذ الزبيب، ونم في الشمس، واستمرض اللَّه يمرضك إن شاء اللَّه! هارون بن داود قال شرب رجل عند خمار نصراني، فأصبح ميتا؛ فاجتمع عليه الناس وقالوا للخمار: أنت قتلته! قال: لا واللَّه، ولكن قتله استعماله قوله: وأخرى تداويت منها بها

كتاب اللؤلوءة الثانية في الفكاهات والملح

كتاب اللؤلوءة الثانية في الفكاهات والملح قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، تغمده اللَّه برحمته: قد مضى قولنا في الطعام والشراب وما يتولد منهما، وينسب إليهما. ونحن قائلون بما ألّفناه في كتابنا هذا من الفكاهات والملح التي هي نزهة النفس، وربيع القلب، ومرتع السمع، ومجلب الراحة، ومعدن السرور. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلّت عميت» . وقال علي بن أبي طالب رضوان اللَّه عليه: أجموا «1» هذه القلوب، والتمسوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان، والنفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهوينى، جانحة إلى اللهو، أمارة بالسوء، مستوطنة للعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل، فإن أكرهتها أنضيتها «2» ، وإن أهملتها أرديتها. ودخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه وهو ينام نومة الضحى فقال: يا أبت! أتنام وأصحاب الحوائج واقفون ببابك؟ قال: يا بنيّ، إن نفسي مطيتي، فإن أنضيتها قطعتها، ومن قطع المطيّ لم يبلغ الغاية!

أخبار في الضحك

أخبار في الضحك وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يضحك حتى تبدو نواجذه «1» . وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير فيمن لا يطرب» . وقال: «كل كريم طروب» . وقال هشام بن عبد الملك: قد أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منها طعما، وشممت الطيّب حتى ما أجد له رائحة، وأتيت النساء حتى ما أبالي امرأة أتيت أم حائطا؛ فما وجدت شيئا ألذ من جليس يسقط بيني وبينه مئونة التحفظ. وقيل لعمرو بن العاص: ما ألذّ الأشياء؟ قال: ليخرج من هاهنا من الأحداث. فخرجوا، فقال: ألذّ الأشياء إسقاط المروءة! وقيل لمسلمة بن عبد الملك: ما ألذ الأشياء؟ فقال: هتك الحيا، واتّباع الهوى. وهذه المنزلة من أعمال النفس وهتك الحياة قبيحة، كما أن المنزلة الأخرى من الغلو في الدّين والتعسف في الهيبة قبيحة أيضا؛ وإنما المحمود منها التوسط، وأن يكون لهذا موضعه ولهذا موضعه. وقال مطوف بن عبد اللَّه لولده: يا بنيّ، إن الحسنة بين السيئتين- يريد بين المجاوزة والتقصير- وخير الأمور أوساطها، وشرّ السير الحقحقة «2» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبتّ «3» لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . خبر بعض الحواريين وفي بعض الكتب المترجمة: ان يوحنا وشمعون كانا من الحواريّين، وكانا يوحنا

المسيح ويحيى بن زكريا

لا يجلس مجلسا إلا ضحك وأضحك من حوله، وكان شمعون لا يجلس مجلسا إلا بكى وأبكى من حوله؛ فقال شمعون ليوحنا: ما أكثر ضحكك! كأنك قد فرغت من عملك! فقال له يوحنا: ما أكثر بكاءك! كأنك قد يئست من ربك! فأوحى اللَّه إلى المسيح: إن أحبّ السيرتين إليّ سيرة يوحنا. المسيح ويحيى بن زكريا وفي بعض الكتب أيضا: أن عيسى ابن مريم لقى يحيى بن زكريا عليهم الصلاة والسلام، فتبسم إليه يحيى، فقال له عيسى: إنك لتبسم تبسم آمن! فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانط! فأوحى اللَّه إلى عيسى: إن الذي يفعل يحيى أحبّ إليّ. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يدخل نعيمان الجنة ضاحكا، لأنه كان يضحكني. وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليه وهو أرمد فوجده يأكل تمرا، فقال له: أتأكل تمرا وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من الجانب الآخر! فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه. وكانت سويداء «1» لبعض الأنصار تختلف إلى عائشة فتلعب بين يديها وتضحكها، وربما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على عائشة فيجدها عندها فيضحكان جميعا؛ ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلّم فقدها، فقال: يا عائشة، ما فعلت السويداء قالت له: إنها مريضة! فجاءها النبي صلّى الله عليه وسلّم يعودها، فوجدها في الموت! فقال لأهلها: إذا توفيت فآذنوني. فلما توفيت آذنوه، فشهدها وصلى عليها وقال: اللهم إنها حريصة على أن تضحكني، فأضحكها فرحا. الأصمعي وأبو عبيدة وقيل لأبي نواس: قد بعثوا إلى أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما. فقال: أما أبو عبيدة فإن خلوه وسفره قرأ عليهم أساطير الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره.

ملح هشام بن عروة

قال ابن إسحق: وقد طرب الصالحون وضحكوا ومزحوا. وإن مدحت العرب رجلا قالوا: هو ضحوك السن، بسّام الثنيات، هش إلى الضيف فإذا ذمّته قالوا: هو عبوس الوجه، جهم المحيّا، كريه المنظر، حامض الدجنة، كأنما وجهه بالخل منضوج، كأنما أسعط «1» خيشومه بالخردل. وكتب يحيى بن خالد إلى الفضل ابنه وهو بخراسان: يا بنيّ، لا تغفل نصيبك من الكسل! وهذا جزء جامع لكل ما قصدنا إليه من هذا المعنى، لأن بالكسل تكون الراحة، وبالراحة يكون مثاب «2» النشاط، وبالنشاط يصفو الذهن، ويصدق الحس، ويكثر الصواب. قال الشاعر: إنما للنّاس منّا ... حسن خلق ومزاح ولنا ما كان فينا ... من فساد وصلاح ملح هشام بن عروة الهيثم بن عديّ قال: رأيت هشام بن عروة قد اجتمع إليه أصحاب الحديث يسألونه، فقال لهم: يا قوم، أما ما كان عندي من الحلال والحرام والسنّة فإني لا أستحلّ أن أمنعكموه، وأما ملحي فلا أعطيكموها ولا كرامة. باب من المفاكهات حديث عباس بن الأحنف حدث أبو العباس محمد بن يزيد المبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي، وكان من سادات بكر بن وائل، وأدركته شيخا كبيرا مملقا، وكان إذا أفاد على إملاقه «3» شيئا

جاد به، وقد كان قديما ولي شرطة البصرة، فحدثني هذا الحديث الذي أذكره، ووقع إليّ من غير ناحيته، ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان، إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك: ذكر أن فتيانا كانوا مجتمعين في نظام واحد، كلهم ابن نعمة، وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه، فذكر ذاكر منهم قال: كنا قد اكترينا «1» دارا شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس، وكنا نفلس أحيانا ونوسر أحيانا، على مقدار ما يمكن الواحد من أهله، وكنا لا ننكر أن تقع مئونتنا على واحد منا إذا أمكنه، ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء، فيقوم به أصحابه الدهر الأطول، وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، ودعونا الملهين والملهيات، وكان جلوسنا في أسفل الدار، فإذا عدمنا الطرب جلسنا في غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس؛ وكنا لا نخلّ بالنبيذ في عسر ولا يسر؛ فإنا لكذلك يوما إذا بفتى يستأذن علينا، فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف، حلو الوجه، سريّ الهيئة، ينيء رواؤه «2» على أنه من أبناء النعم؛ فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم، وحسن منادمتكم! وصحة ألفتكم، حتى كأنكم أدرجتم جميعا فى قالب واحد: فأحببت أن أكون واحدا منكم فلا تحتشموا. قال: وصادف ذلك منا إقتارا من القوت؛ وكثرة من النبيذ، وقد كان قال لغلام له: أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم، هات ما عندك. فغاب الغلام عنا غير كثير، ثم أتانا بسلّة خيزران، فيها طعام المطبخ، من جدي، ودجاج، وفراخ، ورقاق «3» ، وأشنان، ومحلب «4» ، وأخلة «5» ؛ فأصبنا من ذلك، ثم أفضنا في شرابنا.

وانبسط الرجل، فإذا هو أحلى خلق اللَّه إذا حدّث، وأحسنهم استماعا إذا حدّث، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف؛ ثم أفضينا منه إلى أكرم مخالقة، وأجمل مساعدة؛ وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه، فيظهر لنا أنه لا يحب غيره، ويرى ذلك في إشراق وجهه؛ فكنا نغني به عن حسن الغناء، ونتدارس أخباره وآدابه؛ فشغلنا ذلك عن تعرّف اسمه ونسبه، فلم يكن منا إلا تعرّف الكنية، فإنا سألناه عنها فقال: أبو الفضل. فقال لنا يوما بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم بم عرفتكم؟ قلنا: إنا لنحب ذلك. قال: أحببت جارية في جواركم، وكانت سيدتها ذات حبائب «1» ؛ فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها، فأراها؛ حتى أخلقّني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه، فسألت عن خبرها، فخبرت عن ائتلافكم وتمالئكم، ومساعدة بعضكم بعضا؛ فكان الدخول فيما أنتم فيه أسرّ عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرها، فقلنا له: نحن نختدعها حتى نظفرك بها! فقال: يا إخواني، إني واللَّه على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها، ما قدّرت فيها حراما قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمنّ اللَّه بثروة فأشتريها! فأقام معنا شهرين، ونحن على غاية الاغتباط بقربه، والسرور بصحبته، إلى أن اختلس منا، فنالنا بفراقه ثكل ممضّ، ولوعة مؤلمة، ولم نعرف له منزلا نلتمسه فيه؛ فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به، وقبح عندنا ما كان حسن بقربه، وجعلنا لا نرى سرورا ولا غمّا إلا ما ذكرناه، لاتصال السرور بصحبته وحضوره، والغمّ بمفارقته؛ فكنا فيه كما قال الشاعر: يذكّرنيهم كلّ خير رأيته ... وشرّ، فما أنفك منهم على ذكر فغاب عنا زهاء عشرين يوما، فبينما نحن مجتازون يوما من الرصافة، إذا به قد طلع في موكب نبيل، وزيّ جليل، فلما بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه، ثم

قال: يا إخواني، واللَّه ما هنأني عيش بعدكم، ولست أماطلكم بخبري حتى آتى المنزل، ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه، فقال: أعرّفكم أولا بنفسي، أنا العباس بن الأحنف؛ وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم؛ فإذا المسوّدة محيطة بي، فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: ويحك يا عباس! إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء، لقرب مأخذك، وحسن تأتّيك! وإن الذي ندبتك له من شأنك؛ وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أنّ ماردة هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وأنه جرى بينهما عتب؛ فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك؛ وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستعزّه «1» الصبابة؛ فقل شعرا يسهّل عليه هذه السبيل. فقضى كلامه. ثم دعاني إلى أمير المؤمنين، فصرت إليه وأعطيت قرطاسا ودواة، فاعتراني الزّمع «2» وأذهب عني ما أريد الاستحثاث؛ فتعذرت عليّ كلّ عروض «3» ، ونفرت عني كل قافية؛ ثم انفتح لي شيء، والرسل تعنتني؛ فجاءتني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى، سهلة الألفاظ، ملائمة لما طلب مني؛ فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات، فإن كان بها مقنع ووجهت بها. فرجع إليّ الرسول بأن هاتها، ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الرويّ، فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة، وعقّبت بالبيتين، فقلت: العاشقان كلاهما متغضّب ... وكلاهما متوجّد متعتّب صدّت مغاضبة وصد مغاضبا ... وكلاهما مما يعالج متعب راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيّم قلما يتجنّب إنّ التجنّب إن تطاول منكما ... دبّ السّلّو له فعزّ المطلب ثم كتبت تحت ذلك:

لا بدّ للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم «1» حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد، فدفعه إلى الرشيد، فقال: واللَّه ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا، واللَّه لكأني قصدت به! فقال له يحيى: وأنت واللَّه يا أمير المؤمنين المقصود به؛ هذا يقوله العباس [ابن الأحنف] في هذه القصة، فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله: راجع من يهوى على رغم استغرب «2» ضاحكا حتى سمعت ضحكه، ثم قال: إي واللَّه، أراجع على رغم! يا غلام، هات نعلي. فنهض، وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء؛ فدعاني يحيى وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة، وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما وقع مني بغاية الموافقة! ثم جاء غلام فسارّه، فنهض وثبت مكاني ثم نهضت بنهوضه؛ فقال لي: يا عباس، أمسيت أنبل الناس! أتدري ما سارّني به هذا الرسول؟ قلت لا. قال: ذكر لي أن ماردة تلقّت أمير المؤمنين لما علمت بمجئيه، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، كيف كان هذا؟ فناولها الشعر، وقال: هذا أتى بي إليك! قالت: فمن يقوله؟ قال: عباس بن الأحنف. قالت: فيم كوفىء؟ قال: ما فعلت شيئا بعد. قالت: إذا واللَّه لا أجلس حتى يكافأ! قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين، وهما يتناظران في صلتك، فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة! فقال: هذا أحسن من شعرك. قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير، وأمرت لي ماردة بمال دونه، وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به! وحملت على ما ترون من الظّهر! ثم قال الوزير: من

حديث المجرد

تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤهل لك هذا المال ضياعا. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم، ودفع إليّ بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضيّاع، وأفرق فيكم المال قلنا له: هنأك اللَّه، فكل منا يرجع إلى نعمة من أبيه. فأقسم وأقسمنا فقال: [فتكونون] أسوتي فيه. فقلنا: أما هذه فنعم. قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبها، وكانت جارية جميلة حلوة، لا تحسن شيئا، أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار؛ فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة، فأجبناه بالعجب فحط مائة، ثم قال العباس: يا فتيان، إني واللَّه أحتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي، بها يتم سروري، فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل قال هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها؛ فأكره أن تنظر إليّ بعين من قد ماكس في ثمنها! دعوني أعطيه بها خمسمائة دينار كما سأل! قلنا له: وإنه قد حط مائتين. قال: وإن فعل. قال: فصادفت من مولاها رجلا حرّا، فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين! فما زال إلينا محسنا حتى فرق الموت بيننا. حديث المجرّد قال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: واللَّه لأحدثنك حديثا ما سمعه مني أحد قط، وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حيا. قلت: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها «1» قال: يا أبا محمد إنه حديث ما طنّ في أذنك أعجب منه! قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت! قال: بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم، إذ أنا بامرأة من نساء مكة، معها صبي يبكي، وهي تسكته فيأبى أن يسكت، فسفرت، فأخرجت من فيها كسرة

درهم فدفعتها إلى الصبيّ فسكت؛ فإذا وجه رقيق كأنه كوكب درّي، وإذا شكل رطب ولسان فصيح؛ فلما رأتني أحدّ النظر إليها، قالت: اتبعني! فقلت: إن شريطتي الحلال! قالت: ارجع في حرامك! ومن يريديك على حرام؟ فخجلت، وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها، فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت: اصعد! فصعدت، فقالت: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم، وأنا امرأة من زهرة! ولكن عندي حر ضيّق، عليه وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة؛ أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأشقر سليم. قلت: وما أشقر سليم؟ قالت: بدينار واحد يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجا صحيحا. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها، فاستجابت لها، قالت: قولي لفلانة: البسي عليك ثيابك وعجّلي، وباللَّه لا تمسّي غمرا «1» ولا طيبا، فحسبك بدلالك وعطرك. قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب أن الشمس وقعت عليها، كأنها دمية، فسلمت وقعدت كالخجلة. فقالت: لها الأولى: إن هذا الذي ذكرته لك، وهو في هذه الهيئة التي ترين. قالت: حيّاه اللَّه وقرّب داره. قالت: وقد بذل لك من الصداق دينارا. فقالت: أي أمّ، أخبرتيه بشريطتي؟ قالت: لا واللَّه يا بنية، لقد نسيتها. ثم نظرت إليّ فغمزتني وقالت: أتدري ما شريطتها؟ قلت: لا. قالت: أقول لك بحضورها ما إخالها تكرهه، هي واللَّه أفتك من عمرو بن معد يكرب، وأشجع من ربيعة بن مكدّم، ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها، فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. قلت: ما أهون هذا وأسهله! قالت الجارية: وتركت شيئا آخر! قالت: نعم واللَّه، أعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها، وتراك مجرّدا مقبلا ومدبرا. قلت: وهذا أيضا أفعله! قالت: هلمّ دينارك! فأخرجت دينارا فنبذته إليها؛ فصفقت صفقة أخرى، فأجابتها امرأة؛

قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلمّا الساعة! فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين، هو عليّ بن أبي طالب! قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا، فصعدا، فقصت المرأة عليهما القصة، فخطب أحدهما وأجاب الآخر، وأقررت بالتزويج وأقرّت المرأة؛ فدعوا بالبركة ثم نهضا، فاستحييت أن أحمّل المرأة شيئا من المئونة، فأخرجت دينارا آخر فدفعته إليها، وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي، لست ممن يمسّ طيبا لرجل، إنما أتطيّب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم. فنهضت الجارية، وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت، وتغدّينا، وجاءت بأداة وقضيب، وقعدت تجاهي؛ ودعت بنبيذ فأعدّته، واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط، فإني ألفت القينات نحوا من ثلاثين سنة، ما سمعت مثل ترنّمها قط؛ فكدت أجنّ سرورا وطربا، فجعلت أريغ «1» أن تدنو مني فتأبى، إلى أن غنّت بشعر لم أعرفه، وهو: راحوا يصيدون الظّباء، وإنني ... لأرى تصيّدها عليّ حراما! أعزز عليّ بأن أروّع شبهها ... أو أن تذوق على يديّ حماما! فقلت: جعلت فداك! من يغنّي هذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج وابن عائشة ... فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب، تغنّت بصوت لم أفهمه، للشقاء الذي كتب عليّ، فقالت: كأني بالمجرّد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري «2» قلت: جعلت فداك! ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به. قالت: أنا أوّل من تغنى به. قلت: فإنما وهو بيت عابر لا صاحب له؟ قالت: معه آخر ليس هذا وقته، هو آخر ما أتغنى به؟

