العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين

ابن غَنَّام، حسين

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهدي الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [الأحزاب:70،71] أما بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشرَّ الأمور محدثاتها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة, وكل ضلالةٍ في النار, وبعد: فهذه رسالة للشيخ العلامة حسين بن أبي بكر بن غنام الأحسائي التميمي, المسماة (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) وهي لم تطبع من قبل _حسب علمي_ (1) فأحببت أن أخرجها؛ ليعمَّ النفع بها

_ (1) بعد الانتهاء من تحقيق الكتاب علمت بأن الكتاب قد قُدم دراسة للماجستير للشيخ إبراهيم يوسف الماسي سنة 1403 هـ, وقد حُقق الكتاب على أربع نسخ, وراجعت على نسخته تحقيق النص, ولم أجد فروقاً كثيرة, ولكن لم أعدم فائدة منه.

والانتفاع, وأن تعيها من الناس أذن واعية, وأن تكون في وجه أهل الضلال وسوماً, ولشياطين المشركين رجوماً, ولهداة المسلمين نجوماً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتبه محمد بن عبد الله الهبدان ص. ب: 68298 الرمز:11527 هاتف وفاكس: 232141

نبذة عن المؤلف.

نبذة عن المؤلف (1) اسمه ونسبه: هو الشيخ العلامة حسين بن أبي بكر بن غنام الأحسائي المالكي مذهباً التميمي نسباً. مولده: لم تذكر المصادر التي بين أيدينا سنة ولادته, ولكنَّه ولد في بلدة المبرز بالأحساء. حياته: نشأ الشيخ حسين بن غنام بالأحساء نشأة حسنة, وقرأ القرآن وحفظه, وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط, فقرأ على علماء الأحساء, ثم نزح إلى البحرين, فقرأ على أعيان علمائها, ثم رجع إلى الأحساء, فلاقى مشائخه, ثم نزح _رحمه الله_ من الأحساء إلى مدينة الدِّرعيَّة, فقدمها على الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود, والشيخ محمد بن عبد الوهاب فأكرماه, وأنزلاه المنزلة الرفيعة, فاستقرَّ في الدرعية, وجلس فيها لطلبة العلم يقرؤون عليه علم النحو والعروض ويدرِّسهم الفرائض, أما الفقه فكان مالكي المذهب وأهالي نجد حنابلة, ودرَّس الطلبة التوحيد, وكان حسن التعليم, مستقيم الديانة, راجح العقل, شاعراً منطقياً ومؤرخاً بارعاً, مجالسته ممتعة ومحادثاته شيقة.

_ (1) انظر في ترجمته: مشاهير نجد وغيرهم ص 149, والأعلام (2/251) , عنوان المجد (1/151) وروضة الناظرين (1/85) .

تلاميذه: تتلمذ على يد الشيخ جملة من العلماء منهم: الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمر. الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. مؤلفاته: ألف الشيخ حسين بن غنام _رحمه الله_ مؤلفين: 1_ روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام, وهو تاريخ مسجوع سجعاً مملاً ممقوتاً, لا يكاد قارئه يخلص من سجعه إلى المعنى المطلوب إلى المعنى المطلوب إلا بعد لأيٍ وجهد, وقد طبع ثلاث طبعات, آخرها عام 1381 هـ, وقد حققه الدكتور ناصر الدين الأسد, وقد جُرِّد في هذه الطبعة الأخيرة من الأسجاع الممقوتة, لكن مع الأسف تصرَّف فيه تصرفاً مُخلاًّ حيث حذف منه جميع ما حواه من القصائد, وهي سبع قصائد, اثنتان لمحمد بن إسماعيل اليمني المشهور بالصنعاني.. وخمس قصائد للمؤلف حسين بن غنام.. وكلُّ هذه القصائد التي نوَّهنا حذفت من طبعة المدني بلا إشارة إلى حذفها ... (1) 2_ العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين, وهو هذا الكتاب الذي نحققه اليوم.

_ (1) انظر في هذا مشاهير علماء علماء نجد ص147, وما بعده.

الشعر: للشيخ حسين بن غنّام القدم المعلى في الشعر, وله العديد من القصائد فمن تلك القصائد: القصيدة الهائية, ومطلعها: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفي لدين حنين وتبلغ أبياتها ستة وثلاثين بيتاً, وهي موجودة في تاريخه (2/71-72) طبعة أبا بطين, ومنها القصيدة السينية قالها في مناسبة جلاء دهام بن دواس عن الرياض, ومطلعها: كشف الحق ظلمة الأغلاس ... ومحا الدين جملة الأرجاس ومنها العينية في رثاء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومطلعها: إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع وفاته: توفي الشيخ حسين بن غنام بمدينة الدِّرعيَّة في شهر ذي الحجة سنة 1225 هـ رحمه الله, وغفر له, وأسكنه فسيح جناته.

توثيق نسبة الرسالة للمؤلف.

توثيق نسبة الرسالة للمؤلف هناك عدة أمور تؤكد لنا صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف منها: 1- أن جماعة من العلماء الذين ترجموا له نسبوا هذا الكتاب له منهم: · عثمان بن بشر في تاريخه (عنوان نجد) (1/151) . · عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ كما في (مشاهير علماء نجد) ص149. · محمد بن عثمان القاضي في تاريخه (روضة الناظرين) (1/85) . · خير الدين الزركلي في (الأعلام) (2/251) . 2- ما جاء في أول النسخ الخطية للكتاب, فقد نسب الكتاب للشيخ حسين بن غنام _رحمه الله_ 3- أن من قارن بين أسلوب المؤلف _رحمه الله_ في كتابه هذا وكتابه في التاريخ وجد أنَّ النفس واحد. 4- يوجد في ثنايا الكتاب إحالات في تاريخه كما في ص 22. فهذه الأمور مجتمعة تجعل القلب يطمئن إلى نسبة الكتاب للشيخ حسين بن غنام _رحمه الله_ والله الموفق للصواب.

اسم الرسالة جاء اسم الكتاب في الكتب المترجمة للمؤلف بـ (العقد الثمين في شرح أصول الدين) وجاء على النسخ الخطية تسميته بـ (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) ولعل هذا هو الأقرب؛ لأن الغالب أن من يترجم للمؤلفين لا يعتني بضبط الاسم كثيراً فيذكره أحياناً بالمعنى, أو يذكر بعضه, أضف إلى ذلك أن المؤلف _رحمه الله_ سماه في ثنايا رسالته بهذا الاسم مما يرجح هذا الاختيار _والله أعلم_.

وصف النسخ الخطية ونماذج مصورة منها.

وصف النسخ الخطية ونماذج مصورة منها. ... وصف النسخة الخطية ونماذج مصورة منها اعتمدت في إخراج هذه الرسالة على نسخة خطية جيِّدة كتبت في عصر المؤلف, وهي محفوظة في المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود بالرياض (1) تحت رقم (389/86) , وتقع رسالتنا في (204) ورقات. وناسخها هو محمد بن علي بن النجار. وتاريخ نسخها: سنة 1216هـ. سبب تأليف الرسالة بين المصنف _رحمه الله_ سبب تأليفه لهذه الرسالة فقال: "فعنَّ لعبد العزيز _حفظه الله_ أن تُجمع الأحاديث التي هي أصول الإسلام

_ (1) أشكر الإخوة القائمين على قسم المخطوطات في مكتبة الحرم المكي, وعلى رأسهم الدكتور يوسف الوابل على حسن تعاونهم, فقد استلمت صورة المخطوطة منهم غفر الله لهم ورفع قدرهم وضاعف أجورهم.

والإيمان, ويضم ما يناسبها من آيات القرآن, وجاءت الإشارة إليَّ بشرحها, والكلام على ما تحتاج إليه من البيان مع الإيجاز الذي لا يخلُّ بالتبيان؛ لتسهيل الدين الذي لا يُقبل سواه من كلِّ إنسان, ولعلَّ الناس في دينهم يتفقَّهون {فَلوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: من الآية 122) فبادرت أمره بالامتثال والقبول, وجعلت الكلام عليها في رسالة حاوية لسبعة فصول, عدد كلمات لا إله إلا الله محمد رسول الله, لأن (لا) كلمة و (إله) كلمة و (إلا) كلمة و (الله) كلمة و (محمد) كلمة و (رسول) كلمة و (الله) كلمة, وأعضاء المكلفين سبعة, وأبواب جهنم سبعة, وأرجو أن يكون لي بكل فصلٍ منها حجاب عنها يوم الكفار وأهل البدع إلى أبوابها يدعون, ويكبكبون فيها هم والغاوون {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء:101) , وسميتها (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) . والمؤلف في رسالته هذه اعتمد في الغالب على الكتب التالية: - جامع العلوم والحكم لابن رجب _رحمه الله_ وهو أكثرها. - تفسير القرآن العظيم لابن كثير _رحمه الله_. - أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي. - كشف الشبهات للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب. - الملل والنحل للشهرستاني. أضف إلى هذا ما كتبه هو بأسلوبه المميز _والله أعلم_.

مدخل.

مدخل. ... بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. تفرد _سبحانه_ بالوحدانية, وأبدى للعالمين آثارها, وتوحّد بالصمدانية, وأشرقت في السموات والأرض أنوارها, وأقرّ بألوهيته من سكن علوها وسفلها, وقفارها وبحارها {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء:22) الأحد الذي انفرد بالذات والصفات والأسماء, المتفرد بالقدرة القاهرة, والعظمة الباهرة, والجلال الأسمى, الذي أحسن كل شيء خلقه وأحاط به علما {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلمُ مَا تَكْسِبُونَ} (الأنعام:3) شهدت مصنوعاته بوحدته في الخلق والأمر وانفراده, وجرت أحكامه فيها على وفق مراده, {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:2) المتنزه عن مشابهة المحدثات صفاته, المتعالية عما لا يليق لعظيم سلطانه ذاته, وقامت بالحجة على ذلك آياته {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} (يونس:6) القيوم الذي بحكمته وتدبيره حسن نظام الوجود, والقائم بما يحتاج إليه كلّ موجود. فالهالك من اتّخذ من خلقه (معبودا) (1) {أَمْ لهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} (الأنبياء:43) فسبحانه من إله؛ ملك الوجود بأسره, وتضاءل من فيه تحت جبروته وقهره, وانقاد خضعاناً لهيبته وأمره, {وَلهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لهُ قَانِتُونَ} (الروم:26) .

_ (1) في المخطوط (معبود) والصواب ما أثبتناه لأنها منصوبة.

أحمده وهو المحمود في جميع فعاله, على ما أولى من جوده ونواله, وأشكره على إحسانه وإفضاله, فتعساً لقوم يعرفون نعمة الله ثم ينكرون {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلهُ الْحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:70) . وأشهد أن لا إله إلا الله, ولا معبود بحقٍّ سواه, فقد ضلَّ من عدل به المخلوق وساوى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} (الشعراء:98-99) وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ونبيه, الذي خصَّه بالرسالة واصطفاه, شهادة أرجو بها الفوز والنجاة, يوم يعرف المجرم بسيماه, وينادي المنادي {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} (الصافات:22) وأصلي وأسلم على محمد الذي بعث للعالمين رحمة, يتلوا عليهم آياته, ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة, ويجدد الحنيفية, ويزيل عنها كل وصمة (1) وعلى آله وصحبه خير القرون, المنزَّل في حقَّهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية 110) وتحقَّقوا بمصداق {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (التوبة: من الآية 111) صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم يبعثون. أما بعد: فإن الله جل جلاله إنما خلق السماوات والأرض, وذرأ من فيهن بالطول والعرض, للقيام بوظائف العبودية؛ امتثالاً لأمره اللازم الفرض

_ (1) قوله (وصمة) أي عيب وعار (قاله في مختار الصحاح) .

{وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) فمن فضله لم يتركهم سدى, لا يفرقون بين الضلالة والهدى, ولا يعلمون الرشد من الردى, {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَليْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص:59) فأرسل إليهم رسله الكرام قطعاً للحجة, فرفعوا قواعد المحجة, ومهدوا سبيل التوحيد ونهجه, فاختار الأكثر طريق الشرك وفجَّه {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف:106) . وخصَّ سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام بأوَّل الرسالة, فدعا قومه إلى إخلاص العبادة لمن لا تصلح إلا له, فسبُّوه ونسبوه إلى الضلالة, وقابلوه بأقبح المقالة {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشعراء:111) {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل: من الآية 113) ثم ختم النبوة والرسالة بصفوة النبيين والمرسلين, وخيرته من الخلق أجمعين {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب:40) {هُوَ الَّذِي أَرْسَل رَسُولهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف:9) فقام بأعباء الرسالة عبده ورسوله محمد المصطفى, فأتى قومه صلى الله عليه وسلم وهم من حفرة النار على شفا, فدعاهم إلى ما ينالون به في الدارين عزّاً وشرفاً, ملَّة أبيهم إبراهيم إمام الحنفاء {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:132) بعثه الله تعالى إلى كافة الخلق بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى التوحيد بإذنه وسراجاً منيراً, فقال

تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّل الْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) وقال تعلى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف:158) وأيده بمعجزات أعظمها القرآن, الذي أخرست أقصر سورة منه كل لسان, فرجع عن معارضتها خاسئاً وحسيراً {قُلْ لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82) {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} (النساء:55) {وَإِنَّهُ لذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:44) . فلما أعلن فيهم بالكلمة العظيمة الشأن, التي خلقت لها السماوات والأرض والإنس والجان, المتضمنة للتوحيد والإيمان, وإبطال عبادة الأصنام والأوثان, أصروا على الكفر والضلال والطغيان {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيل لهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات:35-36) {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (المؤمنون:70) وتمالؤا على الشرك والغي والفساد, ولزموا منهج البغي والعناد, {وَانطَلقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لشَيْءٌ يُرَادُ} (ص:6) {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} (يس:74-75) أعرضوا عن السميع المجيب, الإله القادر القريب, وطلبوا من العاجز الشفاعة والتقريب {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: من الآية 18) {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ

لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: من الآية 3) . فلم يبرح صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الكلمة الجامعة, ويهديهم للتي هي أقوم, وهي الملة الحنيفية الساطعة, ويجاهدهم بالآيات والبراهين القاطعة, وأكثرهم بها يكذبون {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: من الآية 71) وهدى الله تعالى عباده المؤمنين إلى الصراط المستقيم, فآمنوا به وعزروه, ونصروا دينه القويم, فنالوا بذلك الفوز العظيم {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (التوبة:21) {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التوبة:88) . فجد صلى الله عليه وسلم في الإعلان بالدعوة, واستمرّ, وجاهد هو وصحبه من أعرض عن التوحيد ونفر, لا يبالون بما ينالون من الأذى والمحنة والضرر, ممَّن أبى عن الحقِّ وتولى وكفر {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وَلا تَسْتَعْجِلْ لهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} (الأحقاف: من الآية 35) {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات:174-175) فلم يزل هو وأتباعه يلقون من قومهم ما يلقون, ويفتنون في ذات الله ويؤذون, فيصبرون على ذلك ويرضون {أَلم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:2) إلى أن أذن الله تعالى أن يعلي كلمته, وينصر دينه, ويمد في سائر الأقطار تمكينه, ويعمم ظهوره وتبيينه, فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمهاجرة إلى المدينة فهاجر صلى الله عليه وسلم إليها, وتتابع على ذلك المهاجرون {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال:33) . فشرع الله تعالى لنبيه الجهاد, وفرض عليه قتال أهل الشرك

والضلال والإلحاد, ووعده النصر والتمكين, والله لا يخلف الميعاد {إِنَّهُمْ لهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات:172-173) . فنهد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحماة الكماة (1) الأبطال, مسارعين لأداء الأمر في الامتثال, مشرعين أسنَّة زرقا كأنياب أغوال (2) , راجين جزيل الثواب في القتال {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلمُونَ كَمَا تَأْلمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:104) فأصبحت لوامع مرهفاتهم لغياهب الكفر جالية, لما بذلوا في سبيله النفوس الغالية, فمنحهم مولاهم الدرجات العالية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169) فرفع الله قواعد المة السمحاء, وهدَّ دعائم العوجاء, وأبدلها صبحاً, وتوالت الفتوح على أهل الإسلام فتحاً, وحقَّق الله تعالى لهم من مأمولهم نجحاً {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَليُمَكِّنَنَّ لهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لهُمْ وَليُبَدِّلنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) . فلما أكمل الله تعالى لأمته الدين, وأتمَّ نعمته على المسلمين, أتاه من ربه اليقين {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء:34) فلم تزل أعلام الإسلام في خلافة خلفائه مرفوعة مشهورة, وألوية التوحيد في الأمصار منصوبة منشورة, وعساكرهم على عداتههم منصورة, وعداتهم بالذلِّ مقهورة, وجنود الردى

_ (1) أي الشجاع المقدام الجريء, كان عليه سلاح أو لم يكن. انظر: المعجم الوجيز ص542. (2) أغوال مفردها غول بالضم من السعالى وتجمع غيلان. مختار الصحاح ص427.

مهزومة مكسورة, وهم في سبيل الله لأعدائه يجاهدون, إلى أن مضى كل منهم إلى السبيل, وانقضى ذلك الجيل, فوقع التغيير في الدين والتبديل, بظهور القوم الذين أخبر الصادق أنهم من الذين يمرقون, وعمَّت الفتن, وكثرت أنصارها, وطمت المحن, وربت أصهارها, وتمت على ذلك الأعصار أعصارها {أَفَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَليْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8) وعمرت البدع, وشيدت ربوعها, وأسست أصولها, فامتدت فروعها, وحلَّت بكل ناحية من الأمصار جموعها {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام:159) فما برحت شبه البدع في القلوب دابَّة, ونار الأهواء مضرمة شابَّة, وعواصف الضلال على من أراد الله تعالى خذلانه هابَّة {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ ليَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:36-37) حتى مضى سادس القرون, فتفاقم الأمر والحال, وتعاظم التعصب للباطل والمحال, وتراكم سحاب المراء والجدال, ولكن طائفة الحق منصورة لا تزال, فليسوا على الضلالة يجتمعون {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: من الآية 108) فما زالت في ازدياد تلك الدعوى, وفي اتقاد تلك البدع والأهواء (1) , إلى منتصف القرن الثاني عشر الذي جلت فيه البلوى, وحلت البدع فيه والشرك عرى التوحيد والتقوى, والأكثر فيه متمسك من ملة آبائه بالسبب الأقوى {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

_ (1) في المخطوط (الأهواء) والصواب ما أثبتناه.

مُهْتَدُونَ} (الأعراف: من الآية 30) فشرح الله صدر من وفّقه للإسلام وهداه, وأبان له سنن رشده وهداه, وأوضح له سبيل الهدى, فقام ممتثلاً لأمر مولاه؛ شكرا لما منحه من العلم وأولاه, منكرا على من كانوا بربهم يشركون, {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة:159) . وهو شيخ المسلمين, وقدوة الموحدين, وغرَّة العلماء العاملين (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) , الذي أزال الله تعالى به ظلام الشرك والشكِّ والارتياب, وأزاح به من ركام الباطل كل سحاب, وكشف عن الدين الحقِّ كثيف الحجاب, بعدما انقطعت دونه الأسباب, وسد عن التوصل إليه كل باب, وواراه الافتراق والشِّقاق في التراب, ونودي على التوحيد بالغربة والاغتراب, جعله الله تعالى من عباده الذين يوم القيامة ينادون {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَليْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} (الزخرف:68-70) . ذلك أنه لما أشرقت له من الهداية أنوارها, ولمعت له من الآيات المحكمات أسرارها, وتجلى له من العناية صبحها وأسفارها, ورأى أكثر الناس وما يعتقدون, وما يتخذون من الأرباب دونه ويبغون, {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَليْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الأنعام:164) . شمَّر عن ساعد الجد إذ لم يجد بدّاً, وأعلن بتكفير من جعل من دون ربه نداًّ, وقام بإخلاص الدعوة وقال: {لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} (مريم:89) {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (مريم:93) والذين تدعون من دون الله لا يستجيبون, {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا

يَسْتَجِيبُ لهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (الأحقاف:5) {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأنعام:40) . فلم يزل رحمه الله تعالى يدعو إلى منهاج الهدى, ويجادل بالتي هي أحسن أهل الردى ويتلو عليهم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} (الجاثية: من الآية 6) (فأبى) (1) قومه عن ذلك وصدوا, وعارضوه بالباطل وردوا, واجتهدوا في عداوته والبطش به وجدوا, وقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: من الآية 22) فحاق بهم ما كانوا به يمكرون {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} (الزخرف:79) بل أخرجوه من الديار, وحكموا بأنه من الخوارج والكفار, ولم يكن لهم بالذكر الحكيم اعتبار {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يّس:9) فخسر الخسران المبين من أعرض عن التوحيد والدين, وباء باعذاب المهين {وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة:22) فأووه وعزَّروه وكانوا له أنصاراً, من سبقت لهم السعادة والشرف والفخار, وكتب لهم التمكين والظهور على الأعداء والانتصار, والاستخلاف والاستيلاء على ممالك الملوك الذين يحاربون {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَليْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلبُونَ} (لأنفال: من الآية 36) . وذلك أنه لما أخرج من البلاد ليقضي الله أمره الذي لا دافع له ولا راد, وينيل من ساعده الإسعاد, ويبدلهم السعة والنعمة بعد الضيق

_ (1) في المخطوط (فأبوا) ما أثبته.

والضنك والإنكاد, آواه (محمد (1) والد الإمام عبد العزيز) (2) وإخوته وقرابته الأنجاد, وبذلوا في نصرته طريف المال والتلاد, وجردوا مرهفات المواضي للجلاد, ولم يبالوا بما سار إليهم من العساكر والأجناد, والملوك عليهم يحزبون {لنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} (آل عمران:111) وقاموا معه على الناس في إخلاص الدعوة لله التي هي سبيل الهداية والنجاة من المهالك في الغواية, صابرين على ما ينالهم من الأذية, مستشعرين مضمون هذه الآية {وَمَا لنَا أَلاَّ نَتَوَكَّل عَلى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلنَا وَلنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم:12) . فما زالوا معه داعين وهم في علو ونصر وتمكين على جميع المعتدين وجبابرة الملوك المحزبين, حتى أتاه رحمه الله اليقين, وقد جاوز بضعا وثمانين من السنين {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر:30-31) فلم يبرحوا بعد في ازدياد, واتساع ملك وامتداد, واستيلاء على كثير من البلاد, وعداتهم من بأسهم يهربون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117) . هذا ولما كان الإمام عبد العزيز بن سعود (3) , وابنه سعود (4) آمين

_ (1) هو الإمام محمد بن سعود بن محمد بم مقرن, ناصر الإمام محمد بن عبد الوهاب حتى مكِّن لهم في الأرض: توفي سنة 1179هـ. الدرر (16/347) . (2) عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله, الإمام الراشد, والملك القائد, ولد سنة 1133هـ في الدرعية, وتوفي سنة 1218هـ طعنه رافضي في أثناء صلاة العصر, فقبَّح الله الرافضة, ما أفجرهم وأغدرهم! انظر الدرر (16/356) . (3) عبد العزيز بن سعود هو نفسه عبد العزيز بن محمد فهو أحيانا ينسب إلى جده. (4) سعود بن عبد العزيز بن محمد ويعرف بسعود الكبير, ولد سنة 1163هـ, وتوفي سنة 1229هـ. الأعلام (3/90) .

الجيوش والجنود, والإمام يعده بالبيعة المحكمة العقود, بلّغهم الله تعالى كل مأمول ومقصود, وكبت كل عدو لهم وحسود, على نشر العلم وتعليم الناس والدخول في الدين يحرصون {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104) . فعنَّ لعبد العزيز _حفظه الله_ أن تُجمع الأحاديث التي هي أصول الإسلام والإيمان, ويضم ما يناسبها من آيات القرآن, وجاءت الإشارة إليَّ بشرحها, والكلام على ما تحتاج إليه من البيان مع الإيجاز الذي لا يخلُّ بالتبيان؛ لتسهيل الدين الذي لا يُقبل سواه من كلِّ إنسان, ولعلَّ الناس في دينهم يتفقَّهون {فَلوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: من الآية 122) فبادرت أمره بالامتثال والقبول, وجعلت الكلام عليها في رسالة حاوية لسبعة فصول, عدد كلمات لا إله إلا الله محمد رسول الله, لأن (لا) كلمة و (إله) كلمة و (إلا) كلمة و (الله) كلمة و (محمد) كلمة و (رسول) كلمة و (الله) كلمة, وأعضاء المكلفين سبعة, وأبواب جهنم سبعة, وأرجو أن يكون لي بكل فصلٍ منمها حجاب عنها يوم الكفار وأهل البدع إلى أبوابها يدعون, ويكبكبون فيها هم والغاوون {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء:101) , وسميتها (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) . وأرجو بها القربة إلى الله, والوصول والفوز في الدارين بالمأمول, وأن تتلقى بالإقبال والقبول, فالعلم النافع أفضل ما يتقرب به المتقربون {مَنْ عَمِل صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)

والمأمول ممن تصفح هذه الأوراق, وسرَّح في روضها الأحداق, وكان له بآداب العلم اعتلاق, ومن صافي شراب العلماء كأس دهاق, وجنى من يانع أثمارها, واقتطف من شميم أزهارها, واقتبس من لامع أنوارها, أن يستر ما رأى من عوارها, فذلك من مكارم الأخلاق, وأهلها للمساوي يسترون {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37) , مع أنها وإن كانت في ذاتها جميلة, فقد برزت شعثاء من غير تحسين ولا تجميل, وصدرت وركاب حملتها مناخة للسفر بها والرحيل, ورسل الإمام تحثُّني في البكرة والأصيل, وتحضني على الإنجاز والتعجيل, وعدم الإطناب في الكلام والتطويل, والذهن بعد تغيُّر الحال وتكدر البال كليل, {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: من الآية 32) {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى:36) . وما ذكر من حال الشيخ ومبدأ عمره وأخباره, وسيرة الإمام وأولاده وأصهاره, وكافة عصابته وأنصاره, سوى شذرة, تكون للمسترشد عبرة؛ لأن هذه ليست مصنفة لذلك, ولا تدخل من التاريخ والمغازي في مسالك, فمن أراد تفصيل ما جرى, وما نالوا من الممالك, فعليه بمطالعة التاريخ المسمى (بروضة الأفكار والأفهام) ؛ فإنه في الحقيقة حديقة الحقائق, ورقائق الحدايق والعيون.

الفصل الأول: فيما جاء في الإسلام أنه دين الله الذي لايقبل سواه.

الفصل الأول: فيما جاء في الإسلام أنه دين الله الذي لا يقبل سواه قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران:18-19) . وقول الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلهُ أَسْلمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِليْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِل عَليْنَا وَمَا أُنزِل عَلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلن يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:83-85) . وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 130-132) وقال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِل إِليْنَا وَمَا أُنزِل إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:136-137) . وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِين

آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:67-68) . وقال جلَّ جلاله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِليْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:120-123) . وعن الزبير ابن العوام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) (آل عمران:18) فقال: "وأنا على ذلك من الشاهدين يا ربِّ". رواه الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام (2) . ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر قال: حدثنا علي بن حسين, حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني, قال: حدثنا عمر بن حفص بن ثابت, حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ} قال: "وأنا أشهد أي رب" 3.

_ (1) توجد حاشية هنا وهي (قال العلامة ابن القيم رحمه الله وآباءنا والمسلمين في المدارج (3/450) "اختلفت عبارات السلف رحمهم الله في قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ} قيل: حكم, وقيل: قضى, وقيل: علم, وقيل: بيّنا, وقيل: أخبر, قال مجاهد: في الآية: حكم وقضى. فتضمنت الآية إثبات حقيقة التوحيد, والردُّ على جميع الطوائف والشهادة ببطلان أقوالهم ومذاهبهم, فتضمَّنت أجلَّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأفضلها وأصدقها, من أجلِّ شاهد, وأجلِّ مشهود. انتهى) بتصرف (2) رواه أحمد (1/166) . (3) أنظر تفسير ابن كثير (1/353)

وروى الطبراني في معجمه بسنده إلى غالب القطان أنه سمع الأعمش يتهجد من الليل فمر بهذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} فقال: وأنا أشهد الله بما شهد الله به, وأستودع الله هذه الشهادة, وهي لي عند الله وديعة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} قالها مرارا, وذكر أنه سأله هل سمع فيها شيئاً فقال: أو ما بلغك ما فيها, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إلي, وأنا أحقُّ من وفَّى بالعهد, أدخلوا عبدي الجنة" (1) وفي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام, والإيمان, والإحسان, المروي عن جماعة من الصحابة, وخرَّجاه في الصحيحين, وفي آخره: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم" (2) ويعلم مطابقة ودلالة لما ذكرنا أقول: هذه الآيات المحكمات بكفر الكتابيين والمشركين من الأميين حاكمة, وبراهينها القاطعة لظهورهم قاصمة, وكفى بأصدق الشاهدين والقائلين شهيداً وبما تضمنته للعادلين عنها وعيداً, شهد سبحانه سبحانه وتعالى أنه المنفرد بالألوهية بجميع الخليقة, وأن الموجودات علوها وسفلها جميعهم عبيده وخلقه والفقراء إليه في الحقيقة, وأنه الغني عمن سواه, وله الغناء المطلق العام, والفضل السابغ التام, كما قال تعالى: {لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَل إِليْكَ أَنْزَلهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء:166) ثم قرن تعالى شهادة

_ (1) رواه الطبراني في امعجمه الكبير (10/245) ورقمه (10453) قال في المجمع (6/326) وفيه عمر بن المختار, وهو ضعيف. (2) رواه البخاري ورقمه (50) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم ورقمه (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ملائكته والعاملين بالعلم من حملته, بشهادة ذاته العلية, وفيها للعلماء منقبة جلية, وبيَّن وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها, وكرَّر ذلك بقوله: {لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ} للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلَّة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجّة, العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياءً, الحكيم في أفعاله, وأقواله, وشرعه, وقدره (1) . وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} اتَّفقت كلمة أهل الحقِّ من السلف والخلف ومن بعدهم على ما تضمنه هذا الإخبار من الله أن الدين عنده الإسلام, ولا يقبل من أحد سواه, وهو اتِّباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين من أولهم حتى ختمهم بأفضل النبيين محمد سيِّد المرسلين, فسدَّ الله تعالى جميع الطرق إليه, إلاَّ من جهة نبينا (فمن لقي الله تعالى بعد إرسال محمد وبعثته, بدين غير دينه وشرعته, فهو من الضالين الهالكين. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلام دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85) . ثم أخبر جلَّ جلاله أن الذين آتوا الكتاب إنما اختلفوا بعد ما قامت الحجّة عليهم, بإنزال الكتب وإرسال الرسل إليهم, بغى بعضهم على بعض, وحملهم على ذلك الحسد والبغض, فاختلفوا في الحق للتدابر والتحاسد, وآل بهم الحال إلى مخالفته في الأقوال والأفعال والتجاحد, ومن جحد بما أنزله الله في الكتاب, فإن الله يجازيه على ذلك يوم الحساب, ويعذبه أشد العذاب. (2) وقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} أي جادلوك في التوحيد {فَقُلْ

_ (1) انظر: تفسير ابن كثير (1/18, 19) . (2) انظر: تفسير ابن كثير (2/19, 20) .

أَسْلمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي: فقل: أخلصت لله العبادة بأنواعها, وتبرَّأت من ملَّة الشرك واتِّباعها, وكفرت بما يعبد من أتباعها. وقد ختم هذه الآية بقوله: {فَإِنْ أَسْلمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَليْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: من الآية 20) يعني أن الله يهدي من يشاء برحمته وفضله, ويضلُّ من يشاء بإرادته وعدله, له في ذلك الحكمة البالغة القاهرة. وقوله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (آل عمران:83) أنكر سبحانه وتعالى على من أراد ديناً سوى دينه بعد إقامة حججه ودلائله وبراهينه, وشهادة الكتب المنزلة, وتصريح الرسل المرسلة, بل جميع من في السماوات والأرض استسلم له طوعاً, وهو المؤمن بالقلب والقالب, والكافر بالتسخير والقهر والسلطان الذي لا يغالب. وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ} (آل عمران:85) أي من سلك طريقاً غير ما شرعه الله على لسان نبيه المختار فلن يقبل منه {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ} من أهل النار الذي باؤوا بالخسار, ونودي عليهم بالبوار. والحديث الصحيح شاهد على ذلك: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" (1) . وقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} (البقرة: من الآية 130) الآية تضمنت هذه الآية وما بعدها الردَّ على الكفار فيما أحدثوه من الابتداع, وأتوه من المخالفة لملة إبراهيم وعدم الاتباع, مع أنه إمام الحنفاء, وكفى به في القدوة شرفاً, وهو الذي أخلص العبادة لمولاه ولم يتَّخذ ولياً سواه, فجرد لربه التوحيد, ولم يدع أحداً من العبيد, ولم يشرك بربه طرفة

_ (1) رواه مسلم ورقمه (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها. وانظر: تفسير ابن كثير (2/58) .

عين, بل لم يخالط قلبه من شبه الإشراك رين, فتبرَّأ من الآلهة الباطلة التي قومه لها عابدون, فقال: {قَال يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: من الآية 78) فلهذا قال تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} أي التي هي الصراط المستقيم, والدين الواضح القويم, وبترك طريقته السوية المنهاج, ويعدل بها ذات الاعوجاج, {إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي ظلمها بسفهه وتقصيره, وسوء نظره وتدبيره, بتركه الحق وميله للضلال ومصيره, حيث خالف نهج من اصطفاه رب العباد في الدنيا للهداية والرشاد, من حداثة سنه إلى بلوغ المراد, وفي الآخرة من الصالحين الفائزين بالرضوان والإسعاد, فيا له من سفه ما أعظمه! وجور ما أكبره وأفخمه. وقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: من الآية 132) وصية منه بإخلاص الدين لله, وإحسان العمل له في حال الحياة, وملازمة ذلك؛ ليرزقكم الله بفضله عليه الوفاء. فإن المرء غالبا يموت على ما عليه في الدنيا يكون, ثم يأتي على تلك الحال يوم يبعثون, والله الكريم من فضله العميم تفضَّل بأن من قصد الخير يسر إليه, ومن نوى صالحاً ثبت عليه, وأكف عنان القلم عن تفسير باقي آيات القرآن, حتى يقف صافناً (1) عن اتساعه في هذا الميدان, ونكتفي بما حرَّرناه وقدَّرناه من البيان في هذه الآيات الرفيعة الشأن؛ لأنَّ جميع معناها الصحيح الواضح, ومقتضاها الصريح الصادع الصادح, يؤول إلى أنَّ الدين المطلوب المراد, المقصود من جميع العباد, الذي هو السرُّ والحكمة في الإيجاد, دين الإسلام العظيم, الذي هو الصراط المستقيم, الذي دعا الله عباده كافة بالاستقامة عليه, وحثَّهم على الدخول فيه والمبادرة إليه. إذ لا عمل يقبل

_ (1) الصافن: الذي يصف قدميه. قاله في (مختار الصحاح) .

بغيره لديه, ونهاهم عن تجاوز ما له الحدود, وحكم على من ألحد فيه النار بالخلود. ونختم هذا الفصل بالحديثين الصحيحين تكميلاً للدلالة والإفادة, وتأميلا أن يحصِّل بهما المسترشد مراده. أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي (1) من حديث [النواس بن سمعان] (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيماً, وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة, وعلى الأبواب ستور مرخاة, وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يأيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً, ولا تعرجوا, وداعٍ يدعو من جوف الصراط, فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه. والصراط الإسلام. والسوران حدود الله عز وجل, والأبواب المفتحة محارم الله, وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله, والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم". زاد الترمذي رحمه الله {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (يونس:25) . وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجيء الأعمال يوم القيامة, فتجيء الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة, فيقول: إنك على خير, وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا

_ (1) رواه أحمد (4/182) والترمذي ورقمه (2859) والنسائي في الكبرى (11233) . (2) في المخطوط: "العرباض بن سارية" والصواب: ما أثبتناه كما في المسند وغيره. وسبب وهم المؤلف نقله من الحافظ ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم (1/101) فقد وقع في نفس الخطأ.

الصدقة, فيقول: إنك على خير, ثم يجيء الصيام فيقول: أي يا رب أنا الصيام, فيقول: إنك على خير, ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام, فيقول الله: إنك على خير اليوم بك آخذ وبك أعطى". قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)

الفصل الثاني: في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان, وتسمية كل منهما دينا.

الفصل الثاني: في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان وتسمية كل منهما دينا قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَليْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} (الأنفال: 2-3) وقال تعالى: {أَلمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَال عَليْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (الحديد: من الآية 16) وقوله تعالى: {وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (ابراهيم: من الآية 12) وقوله: {وَعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23) وقوله: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: من الآية 175) وقال تعالى: {ليْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:93) قرن تعالى الإحسان في هذه الآية بالإيمان. وكقوله تعالى: {بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (البقرة: من الآية 112) قرنه بالإسلام. وقوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لقمان: من الآية 22) وقرنه تعالى بالتقوى فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128) وذكره الله تعالى مفردا فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: من الآية 26) . عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر, لا يرى عليه أثر السفر, ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأسند

ركبتيه إلى ركبتيه, ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره, قال: صدقت, قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك, قال: فأخبرني عن الساعة, قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل, قال: فأخبرني عن أماراتها, قال: أن تلد الأمة ربّتها, وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان. ثم انطلق, فلبث مليا ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم, قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" رواه مسلم (1) . الكلام على هذه الآيات الساطعة الأنوار, وكشف ما احتوت عليه من الأسرار وتنضيد مكنون معانيها, وتشييد مضمون مبانيها, لا يناسب مقتضى الحال؛ لأن حل ما في ضمنها من المعاني تقتضيه ساعات الإهمال, والزمن المعين لإيجاد هذه الرسالة لا تسع أيامه تفصيل المعاني والإطالة, مع أن أكثر معاني الآيات المذكورة يتضمنه الحديث, وستوجد إن شاء الله تعالى فيه مشروحة مسطورة. فنقول: هذا الحديث مما انفرد به مسلم في صحيحه عن عمر رضي الله عنه, وخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (2) وفيه تقديم السؤال عن الإيمان على السؤال عن الإسلام وزيادة (أن تعبد الله ولا تشرك به

_ (1) رواه مسلم ورقمه (8) . (2) رواه البخاري ورقمه (50) .

شيئا) . في الجواب عن الإسلام, وقد رواه جمع من الصحابة (1) , وهو حديث عظيم جدا, لا يبلغ الفهم لإدراك معانيه مفصلة حدا, ولكن لا نجد عن الكلام على شذرة منها بدا, وإلا فالأفهام على ما عليه انطوى, وما أحاط به احتوى, تقف دون ساحل تياره, فضلا عن الغوص على جواهر أسراره, ولم لا ترجع نواظر الإدراك من دون إدراكها حسّرا, وتحجم عن زاخر أمواجها فلا تستطيع تعبيرا لها ولا عبرا, وترى التقصير والإحجام بها أحرا. والسائل عليه السلام في هذا المقام روح الله الأمين, والمجيب أفصح الخلق أجمعين, وأفضل الأولين والآخرين. وأيضا فقد اشتمل على شرح الدين كله, فأنى يرام في هذه الأرقام استقصاء الكلام في إيضاحه وحله. فنقول والله المستعان, وعليه الاعتماد والتكلان: قوله: "إذ طلع علينا" أي: بدا وظهر. وقوله: "شديد بياض الثياب" يستفاد من مجيئه عليه السلام على تلك الحالة البهية, استحباب التجمل لطلب العلم وللقدوم على ذوي الرتب السنية, إذ لم يقصد بذلك الفخر والمباهاة, وإنما القصد التحدث وإظهار نعمة الله. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وقال ابن عبد السلام: لا بأس بلباس شعار العلماء؛ ليعرفوا بذلك فيسألوا, فإني كنت محرما, فأنكرت على جماعة محرمين لا يعرفونني ما أخلُّوا به من أدب الطواف, فلم يقبلوا, فلما لبست ثياب الفقهاء

_ (1) عنهم: أبو هريرة وأنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهم. انظر جامع العلوم والحكم (1/97) .

وأنكرت عليهم ذلك سمعوا وأطاعوا, فإذا لبسها لمثل ذلك كان فيه أجر؛ لأنه سبب لامتثال لأمر الله تعالى. وقد نصّ العلماء على كراهة لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي. قلت: من البدع ما أحدثه من لم يتمسك من العلم بسبب, وما له سوى الدنيا طلب, من لباس المرقعات والجبب, زاعمين أن الهدى العمري لهم قدوة, وفيه لهم أعظم أسوة, وإنِّي بذلك لقلوب من محبة الدنيا ملئت قسوة, كلاَّ! بل طبع على قلوبهم الرين, فلم يفرقوا بين القبيح والزين, وجعلوا تلك المراقيع لاقتناص الدنيا آلة, ولأكل أموال الناس بالباطل حبالة, والسالم من ذلك منهم متعبد على جهالة. تنبيه: يؤخذ من هذا الحديث أفضلية الثياب البيض على غيرها من سائر اللباس واستحباب لبسها, وإتيان جبريل فيها, وتكفين الأموات دليل على ذلك, وروى أبو داود والترمذي (1) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم, وكفنوا فيها موتاكم". ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "كفِّن رسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية" (2) . وقوله: "فأسند ركبتيه إلى ركبتيه" هذا فيه تصريح بأنه جلس بين يديه دون جانبه, ولعل العلماء أخذوا استحباب جلوس المتعلمين بين أيديهم من جلسة جبريل, ولكن جبريل بالغ في القرب حتى وضع كفيه على فخذيه.

_ (1) أخرجه أبو داود ورقمه (3878) والترمذي ورقمه (994) وقال: حديث حسن صحيح. (2) رواه مسلم ورقمه (941) وقوله (سحولية) السحل: الثوب الأبيض من الكوسف من ثياب اليمن: مختار الصحاح ص 254.

وقوله في الجواب: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر الإسلام (1) هنا بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل, فأول ذلك "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "وهو عمل اللسان, ثم باقي الأعمال وهي منقسمة إلى: - بدني: كالصلاة والصوم. - وإلى عمل مالي: وهو إيتاء الزكاة. - وإلى مركب منهما: وهو الحج. ويدخل في مسمى الإسلام أيضاً: جميع الواجبات الظاهرة, كما في رواية ابن حبان (2) أنه أضاف إلى ذلك الاعتمار, والغسل من الجنابة, وإتمام الوضوء. وإنما ذكر هنا أصول أعماله التي يبنى عليها كما يشهد له حديث "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وحجِّ البيت, وصوم رمضان" رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما (3) ويدل على دخول جميع الأعمال الظاهرة في مسمى الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (4) . وقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ

_ (1) ما سيذكره المؤلف رحمه الله استفاده من جامع العلو م والحكم (1/98) . (2) رواه ابن حبان (1/397) ورقمه (173) . (3) رواه البخاري ورقمه (8) ومسلم ورقمه (16) . (4) رواه البخاري ورقمه (10) من حديث عبد بالله بن عمرو رضي الله عنه, ورواه مسلم ورقمه (41) من حديث جابر رضي الله عنه.

الإسلام خير؟ قال: "أن تطعم الطعام, وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (1) . وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن للإسلام [صُوًى] (2) ومنار كمنار الطريق, ومن ذلك أن تعبد الله, ولا تشرك به, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم, وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم, ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره" خرَّجه الحاكم في صحيحه (3) والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة. وأما الإيمان: فقد فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته ... " إلى آخره. وقد ذكر الله عز وجل الإيمان بهذه الأصول فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِل إِليْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285) وقال تعالى: {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: من الآية 177) وقال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ

_ (1) رواه البخاري ورقمه (12) ومسلم ورقمه (29) . (2) في المخطوط (ضواء) وكذا في المستدرك, وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه, والصوى: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي المجهولة, فيستدل بتلك الأعلام على طرقها. واحدتها صُوَّة. قاله أبو عبيد. (3) أخرجه الحاكم (1/21) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري. وسكت عنه الذهبي.

هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:4) . وقوله: {وَمَلائِكَتِهِ} أي: وهم الأجسام النورانية, أي: يؤمن بأنهم عباد له مكرمون, وأنهم سفراء الله بينه وبين خلقه, متصرفون فيهم كما أذن, صادقون فيما أخبروا به عنه, وأنهم بالغون من الكثرة ما لا يعلمه إلا الله {وَمَا يَعْلمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (المدثر: من الآية 31) . وقوله: {كُتُبِهِ} أي: أنها منزلة من عنده, وأنها كلامه [القائم بذاته المنزه عن الحروف والصوت] . (1) وقوله: {وَرُسُلِهِ} أي: يؤمن بأنه تعالى أرسلهم إلى الخلق؛ لهدايتهم وتكميل معادهم ومعاشهم, وأنه أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم, فبلغوا عنه رسالته. وقوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هو من الموت إلى ما يقع يوم القيامة. ولا شكَّ أن الإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من

_ (1) هذه الجملة مطموسة وقد علق عليها بهذه الحاشية: (قال عبد الله أبا بطين رحمه الله: "قوله (وأنها كلامه القائم بذاته المنزه عن الحروف والصوت) هذا الكلام جرى على مذهب الكلابية ومن تبعهم من الأشعرية أن الكلام والمعنى القائم بالذات المنزه عن الحروف والصوت, وأنه على هذا يكون القرآن عندهم ليس هو عين كلام الله كما قد صرَّحوا بذلك في كتبهم, والحقُّ في ذلك ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى لم يزل متكلماً كيف شاء إذا شاء بحرف وصوت كما دلَّ على ذلك الوحيين, فأما القرآن فواضح, وأما الأحاديث ففي صحيح البخاري وغيره أن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة بصوتٍ.. وهذا نص, وفيه نحو أربعة عشر حديثا, وأما الإجماع فيكفي في ذلك أنه لا يعرف عن صحابي ولا تابعي حرف واحد يخالف ذلك, وقد أفرده العلماء هذه المسألة بالتصنيف) انتهت الحاشية وهي كافية عن التعليق. (2) انظر: جامع العلوم والحكم (1/103) .

الأنبياء, والملائكة, والكتب, والبعث, والقدر, وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به من صفات الله وصفات اليوم الآخر, كالميزان, والصراط, والجنة, والنار. وقد أدخل في الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره, ولأجل هذه روى ابن عمر هذا الحديث محتجا به على من أنكر القدر, وزعم أن الأمر أنف أي مستأنف أي: لم يسبق به سابق قدر من الله تعالى وقد غلظ ابن عمر عليهم, وتبرأ منهم وأخبر أنهم لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر. وأول من قال بالقدر بالبصرة (معبد الجهني) وقد صرح العلماء بتكفيرهم. والإيمان بالقدر على درجتين: الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم, وما يترتب على ذلك من الثواب والعقاب يوم الحساب قبل تكوينهم, وأنه كتب ذلك وأحصاه عنده, وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والثانية: أن الله خلق أفعال عباده كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان, وشاءها منهم (1) . هذا وينبغي التمعن والتدبر لما ورد من الأحاديث التي فسر فيها

_ (1) توجد هنا حاشية وهي: (قال ابن القيم رحمه الله بعد كلام سبق (أما المعاصي والكفر فإنها وإن وقعت بمشيئته فهي غير محبوبة له ولا مرضية, وهل يقال إرادته فمن المثبتين للقدر من يقول هي واقعة بإرادته, ومنهم من لا يطلق وقوعها بالإرادة ولا ينفيها, وهذا هو الصواب, لأن الإرادة تنقسم في القرآن إلى نوعين: إرادة تكوين , وإرادة تشريع, فإن قيل إنها واقعة بإرادته مطلقا فباطل) وذكر كلامه طويل.

الإسلام بالأعمال المذكورة كهذا الحديث وغيره, والأحاديث التي فُسِّر فيها الإيمان بأعمال الجوارح المذكورة كقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان بالله. هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ... " الحديث كما هو في الصحيحين من رواية أبي هريرة (1) . وفيهما عنه أيضاً "الإيمان بضع وسبعون فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان" (2) . فظاهرها يقتضي التعارض وتحقيق وجه الجمع كما ذكره الإمام ابن رجب _رحمه الله تعالى_ إلى أن يقال: " أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه, فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات, والاسم المقرون به دال على باقيها وهذا كاسم الفقير والمسكين فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج, فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض ذوي الحاجات, والآخر على باقيها. فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر, ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده, فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده, ودل الآخر على الباقي" (3) . ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عند ذكره مفرداً كما في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث جبريل, وفُسِّر في حديث آخر الإسلام بما فًسِّر به الإيمان, كما في مسند الإمام

_ (1) رواه البخاري ورقمه (53) ومسلم ورقمه (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما _ لا كما وهم المؤلف رحمه الله _. (2) رواه البخاري ورقمه (9) ومسلم ورقمه (35) من حديث أبي هريرة, (3) انظر: جامع العلو موالحكم (1/105, 106) .

أحمد عن عمرو بن عبسة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "أن تسلم قلبك لله. وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك" , قال: أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان" , قال: وما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, والبعث بعد الموت" , قال: فأيُّ الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة" , قال: فما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء" , قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: "الجهاد" (1) .فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام الإيمان, وأدخل فيه الأعمال. وحاصل القول: أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ, وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق؛ وهو أن يقال: إن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته. والإسلام هو: استسلام العبد لله تعالى وخضوعه وانقياده, وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمى الله تعالى في كتابه الإسلام دينا, وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان دينا, وهذا أيضا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر, وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر, فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب, وبالإسلام جنس العمل. وفي مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام علانية والإيمان في القلب" (2) ؛ وذلك لأن الأعمال تظهر علانية والتصديق بالقلب لا يظهر. ومن هنا قال محققوا العلماء: كل

_ (1) رواه احمد (4/114) وقال في المجمع (1/59) رجاله ثقات. (2) رواه أحمد (3/143) وفي إسناده علي بن مسعدة وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوائد (1/52) .

مؤمن مسلم, لأن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام, وانبعثت الجوارح في ذلك؛ لان محله القلب, وهو إذا صلح صلح الجسد كله, وإذا فسد فسد الجسد كله كما نص عليه في الحديث (1) وليس كل مسلم مؤمنا, لأن الإيمان قد يضعف, فلا يتحقق به القلب تحققا تاما فيكون مسلما, وليس بمؤمن الإيمان التام. ويدل عليه آية: {قَالتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلمْنَا وَلمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: من الآية 14) فسرها ابن عباس وغيره بأنهم لم يكونوا منافقين بالكلية , بل كان إيمانهم ضعيفا, وهذا هو الأصح, ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} (الحجرات: من الآية 14) أي لا ينقصكم من أجورها, فدل على أن معهم من الإيمان ما تقبل به أعمالهم (2) , ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة, فإذا ترك شيئا من واجباته فهو محل الخلاف بين أهل السنة, هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان؟ واختاره الأكثر, وهو أحد الروايتين عن أحمد, أو يقال ليس بمؤمن لكنه مسلم, واختاره جماعة , وهو الرواية الأخرى عن أحمد, والذي يجول في خلدي, ويدخل في حفظي أن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية يعتمد هذا القول, ويرى أن الذي يشهد له الكتاب والسنة مع بعد عهدي بمطالعة شيء من كتبه (3) .

_ (1) رواه البخاري ورقمه (52) ومسلم ورقمه (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (2) جامع العلوم والحكم (1/109,110) . (3) انظر مجموع الفتاوى (7/306) فقد قرر ذلك ورد على الخصوم.

وأما اسم الإسلام: فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته وانتهال بعض المحرمات, وإنما ينتفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية, فإنه حينئذ يخرج من الملة. وفد ذكر العلماء للإسلام نواقض, وعقدوا لذلك أبواب الردّة, وأكثروا فيها الأمور التي تنقضه قولا وفعلا. والصحيح أن الإيمان القلبي يتفاضل, وهو أصح الروايتين عن أحمد؛ لأن إيمان الصّدّيقين ليس كإيمان غيرهم, والآيات والأحاديث دالة على ذلك. ولاشك أن مسائل الإسلام والإيمان عظيمة الشّأن؛ لا يجوز أن يغفل عنها الإنسان أو يهملها أهل التوحيد والإيمان بل الواجب المتعين بذل الوسع في تحقيقها والاجتهاد والجدّ حتى يتبين سبيل الرشاد؛ ويتميز الصواب والسداد؛ لأن الله علق بها السعادة والإسعاد, وعلق على ضدها وهو الكفر والنفاق والشقاوة والهلاك يوم التناد. خاتمة الكلام على الإسلام والإيمان: قد ثبت بما تقرر, وصح مما ذكر وتحرر من كلام خير الأنام, وأقوال الأئمة الأعلام أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان والإسلام, وتقدم ما يدخل من العمال الظاهرة فيهما, وأما الأعمال الباطنة فهي تدخل في مسماها , فيدخل في أعمال الإسلام إخلاص الدين لله والنصح له وللمسلمين, وسلامة القلب لهم من الغش والحسد والحقد وغير ذلك, ويدخل في مسمى الإيمان وجل القلوب من ذكر الله وخشوعها عند سماع ذكره, وكتابه, وزيادة الإيمان بذلك, وتحقيق التوكل على الله, وخوف الله سرا وعلانية, والرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا, واختيار تلف النفس على الكفر, وإيثار محبة الله ورسوله على

محبة ما سواهما, والمحبة في الله والبغض في الله, والعطاء والمنع له (1) , وغير ذلك مما يطول ذكره, وكل ما ذكرناه من هذه الأنواع, فالأحاديث واردة فيه, دالة عليه. فمنها: رواه الإمام أحمد والنسائي عن معاوية بن حيدة قال: قلت يا رسول الله, بالذي بعثك بالحق ما الذي بعثك به قال: "الإسلام, قلت: وما الإسلام, قال: أن تسلم قلبك لله وان توجه وجهك إلى الله, وتصلي الصلاة المكتوبة, وتؤدي الزكاة المفروضة" (2) . وفي السنن عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله, ومناصحة ولاة الأمر, ولزوم جماعة المسلمين, فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" (3) . فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه الثلاث تنفي الغل عن قلب المسلم. وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا, وبالإسلام دينا, وبمحمد رسولا" (4) . وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وان يحب المرء لا يحب إلا لله, وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" (5) . وفيهما عن أنس مرفوعا قال: "لا يؤمن أحدكم

_ (1) جامع العلوم والحكام (1/116) بتصرف. (2) رواه احمد (5/504) والنسائي ورقمه (2436) وصححه ابن حبان (160) . (3) رواه أحمد (1/8-82) وابن ماجة ورقمه (3056) . (4) رواه مسلم ورقمه (34) . (5) رواه البخاري ورقمه (16) ومسلم ورقمه (43) .

حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي رواية "من أهله وماله والناس أجمعين" (1) فلا نطيل بإيرادها. وقوله في الجواب عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه". قد قدمنا من الآيات الواردة فيه, مقرونا ومفردا ما فيه كفاية لطالب الهدى, وإنما أخر جبريل السؤال عنه في هذا الحديث, وإن كان ورد بعض الأحاديث توسطه؛ لأن الإحسان هو غاية كمال الإسلام والإيمان, بل هو المقوم إذ بعدمه يتطرق إلى أعمال الإسلام الظاهرة الرياء والشرك وإلى الإيمان النفاق, فيظهره رياء أو خوفا. قال الله تعالى: {بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (البقرة: من الآية 112) {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} (المائدة: من الآية 93) . وحقيقة الإحسان: أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه, وينظر إليه في حال عبادته, فإذا عبد الله تعالى على هذه الصفة أوجبت له النصح في العبادة, وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها. فلهذا كان جزاء من عبد مولاه على حالة كأنه فيها يراه النظر إلى الله يوم لقاه , ويشهد لذلك قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: من الآية 26) فقد فسرت بالنظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم, جزاء لأهل الإحسان بعد التفضل عليهم بدخول الجنان, وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بهذه الوصية, فعن أبي ذر قال: "أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أخشى الله كأني أراه, فإن لم أكن أراه فإنه يراني (2)

_ (1) رواه البخاري ورقمه (15) ومسلم ورقمه (44) . (2) انظر: جامع العلوم والحكم (1/126) .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: "اعبد الله كأنك تراه" خرجه النسائي (1) . وحديث زيد بن أرقم: "كن كأنك ترى الله, فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (2) .وغير ذلك من الأحاديث. قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" يحتمل أن يكون التعليل إشارة إلى مقام الإخلاص وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه, فإذا استحضر العبد هذا في عمله فهو مخلص لله تعالى لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بعمله, ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقام المشاهدة وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه وذلك أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان وهذا هو حقيقة مقام الإحسان (3) . وقد فسر طائفة من العلماء المثل العلى في قوله جل جلاله: " {وَلهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الروم: من الآية 27) بهذا المعنى, وفي الحديث: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت" (4) وحديث أبي أمامه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه

_ (1) في الرقاق من الكبرى كما في التحفة (5/481) ولم أعثر عليه في المطبوع من الكبرى. وأخرجه أيضا: أحمد (5/358/399) ورقمه (6156) وصححه أحمد شاكر. (2) رواه أبو نعيم في الحلية (8/202) بلفظ "اعبد الله كأنك تراه". (3) انظر: جامع العلوم والحكم (1/129) . (4) رواه الطبراني في الكبير والأوسط, وقال: تفرد به عثمان بن كثير, وقال الهيثمي في المجمع (1/60) .

على أن الله معه" (1) وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة, قال الله جل جلاله: {وَإِذَا سَأَلكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: من الآية 186) وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الحديد: من الآية 4) وقوله: َ {ولا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة: من الآية 7) {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (النساء: من الآية 108) وغير ذلك من الآيات. وقد وردت الأحاديث الصحيحة باستحباب استحضار هذا القرب في العبادات كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه, أو ربه بينه وبين القبلة" (2) . وقوله: "إن الله قبل وجهه إذا صلى" (3) وقوله: "إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت" (4) وقوله: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا, إنكم تدعون سميعا قريبا" (5) وقوله: "أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت شفتاه" (6) , والأحاديث كثيرة (7) . واعلم أن من فهم من شيء من هذه الآيات أو الأحاديث حلولا أو

_ (1) ذكره بثقة أو جرح. ومن طريق هذا رواه نعيم بن حماد كما في تفسير ابن كثير (6/548) وقال: غريب. رواه الطبراني في الكبير (7935) وفيه بشر بن نمير قال الهيثمي في المجمع (10/2799) وهو متروك. (2) رواه البخاري ورقمه (405) ومسلم (551) . (3) رواه البخاري ورقمه (406) ومسلم ورقمه (547) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (4) رواه الترمذي ورقمه (2863) من حديث حارث الأشعري رضي الله عنه قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. (5) رواه البخاري ورقمه (2992) ومسلم (2074) من حديث أبي موسى الشعري رضي الله عنه. (6) رواه ابن ماجة ورقمه (3792) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وصححه ابن حبان (815) . (7) انظر: جامع العلوم والحكم (1/130) .

اتحادا كما فهمه من أزاغ الله قلوبهم عن أنوار الشريعة, أو فهم من ذلك أيضا تشبيها, فقد ضل فهمه, وزل قدمه عن الصراط المستقيم {َلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: من الآية 63) والله ورسوله بريئان من أهل هذه الطرق الزائغة الزائفة, وأهل هذه البدع الضالة من كل طائفة, قالوا بالحلول والإتحاد, وهذا هو عين الكفر والإلحاد {إِنَّ رَبَّكَ لبِالْمِرْصَادِ} (الفجر:14) فسبحان من ليس كمثله شيء وهو البر الوصول, الذي تنزه قدرا عن التجسيم (1) والتعطيل والإتحاد والحلول. وقوله في الجواب لجبريل في سؤاله عن الساعة: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" يعني أن علم الخلق في وقتها سواء, ففيه إشارة إلى أن الله استأثر بعلمها, فكأنه قال: "أنا لا أدري كما أنك كذلك, فيؤخذ من الحديث أنه ينبغي للمفتي والعالم وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم, فإن ذلك لا ينقص بل يستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه. ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: "وا بردها على كبدي, إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول لا أعلم" (2) . ويروى عن الإمام مالك أنه يسئل عن أكثر المسائل فلا يجيب ويقول: لا أدري نصف العلم (3) . والساعة هي: يوم القيامة وتسمى اليوم الآخر.

_ (1) لا يجوز إطلاق الجسم على الله من غير معرفة مراد المتكلم. انظر: مجموع الفتاوى (5/418) وما بعده. (2) رواه الدارمي (1/629) والفقيه المتفقه (2/362) . (3) رواه الدارمي (1/63) والفقيه المتفقه (2/369) والثر مروي عن الشعبي لا عن مالك والله أعلم.