يوم دارة جلجل

قال: وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالا لها، فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الأخيرة، وضعت القضيب، فقمت فصليت العشاء وما أدري كم صليت، عجلة وشوقا؛ فلما صليت قلت: تأذنين جعلت فداك في الدنوّ منك؟ قالت: تجرّد! وأشارت إلى ثيابها كأنها تريد أن تتجرّد؛ فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها؛ فتجرّدت وقمت بين يديها مكفّرا لها؛ قالت: امض الى زاوية البيت وأقبل وأدبر، حتى أراك مقبلا ومدبرا. قال: وإذا حصير في الغرفة، عليه طريق إلى زاوية البيت، فخطرت عليه، وإذا تحته خرق «1» إلى السوق، فإذا أنا في السوق قائما مجرّدا منعظا «2» ! وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالهما، وكمنا لي في ناحية، فلما هبطت عليهما بادرا إليّ فقطعا نعالهما «3» على قفاي، واستعانا بأهل السوق؛ فضربت واللَّه يا أبا محمد حتى نسيت اسمي؛ فبينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة، إذا صوت يغنّي به من فوق البيت، وهو: ولو علم المجرّد ما أردنا ... لحاربنا المجرّد بالصحاري فقلت في نفسي: هذا واللَّه وقت هذا البيت! فنجوت إلى رحلي وما فيّ عظم صحيح؛ فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب! فقلت: لعنها اللَّه ولعن الذي هي منه! يوم دارة جلجل قال الفرزدق: أصابنا بالبصرة ليلا مطر جود، فلما أصبحت ركبت بغلتي وسرت إلى المربد، فإذا أنا بآثار دواب وقد خرجت إلى ناحية البرية، فظننت أنهم قوم خرجوا للنزهة، وهم خلقاء أن يكون معهم سفرة، فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليهم رحائل موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير، فإذا فيه نسوة

مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط، ولا يوم دارة جلجل. وانصرفت مستحييا. فنادينني: يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء. فرجعت إليهنّ، فقعدن في الماء إلى حلوقهن، ثم قلن: باللَّه إلا ما أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل. قلت: حدثني جدّي- أنا يومئذ غلام حافظ- أن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عمه، ويقال لها عنيزة؛ وأنه طلبها زمانا فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل؛ وذلك أنّ الحيّ تحمّلوا، فتقدم الرجال، وتخلف النساء والخدم والثقل «1» ؛ فلما رأى ذلك امرؤ القيس، تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة، فكمن في غيابة من الأرض، حتى مرّ به النساء وفيهنّ عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا واغتسلنا في هذا الغدير فذهب عنا بعض الكلال. فنزلن في الغدير، ونحيّن العبيد، ثم تجرّدن فوقعن فيه، فأتاهنّ امرؤ القيس فأخذ ثيابهنّ، فجمعها وقعد عليها، وقال: واللَّه لا أعطي جارية منكنّ ثوبها ولو قعدت في الغدير يومها، حتى تخرج متجرّدة فتأخذ ثوبها! فأبين ذلك عليه، حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه، فخرجن جميعا غير عنيزة؛ فناشدته اللَّه أن يطرح ثوبها، فأبى، فخرجت؛ فنظر إليها مقبلة ومدبرة. وأقبلن عليه فقلن له: إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا! قال: فإن نحرت لكنّ ناقتي أتأكلن معي؟ قلن: نعم، فجرّد سيفه فعرقبها ونحرها، ثم كشطها، وجمع الخدم حطبا كثيرا، فأجّجن نارا عظيمة، فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر، ويأكلن ويأكل معهنّ، ويشرب من فضلة كانت معه ويسقيهنّ، وينبذ إلى العبيد من الكباب. فما أرادوا الرحيل قالت إحداهنّ: أنا أحمل طنفسته «2» . وقالت الأخرى: أنا

خبر دعبل وصريع الغواني

أحمل رحله وأنساعه» . فتقسّمن متاعه وزاده؛ وبقيت عنيزة لم تحمل له شيئا؛ فقال لها: يا بنت الكرام، لا بد أن تحمليني معك؛ فإني لا أطيق المشي، فحملته على غارب «2» بعيرها، فكان يجنح إليها فيدخل رأسة في خدرها فيقبّلها، فإذا امتنعت مال حدجها «3» ، فتقول: عقرت بعيري فانزل! ففي ذلك يقول: [ألا ربّ يوم لي من البيض صالح ... ولا سيّما يوم بدارة جلجل] ويوم عقرت للعذارى مطّيتي ... فيا عجبنا من رحلها المتحمّل فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهدّاب الدّمقس المفتّل. تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل «4» فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلّل وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرىء القيس وأشعاره، وذلك أنّ امرأ القيس رأى من أبيه جفوة، فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث، وكان مسترضعا في بني دارم فأقام فيهم، وهم رهط الفرزدق. خبر دعبل وصريع الغواني حدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر، وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر قد نطق بها اللسان من غير اعتقاد جنان، فقلت: دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني به انقباض فإذا أنا بجارية فائقة الجمال حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف؛ لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر: كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة ... في كل جارحة منها لها قمر

وهي تسمعني، فقالت: هذا قليل لمن دهته ... بلحظها الأعين المراض فأجبتها: فهل لمولاي عطف قلب ... أو للّذي في الحشا انقراض؟ فأجابتني فقالت: إن كنت تبغي الوداد منّا ... فالودّ في ديننا قراض «1» قال دعبل: فلم أعلمني [قبلها] خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها، مع تلاعة جيد «2» ، ورشاقة قدّ، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق؛ فحار واللَّه البصر، وذهب اللّب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتغللت الرّجلان؛ وما ظنك بالحلفاء «3» إذا دنت من النار؟ ثم ثاب إليّ عقلي، وراجعني حلمي، فذكرت قول بشار: لا يمنعنّك من مخدّرة ... قول تغلّظه وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصّعب يمكن بعدما جمحا «4» هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد قبل المسألة، وبذل قبل الطلبة؟ فقلت مسمعا لها: أترى الزمان يسرنّا بتلاق ... ويضم مشتاقا إلى مشتاق؟ فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس: ما للزّمان يقال فيه وإنما ... أنت الزمان فسرّنا بتلاق! قال دعبل: فلحظتها ومضيت وتبعتني، وذلك في أيام إملاقي، فقلت: مالي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فسرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج: فقلت له:

اكمل الخير، معي وجه صبيح، يعدل الدنيا بما فيها، وقد حصل على ضيقة وعسر! فقال: قد شكوت ما كدت أباديك بشكواه! ائت بها. فلما دخلت قال: واللَّه لا أملك غير هذا المنديل! فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك اللَّه لك فيه! فأخذته، فبعته بدينار وكسر، فاشتريت لحما وخبزا ونبيذا، وصرت إليه: فإذا هما يتساقطان حديثا كأنه قطع الروض المعطور؛ قال: ما صنعت؟ فأخبرته؛ قال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟ اذهب فالطف لتمام ما كنت أوّله. قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى اتيت به، فألفيت باب الدار مفتوحا، فدخلت؛ فإذا لا يرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثر، فسقط «1» في يدي، وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما! فبقيت متلهفا حائرا، أرجم الظنون وأجيل الفكر سائر يومي؛ فلما أمسيت قلت في نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر؟ ففعلت، فوقفت على باب سرداب له، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه، فأكلا وشربا وتنعّما؛ فلما أحسستهما دليت رأسي ثم ناديت: مسلم! ويلك! فلم يجبني، حتى ناديت ثلاثا؛ فكان من إجابته لي أن غرّد بصوت يقول فيه: بتّ في درعها وبات رفيقي ... جنب القلب طاهر الأطراف «2» ثم قال: دعبل، ويلك! من يقول هذا؟ قلت: من له من حر امّه ألف قرن ... قد أنافت على علوّ مناف «3» قال: فضحك، ثم سكتا، واستجلبت كلامهما فلم يجيباني، وأخذا في لذتهما، وبتّ بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولا وغما! حتى إذا أصبحت ولم أكد، خرج إليّ مسلم، فجعلت أؤنبه، فقال لي: يا صفيق الوجه! منزلي، ومنديلي، وطعامي، وشرابي؛ فما شأنك في الوسط؟ قلت له: حقّ القيادة والفضول واللَّه لا غير! فولى

الخدم والقيان

وجهه إليها وقال: بحياتي إلا أعطيتيه حق قيادته وفضوله! قالت: أما حق قيادته فعرك أذنه، وأما حق فضوله فصفع قفاه! فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني، فقلت: ما هذا؟ فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق! الخدم والقيان الحسين بن الضحاك وشفيع خادم المتوكل حدثنا عيسى بن أحمد الكاتب قال: قال الحسين بن الضحاك: دخلت على جعفر المتوكل، وشفيع الخادم ينضد وردا بين يديه- ولم يعرف في ذلك الزمان خادم كان أحسن منه ولا أجمل- وعليه ثياب مورّدة، فأمره أن يسقيني ويغمز كفي؛ ثم قال لي: يا حسين، قل في شفيع. وقد كان حيّا المتوكل بوردة، فجعل المتوكل يشرب ويشمّ الوردة؛ فقلت: وكالدّرّة الحمراء حيّا بأحمر ... من الورد يمشي في قراطق كالورد «1» ويغمز كفّي عند كلّ تحيّة ... بكفّيه تستدعي الشجيّ إلى الورد «2» سقاني بكفّيه وعينيه شربة ... فأذكرني ما قد نسيت من العهد سقى اللَّه دهرا لم أبت فيه ليلة ... من الدّهر إلا من حبيب على وعد! فأمر المتوكل شفيعا أن يسقيني، وبعث معه إلي بتحايا في عبير وشمّامات «3» وروي أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل كان يتعشق خادما للمتوكل يقال له شفيع، وكان الحسن بن وهب كاتبه كلفا بذلك الخادم: فلقيه الحسن بن وهب يوما، فسأله عن خبره، فأخبره أنه يريد أن يحتجم؛ فلم يبق بالعراق غريبة إلا بعث بها إليه، ولا ظريف من الأشربة إلا أدخله عليه، وكتب إليه بهذه الابيات: ليت شعري يا أملح الناس عندي ... هل تعالجت بالحجامة بعدي؟

قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ... ففشا منه بعض ما كنت أبدي وخلعت العذار فليعلم النا ... س بأني إليك أصفي بودّي «1» من عذيري من مقلتيك ومن إش ... راق وجه من حول حمرة خدّ فصادف رسوله رسولا لمحمد بن عبد الملك الزيات الوزير، فرأى رقعة الحسن، فاحتال لها حتى أخذها، وأوصلها إلى محمد بن عبد الملك، فلما قرأها كتب إلى كاتبه الحسن بن وهب: ليت شعري عن ليت شعرك هذا ... أبهزل تقوله أم بجدّ؟ فلئن كان ما تقول بجدّ ... يا ابن وهب لقد تفتّيت بعدي «2» وتشبّهت بي وكنت أرى ... أنّي أنا الهائم المتيّم وحدي لا أرى القصد في الأمور، ولولا ... غمرات الصبا لأبصرت قصدي سيّدي سيدي، ومولاي من أل ... بسني ذلّة وأخلف وعدي لا أحبّ الذي يلوم وإن كا ... ن حريصا على صلاحي ورشدي وأحب الأخ المشارك في الحبّ ... وإن لم يكن به مثل وجدي «3» كصديقي أبى عليّ وحاشا ... لصديقي من مثل شقوة جدّي إنّ مولاي عبد عبدي ولولا ... شؤم جدّي لكان مولاي عبدي فلما التقى ابن الزيات الوزير وكاتبه الحسن بن وهب في بيت الديوان، تداعبا في ذلك، وسأله ابن الزيات أن يتجافى له عنه، فقال له الحسن: طاعتك واجبة في المحبوب والمكروه، ولكن الرئيس أدام اللَّه عزه كان أولى بالفضل! فقال له ابن الزيات: هيهات، هذه علة نفسانية تؤدي إلى التلف، فتنحّ عن نصيبك مني! فقال الحسن: إن كان هذا هكذا سمعنا وأطعنا، وأنشد: شهيدي على ما في فؤادي من الهوى ... دموع تباري المستهلّ من القطر فأسلمني من كان بالأمس مسعدي ... وصار الهوى عونا عليّ مع الدّهر

المتوكل وعلي بن الجهم

المتوكل وعلي بن الجهم قال عليّ بن الجهم: دخلت يوما على المتوكل، فقال: يا علي! قلت: لبيك أمير المؤمنين. قال: دخلت الساعة إلى قبيحة، وقد كتبت على خدّها بالمسك اسمي، فو اللَّه ما رأيت سوادا في بياض أحسن منه في ذلك الخدّ؛ فقل فيه شعرا. فقلت: يا أمير المؤمنين، أمظلومة معي؟ قال: نعم. ومظلومة خلف الستارة، فدعت بدواة وبدرت بالقول، فقالت: وكاتبة بالمسك في الخدّ «جعفرا» ... بنفسي مخطّ المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطرا من المسك خدّها ... لقد أودعت قلبي من الحبّ أسطرا فيا من لمملوك تملّك مالكا ... مطيعا له فيما أسرّ وأظهرا ويا من مناها في السرائر جعفر ... سقى اللَّه من صوب الغمامة جعفرا «1» قال: وأفحمت فلم أنطق، وتغلبت على خواطري فما قدرت على حرف أقوله، فضحك أمير المؤمنين. الأصمعي والرشيد الأصمعي قال: دخلت على هارون أمير المؤمنين، وبين يديه جارية حسناء عليها لمّة «2» جعدة، وذؤابة تضرب الحقو منها، وهلال بين عينيها مكتوب عليه بالذهب: هذا ما عمل في طراز اللَّه! فقال: يا أصمعي، صفها، فأنشأت أقول: كنانيّة الأطراف سعديّة الحشا ... هلاليّة العينين طائيّة الفم لها حكم لقمان، وصورة يوسف ... ونغمة داود، وعفّة مريم فقال: أحسنت واللَّه يا أصمعي؛ فعل عرفت اسمها؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين فقال اسمها دنيا. فأطرقت ساعة ثم قالت. إنّ دنيا هي التي ... تملك القلب قاهره

الرشيد وإسحاق الموصلي

ظلموها شطر آسمها ... فهي دنيا وآخره قال الأصمعي: فأمر لي بعشرة آلاف درهم. الرشيد وإسحاق الموصلي إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: دخلت على الرشيد، وعنده جارية، قد أهديت له، ما جنة شاعرة أديبة، وبين يديه طبق فيه ورد، فقال لي: أما ترى حسن هذا الورد ونضرة لونه؟ قلت: بك واللَّه حسن ذلك يا أمير المؤمنين. قال: قل فيه بيتا يشبهه. فأطرقت ساعة، ثم قلت: كأنه خدّ موموق يقبّله ... فم الحبيب وقد أبدى به خجلا «1» فاعترضتني الجارية فقالت: كأنه لون خدّي حين تدفعني ... كفّ الرشيد لأمر يوجب الغسلا فقال الرشيد: قم يا إسحاق، فقد حركتني هذه الفاسقة! وحدثنا أيضا قال: كان هارون الرشيد جالسا بين جاريتين من جواريه، فقال لهما: من يبيت عندي هذه الليلة منكما؟ فقالت إحداهما: أنا! فقالت الأخرى: لا، بل أنا! فقال للأولى: ما حجتك فيما ادعيت؟ قالت: قول اللَّه: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «2» ثم قال للثانية: وما حجتك أنت؟ قالت: قول اللَّه: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «3» ! فقال: لتقل كل واحدة منكما شعرا في الغزل، فمن كانت أرقّ شعرا باتت عندي. فقالت: الأولى: أنا التي أمشي كما يمشي الوجي ... يكاد أن يصرعني تغنّجي «4» من جنة الفردوس كان مخرجي وقالت الأخرى:

الرشيد بين جاريتين

أنا التي لم ير مثلي بشر ... كلامي اللّؤلؤ حين ينثر أسحر من شئت ولست أسحر ... إن سمع الناس كلامي كفروا «1» فقال لهما: قد أحسنتما وأجدتما، وما لواحدة منكما فضيلة على صاحبتها، ولكن أبيت بينكما! الرشيد بين جاريتين أخبرنا أبو الطيب الكاتب أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ليلة بين جاريتين: مدنية، وكوفية؛ فجعلت الكوفية تغمز يديه، والمدنية تغمز رجليه، فجعلت المدنية ترتفع إلى فخذيه، حتى ضربت بيدها إلى متاعه، وحرّكته حتى أنعظ. فقالت الكوفية: نحن شركاءك في البضاعة، وأراك قد انفردت دوننا برأس المال وحدك، فأنيلي منه! فقالت المدنية: حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: «من أحيا أرضا مواتا فهي له ولعقبه» ! قال: فاستقبلتها الكوفية ودفعتها، ثم أخذته بيديها جميعا وقالت: حدثنا الأعمش عن خيثمة عن ابن مسعود أنه قال: «الصيد لمن صاده لا لمن أثاره» ! المتوكل وجارية أخبرنا الانطاكي: أن المتوكل طلب من محمود الوراق جارية مغنية، وأعطاه بها عشرة آلاف درهم، فأبى فلما مات محمود اشتراها من ميراثه بخمسة آلاف، وقال لها: كنا أعطينا مولاك بك عشرة آلاف، وقد اشتريناك من ميراثه بخمسة آلاف! قالت: يا أمير المؤمنين، إذا كانت الخلفاء تتربص بلذاتها المواريث فسنشترى بأرخص مما اشتريت! الرشيد يقامر جاريته أخبرنا اسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لاعب هارون الرشيد جارية من جواريه

بين الأمين وجلسائه

على إمرة مطاعة فقمرته «1» . فقال لها: تمنّي! قالت: تقوم فتقطع فردا. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته، فقال لها: تمنّي! فقالت: المعاودة فغشيها، ثم لاعبته فقمرته. فقالت: قم لميعادك! فقال: لا أقدر على ذلك! قالت: فاكتب لي به عليك كتابا آخذ به متى شئت! قال: ذلك لك. فدعت بدواة وقرطاس، ثم كتبت: هذا «كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين: إن لي عليك قرضا آخذك به متى شئت وأنى شئت من ليل أو نهار ... وكان على رأسها وصيفة، فقالت: تزيّدي في الكتاب، فإنك لا تأمنين الحدثان! ومن قام بهذا الذكر حق قيامه فهو وليّ ما فيه! فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه، واستظرفها، وأمر بأن تنزل مقصورة وأن يجرى عليها رزق سنيّ، وشغف بها، ويقال: إنها مراجل أم المأمون. بين الأمين وجلسائه تنفس محمد بن هارون الأمين يوما في مجلسه أيام الحصار، فالتفت إلى جليس له- وهو محمد بن سلّام صاحب المظالم- فقال له: ويحك يا محمد! أتراني؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول الشاعر: ذكر الهوى فتنفس المشتاق ... وبدا عليه الذّلّ والإطراق يا من يصيّرني لأصبر بعده ... الصبر ليس يطيقه العشاق فقال: لا واللَّه ما نكأتها «2» . ثم التفت إلى جليس له آخر. فقال: ويحك! أتراني؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول ابن الأحنف: تذكرت بالريحان منك شمائلا ... بالراح عذبا من مقبّلك العذب «3» فقال: لا واللَّه ما نكأتها ثم التفت إلى كوثر الخادم، فقال: ويحك، أتراني؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول ابن نفيلة الغساني: إن كان دهر بني ساسان فرقهم ... فإنما الدهر أطوار دهارير «4»