وسمي الآخر: لأنه آخر انقراض الدنيا وآخر أيامها. وهل منتهاه إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة, وأهل النار النار, أو ليس له منتهى؟ ورجح بعض العلماء أن مبدأها من النفخة الثانية إلى استقرار الخلق في الدارين. في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (لقمان: من الآية 34) . (1) وقال جل جلاله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: من الآية 187) . قوله: "فأخبرني عن أمارتها" أي: علاماتها التي تدل على اقترابها, وقد ذكر لها علامتين: العلامة الأولى: "أن تلد الأمة ربتها" أي سيدتها ومالكتها, وفي حديث أبي هريرة "ربها", وهذه إشارة إلى فتح البلدان وجلب الرقيق حتى تكثر السراري, وتكثر أولادهن فتكون الأم رقيقة لسيدها, وأولادها منها بمنزلته, فإن ولد السيد بمنزلة السيد, فيصير ولد الأمة بمنزل ربها وسيدها. وقد فسره بعض بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق, ثم تجلب الأم فتشتريها البنت, وتستخدمها جاهلة بأنها أمها, وقد وقع ذلك في الإسلام.

_ (1) رواه البخاري ورقمه (4778) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

العلامة الثانية: قوله: "أن ترى الحفاة العراة" الحفاة هم: من لا نعال لهم جمع حاف أي: لا نعل له, والعراة: جمع عار, وهو من ليس على جسده من الثياب ما يستره, والعالة: الفقر. قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (الضحى:8) . قوله: "رعاء الشاة" وهو بكسر أوله وبالمد: جمع راع , ويجمع أيضا على رُعاه بضم أوله, أخره هاء, والرّعي: الحفظ, والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم, وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته يعني إذا كثرت أموال أهل الحاجة والفاقة والفقر بسبب كونهم ملكوا الحضر. وقسروهم بالغلبة والقهر, فامتدت لهم الآمال, بعد اتساع الحال, وجمع أنواع المال, فصار همهم تشييد المباني وهدم أركان الدين بعدم العمل بآيات المثاني, فهذا التفريط والإضاعة هو من إمارات الساعة. وقد صرح في حديث أبي هريرة بذكر ثلاث علامات منها: أن يكون الحفاة العراة رؤوس الناس, ومنها أن يتطاول رعاء البهم في البنيان. وفي حديث عبد الله بن عطا عن عبد الله بن بريدة فقال فيه: وأن ترى الصم البكم العمي الحفاة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ملوك الناس , قال: فقام الرجل فانطلق فقلنا: يا رسول الله من هؤلاء الذين نعتّ؟ قال: "هم العريب" (1) . وقوله: "الصم البكم" إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم. والأحاديث في هذا المعنى متعددة, والأخبار والآثار فيه كثيرة مسندة, فمنها: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة عن النبي

_ (1) رواه المروزي في "الصلاة" (367) وعنده "العرب" بدل "العريب".

صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع" (1) . وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنقضي الدنيا حتى تكون عند لكع بن لكع" (2) وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث أنس عن النبي قال: "بين يدي الساعة سنون خداعة يتهم فيها الأمين , ويؤمن فيها المتهم, وينطق فيها الرويبضة" , قالوا: وما الرويبضة قال: "السفيه ينطق في أمر العامة" , وفي رواية "الفاسق يتكلم في أمر العامة" (3) . وفي حديث آخر "لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها" (4) . والمعلوم انه إذا صار الرؤوس جهالا , والملوك على ما ذكر من الحال, انعكست الأحوال والسباب, وانفتح للشر كل باب, وحان للساعة اقتراب, فلذا يصدق الكاذب , ويكذب الصادق, ويخون الأمين, ويؤتمن الخائن المنافق, ويتكلم الأحمق الجاهل, ويسكت العالم الفاضل, ويعدم العلم بالكلية, وتقبض أهله من البرية, كما ثبت ذلك في الأحاديث

_ (1) رواه الترمذي ورقمه (2209) وأحمد (5/389) قال ابن الأثير في النهاية (4/268) : اللكع عند العرب: العبد, ثم استعمل في الحمق والذم. يقال للرجل: لكع, وللمرأة لكاع. وقد لكع الرجل يلكع لكعا, فهو ألكع. وأكثر ما يقع في النداء , وهو اللئيم. وقيل الوسخ, وقد يطلق على الصغير. ومنه الحديث: "أنه عليه السلام جاء يطلب الحسن بن علي قال: أثمّ لكع؟ " فإن أطلق على الكبير أريد به الصغير العلم والعقل. (2) رواه ابن حبان ورقمه (6721) وإسناده صحيح. (3) رواه أحمد (3/220) والطبراني في الأوسط, وأبو يعلى (3715) , والبزار (3373) وقد جود إسناده الحافظ في الفتح (13/84) . (4) رواه الطبراني, والبزار (3416) من حديث أبي مسعود قال الهيثمي في المجمع 7/327: فيه حسين بن قيس , وهو متروك.

الصحيحة, والنصوص الجلية الصريحة (1) . فعنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم, ويظهر الجهل" (2) . وأخبر صلى الله عليه وسلم: " أنه يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا , فأفتوا بغير علم, فضلوا وأضلوا" (3) . وفي صحيح الحاكم عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: "إن من أشراط الساعة أن يوضع الأخيار, ويرفع الأشرار" (4) . وسيصير هذا في آخر الزمان, وتنقلب حقائق الإيمان, وتنعكس فيه جميع الأمور, ويصير المباح هو المحظور. وقوله صلى الله عليه وسلم: "يتطاولون في البنيان" فيه ذلالة على ذم التباهي والتفاخر, والاستطالة في الدنيا وجمعها للمباهاة والتكاثر. والتطاول في رفع البنيان فوق ما يحتاجه لضروريات الإنسان. ولم يكن البنيان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالإطالة معروفا, بل كان بالقصر في زمنه وزمن أصحابه موصوفا, ولا يزيد على قدر الحاجة , والسعيد من اقتفى منهاجه. وقد خرج البخاري عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان" (5)

_ (1) انظر: جامع العلوم والحكم (1/140) بتصرف. (2) رواه البخاري ورقمه (80) ومسلم رقمه (2671) من حديث أنس رضي الله عنه. (3) رواه البخاري ورقمه (100) ومسلم رقمه (2673) من حديث عبد اله بن عمرو رضي الله عنه. (4) رواه الحكم (4/555-554) وصححه ورواه أيضا الطبراني, قال الهيثمي في المجمع 7/326: ورجاله رجال الصحيح. (5) رواه البخاري ورقمه (7121) .

وخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بناء وأشار بيده هكذا على رأسه أكثر من هذا فهو وبال" (1) . وقال حريث ابن السائب عن الحسن: "كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان, فأتناول سقفها بيدي" (2) . وخرج ابن ماجة من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" (3) . وخرج أيضا من حديث بن عباس عن النبي قال: "ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسنا, وكما شرفت النصارى بيعها" (4) .

_ (1) رواه أبو داود (5237) وأبو يعلى (4347) وإسناده حسن. (2) انظر جامع العلوم والحكم (1/141) . (3) رواه ابن ماجة ورقمه (739) وصححه ابن حبان (1614) . (4) رواه ابن ماجة ورقمه 0740) وإسناده ضعيف.

الفصل الثالث: في إخلاص الأعمال لله تعالى وذلك لا يكون إلا بالنية وما جاء أن العمال بالنيات.

الفصل الثالث: في إخلاص الأعمال لله تعالى وذلك لا يكون إلا بالنية وما جاء أن العمال بالنيات. ... الفصل الثالث: في إخلاص الأعمال لله تعالى وذلك لا يكون إلا بالنية وما جاء أن الأعمال بالنيات قال الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف:29) . وقال جل جلاله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم إِنَّا أَنْزَلْنَا إِليْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر 1-3) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّل الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: الآية 11-15) {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلى اللَّهِ لهُمُ الْبُشْرَى} (الزمر: من الآية 17) وقال تعالى {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر:66) وقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5) . وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (1) . أقول: سيأتي ما في الباب من الأحاديث في الكلام على شرح هذا الحديث إن شاء الله تعالى, وإنما أخرت هذا الفصل بعد الأولين ولم

_ (1) رواه البخاري ورقمه (1) ومسلم ورقمه (1907) .

أقدمه قبلهما لأمرين: الأول: أن الحكم على الشيء فرع تصوره, فلا يحكم على النية بصحة وفساد وإخلاص وشرك قبل معرفة الإسلام وتفسيره والتوحيد وبيان أنه الدين الذي خلقت لأجله السماوات والأرض ومن فيهن, وكلف به الإنس والجن. الثاني: أن النية إنما تعتبر في الأعمال التي ظاهرها القبول, وهي الصادرة من عاملها بعد الإقرار بالإسلام والدخول والتحلي بمسماه والتخلي عن ضده وسواه, وتشييد أصل بنيانه, ورفع قواعده وأركانه, وإلا فمنكره الأبي عنه, لا تقبل أعماله منه؛ لأنه صار بربه كفورا, {وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان:23) . فإن قيل: إن الإسلام حقيقته معلومة بالضرورة, وقواعده محققة مشهورة, يشترك في معرفتها الخاص والعام, ولا تلتبس على أحد من الأنام. فالجواب: أن هذه دعوى يكذبها الوجدان , ويأنف منه الحس والعقل والجنان, ويحكم بفسادها المشاهدة والعيان, ولا يختلف فيها اثنان, أنها من الزور والبهتان, وعلى تقدير كون معرفته معلومة, وأصوله كما ادعى مفهومة, هل يحكم به لجميع الناس, وتخرجهم من دائرة الكفر والإبلاس. ونقول: كلهم يشملهم مسمى الإسلام, وإن لم يقروا به, ولم يلتزموا بماله من الأحكام, فهذا لا يدعيه من انتقد, إذ لا يساعده عليه أحد, أو نقول كما هو الواقع والمشاهد الموجود أهل الإسلام قليل ماهم في الوجود, بل هم كالشامة البيضاء في الجلد الأسود, فبان بطلان ما زخرفه المنتقد وأورد, مع أن هذه الرسالة موضوعة ومصنفة ومجموعة, للراغب في الدخول والمريد, والطالب المستفيد. فلهذا اخترت تقديم رأس الأمر,

وأخرت الكلام على النية التي تصحح الأعمال ويثبت بها الأجر. قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: من الآية 29) أي: بالعدل, وهو الوسط من كل أمر المتجافي, عن طريقي الغالي والجافي, السالم من وصمة التفريط والإفراط, والبعيد عن ثلمة الإفساد والانحطاط. أمر رب العالمين عباده أجمعين بالاستقامة في العبادات, ومتابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات, فيما جاءوا به من الشرائع الجامعة, وما أخبروا به من المغيبات الواقعة, وبإخلاص الدين كله لله, فلا يشركوا معه في عبادته أحدا سواه؛ فإنه تعالى لا يقبل العمل حتى يكون للصواب مطابقا, ولمنهاج الشريعة موافقاً {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: من الآية 29) يحييكم بعد موتكم, وقيل: يحشركم حفاة عراة غرلا, والحديث يشهد لهذا (1) , وقيل من ابتدأ خلقه على الهدى صار على الهدى, ومن ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها. وأحاديث الصحيح دالة على ذلك ففي البخاري: " ... فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (2) , وإنما الأعمال بالخواتيم" (3) . ويجمع بين هذا وذلك قوله: "خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" (4) , وقوله {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَليْهَا} (الروم: من الآية 30)

_ (1) وهو حديث ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ... " الحديث رواه البخاري. (2) رواه البخاري ورقمه (6594) من حديث ابن مسعود, رواه أيضا برقم (6607) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهم. (3) قطعة من حديث رواه البخاري (6233) من حديث سهل رضي الله عنه. (4) رواه مسلم ورقمه (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.

بأنه جل جلاله خلقهم؛ ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال, وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده, والعلم بأنه لا إله غيره, كما أخذ عليهم بذلك الميثاق, ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيداً {هُوَ الَّذِي خَلقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (التغابن: من الآية 2) وفي الحديث: "كل الناس يغدوا فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها". (1) وقدر الله تعالى نافذ في بريته, وهو الذي قدر فهدى من أراد, وأشقى من طرد من العباد بمحض الفضل والعدل, {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء: من الآية 23) . وقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ} (الزمر: من الآية 2) يعني: استقم على التوحيد وعلى إفراده بالعبادة, ممحضا له جميع أنواعها من الشرك والرياء؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك, وإنما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك والمراد قومه, أي وحدوا الله تعالى ولا تدعوا مع الله شريكا في عبادته لا ملكا ولا رسولا, فإنهم ليسوا أهلا لذلك {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر: من الآية 3) يعني: أنه هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة؛ فإنه المتفرد بصفات الألوهية والإطلاع على الأسرار والضمائر. وسبب ذلك: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله, وملة جدك عبد المطلب وسادة قومك يعبدون الأصنام, فنزل: قل يا نبي الله إني {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ} (الزمر:11) يعني: وحده, وأكفر بمن سواه {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّل الْمُسْلِمِينَ} (الزمر:12) يعني: أمرت

_ (1) رواه مسلم ورقمه (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن قصب السبق في الدين إنما هي بالإخلاص, أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من قريش ومن دان بدينهم (1) . أقول: وكلا الأمرين مجتمع فيه؛ لأنه في الدارين هو المقدم, وأول من آمن من قومه وأسلم {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} (الزمر: من الآية 13) بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لعظمة ما يقع فيه من الأهوال والنكال {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لهُ دِينِي} (الزمر:14) أمره الله تعالى أن يخبر عن إخلاصه, وأن يكون {مُخْلِصاً لهُ دِينِي} بعدما أمره بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص, وذلك لأجل الخوف من العقاب على المخالفة, وفيه قطع لإطماع قومه. وقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: من الآية 15) وإن كان ظاهره التخيير, فالمراد به التهديد, ويستفاد منه شدة الوعيد, كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت: من الآية 40) وقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} (الزمر: من الآية 8) والكلام على باقي الآيات ظاهر, ومدلولها في المراد واحد. وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (2) الخ هذا الحديث رواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى, ومسلم بن الحجاج, والإمام مالك رحمهم الله تعالى عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة ابن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3) . وقد صدر به

_ (1) انظر: جامع البيان لابن جرير (23/204) . (2) تقدم تخريجه ص 42. (3) رواه مالك ورقمه (986) .

البخاري كتابه الصحيح, وجعله قائما مقام الخطبة ونائبا منابها, وإشارة منه إلى أن الأعمال لا تحصل للعامل ثوابها, وانه لا ثمرة لها في الدنيا والآخرة إلا إذا كان لوجه الله تعالى طلابها, فكل عمل لغيره مراد نتيجته البطلان والفساد, وبعيد عن الصواب والسداد. وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها, ويشار في أصول الإسلام إليها. فقال الشافعي: "إنه ثلث العلم, ويدخل في سبعين بابا من الفقه". وعن الإمام أحمد قال: "أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر "إنما الأعمال بالنيات" وحديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" (1) , وحديث النعمان بن بشير: "الحلال بين والحرام بين" (2) , وقال: " ينبغي أن يبدأ في كل تصنيف بهذه الأحاديث" (3) . وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" , وجمع أمر الدنيا كلمة: "إنما العمال بالنيات" (4) . والمراد بالأعمال: الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية, فأما ما لا يفتقر إليها كالعادات من أكل وشرب ولبس وغيرها, أو مثل رد الأمانات والمضمونات كالودائع والمغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية, فيختص هذا من عموم العمال المذكورة, وإلى هذا ذهب جمع, وقال آخرون وحكى عن الجمهور وهو ظاهر كلام أحمد: الأعمال هنا على

_ (1) رواه البخاري ورقمه (2697) ومسلم ورقمه (1718) . (2) رواه البخاري ورقمه (52) مسلم ورقمه (1599) . (3) انظر: هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (1/61) . (4) انظر: جامع العلوم والحكم (1/62) .

عمومها لا يخص منها, والمعنى على كل من القولين أن حظ العامل من عمله نيته, فإن كانت صالحة فعمله صالح فله أجره, وإن كانت فاسدة فعمله فاسد, فعليه وزره. فصلاح العمال وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها؛ لقوله: " إنما العمال بالخواتيم" (1) وقد تكون النية مباحة, فيكون العمل مباحا, فلا ثواب فيه ولا عقاب. والنية في اللغة: نوع من القصد والإرادة. وعند العلماء: تمييز العبادات من العادات (2) . والمراد منها: تمييز المقصود بالعمل هل هو لله وحده لا شريك له أم غيره؟ وهذه هي التي ذكرها العارفون في كتبهم, وهي التي توجد في كلام السلف, وكذلك هي المراده في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف أمته. ويعبر عنها بالإرادة: كما في القرآن: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (آل عمران: من الآية 152) {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (لأنفال: من الآية 67) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (الشورى: من الآية 20) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلةَ عَجَّلْنَا لهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (الإسراء: من الآية 18) {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (الإسراء: من الآية 19) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِليْهِمْ أَعْمَالهُمْ فِيهَا} (هود: من الآية 15) . وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء: كقوله: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} (الليل:20) وقوله: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 207) وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 272) وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 272) وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 114)

_ (1) تقدم تخريجه وهو عند البخاري. (2) وأيضا: تمييز العبادات عن بعض , كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا.

وأما ما ورد منها في السنة وكلام السلف فكثير لا يحصى. ففي الحديث: "من غزا ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى" (1) . وحديث جابر: "يحشر الناس على نيتهم" (2) . وحديث عمر: "إنما يبعث المقتتلون على النيات" (3) . واعلم أن إخلاص النية لله تعالى لم يزل شرعا لمن قبلنا ثم لنا من بعدهم. قال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} (الشورى: من الآية 13) . قال أبو العالية: "وصاهم بالإخلاص لله وعبادته وحده لا شريك له". وقال الفضيل: في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك: من الآية 2) قال: "أخلصه وأصوبه, والخالص إذا كان لله تعالى, والصواب إذا كان على السنة" (4) . وقوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ... " الخ. أخبر صلى الله عليه وسلم أن هجران بلد الشرك والكفر والانتقال منه إلى الإسلام يختلف باختلاف النيات والمقاصد. فمن كانت هجرته إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله, ورغبة في تعلم

_ (1) رواه أحمد (5/315,320) , والنسائي ورقمه (3138) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (4638) . (2) رواه ابن ماجة (4230) , وصححه الحاكم (2/452) . (3) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص والنية", ورواه أيضا أبو يعلى في "المسند الكبير" كما في المجمع (10/332) وفي سنده عمرو بن شمر, كذبه غير واحد, واتهم بالوضع, وساق له الذهبي في الميزان (36/368-369) أحاديث منكرة منها هذا الحديث. (4) انظر: جامع العلوم والحكم (1/72) .

دين الإسلام والتفقه في التوحيد, وإظهار الدين كما ينبغي, حيث كان يعجز عنه في دار الشرك, ولا يتمكن من إظهاره, فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا, وكفاه شرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه, وذلك نهاية المطلوب دنيا وأخرى. ومن كانت هجرته إلى دار الإسلام لطلب دنيا, أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك. فالأول تاجر والثاني خاطب, وليس واحد منهما بمهاجر. وفي قوله: "إلى ما هاجر إليه" تحقير لما طلب من أمر الدنيا واستهانة به, والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر. وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة بنص الكتاب والسنة, فلذا كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى المدينة للنبي (صلى الله عليه وسلم وقد هاجر منهم رجال كثير ونساء قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي. انتهى, هذا ملخص ما ذكره شراح هذا الحديث (1) . وأقول: قد زعم قوم أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والإيمان ليست واجبة ولا متعينة في هذا الزمان؛ وأن محكم عقدها مفسوخ, ووجوبها المستمر منسوخ, متمسكين من الدليل بما لا يبرد الغليل, ولا يشفي القلب العليل, وذلك ظاهر قول خير البرية: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" (2) , وظاهر حديث "المهاجر من هجر ما نهى الله

_ (1) من شراح الحديث: ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/59) , فتح الباري (1/9) وغيرهم. (2) رواه البخاري ورقمه (3900) ومسلم ورقمه (1864) من حديث عائشة رضي الله عنها.

عنه" (1) , وليس الأمر كما زعموا ولا المعنى كما فهموا, بل ليس الحكم كما جزموا به وحكموا, وإنما المراد المقصود, والمنهج المسدود الهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتحها للمسلمين, وزوال المشركين, وإضاءة أرجائها بأنوار الدين, ورفع قواعد التوحيد, وقصم كل جبار عنيد؛ لأن الله تعالى قد بدل الحال, والمحذور فيها قد زال, والمهاجرة منها تؤدي إلى الإخلال بأم القرى والتعطيل, فسد بعد مضي تلك الحكمة ذلك السبيل. وأما الهجرة من بلاد المشركين والكفار, وعدم السكنى معهم والاستقرار, إلى ما للمسلمين من الديار, حيث لا يمكن إقامة دين للموحد ولا إظهاره, ولا تعزيز للإسلام وانتصاره, فحكمها إلى الآن ثابت الوجوب والإلزام, مستمر على ممر السنين والأعوام, كما صرح بذلك الأئمة الأعلام, والآيات على ذلك دالة صريحة, والأحاديث ثابتة صحيحة. قال الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97) . قال ابن كثير: "الآية دالة على وجوب الهجرة عامة, فكل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة, وليس متمكنا من إقامة دينه, فهو ظالم لنفسه مرتكب محرما بالإجماع, وقد روى أبو داود بسنده عن سمرة بن جندب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله (2) " (3) انتهى كلام ابن كثير في تفسيره.

_ (1) رواه البخاري ورقمه (10) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) رواه أبو داود ورقمه (2787) . (3) تفسير القرآن العظيم (2/343) .

وقال البيضاوي: "الآية دالة على وجوب الهجرة, ففي الحديث: "من فر بدينه من أرض إلى أرض استوجبت له الجنة, وكان رفيق أبيه إبراهيم عليه السلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم" (1) .انتهى كلامه. ولو لم يكن إلا قوله صلى الله عليه وسلم "أنا بريء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين" (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة, ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" رواه أبو داود عن معاوية رضي الله عنه (3) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد" رواه سعيد (4) , وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو" رواه أحمد والنسائي (5) لكان في الدنيا كافياً, وبالمقصود وافياً, كيف وقد قال الله جل جلاله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ} (النساء: من الآية 100) . هذا ما خطر في البال من المقالة, حتى كتبي هذه العجالة, من غير مراجعة في ذلك للأسفار, وإن كان صبح الحق فد تبلَّج بالأسفار, وأشرق بما ذكرناه من الحجة المحجة الأنوار, وانجلى عن وسيم وجهها الغبار. خاتمة: اعلم أن سائر الأعمال كطلب العلم, والجهاد, والصلاة, والصيام, والحج والإنفاق, وغير ذلك, مثل الهجرة في هذا المعنى, فصلاحها

_ (1) أنوار التنزيل (1/239) . (2) رواه الترمذي ورقمه (1604) وأبو داود ورقمه (2645) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (3) رواه أبو داود ورقمه (2479) وأحمد (4/99) . (4) رواه أحمد (4/64) عن رجل من الصحابة. (5) رواه أحمد (1/192) وابن حبان (4866) وصححه, من حديث عبد الله السعدي.

وفسادها بحسب النية الباعثة عليها, وقد ورد الوعيد على العمل لغير الله عموماً. خرَّج الإمام أحمد من حديث أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر هذه الأمة بالثناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض, فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" (1) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغني الأغنياء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". وخرجه ابن ماجة بلفظ "فأنا منه بريء" (2) . وخرَّج أحمد عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك, ومن صام يرائي فقد أشرك, ومن تصدق يرائي فقد أشرك, وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم, فمن أشرك بي شيئا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به, أنا غني عنه" (3) . وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم, والرجل يقاتل للذكر, والرجل يقاتل ليرى مكانه, فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي رواية لمسلم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة, ويقاتل حمية, ويقاتل رياء فأي ذلك

_ (1) رواه أحمد (5/134) وابن حبان (2/132) ورقمه (405) والحاكم (4/329) هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه. (2) رواه مسلم ورقمه (2985) وابن ماجة ورقمه (4202) . (3) رواه أحمد (4/125-126) ورواه الطبراني في الكبير (7139) والحاكم (4/329) وفيه شهر بن حوشب وهو متكلم فيه.

في سبيل الله؟ فذكر الحديث (1) . وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء؛ إن الله يقبل إلا ما كان خالصا, وابتغى به وجهه" (2) . وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: "يا رسول الله, رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أجر له" فأعاد عليه ثلاثا (3) . وخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال قلت: يا رسول الله, أخبرني عن الجهاد والغزو فقال: " إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله بتلك الحال" 4) . خرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث أبي سعد بن أبي فضالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" (5) . وحديث الثلاثة الذين هم أول من يقضي فيهم, وتسجر بهم النار

_ (1) رواه البخاري (123) و (2810) و (7458) ومسلم (1904) . (2) رواه النسائي (3140) والطبراني (7628) وإسناده حسن. (3) برقم (2155) وفي سنده يزيد بن مكرز قال علي بن المديني وغير مجهول. (4) برقم (2519) ورواه أحمد (5/234) . (5) رواه أحمد (4/215) والترمذي رقمه (31554) وقال حسن غريب. وابن ماجة ورقمه (4203) وصححه ابن حبان (404) .

مشهور خرجه مسلم (1) . فالحاصل أن الرياء يحبط العمل, إذا كان القصد اتفاقا, فإن كان طارئا في أثناء العمل فمحل خلاف بين أئمة السلف, هل يبطل كله أو يثاب على نيته الأولى؟ وأما إذا عمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء في الناس, ففرح بفضل الله ورحمته, فلا يضر. فقد خرج مسلم عن حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" (2) . وخرج الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله , الرجل يعمل العمل فيسره, فإذا أطلع عليه أعجبه قال: "له أجران: أجر السر وأجر العلانية" (3) . وبالجملة فليس على النفس شيء أشقُّ من الإخلاص؛ لأنها لا نصيب لها فيه (4) , وبما ذكرته لمن تدبر وعقل أمر الله ونهيه كفاية.

_ (1) رواه مسلم ورقمه (1905) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه مسلم ورقمه (2642) . (3) رواه مسلم ورقمه (2384) , وابن ماجة (4226) وصححه ابن حبان (375) وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب, وقد روى الأعمش وغيره من حبيب بن أبي ثابت عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وأصحاب الأعمش لم يذكروا فيه عن أبي هريرة) . (4) يوجد حاشية وهي: (قوله: (فليس على النفس شيء أشقُّ من الإخلاص؛ لأنها لا نصيب لها فيه) هذا مروي عن سهل بن عبد الله التستري, ذكره ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث "إنما الأعمال بالنيات" الحديث.

الفصل الرابع: في دعائم الإسلام التي يتم له بها النظام, ويكفر جاحدها أو بعضها من الأنام.

الفصل الرابع: في دعائم الإسلام التي يتم له بها النظام, ويكفر جاحدها أو بعضها من الأنام وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم وحج البيت الحرام. قال الله جل جلاله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة:3) . {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِليْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:45-46) . وقال الله جل جلاله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:110) . وقال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} (النساء: من الآية 103) . وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود:114) . وقال جل جلاله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة: من الآية 5) . وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلمُونَ} (التوبة:11) . وقال عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَليْهَا} (طه: من الآية 132) . وقوله: {قَدْ أَفْلحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (المؤمنون:1-4) إلى قوله

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون:9-11) . وقد تعدد ذكر الصلاة والزكاة في القرآن مقرونتين ومفردتين, وآخر ذلك قوله جل جلاله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5) . وسيأتي أدلة باقي الأركان في موضعها. وأما الشهادة فقد تقدمت دلائلها قبل هذا. وأخرج الشيخان في صحيحهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة وحج البيت, وصوم رمضان" (1) .قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: من الآية 3) . الإيمان في اللغة يطلق على: التصديق. وأما الإيمان الشرعي المطلوب فقد قدمت من النصوص ما يشهد على القطع أنه قول واعتقاد وعمل (2) وأكثر السلف على ذلك. قال أبو العالية: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي: بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وجنته, وناره, ولقائه, وفسره بعض السلف: بما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار, وقال ابن عباس: بما جاء منه أي: من الله, وقيل: الغيب: القرآن, وقيل: القدر (3) . {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} (البقرة: من الآية 3) قال ابن عباس: "أي يقيمون الصلاة بفروضها بإتمام الركوع والسجود

_ (1) رواه البخاري (8) ومسلم (16) . (2) يزيد بالطاعة, وينقص بالمعصية. (3) انظر: تفسير ابن جرير (1/101) .

والتلاوة والخشوع". {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} اختار بعض العلماء عموم الآية في الزكاة والنفقات أي: أنهم يؤدون اللازم لهم في أموالهم كالزكاة ونفقة من تلزمهم نفقته؛ لأن الله عمم وصفهم ومدحهم بذلك, وكل من الزكاة والنفقة ممدوح به محمود عليه, وإنما قرن الله بين الصلاة والزكاة؛ لأن الصلاة حقه تعالى وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه, وتمجيده والابتهال إليه, ودعائه والتوكل عليه. والإنفاق وهو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم, وأولى الناس بذلك القرابات, والأهل, والمماليك, ثم الأجانب. وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} (النساء: من الآية 103) . أي: فرضا مفروضا أو فرضا محدود الأوقات, لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال, والأول قول ابن عباس. ولنقتصر عن الكلام على تفسير هذه الآيات؛ لئلا يفوت الغرض من الاختصار, والمقصود شرح حديث "بني الإسلام"، وإيضاح ما احتوى عليه من الأحكام. والمقصود تمثيل الإسلام ببنيان, ودعائم البنيان "هذه الخمس", فلا يثبت البنيان بدونها, وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان, فإذا فقد منها شيء نقص البنيان, ولكنه قائم لا ينتقض, ينقض ذلك بخلاف نقض هذه الخمس الدعائم؛ فإن الإسلام يزول بذلك. قال ابن حجر: "هذا حديث عظيم, وهو أحد قواعد الإسلام, وجوامع الأحكام, إذ فيه معرفة الدين, وما يعتمد عليه عامة المسلمين,

ولأنه حاور جميع الأركان التي كلها منصوص عليها في القرآن". (1) والمراد من الشهادتين: الإيمان بالله ورسوله, وقد ذكر ذلك البخاري تعليقا فقال: "بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله", وذكر بقية الحديث. وفي رواية لمسلم "على خمس على أن يوحد الله". وفي رواية "على أن يعبد الله ويكفر من دونه". فأما الصلاة, فهي مشتقة من الدعاء؛ لاشتمالها عليه هذا قول أكثر أهل العربية والفقهاء. وشرعا: قربة فعلية ذات إحرام وسلام. وهي أعظم الدعائم بعد الشهادتين, وفرضت ليلة الإسراء في السماء, وذلك بمكة المشرفة قبل الهجرة بسنة, بخلاف سائر الشرائع؛ فإنها فرضت بالأرض. وفرضها عليه, وعلى أمته صلى الله عليه وسلم وهو في السماء, دليل على مزيتها على غيرها من الفرائض. واختلاف العلماء, هل فرضت ركعتين وزيدت في الحضر أو أربعا ثم قصرت؟ على قولين (2) . وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة, وأجمعت على فرضيتها الأمة, واتفقوا على قتل الممتنع من فعلها, وإنما اختلفوا في قتله, هل كفرا؟ وهو قول جماعة من السلف والخلف, منهم عبد الله بن المبارك, وأحمد , وإسحاق. قال أيوب السختياني: "ترك الصلاة كفر, لا يختلف فيه". وحكى إسحاق: عليه إجماع أهل السنة. وقال محمد بن نصر المروزي: "هو

_ (1) والراجح منهما أنها فرضت ركعتين, ثم زيدت لحديث عائشة رضي الله عنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا, وتركت صلاة السفر على الأولى. (2) رواه البخاري ورقمه (2935) .

قول جمهور أهل الحديث". وذهب طائفة منهم إلى أن: من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك. وروى عن سعيد بن جبير ونافع والحكم وهو رواية عن أحمد وبه قال ابن حبيب من المالكية. (1) وقد وردت أحاديث تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام. ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة" (2) . وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تترك الصلاة متعمدا, فقد تركها متعمدا فقد خرج من الملة" (3) . وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الإسلام وعموده الصلاة" (4) , فجعل الصلاة كعمود الفسطاط, الذي لا يقوم الفسطاط ولا يثبت إلا به, ولو سقط العمود لسقط الفسطاط, ولم يثبت بدونه. وقال عمر: "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" (5) . وقال سعد (6) وعلي بن أبي طالب: "من تركها فقد كفر" (7) .

_ (1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/147) . (2) برقم (82) . (3) هو في تعظيم قدر الصلاة (920) وإسناده ضعيف, وله شاهد من حديث أميمة عند المروزي (912) , وعن أم أيمن عند أحمد (6/421) , والمروزي (913) . (4) رواه الترمذي ورقمه (2616) وقال: حسن صحيح, ورواه ابن ماجة (3973) . (5) رواه مالك (1/38-39) , وابن سعيد في الطبقات (3/351) , والمروزي (923) و (929) وابن أبي شيبة (11/25) . (6) يغلب على الظن أنه سعد بن عمارة, ذكره البخاري في الصحابة, انظر المروزي (946) . (7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/47) , والمرزي (933) وفيه معقل الخثعمي, وهو مجهول.

وقد استدل الإمام أحمد وإسحاق رحمهما الله تعالى على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بتركه السجود لآدم, وترك السجود لله أعظم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي, ويقول: يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة, وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" (1) . وأما الزكاة: فقد فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة, وقدر صلى الله عليه وسلم نصاب كل مزكي من أنعام بأنواعها ومعشر ونقد, كما هو مبين في الأحاديث الصحيحة. دل على فرضيتها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقد قدمنا من الآيات, وأما السنة فالحديث المتقدم, وأما الإجماع فقال القرافي: "اتفقوا على فرضيتها, فمن جحدها فهو كافر, ومن أقر بها وامتنع من فعلها وأدائها قوتل عليها" قال ابن مسعود: تارك الزكاة ليس بمسلم (2) . وأما صوم رمضان: فهو فريضة, دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَليْكُمُ} (البقرة: من الآية 178) . وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: من الآية 185) . والسنة تقدم, والإجماع انعقد على فرضيته, وكونه أحد أركان الإسلام, وفرض في السنة الثانية من الهجرة بعد ليلتين خلتا من شعبان, فمن جحده قتل, ومن اقر بذلك وامتنع عن الفعل استتيب, فإن تاب وإلا قتل. وعن ابن عباس مرفوعا: "عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة, عليهن أسس الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله , والصلاة, وصوم رمضان, من

_ (1) برقم (81) . (2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (3/114) واللالكائي في "أصول الاعتقاد" (1575) .

ترك منهن واحدة فهو بها كافر حلال الدّم (1) . وعن عمرو بن مالك مرفوعا: "من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر, ولا يقبل منه صرف ولا عدل, وقد حل دمه وماله". وأما الحج: فهو خامس الأركان, دل على ركنيته الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِليْهِ سَبِيلاً} (آل عمران من الآية:97) . والسنة: الحديث المتقدم, وما رواه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس, إن الله قد فرض عليكم الحج, فقال رجل: أكل عام يا رسول الله, فسكت, حتى قالها ثلاثا, وقال: لو قلت نعم لوجبت, ولما استطعتم" (2) . وأجمعت الأمة على وجوبه فمن جحده كفر, ومن امتنع من فعله فالله حسيبه. وروي عن عمر رضي الله عنه, فيمن تمكن من الحج ولم يحج, أنهم ليسوا بمسلمين, وكان يعتقد كفرهم, ولذلك أراد أن يضرب عليهم الجزية, وقال: لم يدخلوا في الإسلام بعد, فهم على كتابيتهم (3) .

_ (1) أخرجه اللاكائي في "أصول الإعتقاد" (1576) , ورواه أيضا أبو يعلى (2349) وإسناده ضعيف. (2) رواه مسلم (1337) والنسائي (2619) ورواه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب وقال: حسن غريب من حديث علي. (3) قال ابن كثير في "تفسير" (1/368) : "روى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر ابن الخطاب: "لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار, فينظروا إلى كل من له جدة ولم يحج, فيضربوا عليهم الجزية, ما هم بمسلمين, ما هم بمسلمين". وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (2/275) , وقال: "إسناده صحيح! مع أن الحسن البصري لم يسمع من عمر, فالإسناد منقطع". وروى أبو بكر الإسماعيلي كما في "تفسير ابن كثير" (1/386) , وسعيد بن منصور, وابن ابي شيبة كما في الدر المثور 2/275 عن عمر رضي الله عنه قال: من أطاق الحج ولم يحج, فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا. وقال الحافظ بن كثير: "واسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه".

واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض, وروي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض. ففي مسند الإمام أحمد عن زياد بن نعيم الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع فرضهن الله في الإسلام, فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا: الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت" (1) . وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" رواه الترمذي (2) . خاتمة: لم يذكر الجهاد في هذا الحديث, مع أن الجهاد من أفضل الأعمال, وأنجح وسيلة يتقرب بها العبد إلى الله ذي الجلال, وينال بها السعادة في الحال والمآل, والفوز ببلوغ السؤل والآمال, وأعظم ذلك الرضوان الأكبر في النعيم الذي لا يزال. فالآيات المحكمات بفضله شاهدة, والأحاديث الصحيحة في ذلك واردة. قال الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:74) {فَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيما درَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:95-96) .

_ (1) رواه احمد (4/200-201) وإسناده مرسل كما قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/149) . (2) رواه الترمذي (812) وقال: هذا حديث غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وفي إسناده مقال, وهلال بن عبد الله مجهول, والحارث يضعف في الحديث.

وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (التوبة:2-21) . وقال: {إن الله اشترى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَليْهِ حَقّاً} (التوبة111) . وقال تعالى: {يا أيها الذينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (الصف: من الآية 10-11) . وفي الصحيحين: " تكفل الله للمجاهد في سبيل الله أن يدخله الجنة, أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر وغنيمة" (1) . وفي المسند عن معاذ من حديث طويل: " ... والذي نفس محمد بيده, ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله, ولا ثقل ميزان عبد كدابة تنفق في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله" (2) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الأعمال إيمان بالله ثم جهاد في سبيل الله" (3) . وعنه صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها"

_ (1) رواه البخاري ورقمه (3123) ومسلم ورقمه (1876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواد (5/246) والطبراني في الكبير (20/63) ورقمه (115) وفيه شهر بن حوشب, وهو متكلم فيه. (3) رواه البخاري (1519) ومسلم (83) .

وعنه: "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة" (1) . وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إن رأس الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" (2) وذروة سنام كل شيء أعلاه. فبين انه أعلى شيء منه. وإنما لم يذكره في هذا الحديث: لأن المقصود منه بيان دعائمه وأركانه التي بسقوط أحدها يسقط جميع بنيانه, والجهاد ليس من الدعائم؛ لأن أكثر أهل العلم على أنه ليس فرض عين, بل هو فرض كفاية بخلاف هذه الأركان. وأيضا الجهاد كما قال العلماء؛ لا يستمر فعله إلى آخر الدهر, بل إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام لم يبق حينئذ ملة غير ملة الإسلام, فحينئذ تضع الحرب أوزارها, ويحمد الله تعالى سائر الملل الضالة نارها, ويمحو من ظاهر الغبراء آثارها, ويمحق أعوانها وأنصارها, فلا يبقى إلا ملة الإسلام, وشريعته عليه الصلاة والسلام, والعمل على ما قررته من الأحكام, فلا حاجة إلى الجهاد لزوال الكفر والإلحاد, بخلاف أركان الإسلام, فإنها لا تزال ممهدة المسالك, والكل لها سالك, حتى يأتيهم أمر الله على ذلك (3) .

_ (1) رواه البخاري (2792) ومسلم (1880) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) رواه الترمذي (1616) وقال: حسن صحيح. (3) انظر: جامع العلوم والحكم (1/152) .

الفصل الخامس: في تعيين قبول شرعه المطهر صلى الله عليه وسلم ولزوم العمل بهديه الأنور وإلغاء مخالفة ضده, وإبطال العمل به ورده.

الفصل الخامس: في تعيين قبول شرعه المطهر صلى الله عليه وسلم ولزوم العمل بهديه الأنور وإلغاء مخالفة ضده, وإبطال العمل به ورده قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:32) وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (النساء: من الآية 13) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 64) إلى قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَليْهِمْ} (النساء: من الآية 69) وقال جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا إِليْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِليْهِمْ وَلعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: من الآية 44) وقال تبارك وتعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لهُمُ الَّذِي اخْتَلفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل:64) وقال تعالى: {أَوَلمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ يُتْلى عَليْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت:51) وقال الله جل جلاله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العقاب} (الحشر: من الآية 7) أخرج البخاري ومسلم من حديث القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها, قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما

ليس منه فهو رد" (1) . وفي رواية لمسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي بعض ألفاظ الحديث "من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد". قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: من الآية 31) أقول: هذه الآية المحكمة لأساس أكثر الناس هادمة, وعليها بالبدع والضلال والهوى حاكمة, فكل من ادعى محبة الله عز وجل, وليس على طريقة نبيه المرسل, فقد بلغ والله الغاية القصوى في الزور والكذب في الدعوى, بل هو في الخلد الأبدي, والعذاب السرمدي, حتى يتبع الشرع المحمدي, ويقتدي بدين نبيه ويهتدي, فيا لها من آية عظيمة الشأن والمقدار, جسيمة الفوائد والأسرار, يفضح مضمونها غالب العمال, ويفصح مكنونها برد ما لهم من الأعمال, وتنبئ بخيبة الرجاء لهم والآمال, وقطع الأسباب التي أملوا بها القرب من الله والاتصال, وذلك أنه لم يقم فيهم برهانها, ولم يظهر على صفحات أعمالهم سلطانها, فإن لكل قول حقيقة, ومن شغف بمحبوب سلك طريقه. قال الحسن البصري: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله إنا نحب ربنا حبا شديدا" فأحب الله تعالى أن يجعل لحبه علما, فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال غيره من السلف: "زعم قوم أنهم يحبون الله تعالى فابتلاهم بهذه الآية فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه, وهو محبته إياكم, وهو أعظم من الأول كما قال بعض الحكماء والعلماء ليس الشأن أن

_ (1) رواه البخاري ورقمه (1697) ومسلم (1718) .

تحب إنما الشأن أن تحب, {وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ} بإتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم والعمل على منهاجه, والأخذ بما جاءكم به, وترك ما نهاكم عنه, فهذا حقيقة الإتباع الذي رتب الله عليه لمن اتصف به المحبة, التي هي غاية المطلوب للمحب من المحبوب, التي يندرج تحتها التجاوز عن الذنوب {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لكل من لقيه لا يشرك به شيئا, {رَحِيمٌ} بعباده المؤمنين. {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ} (النور: من الآية 54) أمر جل جلاله كل خاص وعام أن يطيعه في جميع ما أنزل من الأمر والنهي وسائر الأحكام. {وَأَطِيعُوا الرَّسُول} (النساء: من الآية 59) قرن سبحانه طاعته فيما أنزل بطاعة رسوله فيما بيَّن وفصَّل. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} تخالفوا وتعرضوا عن أمره المبين, {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر صراح في الحقيقة, والله-تعالى- لا يحب من اتصف بالكفر ورجسه, وإن ادَّعى وزعم أنه يحب الله ويتقرب إليه في نفسه, حتى يتابع خاتم الرسل ورسوله إلى العالم جنِّه وإنسه, الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم المرسلون من إخوانه لما وسعهم إلا إتباعه, والدخول في طاعته وإتباع شريعته في زمانه (1) . فقد تبيَّن بما ذكرناه, واتَّضح بما قرَّرناه, أنَّ كلُّ من ادعى محبة الله الكريم ولم يتبع شرع نبيه القويم, فهو على غير الصراط المستقيم, بل هو كاذبٌ في دعواه, مؤثر على الحقِّ متابعة هواه, قد تيمَّم الطريق المعوجَّ, وسلك أقبح المنهج, ومع كونه توسط من الضلال سنناً, يرى سوء عمله حسناً. وأي محبة تجدي والمحب المدعي يعصي محبوبه, ولا يحصل قصده ومطلوبه, بل يخالفه ويتعدى حدوده, ويجعل من دونه حبه وإلهه ومعبوده.

_ (1) انظر تفسير كثير.

قال بعض العارفين: (1) تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع فهذه الدعوى التي زعمها الملحدون, وتسمى بها المبطلون, هي التي ادّعاها قريش والمشركون, فكانوا بعبادة من عبدوه إلى الله يتقربون. وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية 3) فأذاقهم الله تعالى من بأسه هلاكا وحتفا, وأذهب غيظ قلب نبيه وأصحابه منهم وأشفى, واستبيحت دماؤهم وأموالهم, وساءت للكافرين منهم أحوالهم, وصارت للجحيم عاقبتهم ومآلهم, {فَلوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأحقاف:28) . بل ادعاها قبلهم النصارى واليهود, مع إصرارهم على قتل الأنبياء وتكذيب الرسل والجحود, فلعنهم الله, وغضب عليهم, وجعل منهم الخنازير والقرود, {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: من الآية 78) . ولا ريب أن الكلام على المحبة يستدعي طولا, بل يستلزم أبوابا وفصولا , ولكن لا بد من نبذة يسيرة, حتى تكون للإفادة مسيرة, ولمريد الدين والتوحيد بصيرة. فأقول مستعيناً بالله تعالى متوكلاً عليه, رافعاً أكفَّ الضراعة في التوسل إليه "اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السماوات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء

_ (1) القائل هو الإمام الشافعي كما في ديوانه 1249.

إلى صراط مستقيم" (1) , وأرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه, وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل, واجعلنا للمتقين إماما. اعلم أن المحبة نوعان: محبة الطبع, ومحبة العقل: فمحبة الطبع كمحبة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم وليس الكلام فيها وإنما الكلام في المحبة العقلية, وهي ما يقتضي العقل رجحانها, ويستدعي اختيارها, وإن خالفها هواه, إلا ترى المريض يعاف الدواء, وينفر عنه طبعه, ولكنه يميل إليه باختياره ويهوي تناوله بمقتضى عقله؛ لما يعلم أن صلاحه فيه. فهذه نتيجة دخول الإيمان في القلب, بحيث يختلط باللحم والدم, فتنكشف له محاسن الإسلام وزينه, وقبح الكفر وشينه. فهذه هي التي تشيد بها أصل الكفر وأصل الإسلام, وافترق بسببها الأنام. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (البقرة: من الآية 165) . فالكافر وسائر المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله. وقد وصف الله تعالى بذلك المشركين في مواضع من كتابه المبين. فقال وهو أصدق القائلين: {فَإِنْ لمْ يَسْتَجِيبُوا لكَ فَاعْلمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50) . وقال: {وَلوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (المؤمنون: من الآية 71) وقال تعالى: {وَاتْلُ عَليْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلوْ شِئْنَا لرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلدَ إِلى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (الأعراف: من الآية 175-176) وقال جل جلاله: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (الشورى: من الآية 15) وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ

_ (1) رواه مسلم (770) .

الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: من الآية 23) وقال سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد:14) . فأصل ما احتال به الشيطان عمن أراد الله إضلاله من العباد, وأول ما أوقعهم به في مهواة الكفر والإلحاد, فنالوا بذلك الطرد والإبعاد محبتهم لآلهتهم ومساواة الإله الحق بالأنداد, وكذلك أهل البدع والهوى, الذين عمت في كل قطر بهم البلوى, تجارى بهم الهوى كما يتجارى بصاحبه الكلب, فانسلوا إلى الضلالة من كل حدب, ولم يبق لهم من دين الله أدنى سبب. قدموا أهواءهم على الشرع وآثروه, وأعلنوا بضلالهم وأظهروه, لم يقدموا محبة الله ورسوله على السّوى, بل كرهوها, فقدموا عليها الهوى, {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَل اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالهُمْ} (محمد:9) , {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّل عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلحَ بَالهُمْ} (محمد:2) . وأما محبة الله تعالى فهي مشكاة التوحيد ونبراسه, بل هي في الحقيقة أصله وأساسه, ولكن المحبة الصحيحة هي التي تقتضي المتابعة في حب ما يحب وبغض ما يكره, فمن أحب الله تعالى محبة صادق من قلبه, أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله, ويكره ما يكرهه الله ورسوله, ويرضى بما يرضى الله ورسوله, ويسخط لما يسخط الله ورسوله, وأن يعمل بجوارحه الظاهرة والباطنة بمقتضى هذا الحب والبغض, فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك, بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله, أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله دل على نقص محبته الواجبة؛ لأن الواجب على كل مسلم أن يحب ما أحبه الله

محبة توجب له الإيقان بما وجب عليه منه, وأن يكره ما كرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه. ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: من الآية 36) وقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِليْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: من الآية 24) . فمن ملأت هذه المحبة زوايا قلبه صار قلبه مشكاة مصباحها معرفة الله تعالى المشرقة أنوارها, البديعة أسرارها, فلا يبقى حينئذ فيه سوى عظمة الله تعالى وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه, وتصير هذه الأحوال في قليه بسبب المعرفة مشاهدة له بعين البصيرة, فلا تستطيع الجوارح الظاهرة أن تبعث إلى شيء من الأشياء أو عمل من الأعمال إلا بموافقة ما رسى ورسخ في القلب. ولهذا السر البديع أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في خطبته بعد قدومه المدينة: "أحبوا الله من كل قلوبكم" (1) ؛ لأنه متى امتلأ بعظمة الله تعالى, فينمحي إذ ذاك كل ما سواه, ولا يبقى للعبد شيء من نفسه وهواه, ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه, فلا يتحرك إلا بأمره, ولا ينطق إلا بتوحيده وذكره, ولا

_ (1) رواه الترمذي (3789) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما, وقال: حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه.

يلهج إلا بحمده وشكره, ويسهل عليه التعذيب فيه, وبذل نفسه محبة لمولاه, ورغبة به عما سواه, ومحبة لرسوله وما جاء به من عند الله, فيحب لله, ويبغض لله, ويعادي فيه, ويوالي له, ويتبرى من جميع عداته, ويعطي له, ويمنع, ويذل, ويخضع, ويسارع بامتثال أوامره من الطاعة وأداء العبادة وصرف جميع أنواعها له, فلا يدعو غيره, ولا يتقرب بنذر ولا نسك لسواه, ولا يخاف ولا يرجو إلا إياه, ولا يرغب إلا فيه, ولا يرهب ولا يخشى إلا منه, ولا يستغيث إلا به, ولا يتوكل إلا عليه, ولا ينيب إلا إليه. ومن كانت هذه حاله, صدق على الحقيقة مقاله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا, وبمحمد رسولا, وتحقق حينئذ بطعم الإيمان؛ لأنه لم يتخذ وليا من دون الله, ولم يبتغ غيره حكما, ولم يبغ غيره ربا, فالرضا بربوبية الله التي هي عين التوحيد تستلزم الرضا بعبادته وحده, والكفر بالأنداد, وتستلزم الرضا بتدبيره للعبد, واختياره له, والرضا بالإسلام دينا يقتضي اختياره على سائر الأديان, والرضا بمحمد رسولا يقتضي الرضا بجميع ما جاء به من عند الله, وقبول ذلك بالتسليم وانشراح الصدر به كما قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: من الآية 65) , ودخل في زمرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82) , لأن هذا قام بحق الله تعالى الذي خلقه لأجله وهو توحيده بالعبادة بأنواعها, فصار جزاؤه الأمن من عذاب النار كما صرح بذلك معاذ في حديثه (1) , بل ما أجدر هذا أن يكون ممن حقق التوحيد لرب الأرباب

_ (1) رواه البخاري ورقمه (2856) ومسلم ورقمه (30) .

فيصير مع السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب (1) . فهذا الذي ذكرنا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله, وتصديق إياك نعبد وإياك نستعين؛ لأن معناها أنه لا يؤله غيره حبا ورجاء وخوفا ورغبة ورهبة وطاعة وخضوعا وغير ذلك, ولا يعبد بأنواع العبادة إلا هو, ولا يستعيذ ولا يستعين إلا به وكل ما ذكرته لا يختلف من أهل التوحيد فيه اثنان, إذ كل ذلك قد قام عليه البرهان, ودلت عليه إجمالا وتفصيلا الأحاديث وآيات القرآن. قال الله تعالى: {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لكُمْ} (غافر: من الآية 60) . وفي حديث النعمان بن بشير "الدعاء هو العبادة" (2) . وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "الدعاء مخ العبادة" (3) . ومعلوم أن السؤال هو حقيقة العبادة, لأن فيه إظهار الذل والمسكنة والحاجة والافتقار, والاعتراف بقدرة المسئول على دفع هذا الضرر ونيل المطلوب, وجلب المنافع ودفع المضار, وكل هذا لا يصلح إلا لله وحده (4) . ولولا اعتقاد المشرك فيمن يدعوه من دون الله, ما ذكرنا من قدرته على دفع الضرر وإيصال المطلوب إليه لما دعاه, واتخذه إلها من دون الله. ولهذا كفار قريش وغيرهم إذا تعاظم عليهم الخطب, وتفاقم الكرب

_ (1) رواه البخاري ورقمه (5705) ومسلم ورقمه (216) . (2) رواه الترمذي (2969) وقال: حسن صحيح, ورواه أبو داود (1479) وابن ماجة (2828) وأحمد (4/267) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (3) رواه الترمذي (3371) والحديث فيه ضعف, قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه, لا نعرفه من حديث أبي لهيعة". (4) انظر: جامع العلوم والحكم (1/481) .

استحقروا الآلهة ورغبوا عنها, فيطلبون رفع ذلك من الله ولا يطلبونه منها. كما حكى الله تعالى ذلك عنهم فقال: {قل أرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِليْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 4-41) وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: من الآية 67) والآيات كثيرة, ومع هذا الإخلاص لله تعالى منهم في الشدة, أرسل الله إليهم محمدا نبيه وعبده مبينا لهم أن هذا الاعتقاد هو الكفر بالله والشرك والإلحاد, الذي لا يرضاه الله لأحد ولا من أحد من العباد, ودعاهم إلى توحيد الألوهية الذي هو توحيد العبادة, فأبوا إلا الإصرار على ما رأى كل منهم عليه آباءه وأجداده {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات:70) وأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. فأمر نبيه بالقتال, وأباح له الدماء والأموال, ولم يعصمهم الإقرار بالربوبية لله ولا الإخلاص له في اشتداد الحال, فأتم الله ما أراده من النور, وحقق لنبيه النصر والتمكين والظهور, وأزال عن الحنفية كل محذور, {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلمُونَ} (الروم:6) فإذا كانت هذه حال من يخلص في الشدة الدعوة لله وحده, فما بالك بمن يخلص للند في الشدة؟ وأعجب منه من أغواه الشيطان, وكان له قرينا, فظن أن هذا الشرك الأكبر دينا, وكان مدة عمره به رهينا {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلمُونَ} (الروم:59) وما ظنك بحال من كفر الدعاة إلى التوحيد, وتبين في معاداة أهله وموالاة أعدائه من كل شيطان

مريد, ولم يخش ما بين يديه من العذاب الشديد {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (التوبة: من الآية 115) هذا ما قدرته في كون الدعاء حقيقة العبادة من قولي؛ لأن فيه إظهار الذل ... الخ, ينبغي أن يتدبر, فإنه أصل ترجع سائر أنواع العبادة إليه, وميزان حقائقها توزن عليه. فإن المتقرب بالنسك والنذر, وكذا الرجاء والخوف والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة, لو يعلم عجز المتقرب إليه وعدم دفعه الضر وجلبه النفع, وقدرته عليه لما تضرع وتمسكن وأبدى الخضوع بين يديه. ولم يشرع الله عز وجل التقرب بشيء من حقه إلى ملائكته أو رسله أو الصديقين والصالحين من خلقه. قال تعالى: {أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: من الآية 21) . وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4) . ولا يتقرب إلى الله إلا بما شرعه على لسان من لا ينطق عن الهوى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون:7) . قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِليْهِ الْوَسِيلةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:35) وقال سبحانه وتعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: من الآية 57) . ولم يشرع لهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ونبيها صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق من غير التباس إلا ما شرعه لأولى

العزم من المرسلين, وهو إفراده بالعبادة وإخلاصها له وإقامة الدين. قال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية 13) . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِليْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25) . وقد قص الله علينا فيما أنزل إلينا ما جرى من نوح وقيامه بالدعوة, وإبراهيم وتبرئه من أبيه وقومه وما كانوا يعبدون, وما جرى من خاتمهم عليه الصلاة والسلام. حيث قال: {أَإِنَّكُمْ لتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} (الأنعام: من الآية 19) . وهؤلاء صفوة الرسل الذين أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم فيما أمر الله تعالى به ونهاهم, مع أنهم من صغائر الذنوب مبرءون. أخبرنا سبحانه أنهم {وَلوْ أَشْرَكُوا لحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: من الآية 88) . ولهذا كانت مخافتهم من الوقوع في الشرك, وسؤالهم الله أن يباعدهم منه, واستعاذتهم به تعالى من الوقوع فيه, مع العلم والاستغفار من الوقوع فيه من غير علم أكثر وأعظم وأشد من غيرهم مع أنهم مرسلون بإزالته, ومع وجوب عصمتهم من الذنوب فضلا منه, وما ذاك إلا لكونهم أعلم بالله وأخوف واتقى من غيرهم, وشرع لنا جل جلاله بعد الإيمان به الإيمان بملائكته وكتبه ورسله, والإيمان بهم لا يصح إلا بتصديقهم فيما جاءوا به وجميع ما أخبروا به, من حق الله

الذي هو توحيده, وحقهم وهو المتابعة والمحبة, التي هي أصل طاعة الله ورسوله, الذي أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين, كما رواه البخاري ومسلم (1) , وأخبر أنه لا يؤمن أحدنا حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما, كما في الصحيحين (2) . وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاءوا به (3) , وحق أتباعهم الذين حازوا السعادة باتباعهم وهو الدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار. قال تعالى في سياق المدح: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10) , وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: من الآية 29) . والأحاديث كثيرة في هذا المعنى. فهذا ما شرعه وبينه لنا, وهذه المحبة هي المحبة الواجبة المشروعة المحمودة, وضدها المحبة المذمومة الممنوعة المردودة, وهي التي جرى كلب الغلو في قلوب أهلها وعظامهم وتجاري حتى صاروا بها فجارا كفارا, ولم يبالوا بالإذاية فيها, ورأوا التعذيب فيها عذبا, ولم يرجعوا عنها حين أدخلوا نارا, فهؤلاء زادوا على محبة اليهود عزيرا, والمسيح والنصارى.

_ (1) رواه البخاري (15) ومسلم (44) من حديث أنس رضي الله عنه. (2) رواه البخاري (61) ومسلم (43) من حديث أنس رضي الله عنه. (3) رواه الطبراني والأصبهاني في كتاب "السنة" (15) والخطيب البغدادي في تاريخه 4/369, والبغوي في شرح السنة (104) وقد استبعد الحافظ ابن رجب تصحيح هذا الحديث من وجوه, أنظرها في جامع العلوم والحكم (2/394) .

وهكذا شأن من يعتقد الألوهية في الأشخاص ويسميها أسراراً, ويصرف لهم أنواع العبادة بل هم في قلبه أعظم رجاءً وخوفاً واعتماداً ودعاءً وتعظيماً ووقاراً, ممن أمدَّهم بالأموال والبنين وجعل لهم جنات وجعل لهم أنهاراً, وأرسل بقدرته عليهم السماء مدراراً {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} (النحل:73) . ومن تدبَّر الآيات المحكمات ورضي بها حكماً, وكشف مولاه عن عين بصيرته ظلمة العمى, تحقَّق أن الألوهية صفة تدور معها العبادة وجوداً وعدماً, وعلم يقيناً أن من صرف لنبيٍّ أو وليٍّ نوعاً من العبادة فقد جعله نداً لإله الأرض والسماء {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:45) وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (الأحقاف:5) , وبان له أن اعتقاد النفع والضرِّ هو معنى السرِّ, الذين يدعى في الأنام, وعبرت عن ذلك قريش بالألوهية في دعواها ذلك للأصنام, ولا تنقلب الحقائق بالأوضاع فإن كل وقت له مضياع, وهل يحلُّ [الخمر] إذا سمي نبيذاً أو عتيق المدام؟ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَليْهِ وَإِنَّهُ لفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ ليُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لمُشْرِكُونَ} (الأنعام:121) {وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: من الآية 112) . وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه يوضح للمهتدي المراد, ويكشف سر هذا الاعتقاد, ولا بأس بإيراده. خرَّج الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين, ونحن حدثاء عهد بكفر, وللمشركين سدرة يعكفون

عندها, وينوطوا عليها ثيابهم وأسلحتهم يقال لها ذات أنواط, فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر, إنها السنن..! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل, اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة, قال: إنكم قوم تجهلون, لتركبن سنن من كان قبلكم" (1) . قوله: "إلى حنين" هو واد بين مكة والطائف حارب فيه النبي صلى الله عليه وسلم هوازن وثقيفا, وكان المسلمون فيه اثنا عشر ألفا وهوازن وثقيف أربعة آلاف. قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر" هذا فيه تمهيد عذر عما عسى أن يقال: كيف يليق صدور هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أول ما أتاهم بلا إله إلا الله, التي معناها ومقتضاها أن تكون الألوهية, وكذا ما تستحقه الألوهية اعتقادا وقولا وعملا لله تعالى, وإبطال للآلهة التي كانوا يعتقدون فيها البركة, ودفع الضر, وجلب النفع, وانه إنما استباح دماءهم وأموالهم لأجل ذلك, فذكر أن المنتقل إلى الإسلام بعد الشرك إذا كان قريب عهد بالجاهلية, لا يأمن أن يكون في قلبه بقية, بخلاف قديم الإسلام, لا تكاد تخفى عليه الأحكام. وقوله: "الله أكبر" أتى صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ المنبئ بالتفخيم, المشعر بالتعظيم, الدال على التهويل والاستعظام لما أتوا من الكلام, مبالغة منه عليه الصلاة والسلام عليهم في الجواب والرد, وإغلاظا في إبطال ما جنحوا له من القصد؛ لتعي إرادة قلوبهم عظمة أمر مطلوبهم, مع أنهم

_ (1) رواه الترمذي (2180) وقال: حسن صحيح.