علي بن الجهم وجارية

وربما أصبحوا يوما بمنزلة ... تهاب صولتها الأسد المهاصير قال: صدقت! علي بن الجهم وجارية وكتبت جارية عليّ بن الجهم له رقعة، فأجاب فيها: ما رقعة جاءتك مختومة ... كأنها خدّ على خد تبدو سوادا في بياض كما ... ذرّ فتيت المسك في الورد ساهمة الأسطر مصروفة ... عن جهة الهزل الى الجدّ يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليه حسبي منك ما عندي وكتبت أيضا: قلب يملّ على لسان ناطق ... ويد تخطّ رسالة من عاشق مزج المداد بعبرة شهدت له ... من كلّ جارحة بقلب صادق فيميه تحكى الوساد، لخدّه ... ويساره فوق الفؤاد الخافق «1» المهدي وجارية أهدت جارية من جواري المهدي تفاحة إلى المهدي مطيّبة وكتبت فيها: هديّة مني إلى المهدي ... تفّاحة تقطف من خدّي محمرّة مصفرّة طيّبت ... كأنها من جنة الخلد فأجابها المهدي: تفاحة من عند تفاحة ... جاءت، فماذا صنعت بالفؤاد واللَّه ما أدري أأبصرتها ... يقظان، أم أبصرتها في الرّقاد مدام جارية المازني وكتب بعض الكتّاب إلى مدام- جارية المازني- وبعث إليها بقنينة من مدام «2»

عتب جارية على المأمون:

قل لمن يملك الفؤا ... د وإن كان قد ملك قد شربناك مدّة ... وبعثنا إليك بك وقال علي بن الجهم: دخلت على أبي عثمان المازني، وعنده جارية كأنها شقّة قمر، وبيدها تفاحة معضوضة؛ فقالت: عرفت ما أراد الشاعر بقوله: خبّريني من الرسول إليك ... واجعليه من لا ينمّ عليك قلت: ما أعرفه. قالت: هو هذه. ورمت إلي بالتفاحة؛ فو اللَّه ما وجدت لها جوابا من نظير كلامها. وقال شيخ من أهل البصرة: لقيت الحسن بن وهب؛ فأردت أن أمتحن سلامة طبعه- ومعي تفاحة- فأريته إياها وسألته أن يصفها؛ فقال لي: نحن على طريق، ولكن مل بنا إلى المسجد. فملنا إليه، فأخذها وقلبها بيده، وقال: يا ربّ تفاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي قد بتّ في ليلتي أقلّبها ... أشكو إليها تطاول الكمد لو أنّ تفاحة بكت لبكت ... من رحمة هذه التي بيدي! عتب جارية على المأمون: وعد المأمون جارية أن يبيت عندها وأخلفها الوعد، فكتبت إليه: أرقت عيني ونامت ... عين من هنت عليه إنّ نفسي فاعذرنها ... أصبحت في راحتيه رحم اللَّه رحيما ... دلّ عينيّ عليه فلما قرأ رقعتها ضحك ولم يبت ليلته إلا عندها. عتب المأمون على جارية عتب المأمون عى جارية من جواريه وكان كلفا بها- فأعرض عنها وأعرضت عنه، ثم أسلمه الهوى وأقلقه الشوق، حتى أرسل يطلب مراجعتها، وأبطأ عليه

الرشيد وزبيدة وجارية

الرسول، فلما رجع أنشأ يقول: بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنّا وناجيت من أهوى وكنت مقرّبا ... فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى ونزّهت طرفا في محاسن وجهها ... ومتّعت باستظراف نغمتها أذنا أرى أثرا منها بعينيك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا! فيا ليتني كنت الرسول وكنتني ... وكنت الذي يقصى وكنت أنا المدني ثم إن المأمون أقبل مسترضيا لها، فسلم عليها فلم تردّ عليه السلام، وكلمها فلم تجبه، فأنشأ يقول: تكلّم، ليس يوجعك الكلام ... ولا يؤذي محاسنك السلام أنا المأمون والملك الهمام ... ولكني بحبّك مستهام يحقّ عليك أن لا تقتليني ... فيبقى النّاس ليس لهم إمام! كتبت امرأة عمر بن عبد العزيز إلى عمر لما اشتغل عنها بالعبادة: ألا أيّها الملك الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي أراك وسعت كل الناس عدلا ... وجرت عليّ من بين العباد وأعطيت الرعيّة كلّ فضل ... وما أعطيتني غير السّهاد! فصرف؟؟؟ إليها. الرشيد وزبيدة وجارية قعد الرشيد يوما عند زبيدة. وعندها جواريها، فنظر إلى جارية واقفة عند رأسها، فأشار إليها أن تقبّله، فاعتلّت بشفتيها، فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه: قبّلته من بعيد ... فاعتلّ من شفتيه ثم ناولها القرطاس، فوقعت فيه: فما برحت مكاني ... حتى وثبت عليه! فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة، فوهبتها له، فمضى بها وأقام معها أسبوعا لا يدرى مكانهما، فكتبت إليه زبيدة:

الأمين ووعد جارية

وعاشق صبّ بمعشوقه ... كأنما قلباهما قلب روحاهما روح ونفساهما ... نفس، كذا فليكن الحبّ الأمين ووعد جارية حدث أبو جعفر قال: بينا محمد بن زبيدة الأمين يطوف في قصر له، إذ مر بجارية له سكرى، وعليها كساء خزّ تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على ما ترى، ولكن إذا كان في غد إن شاء اللَّه! فلما كان من الغد مضى إليها فقال لها: الوعد! فقالت يا أمير المؤمنين، أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار؟ فضحك وخرج إلى مجلسه فقال: من بالباب من شعراء الكوفة؟ فقيل له: مصعب، والرقاشي، وأبو نواس. فأمر بهم فأدخلوا عليه. فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعرا يكون آخره. كلام الليل يمحوه النهار فأنشأ الرقاشي يقول: متى تصحو وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار وقد تركتك صبّا مستهاما ... فتاة لا تزور ولا تزار «1» إذا استنجزت منها الوعد قالت ... كلام الليل يمحوه النهار وقال مصعب: أتعذلني وقلبك مستطار ... كئيب لا يقرّ له قرار بحبّ مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ يخالطها احورار «2» ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار فقلت لها عديني منك وعدا ... فقالت: في غد منك المزار فلما جئت مقتضيا أجابت: ... كلام الليل يمحوه النهار

بين الرشيد وماردة

وقال أبو نواس: وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زيّن السّكر الوقار» وهزّ المشي أردافا ثقالا ... وغصنا فيه رمان صغار وقد سقط الرّدا عن منكبيها ... من التخميش وانحلّ الإزار فقلت الوعد سيّدتي، فقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار فقال له: أخزاك اللَّه! أكنت معنا ومطلعا علينا؟ فقال يا أمير المؤمنين عرفت ما في نفسك، فأعربت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم، ولصاحبيه بمثلها. وقال بعض الورّاقين: غضبت من قبلة بالكره جدت بها ... فها أنا جئت فاقتصيّه أضعافا لم يأمر اللَّه إلا بالقصاص فلا ... تستجوري ما رآه اللَّه إنصافا! «2» بين الرشيد وماردة عتبت ماردة على هارون الرشيد، فكانت تظهر له الكراهة وتضمر المحبة، فقال فيها: تبدي صدودا وتخفى تحته صلة ... فالنفس راضية والطّرف غضبان يا من وضعت له خدّي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان حديث الحسن بن هانىء مع الأسود أو بكر الورّاق قال: قال الحسن بن هانىء: حججت مع الفضل بن الربيع، حتى إذا كنا ببلاد فزارة- وذلك إبّان الربيع- نزلنا منزلا بإزاء ماء لبنى تميم، ذا روض أريض «3» ، ونبت غريض «4» ، تخضع لبهجته الزرابي «5» المبثوثة، والنمارق «6» المصفوفة، فقرّت بنضرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء فانشق غمامها، وتدانى من الأرض ركامها، حتى إذا كانت كما

قال أوس بن حجر حيث يقول: دان مسفّ فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح «1» همت برذاذ، ثم بطش، ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة فسرّحت طرفي راتعا منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر. قال: فلما انتهينا إلى أوائلها، إذا نحن نجباء على بابه جارية مشرقة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، أشعرت حماليقه «2» فترة وملئت سحرا، فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها. فاستسقاها، فقالت: نعم ونعمى عين، وإن نزلتم ففي الرحب والسعة! ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان «3» ، أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها؛ ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي. ثم قلت: وصاحبي أيضا عطشان! فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول: إذا بارك اللَّه في ملبس ... فلا بارك اللَّه في البرقع «4» يريك عيون الدّمى غرّة ... ويكشف عن منظر أشنع قال: وسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع ولبست خمارا أسود، وهي تقول: ألا حيّ ربعي معشر قد أراهما ... أقاما، فما أن يعرفا مبتغاهما هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللّحظ ممن سقاهما فشبّهت كلامها بعقد درّ وهى فانتثر، فنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها صمّ الصلاب لانبجست، مع وجه يظلم من نوره ضياء العقول، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير؛ فرقت

وزلت، واستبطرت وأكملت، فلو جنّ إنسان من الحسن جننت؛ فلم أتمالك أن خررت ساجدا فأطلت من غير تسبيح. فقالت: ارفع رأسك غير مأجور؛ لا تذمّ بعدها برقعا، فلربما انكشف عما يصرف الكرى، ويحلّ القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا درك طلبة، ولا قضاء وطّر؛ ليس إلا للحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأهل المكذوب! فبقيت واللَّه معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق، فالتفت إليّ صاحبي فقال: ما هذا الجهد بوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته؟ أما سمعت قول ذي الرمّة: على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا! فقالت: أمّا ذهبت إليه فلا أبالك، واللَّه لأنا بقول الشاعر: منعّمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتجّ الروادف أهضم «1» لها أثر صاف وعين مريضة ... وأحسن إبهام وأحسن معصم خزاعيّة الأطراف سعدية الحشا ... فزاريّة العينين طائيّة الفم ... أشبه من قولك الآخر، ثم رفعت ثيابها حتى بلغت بها نحرها. وجاوزت منكبيها، فإذا قضيب فضة قد أشرب ماء الذهب، يهتز مثل كثيب نقا، وصدر كالوذيلة «2» عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقده لانعقد، منطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرّة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، من تحتها أرنب جاثم، جبهته أسد خادر، وفخذان مدملجان، وساقان خدلّجان «3» يخرسان الخلاخيل، وقدمان كأنهما لسانان. ثم قالت: أعارا ترى لا أبالك؟ قلت: لا واللَّه، ولكن سبب القدر المتاح، ومقرّبي من الموت الذباح، يضيق على الضريح، ويتركني جسدا بغير روح!

فخرجت عجوز من الخباء فقالت له: امض لشأنك، فإن قتيلها مطلول لا يودى، وأسير مكبول لا يفدى! فقالت لها: دعيه، فإنّ له مثل قولا غيلان: وإن لم يكن إلا تعلّل ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها فولّت العجوز وهي تقول: وما نلت منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك خائب فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب خابل، وأنا أقول: يا حسرتا مما يجن فؤادي ... أزف الرحيل بعبرتي وبعادي فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين، مررنا بذلك المنزل وقد تضاعف حسنه، وتمت بهجته؛ فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا! فلما أشرفنا على الخيام، وصعدنا ربوة ونزلنا وهدة، إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادما لأدناهنّ، وهنّ يجنين من نور ذلك الزهر. فلما رأيننا وقفنا وقلنا: السلام عليكنّ. فقالت من بينهنّ: وعليك السلام، ألست صاحبي؟ قلت: بلى! قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم! وقصت عليهنّ القصة ما خرمت حرفا. قلن لها: ويحك! ما زوّديته شيئا يعلل به! قالت: بلى زوّدته لحدا ضامرا، وموتا حاضرا! فانبرت لها أنضرهنّ خدّا، وأرشقهنّ قدّا، وأسحرهنّ طرفا، وأبرعهنّ شكلا؛ فقالت: واللَّه ما أحسنت بدءا، ولا أجملت عودا، ولقد أسأت في الردّ، ولم تكافئيه على الودّ: فما عليك لو أسعفته بطلبته، وأنصفته في مودّته، وإنّ المكان لخال، وإن معك من لا ينم عليك؟

فقالت: أما واللَّه لا أفعل من ذلك شيئا أو تشركيني في حلوه ومره! قالت لها: تلك إذا قسمة ضيزى «1» . تعشقين أنت وأناك أنا! قالت أخرى منهنّ: قد أطلتن الخطاب في غير أدب، فسلن الرجل عن نيته، وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتن فيه قصد. فقلن: حيّاك اللَّه وأنعم عينا، ممن تكون؟ وممن أنت، وما تعاني؟ وإلام قصدت؟ فقلت: أمّا الاسم فالحسن بن هانىء، من اليمن، ثم من سعد العشيرة؛ وخير شعراء السلطان الأعظم، ومن يدنى مجلسه؛ ويتّقى لسانه، ويرهب جانبه؛ وأمّا قصدي فتبريد غلة، وإطفاء لوعة قد أحرقت الكبد وأذابتها! قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك اللَّه أمنيتك، وتنال بغيتك! ثم أقبلت عليهنّ فقالت: ما واحدة منكنّ غير ملتمسة مرغّبة؛ فتعالين نشترك فيه ونتقارع عليه، فمن واقعتها القرعة منا كانت هي البادئة! فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري ... فعلّق إزار على باب الغار، وأدخلت فيه وأبطأت عليّ؛ وجعلت أتشوّف لدخول إحداهنّ عليّ، إذ دخل عليّ أسود كأنه سارية، وبيده شيء كالهراوة قد أنعظ بمثل رأس الحنيذ! قلت: ما تريد؟ قال: أنيكك! ثم صحت بصاحبي وكان متأنّيا مع الجواري؛ فو اللَّه ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هنّ يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات! فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنما إلى جانب الغار، فدعونه فوسوسن إليه شيئا فدخل عليك. فقلت: أتراه كان يفعل بي شيئا؟ فقال:

خبر ذي الرمة

أتراك خلصت منه! فانصرفت وأنا أخزى الناس. قال إسماعيل: فقلت: ناكك واللَّه الأسود! فقال: مالك أبعدك اللَّه! فو اللَّه لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل، حتى ضاق به صدري فرأيتك موضعا له! فبحقي عليك إن أذعته! قال إسماعيل: فما فهت به حتى مات. خبر ذي الرمة قال أبو صالح الفزاري: ذكرنا ذا الرّمة، فقال عصمة بن عبد الملك- شيخ منا قد بلغ عشرين ومائة سنة-: إياي فاسألوا عنه؛ كان من أظرف الناس، آدم، خفيف العارضين، حسن الضحك، حلو المنطق، وإذا أنشد جشّ صوته، وإذا راجعك لم تسأم حديثه وكلامه. وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم مسعود، وهشام وأوفى، وكانوا يقولون القصيدة فيزيد عليها الابيات فتذهب له. فجمعني وإياه مرتبع، فأتاني يوما، فقال لي: هيا: [يا عصمة] ؛ إنّ مية منقرية، وبنو منقر أخبث حيّ، وأقفى للأثر، فهل عندك ناقة نردار عليها مية؟ قلت: واللَّه إنّ عندي الجؤذر. قال: عليّ بها. فركبنا جميعا وخرجنا حتى أشرفنا على بيوت الحيّ، وإذا ببيت فيه ناحية، والقوم خلوف «1» ، والنساء في الرحال، فعرفن ذا الرمّة فتقوّض «2» النساء إلى مية؛ وجئنا ثم أنخنا، ثم دنونا، فسلمنا وقعدنا نتحدّث؛ فإذا هي جارية أملود «3» ، واردة «4»

الشعر، بيضاء تغمرها صفرة، وعليها ثوب أصفر، وطاق أخضر؛ فقلن: أنشدنا يا ذا الرمّة؛ فقال: أنشدهنّ يا عصمة. فأنشدتهنّ: نظرت إلى أظعان ميّ كأنها ... ذرا النخل أو أثل تميل ذوائبه فأعربت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق تمت عليه سواكبه بكا وامق خاف الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومغايبه فقالت ظريفة منهنّ: لكن الآن فلنجل. قال: فنظرت إليها مية متكرهة، ثم مضيت في القصيدة، حتى انتهيت إلى قوله: إذا سرحت من حبّ ميّ سوارح ... على القلب آبته جميعا عوازبه فقالت [لها] الظريفة: قتلته قاتلك اللَّه! قالت مية: ما أصحه وهنيئا له! فتنفس ذو الرمّة تنفسا ظننت معه أنّ فؤاده قد انصدع؛ ومضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله: وقد حلفت باللَّه ميّة ما الذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه إذا فرماني اللَّه من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوّ أحاربه فالتفتت إليه [ميّة] فقالت: خف عواقب اللَّه! ومضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله: إذا راجعتك القول ميّة أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الثّوب سالبه فيا لك من خدّ أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلّل جادبه «1» فقالت الظريفة: أما هذه فقد راجعتك، وقد بدا لك الوجه منها، فمن لك بأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت مية إليها فقالت: قاتلك اللَّه، ما أنكر ما تجيبين به! فتحدثن ساعة، ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهذين شأنا، فقمن بنا [عنهما. فقامت، وقمن معها] وقمت معهنّ: فجلست في بيت أراهما منه، فما رأيته برح من مقعده ولا قعدته؛ فسمعتها قالت له: كذبت واللَّه! ولا أدري ما قال لها.