ليس لهم قصد ولا طلبة, سوى الوسيلة إلى الله والقربة. لكنهم لم يفطنوا حين صدور هذا المقال, لما يؤول له الحال, وأن الاعتقاد مثل هذا في ملك أو بشر أو حجر أو شجر هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر. وقوله: "إنها السنن" أي: الطريق والسبل, عبر بضمير الشأن والقصة تفخيما وتهويلا, وردعا في الرد وتنكيلا, وقد بلغت هذه الجملة الغاية, وتضمنت هذه النهاية, من النهي والتغليظ في الزجر, عن سؤال مثل هذا الأمر. وفي قوله: "إنها السنن" إشعار بأن النفوس إليه ما تميل, ولا تكاد تجنح لغير ذلك السبل, وأن السالم منها في الناس قليل, إذ البواعث لها قوية, والدواعي إليها والمبرأ منها نزر في البرية. وقوله: "قلتم والذي نفسي بيده" أثبت صلى الله عليه وسلم ما أثبته الله تعالى لذاته العلية, التي هي من التعطيل برية, وعن شبه المحدثات عرية, بل هو منزهة سنية. قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة: من الآية 64) وقال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: من الآية 10) وقال جلاله {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: من الآية 67) وهذه وأمثالها من الصفات الواجبة الثابتة بالدليل, نؤمن بها كما آمن السلف الصالح من غير تشبيه ولا تعطيل, ومن لجأ إلى غير ذلك فقد ضل سواء السبيل. أقسم صلى الله عليه وسلم في الجواب مع أنه الصادق المصدوق الناطق بالحق والصواب, المبرأ خبره عن وصمة الخطأ والارتياب {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم:5) ليتمكن في قلوبهم مقتضى الخطرات والفحوى, فيأتوا من الإصغاء إليه

والإقبال عليه بالغاية القصوى. وقوله: "كما قالت بنو إسرائيل" المراد بهم أهل [الكتاب] (1) , وإسرائيل: هو لقب يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام, لقب بالعبرانية بإسرائيل, ومعناه صفوة الله, وقيل معناه: عبد الله, وقد ذكرهم الله تعالى ونوره بفضلهم على أهل زمانهم, وما آتاهم من الكتاب والحكم والنبوة, وما رزقهم من الطيبات, وما جرى منهم وعليهم في مواضيع كثيرة من كتابه. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن ما صدر من بعض الصحابة من ذلك القيل مشابه لما قالته لموسى بنو إسرائيل, وقاعدة التشبيه غالبا اقتضاء المماثلة والمساواة. وفي ذكر بني إسرائيل تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما شاهده من قومه ورآه, وذلك أن بني إسرائيل لما أهلك الله تعالى عدوهم, وأنجاهم, وفضلهم على غيرهم, واجتباهم, ومنحهم أصناف نعمه وأولاهم, أراد اختبار حالهم, مع لأنه لا يخفى عليه شيء فابتلاهم, وذلك أنهم لما جاوزوا البحر محفوفين بالسلامة والنصر, متخوفين بالعز والفخر, مروا على قوم لهم أصنام تشابه صورة البقر, وهم يغدون عليها للتبرك بالآصال والبكر, وعلى عبادتها يقيمون ويعكفون وهذا أول شأن عبادة العجل الذي كانوا يعبدون, وكان القوم من العمالقة الذين أمر الله تعالى نبيه موسى بقتالهم؛ لكفرهم وضلالهم, {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لنَا إِلهاً} (الأعراف: من الآية 138) صنما يشابه صورته صورة البقر, نعبده ونتقرب إلى

_ (1) في المخطوط "الكتابين" ولعل الصواب ما أثبت؛ لأن المراد بيني إسرائيل هم اليهود: وهم أهل الكتاب واحد والله أعلم.

الله بذلك {كَمَا لهُمْ آلِهَةٌ} كل منهم مقيم على عبادتها وناسك, فأجابهم عليه الصلاة والسلام بالجواب المسدد الموفق, والحكم الفصل المحقق, مفتتحا له ببيان وصفهم وما هم عليه من الجهل المطلق قال: {قَال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: من الآية 138) إذ سؤالكم هذا بعد ما رأيتم الآيات لا يناسب ولا يجوز لو كنتم تعلمون, ثم أفصح لهم في الجواب عن السؤال, بإيضاح عاقبة أولئك القوم وما يصيرون إليه من الحال, وإنهم ولو كان قصدهم التقرب إلى الله تعالى فهو عين الكفر والضلال, وأن الله تعالى هادم ما لهم من الدين, ومحطم أصنامهم التي لا يزالون عليها عاكفين, فتقربهم بذلك إلى الله باطل, وضلالهم وشركهم زائل, وحالهم إلى سوء العاقبة آيل. قال: {قَال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً} أي اطلب لكم غيره معبودا {وَهُوَ فَضَّلكُمْ عَلى الْعَالمِينَ} (الأعراف: من الآية 140) أي: من كان منكم موجودا. وفيه غاية التنبيه على سوء هذه المقالة, حيث قابلوا ما هم فيه من النعم والتفضيل وحسن الحالة, بالكفر والشرك والضلالة. قوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم" يحتمل أن يكون بفتح السين, أي: طريق من كان قبلكم من الأولين, ويحتمل أن يكون بضمها, فيكون المراد بها الطرائق, أي: لتأخذن أو لتأتين ما آتاه من قبلكم من الخلائق. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا المقال, فوقع كما أخبر, وطابق المقال وقائع الحال. ولو نرخي لطرف الفهم في هذا الميدان الرسن, فيجول في تتبع ما آتاه أهل الشرك والضلال من السنن, وما غيروه من الشرع القويم, والصراط المستقيم الذي هو أقوم سنن, لاستوعب من الأسفار سفرا ضخما, مع أني لا أحيط بجميعه علما, ولو وجدنا ما فعله أهل البدع والشرك

والجحود, يزيد بالضعف على ما فعله النصارى واليهود. ويستفاد من قوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم" أن سنن أهل الكتاب التي ابتدعوها, والبدع التي اخترعوها, كلها خارجة من الشرع المقرر, والدين القيم المطهر, وكذلك جميع سنن المبتدعين ومناهج أهل الهواء والمشركين. ويستفاد منه أيضا النهي عن التشبيه بأهل الجاهلية, وأنه ينبغي للمؤمن الموحد أن يجعل الخوف من الشرك نصب عينيه, وكذلك ينبغي له التفطن أنه إذا خفي هذا على الصحابة مع جلالة قدرهم وعلمهم وكذلك بنو إسرائيل, فينبغي التحرز عن أمثاله. هذا وقد صرح في هذا الحديث الصحيح, بأن مراد السائلين على سبيل التلويح, والتبرك والاعتقاد, كما هو طريقة من قبلهم من الآباء والأجداد, ولم يصرحوا بغير ذلك في الطلبة, ولم يكن له سواه من رغبه, إذ لم يفصحوا بطلب الآلهة, كما أفصحت بذلك بنو إسرائيل. وقد ساوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الطلبتين, وجعلهما من واحد القبيل, ولم يراع صورة لفظ القيل, فقد ثبت بما قررناه, وتحقق مما سطرناه, أن معنى السر المراد, وحقيقته التي تقصد وتراد, هو اعتقاد القدرة على جلب النفع ودفع الضر عن الأنفس والأموال والأولاد, وهذه بعينها صفة الألوهية , التي اختصت بها الذات العلية, دون سائر البرية, الذي جعل الأرض مهادا, وأرسى الجبال أوتادا, وذرأ فيها جميع العباد, وانتظم بقدرته وحكمته أمر المعاد والمعاش, ولكن لا يبصر الحق من على أبصار بصيرته غواش, فالشمس تعمي أعين الخفاش, والنار يتهافت فيها الفراش, {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّل مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام:110) فإذا كان هذا تغليظ النبي صلى الله عليه وسلم وتشديده, وزجره البليغ

وتهديده, ووعده بارتكاب السنن ووعيده, مع القرب عهد السائلين بالأصنام, وحدوث الدخول في الإسلام, وجهل من سأل بما سأل, وكونه للمعنى المقصود ما عقل, ولم يقترن ما طلبوه بالعمل, إذ لو عملوا بما طلبوه, وفعلوا المحظور وارتكبوه, لخرجوا والله من الدين, وحكم عليهم بحكم المرتدين, بإجماع أئمة المسلمين, فما بالك بمن يعتقد هذا الشرك دينا, ويتقرب به إلى الله يقينا؟ {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: من الآية 18) لقد ضل في مفازة الهلاك وقفره, وفي غي الجحيم وقعره, لوقوعه في إبلاسه وكفره, {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (يونس: من الآية 4) . ومن تدبر ما حصلناه, وتأمل مكنون ما فصلناه, ووعى الأصل الذي أصلناه, وهو أن الألوهية صفة تدور مع العبادة, تبين له أن أكثر الناس في وادي الشرك يهيمون, {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام:116) , وتحقق ان جميع أنواع العبادة محض حق لله وحده, فمن صرف لملك أو رسول أو صالح أو جنى أو حجر أو شجر, شيئا منها فقد أشرك بربه وكفر {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلقُونَ} (الأعراف:191) . وقد ذكر الله تعالى أنواع العبادة مفصلة ومجملة في كتابه, وأفصح بأن جميعها حق له كما صرح بذلك على خطابه, ومن طبع على قلبه فلا يزال في ارتيابه, {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس: من الآية 101) . قال الله جل جلاله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي

وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} (الأنعام:162) . وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر:2) وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله من ذبح لغير الله" الحديث بطوله في مسلم (1) . وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (البقرة:270) . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر ان يطيع الله فليطعه, ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (2) . ولهذا لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب رجلا قائما في الشمس فقال: "من هذا؟ " فقالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس, ويصوم, ولا يفطر, ولا يتكلم قال: "مروه فليستظل, وليتكلم, وليتم صومه" وهو في البخاري (3) . وقال تعالى: {وَعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: من الآية 23) . وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: من الآية 3) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل" (4) . وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس

_ (1) برقم (1978) . (2) رواه البخاري برقم (6696) . (3) رواه البخاري برقم (6704) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (4) رواه ابن مردودية في تفسيره, انظر: فيض القدير (1/454) وضعفه السيوطي والألباني في ضعيف الجامع (729) .

قد جمعوا لكم فاخشوهم, فزادهم إيمانا, وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" (1) . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله" (2) . وفي السنن عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير, تغدو خماصا, وتروح بطانا " (3) . وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: من الآية 175) وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (البقرة: من الآية 150) . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس, ومن التمس رضا الله بسخط الناس, رضي الله عليه وأرضى عليه الناس" (4) {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية 11) وفي الصحيح: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه, تركته وشركه" رواه مسلم (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} (الأنبياء: من الآية 90)

_ (1) رواه البخاري ورقمه (4563) . (2) رواه ابن أبي الدنيا في التوكل وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5627) . (3) رواه الترمذي (2344) وقال: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وابن ماجة (4164) , واحمد (1/30) , وابن حبان (730) وصححه, والحاكم (4/354) وصححه. (4) رواه الترمذي (2414) موقوفاً عليه رضي الله عنه. (5) برقم (2985) .

في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقول هل من داع فأستجيب له هل من سائل فأعطيه" (1) . وحديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" (2) . وفي الصحيح: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" (3) . وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لكُمْ} (لأنفال: من الآية 9) وقال تعالى: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلكَ آمِنْ} (الأحقاف: من الآية 17) , وقال صلى الله عليه وسلم حين آتاه أناس من أصحابه يستغيثون به من منافق كان يؤذيهم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" (4) . وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لهُ} (الزمر: من الآية 54) وقال: {وَتُوبُوا إِلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: من الآية 31) وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي قال: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد: "عرف الحق لأهله" (5) . وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلقِ} (الفلق:1) السورتين. ومن أعظم العبادة الطاعة في تحليل ما حرم الله تعالى وتحريم ما أحل, وقد سمى الله ذلك عبادة. قال تعالى: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} (مريم: من الآية 44) وقال تعالى {أَلمْ أَعْهَدْ إِليْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا

_ (1) رواه البخاري (6321) ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه الترمذي (2516) وقال: حسن صحيح. (3) رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه الطبراني في الكبير في مجمع الزوائد (10/159) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال ابن كثير في تفسيره (3/183) (هذا الحديث غريب جدا) . (5) رواه أحمد (3/435) والحاكم (4/284) وصححه من حديث الأسود بن سريع. قال الذهبي في التلخيص: ابن مصعب أي محمد بن مصعب ضعيف.

الشَّيْطَانَ} (يس: من الآية 60) أي: لا تطيعوه, وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية 31) . وحديث عدي بن حاتم حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من ذهب وكان على دين "الركوسية" فرقة من النصارى, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة براءة فقال اطرح هذا الذي في عنقك, فطرحه, فلما انتهى إلى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قلت: يا رسول الله, لم يكونوا يعبدونهم فقال: "أليسوا يحرمون ما أحل فيحرمونه, ويحلون ما حرم فيحلونه. قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم" (1) . ومن أنواع العبادة التعظيمات التي لا يستحقها سوى من له الكبرياء في السماوات والأرض, ومن له العزة جميعا, ولذا جميع التحيات التي كانت تحيا بها الملوك, المنبئة الخضوع, لما كانت ملكا له, وحقا لا يجوز صرف شيء منها لغيره, جعل قراءتها في الصلاة واجبة وجوبا مكررا. ومن ذلك الحلف بغيره, فمن حلف بغيره, معظما له تعظيم العبادة, فقد أجمع أهل الإسلام على كفره, وإن لم يقصد ذلك صار كفرا دون كفر. ففي الحديث: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم وأمهاتكم, من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" هذا يروى في الصحاح (2) . وفي الصحيح: "من

_ (1) رواه الترمذي (3059) والبخاري في التاريخ الكبير (7/106) والمزي في تهذيب الكمال (23/117) وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب, وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وضعفه الدارقطني أيضا. (2) رواه البخاري (5757) ومسلم (1646) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

حلف بغير الله فقد كفر" (1) . وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (2) . وقد أبان صلى الله عليه وسلم لأمته معالم الديانة, وحمى جناب التوحيد وصانه, وأعلى قواعده وأركانه, وسد كل طريق يوصل إلى الضلال, أو يكون للشرك به اتصال. ولهذا تغيظ صلى الله عليه وسلم وقال للمسيء في المقال الذي قرن مشيئته بمشيئته ذي الجلال: "أجعلتني لله ندا, قل ما شاء الله وحده". والحديث رواه النسائي (3) . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان, ولكن قولوا ما شاء الله وحده ثم شاء فلان" رواه أبو داود (4) . فهذا نهيه الثابت الصحيح, وزجره البليغ الصريح, عن تعاطي مثل هذا التشريك القبيح, مع أن الله جعل للعبد مشيئته فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان: من الآية 30) ولكن لصيانة التوحيد وجنابه, سد من الشرك جميع أبوابه, فنهاهم عن تشريك مشيئة الخالق بالمخلوق, ومساواة الرازق بالمرزوق.

_ (1) بهذا اللفظ لم أعثر عليه في أحد الصحيحين وقد رواه الترمذي (1535) وقال حسن, وأبو داود (3251) وأحمد (2/125) وابن حبان (4358) وصححه, والحاكم (1/65) وصححه. (2) روى هذا الحديث بهذا اللفظ أبو داود (3251) من حديث ابن عمر رضي الله عنه, ورواه أيضا الترمذي (1535) . (3) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في عمل اليوم والليلة (988) والبخاري في الدب المفرد (7883) , واحمد (1/214,224) وابن ماجة (117) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (4) برقم (4980) وإسناده صحيح.

وهنا انتهى بنا الكلام على تفسير هذه الآية , ويكون به عن تفسير باقي الآيات كفاية, وقد خرج بنا الحرص على الإفادة عما لنا من القصد والإرادة, ونرجع إلى ما نحن بصدده ونعود, مستمدين من الإله القادر المعبود, الإعانة على إنجاح المقصود. قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) . أقول: هذا الحديث عظيم الشأن والمقدار, وعليه في الإسلام المدار, بل هو في الحقيقة أصل من أصوله, إذ هو محتو على كثير من فصوله, وهو للأعمال الظاهرة كالميزان, كما أن حديث "إنما العمال بالنيات" (2) ميزان لأعمال الجنان, وما يريده من القصد كل إنسان. فكل عمل لوجه الله غير مراد, مصيره إلى الإلغاء والفساد, فليس للعامل فيه ثواب, وإنما يجب عليه منه المتاب. فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله مردود, لخروجه عن السنن المقصود, والمنهج المطهر المحمود. فعمل العامل رد عليه لسريان البطلان إليه, بعدوله عن الأمر المشروع, والهدي المقرر المتبوع. فالحديث يدل بمنطوقه على رد العمال المخالفة للسنة والكتاب, ويدل بمفهومه على القبول لما وافقهما وحصول الثواب. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: (أما قوله: "ليس عليه أمرنا" أشار إلى أن أعمال العاملين ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة, وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها, فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع, موافقا لها, فهو مقبول, ومن كان خارجا عن ذلك

_ (1) تقدم تخريجه وهو في الصحيحين. (2) تقدم تخريجه وهو في الصحيحين.

فهو مردود.. ويدخل تحت قوله: {أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: من الآية 21) فمن تقرب إلى الله تعالى بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله, فعمله باطل مردود عليه, وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية. وهذا كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي وبالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام, وما أشبه ذلك من المحدثات التي يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية, وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقا, فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قائما في الشمس فسأل عنه, فقيل: إنه نذر أن يقوم ولا يقعد , ولا يستظل وأن يصوم ولا يفطر, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل ويتم صومه (1) , فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرها.. مع أن القيام عبادة في مواضع الصلاة والأذان والدعاء بعرفة, والبروز للشمس قربة للمحرم, فدل على أنه ليس كلما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن, وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها) . انتهى كلامه رحمه الله (2) . وأقول: قوله: "وذلك لمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي وبالرقص" هذه إشارة صريحة ونذارة فصيحة ونكتة مؤذنة بالخزي والفضيحة على من عبد الله تعالى بالملاهي , وكان في العكوف عليها [لاهيا] ,وعما يراد به [غافلا ساهيا] (3) , اتخذ معبوده وإلهه هواه, وعبادته دفه ورقصه وغناه. ومراده رحمه الله تعالى ما وقع من أهل زمانه وما شاهده في

_ (1) تقدم تخريجه, وهو عند البخاري من حديث ابن عباس. (2) جامع العلوم والحكم (1/177-178) وفيه تصرف يسير. (3) في المخطوط "لاهي" "غافل ساهي" والصواب ما أثبت.

أوطانه, من ترك أكثر الناس سنن الإتباع, وإتباعهم سنن الهوى والابتداع, وتقربهم بالرقص المسمى بالسماع, مع أن ما حدث في ذلك الزمان المار, لا يفي بالنسبة لما بعده بعشر معشار, فقد جرى بعده رحمه الله أمور وأمور, أذهبت من السنة المحمدية مشرق النور, وهتكت من الملة المحمدية الستور, وارتكب من البدع والأهواء كل محظور, وصار ذلك عندهم هو الدين المشهور, والمنهج المحمود المأثور, شغلوا بسماع السماع, وشغفوا بنعمة اليراع , وأصغوا إلى اللهو بالقلوب والأسماع, ونثلوا إليه بالإسراع, وما لهم إلى غيره إزماع, قد هجروا السنة والقرآن, وأقبلوا على استماع الدف والألحان, التي هي رنة الشيطان, وجعلوا العبادة رقصا وطربا, واتخذوا دين الله لهوا ولعبا, وحققوا لمشايخهم الأسرار بملازمتهم للعود والدف والمزمار, وحكموا على من قام عليهم لله بالإنكار, بأنه من جملة الكفار {أَلمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار ِجَهَنَّمَ يَصْلوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:29) {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلى النَّارِ} (إبراهيم:30) . هذه أشعار الصوفية الأماثل, ونسبوا أنفسهم إلى أولئك الزهاد الأفاضل (1) , وقد جعلوا ذلك الشعار حبايل إلى كل أموال الناس بالباطل, والكل منهم محتال عليها وخاتل, أيحسبون أن الله تعالى عن صنيعهم غافل, أو ليس بمحاسب لهم ومسائل؟ {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلى وَرُسُلُنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف:80) {وَلا تَحْسَبَنَّ

_ (1) هم قدماؤهم المتمسكون بالكتاب والسنة.

اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (إبراهيم: من الآية 42) وحكموا لأنفسهم, وقضوا بأنهم وردوا عين الشريعة فارتووا, وزعموا أنهم شربوا من سلسالها سلسبيلا, ولا يصدعون فيها ويصدون عنها سبيلا, وادعوا أنهم أهل الشوق والذوق, وأصحاب الطريقة والحقيقة, صدقوا هم أهل الشوق ولكن إلى الطريقة السامرية, الزائغة المنهاج, وهم أهل الذوق في الحقيقة, ولكن من ملحها الأجاج (1) . فقد ذكر القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى وغيره من المفسرين أن أول من أحدث هذا وجعله عبادة "عباد العجل أصحاب السامري" فصار شريعة منقادة. قلت: والعلماء بالله ولله تعالى لمثل هذه البدع الشركية منكرون, وأبو القاسم الجنيد (2) , شيخ الطريقة وأمثاله من أقذار هذا الرجس مبرءون, ويبالغون في الإنكار على من خالف الكتاب والسنة ويغضبون. وقد صنف كثير من قدماء علماء المذاهب الأربعة في البدع مصنفات (3) , وبينوا ما وقع في الملة الحنفية من السنن المحدثات, وما شانوها بها من الأهواء والضلالات, وما غيروا به الصراط المستقيم, من

_ (1) الأجاج هو: الماء الملح الشديد الملوحة. انظر النهاية في غريب الأثر 1/25. (2) هو الجنيد بن محمد النهاوندي أبو القاسم, يعرف بشيخ الطائفة الصوفية, توفي سنة 279هـ. انظر: الحلية (10/255-287) , والرسالة القشيرية ص430ط. دار الجيل, وسير أعلام النبلاء 4/66, وطبقات الأولياء ص126-136, وشذرات الذهب 2/228 وغيرها. (3) من ذلك: الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة, والحوادث والبدع للطرطوشي, والإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ, والسنن والمبتدعات لمحمد بن عبد السلام الشقيري.

مناسك الشرك العظيم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: من الآية 63) . قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث" أي: أتى بشيء لم يكن موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو المسمى بالبدعة. وقوله: "في أمرنا" الأمر يطلق على الشأن , قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود: من الآية 97) والمراد به هنا الدين والشرع, أي ديننا وشرعنا. وقوله "هذا" إشارة إلى دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي رضيه ربنا لنا, وأكمله أتم الكمال, بين شرائعه في العبادات والمعاملات من حرام وحلال. فلينظر العقل فيمن أحدث فيه ما ليس منه, هل رآه ناقصا فأراد التكميل..؟! , أو ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك شيئا من البيان فاستخرجه هذا بالتأويل والاستنباط من الحديث والتنزيل, وإلا يكن الأمر كذلك, بل قد أوضحت جميع المسالك, فليس وراء ذلك إلا التغيير في الدين والتبديل, وإتباع الهوى والتضليل {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عن سَوَاءِ السَبِيلِ} (المائدة: من الآية 77) وفي هذا الحديث تصريح بان من عمل عملا لا يرجع إلى دليل شرعه صلى الله عليه وسلم أنه مردود, فكيف إن خالفه أو نافاه أو انتهك منه الحدود..؟! وسواء فعله هو أو غيره, إذ لا فرق بين أن يكون محدثا لما فعله أو سبقه غيره به فسلك طريقه المحدود, فكل فعل لم يكن على أمر الرسول فهو مردود غير مقبول, وفاعله آثم ملعون, لمخالفته للهدى المسنون, فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله" (1) .

_ (1) رواه البخاري (3180) ومسلم (1370) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقوله في حديث علي كما في صحيح مسلم: "لعن الله من أوى محدثا" (1) يتناول هذا. فتبين أنه لا يصح شيء من الأعمال, ولا يقبل إلا ما وافق الشريعة المحمدية, ووردت به السنة في مواضعه, وما خرج عن ذلك فهو مردود. وقولي (وردت به السنة في مواضعه) احتراز عن العبادات المشروع أصلها, ولكن ينهى عنها بخصوصها في مواضع كصيام يوم العيد, والصلاة في أوقات النهي, وكذا الصلاة عند القبور, فهذه مردودة؛ إذ لا يتقرب إلى الله تعالى بما نهى عنه. والأحاديث في النهي عما ذكرناه كثيرة شهيرة, فلا نطيل بها. ومن ذلك: من عمل عملا أصله مشروع وقربة, وأدخل فيه ما ليس بمشروع وأخل فيه بمشروع, فهذا أيضا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به, أو إدخاله ما أدخل فيه, فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة كمن اخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها, أو أخل بالركوع أو بالسجود أو بالطمأنينة فيهما, فهذا عمله مردود عليه, وعليه إعادته إن كان فرضا. وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها, فهذا لا يقال إن عمله مردود من أصله, بل هو ناقص. وأما إن أراد في العمل المشروع ما ليس بمشروع فزيادته مردودة عليه,

_ (1) رواه مسلم.

ولا يثاب عليها إذ ليست قربة, ولكن: تارة يبطل بها العمل من أصله, كمن زاد في صلاته ركعة عمدا مثلا. وتارة لا يبطل بها العمل, ولا يرد من أصله, كمن توضأ أربعا أو واصل في صيامه. وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه, كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم, أو توضأ للصلاة بماء مغصوب, أو صلى في بقعة مغصوبة, فهذا قد اختلف فيه العلماء هل عمله مردود فيه من أصله, أو أنه غير مردود وتبرأ به الذمة من عهده الواجب. وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله. وعن الإمام أحمد رحمه الله في ذلك روايتان, كما هو صريح عبارة موفق الدين في الكافي, رحمه الله ويشبه هذا الحج بمال حرام. وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه, ولكنه حديث لا يثبت, قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (1) . وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا, هل يسقط به الفرض أم لا؟ والأكثر على أنه لا يبطله إلا ما نهى عنه في الإحرام وهو الجماع, ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات كالقتل والسرقة وشرب الخمر. وكذا الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهى عنه فيه بخصوصه, وهو جنس الأكل والشرب والجماع, بخلاف ما نهي عنه الصائم لا بخصوص

_ (1) انظر جامع العلوم والحكم (1/180) والحديث رواه البزار (1079) , والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "إذا خرج الحاج بنفقة خبيثة, فوضع رجله في الغرز, فنادى: لبيك, ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك, زادك حرام, نفقتك حرام, وحجك حرام غير مبرور" لفظ الطبراني.

الصيام كالكذب والغيبة عند الجمهور. قلت: ومما نهي عنه فيه بخصوص الحجامة, فمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن من حجم أو احتجم يبطل صومه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" (1) قال في الكافي: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا, وقال أحمد: حديث ثوبان وشداد صحيحان ... انتهى. وكذلك الاعتكاف إنما يبطله ما نهى عنه فيه بخصوصه كالجماع, وأما بطلانه "بالسكر" عند الأكثر, فلنهي السكران عن قربان المسجد, فصار كالحائض, ولا يبطل بغير ذلك من الكبائر وخالف في ذلك طائفة من السلف منهم عطاء والزهري والثوري ومالك وغيرهم, فقالوا تبطل بالكبائر. ومما نهى عنه بعينه أيضا ذبح المحرم للصيد. هذا حاصل العمال المتعلقة بالعبادات. وأما ما يتعلق منها بالمعاملات: كالعقود والفسوخ ونحوهما. فما غير الأوضاع الشرعية كجعل حد الزنا عقوبة مالية وما أشبه ذلك, فهو مردود من أصله, ولا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام. ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله أن ابني كان عسيفا (2) على

_ (1) رواه الترمذي (774) وقال: (وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة معقل بن سنان ويقال ابن يسار وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال وسعد قال أبو عيسى: وحديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح وذكر عن احمد بن حنبل انه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج وذكر عن علي بن عبد الله أنه قال أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس؛ لان يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة الحديثين جميعا حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس ... ) . (2) أي أجيرا.

فلان, فزنى بامرأته, فافتديت منه بمائة شاة وخادم, فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "المائة الشاة والخادم رد عليك, وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" (1) . وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع: إما لكون المعقود عليه ليس محلا للعقد, أو لفوات شرط فيه, أو لظلم يحصل به للمعقود معه, أو عليه, أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله تعالى الواجب عند تضايق وقته.. أو غير ذلك, فهذا العقد قد اضطرب الناس فيه. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: والأقرب إن شاء الله تعالى أنه: [إن] كان النهي عنه لحق الله عز وجل, فهذا يفسد الملك بالكلية ونعني بكون الحق لله تعالى: أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه. وإن كان النهي عنه لحق آدميّ معين, بحيث يسقط برضاه, فإنه يقف على رضاه به , فإن رضي لزم العقد واستمر الملك, وإن لم يرض به فله الفسخ, فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق, فلا عبرة برضاه ولا بسخطه, وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة لما يلحقه من المشقة, فخالف وارتكب المشقة لم يبطل بذلك عمله. فأما الأول: وهو ما كان النهي عنه لحق الله, فله صور كثيرة: منها: نكاح من يحرم نكاحه, إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب أو للجمع أو لفوات شرط ولا يسقط بالتراضي بإسقاطه: كنكاح المعتدة والمحرمة والنكاح بغير ولي ونحو ذلك, فهذا يفسد الملك بالكلية.