المأمون ويحيى بن أكثم

فلبثت قليلا ثم جاءني ومعه قارورة فيها دهن ومعه قلائد، فقال: هذا دهن طيب أتحفنا به، وهذه قلائد للجؤذر؛ ولا واللَّه ما أقلدهن بعيرا أبدا! وشدّ بهن ذوائب سيفه، وانصرفنا؛ فكنا نختلف إليها حتى انقضى الربيع ودعا الناس المصيف؛ فأتاني فقال: هيا عصمة، رحلت ولم يبق إلا الآثار والرسوم من الديار! وأنشدني: ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر المأمون ويحيى بن أكثم خرج المأمون في يوم عيد وقد ركب الجند أمامه، ومعه يحيى بن أكثم يضاحكه ويحادثه، وإذ نظر إلى غلام من الجند في غاية الفراهة «1» ، عليه ثوب حرير أخضر، وثوب موشى مزرّر بالذهب، فالتفت إلى يحيى بن أكثم فقال له: يا يحيى، ما تقول في هذه البضاعة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لقبيح من إمام مثلك مع فقيه مثلي! قال: فمن الذي يقول: قاض يرى الحدّ في الزّناء ولا ... يرى على من يلوط من باس «2» فقال: دعبل الذي يقول: ولا أرى الجور ينقضي وعلى العامّة وال لآل عباس قال: ينفى إلى السند، وإنما داعبناك. ثم أنشأ المأمون يقول: أيها الراكب ثوبا ... هـ حرير وحديد جئت للعبد وفي وج ... هك للأعين عيد أنت جندي ولكن ... فيك للحسن جنود الفضل والأمين الفضل بن الربيع قال: قعد المخلوع للناس يوما وعليه طيلسان «3» أزرق، وتحته

أبو عيسى وأبو نواس

لبد أبيض، فوقّع في ثمانمائة قصة، فو اللَّه لقد أصاب فما أخطأ، وأسرع فما أبطأ؛ ثم قال لي: يا فضل، أتراني لا أحسن التدبير والسياسة، ولكني وجدت شمّ الآس، وشرب الكاس، واستلقاء من غير نعاس، أشهى إليّ من ذلك! أبو عيسى وأبو نواس قال ابن قتيبة: خرج أبو عيسى جبريل بن أبي عيسى إلى متنزه له بالقفص «1» ، ومعه الحسن بن هانىء، في آخر شعبان: فلما كان اليوم الذي أوفى به الشهر ثلاثين يوما، قيل له: إن هذا يوم شك، وبعض أهل العلم يصومه. فقال: لا عليك، ليس الشك حجة على اليقين، حدثنا أبو جعفر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. ثم قال لابن أبي عيسى: لو شئت لم نبرح من القفص ... نشربها حمراء كالحصّ «2» نسرق هذا اليوم من شهرنا ... واللَّه قد يعفو عن اللّصّ! أبو نواس في مجلس شراب وذكروا أن أبا عيسى خرج إلى القفص متنزها ومعه الحسن بن هانىء، فحمله وخلع عليه، فأقام فيها أسبوعا، ثم قال له: بحياتي صف مجلسنا والأيام كلها. فقال في ذلك: يا طيبنا بقصور القفص مشرفة ... بها الدّساكر والأنهار تطّرد لمّا أخذنا بها الصّهباء صافية ... كأنّها النار وسط الكأس تتقد جاءتك من بيت خمّار بطينتها ... صفراء مثل شعاع الشمس ترتعد وقام كالبدر مشدودا قراطقهه ... ظبي يكاد من التّهييف ينعقد «3» فصبّها من فم الإبريق، فانبعثت ... مثل اللسان جرى وآستمسك الجسد

أبو عيشونة الخياط

فلم نزل في صباح السبت نأخذها ... والليل يأخذها حتى بدا الأحد واستشرقت غرّة الإثنين واضحة ... والجدي معترض والطّالع الأسد «1» وفي الثلاثاء أعملنا المطيّ بها ... صهباء ما قرعتها بالمزاج يد والأربعاء صفا فيه النّعيم لنا ... والكأس تضحك في حافاتها الزّبد ثمّ الخميس وصلناه بليلته ... وتمّ فيه لنا بالجمعة العدد يا حسننا وبحار القصف تغمرنا ... في لجّة الليل والأوتار تجتلد في مجلس حوله الأشجار محدقة ... وفي جوانبه الأطيار تغترد لا نستخف بساقينا لعزّته ... ولا يردّ عليه حكمه أحد عند الهمام أبي عيسى الذي كملت ... أخلاقه، فهي كالأوراق تنتقد أبو عيشونة الخياط أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا أبو محمد الدمشقي قال: مررت ذات ليلة أيام فتنة المستعين، والقمر يزهر بباب الشام، فإذا أنا بشيخ غليظ اصلع نشوان، قد توشح في إزار أحمر، ومال على شقة الأيمن، وفي يده خوصة يشمها ويقول: عشرون ألف فتى ما منهم أحد ... إلّا كألف فتى مقدامة بطل أضحت مزاودهم مملوءة نشبا ... ففرّغوها وأوكوها على الأمل «2» فقلت له: أحسنت، للَّه أنت! فقال: أتحب رقيقة؟ فقلت: ما أحوجني إليها. فقال: إنما هيّج البلا ... يوم عضّ السّفرجلا وعلا الورد وجنتي ... هـ فأبدى التّخجّلا يفضح البدر في الكما ... ل إذا البدر أكملا

جارية في الطواف

ولقد قام لحظ عي ... ني على القلب بالقلى قلت له: أبو من أعزك اللَّه؟ قال: أبو عيشونة الخياط، شهدت حروب ابن زبيدة كلها، وجاريت الفتيان في غاية كل ميدان، واعترف لي كلّ فاتك، وأذعن لي كل شاطر، ونزلت تلك الدار عشرين سنة- وأومأ إلى سجن بغداد- ثم تنفس الصعداء، وقال: أنا الذي أقول: لي فؤاد مستهام ... وجفون لا تنام ودموع اخر الدّه ... ر لعينيّ سجام «1» وحبيب كلّما خا ... طبته قال سلام فإذا ما قلت زرني ... قال لي: ذاك حرام! ثم بكى، فلما أفاق قلت: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي ولي حبيب بالبصرة علقته وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم غبت عنه ثلاثا وثلاثين سنة، فلما عيل صبري خرجت إلى البصرة فطفت في شوارعها حتى رأيته، فما رأيت وجها أحسن منظرا ولا أزهى منه. ثم أنشأ يقول: مردّة في كمده ... معذّب في سهده «2» خلا به السّقم، فما ... أسرعه في جسده يرحمه لما بدا ... من ضرّه ذو حسده. ثم ودعني ومضيت. جارية في الطواف وحدث أبو الفضل قال: إني بالطواف أمام الحجر، إذا سمعت حنينا يخرج من بين الأستار، وإذا بقائل يقول: عفا اللَّه عمّن يحفظ الودّ جهده ... ولا كان عفو اللَّه للنّاقض العهد

مسلم بن عبد الله وزبان

وضعت على الأستار خدّي ذليلة ... ليجمعني مع من وضعت له خدّي قال: فرفعت الأستار، فإذا جارية منفردة، كأنها شمس تجلت عنها غمامة؛ فقلت: يا هذه، لو سألت اللَّه الجنة مع هذا التضرع والبكاء ما حرمك إياها! قال: فسترت وجهها وقالت: سبحان من خلق فسوّى، ولم يهتك العلانية والنجوى «1» ؛ أما واللَّه إني لفقيرة إلى رحمة ربي، وقد سألته أكبر الأمرين عندي، رجاء فضله، واتكالا على عفوه! ثم ولت عني، فاستعذت باللَّه من الشيطان الرجيم. مسلم بن عبد اللَّه وزبان حدث مسلم بن عبد اللَّه بن مسلم بن جندب قال: خرجت أنا وزبّان السواق إلى العقيق، فلقينا نسوة نازلات من العقيق، لهن جمال وشارة، وفيهنّ جارية حسّانة العينين «2» ، فلما رآها زبان قال لي: يابن الكرام، دم أبيك واللَّه في ثيابها فلا تطلب أثرا بعد عين! وأنشد قول [أبيه] أبي مسلم بن جندب: ألا يا عباد اللَّه، هذا أخوكم ... قتيل، فهل منكم له اليوم ثائر؟ خذوا بدمي إن متّ كلّ مليحة ... مريضة جفن العين والطرف ساحر قال: فقالت لي الجارية: أنت ابن جندب؟ قلت: نعم. قالت: فاغتنم نفسك واحتسب أباك: فإن قتيلنا لا يودى وأسيرنا لا يفدى. الزبير بن بكار عن عبد اللَّه بن مسلم بن جندب قال: قلت: تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عين لا تنام طويل قال: فطرقني عيسى بن طلحة؛ قال: إني سمعت قولك فجئت أعينك! فقلت: يرحمك اللَّه، أغفلت الإجابة حتى أتى اللَّه بالفرج.

مي صاحبة ذي الرمة

مي صاحبة ذي الرمة أبو المهلهل الخزاعي قال: ارتحلت إلى الدهناء، فسألت عن ميّ صاحبة ذي الرمّة، فدفعت إلى خيمة فيها عجوز هيفاء «1» ، فسلمت عليها وقلت: أين منزل ميّ؟ فقالت: ها أنا ميّ. فقلت: عجبا من ذي الرمّة وكثرة قوله فيك! قالت: لا تعجب، فإني سأقوم بعذره. ثم قالت: فلانة. فخرجت من الخيمة جارية ناهد» عليها برقع؛ فقالت لها؛ أسفري. فلما أسفرت تحيرت لما رأيت من حسنها وجمالها. فقالت: علقني ذو الرمّة وأنا في سنّ هذه، وكلّ جديد إلى بلى. قلت: عذرته واللَّه! واستنشدتها من شعره، فأنشدتني. ما يكتب على العصائب وغيرها أبو الحسن قال: دخلت على هارون الرشيد وعلى رأسه جوار كالتماثيل، فرأيت عصابة منظمة بالدر والياقوت مكتوبا عليها بصفائح الذهب: ظلمتني في الحبّ يا ظالم ... واللَّه فيما بيننا حاكم قال: ورأيت في عصابة أخرى: مالي رميت فلم تصبك سهامي ... ورميتني فأصبتني يا رامي؟ قال: ورأيت على أخرى: وضع الخدّ للهوى عزّ قال: ورأيت في صدر أخرى هلالا مكتوبا عليه: أفلتّ من حور الجنان ... وخلقت فتنة من يراني قال إسحاق بن ابراهيم: دخلت على الامين محمد بن زبيدة، وعلى رأسه وصائف

في قراطق «1» مفروجة، بيد وصيفة منهن مروحة مكتوب عليها: بي طاب العيش في الصيف، وبي طاب السّرور ... ممسكي ينفى أذى الحرّ إذا اشتد الحرور «2» النّدى والجود في وجه أمين اللَّه نور «3» ... ملك أسلمه الشّبه وأخلاه النّظير وفي عصابة: ألا باللَّه قولوا يا رجال ... أشمس في العصابة أم هلال وفي أخرى: أتهوون الحياة بلا جنون ... فكفوا عن ملاحظة العيون وكتبت ورد جارية الماهاني على عصابتها، وكانت تجيد الغناء مع فصاحتها وبراعتها: تمت وتم الحسن في وجهها ... فكلّ شيء ما سواها محال للناس في الشهر هلال ولي ... في وجهها في كلّ يوم هلال وكتبت في عصابتها بيتين من شعر الحسن بن هانىء، وهما: يا راميا ليس يدري ما الذي فعلا ... عليك عقلي، فإنّ السهم قد قتلا «4» أجريته في مجاري الرّوح من بدني ... فالنفس في تعب والقلب قد شغلا قال علي بن الجهم: خرجت علينا عالج جارية خالصة، كأنها خوط بان وهي تميس في رقة، وعلى طرّتها مكتوب بالغالية، وكانت من مجان أهل بغداد مع علمها بالغناء: يا هلالا من القصور تجلّى ... صام طرفي لمقلتيك وصلّى لست أدري ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلّى «5»

لو تفرّغت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت محلا قال: وخرجت إلينا منال وعليها درع خام، على جانبه الأيمن مكتوب: كتب الطرف في فؤادي كتابا ... هو بالشوق والهوى مختوم وعلى الأيسر مكتوب: كان طرفي على فؤادي بلاء ... إنّ طرفي على فؤادي مشوم قال: وكان على عصابة ظبي، جارية سعيد الفارسي، مكتوب بالذهب: العين قارئة لما كتبت ... في وجنتيّ أنامل الشجن «1» قال: وحدثني الحسن بن وهب قال: كتبت شعب على قلنسوة جاريتها شكل: لم ألق ذا شجن يبوح بحبّه ... إلا حسبتك ذلك المحبوبا حذرا عليك، وإنني بك واثق ... ألّا ينال سواي منك نصيبا وكتب شفيع، خادم المتوكل، على عاتق قبائه الأيمن: بدر على غصن نضير ... شرق الترائب بالعبير «2» وعلى عاتقه الأيسر: خطّت صحيفة وجهه ... في صفحة القمر المنير وكتبت وصيف، جارية الطائي، على عصابتها: فما زال يشكو الحبّ حتى حسبته ... تنفّس في أحشائه وتكلما فأبكي لديه رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما وكان على عصابة مزاج، وهي من مواجن أهل بغداد وفتّاكها: قالوا عليك دروع الصبر قلت لهم ... هيهات إنّ سبيل الصبر قد ضاقا ما يرجع الطرف عنها حين يبصرها ... حتى يعود إليها الطرف مشتاقا وكتبت عنان جارية الناطفي على عصابتها: الكفر والسّحر في عيني إذا نظرت ... فاغرب بعينيك يا مغرور عن عيني فإنّ لي سيف لحظ لست أغمده ... من صنعة اللَّه لا من صنعة القين

وكتبت حدائق في كفها بالحناء: ليس حسن الخضاب زين كفّي ... حسن كفي زين لكلّ خضاب قال: وخرجت علينا جارية حمدان، وقد تقلدت سيفا محلى، وعلى رأسها قلنسوة مكتوب عليها: تأمّل حسن جارية ... يحار بوصفها البصر مذكّرة مؤنثّة ... فهي أنثى وهي ذكر وعلى حمائل سيفها مكتوب بالذهب: لم يكفه سيف بعينيه ... يقتل من شاء بحديه حتى تردّى مرهفا صارما ... فكيف أبقى بين سيفيه فلو تراه لابسا درعه ... يخطر فيها بين صفيه علمت أن السيف من طرفه ... أقتل من سيف بكفيه وكتبت واجد على منطقة جاريتها منصف الكوفية: تكّتي من غمزة العين ... إذا ما مست تنحلّ «1» وفؤادي رقّ حتى ... كاد من صدري ينسلّ بعض ما بي يصدع القلب. فما ظنّك بالكل ومن قولي فيما كتبت على كأس مذهبة: اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي واحلل وشاح الكعاب رفقا ... واحذر على خصرها الدقيق «2» وقل لمن لام في التّصابي ... إليك خلّي عن الطريق وقف صريع الغواني بباب محمد بن منصور فاستسقى، فأمر وصيفا له فأخرج إليه خمرا في كأس مذهبة، فلما نظر إليها في راحته قال: ذهب في ذهب را ... ح بها غصن لجين

فأتت قرّة عيني ... من يدي قرة عين قمر يحمل شمسا ... مرحبا بالقمرين لا جرى بيني ولا ... بينهما طائر بين وبقينا ما بقينا ... أبدا متفقين في غبوق وصبوح ... لم نبع نقدا بدين «1» محمد بن اسحاق قال: حدثني أحمد بن عبد اللَّه قال: رأيت على مروحة مكتوبا: الحمد للَّه ووحده ... وللخيفة بعده وللمحبّ إذا ما ... حبيبه بات عنده وقال: ورأيت في مجلس سريرا مكتوبا عليه بالذهب: أشهى وأعذب من راح ومن ورد ... إلفان قد وضعا خدّا على خدّ وضمّ أحدهما أحشاء صاحبه ... حتى كأنهما للقرب في عقد هذا يبوح بما يلقاه من حزن ... وذاك يظهر ما يخفي من الوجد «2» وفي عصابة أخرى: وإن يحجبوها بالنهار فمن لهم ... بأن يحجبوا بالليل عني خيالها قال أبو عبيدة: ورأيت [جارية] على جبينها مكتوبا: كتبت في جبينها ... بعبير على قمر في سطور ثلاثة: ... لعن اللَّه من عذر وتناولت كفّها ... ثم قلت اسمعي الخبر كلّ شيء سوى الخيا ... نة في الحبّ يغتفر قال الأصمعي: رأيت على باب الرشيد وصائف على عصابة واحدة منهن مكتوبا: نحن حور نواعم ... من أراض مقدّسه

الكرماني والمأمون

أحسن اللَّه رزقنا ... ليس فينا منحسه فاتق اللَّه يا فتى ... لا تدعني موسوسه الكرماني والمأمون وقال أبو جعفر الكرماني يوما للمأمون: أتأذن لي في دعابة؟ قال: هاتها ويحك، فما العيش إلا فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنك ظلمتني وظلمت غسان ابن عباد. قال: وكيف ذلك ويلك؟ قال: رفعت غسان فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك لغسان أشدّ ظلما. قال: وكيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هر، وأقمتني مقام رخمة. فاستظرف ذلك منه ورفع درجته. بين عطاء وعبد الملك أبو زيد قال: كان عطاء بن أبي رباح مع ابن الزبير، وكان أملح الناس جوابا فلما قتل ابن الزبير أمّنه عبد الملك بن مروان، فقدم عليها فسأل الإذن، فقال عبد الملك: لا أريده يضحكني، قد أمّنته فلينصرف. قال أصحابه: فنحن نتقدم اليه ألا يفعل. فأذن له عبد الملك، فدخل وسلم عليه وبايعه، ثم ولّى، فلم يصبر عبد الملك أن صاح به: يا عطاء، أما وجدت أمّك اسما إلا عطاء؟ قال: قد واللَّه استنكرت من ذلك ما استنكرته يا أمير المؤمنين لو كانت سمتني باسم المباركة صلوات اللَّه عليها مريم! فضحك عبد الملك، وقال: اخرج. هارون ولاعب شطرنج لعب رجل بين يدي هارون بالشطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه وفاوضه الكلام قال: ولّني نهر بوق. قال: بل أوليك نصفه؛ اكتبوا عهده على بوق. قال: فولّني على أرمينية. قال: أخشى أن يبطىء عليّ خبرك. قال: فغيرها. قال: لا أريد أن أبعدك عن نفسي.

سعد بن الرابية وزياد

سعد بن الرابية وزياد اختصم إلى زياد بنو راسب وبنو طفاوة في غلام ادعوه، وأقاموا جميعا البينة عند زياد؛ فأشكل على زياد أمره، فقال سعد الرابية من بني عمرو بن يربوع أصلح اللَّه الأمير، قد تبين لي في هذا الغلام القضاء؛ ولقد شهدت البينة لبني راسب والطفاوة، فولني الحكم بينهما. قال: وما عندك في ذلك؟ قال: أرى أن يلقى في النهر، فإن رسب فهو لبني راسب، وإن طفا فهو لبني الطفاوة، فأخذ زياد نعليه وقام وقد غلبه الضحك، ثم أرسل إليه: إني أنهاك عن المزاح في مجلسي. قال: أصلح اللَّه الأمير، حضرني أمر خفت أن أنساه. فضحك زياد وقال: لا تعودن. أفصح أهل البصرة وأجملهم أبو زيد قال: لم يكن بالبصرة أفصح لسانا ولا أظهر جمالا من الحسن بن أبي الحسن البصري، وزرعة بن أبي حمزة الهلالي. المتوكل وعبادة المخنث قال: وأخبرني الوليد بن عبيد البحتري الشاعر قال: كنا عند المتوكل يوما وبين يديه عبادة المخنث، فأمر به فألقي في بعض البرك في الشتاء، فابتل وكاد يموت بردا؛ قال: أخرج من البركة وكسي، وجعل في ناحية في المجلس، فقال له: يا عبادة، كيف أنت؟ وما حالك؟ قال: يا أمير المؤمنين، جئت من الآخرة! فقال له: كيف تركت أخي الواثق؟ قال: لم أجز بجهنم! فضحك المتوكل وأمر له بصلة. نوادر أشعب قال أشعب: فيّ وفي أبي الزناد عجب؛ كنت أنا وهو في كفالة عائشة بنت عثمان، فما زال يعلو وأسفل حتى بلغنا غايتنا هذه! قيل لأشعب: لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك. قال: قد فعلت: قالوا له: فما حفظت من الحديث؟ قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي

صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان فيه خصلتان كتب عند اللَّه خالصا مخلصا» . قالوا إن هذا حديث حسن؛ فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسى نافع واحدة! ونسيت أنا الأخرى! وقال أشعب: رأيت رؤيا نصفها حق ونصفها باطل. قالوا كيف ذلك؟ قال: رأيتني أحمل بدرة «1» ، فمن شدة ثقلها عليّ كنت اسلح في ثيابي، ثم انتهيت، فإذا أنا بالسلح ولا بدرة! ساوم أشعب رجلا بقوس، فقال: أقلّ ثمنها دينار. قال أشعب: واللَّه لو أنك إذا رميت بها طائرا في السماء وقع مشويا بين رغيفين، ما اشتريتها منك بدينار أبدا! وقيل لأشعب: خففت صلاتك. قال: لأنها صلاة لا يخالطها رياء! وضرب الحجاج أعرابيا سبعمائة سوط، وهو يقول عند كل سوط: شكرا لك يا رب! فلقيه أشعب فقال: أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: ما أدري. قال: لكثرة شكرك؛ اللَّه تعالى يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «2» فقال: يا ربّ لاشكر فلا تزدني ... أسأت في شكرك فاعف عني باعد ثواب الشاكرين مني وسأل رجل أشعب أن يسلفه ويؤخّره، فقال هاتان حاجتان، فإذا قضيت لك إحداهما فقد أنصفت. قال الرجل: رضيت. قال: فأنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك! أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي القعقاع قال: رأيت أشعب في السوق يبيع قطيفه «3» ويقول للمشتري: أريد أن أبرأ إليك من عيب. قال: وما ذاك؟ قال: يحترق تحتها من دفن فيها. قال أشعب: من بال ولم يضرط كتب من الكاظمين الغيظ. وقيل لأشعب: هل خلق خلق أطمع منك؟ قال: نعم، أمّي، فإني كنت إذا جئتها

نوادر أبي محمد الأعمش

بفائدة قد أعطيتها قالت: ما جئت به؟ فأتهجى لها الشيء حرفأ حرفا! ولقد أهدي لنا مرة غلام، فقالت: ما أهدي لنا؟ قلت: «غين» ؛ قالت: ثم ماذا؟ قلت: «لام» ، قالت: ثم ماذا؟ قلت: «ألف» ، قالت: ثم ماذا؟ قلت: «ميم» ؛ فأغمى عليها وجعلت تضرط، ولو أجملت لها الحروف لماتت فرحا! وقيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتسارّان إلا حسبت أنهما يأمران لي بشيء! ونظر أشعب إلى شيخ قبيح الوجه، فقال: ألم ينهكم سليمان بن داود عن أن تخرجوا بالنهار! ومر أشعب على رجل نجار يعمل طبقا، فقال له: زد فيه طوقا واحدا تتفضل به علي! قال: وما يدخل عليك؟ قال: لعل يوما يهدى إليّ فيه شيء! قال الأصمعي، أخبرني هارون بن زكريا عن أشعب قال: أدركت الناس يقولون قتل عثمان. قال الأصمعي: وعاش أشعب إلى زمان المهدي ورأيته. نوادر أبي محمد الأعمش دخل رجل على الأعمش يسأله عن مسألة، فردّ عليه فلم يسمع؛ فقال له: زدني في السماع. قال: ما ذلك لك ولا كرامة. قال: فبيني وبينك رجل من المسلمين قال: فخرجا إلى الطريق، فمر بهما شريك القاضي؛ فقال [الأعمش] : إني حدثت هذا بحديث فلم يسمع، فسألني أن أزيده في السماع لأنه ثقيل السمع، وزعم أن ذلك واجب له، فأبيت. قال له شريك: عليك أن تزيده، لأنك تقدر أن تزيد في صوتك؛ ولا يقدر أن يزيد في سمعه! أتت ليلة الشك من رمضان، فكثر الناس عند الأعمش يسألونه عن الصوم فضجر، ثم بعث إلى بيته فجيء إليه برمانة، فشقها ووضعها بين يديه، فكان إذا نظر

الى رجل قد أقبل يريد أن يسأله، تناول حبة فأكلها، فيكفي الرجل السؤال ونفسه الردّ! قال رقبة بن مصقلة: سفه علينا الأعمش يوما، فقالت امرأته من وراء ستر: احملوا عنه، فواللَّه ما يمنعه من الحج منذ ثلاثين سنة إلا مخافة أن يلطم كريّه «1» أو يشتم رفيقه. طلبت بنت الأعمش من الأعمش حاجة، فحجبها بالردّ، فقالت: واللَّه ما أعجب منك، ولكني أعجب من قوم زوّجوك! ودخل رقبة بن مصقلة على الأعمش، فقال: واللَّه إنا لنأتيك فما تنفعنا، ونتخلف عنك فما تضرّنا، وإن الوقوف إليك لذلّ، وإن تركك لحسرة؛ تسأل الحكمة فكأنما تسعط «2» الخردل، وما أشبهك إلا بالصماخيفون «3» ، فإنه كريه الشربة نافع للمعدة! فرفع الأعمش رأسه وقال: من هذا المتكلم؟ فقيل له: رقبة بن مصقلة فنكس رأسه. وقال رجل من تلاميذ الأعمش: صنعت للأعمش طعاما ثم دعوته، فمضى معي وأنا أقوده، حتى سقطت رجله في حفرة يعملها الصبيان للكرة، فقال: ما هذا؟ قلت حفرة يعملها الصبيان للكرة. قال: لا. ولكنك حفرتها لتقع رجلي فيها! واللَّه لا أكلت عندك يومي هذا طعاما! قال: فحملت الطعام إليه، ثم صنعت له بعد ذلك طعاما ودعوته إليه، فقال: ادخل بنا الحمام قبل ذلك. فأدخلته الحمام، فلما جئت لأصبّ الماء الحارّ على رأسه، قال: ما دعاك إلى هذا أردت أن تسلخ قفاي! واللَّه لا أكلت عندك يومي هذا طعاما! قال: فحملت الطعام إليه! وكثر الشعر على الأعمش، فقلت له: لم لا تأخذ من شعرك؟ قال: لا أجد حجّاما يسكت حتى يفرغ. قلنا له: فإنا نأتيك بحجام ونتقدّم إليه أن يسكت حتى يفرغ. قال: فافعلوا!

نوادر محمد بن مطروح الأعرج

قال: فأتيناه بحجام واعذرنا إليه ألا يتكلم حتى ينقضي أمره فبدأ الحجام بحلقه، فلما أمعن في حلقه سأله عن مسألة، فنفض ثيابه وقام بنصف رأسه محلوقا حتى دخل بيته، ثم جئناه بغير، فقال: لا واللَّه لا أخرج إليه حتى تحلفوه! فحلّفناه ألّا يسأله عن شيء؛ فخرج إليه. نوادر محمد بن مطروح الأعرج ولمحمد بن مطروح الأعرج من التبرم والملح والضجر والترفّع ما هو أحسن من هذا وأوقع. قال له رجل يوما: ما تقول يرحمك اللَّه في رجل مات يوم الجمعة، أيعذب عذاب القبر؟ قال: يعذّب يوم السبت! وقال له آخر: أتجد في بعض الحديث أنّ جهنم تخرب؟ قال: ما أشقاك إن اتكلت على خرابها! واستسقى بالناس يوما فأسرع بالصلاة قبل أن يتوافى الناس: فلما انصرف تلقاه بعض الوزراء فقال له: أسرعت أبا عبد اللَّه. قال: ليس علينا أن ننتظر حتى تشربوا وتأكلوا! وكانت لقومس الكاتب منه منزلة وجوار، وكان يتحفه ويتفقده بما أمكنه من الهدايا، وكانت صلاته معه في الجامع، والأعرج صاحب الصلاة، فإذا حضرت الصلاة ولم يحضر قومس، قال لبعض القومة: أنت يا شيطان، كلّم هؤلاء الكلاب لا يقيمون الصلاة حتى يأتي ذلك الخنزير. فكان برّه في حبس الصلاة عليه برّا العقوق خير منه. وكان يجلس إليه خصي لزرياب، قد حج وتنسك ولزم الجامع، فيتحدّث في مجلسه بأخبار زرياب، ويقول: كان أبو الحسن رحمة اللَّه يقول كذا وكذا. فقال له

نوادر شتى

الأعرج: من أبو الحسن هذا؟ قال: زرياب. قال: بلغني أنه كان أخرق الناس لاست خصيّ! وسأله مرة وقال له: ما تقول في الكبش الأعرج، أيجوز في الأضحية؟ قال: نعم، والخصيّ أيضا مثلك! نوادر شتى وسمع أبو يعقوب الخريميّ منصور بن عمار صاحب المجالس، يقول في دعائه: اللهم اغفر لأعظمنا ذنبا، وأقسانا قلبا، وأقربنا بالخطيئة عهدا، وأشدّنا على الدنيا حرصا! فقال له: امرأتي طالق إن كنت دعوت إلا لإبليس! الأصمعي قال: حدّثنا بعض شيوخنا عن ابن طاوس قال: أقبلت إلى عبد اللَّه بن الحسن. فأدخلني بيتا قد نجّد بالرهاوى والميساني، وكل فرشة شريفة؛ قال: فبسطت نطعا وجلست عليه، وابناه محمد وإبراهيم صبيّان يلعبان، فلما نظرا إليّ قال أحدهما لصاحبه: «ميم» . فقال الآخر: «جيم» . فقلت أنا: «نون، واو، نون» فاستغربا ضحكا، وخرجا إلى أبيهما. أبو زيد قال: سكر حائك من الزّطّ، فحلف بالطلاق ليغنّيه أبو علي الأشرس، فمضى معه جماعة إلى أبي علي، فأخبروه، وقالوا: سكر فابتلي، وحلف بالطلاق لتغنّينّه، فأقبل على الحائك فقال: «يا مردسبز، يا مردخش، يا مردتر، إياك أن تعود!» . قال أبو زيد: تفسيره: يا سمين أخضر، يا سمين طيب، يا سمين رطب. وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع، فألح عليه يسأله الغداء عنده، وفي كل ذلك يقول له: أترى أنك تراني أتكلف لك شيئا؟ لا واللَّه، لا أقدم لك إلا ما عندي! فأجابه يوما، فلما أتاه إذا ليس عنده ولا في منزله إلا كسرة يابسة وملح جريش؛ ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك! فألحّ عليه بالسؤال، فقال له:

لئن خرجت إليك لأدقّنّ ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: أنت واللَّه لو علمت من صدق وعيده ما علمت من صدق موعوده، لم ترادّه كلمة ولا وقفت طرفة عين! مرّ برقبة بن مصقلة رجل زاهد غليظ الرقبة، فقال: هذا رجل زاهد والعلامات فيه بخلاف ذلك. فقال له رجل: أكلّمه بذلك أصلحك اللَّه! لئلا يكون غيبة؟ قال: كلمه حتى يكون نميمة! قال شريك بن عبد اللَّه القاضي: سبع من العجائب: عمياء منتقبة «1» ، وسوداء مختضبة، وخصيّ له امرأة، ومخنث يؤمّ قوما، وشيعيّ أشعريّ، ونخعيّ مرجي، وعربيّ أشقر، ثم قال شريك: من المحال عربيّ أشقر. قالوا: كانت في أبي عمرو وضرار بن عمرو ثلاثة من المحال: كان كوفيا معتزلا، وكان من بني عبد اللَّه بن غطفان ويرى رأي الشعوبية، ومحال أن يكون عربي شعوبيا، ومات وهو ابن سبعين سنة ... وقيل لشريح القاضي: أيهما أطيب: اللوزينق أو الجوزينق «2» ؟ فقال: لا أحكم على غائب! وسأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته! فقال له: ارم بها. فقال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى تردّ إلى المسجد. قال: دعها تصبح حتى ينشقّ حلقها! قال الرجل: أولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح؟ وسئل عامر الشعبي عن المسجد الخراب أيجامع فيه؟ قال: نعم ويخرأ فيه؟ الأصمعي قال: ولي رجل قضاء الأهواز، فأبطأت عليه أرزاقه وليس عنده ما يضحّي به ولا ما ينفق؛ فشكا ذلك إلى امرأته، وأخبرها ما هو فيه من الضيق، وأنه

نوادر أبي دلامة

لا يقدر على أضحية؛ فقالت له: لا تغتم، فإنّ عندي ديكا عظيما قد سمّنته، فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه. فبلغ جيرانه الخبر، فأهدوا له ثلاثين كبشا وهو في المصلى لا يعلم؛ فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي، قال لامرأته: من أين هذا؟ قالت: أهدى لنا فلان، وفلان، وفلان ... حتى سمت له جماعة. فقال لها: يا هذه، تحفّظي بديكنا هذا، فلهو أكرم على اللَّه من إسحاق بن إبراهيم؛ إنه فدى ذلك بكبش واحد، وفدى ديكنا هذا بثلاثين كبشا! نوادر أبي دلامة خرج أبو دلامة مع المهدي في مصاد لهم، فعنّ لهم ظبي، فرماه المهدي فأصابه، ورمى عليّ بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب؛ فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل. فقال: قد رمى المهديّ ظبيا ... شكّ بالسهم فؤاده وعليّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده فهنيئا لهما ك ... لّ امرىء يأكل زاده! وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات: إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة اللَّه الرحيم وأمّا بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبّح من غريم لزوم ما علمت بباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم له مائة عليّ ونصف أخرى ... ونصف النصف في صكّ قديم دراهم ما انتفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده محمد بن الجهم وزيره، وكان المهديّ يستثقله، فقال لأبي دلامة: واللَّه لا تبرح مكانك حتى تهجو أحد الثلاثة! فهمّ أبو دلامة بهجاء ابن الجهم، خاف شرّه، فرأى أن هجاء نفسه أقل ضررا عليه، فقال: ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فليس من الكرام ولا كرامه إذا لبس العمامة كان قردا ... وخنزيرا إذا وضع العمامه

المضحكات

وإن لبس العمامة كان فيها ... كثور لا تفارقه الكمامه وعرض أبو دلامة ليزيد بن مزيد، وهو قادم من الريّ، فأخذ بعنان فرسه وأنشد: إنّي نذرت لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلّينّ على النبيّ محمّد ... ولتملأنّ دراهما حجري! فقال له: أما الصلاة على محمد فصلى اللَّه على محمد، وأما الدراهم فإلى أن أرجع إن شاء اللَّه. فقال له: لا تفرّق بينهما، لا فرّق اللَّه بينك وبين محمد في الجنة! فاقترضها من أصحابه وصبّها في حجره حتى أثقلته. ودخل أبو دلامة على المهدي فأسمعه مديحا، فأعجبه وقال له: سل حاجتك! قال: كلب صيد أصطاد به. قال: قد أمرنا لك بكلب تصطاد به. قال: وغلام يقود الكلب. قال: قد أمرنا لك بغلام. قال: وخادم تطبخ لنا الصيد. قال: وأمرنا لك بخادم. قال: ودار نأوي إليها. قال: وأمرنا لك بدار. قال: بقي الآن المعاش. قال: قد أقطعناك ألف جريب «1» عامرة وألف جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: التي لا تعمر. قال: فأنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفا من فيافي بني أسد! قال: فإنّا نجعلها عامرة كلها. قال: فيأذن أمير المؤمنين في تقبيل يده. قال: أما هذه فدعها، قال: ما منعتني شيئا أيسر على أمّ عيالي فقدا منه! المضحكات خاطب يزكيه وسيط: أبو الحسن المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة، فقالت أمها: دعني حتى أسأل عنك. فانصرف الرجل فسأل عن أكرم الحيّ عليها؛ فدلّ على شيخ منهم كان يحسن التوسط في الأمر، فأتاه يسأله أن يحسن عليه الثناء، وانتسب له فعرفه؛

خاطب من أهل المجون:

ثم إن العجوز غدت عليه فسألته عن الرجل، فقال: أنا أعرف الناس به. قالت: فكيف لسانه؟ قال: مدره «1» قومه وخطيبهم! قالت: فكيف شجاعته؟ قال: منيع الجار حامي الذمار! قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال «2» قومه وربيعهم! وأقبل الفتى، فقال الشيخ: ما أحسن واللَّه ما أقبل! ما انثنى ولا انحنى. ودنا الفتى فسلّم، فقال: ما أحسن واللَّه ما سلّم! ما جأر ولا خار. ثم جلس، فقال: ما أحسن واللَّه ما جلس! ما دنا ولا نأى. وذهب الفتى ليتحرّك فضرط، فقال الشيخ: ما أحسن واللَّه ما ضرط! ما أظنّها ولا أغنّها، ولا بربرها ولا قرقرها. ونهض الفتى خجلا، فقال: ما أحسن واللَّه ما نهض! [ما انفتل ولا انخزل. وأسرع الفتى، فقال: ما أحسن واللَّه ما خطا] ! ما ازورّ ولا اقطوطى «3» فقالت العجوز: حسبك يا هذا! وجّه إليه من يردّه، فو اللَّه لو سلح في ثيابه لزوّجناه! خاطب من أهل المجون: وخطب رجل امرأة، فجعل يخطبها وينعظ، فضرب رأس ذكره بيده وقال: مه! إليك يساق الحديث. لأبي تمام في غلام وحمار: أبو سويد قال: كان لحبيب بن أوس حمار حصان، وغلام مؤنّث، فإذا نزل أخذ الحمار ينهق والغلام يمجن في كلامه؛ فقلنا له: إنما أنت فضيحة، فهل قلت فيهما شيئا؟ قال: لي حمار وغلام ... وهما مختلفان أير ذا ينعظ للنّي ... ك وذا رخو العنان لو بهذا عفّ هذا ... لاستراح الثّقلان

محمد بن الحجاج البزّاز- وكان راوية بشار- قال: قال بشار ذات يوم، وهو يعبث، وكان مات له حمار قبل ذلك، قال: رأيت حماري البارحة في النوم، فقلت له: ويلك! مالك متّ؟ قال: إنك ركبتني يوم كذا وكذا، فمررنا على باب الأصبهاني، فرأيت أتانا «1» عند بابه، فعشقتها فمت! وأنشد: سيّدي خذ لي أمانا ... من أتان الأصبهاني إنّ بالباب أتانا ... فضلت كلّ أتان تيّمتني يوم رحنا ... بثناياها الحسان وبغنج ودلال ... سلّ جسمي وبراني ولها خدّ أسيل ... مثل خدّ الشيقران فبها متّ ولو عش ... ت إذا طال هواني! فقال له رجل من القوم: يا أبا معاذ، ما الشيقران؟ قال: هو شيء يتحدّث به الحمير. فإذا لقيت حمارا فاسأله. وقيل لأعرابي وهو واقف على ركيّة «2» مالحة: كيف هذا الماء؟ قال: يخطيء القلب، ويصيب الاست. وأخذ رجل شرب، فأتى به الوالي فقال: استنكهوه. فقالوا: إن نكهته لا تبين عنه. قال: فقيئوه. فقال الشارب: فإن لم أقيء شرابا فمن يضمن لي عشائي؟ رافق أعرابي أعرابيا في سفر فقال: أنا واللَّه أشتهي كشكيّة «3» . ومدّ بها صوته فضرط، فقال له صاحبه: ما نفختك يا بن عمّ! أبو الخطاب قال: كان عندنا رجل أحدب فسقط في بئر فذهبت حدبته وصار آدر، فدخلوا ليهنئوه، فقال: الذي جاء شرّ من الذي ذهب. أبو حاتم قال: رمي رجل أعور بنشابة، فأصابت عينه الصحيحة، فقال: أمسينا وأمسى الملك للَّه.