_ (1) رواه البخاري (2695) ومسلم (1697) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى (1) فرد النكاح لوقوعه في العدة. ومنها: عقود الربا, فلا تفيد الملك ويؤمر بردها, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من باع صاع تمر بصاعين أن يرد (2) . ومنها: بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب, وسائر ما نهى عنه بيعه كبيع الغرر والغش وما يلحق بذلك, وكبيع الطعام قبل قبضه, وغير ذلك مما لا يجوز التراضي ببيعه. وأما الثاني: وهو ما كان النهي عنه لحق آدمي, فله صور عديدة: منها: نكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها بغير إذنها, وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة ثيب, زوجها أبوها وهي كارهة (3) . وروي عنه أنه خير امرأة زوجت بغير إذنها (4) . وفي بطلان هذا النكاح ووقوفه على الإجازة روايتان عن أحمد. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه

_ (1) روى عبد الرزاق في المصنف (1074) وأبو داود (2131) عن ابن جريج, عن صفوان بن سليم, عن سعيد بن المسيب, عن رجل من الأنصار يقال له بصرة, قال: تزوجت امرأة بكرا في سترها, فدخلت عليها فإذا هي حبلى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لها الصداق بما استحللت من فرجها, والولد عبد لك, فإذا ولدت فاجلدها". انظر كلام ابن القيم رحمه الله على هذا الحديث في تهذيب السنن (3/20-21) فهو مفيد إن شاء الله. (2) رواه مسلم (1594) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (3) روى مالك في الموطأ 2/535, ومن طريقة البخاري (5138) عن خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب, فكرهت ذلك. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها. (4) رواه أحمد 1/273, وأبو داود (2096) وابن ماجة (1875) وقد أعله أبو داود وغيره بالإرسال, ورده ابن القيم في تهذيب السنن 3/40, وابن التركماني في الجوهر النقي 7/117.

لم يكن تصرفه باطلا من أصله, بل يقف على إجازته, فإن أجاز جاز, وإن رده بطل, واستدلوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي صلى الله عليه وسلم شاتين, وإنما كان أمره بشراء واحدة, ثم باع أحدهما وقبل النبي صلى الله عليه وسلم (1) . ومنها: تصرف المريض في ماله كله: هل يقع باطلا من أصله أم يقع تصرفه في الثلثين على إجازة الورثة؟ فيه اختلاف. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق ستة مماليك له عند موته, لا مال له غيرهم, فجزأهم ثلاثة أجزاء, فأعتق اثنين وأرق أربعة, وقال له قولا شديدا (2) ولعل الورثة لم يجيزوا عتق الجميع. ومنها: بيع المصراة وبيع النجش وتلقي الركبان (3) ونحو ذلك وفي صحته كله اختلاف مشهور, فذهبت طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه, والصحيح أنه يصح ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك (4) , فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصراة بالخيار (5) , وأنه جعل للركبان الخيار إذا

_ (1) رواه البخاري ورقمه (3642) . (2) رواه مسلم (1668) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (3) المصراة: هي الشاة أو الناقة التي تربط أخلافها, ويترك حلبها يومين أو ثلاثة أيام حتى يجتمع اللبن في ضرعها, ثم يباع, فيظنها المشتري كثيرة اللبن, فيزيد في ثمنها, فإذا حلبها مرتين أو ثلاثا وقف على هذه التصرية والغرر. وبيع النجش: هو أن يمدح السلعة بما ليس فيها؛ لينفقها ويروجها أو يزيد في ثمنها, وهو لا يريد شراءها, بل ليغر بها. وتلقي الركبان: وهو أن يقع الخبر بقدوم عير تحمل المتاع, فيتلقاها رجل يشتري منهم شيئا قبل أن يقدموا السوق, ويعرفوا البلد بأرخص الأسعار, فهذا نهي عنه؛ لما فيه من الخديعة. (4) هذا اختيار الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/185) . (5) رواه البخاري (2148) ومسلم (1524) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

هبطوا السوق, وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله. وأما بيع الحاضر للبادي, فمن صححه جعله من هذا القبيل, ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم وهم غير منحصرين, فلا يتصور إسقاط حقوقهم, فصار كحق الله تعالى. ومنها: لو باع رقيقا يحرم التفريق بينهم, وفرق بينهم كالأم وولدها, فهل يقع باطلا مردودا؟ وهو قول الأكثر. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد هذا البيع (1) , ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم, ولو رضوا بذلك, وذهبت طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم. ومنها: لو خص بعض أولاده بالعطية دون بعض, فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشير بن سعد لما خص ولده النعمان بالعطية أن يرده, ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد, فإن هذه العطية تصح وتقع مراعاة, فإن سوى بين أولاده في العطية أو استرد ما أعطى الولد جاز, وإن مات لم يفعل شيئا من ذلك فقال مجاهد: تبطل, وحكى عن أحمد نحوه والجمهور على أنها لا تبطل, وهل للورثة الرجوع فيها أم لا؟ قولان مشهوران, هما روايتان عن أحمد. كذا قال ابن رجب رحمه الله (2) . قلت: مذهب مالك أنها حيث كانت في الصحة وجيزت قبل الموت

_ (1) رواه ابوا داود (2696) من طريق يزيد بن عبد الرحمن, عن الحاكم عن ميمون بن أبي شيب عن علي, وقال: ميمون لم يدرك عليا, ورواه الحاكم المستدرك 2/125 وصحح إسناده, ورجحه البيهقي في السنن 9/126 لشواهده. (2) جامع العلوم والحكم (2/186) .

أنها لا تبطل, وليس للورثة رجوع فيها بعد الموت, وإن كانت في المرض فهي موقوفة على إجازة الورثة. ومنها: الطلاق المنهي عنه كالطلاق في الحيض, فإنه إنما قيل ينهى عنه لحق الزوج, حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم, فمن فعل شيئا منهيا عنه رفقا به, ولكنه تجشم المشقة فإنه لا يحكم ببطلانه, كمن صام في المرض أو السفر أو صلى قائما مع تضرره بذلك, أو اغتسل مع خشية الضرر على نفسه وأنواع هذا كثيرة. وقيل: إنما ينهى عنه (1) لحق المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة, فلو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوص في الحيض, فهل يزول بذلك تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء, مشهور مذهب الشافعية والحنابلة زوال التحريم. وقد أطلنا الكلام في إيضاح هذا المقام؛ حرصا على الإفادة, ولينال الراغب مراده, مع أن هذه الفروع نبذة من تفاريع هذا الحديث المرفوع, وإلا فالذي تشهد به الألباب, أن هذا من جوامع كلم من أوتي الحكمة وفصل الخطاب, ففرائد جواهره مكنونة, وفوائد ظواهره مخزونة, لا تحصى بعد ولا حساب, ولا يرتقي إلى ذروتها كل دراك, بل العجز عن دركها هو الإدراك. واعلم أرشدني الله تعالى وإياك إلى أقوم سنن, وصرف عني وعنك مضلات الفتن أن هذا الحديث صريح في الحث والحض على الإتباع, ناطق بالتحذير عن الأهواء والابتداع, فمن أخذ به فبالحق قد تمسك, وبالدين القيم قد تنسك, ومن خالفه فقد هلك, واتبع سبيل الغي وسلك.

_ (1) أي طلاق الحائض.

خاتمة: اعلم أن هذا الحديث, ومما قدمناه من الكلام على الإخلاص الذي هو تجريد العمل لله , الذي هو حق له على الاختصاص من العمل المتقبل لابد له من شرطين, بإجماع أهل العلم من غير نزاع ولا مين: أحدهما: أن يكون خالصا لله وحده. والثاني: أن يكون موافقا للشريعة. كما نطقت بذلك الآيات المحكمات الصريحة, والأحاديث المشهورة الصحيحة, فمتى كان العمل خالصا لله تعالى ولم يكن صوابا, صار ذلك على القطع سرابا, أو كان موافقا للشريعة ولكنه غير خاص لوجه الله الكريم, فهو رد على الشريك؛ لأن الله خير قسيم. فتبين من هذا أن عمل غلاة أهل الطريقة الصوفية, ممن تعبد لله على جهالة, أنه لا شك سفه وضلالة؛ بل هو فعل الرهبان, الذين كذبوا الرسل وأنكروا القرآن, ولو فرض أنهم فيه مخلصون, فهو غير مقبول؛ لعدم موافقة هدي الرسول. فمن تدبر أحوال أهواء المنتسبين إلى الصوفية, وما ابتدعوه من الرهبانية, رآه في الحقيقة خرقا للسنة السنية, فأعمالهم مثل أعمال الرهبان, الذين أخبر الله تعالى عنهم في القرآن فقال جل جلاله: {وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان:23) وقال عز وجل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} (النور: من الآية 39) وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} (الغاشية6-5) فقد تأولها بعض السلف على ما ذكرته (1) .

_ (1) منهم عمر, انظر: تفسير ابن كثير (1/154) .

فأين حال هؤلاء الذين خرقوا منهاج هذه الملة, وخرجوا من واضحها إلى الهواء والبدع المضلة, من حال من قال الله تعالى: {بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:112) ؟. قال سعيد بن جبير {بَلى مَنْ أَسْلمَ} أي: أخلص {وَجْهَهُ} , أي: دينه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: متبع الرسول صلى الله عليه وسلم وكذا قال غيره. وقيل: أخلص العمل لله وحده لا شريك له. وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة, ولكن عامله لم يخلص القصد لله تعالى, فعمله أيضا مردود, وهذه حال المرائين والمنافقين. قال الله جل جلاله: {إِن الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:142) وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون 4-7) وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية 110) . وقد ضمن عز وجل لمن أخلص العمل وأحسنه الأجور, وأمنهم من كل مكروه ومحذور, فلا يجول ذلك لهم في صدور, ولا يحول ما هم فيه من الحبور, ولا يزول ما آتوا من البشرى والأنس والسرور, {خَوْفٌ عَليْهِم} (البقرة: من الآية 38) فيما يستقبلونه, {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما مضى مما يتركونه.

الفصل السادس: في أمره صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين.

الفصل السادس: في أمره صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين, التي هي منهاج النجاة والهداية, وتحذيره من ارتكاب البدع التي هي سبيل الضلالة والغواية قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59) وقال تعالى: {وَإِذَا قِيل لهُمْ تَعَالوْا إِلى مَا أَنْزَل اللَّهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} (النساء:61) وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 64) وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:115) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِليْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} إلى قوله {وَاتَّبِعُوهُ لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: من الآية 1) وقال تعالى: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} (الحج: من الآية 67) وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ ضَلَّ

ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:46) وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى:53) . أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من رواية ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة, وجلت منها القلوب, وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله, كأنها موعظة مودع, فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل بدعة ضلالة" زاد ابن ماجة "فقد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (1) . قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} أي: اتبعوا كتابه الكريم, الهادي إلى سبل السلام والصراط المستقيم, واعتصموا به؛ فإنه الحبل المتين, والنور الواضح المبين, والشفاء لما في الصدور, والمخرج من الظلمات إلى النور. فمن ترك العمل ببراهينه وحججه, وعدل عن قيم منهجه, فقد نبذه وراء ظهره, واتخذه نسيا منسيا, وتوغل في غلو كفره, وسوف يلقون غيا. {وَأَطِيعُوا الرَّسُول} أي: تمسكوا بسنته المضيئة النوار, وخذوا بطريقته الوضيئة المنارة السمحة الرافعة للأغلال والآصار, فمن لزمها فاز بالرضوان والسلامة, في دار النعيم والمقامة, ومن أخطأها فقد باء بالخسران والندامة.

_ (1) رواه أبو داود (4607) , والترمذي (2676) , ورواه أيضا أحمد 4/126-127, وابن ماجة (43) و (44) قال الترمذي: حسن صحيح.

وقد قرن الله تعالى في كتابه طاعته بطاعة نبيه المصطفى, وكفى بذلك لجنابه شرفا, وبين في كثير من الآيات أن من أطاع رسوله فقد أطاعه, ومن عصى أمره فقد عصى الله وأضاعه. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله, ومن عصاني فقد عصى الله" (1) . وقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ} المراد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم وكذلك بعده؛ لأن السبب وإن كان خاصا فالحكم عام قطعا. فقد روى البخاري عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس, إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية (2) . وروى الإمام أحمد بسنده عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار, فلما خرجوا وجد عليهم في شيء فقال: أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعوني قالوا: بلى قال: فأجمعوا لي حطبا, ثم دعا بنار فأضرمها فيه, ثم قال: قد عزمت عليكم لتدخلنها قال شاب: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار, فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها قال: فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا, إنما الطاعة في المعروف". وقد خرجاه أيضا في الصحيحين (3) . وقد دلت الآية على وجوب طاعة الأمراء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده, ويندرج في ذلك القضاة وأمراء السرايا. وفي الحديث: "من أطاع أميري فقد أطاعني, ومن عصى أميري فقد عصاني" (4) .

_ (1) رواه البخاري (7137) ومسلم (1835) . (2) رواه البخاري (4584) ومسلم (1843) . (3) رواه البخاري (2726) ومسلم (1840) . (4) رواه البخاري (7137) ومسلم (1835) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وصرحت الأحاديث على أن وجوب طاعتهم في غير المعصية. فقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ} أي: وأطيعوا أولي الأمر فيما أمروكم به من طاعة الله تعالى لا في معصية الله, فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية, فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (1) . وعن أبي هريرة أن النبي ـ قال: "سيلي عليكم بعدي ولاة, فيليكم البر ببره, ويليكم الفاجر بفجره, فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم, فإن أحسنوا فلكم ولهم, وإن أساءوا فلكم وعليهم" (2) . وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أمير شيئا فكرهه فليصبر, فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية" (3) . وقيل: المراد ب {وَأُولِي الْأَمْرِ} أهل الفقه والدين, روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن وأبو العالية قال الحافظ ابن كثير: "والظاهر أنها عامة في كل من ولي أمرا كالأمراء والعلماء, قال الله تعالى: {لوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} (المائدة: من الآية 63) وقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ} (الأنبياء: 7) وقوله:

_ (1) رواه البخاري (6725) ومسلم (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (2) رواه الدارقطني (2/55) وابن جرير في تفسيره (8/502) والحديث فيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة, قال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث, وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات. (3) رواه البخاري (6146) ومسلم (1849) .

{ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِفَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: من الآية 59) , قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله" (1) أمر الله تعالى عباده المؤمنين إذا اختلفوا في فرع أو أصل من أصول الدين أمر إلزام وإيجاب أن يرجعوا في ذلك الأمر الكتاب وسنة الرسول الكاشفة لكثيف الحجاب, الجالية دياجر الشك والارتياب, المسفرة بضياء الحق والصواب, فبهما يكون فصل الخطاب. فما شهد له بالصحة فهو الحق الذي هم فيه مختلفون وماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون. ويشهد لذلك قوله: {وَمَا اخْتَلفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللَّهِ} (الشورى: من الآية 10) أي: فما حكم به من كتاب الله وسنة الرسول هو فصل التنازع, فلا يجوز عنه العدول, فمن لم يرض بهما حكما عند النزاع, فهو كافر مباح الدم والمال بالإجماع. ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فإن الإيمان يوجب ذلك. وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله, والرجوع إليهم في فصل النزاع في فروع الدين وأصوله. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: أحسن مآلا ومآبا, أو أحسن جزاء وثوابا. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيل لهُمْ تَعَالوْا إِلى مَا أَنْزَل اللَّهُ} (النساء:61) سبب نزول هذه الآية والتي قبلها, أن منافقا ويهوديا تخاصما, واليهودي يريد النبي, والمنافق يريد كعب بن الأشرف, ثم تراضيا عمر بن الخطاب, فلما استقرأ حالهما قتل المنافق, وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله. وقيل: نزلت في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام

_ (1) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/303-304) .

أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. والآية كما قال ابن كثير أعم من ذلك كله, فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل (1) . وقوله: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} (النساء: من الآية 61) أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك, ويقولون ما ذكر الله عنهم {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَليْهِ آبَاءَنَا} (البقرة: من الآية 170) وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: من الآية 51) . وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 64) أي: فرضت طاعته على من أرسلتهم إليهم, وأوجبت ذلك عليهم, ولكن لا يطيع أحد إلا بإذني, وبتوفيقي ومشيئتي. وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء: من الآية 65) أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور, فما حكم به فهو الحق الذي تنشرح به الصدور, ويجب له في الظاهر والباطن الانقياد, والرضا بما حكم والتسليم وعدم الحرج والانتقاد. فيتلقى بالقبول من غير ممانعة, ولا مدافعة ولا منازعة. ويشهد لهذا ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". (2) وسبب نزول هذه الآية كما رواه البخاري عن عروة قال: خاصم الزبير

_ (1) انظر: تفسير القران العظيم (2/304-405) . (2) تقدم تخريجه ص77.

رجلا من الأنصار في شراج (1) من الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير, ثم أرسل إلى جارك" فقال الأنصاري: إن كان ابن عمتك, فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى ترجع إلى الجدار ثم أرسل الماء إلى جارك" (2) الحديث. وقد نزلت في الزبير وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء, فقضى النبي أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. (3) وهذه الآية أيضا كما ترى صريحة الدلالة على أن من لم يرض بتحكيم سنته فإنه كافر يستوجب القتل؛ لأن من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته. قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى} (النساء: من الآية 115) أي: ومن سلك غير الطريقة التي أوضحها الرسول, والشريعة التي كل ما سواه غير مقبول, من بعد ما اتضح له الهدى, وتبين له الضلال والردى, {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وهذا ملازم للصفة الأولى, ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع, وقد تكون المخالفة لإجماع الأمة؛ لأنه كالنص القاطع؛ لأن الله تعالى قد عصمها أن تجتمع على ضلالة, فلا يظهر على أهل الحق أهل الجهالة, ولا يكون الحق مهجورا في جميع الأمصار والأعصار. ومن قال غير هذا فهو مخالف لما صح في الأحاديث والأخبار, وتواترت به الآثار, بل زايغ عن سبيل نبيه المختار. قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي نجعله واليا لما تولى من الضلال والآصار,

_ (1) الشراج هو مسيل الماء والحرة: موضع معروف بالمدينة. (2) رواه البخاري (2231) ومسلم (2357) . (3) وهذا قول سعيد بن المسيب كما رواه ابن أبي حاتم, قال ابن كثير في تفسيره 2/308: "هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري".

ونخلي بينه وبين ما أحبه واختاره {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} ندخله ونعذبه في النار {وَسَاءَتْ مَصِيراً} للمنافقين والكفار. (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (النساء: من الآية 174) هذا خطاب من الله لجميع الناس وإخبار بأنهم قد جاءهم برهان, وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة. {وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبينا} ضياء واضحا, قال غير واحد: هو القران. والبرهان: قيل إنه الرسول أيضا, ثم بين صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} , فاخبر أنهم في الدنيا في منهاج الاستقامة وطريق السلامة, وفي الآخرة على الصراط المستقيم, المفضي به إلى روضات النعيم. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: من الآية 158) أي: قل يا محمد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الآية وهذا خطاب للأسود, والحمر, والعربي, والعجمي, وهذا من شرفه أنه خاتم النبيين, وانه مبعوث إلى الناس كافة, وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام أحمد (2) . وقوله تعالى: {وماكَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} (الأحزاب: من الآية 36) أي: ما صح له {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} أي: إذا قضى رسول الله وإنما ذكر الله تعالى لتعظيم أمر الرسول, وللإعلام بأن قضاءه الذي يقضي به وحكمه الذي يحكم به أنه قضاء الله تعالى فلا يجوز عنه العدول, لأنه

_ (1) هذا استدراك من الناسخ. (2) رواه مسلم (153) واحمد 2/317.

لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وقوله: {أنْ يَكُونَ لهُمُ الْخِيَرة} يعني: أن يختاروا من أمرهم شيئا, بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله, والخيرة: (كعنبة) ما يتخير. وقوله تعالى: {وَدَاعِياً إِلى اللَّهِ} أي: إلى توحيده وعبادته {بِإِذْنِهِ} أي: بتيسيره, {وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:46) يستضاء به عن ظلمات الجهالة والردى, وتقتبس من أنوار الهدى. ومن كان برهانا على جميع الخلق كان حقيقا بان يكتفي به عن غيره. قول العرباض: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة" في رواية أحمد وأبي داود والترمذي "بليغة" وفي رواية: "أن ذلك كان بعد صلاة الصبح", وكان كثيرا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة كالجمعة والأعياد, وقد أمره الله تعالى بذلك فقال: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء: من الآية 63) , وقال: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل: من الآية 125) ولكنه كان لا يديم وعظهم بل يتخولهم به إحيانا والبلاغة في الموعظة مستحسنة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها. والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة, وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها, وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها للقلوب, وكان يقصر خطبته ولا يطيلها, بل كان يبلغ ويجيز. وقوله: "ذرفت منها العيون, ووجلت منها القلوب" هذان الوصفان مدح الله تعالى بهما المؤمنين عند سماع الذكر كما قال عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلتْ قُلُوبُهُمْ} (لأنفال: من الآية 2) وقال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا

ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلتْ قُلُوبُهُمْ} (الحج: الآية 34-35) وقال: {أَلمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ} (الحديد: من الآية 16) وقال: {اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 23) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتغير حاله عند الموعظة كما قال جابر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه, وعلا صوته, واحمرت عيناه, كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم". خرجه البخاري ومسلم (1) وقوله: "يا رسول الله, كأنها موعظة مودع, فأوصنا" يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد أبلغ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها, فلذلك فهموا أنها موعظة مودع؛ فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل, وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي صلاة مودع؛ لأن من استشعر أنه مودع بصلاته أتقنها على أكمل وجهها, ولربما كان قد وقع منه تعريض بالتوديع في تلك الخطبة, كما عرض بذلك في خطبته في حجة الوداع, وقال: "لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" (2) وطفق يودع الناس, فقالوا: هذه حجة الوداع, ولما رجع من حجه إلى المدينة, جمع الناس بماء بين مكة والمدينة يسمى خما, وخطبهم فقال: "يا أيها الناس, إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته. خرجه مسلم. (3) (4) .

_ (1) رواه مسلم بمعناه (867) ولم أجده عند البخاري. (2) رواه مسلم (1297) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (3) برقم (2408) من حديث زيد بن أرقم. (4) انظر: جامع العلوم والحكم (2/112) بتصرف.

وقولهم: (فأوصانا) يريدون وصية جامعة كافية, فإنهم لما فهموا أنه مودع استوصوه وصية ينفعهم التمسك بها بعده, ويكون فيها كفاية لمن تمسك بها, وسعادة له في الدنيا والآخرة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله, والسمع والطاعة" هاتان كلمتان جامعتان للشرف والسيادة, والفوز والسعادة, وبهما تنال الدرجة العالية الطولة في الآخرة والأولى (1) . أما التقوى فهي أشرف الخصال وأسناها, وأجلها قدرا وأسماها, بل كل مكرمة ناشئة عنها, وكل منقبة فاشية منها, وناهيك بها من خصلة خصها الله تعالى بالوصية, وعم الإيصاء بها الأولين والآخرين من البرية, فقال: {وَلقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا} (النساء: من الآية 131) . واصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقية من ذلك, وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه. وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله تعالى كقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِليْهِ تُحْشَرُونَ} (المجادلة: من الآية 9) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18) , فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه, فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه, وهو أعظم ما يتقي, وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي. قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: من الآية 28) وقال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (المدثر: من الآية 56) فهو جل جلاله أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده, حتى يعبدوه ويطيعوه, لما يستحقه من الإجلال والإكرام

_ (1) انظر: جامع العلوم والحكم (2/116) .

وصفات الكبرياء والعظمة, وقوة البطش وشدة البأس. ففي الحديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له" (1) . وتارة تضاف إلى عقاب الله, وإلى ما كان عقابه وزمانه. قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آل عمران:131) وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّهِ} (البقرة: من الآية 281) {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} (البقرة: من الآية 48) . قال معاذ بن جبل: "ينادى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب عنهم ولا يستتر, قالوا له: من المتقون قال: قوم ألغوا الشرك وعبادة الأوثان واخلصوا لله بالعبادة" (2) . فأعظم ما يتقى الشرك؛ لأنه الذنب الذي لا يغفر كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: من الآية 48) وحرم الله على من أشرك به في عبادته الجنة كما قال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَليْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: من الآية 72) . وفي البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعوا لله ندا دخل النار" (3) . وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة, ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار". (4)

_ (1) رواه الترمذي (3328) وقال: هذا حديث حسن غريب, وسهيل ليس بالقوي في الحديث قد تفرد بهذا الحديث عن ثابت. (2) انظر فيما تقدم: جامع العلوم والحكم (1398-400) . (3) برقم (4497) . (4) برقم (93) .

قال ابن عباس: "المتقون الذي يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى, ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به". وقال الحسن: "المتقون اتقوا ما حرم عليهم, وأدوا ما افترض عليهم". وفي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" (1) . وحديث: "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" (2) . وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران: من الآية 102) قال: "أن يطاع فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر". خرجه الحاكم (3) وشكره يدخل في جميع فعل الطاعات. ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته, وسكناته, وكلماته, فيمتثلها, ونواهيه في ذلك كله فيجتنبها, وحقيقتها. اجتناب المناهي وامتثال الأوامر في الباطن والظاهر. (4) فبالجملة: هي وصية الله لجميع خلقه, ووصية رسوله لأمته. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا (5) . وفي حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله أوصني قال: "أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس الأمر كله". وهو حديث طويل خرجه ابن حبان (6) .

_ (1) رواه الترمذي (2451) , وابن ماجة (4215) , وقال الترمذي: حسن غريب مع ان في سنده عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو ضعيف. (2) رواه البخاري (52) و (2051) , ومسلم (1599) . (3) رواه الحاكم (5/294) . (4) انظر: جامع العلوم والحكم (1/401-402) . بتصرف. (5) قطعة من حديث مطول رواه مسلم (1731) من حديث بريدة رضي الله عنه. (6) رقم (361) وهو حديث ضعيف. فيه إبراهيم بن يحيى الغساني, قال أبو حاتم: كذاب, وقال الذهبي: متروك.

وحديث معاذ بن جبل: "اتق الله حيث ما كنت". وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال: قلت يا رسول الله, أوصني قال: "أوصيك بتقوى الله, فإنها رأس كل شيء, وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام" وفي رواية: "عليك بتقوى الله, فإنه جماع كل خير" (1) . وخرج الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إني سمعت منك حديثا كثيرا فأخاف أن ينسيني أوله آخره, فحدثني بكلمة تكون جماعا قال: "اتق الله فيما تعلم". (2) . ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها, ويوصون بها في خطبهم. والتقوى في السر: هي علامة كمال الإيمان, ولها تأثير عظيم في إلقاء الله تعالى لصاحبها المحبة والثناء في قلوب المؤمنين. ويدل على ذلك قوله جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (مريم:96) . وحديث: "إذا أحب الله تعالى عبدا نادى جبريل أني أحب فلانا ... إلى آخر قوله فيوضع له القبول" (3) . قال أبو الدرداء: "ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر, يخلو بمعاصي الله, فيلقي الله تعالى البغض في قلوب المؤمنين".

_ (1) (3/82) عن حسين بن الوليد القرشي, عن إسماعيل بن عياش, عن الحجاج بن مروان الكلاعي, وعن عقيل بن مدرك السلمي عن أبي سعيد الخدري. وهذا سند صحيح. (2) رواه الترمذي (2683) وقال: ليس إسناده بمتصل هو عندي مرسل, سعيد بن عمرو بن أشوع رواية عن يزيد بن سلمة لم يدركه. (3) رواه البخاري (3037) ومسلم (2637) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال سليمان التيمي: "إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته". وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق المجازي بذرات العمال في الدنيا قبل الآخرة, ولا يضيع عنده عمل عامل, ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار, فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله, فإن من أصلح ما بينه وبين الله, أصلح الله ما بينه وبين الخلق, ومن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاما. (1) انتهى الكلام على التقوى, ومقامها يستدعي الإطناب لا الاختصار, ولكن لا يليق بهذه الأوراق إلا الاقتصار, ولو تتبعنا ما ورد فيها من الآيات والأخبار, وما ثبت عن السلف الصالح فيها من الآثار, لاستدعى حمله من الأسفار. وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا, وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم, وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم, كما قال علي رضي الله عنه: "إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر, إن كان فاجرا عبد المؤمن فيه ربه, وحمل الفاجر فيها إلى أجله" (2) . وقال الحسن في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة, والجماعة, والعيد, والثغور, والحدود, والله ما يستقيم الدين إلا بهم, وإن جاروا وظلموا, والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون, مع أن والله إن طاعتهم لغيظ وأن فرقتهم لكفر". وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي أمامة قال: سمعت

_ (1) انظر: جامع العلوم والحكم (1/410-411) بتصرف. (2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 15/328 بنحوه.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "اتقوا الله, وصلوا خمسكم, وصوموا شهركم, وأدوا زكاة أموالكم, وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم" (1) . وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا, وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا, وسمع وأطاع فله الجنة, أو دخل الجنة" (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن تأمر عليكم عبد" وفي رواية "حبشي" هذا مما تكاثرت به الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما اطلع الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم من أمر أمته بعده , وولاية العبيد عليهم, وفي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن أستعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" (3) . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أسمع وأطيع ولو كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف" (4) (5) . والأحاديث في هذا كثيرة لا تحصى, والآثار لا تعد ولا تستقصى.

_ (1) رواه أحمد (5/251) , والترمذي (616) والحاكم (1/9) والطبراني في الكبير (7535) وقال الترمذي: حسن صحيح وصححه ابن حبان (4563) . (2) رواه أحمد 2/361/362, وذكره الهيثمي في المجمع 1/103 وقال: فيه بقية بن الوليد, وهو مدلس, وقد عنعن, وذكره أيضا 10/188-189 وقال: فيه بقية وهو ضعيف. (3) رواه البخاري (7142) . (4) رواه مسلم (648) . (5) انظر: جامع العلوم والحكم (2/118-119) بتصرف.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ". هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه, وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات, وهذا موافق لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة, وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة وهي من كان على ما هو عليه وأصحابه. وكذلك في هذا الحديث الأمر عند الاختلاف والافتراق بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده. والسنة هي: الطريقة المسلوكة, فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال, وهذه هي السنة الكاملة. ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون السنة إلا على ما يشمل ذلك, وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنها أصل الدين, والمخالف على خطر عظيم. وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسمع والطاعة لأولي الأمر إشارة إلى أنه لا طاعة لأولي الأمر إلا في طاعة الله تعالى, كما صح عنه أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف" (1) . وفي المسند عن انس أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله, أرأيت إن كانت علينا أمراء لا يستنون بسنتك, ولا يأخذون بأمرك, فما تأمر في أمرهم؟ فقال: "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون من السنة, ويعملون بالبدعة, ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها" فقلت: يا رسول الله, إن

_ (1) رواه البخاري (4340) ومسلم (1840) من حديث علي رضي الله عنه.