وقال رجل للجماز: ولدت امرأتي لستة أشهر. فقال: لقد كان إناؤها ضاريا. قالوا: أتي الحجاج بسفط قد أصيب في بعض خزائن كسرى، مقفل؛ فأمر بالقفل فكسر، فإذا فيه سفط «1» آخر مقفل؛ فقال الحجاج: من يشتري مني هذا السفط بما فيه؟ فتزايد فيه أصحابه، حتى بلغ خمسة آلاف دينار، فأخذه الحجاج ونظر فيه فقال: ما عسى أن يكون فيه إلا حماقة من حماقات العجم! ثم أنفذ البيع وعزم على المشتري أن يفتحه ويريه ما فيه؛ ففتحه بين يديه، فإذا فيه رقعة مكتوب فيها: من أراد أن تطول لحيته فليمشطها من أسفل. الزبير بن بكار قال: جاءت امرأة إلى ابن الزبير تستعدي على زوجها وتزعم أنه يصيب جاريتها؛ فأمر به فأحضر، فسأله عما ادعت، فقال: هي سوداء وجاريتها سوداء، وفي بصري ضعف، ويضرب الليل برواقه «2» ، فأنا آخذ من دنا مني. قال: وخطب رجل خطبة نكاح وأعرابي حاضر، فقال: الحمد للَّه، أحمده وأستعينه وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. فقال الأعرابي: لا تقم الصلاة، فإني على غير وضوء. وقال: سمعت أبا موسى عيسى الضّمريّ يقول: دخلت الحمام فإذا بأعمى قد ركب أعمى؛ فقال له: ما هذا؟ قال: ظلمات بعضها فوق بعض. قال العوّام بن حوشب: قال لي عيسى بن موسى: من أرضعتك؟ قلت: ما أرضعني إلا أمي. قال: قد علمت أن ذلك الوجه القبيح لا يصبر عليه سوى أمّك. وكان رجل مقيت «3» قد تنسّك وتشبه بالحسن البصري، فشهد جنازة، فوقف على

شهادة أعرابي:

القبر وإلى جانبه رجل مليح، فضحك، فقال له الناسك: ما أعددت لهذه الحفرة يا فلان؟ قال: قذفك فيها الساعة. ودخل أعرابي الحمام فضرط، فقال نبطيّ كان في الحمام: صبحان اللَّه. فقال له الأعرابي: يا بن اللخناء، ضرطتي أفصح من تسبيحك. وقيل لأعرابي: مالك لا تجاهد؟ قال: واللَّه إني أبغض الموت على فراشي، فكيف أسعى إليه ركضا. شهادة أعرابي: واستشهد أعرابيّ على رجل وامرأة زنيا، فقيل له، أرأيته داخلا وخارجا كالمرود في المكحلة؟ فقال: واللَّه لو كنت جلدة استها ما رأيت هذا. وجد منبوذ بضفّة العراق وعند رأسه مائة دينار، ورقعة مكتوب فيها: أنا ابن الشقي وابن الشقية، وابن القدح والرطليّة، وابن البغي والبغيّة، من كفّلني فله هذه الميّة. السندي بن شاهك والحجام: السندي بن شاهك قال: بعث إليّ المأمون بريدا وأنا بخراسان، فطويت المراحل حتى أتيت باب أمير المؤمنين وقد هاج بي الدم، فوجدته نائما، فأعلمت الحاجب بقصتي وقدّمت إليه عذري وما هاج بي من الدم، وانصرفت إلى منزلي فقلت: أحضروا إليّ الحجّام. قالوا: هو محموم. قلت: فهاتوا حجاما غيره ولا يكون فضوليا. فأتوني به، فما هو إلا أن دارت يده على وجهي حتى قال: جعلت فداك! هذا وجه لا أعرفه، فمن أنت؟ قلت: السندي بن شاهك. قال: ومن أين قدمت، فإني أرى أثر السفر عليك؟ قلت: من خراسان. قال: وأيّ شيء أقدمك؟ قلت: وجه إليّ أمير المؤمنين بريدا ... ولكن إذا فرغت فسأخبرك بالقصة على وجهها. قال: وتعرّفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها؟ قلت: نعم.

فتوى أبي ضمضم:

قال: فما هو إلا أن فرغ حتى دخل رسول اللَّه أمير المؤمنين ومعه كركي «1» ، فقال: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم، وقد أمرك بالتخلف في منزلك إلى أن تغدو عليه إن شاء اللَّه، ويقول: ما أهدي إلينا اليوم غير هذا الكركي. فشأنك به. قال: فالتفت السندي إلى جلسائه فقال: ما يضع بهذا الكركي؟ فقال الحجام: يطبخ سكباجا «2» . قال السندي: يصنع كما قال. وحلف على الحجام الّا يبرح؛ فحضر الغذاء فتغدّينا وهو ينظر، ثم قدّم الشراب، فلما دارت الأقدام قلت: يعلّق الحجام من العقبين» ! ثم قلت: جعلت فداك! سألني عن المنازل والسكك «4» التي قدمت عليها وأنا مشغول في ذلك الوقت؛ وأنا أقصها عليك [الآن] فاستمع: خرجت من خراسان وقت كذا، فنزلت كذا ... يا غلام، اضرب! فضربه عشرة أسواط؛ ثم قلت: وخرجت منه إلى مكان كذا ... يا غلام، أوجع! فضربه عشرة أسواط أخرى؛ ولم يزل يضربه لكل سكة عشرة، حتى انتهى إلى سبعين سوطا فالتفت إليّ الحجام وقال: يا سيدي، سألتك باللَّه، إلى أين تريد أن تبلغ؟ قلت: إلى بغداد. قال: لست تبلغ حتى تقتلني. قلت: فأتركك على ألّا تعود؟ قال: واللَّه لا أعود أبدا. قال: فتركته، وأمرت له بسبعين درهما: فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر؛ فقال: وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه. فتوى أبي ضمضم: أتت جارية أبا ضمضم فقالت: إن هذا قبّلني. فقال قبّليه، فإنّ اللَّه يقول: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «5» . وارتفع رجلان إلى أبي ضمضم، فقال أحدهما: أبقاك اللَّه، إن هذا قتل ابني.

حيطة أعمى:

قال: هل لابنك أم؟ قال: نعم. قال: ادفعها إليه حتى يولدها لك ولدا مثل ولدك، ويربيه حتى يبلغ مثل ولدك، ويبرأ به إليك. حيطة أعمى: وكان بالمدينة أعمى يكنى أبا عبد اللَّه، أتى يوما يغتسل من عين، فدخل بثيابه؛ فقيل له: بللت ثيابك. قال: تبتلّ عليّ أحبّ إليّ من أن تجف على غيري. طبع الناسك: وفي كتاب الهند أن ناسكا كان له سمن في جرّة معلقة على سريره، ففكر يوما وهو مضطجع على سريره وبيده عكاز؛ فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، فأشتري بها خمس أعنز، فأدهن في كل سنة مرتين؛ حتى تبلغ ثمانين وأبيعهن، فأبتاع بكل عشرة بقرة، ثم ينمى المال بيدي، فأبتاع العبيد والإماء، ويولد لي ولد فآخذ به في الأدب، فإن عصاني ضربته بهذه العصا. وأشار بالعصا فأصاب الجرة، فانكسرت وانصبّ السمن على وجهه ورأسه. شهادة الحمير: الزبير قال: حدثنا بكار بن رباح قال: كان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء ويحمل لهم الشراب، فشكي إلى عامل مكة، فنفاه إلى عرفات، فبنى بها منزلا وأرسل إلى إخوانه فقال: ما منعكم أن تعاودوا ما كنتم فيه؟ قالوا: وأين بك وأنت في عرفات؟ قال: حمار بدرهم وقد صرتم على الأمن والنزهة. ففعلوا فكانوا يركبون إليه حتى فسدت أحداث مكة؛ فأعادوا شكايته إلى والي مكة. فأرسل إليه فأتي به، فقال: يا عدوّ اللَّه! طردتك فصرت تفسد في المشعر الحرام قال: يكذبون عليّ أصلح اللَّه الأمير. فقالوا: أصلحك اللَّه، الدليل على صحة ما نقول أن تأمر بجمع حمير مكة فترسل بها أمناء إلى عرفات فيرسلوها، فإن تهتد إلى منزله دون المنازل كعادتها فنحن غير مبطلين. فقال الوالي: إن في هذا لدليلا وشاهدا عدلا.

وصف حمار:

فأمر بحمير من حمر مكة التي للكراء فأرسلت، فصارت إلى منزله كما هي بغير دليل، فأعلمه بذلك أمناؤه، فقال: ما بعد هذا شيء، جرّدوه! فلما نظر إلى السياط قال: لا بد أصلحك اللَّه من ضربي؟ قال: نعم يا عدوّ اللَّه. قال: واللَّه ما في ذلك شيء هو أشدّ عليّ من أن يشمت بنا أهل العراق ويضحكون منا ويقولون: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير! قال: فضحك الوالي وخلّى سبيله. هنأ رجل رجلا في أعرابية. فقال: باليمن والبركة، وشدّة الحركة، والظفر في المعركة. وصف حمار: الهيثم بن عدي قال: بينا أنا بكناسة الكوفة. إذا برجل مكفوف البصر قد وقف على نخاس يسوق الدواب، فقال له: أبغني حمارا لا بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إذا خلا له الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام توفق، وإن أقللت علفه صبر، وإن أكثرته شكر، وإذا ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. قال له النخاس: يا عبد اللَّه اصبر، فإذا مسخ اللَّه القاضي حمارا أصبت حاجتك إن شاء اللَّه! وصف فرس: قال: ودخل رجل السوق في شراء فرس، فقال له النخاس: صفه لي. فقال: أريده حسن القميص، جيّد الفصوص «1» ، وثيق العصب، نقي القصب، يشير بأذنيه ويتشوّف برأسه، ويخطر بيده، ويدحو «2» برجليه، كأنه موج في لجة، أو سيل في حدور، أو منحطّ من جبل! فقال له النخاس: نعم، كذلك كان صلوات اللَّه عليه! قال: إنما أصف لك فرسا. قال: ما حسبتك إلا في وصف نبيّ منذ اليوم. هجاء أبي نخيلة لليمن: قال ودخل ابن نخيلة اليمن، فلم ير بها أحدا حسنا، ورأى نفسه- وكان قبيحا-

كناس الكوفة:

أحسن من بها فقال: لم أر غيري حسنا ... منذ دخلت اليمنا ففي حر امّ بلدة ... أحسن ما فيها أنا! كناس الكوفة: محمد بن إسحاق قال: قال سفيان بن عيينة: دخلت الكوفة في يوم فيه رذاذ من مطر، فإذا أنا بكنّاس فتح كنيفا ووقف على رأس البئر وهو يقول: بلد طيّب ويوم مطير ... هذه روضة وهذا غدير ثم قال لصاحبه: انزل فيها. فأبى عليه؛ فنزل وهو يقول: لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النّزولا كناس آخر: الأصمعي قال: بينا أنا سائر بالفيفاء، إذ سمعت صوتا يقول «1» : جنّبوني ديار هند وسعدى ... ليس مثلي يحلّ دار الهوان قال: فالتفتّ يمنة وشمالا، فإذا الصوت خارج من حشّ؛ فأقبلت حتى وقفت «2» عليه، فإذا بكناس وبيده فأس؛ فقلت: يا سبحان اللَّه! أنت تكنس عذرة وتقول: ليس مثلي يحل دار الهوان فأنّى ذلك؟ وأيّ هو ان أكثر مما أنت فيه؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال: لا تلمني فإنني نشوان ... أنا في الملك ما سقتني الدّنان فقلت: ما هو إلا كقول الآخر: من قرّ عينا بعيشه نفعه

خبر الجعدين:

ولعلي بن الجهم: أعظم ذنبي عندكم ودّي ... فليت هذا ذنبكم عندي يا حسرتا أهلك وجدا بمن ... لا يعرف الشكوى من الوجد خبر الجعدين: حماد الراوية قال: أتيت مكة، فجلست في حلقة منها فيها عمر بن أبي ربيعة القرشي، وإذا هم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم، فقال عمر بن أبي ربيعة، أحدّثكم عن بعض ذلك. كان لي خليل من عذرة، [يقال له الجعد بن مهجع، و] يكنى أبا مسهر وكان مشتهرا بأحاديث النساء، يشبّب بهن وينشد فيهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة، ولا حديث السلوة؛ وكان يوافي الموسم في كل سنة، فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار، واستوقفت له السّفّارة «1» . وإنه غاب عني ذات سنة خبره، حتى قدم وفد عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي، فإذا رجل يتنفس الصعداء؛ فقال: عن أبي مسهر تسأل؟ قلت: نعم. قال: هيهات هيهات! أصبح واللَّه أبو مسهر لا حيّا يرجى، ولا ميتا ينسى، ولكنه كما قال الشاعر: لعمرك ما هذا الغرام بتاركي ... صحيحا ولا أقضي به فأموت فقلت: وما الذي به؟ قال: مثل الذي بك من انهما ككما في الضلال، وجرّكما أذيال الخسران، كأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار! قلت: ما أنت منه يابن أخي؟ قال: أخوه. قلت: واللَّه [ما يمنعك أن تسلك مسلكه الذي سلك إلا] أنك وأخاك كالوشي والبجاد «2» ، لا يرقعك ولا ترقعه! ثم انطلقت وأنا أقول: أرائحة حجّاج عذرة روحة ... ولما يرح في القوم جعد بن مهجع

خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... ومهما يقل أسمع وإن قلت يسمع ألا ليت شعري أي خطب أصابه ... فلي زفرات هجن ما بين أضلع فلا يبعدنك اللَّه خلا فإنني ... سألقى كما لاقيت في الحبّ مصرعي قال: فلما حججت ووقفت بعرفات، إذا به قد أقبل، وقد تغير لونه وساءت هيئته، وما عرفته إلا بناقته؛ فأقبل [فأدنى ناقته من ناقتي] حتى خالف بين أعناقهما، ثم اعتنقني وجعل يبكي، فقلت له: ما الذي دهاك؟ قال: برح الخفاء وكشف الغطاء ثم أنشد يقول: لئن كانت عديلة ذات مطل ... لقد علمت بأنّ الحبّ داء «1» [ألم تنظر إلى تغيير جمسي ... وأنّي لا يفارقني البكاء] وإنك لو تكلفت الذي بي ... لزال السّتر وانكشف الغطاء وإن معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصّبابة واللقاء إذا العذريّ مات بحتف أنف ... فذاك العبد تحكيه الرّشاء فقلت: يا أبا مسهر، إنها ساعة عظيمة، تضرب فيها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت اللَّه كنت قمنا أن تظفر بحاجتك، وتنصر على عدوّك فجعل يدعو، حتى إذا مالت الشمس للغروب، وهم الناس أن يفيضوا سمعته يهينم بشيء، فأصغيت مسمعا، فجعل يقول: يا ربّ كلّ غدوة وروحه ... من محرم يشكو الصّبا ونوحه «2» أنت حسيب الخلق يوم الدوحه فقلت له وما يوم الدوحة؟ قال: سأخبرك إن شاء اللَّه، ولو لم تسلني. فيممنا نحو المزدلفة، فأقبل عليّ وقال: إني رجل ذو مال كثير، من نعم وشاء، وإني خشيت على مالي عام أوّل التلف، فأتيت أخوالي كلبا، فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني

جمة البئر «1» ، وكنت منهم في خير أخوال؛ ثم إني عزمت على مواقعة إبلي بماء لهم يقال له الحوادث؛ فركبت يوما فرسي، وعلقت معي شرابا أهداه إلي بعض الكلبيين، فانطلقت؛ حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم، رفعت لي دوحة عظيمة، فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة ثم تروّحت مبردا! ففعلت، فشددت فرسي ببعض أغصانها، ثم جلست تحتها، فإذا بغبار [قد] سطع من ناحية الحي، ثم تبينت، فبدت لي شخوص ثلاثة، فإذا فارس يطرد مسحلا «2» وأتانا، فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء؛ فما لبث أن لحق المسحل فطعنه فصرعه، ثم ثنى طعنة للأتان، وأقبل وهو يقول: نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل «3» فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت، فثنى رجله ونزل وشدّ فرسه ببعض أغصان الشجرة؛ ثم أقبل حتى جلس، فجعل يحدثني حديثا ذكرت به قول الشاعر: وإنّ حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عوذ مطافل «4» فبينا هو كذلك، إذ نكت بالسوق على ثنيتيه، فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط وقلت: مه! فقال: ولم؟ قلت: إني خائف أن تكسرها؛ إنهما رقيقتان عذبتان. قال: فرفع عقيرته وجعل يقول: إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجر وقال: ما هذا الذي جعلت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إليّ بعض أهلك. فهل لك فيه؟ قال: ما نكرهه إذا كره. فأتيته به، فوضعته بيني وبينه، فلما شرب منه شيئا نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة قد أضلت ولدها؛ ثم رفع عقيرته يتغنى:

إنّ العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا يصرعن ذا الّلبّ حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق اللَّه إنسانا ثم قمت لأصلح من أمر فرسي، فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه؛ وإذا غلام كأنّ وجهه دينار هرقلي، فقلت: سبحانك اللهم! ما أعظم قدرتك! قال: فكيف؟ قلت: ذلك مما راعني من نورك، وبهرني من جمالك! قال: وما الذي يروعك من زرق العيون وحبيس التراب، ثم لا تدري أينعم بعدك أم يبأس؟ قلت: لا يصنع اللَّه بك إلا خيرا. ثم قام إلى فرسه، فلما أقبل برقت لي بارقة من تحت الدرع، فإذا ثدي كأنه حقّ «1» عاج، قلت: نشدتك اللَّه، امرأة أنت؟ قالت: إي واللَّه، وتكره العهر، وتحب الغزل! قلت: وأنا واللَّه كذلك! فجلست واللَّه تحدثني ما أنكر من أمرها شيئا، حتى مالت على الدوحة سكرى؛ فاستحسنت واللَّه يا ابن أبي ربيعة الغدر، وزيّن في عيني؛ ثم إن اللَّه عصمني؛ فما لبثت أن انتبهت مذعورة، فلاثت عمامتها برأسها، وأخذت الرمح، وجالت في متن فرسها؛ فقلت: مضيت ولم تزوّديني منك زادا! فأعطتني بنانها فشممت واللَّه منها كالنبات الممطور زهر «2» الثلج؛ ثم قلت: أين الموعد؟ قالت: إن لي إخوة شرسا «3» وأبا غيورا، واللَّه لأن أسرّك أحبّ إليّ من أن أضرّك! ثم مضت فكان واللَّه آخر العهد بها إلى يومي هذا، وهي التي بلّغتني هذا المبلغ وأحلّتني هذا المحل! قال: فدخلتني له رقّة؛ فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشدّ على ناقته، وحملت غلاما لي على بعير، وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة،