أدركتهم كيف أفعل؟ قال: "لا طاعة لمن عصى الله" (1) . وفي أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع سنته, بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم, فاقتدوا بالذين من بعدي, وأشار إلى أبي بكر وعمر, وتمسكوا بعهد عمار, وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه". وفي رواية "تمسكوا بعهد ابن أم عبد واهتدوا بهدي عمار" (2) . فنص صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على من يقتدي به من بعده, والخلفاء الراشدون الذين أمر الاقتداء بهم هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم, فإن حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا". (3)

_ (1) المؤلف- رحمه الله- خلط بين حديثين, وذلك من جراء النقل ولعلها زلة قلم منه رحمه الله- أو من الناسخ, فالحديث الأول وهو حديث أنس أن معاذ قوله: "فما تأمرهم في أمرهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل" وهذا الحديث رواه أحمد 3/213. والحديث الثاني: وهو ما أخرجه ابن ماجة (2865) من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيلي أموركم ... " الحديث وقد رواه أحمد وابنه عبد الله 1/399-400, والطبراني في الكبير (10361) وهو حديث صحيح. (2) رواه أحمد (5/382-399-400) والترمذي (3663) , وابن ماجة (97) وصححه ابن حبان (6902) . (3) رواه أحمد (5/220-221) وأبو داود (4637) وقد صحح الحديث الإمام احمد رحمه الله كما نقله الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/122) .

قال مالك رحمه الله: "قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا, الأخذ بها اعتصام بكتاب الله, قوة على دين الله, ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها, ولا النظر في أمر خالفها, من اهتدى بها, فهو مهتد, ومن استنصر بها فهو منصور, ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى, وأصلاه جهنم وساءت مصيرا" (1) . وقال خلف بن خليفة: "شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه, فهو وظيفة دين نأخذ به وننتهي إليه" (2) . وقد روى أبو نعيم من حديث عفيف الكندي (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه سيحدث بعدي أشياء فأحبها إلي أن تلزموا ما أحدث عمر". وكان علي يتبع أحكامه وقضاياه ويقول: "إن عمر كان رشيد الأمر" (4) .

_ (1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور 2/686. (2) رواه أبو نعيم في الحلية 5/298. (3) الصواب أن الحديث رواه أبو عفيف عن عرزب الكندي كما هو موجود في الإصابة (4/483) وقال ابن حجر في الإصابة: "عزرب براء ثم زاي وزن أحمد الكندي عداده في أهل الشام, ذكره البخاري وابن السكن وغيرهما وقال ابن حبان يقال إن له صحبة, وروى ابن منده من طريق محمد بن شعيب بن سابور عن يوسف بن سعيد عن عبد الملك بن أبي عباس الخذامي أبي عفيف عن عرزب الكندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه سيحدث بعدي أشياء فأحبها أن تلزموا ما أحدث عمر, قال محمد بن عيب, وأخبرني خلف بن أبي بديل عن أبي عفيف مثله, وقال أبو حاتم الرازي: عبد الملك أبو عفيف مجهول وشيخ لا يعرف) . (4) رواه ابن أبي شيبة 12/32.

وروى أشعث عن الشعبي قال: إذا اختلف الناس في شيء, فانظر عمر فخذوا به" (1) . وكذا قال أيوب عنه. وروي عن ابن مسعود أنه كان يحلف بالله: "إن الصراط المستقيم هو الذين ثبت عليه عمر حتى دخل الجنة" (2) . وبكل حال فما جمع عليه عمر الصحابة, فاجتمعوا عليه في عصره فلا شك أنه الحق , ولو خالف فيه بعد ذلك من خالف. وإنما وصف الخلفاء بالراشدين؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به, والراشد ضد الغاوي, والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه (3) . وفي رواية "المهديين" يعني: أن الله تعالى يهديهم للحق, ولا يضلهم عنه, فالأقسام ثلاثة: راشد, وغاو, وضال, فالراشد عرف الحق واتبعه, والغوي: عرف الحق ولم يتبعه, والضال: لم يعرفه بالكلية. فكل راشد فهو مهتد, وكل مهتد هداية تامة فهو راشد؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا. وقوله: "عضوا عليها بالنواجذ" كناية عن شدة التمسك بها, والنواجذ: الأضراس. قوله: "إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة" تحذير للأمة من إتباع الأمور المحدثة المبتدعة, وأكد ذلك بقوله: "كل بدعة ضلالة". والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه, فأما ما كان له أصل في الشريعة يدل عليه فليس ببدعة شرعا, وإن كان بدعة

_ (1) رواه أبونعيم في الحلية 4/320. (2) انظر: جامع العلوم والحكم (2/125) . (3) انظر: جامع العلوم والحكم (2/123-125) بتصرف.

لغة, وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "إن خير الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد, وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة" (1) . وخرج الترمذي وابن ماجة من حديث كثير بن عبد الله المزني وفيه ضعف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها, لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا" (2) . وخرج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة, والقصص بعد الصبح والعصر, فقال: أما إنها أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منها, لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة" فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" (3) . فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء, وهو أصل من أصول الدين, وهو شبيه بقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (4) . فكل من أحدث شيئا, ونسبه إلى الدين, ولم

_ (1) رواه مسلم (867) . (2) رواه الترمذي (2677) , وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجة (209) وهو ضعيف لضعف كثير بن عبد الله كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/127) . (3) رواه أحمد (4/105) والمروزي في السنة (97) , وذكره الهيثمي في المجمع (1/188) وقال: وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث. قلت: هو صعيف عندهم, وقال الدارقطني: متروك, ومع ذلك فقد جود حديثه هذا الحافظ في الفتح (13/253) . (4) تقدم تخريجه.

يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة, والدين بريء منه, وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات, أو الأعمال, أو الأقوال الظاهرة والباطنة (1) . فالمحدثات ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلال. وما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه لواحد مما ذكر فهي محدثة غير مذمومة (2) . فمن ذلك: جمع عمر رضي الله عنه الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد (3) . ومن ذلك: أذان الجمعة الأول (4) زاده عثمان لحاجة الناس إليه, وأقره علي رضي الله عنهما, واستمر عمل المسلمين. ومن ذلك: جمع المصحف في كتاب واحد توقف فيه زيد بن ثابت, ثم وافق أبا بكر وعمر رضي الله عنهم على جمعه لما علم انه مصلحة (5) .

_ (1) انظر: جامع العلوم والحكم (2/127-128) . (2) هذا كلام الإمام الشافعي رحمه الله, انظر جامع العلوم والحكم (2/131) وقد رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/468) . (3) رواه مالك في الموطأ (1/114) , والبخاري (2010) . (4) رواه البخاري (912) عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؛ فلما كان عثمان رضي الله تعالى عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء. (5) انظر: البخاري (4986) والترمذي (3103) .

ومن ذلك: جمع عثمان الأمة على مصحف واحد, وإعدام ما سواه مما يخالفه خشية تفرق الأمة, فاستحسنه علي وأكثر الصحابة, وكان ذلك عين المصلحة. وكذلك قتال ما نعي الزكاة: توقف فيه عمر وغيره, حتى بين لهم أبو بكر رضي الله عنه أصله الذي يرجع إليه من الشريعة, فوافقه الناس على ذلك. ومن ذلك: كتابة الحديث نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة, ورخص فيه الأكثرون, واستدلوا بأحاديث من السنة. وكذلك: تفسير الحديث والقرآن. وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله, ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم, وما حدث من ذلك بعدهم, فيعلم بذلك السنة من البدعة. وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة, وإنكم ستحدثون ويحدث لكم, فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول. (1) وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين. وروى ابن مهدي عن مالك قال: "لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان" (2) . وكأن مالكا يشير بالأهواء إلى ما حدث في التفرق في أصول

_ (1) رواه المروزي في "السنة" (80) بإسناد صحيح كما قال ابن رجب في جامع العلوم (2/132) . (2) نقله الحافظ في الفتح 13/253 جازما بثبوته عنه. وفسره بقوله: يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية.

الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة وغيرهم من الفرق الضالة, وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره, فكذب بذلك من كذب, وزعم انه نزه الله بذلك من الظلم. وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. فقوم نفروا كثيرا مما ورد في الكتاب والسنة من ذلك, وزعموا أنهم فعلوه تنزيها لله تعالى عما تقتضي العقول تنزيهه عنه, وزعموا أن لازم ذلك مستحيل على الله تعالى. وقوم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين, وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها. ومما حدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين: الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي, ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته للرأي والأقيسة العقلية. ومما حدث بعد ذلك: الكلام في الحقيقة بالذوق والكشف, وزعم أن الحقيقة تنافي الشريعة, وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة, وأنه لا حاجة إلى الأعمال, وأنها حجاب, أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام, وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعا مخالفته للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: من الآية 213) . (1)

_ (1) انظر: جامع العلوم والحكم (2/131-133) بتصرف.

خاتمة في الكلام على شيء من بدع الضلالة التي أحدثها أهل الأهواء والسفه والجهالة, وعمت البلوى بها في سائر الأقطار, على توالي الأعوام والأعصار, فهي في عامة البلدان, محكمة الدعائم والأركان, منشورة فيها لها الأعلام, مشهورة بين الخاص والعام, غلب على أهلها الهوى فمالوا إليها, واستجالهم الشيطان فحملهم عليها, وزين لهم أنها الوسيلة إلى رب الأرباب, والقربة التي تنجي من العذاب, {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: من الآية 26) . فمن ذلك: ما بني في كل بلد من القباب, والمشاهد التي لا ينكر وجودها أحد, ولا تكاد تحصى بحساب ولا عدد, ورفع القبور التي فيها وتغطيتها بالتوابيت المتخذة من الأخشاب, ونشر غالي اللباس عليها وغالي الثياب, وتخليقها في كثير من الأيام والليالي بأنواع الأطياب, وغلقها بالأقفال والأبواب, واتخاذ السدنة لها والنواب, وقصدهم بفعل هذه البدع الرجسية الذميمة, وتعظيمهم لعظائم هؤلاء الموتى الرميمة, وإيقاع الإجلال لهم, والخوف منهم, والرغبة فيهم, والتوقير في قلوب العباد, حتى استمالوها واستحوذوا عليها, وكانوا لها عبادا, واعتقدوا فيها جلب النفع ودفع الضر ونيل المدد والإمداد, وحصول السعادة والإسعاد وصيروهم من دون الله أندادا, والغاية من هذه الأمور التي هي الكفر والشرك والإلحاد, والتوصل لإلى الدنيا والاصطياد بهذه الحبائل التي لا تزال كل يوم لهم تصطاد, وقد أدركوا بهذا السؤال والمراد, ونالوا كثيرا من الأموال بسبب ما أظهروه من الاعتقاد, ولم يبالوا بما وقعوا فيه من الطرد والإبعاد, عن جناب من تقدس بوحدانيته, وتنزه في

صمدانيته, عن الشريك والمثيل والأنداد والأضداد, فويل لهم ثم ويل لهم يوم يقوم الأشهاد. واعلم أن ما ذكرته من هذه الأحوال والأمور, التي لا يفعلها إلا كل ظالم كفور, من تعظيم أصحاب القبور, ووقوع الخوف في القلوب منها والمهابة, ولهذا لا تهاب الكعبة المشرفة, ويهاب الميت فلا يطأ أحد بسوء أعتابه, ولا تنتهك حتى في الظلمة حماه ولا جنابه. كلها مضادة للصراط المستقيم, ومنابذة لأوضاع الشرع القويم, هاتكة جناب الحنفية السمحاء وحماها, ومغيرة رسومها بعد ما شادها الرسول وحماها, عادلة عن منهاجها الأقوم, وصراطها الواضح الأعظم, مائلة إلى الملة المظلمة المنهاج, ونائلة أربابها هلاك الأبد في تلك الفجاج, البينة الانحراف عن الدين القيم والبالغة في الاعوجاج, فمن تدبر كتاب الله المبين, وتأمل كلام رسوله الأمين, وتحقق أن ما ذكرته يزيد على أفعال المشركين, ويشهد لذلك أن قريشا وغيرهم مخلصون لله في الشدائد, وهؤلاء يدعون الأنداد إذا حل بهم الكرب العظيم الزائد. فقد صح أمره صلى الله عليه وسلم بإزالة المعبدات والأوثان, وطمس التماثيل وهدم القبور المشرفة البنيان, وفعل ذلك أصحابه اتباعا لهديه فيما فتحوه من البلدان, إذا لا يجوز بقاء مراسم الشرك في مكان, بل تجب المبادرة إلى إزالتها على أهل الإيمان وهذا مسجد الضرار, وقطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها لما أخبر أن أناسا ينتابونها (1) , وأمر صلى الله عليه وسلم أن يعموا قبر دانيال لما فتحوا تستر فوجدوه في بيت الهرمزان على

_ (1) رواه ابن وضاح في معجمه (101) .

سرير, وعند رأسه صحف (1) , فأين قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "لا تدع تمثالا إلا طمسته, ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) " من حال أصحاب هذه البدع التي زادت في غلوها وإشرافها, فرأوا دين الله في رفع القبور وإشرافها. وفي الحديث عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر, وأن يبنى عليه, وأن يعقد عليه. رواه مسلم (3) . وروى عقبة بن عامر قال: "لا تجعل على القبر من التراب أكثر مما خرج منه" (4) . ومن ذلك: دعاؤهم أصحاب هذه القبور, والالتجاء إليهم في كل شدة ومكروه ومحذور, والإخلاص لهم في الشدات, ورفع الكف لهم في الدعوات, وسؤالهم منهم جميع الحاجات, وكشف المضرات, وتفريح الكربات, والاستغاثة بهم في النوازل والمهمات. ويحكى عن بعض هؤلاء أنه إذا دعا أربابه يقول متبجحا إنهم أسرع إجابة, وإنهم ينجحون له قصده وطلابه, فتعسا لكل مشرك ما أفظع جوابه؛ وتبا له ما أشنع خطابه! وبعضهم يحكى عنه أنه يقول: استغثت بفلان فأغاث, وعجل لي ما

_ (1) مجموع الفتاوى (27/170-171) بتصرف وقد ذكرها أيضا بسياق أتم في (270/27) وقال (رواه يونس بن بكر في زيادات مغازي ابن اسحاق) عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال ... ) ثم ذكر الخبر. (2) رواه مسلم (969) . (3) برقم (970) . (4) انظر: كشاف القناع 1/611 وقد نقله من ابن القيم في إغاثة اللهفان, ونسبه ابن القيم إلى الإمام أحمد, ولم أجده في المسند.

سألته من غير إبطاء ولا ارتياب, فمن كانت هذه حاله, وهذه عبادته وأفعاله, وشاهده ما فصح به مقاله, فقد نبذ الدين الحق من غير مبالاة ولا اكتراث, ولكنه قد أخذ هذا من ملة آبائه بطريقة الميراث, فصار من جملة المتمسكين بالضلال والوراث. وبعض هؤلاء يقول: قبر الشيخ فلان ترياق مجرب, وسائله لا يرد ولا يخيب, وغالب هؤلاء استدرجهم الشيطان بشرك التقليد, وحسن لهم أن آباءهم وأجدادهم على الدين الرشيد, والصراط المسلوك الحميد, وإنهم باتخاذ الوسائط توسطوا غارب الرأي السديد. {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ:49) ولهذا كان جواب أسلافهم لمن جاءهم بالتوحيد من الرسل وأتباعهم الموحدين {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء:53) {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء:74) {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: من الآية 22) . قال الله تعالى مبينا ضلالهم وضلال من هم مقلدون, وبآثارهم هم مقتدون: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّين فَهُمْ عَلى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات:70) . ومن شرح الله صدره للإسلام ورأى ما يفعله عند القبور والمشاهد أكثر الأنام, يعلم بالقطع واليقين, أن هذه الأمور مضادة للدين, بل هي في الحقيقة هدم لأصله الراسخ ودين محدث للدين القيم ناسخ. {أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الشورى:21) . وقال جل جلاله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ

كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4) . وقد تضمنت هذه الآية الكريمة: الإلزام بعدم ما يدل على ألوهية من عبد من دونه فلا يستحق العبادة, وهذا الإلزام بطريق العقل المتضمن له قوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} . وتضمنت أيضا: الإلزام بعدم ما يقتضي ألوهيتهم بطريق النقل كما هو صريح {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} فإذا كان القرآن المجيد ناطقا بالتوحيد, ولم يشرع الله تعالى لنبينا إلا ما شرعه لجميع الرسل, وهو إقامة الدين كله لله والمراد بذلك أن يوحد جل جلاله في العبادة, فلا يشرك معه خلق من خلقه. قال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} (الشورى: من الآية 13) إلى قوله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية 13) . وقال تعالى: {وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَليْهِ الضَّلالةُ} (النحل: من الآية 36) والآيات المحكمات كثيرة لا تحصى. فإذا علم هذا بالبرهان الذي دلت عليه محكمات القرآن, وتحقق القلب والجنان أن الله تعالى لم يأذن لإنس وجان, أن يصرفوا شيئا من أنواع العبادة التي هي محض حقه إلى رسول أو ملك أو صالح أو أحد من جميع خلقه. قال تعالى: {وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) ومن صرف شيئا منها إلى أحد فقد كفر بربه وجحد, وأن الرسل إنما أرسلوا بجميع ذلك, وإزالة آثار تلك المسالك, وأن الدماء والأموال إنما استبيحت بعد الامتناع عن هذه الحال, والإقلاع عن الشرك والضلال,

فحينئذ يتجه لنا سؤال, وهو أن يبحث ويقال لكل مشرك ضال (1) : ما تقول في الدعاء هل عبادة أم لا؟ وإذا ثبت عندك أنه عبادة, هل تكفر من دعا غير الله أم لا؟ وإذا تقرر أنه دعاء, وأنه يكفر من دعا أحدا غير الله, فيقال له: ما تقول في الاستغاثة هل هي نوع من الدعاء أم لا؟ فإن قال إنها نوع منه, فيقال: ما بالكم تفعلونها وتستغيثون بالأموات والعظام الرفات, وتسألونهم الحوائج, وترون هذا منهجا من أحسن المناهج. وإن باهت وقال: ليست من الدعاء في حال, قيل: هذا محال, ولا يجول في بال, ولا يقوله إلا معتوه في عقله خبال, ولكن بين لنا ما فيها, وما حقيقتها التي تدعيها, فإن لكل قول حقيقة, وكل سالك في طريق يعرف طريقه؟! فهناك يقف حماره في العقبة, ولا يتم له ما طلبه, وحينئذ يلجئه الفلج والإلزام, ويلجمه الخصام باللجام, وينكص على عقبه من فرط الإحجام, ودحوض حجته عند الخصام. فيقول إذ ذلك: لسنا ندعوهم, ولا بهم نستغيث, وإنما نحن نطلب منهم الشفاعة إلى الله فهو المغيث, فنقول هذه دعوى تقرب من الصدق, فلا نأبنها بالتكذيب, ولكنها متضمنة لشرك التقريب, وهذه بعينها هي دعوى الجاهلية الأولى, وهي مساوية لها في الشرك بالطريق الأولى, قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ

_ (1) ما سيذكره المؤلف من حوار وشبهات لهؤلاء المشركين استفادها من كتاب الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كشف الشبهات, ولذا من أراد التوسع في فهم هذا الحوار ومعرفة تلك الشبه والتوسع فيها فليراجع ما كتبه أهل العلم شرحا وإيضاحا على كشف الشبهات.

وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:18) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية 3) . قال أكثر المفسرين: كانت الكفار إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض يقولون الله كما حكاه الله تعالى عنهم فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام, {قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} أي: لأجل طلب شفاعتهم عند الله تعالى وهذا كفر منهم. قال الحافظ ابن كثير: " قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم: {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} أي: ليشفعوا لنا, ويقربونا عنده. ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك, إلا شريكا هو لك, تملكه وما ملك, وذلك أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم, فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا. فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به" انتهى (1) . فإن قيل: إن الكفار إنما كانوا يعتقدون القربة ويرجونها, ويطلبون الشفاعة ويسألونها, من أصنام ينحتونها, ونحن إنما نتقرب إليه بأكرم الخلق عليه؟! (2) . فالجواب أن يقال: ما ذكرتم ممنوع, وبنص القرآن معارض مدفوع, فعقيدتهم المذكورة, وطلبتهم المشهورة, ليست على أصنام مقصورة, ولا في أوثانهم محصورة, بل عموا الملائكة والرسل والأنبياء والصالحين,

_ (1) تفسير القرآن العظيم 4/46. (2) انظر: كشف الشبهات ص 62 تحقيق عبد الله القحطاني.

والأصنام والجن والشياطين. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَال اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (المائدة: من الآية 116) وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة: من الآية 31) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: من الآية 57) وقال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: من الآية 194) فقد ظهر من صريح هذه الآيات ما ذكرناه من التعميم والمساواة, مع أنا لو فرضنا الأمر وقدرناه على خلاف الواقع, وقلنا إنما طلبوا ذلك من الأصنام فهل يكون هذا دافعا (1) للنص القاطع, والبرهان الساطع, فقد ساوى بين الملائكة والبشر والجن والأصنام, في هذا الاعتقاد والحكم الشارع ولم يفرق بين عباد الشياطين والجن والأشجار والأصنام, وبين عباد الملائكة والأنبياء والرسل الكرام, وسائر الصالحين من الأنام, بل قاتلهم صلى الله عليه وسلم واستباح الدماء والموال, وأذاقهم الله تعالى أعظم الوبال, ولم يزل على تلك الحال حتى أنقذ الله تعالى من أنقذه منهم من الضلال, ومن سبقت له السعادة في المآل. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون:117) وقال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (لأنفال: من الآية 39) وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} (التوبة: من الآية 5) . فإن قيل: ما ذكرتم من الكفر بطلب هذه الشفاعة ظاهر في غير خاصة

_ (1) في المخطوط "دافع" والصواب ما أثبت.

الله من عباده ومسلم من غير نزاع, وأما خاصته وخيرته من عباده, فالكلام معكم فيه من وجهين: إما أن تمنعوا شفاعتهم, وتنفوا ما أثبت الله تعالى ونبيه لهم من الشفاعة, فهذا كفر بواح. وإما أن تثبتوها كما أثبتها الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لهم بطريق التفضل, وتعتقدون أنهم يشفعون ويشفعون, فكيف يكون سؤالها وطلبها منهم كفرا مبيحا للدم والمال؟! (1) . فنقول في الجواب عن هذا: اعلم أن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد, والقرآن العظيم هو الصراط المستقيم, الذي لا يؤمه إلا الأتقى, ولا يعدل عن نوره إلا الأشقى, فمن التمس الهدي من غيره ضل, ومن أضاع منه نصيبه زل, ونحن نثبت ما أثبته القرآن, وننفي من الشفاعة ما نفى, ولا ندين الله إلا بذلك, وكفى به شرفا, ومن ابتغى وراء ذلك فقد جاء إدا وسرفا. وتحقيق الجواب عن هذه الشبهة والارتياب: أن الذي ندين الله به, ونعتقد أن الله تعالى في الآخرة يتفضل على خاصته من عباده, وخيرته من خلقه بالشفاعة, بعد إذنه لهم فيمن يشفعون له, وبعد رضاه أعمال المشفوع لهم وأقوالهم, وإنه لا يرضى سبحانه وتعالى إلا التوحيد, فهذه الشفاعة المقيدة بهذه القيود الثلاثة, يكفر منكرها, ويحرمها كل جاحد كنود؟!.. وأجلها وأعظمها شفاعة نبينا في فصل القضاء, وهي المقام المحمود, فهي في الحقيقة لله تعالى, فإذا أراد رحمة عبده شفع إلى نفسه, فأذن لمن شاء أن يشفع فيه وقد دل على

_ (1) انظر: كشف الشبهات ص 67 وما بعده.

هذه الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة: قال جل جلاله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: من الآية 44) وقال تعالى: {مَا لكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (السجدة: من الآية 4) . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: من الآية 255) وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لهُ قَوْلاً} (طه:109) وقال تعالى: {يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (لنجم: من الآية 26) والآيات كثيرة. وفي الصحيحين عنه في حديث الشفاعة قال: "إني آتي تحت العرش, فأخر لله ساجدا, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن, فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع, واشفع تشفع, قال: فيحد لي حدا ثم أدخلهم الجنة ثم أعود" (1) فذكر أربع مرات. وضد هذه الشفاعة الشفاعة الشركية التي أثبتها المشركون ونفاها الله تعالى: فقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: من الآية 48) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} (البقرة: من الآية 254) . وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" (2) . وروى الترمذي عن عوف بن مالك قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "آتاني آت من عند ربي, فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة

_ (1) رواه البخاري (4206) ومسلم (193) من حديث مالك رضي الله عنه. (2) رواه البخاري (99) .

فاخترت الشفاعة, وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا" (1) . فتبين من هذه النصوص أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للمشرك؛ لأن الله تعالى لا يرتضيه ولا يرضى قوله, فلا يأذن لأحد أن يشفع فيه, إذ هي معلقة بأمرين: رضاه عن المشفوع, وإذنه للشافع. فلا توجد إلا بمجموعهما, وهذه هي التي ننفيها كما نفاها الله تعالى (2) . وأما الشفاعة المثبتة فهي التي لأهل التوحيد, كما صرح بها القرآن المجيد, وتواترت بها الأحاديث الصحيحة الأسانيد (3) . وأما كون الطلب لها والسؤال, كفرا مبيحا للدم والمال, فهذا كلام فيه غاية الإجمال, بل هو من المغالطة في المناظرة والجدال, والذي نجزم به وندين هو ما أفصح به النور المبين, وذلك أن الحكم مختلف باختلاف الحال, في صدور السؤال والمقال: فما كان في حياته عليه الصلاة والسلام فليس إلى منعه من سبيل, لورود النص فيه والدليل, ولا يلزم على ذلك وقوع المحذور, وحاشا أن يقر أحدا على محظور. فقد سأله الشفاعة من أصحابه جماعة (4) . ولو كان

_ (1) رواه الترمذي (2441) وأحمد (6/23) وابن حبان (211) وصححه. (2) انظر: مدارج السالكين (1/341) . (3) انظر: مجموع الفتاوي (14/414) . (4) من ذلك قول عكاشة بن محصن رضي الله عنه عندما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفا يدخلون الجنة بلا حساب قال: ادع الله أن يجعلني منهم. والحديث في البخاري ومسلم, وقول أم سليم: يا رسول الله خادمك أنس ادع له. رواه البخاري, وقول المرأة التي كانت تصرع يا رسول الله أدع الله لي, وآخر المر سألته الدعاء بألا تنكشف عند الصرع فدعا لها رواه البخاري.. انظر: الدر النضيد في إخلاص التوحيد ص (84-45) .

سؤالها في حياته شركا لسد بابه, بل لم تسأل ذلك الصحابة, فلا ريب في جواز ذلك ولا إشكال, وليس للمقال فيه مجال. وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فهو مما لا سبيل إليه, والطرق دونه مسدودة, وما يتشبث به المخالف للصواب من موضوعات الأدلة وضعافها مردودة, لا تقاوم قواطع النصوص ولا تعارض براهين المنع المنصوص, على استواء العموم في ذلك والخصوص. وحاصل التحقيق في إيضاح هذه الطريق أن نقول: اعلم أن الشفاعة كالاستغاثة محض حق لله تعالى, لا خلاف فيه بين أهل الحق في ذلك ولا نزاع, ولا عبرة بخلاف أهل الزيغ والابتداع, الذين يحرفون الكلم على خلاف مراد واضعه, ويضعون على وفق أهويتهم لا على وفق مواضعه, بل يبتدعون الأقوال, ويخترعون شبه الضلال. قال الله تعالى: {مَا لكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (السجدة: من الآية 4) وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ليْسَ لهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (الأنعام: من الآية 51) وقال جل جلاله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: من الآية 44) وغير ذلك من الآيات. فإذا تقرر أنها من خالص حق رب العالمين, وأنها داخلة في جملة أنواع الدين, الذي قضاه وأمر به وأوجبه لنفسه دون البرية أجمعين. كما قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: من الآية 23) وقال جل جلاله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (يوسف: من الآية 40) وقال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّين} (غافر: من الآية 65) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ} (البينة: من الآية 5) امتنع صرفها لغيره, فلا يجوز صرفها لرسول ولا نبي, ولا ملك مقرب

ولا ولي, لأن ذلك من الشرك الجلي, إلا أن الدليل القاطع خص عموم النهي بالأموات لقيام المانع, ودل على أن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه وكذلك الاستشفاع, كل منهما جائز من غير منازعة ولا دفاع, وأنهما خارجان من عموم الامتناع. قال الله جل جلاله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: من الآية 15) . وقال تعالى: {وَلوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لهُمُ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء: من الآية 64) . فإن قيل: إذا كانتا من أنواع العبادات, فلم اختص الجواز بالأحياء دون الأموات, والأصل العموم والمساواة؟! (1) . قلنا: لا نسلم بكون صدور ذلك عبادة, ولا يواطئ لسان أحد في ذلك اعتقاده, حتى يتسنى على ذلك الاعتراض, ويلزم الإيراد والانتقاض. وغاية ما في ذلك, ونهاية ما هنالك, لسالكي هذه المسالك, التوصل إلى التوسل بما يقدرون عليه, وبالدعاء لا التوسل بالذوات, وهذا مقدور عليه في الحياة دون الممات, ولو كان هذا أمرا محظورا, وحجرا في حال الحياة محجورا, وشركا برب المشارق والمغارب, وكفرا موردا لسوء العواقب, وموقعا في مهواة المعاطب, لعتب عليه الصلاة والسلام على سواد من قارب, حين طرق قوله أسماعه, فكن لي شفيعا يوم لا ذو

_ (1) انظر: صيانة الإنسان ص (211-239-245) البروق النجدية ص (82-140) الضياء الشارق ص (453و553) .

شفاعة (1) , ولمنع عليه الصلاة والسلام غيره من الصحب الكرام. فإن قيل: إن الرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أحياء في القبور, ونبينا صلى الله عليه وسلم له المزية عليهم, فكيف يكون سؤاله شركا محظورا؟ (2) . قلنا: هنا ضلت الأفهام, وزلت الأقدام, وصار لها على المحظور إقدام, ودخل هذا الالتباس في قلوب أناس من المشهورين بالعلم والمنطق والذكاء والفهم, فلهجوا بذلك بالأشعار, من غير تأمل ولا إشعار, ولا تدبرا لقول واستبصار, فطفحت الأفهام, عن مدارك الأحكام. وحاصل الجواب بإيجاز من غير إطناب: أن هذه الحياة المقررة, قد ذكرها الله تعالى في كتابه مكررة, فليس فيها ارتياب ولا إنكار, والفاعل المختار يتصرف كيف يشاء بما تقصر عن الإحاطة به الأفكار, وقدرته جل وعلا لا تحيط به العقول, فلا يسوغ إلا الإيمان بما أخبر به وإتباع النقول, والتمسك بما أنزل إلينا من النور, الذي هو شفاء لما في الصدور, وهو المنزل بالحق حكما للناس, فيما وقع فيه الاختلاف والإلباس, فهذه الحياة التي أخبر بها الله تعالى وحكم, ليست كالحياة التي حكم بفنائها على من برأه من النسم, وأوجده من العدم, وأناط بها تكليف العباد, وافترقوا بسبب ذلك في المعاد, وإنما هي حياة غير معقولة لنا ولا مكيفة, بل هي حياة برزخية نؤمن بها كما أخبر به على أي صفة.