وأخذت معي ألف دينار، ومطرف «1» خزّ؛ ثم خرجنا حتى أتينا بلاد كلب، فإذا الشيخ في نادي الحيّ، فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام، من أنت؟ فقلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي. قال: المعروف غير المنكور، فما الذي جاء بك؟ قلت: جئتك خاطبا، قال: أنت الكفء لا يرغب عن وصله، والرجل الذي لا يردّ عن حاجته. قال: قلت: إني لم آتك لنفسي وإن كنت في موضع الرغبة، ولكنني أتيتكم لابن أختكم العذري. قال: واللَّه إنه لكفء الحسب، كريم النسب؛ غير أن بناتي لم يعرفن هذا الحي من قريش. قال: فعرف الجزع من ذلك في وجهي؛ فقال: أما إني أصنع في ذلك ما لم أصنعه قط لغيرك؛ أخيّرها في نفسها، فهي وما اختارت. فقلت: خيّرها. فأرسل إليها: إن من الأمر كذا وكذا، فالرأي رأيك. فقالت: ما كنت لأستبدّ برأي دون رأي القرشي، خياري ما اختار. قال: قد ردّت الأمر إليك. فحمدت اللَّه وصليت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقلت: قد زوجتها العذريّ [الجعد بن] مهجع. وأصدقتها عنه الألف دينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبّة، وكسوت الشيخ المطرف، فسرّ به، وسألته أن يبني بها من ليلته، فأجابني إلى ذلك؛ فضربت القبة في وسط الحيّ، وأهديت إليه ليلا، وبت عند الشيخ في خبر مبيت، فلما أصبحت غدوت فقمت بباب القبة، فخرج إليّ وقد تبين الجذل فيه، فقلت: كيف كنت بعدي أبا مسهر؟ قال: أبدت لي كثيرا مما كانت تخفيه يوم رأيتها. فقلت: أقم عند أهلك بارك اللَّه لك! ثم انطلقت إلى أهلي وأنا أقول: كفيت الفتى العذريّ ما كان نابه ... ومثلي لأثقال النّوائب يحمل «2» أما استحسنت منّي المكارم والعلا ... إذا صرّحت أنّي أقول وأفعل

زواج المأمون ببوران

زواج المأمون ببوران حدث أبو محمد الشعبي الورّاق- وكان عند باب خراسان عند باب الجسر الأول- عن حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي، قال: بينا أنا ذات يوم عند المأمون وقد خلا وجهه وطابت نفسه، إذ قال لي: يا إسحاق، هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيّب اللَّه عيش أمير المؤمنين، ودام سروره وفرحه! فقال: يا غلمان، خذوا علينا الباب وأحضروا الشراب. قال: ثم أخذ بيدي وأدخلني في مجلس غير المجالس التي كنا فيها، وإذا قد نصبت الموائد، وأصلح ما كان يحتاج إليه الحال، حتى كأنه شيء قد كان تقدّم فيه؛ قال: فأكلنا وأخذنا في الشراب، فأقبلت السّتيرات «1» من كل ناحية بضروب من الغناء وصنوف من اللهو؛ فلم نزل على ذلك إلى آخر النهار. فلما غربت الشمس قال لي: يا إسحق، خير أيام الفتى أيام الطرب! قلت: هو واللَّه ذاك يا أمير المؤمنين. قال: فإني فكّرت في شيء فهل لك فيه؟ قلت: لا أتأخر عن رأي أمير المؤمنين أطال اللَّه بقاءه! قال: لعلنا نباكر الصبوح في غدوتنا هذه، وقد عزمت على دخلة إلى الحرم، فكن بمكانك ولا ترم «2» ، فإني أوافيك عن قريب. قلت: السمع والطاعة. ثم نهض إلى دار السلام، فما عرف له خبر إلى أن ذهب من الليل عامّته. قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق اللَّه بالنساء، وأشدّهم ميلا إليهن واستهتارا بهنّ، وعلمت أن النبيذ قد غلب عليه، وأنهن قد أنسينه أمري وما كان تقدم إليّ ووعدني من رجوعه، فقلت في نفسي: هو في لذته وأنا ههنا في غير شيء، وفيّ بقية، وعندي صبية كنت قد اشتريتها؛ ونفسي متطلعة إلى افتضاضها. فقمت مسرعا عند ذكرها، فقال الخدم: على أيّ عزمت وإلى أين تريد؟ قلت: أريد الانصراف. قالوا: فإن طلبك أمير المؤمنين؟ قلت هو في سروره قد شغله الطرب.

ولذة ما هو فيه عن طلبي، وقد كان بيني وبينه موعد قد جاز وقته، ولا وجه لجلوسي. قال: وكنت مقدّم الأمر في دار المأمون، مقبول القول فيه، لا أعارض في شيء، إذا أو مأت إليه؛ فخرجت مبادرا إلى باب الدار، فلقيني غلمان الدار وأصحاب النوبة «1» ، فقالوا: إن غلمانك قد انصرفوا، وكانوا قد جاءوك بدابة، فلما علموا بمبيتك انصرفوا. فقلت: لا ضير، أنا أتمشى إلى البيت وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النوبة؟ قلت: لا حاجة لي في ذلك. قالوا: فنمضي بين يديك بمشعل؟ قلت: لا، ولا أريد أيضا. وأقبلت نحو البيت، حتى إذا صرت ببعض الطريق أحسست بحرقة البول، فعدلت إلى بعض الأزقة، لئلا يجوز أحد من العوام فيراني أبول على الطريق؛ فبلت، حتى إذا قمت إلى المسح ببعض الحيطان، إذا بشيء معلق من تلك الدار إلى الزقاق، فما تمالكت أن تمسّحت، ثم دنوت إلى ذلك الشيء لأعرف ما هو، فإذا بزنبيل «2» كبير معلق بأربعة مقابض، ملبس ديباجا «3» ، وفيه أربعة أحبل ابريسم، فلما نظرت إليه وتبينته قلت: واللَّه إن لهذا لسببا، وإن له لأمرا. فأقمت ساعة أتروّى في أمري وأفكر فيه، حتى إذا طال ذلك بي قلت: واللَّه لأتجاسرنّ ولأجلسنّ فيه كائنا ما كان ... ثم لففت رأسي بردائي وجلست في جوف الزنبيل، فلما أحس من كان على ظهر الحائط بثقله، جذبوا الزنبيل إليهم حتى انتهوا إلى رأس الحائط، فإذا بأربع جوار، فقلن: انزل بالرحب والسعة، أصديق أم جديد؟ فقلت: لا، بل جديد! فقلن: يا جارية، هاتي الشمعة. فابتدرت إحداهن إلى طست فيه شمعة، وأقبلت بين يديّ، حتى نزلت إلى دار نظيفة، فها من الحسن والظّرف ما حرت له، ثم أدخلتني إلى

مجالس مفروشة، ومناصّ «1» مرصوصة، [فيها من] صنوف الفرش ما لم أر مثله إلا في دار الخليفة. فجلست في أدنى مجلس من تلك المجالس، فما شعرت بعد ذلك إلا بضجة وجلبة، وستور قد رفعت في ناحية من نواحي الدار، وإذا بوصائف يتسابقن في أيدي بعضهنّ الشمع، وبعضهنّ المجامر يبخرن فيها العود والندّ؛ وبينهن جارية كأنها تمثال عاج، تتهادى بينهن كالبدر الطالع، بقدّ يزري على الغصون؛ فما تمالكت عند رؤيتها أن نهضت، فقالت: مرحبا بك من زائر أتى وليست تلك عادته. وجلست، ورفعت مجلسي عن الموضع الذي كنت فيه، فقالت: كيف كان ذا واللَّه لي ولك، ولا علم كان وقع إليّ؛ فما السبب؟ قال: قلت: انصرفت من عند بعض إخواني، وظننت أني على وقت، فخرجت في وقت ضيق، وأخذني البول فأخذت إلى هذا الطريق، فعدلت إلى هذا الزقاق، فوجدت زنبيلا معلقا، فحملني النبيذ فجلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه، وإن كان صوابا فاللَّه ألهمنيه قالت: لا ضير إن شاء اللَّه، وأرجو أن تحمد عواقب أمرك؛ فما صناعتك؟ قلت: بزّاز «2» . قالت: وأين مولدك؟ قلت: بغداد. قالت: ومن أيّ الناس أنت؟ قلت: من أماثلهم وأوساطهم. قالت: حيّاك اللَّه وقرّب دارك! ... قالت: فهل رويت من الأشعار شيئا؟ قلت: شيئا يسيرا. قالت: فذاكرنا بشيء مما حفظت قلت: جعلت فداك. إن للداخل دهشة، وفيّ انقباض؛ ولكن تبتدئين بشيء من ذلك، فالشيء يأتي بالمذاكرة. قالت: لعمري لقد صدقت، فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا ... ؟ ثم أنشدتني لجماعة من الشعراء، القدماء والمحدثين، من أحسن أشعارهم، وأجود أقاويلهم، وأنا مستمع أنظر من أي أحوالها أعجب، من ضبطها، أم من حسن لفظها، أم من حسن أدبها، أم من حسن [روايتها و] جودة ضبطها للغريب، أم من

اقتدارها على النحو ومعرفة أوزان الشعر؟ ثم قالت: أرجو أن يكون ذهب عنك بعض ما كان من الحصر والانقباض والحشمة «1» . فقلت: إن شاء اللَّه لقد كان ذلك. قالت: فإن رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافعل. قال: فاندفعت أنشد لجماعة من الشعراء؛ فاستحسنت نشيدي وأقبلت تسألني عن أشياء في شعري كالمختبرة لي، وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك، وهي مصغية إليّ، ومستحسنة لما آتى به؛ حتى أتيت على ما فيه مقنع؛ قالت: واللَّه ما قصّرت ولا توهمت في عوام التجار وأبناء السوقة مثل ما معك؛ فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟ قلت: قد نظرت أيضا في شيء من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا حينا حتى قدّمت إلينا مائدة لطيفة، قد جمع عليها غرائب الطعام السري؛ فقالت: إن الممالجة أول الرضاع، فتقدمت، فأقبلت أعذّر بعض التعذير، وهي معي تقطع وتضع بين يديّ، وأنا أغتنم ما أرى من ظرفها وحسن أدبها، حتى رفعت المائدة. وأحضرت آنية النبيذ، فوضعت بين يديّ صينية وقدح ومغسل، وبين يديها مثل ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد إلا لوليّ عهد أو سلطان، وقد عبّيء أحسن تعبئة، وهيّيء أحسن تهيئة. قال إسحاق: فتثاقلت عن الشراب لتكون هي المبتدئة، فقالت: مالي أراك متوقفا عن الشراب؟ قلت: انتظارا لك، جعلت فداك! فسكبت قدحا آخر فشربت. ثم قالت: هذا أوان المذاكرة، فإن المذاكرة بالأخبار وذكر أيام الناس مما يطرب. قلت: لعمري إن هذا لمن أوقاته. فاندفعت، فقلت: بلغني أنه كذا وكذا ... وكان رجل من الملوك يقال له فلان بن فلان ... وكان من قصته كذا وكذا ... ، حتى مررت بعدة أخبار حسان من أخبار الملوك، وما لا يتحدث به إلا عند ملك أو خليفة؛ فسرّت بذلك سرورا شديدا، ثم قالت: واللَّه لقد حدّثتني

بأحاديث حسان، ولقد كثر تعجبي من أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنما هذا من أحاديث الملوك، وما لا يتحدّث به إلا عند ملك أو خليفة. فقلت: جعلت فداك، كان لي جار ينادم بعض الملوك، وكان حسن المعرفة كثير الحفظ؛ فكان ربما تعطل عن نوبته التي كان يذهب فيها إلى دار صاحبه؛ لشغل يمنعه من ذلك، أو لأمر يقطع، فأمضى إليه، وأعزم عليه، وأصيّره إلى منزلي؛ فربما أخبرني من هذه الأحاديث شيئا، إلى أن صرت من خاصة أخدانه وممن كان لا يفارقه؛ فما سمعت مني فمنه أخذته، وعنه استفدته. فقالت: يجب أن يكون هذا كذا. ولعمري لقد حفظت فأحسنت الحفظ، وما هذا إلا لقريحة جيدة وطبع كريم. قال إسحاق: وأخذنا في الشراب والمذاكرة: أبتديء الحديث، فإذا فرغت ابتدأت هي في آخر، حتى قطعنا بذلك عامة الليل، والندّ «1» وفائق البخور يجدّد، وأنا في حالة لو توهمها المأمون أو تأملها لاستطار سرورا وفرحا. ثم قالت لي: يا فلان- وكنت قد غيرت عليها اسمي وكنيتي- واللَّه إني لأراك كاملا، وإنك في الرجال لفاضل، وإنك لوضيء الوجه، مليح الشكل، بارع الأدب؛ وما بقي عليك إلا شيء واحد حتى تكون قد برّزت وبرعت. فقلت: وما هو يا سيدتي، دفع اللَّه الأسواء عنك؟ قالت: لو كنت تحرّك بعض الملاهي، أو تترنم ببعض الأشعار. فقلت: واللَّه [إني كنت] قديما أشتهيه، وطالما كلفت به وحرصت عليه، فلم أرزقه ولا يعلق بي شيء منه؛ فلما طال عنائي به، وكلما تقدمت في طلبه كنت منه أبعد وعنه أذهب، تركته وأعرضت عنه، وإن في قلبي من ذلك لحرقة، وإني لمستهتر به مائل إليه، وما أكره أن أسمع في مجلسي هذا من جيّده شيئا؛ لتكمل ليلتي ويطيب عيشي! قالت: كأنك قد عرّضت بنا. قلت: لا واللَّه ما هو تعريض، وما هو إلا تصريح؛ وأنت بدأت بالفضل، وأنت أولى من أتمّ ما بدأ به. فقالت: يا جارية: عود. فأحضرت عودا، فأخذته، فما هو إلا أن جسّته حتى ظننت أن الدار قد سارت بي وبمن فيها، واندفعت تغني، مع صحة أداء وجودة صوت.

فقلت: واللَّه لقد جمع اللَّه لك خلال «1» الفضل، وحباك بالكمال الرائع، والعقل الزائد، والأخلاق المرضية، والأفعال السنية. فقالت: أما تعرف لمن هذا الصوت ومن غنّى به؟ قلت: لا واللَّه. قالت: الغناء لإسحاق، والشعر لفلان، وكان سببه كذا وكذا ... فقلت: هذا واللَّه أحسن من الغناء. فلم تزل تلك حالها في كل صوت تغنيه، ومع ذلك تشرب وأشرب؛ حتى إذا كان عند انشقاق الفجر، جاءت عجوز كأنها داية «2» لها، فقالت: أي بنية، إن الوقت قد حضر، فإذا شئت فانهضي. فلما سمعت مقالها نهضت؛ فقالت: عزمت؟ قلت: إي واللَّه. فقالت: مصاحبا للسلامة، [عزمت] عليك لتسترنّ ما كنا فيه، فإن المجالس بالأمانة. فقلت جعلت فداك، أفأحتاج إلى وصية في ذلك؟ فودعتها وودعتني، وقالت: يا جارية، بين يديه. فأتي بي باب في ناحية الدار ففتح لي وأخرجت منه إلى طريق مختصرة، وبادرت البيت، فصليت ووضعت رأسي، فما انتبهت إلا ورسل الخليفة على الباب؛ فقمت فركبت فسرت إليه، فلما مثلت بين يديه قال لي: يا إسحاق، جفوناك بما كنا ضمنّاه لك، وتشاغلنا عنك. فقلت: يا سيدي، ليس شيء آثر عندي وأسرّ إلى قلبي من سرور يدخل على أمير المؤمنين فإذا كمل سروره وطاب عيشه فعيشنا يطيب وسرورنا يتصل بسروره. ثم قال: ما كانت حالتك؟ قلت: يا سيدي كنت اشتريت من السوق صبية، وكنت متعلق القلب بها، فلما تشاغل أمير المؤمنين عني، وقد كانت فيّ بقية طالبتني نفسي بها، فمضيت مسرعا وأحضرتها، وأحضرت نبيذا فسقيتها وشربت معها، وغلب عليّ السكر فقطعت عما أردت، وذهب بي النوم إلى أن أصبحت. فقال لي: ما أكثر ما يتهيأ على الناس من هذا. فهل لك في مثل ما كنا فيه أمس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين وهل أحد يمتنع من ذلك؟ قال: فإذا شئت [فانهض بنا] فنهض ونهضت، فصرنا إلى المجلس الذي كنا

فيه بالأمس، على مثل حالنا وأفضل، حتى إذا كان ذلك الوقت وثب قائما، ثم قال يا إسحاق، لا ترم «1» ، فإني أجيئك، وقد عزمت على الصبحة. فما هو إلا أن فارقني حتى تصوّر لي ما كنت فيه، فإذا هو شيء لا يصبر عنه إلا جاهل فنهضت. فقال لي الغلمان: اللَّه اللَّه. وإنه أنكر علينا تخليتك وطالبنا بك، وقال، لم تركتموه؟ ولا نحسبك إلا تحب الإيقاع بنا. فقلت: واللَّه لا نال أحدكم بسببي مكروه أبدا. ولكن أبادر بحاجتي، واللَّه لا كان لي حبس ولا تريّث، وأمير المؤمنين أطال اللَّه بقاءه إذا دخل أبطأ، وأنا موافيكم قبل خروجه إن شاء اللَّه. قال: فمضيت، فما شعرت إلا وأنا في الزقاق، فوافيت الزنبيل على ما كان عليه فأقعدت فيه وأصعدت، وصرت إلى الموضع [الذي كنت فيه البارحة] ، فلم ألبث إلا هنيهة وإذا بها قد طلعت، فقالت: ضيفنا؟ قلت: إي واللَّه. قالت: أو قد عاودت؟ قلت: نعم، وأظنّ أني قد أثقلت. فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام فقلت: هفوة، فمني بالصفح، قالت: قد فعلنا فلا تعد، قلت: إن شاء اللَّه. ثم جلست، وأخذنا فيما كنا فيه من المذاكرة والإنشاد والشرب، ولم نزل على تلك الحال وأفضل، وقد أنست وانبسطت بعض الانبساط، وهي مع ذلك لا تزال تقول: لو كنت على ما أنت عليه أحكمت من تلك الصنعة شيئا، لقد تناهيت وبرعت. فأقول: واللَّه لقد حرصت على ذلك وجهدت فيه فما رزقته ولا قدرت عليه. ثم قلت: جعلت فداك، لا تخلينا مما كان من فضلك البارحة. فأخذت في الأغاني، وكلما مر صوت طيب قالت: أتدري لمن هذا؟ فأقول: لا! فتقول: لإسحاق! فأقول: وإسحاق هكذا في الحذق! فتقول. بخ إسحاق في هذا البيت بديع الصوت، وعميق الغناء. فأقول: سبحان اللَّه! لقد أعطي إسحاق هذا ما لم يعطه أحد! فتقول: لو سمعت هذا منه لكنت أشدّ استحسانا له وكلفا به. حتى إذا كان ذلك الوقت وجاءت العجوز، نهضت وودعتها، وبادرت جارية ففتحت الباب فخرجت منه.

وبادرت المنزل فتوضأت للصلاة وصليت الصبح، ووضعت رأسي فنمت، فما انتبهت إلا ورسل أمير المؤمنين يطلبونني؛ فركبت إلى الدار فما هو إلا أن مثلت بين يديه فقال لي: يا إسحاق، أبيت إلا مكافأة لنا ومعاملة بمثل ما عاملناك. قلت: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، ما إلى ذلك ذهبت، ولا إليه قصدت، ولكنني ظننت أن أمير المؤمنين تشاغل عني بلذته وأغفل أمري، وجاء الشيطان فأذكرني أمر الجارية، فبادرت، فقال: وكان من أمرك ماذا؟ قلت: قضيت الحاجة وفرغت [من] الأمر. فقال: قد انقضى ما كان بقلبك منها وواحدة بواحدة والبادي أظلم. فقلت: أنا يا أمير المؤمنين ألوم وأظلم، والمعذرة إليك فقال: لا تثريب عليك، هل لك في مثل حالنا الأول؟ قلت: إي واللَّه! قال: فانهض بنا. فقمنا حتى صرنا إلى الموضع الذي كنا فيه، فأخذنا في لذتنا؛ حتى إذا كان الوقت قال لي: يا إسحق ما عزمت؟ قلت لا عزم لي يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك لتجلسنّ حتى أخرج إليك لتصطبح؛ فإني عازم على الصبوح وقد نغّصت عليّ منذ يومين! قلت: إن شاء اللَّه! وقام، فما هو إلا أن توارى، حتى قمت وقعدت، وجالت وساوسي، وجعلت أفكر في مجلسي معها وأفكر فيها، وفي الخروج عن طاعة المأمون وما يخرجني من سخطه وموجدته؛ فسهل [عليّ] كلّ صعب إذ فكرت في أمرها؛ فقمت مبادرا، فاجتمع عليّ جند الدار فقالوا: أين تريد؟ فقلت اللَّه اللَّه! إن لي قصة، وأنا معلّق القلب ببعض من في منزلي، وأحتاج إلى مطالعتهم في بعض الأمر. فقالوا: ليس إلى تركك سبيل! فلم أزل أرفق بهذا، وأقبّل رأس هذا، ووهبت لواحد خاتمي، ولآخر ردائي، حتى تركوني؛ فلما خرجت عن جملتهم لم أرتد عنها جاسرا حتى وافيت الزنبيل وصعدت السطح وصرت إلى الموضع؛ فلما رأتني قالت: ضيفنا؟ قلت: نعم. قالت: جعلتها دار مقام! قلت: جعلت فداك، حق الضيافة ثلاثة أيام، فإن عدت بعدها فأنت في حل من دمي! قالت: واللَّه لقد أتيت بحجة. ثم جلسنا، وأخذنا في مثل حالنا الأول من الشرب والإنشاد، والمذاكرة، حتى إذا علمت أن الوقت قد قارب، فكرت في قصتي، وأن المأمون لا يفارقني على هذا

وانني لا اتخلص منه إلا بشرح قصتي وأكشف له عن حالي، وعلمت أني إن قلت له ذلك طالبني بمعرفة الموضع والمسير إليه، مع ما كان غلب عليه من الميل إلى النساء؛ فقلت لها: أتأذنين في ذكر شيء خطر ببالي؟ قالت: قل ما بدا لك. قلت: جعلت فداك، إني أراك ممن يقول بالغناء، ويعجب به وبالأدب ولي ابن عم هو أحسن مني وجها، وأشرف قدرا، وأكثر أدبا، وأعز معرفة، وأنا تلميذ من تلاميذه، وحسنة من حسنانه؛ وهو أعرف الناس بغناء إسحق! قالت: طفيلي ومقترح! لم ترض أن سمحنا لك ثلاثة أيام، حتى طلبت أن تأتي معك بآخر؟ فقلت لها: جعلت فداك، ذكرته لتكوني أنت المحكمّة، فإن أذنت وأردت ذلك وإلا فلا أذكره. فقالت: إن كان ابن عمك هذا على ما ذكرت فلا نكرة أن نعرفه، فقلت: هو واللَّه أكثر مما وصفت! فقالت: إن شئت فالليلة الآتية أئت به. ثم حضر الوقت فنهضت حتى وافيت منزلي، وإذا برسل الخليفة قد هجموا على منزلي وأصحاب الشرطة؛ فلما بصروا بي سحبت على ما بي بحالتي تلك، حتى انتهوا بي إلى الدار؛ فإذا المأمون جالس على كرسي وسط الدار، مغتاظ حرد» ؛ فقال: أخروجا عن الطاعة؟ قلت: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، إنه كانت لي قصة أحتاج فيها إلى الخلوة. فأومأ إلى من كان واقفا فتنحّوا، فلما خلونا قلت: كان من خبري كذا وكذا، وفعلت وصنعت ... فو اللَّه ما فرغت من حديثها حتى قال: يا إسحق، أتدري ما تقول؟ فقلت: إي واللَّه! إني لأدري! فقال: ويحك! كيف لي مشاهدة ما شاهدت؟ قلت: ما إلى ذلك سبيل! قال: لا بد أن تتلطف وتوصّلني إليها؛ فهذا ما بقي لي صبر عنه! قلت: واللَّه إني قد تفكرت في قصتها وفيما قدمت عليه من عصيانك، وعلمت أنه لا ينجيني إلا الصدق وكشف الحال، وعلمت أنك تطالبني به أشدّ مطالبة فقدّمت لها ذكرك، ووعدتني في أمرك بكذا وكذا. قال: أحسنت واللَّه لولا ذلك لنا لك مني كلّ مكروه! قلت: فالحمد للَّه الذي سلّم.

ثم نهض ونهضت إلى مجلسنا، وأخذنا في لذتنا، وهو مع ذلك يقول: يا إسحق، صف لي حالها، واشرح لي أمرها! فقطعنا يومنا في مذاكرتها إلى أن مضى النهار، فلما أن مضى من الليل هدأة «1» جعل يقول: ما جاء الوقت! وأنا أقول بقي قليل؛ والقلق غالب عليه، حتى جاء الوقت، فنهضنا وخرجنا من بعض أبواب القصر؛ معنا غلام، وهو على حمار وأنا على حمار. فلما صرنا بالقرب من منزلها نزلنا، ثم سلمنا الحمارين للغلام، وقلنا له: انصرف، فإذا كان الفجر فكن ههنا بالحمارين وأقبلنا نمشي متنكرين وأنا أقول: يجب أن تظهر برّي بحضرتها وإكرامي. وتطرح نخوة «2» الخلافة وتجبّر الملك، بل كن كأنك تبع لي! وهو يقول: نعم أو يحتاج أن توصيني؟ ثم قال: ويحك يا إسحق! فإن قلت لي غنّ كيف أصنع؟ قلت: أنا أكفيك وأدفعها عنك برفق. فلما صرنا إلى الزقاق إذا بزنبيلين «3» معلقين بثمان حبال، فقعد كل منا في واحد وجذبتا الجواري، وإذا نحن في السطح؛ وبادرن بين أيدينا حتى انتهينا إلى المجلس، فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزّي، ويتعجب عجبا شديدا؛ ثم قعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه، وقعد المأمون دوني في المرتبة، ثم أقبلت فسلمت، فما تمالك أن بهت من حسنها، فقالت حيّا اللَّه ضيفنا! فو اللَّه ما أنصفت ابن عمك، ألا رفعت مجلسه؟ فقلت ذلك إليك، جعلت فداءك! فقالت [له] : ارتفع فديتك فأنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت، ولكل جديد لذة! فنهض المأمون حتى صار في صدر المجلس، ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو يأخذ معها في كل فن، ويفخمها قال ثم التفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك وصدقت في قولك ووجب شكرك على صنيعك! قال: ثم أحضر نبيذ وأخذنا في الشراب، وهي مع ذلك مقبلة عليه وهو مقبل عليها، ومسرورة به

ومسرور بها؛ فقالت لي: ابن عمك هذا من أبناء التجار؟ قلت: نعم، فديتك نحن لا نعرف إلا التجارة! قالت وإنكما فيها لغريبان! ثم قالت: موعدك! فقلت: لعمري إنه لمجيب، ولكن حتى نسمع شيئا. قالت: لك ذاك. فأخذت العود فغنت صوتا، فشربنا عليه رطلا؛ ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه عليّ، فشربنا عليه رطلا. فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال، داخله الفرح والارتياح وقال: يا إسحق؛ فو اللَّه لقد رأيته ينظر إليّ نظر الأسد إلى فريسته؛ فنهضت وقلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: غنني بهذا الصوت! فلما رأتني قمت بين يديه وأخذت العود ووقفت بين يديه أغنيه، علمت أنه الخليفة وأني إسحق؛ فنهضت فقالت؛ ههنا! وأو مأت إلى كلة «1» مضروبة، فدخلتها؛ ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلا، وقال لي: ويحك يا إسحق! انظر من ربّ هذه الدار! فخرجت إلى تلك العجوز فسألتها عن صاحب الدار فقالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه؟ قالت: بوران ابنته فرجعت وأعلمته. قال؛ ثم انصرفنا، فقال لي: يا إسحق، اكتم هذا الأمر ولا تتفوّه به. ومضينا إلى دار الخلافة؛ فلما كان الصباح وحضر الحسن بن سهل على عادته، قال له المأمون: ألك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال ما اسمها؟ قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك قال هي أمتك يا أمير المؤمنين، وأمرها إليك قال فإني قد تزوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار: فإذا قبضت المال فاحملها إلينا. ثم تزوجها، وكانت أحظى نسائه عنده، وآثرهن لديه؛ وكنت أستر هذا الحديث إلى أن مات المأمون. [قال إسحق] : فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام، إذ كنت أنصرف من مجلس أمير المؤمنين إلى مجلسها، وو اللَّه ما رأيت من الرجال وملوكهم

فتى من بني حنيفة وجارية

وخلفائهم أحدا يفي بالمأمون، ولا شاهدت من النساء امرأة كبوران في عقلها؛ وأما معرفتها وأدبها فما أظن من يتهيّأ له أن يقف من العلوم على ما وقفت عليه ولقد سألت بعض من يتولى خدمتها من العجائز: ما حملها على ما أرى؟ فقالت: إنها تفعل ذلك منذ كذا وكذا سنة، ولقد عاشرت الظرفاء والملاح والأدباء أكثر من أن يقع عليه إحصاء، ولم يكن جرى بينها وبين أحد مكروه ولا خنا «1» ولا كلمة قبيحة؛ ولم يكن مذهبها في ذلك إلا حب الأدب والمذاكرة، ومعاشرة الظرفاء وأهل المروءة والأقدار والنّبل والأخطار، لا لريبة تظهر، ولا لحالة تنكر. قال: فو اللَّه لقد تضاعف قدرها عندي، وعظم خطرها في نفسي، وعلمت شرف همتها وفضلها. فهذا خبر بوران صحيحا على الحقيقة، وسبب تزوّج المأمون بها. فتى من بني حنيفة وجارية قال هشام بن الكلبي والهيثم بن عدي: إن ناسا من بني حنيفة خرجوا يتنزهون إلى جبل لهم، فرأى فتى منهم في طريقه جارية، فرمقها وقال لأصحابه: لا أنصرف واللَّه حتى أرسل إليها وأخبرها بحبي لها! فطلبوا إليه أن يكف فأبى، وأقبل يراسل الجارية؛ وتمكن حبها من قلبه، فانصرف أصحابه وأقام الفتى في ذلك الجبل، فمضى إليها ليلة متقلدا سيفا وهي بين أخوين لها نائمة، فأيقظها؛ فقالت: انصرف لئلا ينتبه أخواي فيقتلاك! فقال: الموت أهون واللَّه مما أنا فيه، ولكن أعطيني يدك أضعها على قلبي وأنصرف! فأعطته يدها، فوضعها على قلبه وانصرف؛ فلما كانت الليلة الثانية، أتاها وهي على مثل تلك الحال، فأيقظها، فقالت له مثل مقالها الأوّل، فقال: لك اللَّه إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما أن أنصرف! فأمكنته فرشفهما ثم انصرف؛ فوقع في قلبها من حبه مثل ما كان به ... وفشا خبرهما في الحيّ، فقال أهل الجارية: ما مقام هذا الفاسق في هذا الجبل؟

باب اللغز

امضوا بنا إليه الليلة! فبعثت إليه الجارية: إن القوم سيأتونك الليلة، فاحذر على نفسك! فلما أمسى قعد على مرقاة ومعه قوسه وسهمه، ووقع بالحيّ في الليل مطر، فاشتغلوا عنه؛ فلما كان آخر الليل وانقشع السحاب وطلع القمر، اشتاقته الجارية فخرجت تريده ومعها صاحبة لها من الحي كانت تثق بها؛ فنظر الفتى إليهما فظن أنهما يطلبانه، فرمى فما أخطأ قلب الجارية، فوقعت ميتة، وصاحت الأخرى ورجعت؛ فانحدر الفتى من الجبل فإذا الجارية ميتة، فقال: نعب الغراب بما كره ... ت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها ... فاصبر وإلا فانتحر ثم وجأ بمشاقصه «1» في أوداجه حتى مات؛ فجاء أهل المرأة فوجدوهما ميّتين، فدفنوهما في قبر واحد! باب اللغز كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة، فاجتمع يوما في مجلس بالكوفة فيه حماد الراوية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وبكر بن مصعب؛ فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ما بقي شيء إلا وقد تهيأ في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي! فأرسلوا إليه، فأقبل يقول: مرهبا مرهبا! هياكم اللَّه! وقد كان قال أحدهم. من يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة، وزج «2» ؟ وشيطان! فقال حماد الراوية: أنا! فقال: يا أبا عطاء؛ كيف علمك باللغز؟ قال: هسن، يريد: حسن، فقال له: فما صفراء تكنى أمّ عوف ... كأنّ سويقتيها منجلان «3» قال: زرارة. فقال: أصبت، ثم قال:

أتعرف مسجدا لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان؟ قال: في بني سيتان. فقال: أصبت، ثم قال: فما اسم حديدة في الرمح ترمى ... دوين الصدر ليست بالسنان؟ فقال: ززّ. فقال: أصبت. وقال المأمون يصف خاتما: وأبيض أمّا جسمه فمدور ... نقيّ وأمّا رأسه فمعار ولم يكتسب إلا ليسكن وسطه ... مؤنثة لم تكس قطّ خمار لها أخوات أربع هنّ مثلها ... ولكنها الصّغرى وهن كبار وقال آخر في أرنب: لهوت بذات رأس والتياث ... كرفع الإصبعين على الثلاث «1» إذا السّبّابة ارتفعت مع الخن ... صر اجتمع الثلاث بلا انتكاث لهوت بها تطير بلا جناح ... وتنسب في الذّكور وفي الإناث وقال: ربّ ثور رأيت في حجر نمل ... وقطاة تحمّل الأثقالا ونسور تمشي بغير رءوس ... لا ولا ريش تحمل الأبطالا وعجوز رأيت في بطن كلب ... جعل الكلب للأمير جمالا وغلام رأيته صار كلبا ... ثم من بعد ذاك صار غزالا وأتان رأيت واردة الما ... ء زمانا وما تذوق بلالا وعقاب تطير من غير ريش ... وعقاب مقيمة أحوالا الثور: النمل الذي يخرج التراب من الجحر العظيم بفيه. والقطاة: موضع الردف من الفرس. والنسور: بطون الحوافر. والعجوز: السيف. وبطن الكلب: الجلد الذي

يعمل منه غمد السيف. وصار كلبا: ضم كلبا، أخذه من صار يصور، من قول اللَّه: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ «1» والأتان: الصخرة. والعقاب التي تطير من غير ريش: البكرة. والمقيمة أحوالا: اللواء. وقال آخر في البيضة: ألا قل لأهل الرأي والعلم والأدب ... وكلّ بصير بالأمور أخي أرب «2» ألا خبروني أي شيء رأيتم ... من الطير في أرض الأعاجم والعرب قديم حديث قد بدا وهو حاضر ... يصاد بلا صيد وإن جدّ في الطّلب ويؤكل أحيانا طبيخا وتارة ... قليّا ومشويّا إذا دسّ في اللهب وليس له لحم وليس له دم ... وليس له عظم وليس له عصب وليس له رجل وليس له يد ... وليس له رأس وليس له ذنب ولا هو حيّ لا ولا هو ميّت ... ألا خبروني إنّ هذا هو العجب وقال غيره: إني رأيت عجوزا بين حاجبها ... ونابها حبشيّ قائم رجل «3» له ثلاثون عينا بين مرفقه ... وبين عاتقه في رجله قزل «4» في ظهره حيّة حمراء قانية ... في ظهره رجل في ظهره رجل العجوز: الناقة. والحبشي الذي بين حاجبها ونابها: الأسود الحابس بالخطام. وقوله: له ثلاثون عينا بين عاتقه ومرفقه: مثاقيل كانت مصورة في عضده. وقوله: في ظهره حية حمراء قانية: كان عليه برنس فيه تصاوير بعضها داخل في بعض. وقال آخر في القلم: فلا هو يمشي لا ولا هو مقعد ... وما إن له رأس ولا كفّ لامس

أبيات من الشعر المحدث

ولا هو حيّ لا ولا هو ميّت ... ولكنّه شخص يرى في المجالس يزيد على سمّ الأفاعي لعابه ... يدبّ دبيبا في الدّجى والحنادس يفرّق أوصالا لصمت يجبنه ... وتفري به الأوداج تحت القلانس إذا ما رأته العين تحقر شأنه ... وهيهات يبدو النّقس عند الكرادس «1» وقال آخر فيه: ضئيل الرّواء كبير العناء ... من البحر في المنصب الأخضر عليه كهيئة مرّ الشجا ... ع في دعص محنية أعفر «2» إذا رأسه صح لم ينبعث ... وحاد السبيل ولم يبصر وإن مدية صدعت رأسه ... جرى جري صائب لم يقصر يقضي لبانته مقبلا ... ويحسمه هيئة المزبر «3» جريء بكفّ فتى كفّه ... تسوق الثراء إلى المقتر أبيات من الشعر المحدث ماء النعيم بوجهه متحيّر ... والصّدغ منه كمعطف للرّائي «4» وكأنما نهكت قوى أجفانه ... بالراح أوقد شيب بالإغفاء لو باشر الماء القراح بكفّه ... لجرت أنامله بنبع الماء وقال المؤمّل: عجبت لمن يطيّبني بمسك ... وبي يتطيّب المسك الفتيت خلا خيل النّساء لها وجيب ... ووسواسي وخلخالي صموت «5»

ولو أنّ النّساء غنين يوما ... عن المسك الذكيّ كما غنيت لأصبح كل عطّار فقيرا ... قليلا ماله ما يستبيت «1»

§1/1