_ (1) رواه الطبراني في الكبير (7/95) ورقمه (4676) وانظر فتح الباري (7/182) . (2) انظر البروق النجدية ص 29-35, جلاء العينين ص 462, التوسل للألباني ص 137, شرح النونية للهوامش (2/4-22) وشرح ابن عيسى للنونية (2/171) والصواعق المرسلة ص 81, دعاوى المناوئين ص 246.

ومن المعلوم أن الموت انتقال من دار إلى دار, ومن حال إلى حال, ونعوذ بالله من حال أهل النار, وأن أرواح الأنبياء والشهداء, والصديقين والسعداء, في الرفيق الأعلى قرارها, ومسرحها رياض الجنات وأنوارها, وروحه الشريفة صلى الله عليه وسلم في أعلى مكان, من تلك الجنان, في جوار الرحمن, فتلك الأرواح قد فارقت الأشباح, ولزمت الملأ الأعلى ليس لها عنه من براح {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (الفجر:28) وهذه والله هي العيشة الهنية, غير أن لها اتصالا بأجسامها السفلية, وبهذا الاتصال والتعلق منها بالأجسام يحصل النعيم في الضريح للأبدان, المصرح به في القرآن, ومنه يحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام رده على من سلم عليه السلام, فهذه الحياة لها شأن, وللحياة الدنيوية شأن أي شأن, ولو ساوت الحياة البرزخية, حقيقة الحياة الدنيوية, لزم مساواة الحادث للقديم, وتعالى عن ذلك الحي الباقي الوارث الحكيم, والمبين للأمة أحكام التنزيل, هو الذي تلقيت عنه هذه الأحوال كلها على الإجمال والتفصيل, وهو الذي بين شفاعة الأنبياء والمرسلين, والشهداء والملائكة والصالحين, وقد قاتل من تعلق بهؤلاء من المشركين, فهلا فرق في القضية بين طالب الشفاعة من الأصنام وطالبها من صفوة البرية, وما ذكر الله تعالى في كتابه من الآيات, إعلاما لنبيه صلى الله عليه وسلم بحصول حقيقة الممات, بخطاب التخصيص له والتعميم لسائر البريات, وإخباره عن نفسه بذلك, وأنه بشر لا بد من سلوكه في هذه المسالك, وطلب فاطمة رضي الله عنها الميراث (1) , واختلاف أصحابه

_ (1) رواه البخاري (2926) ومسلم (1759) .

في دفنه بعد تحققهم الموت (1) , وفي قتال أهل الردة (2) , وغير ذلك دليل على ما ذكرنا, فإذا كان أصحابه أعلم الأنام, بمدارك الأحكام, فكيف يسوغ منهم هذا الاختلاف, وهو حي في قبره كحياته بين أظهرهم؟. ولما وقع التنازع في بيعة أبي بكر رضي الله عنه, هلا رجعوا في ذلك إليه, وعرضوا ذلك كله عليه, ولم عدلوا إلى الاستشفاع بعده بدعاء عمه العباس (3) وتركوا سيد الناس؟ وما ذاك إلا لما أتوا من العلم, ومنحوا من الفهم, ورزقوا من الإتباع, وترك الأهواء والابتداع رضي الله عنهم أجمعين. هذا ما ظهر لي في تحقيق هذه المسألة وتقريرها, وكشف أسرارها وتحريرها, فعض عليها بالنواجذ والأنياب, فإنك قد لا تجده مسطرا في كتاب. ومن ذلك: تقبيل هؤلاء القبور والطواف بها, والتمسح ببنائها, وأخذ تربتها وأكلها, ونقلها للتبرك, وإيقاد النار والمسرج فيها, وشد الرحيل إليها, وإلقاء الخرق عليها وكل هذا من الأوضاع الجاهلية, التي غيروا بها الحنفية, ووضعوها للات والعزى, ورموا بها نصرا وعزا, حتى ظهر عليهم صلى الله عليه وسلم فلم يبق منهم ركزا, فمن اعتصم بكتاب الله وتمسك بسنة

_ (1) رواه ابن ماجة (1628) وأبو يعلى في مسنده (1/31) ورقمه (22) , من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/622-664. (2) رواه البخاري (1335) ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (964) من حديث أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى العباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا, وإنا توسلنا إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون".

رسوله صلى الله عليه وسلم , يعلم أن هذه الأمور كلها تضاد أمر الله ونهيه, وما جاء به رسوله من عنده, فإن الذي شرعه لنا الرسول, لا يجوز عنه العدول, وما زاد عليه باطل غير مقبول, فزيارة القبور التي أمر بها, وكان يعلم بها أصحابه إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, نسأل الله لنا ولكم العافية" (1) . والحكمة فيها: إنما هو تذكرة الآخرة, والإحسان إلى الميت بالدعاء له والترحم والاستغفار. ولذلك شرعت الصلاة للدعاء له والشفاعة فيه, فإذا كان هذا ما شرعه الله لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قبل دفنه, فبعد الدفن أولى, ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم2". فلهذا بدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم, فبدلوا الدعاء للميت بدعائه والشفاعة عند الله بطلب الشفاعة منه, وخصوا تلك القبور والمشاهد بالدعاء والعبادة. وقد وردت السنة بإبطال ذلك والتغليظ في الوعيد لمن فعله؛ لأن ذلك يصيرها أوثانا تعبد من دون الله. وإنما حملهم على ذلك الغلو في الصالحين وفرط محبتهم, وهذا هو الذين تغيرت به الحنفية من قديم الدهر وحديثه, وهو السبب في كفر بني آدم كما حكى الله تعالى عن قوم نوح قال تعالى: {قَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا

_ (1) رواه مسلم (249) بنحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه, ورواه احمد (6/180) من حديث عائشة رضي الله عنها. 2 رواه أحمد (5/218) والترمذي (218) وقال: حسن صحيح وصححه ابن حبان (6702) .

يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:23) فإن هؤلاء أسماء رجال صالحين ماتوا, فعكفوا على قبورهم, ثم صوروا تماثيلهم, ثم طال عليهم الأمد, فعبدوهم, قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" (1) وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم, إنما أنا عبد الله ورسوله". أخرجه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه (2) , وروى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد, اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (3) , فإذا كان هذا قبر سيد ولد آدم, ولحده أفضل من السماء والأرض, والنبي دعا ربه أن لا يجعله وثنا بسبب العبادة, فقد صرح أن من عبده أو دعاه أو عبد الله عنده, فقد صيره وثنا, فما بالك بغيره؟! وهذا فيه من التهديد البليغ والزجر الشديد ما ليس وراءه مزيد. وفي السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور, والمتخذين عليه المساجد والسرج" (4) .

_ (1) رواه أحمد (1/15-347) والنسائي (5/268) وابن ماجة (3029) من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما. قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/286) : (إسناده صحيح على شرط مسلم) . (2) رواه البخاري (3261) ولم أجده عند مسلم. (3) رواه مالك (85) في الموطأ مرسلا عن عطاء, ولكن يشهد له ما رواه أحمد (2/246) من طريق حمزة ابن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا, لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وهذا الإسناد حسن والله أعلم. (4) أخرجه الترمذي (320) والنسائي (2043) وأبو داود (3236) وغيرهم قال أبو عيسى, حديث ابن عباس حديث حسن أبو صالح هذا مولى أم هانئ بنت أبي طالب واسمه باذان ويقال باذام أيضا. والحديث فيه ضعف. انظر: السلسلة الضعيفة (1/395) .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود مرفوعا: "إن من شرار أمتي من تدركهم الساعة وهم أحياء, والذين يتخذون القبور مساجد" (1) . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه, فإذا اغتم بها كشفها فقال: وهو كذلك "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا, ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" (2) . وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي من ذلك. فروى مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل, فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا, ولو كنت متخذا من أمتي خليلا, لاتخذت أبا بكر خليلا, ألا وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد, إني أنهاكم عن ذلك" (3) . فنهى عليه الصلاة والسلام في مرض موته, ونهى وهو في السياق عن اتخاذ القبور مساجد. ومعلوم أن كل من كان يعبد فيه أو يدعى فيه, فقد جعل مسجدا, وهذا تحذير منه لأمته عن مشابهتهم اليهود والنصارى في ذلك, فتدركهم اللعنة؛ لأن اللعنة ليست خاصة باليهود والنصارى, بل من اتخذ القبور مساجد, وخصها بنوع من أنواع العبادة, فهو ملعون ولو لم يبني عليها مسجدا ولكن تشابهت قلوبهم {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورا}

_ (1) رواه أحمد (1/405) وابن حبان (6847) وصححه, وأبو يعلى (9/216) ورقمه (5316) . (2) رواه البخاري (425) ومسلم (531) . (3) مسلم (532) .

(الإسراء: من الآية 99) . ومن ذلك: صرفهم النذور إلى الأموات في القبور, وقد ثبت بالدليل القاطع أنه نوع من العبادة كما نص عليه الشارع وأنه حق لله تعالى, لا يصلح لغيره, فما يفعل عندها من التقرب بالعبادة والدعاء والنسك كله بدع شركية, وشرعة جاهلية, مخالفة لدين الإسلام, مشابهة لأفعال عبدة الأوثان والأصنام ولو كان قصد الناذر التقرب إلى الله بذلك, لم يجز فعله هنالك؛ لأن التقرب إلى الله بذبح نسك في مكان يذبح فيه للنصب شرك. ويدل على ذلك ما في سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانه, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هل فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال رسول الله: "أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله, ولا فيما لا يملك بن آدم" (1) . وروى الضياء في المختارة عن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعوا, فنهاه وقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا, ولا بيوتكم قبورا, وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم" (2) . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا, ولا تجعلوا قبري عيدا, وصلوا علي؛ فإن صلاتكم

_ (1) رواه أبو داود (3313) وقد صححه الحافظ في التلخيص الحبير (4/180) . (2) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/186) وإسماعيل القاضي (20) وابن أبي شيبة في مسنده كما في المطالب العالية (1/372) .

تبلغني حيثما كنتم" (1) . فهذا أمره صلى الله عليه وسلم ونهيه الذي أمرنا به وعدم مخالفته. قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: من الآية 7) . وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أم تي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة, ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري (2) . وهذا هديه وشرعه في زيارة القبور, وهدي السلف والخلف رضي الله عنهم أجمعين, الذين اقتبسوا من مشكاة أنواره, واقتدوا في جميع أقوالهم وأفعالهم بآثاره, ولقد وقعت بهم الحوادث, ودهمتهم الخطوب الكوارث, وألمت بهم مدلهمات النوائب, وحلت بهم غياهب المصائب, وأمطرت عليهم بالبلايا سحائب, ودرجت عليهم من الشدائد غياهب, من مقتل عثمان رضي الله عنه, ثم ما بعده من الفتن, وما حل بأهل المدينة في وقعة الحرة من المحن, واستباحة الدماء والأموال والفروج, ومع ذلك لم يكن لهم عن هديه صلى الله عليه وسلم خروج, ولا إلى سنن الجاهلية عدول وعروج, فلم ينقل عن أحد منهم أنه التجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استغاث به, أو دعاه واستنصر به, وإنما ذلك لعلمهم أنه نهى عن ذلك وحذر, وتوعد عليه ونذر, بين لهم وأخبر أنه من الشرك الأكبر. قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ

_ (1) رواه أبو داود (2042) وأحمد (2/367) وقال ابن تيمية في الاقتضاء ص (321) : (إسناده حسن ورواته ثقات مشاهير, لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه صاحب مالك فيه لين لا يقدح بحديثه) وصححه النووي في الأذكار ص (93) , وحسنه ابن عبد الهادي كما في قرة عيون الموحدين ص (118) . (2) رواه البخاري (6851) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَليْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر: من الآية 38) . وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس:106) وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} (يونس: من الآية 49} وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) وقوله في حديث (إنذاره عشيرته*) : "يا معشر قريش, اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا, يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا, يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا, يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت, لا؟ أغني عنك من الله شيئا" (1) . فمن أنار الله تعالى قلبه بأنوار الإيمان, وشرح صدره لقبول الحق والعرفان, اتضح له واستبان, ما وقع من الناس في الأزمان, عن القبور من العبادة والنسك وإيقاد النيران, وعند الأشجار والأحجار في سائر البلدان, ومن شاهد ما يفعل عن قبره الشريف, وما يفعل عند قبر كل صالح كالرفاعي (2) , وأحمد البدوي بمصر (3) , وعبد القادر (4) ومعروف

_ (1) رواه البخاري (2753) ومسلم (206) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) هو أحمد بن علي بن أبي الحسين الرفاعي الحسيني, موسس الطريقة الرفاعية, ولد في العراق سنة 12هـ بعد موت أبيه , فرباه خاله, وتفقه بواسط وتصوف, فانظم إليه خلق كثير لهم في اعتقاد مبالغ فيه, توفي بقرية أم عبيدة (بين واسط والبصرة) سنة 578?. انظر سير أعلام النبلاء (77921) وفيه مولده سنة 500هـ, والعلام 1/174, ومعجم المؤلفين. (3) هو أحمد بن علي الحسيني البدوي, صوفي ولد بفاس, وطاف البلاد, وعظم شأنه في مصر, وانتسب إلى جمهور كبير. توفي سنة 675هـ ودفن في طنطا. انظر: معجم المؤلفين 1/314. (4) هو عبد القادر بم موسى بن عبد الله الكيلاني أو الجيلاني, صوفي تنسب إليه الطريقة القادرية, ولد بكيلان سنة 470هـ ودخل بغداد, فسمع الحديث وتفقه, توفي سنة 561هـ. انظر: طبقات الأولياء ص 246, شذرات الذهب 4/198, معجم المؤلفين.

الكرخي (1) , وفي المشهد الذي يدعى أنه قبر علي وليس كذلك (2) , وما يفعل في البصرة وعند الزبير ببغداد, وما يفعل عند قبر ابن عباس والمحجوب (3) وأبي طالب, وما كان يفعل في مشاهد الأحساء قبل هذه الأيام, وبلدان فارس وعمان, ومشاهد اليمن وكل بلاد إلا ما شاء الله تعالى, علم أن هذا فسخ لدين الحق والهدى, ونسخ لبروده المحكمة السدى, ورفع لقواعد الشرك والضلال والردى, وذلك لطول العهد بلوامع الشريعة الغراء وبعد المدى وتيقن أن هذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: "بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ, فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" (4) وفي آخر: "الذين يصلحون ما أفسد الناس" (5) . وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ووعد, وتطاول على غربة الإسلام المد, فلا يمضي قرن إلا خلفه من هم أسوء من الأولين حالا, وأعظم فتنة وأقبح أفعالا, والموفق فيه من رزقه الله تعالى فيه إخلاص الدين, وإسلام وجهه وإحسان عمله لرب العالمين, وعرج فيه على معراج التسليم والصبر, إلى منهاج الاحتساب للأجر.

_ (1) معروف بن فيروز الكرخي أبو محفوظ, ولد من أبوين نصرانيين, وكان من موالي علي الرضا بن موسى الكاظم, ومنه أخذ العهد ثم صار بوابا لموسى. توفي سنة 200هـ. انظر القشيرية ص 427, طبقات الأولياء ص 493. (2) انظر: مجموع الفتاوى 27/447 و 493. (3) وبحثت عن ترجمة له, فلم اعثر على شيء. (4) رواه أحمد (4/73) والطبراني في المعجم الكبير 17/16 ورقمه 11. (5) رواه الترمذي (2630) وقال: حسن صحيح.

فقد صح عمن له غاية الشرف ونهاية الفخر: "يأتي على الناس زمان المتمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر" (1) . وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأتي على الناس زمان للعامل فيه أجر خمسين منكم" (2) . فلأجل غربة الإسلام والدين, وإتباع سنن الغاوين والمشركين, وخسوف بدر الحق وكسوف شمسه, وتغيير الصراط المستقيم وطمسه, يكفر من قام يدعو إلى التوحيد, ويرمي بالخروج من ملة الإسلام من غير ترديد, ويحكم عليه بالبدع والتضليل, من غير برهان ولا دليل {وَمَا اخْتَلفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: من الآية 19) . ولكن الله وفق من شاء من الخلق لما اختلف فيه من الحق, فأرشد إلى الخير والهدى, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, ويخذل من يشاء بعدله القويم, وقضائه السوي الحكيم, ويستحب العمى على الهدى والجحيم على النعيم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة:32) {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلمُونَ} (الروم:6) .

_ (1) رواه الترمذي (2260) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وعمر بن شاكر قد روى عنه غير واحد من أهل العلم. (2) رواه الترمذي (3058) وقال: هذا حديث حسن غريب. وأبو داود (4341) وابن ماجة (4041) وابن حبان (385) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. انظر كتاب "صفة الغرباء" ص 198.

الفصل السابع: في الأمر بالإ‘عتصام بكتاب الله المبين والتمسك بحبله المتين وذم الإفتراق.

الفصل السابع: في الأمر بالاعتصام بكتاب الله المبين, والتمسك بحبله المتين, وذم الافتراق في الدين, وإخبار الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم , بافتراق أمته المجيبين, على ثلاث وسبعين, وأنها كلها في النار مع المكذبين, إلا من كان على سنته وسنة أصحابه المهندين صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين, وحشرنا في زمرتهم يوم الدين. قال الله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لكُمْ آيَاتِهِ لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 102-103) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِليْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء:175-175) وقال: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام:126) . وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) وقال تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} (الأنعام: من الآية 157) . وقال جل جلاله: {كِتَابٌ أُنْزِل إِليْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 2-3) . وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِل مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: من الآية 157) . وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا

فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58) . وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} (يونس: من الآية 108) وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيل كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: من الآية 111) . وقال جل جلاله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: من الآية 1) وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية 89) . وقال عز وجل: {قُلْ نَزَّلهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:102) . وقال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء:9) . وقال سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَل عَلى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلمْ يَجْعَلْ لهُ عِوَجَا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} (الكهف:3-1) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّل الْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالمِينَ نَزَل بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ} (الشعراء: من الآية 194-192) وقال عز وجل: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ} (العنكبوت:49) وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الزمر: من الآية 55) وقال تعالى: {وَلوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لقَالُوا لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَليْهِمْ

عَمىً} (فصلت: من الآية 44) . وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: من الآية 213) . وقال جل جلاله: {وَمَا اخْتَلفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران: من الآية 19) . وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105) . وقال تعالى: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: من الآية 159) . وقال سبحانه وتعالى: {مُنِيبِينَ إِليْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: من الآية:31-32) وقال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِليْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِليْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِليْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: من الآية 13-14) . وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة:4) . عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" رواه أبو جعفر الطبري بسنده (1) .

_ (1) تفسير ابن جرير (4/31) ورواه أحمد (3/14, 17, 26, 59) .

وروى ابن مردوية من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين, وهو النور المبين, وهو الشفاء النافع, عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه" وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك (1) . وروى مسلم في صحيحه من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا, ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم, ويسخط لكم قيل وقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال" (2) . وأخرج الإمام أحمد بسنده عند عبد الله بن لحي (3) قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إ ن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة , يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة, وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه, لا يدع فيه عرقا ولا مفصلا إلا دخله, والله, يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغير من الناس أحرى أن لا يقوم به" وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي بسنده (4) .

_ (1) انظر: تفسير ابن كثير (1/390) . الدارمي (2/431) وعبد الرزاق (3/375) . (2) رواه مسلم (1715) . (3) في الخطوط (يحيى) والصواب ما أثبت كما في المسند وغيره. (4) رواه أحمد (4/102) والحاكم في المستدرك (1/208) والطبراني في الكبير (19/377) ومسند الشاميين (2/108) .

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران: من الآية 102) . قد تقدم الكلام على التقوى, وذكرنا ما فيه الكفاية. وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل وابن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: من الآية 16) وعن ابن عباس: أنها لم تنسخ, ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم, ويقومون بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. (1) وفي قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: من الآية 102) الأمر بالمحافظة على الإسلام في حال الصحة والسلامة؛ ليموتوا على ذلك؛ لأن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه, ومن مات على شيء بعث عليه. وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر, ويأتي إلى الناس ما يجب أن يؤتى إليه" رواه الإمام أحمد (2) . وعنه صلى الله عليه وسلم: "لو قطرت من الزقوم قطرة, لأمرت على أهل الأرض معيشتهم, فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم" هكذا رواه أصحاب السنن (3) . وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} (آل عمران: الآية 103) أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يعتصموا بحبله المتين, وهو القرآن المبين الذي نزل به

_ (1) انظر: تفسير ابن كثير (2/73) . (2) رواه أحمد (2/192) . (3) رواه احمد (1/338) وابن ماجة (4325) عن ابن عباس رضي الله عنه.

الروح الأمين, وحفظه عن تحريف المبطلين, وسماه حبلا على سبيل الاستعارة المرشحة, كما هو منصوص على ذلك عند علماء البيان, ووجه ذلك انه استعار بالحبل من حيث إنّ التمسك به سبب النجاة من الردى, كما أن التمسك بالحبل القوي سبب للسلامة عن التردي, ورشح ذلك بالاعتصام لأجل الوثوق به والاعتماد عليه. (1) وعن علي مرفوعا في صفة القرآن قال: "هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم" (2) (3) . وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث النواس بن سمعان (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة, وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا, ولا تعرجوا, وداع يدعو من جوف الصراط, فإذا أراد أن يفتح من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه, والصراط الإسلام, والسوران حدود الله, والأبواب المفتحة محارم الله, وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله تعالى, والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم" (5)

_ (1) رواه الترمذي (2960) أحمد (1/91) قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وإسناده مجهول وفي الحارث مقال. (2) انظر: تفسير ابن كثير (2/73) . (3) انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/175) . (4) في المخطوط "العرباض بن سارية" وهو خطأ, والصواب ما اثبت كما في الترمذي. (5) رواه أحمد (4/182) والترمذي (2859) وقال حديث غريب, والحاكم (1/144) وقال: صحيح على شرط مسلم, ولا أعرف له علة ولم يخرجاه. والبيهقي في سننه (6/361) . ولم أجده عند النسائي.

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يمثل القرآن يوم القيامة رجلا, فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره, فيتمثل له خصما فيقول: يا رب, حملته إياي فبئس حامل, تعدى حدودي, وضيع فرائضي, وركب معصيتي, وترك طاعتي, فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال شأنك به, فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار, ويؤتى بالرجل الصالح, كان قد حمله, وحفظ أمره, فيتمثل خصما دونه فيقول: يا رب, حملته إياي فخير حامل, حفظ حدودي , وعمل بفرائضي, واجتنب معصيتي, واتبع طاعتي, فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقول: شأنك به, فيأخذه بيده فيما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق, ويعقد عليه تاج الملك, ويسقيه كأس الخمر" (1) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "القرآن شافع مشفع, وماحل مصدق, فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة, ومن جعله خلفه قاده إلى النار" (2) . وعنه قال: يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه, فيكون قائدا إلى الجنة, ويشهد عليه, فيكون سائقا إلى النار (3) . وقال أبو موسى الشعري: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرا, وكائن عليكم وزرا, فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن؛ فإنه من اتبع القرآن هبط به إلى رياض الجنة, ومن اتبعه القرآن زج في قفاه, فقذف في النار. (4) .

_ (1) رواه عبد الرزاق (3/372-374) وقال الهيثمي في المجمع (7/164) رواه الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك. (2) أخرجه الدارمي (2/434) . (3) رواه عبد الرزاق (3/372-374) وقال الهيثمي في المجمع (7/164) رواه الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك. (4) رواه الدارمي (2/433) .

قلت: وفي مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان" الحديث. وفيه "القرآن حجة لك أو عليك" (1) وفيه أيضا: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما" (2) . وفي الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء شرفا يتباهون بهو وإن بهاء أمتي وشرفها القرآن" (3) . وخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله, فليس تاج الكرامة, ثم يقول: يا رب زده, فيلبس حلة الكرامة, ثم يقول: ارض عنه فيقول: رضيت عنه, ثم يقال له: اقرأ وارق, ويعطى بكل آية حسنة" (4) . وقوله في حديث ابن مسعود: "وماحل مصدق" أي خصم مجادل مصدق. وقوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} هذا أمر من الله تعالى لعباده بلزوم الجماعة, ونهي لهم عن الفرقة التي هي منشأ نبذ الدين والإضاعة, بعد ما أمرهم جل جلاله بالتمسك والاعتصام بالسبب المتين, اتبعه بالنهي عن ضده؛ لأنه الخالق للدين. وهو الداء العضال الذي وقع الاستيصال بالأمم السالفة, ثم بعدهم دب في الأمم الخالفة, فصارت به ثاوية تالفة. وقد وردت أحاديث كثيرة بالأمر بالاجتماع والائتلاف, والنهي عن التفرق والاختلاف, والآيات والآثار في ذلك كثيرة, فلا نطيل بتعدادها؛

_ (1) رواه مسلم (223) . (2) رواه مسلم (817) . (3) حلية الأولياء (2/175) . (4) رواه الترمذي (2915) وقال: حسن صحيح.

لكونها معلومة شهيرة. وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: من الآية 103) ذكرهم جل جلاله نعمته وأجزل منة؛ لأنها الهداية والتوفيق للإسلام, الذين هو السبب في دخول الجنة, وأعقب النهي عن الفرقة عن الحق كما وقع لأهل الكتاب, وكما جرى بينهم في الجاهلية من المحاربة والاستلاب بتذكيرهم نعمته العظيمة؛ ليكون أنفع لقبول الذكرى, وأقمع عن تعاطي عادتهم القديمة, وأردع في الكف وأحرى. وهذه الآية نزلت في الأوس والخزرج؛ فإنه كانت بينهم في الجاهلية حروب كثيرة وعداوة شديدة وضغائن وأحوال, طال بينهم بسببها الوقائع والقتال, فلما جاء الإسلام, ودخل فيه من دخل منهم اضمحل ذلك كله وزال, وصاروا متواصلين متحابين في الله إخوانا, وعلى أعدائهم من الكفار أعوانا كما وصفهم الله تعالى بذلك في كتابه, وأفصح به في جليل خطابه, فقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ} (لأنفال: من الآية 63) (1) وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (آل عمران: من الآية 103) أي: مشفقين على الوقوع في السعير, لما لهم فيه من الذنب الكبير, إذ لو ماتوا وهو كفار لكان مأواهم النار وبئس المصير. وقوله: {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} أي: بسبب الهداية للإسلام والإيمان, ذكرهم جل جلاله ذلك في سياق الامتنان, فأخبرهم أنه قد أزال ما بينهم من التقاطع والعداوة والأضغان, {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} , فصاروا يدا واحدة

_ (1) انظر: تفسير ابن كثير (2/74) .

على العدوان, وأنقذهم من الوقوع في مهواة النيران, وهداهم إلى ما يعقبهم الخلود في الجنان. وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لكُمْ آيَاتِهِ} أي: مثل ذلك التبيين يبين لكم دلائله, {لعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} أي: تدومون على الهدى, وتزدادون فيه. قيل: كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين, فوقع بين أولادهم العداوة, وتطاولت بينهم الحروب مائة وعشرين سنة, حتى أطفأها الله تعالى بالإسلام. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء:174) المراد بالبرهان: المعجزات, وبالنور: القرآن. أي جاءكم دلائل العقل, وشواهد النقل, فلم يبق عذر ولا حجة لأحد, ممن كفر وجحد. (1) قوله: {وهَذَا} الإشارة إلى ما ذكر من البيان, الذي جاء به القرآن. {صِرَاطُ رَبِّكَ} أي: طريقه الذي ارتضاه, وشاء بحكمته واقتضاءه, {مُسْتَقِيماً} (الأنعام: من الآية 126) ليس فيه اعوجاج, بل هو عدل مطرد المنهاج يعني: أن الذي شرعناه لك يا محمد هذا القرآن هو صراط الله المستقيم, كما في حديث الحارث عن علي رضي الله عنه في نعت القرآن: "وهو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم" الحديث. وقد رواه أحمد والترمذي بطوله (2) (3) .

_ (1) انظر: تفيسر أنوار التنزيل (1/259) . (2) رواه الترمذي (2960) أحمد (1/91) قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وإسناده مجهول, وفي الحارث مقال. (3) انظر: تفسير ابن كثير (3/329) بتصرف.

وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الإشارة فيه إما أن تكون إلى جملة القرآن, أو إلى ما ذكر في هذه السورة من البيان, وهي من جملته مع أنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. (1) وقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} أمر من الله تعالى بلزوم طريقه, والأخذ بما جاء به نهيا وأمرا؛ لأن من خالف طريقه, ولم يقتبس من نوره فقد جاء ظلما وكفرا. {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} أي: الأديان المختلفة, والطرق الضالة التابعة للهوى, فإن من أخطأ سبيل القرآن فقد هوى؛ لان سبيل الحق واحد, ومقتضى حجته كذلك, ومقتضى الهوى متعدد, وسبله متعددة المسالك ولهذا وحد سبيل الحق وجمع ضده قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية وفي قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية 13) قال: "أمر الله تعالى المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الفرقة والاختلاف, وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله تعالى". (2) وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما, وخط عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه السبل ليس فيها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه , ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: من الآية 153) . (3) وروى أيضا بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا

_ (1) انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/338) . (2) انظر: تفسير ابن كثير (3/360) رواه ابن ماجة (1/190) . (3) رواه أحمد (1/465) .

جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا هكذا أمامه فقال: "هذا سبيل الله" , وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال: "هذه سبل الشيطان" , ثم وضع يده في الخط الأسود ثم تلا هذه الآية. وكذا رواه ابن ماجة (1) . وروى ابن جرير بسنده عن أبان أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد في أدناه, وطرفه في الجنة, وعن يمينه جواد وعن شماله جواد, وثم رجال يدعون من مر بهم: فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة, ثم قرأ ابن مسعود الآية (2) . وخرج ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث {قُلْ تَعَالوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَليْكُمْ} (الأنعام: من الآية 151) حتى فرغ من ثلاث الآيات قال: ومن وفى بهن فأجره على الله, ومن انتقص منهن شيئا, فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبة له, ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه" (3) . وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} يعني: أن القرآن فيه بركة لمن آمن به ومغفرة للذنوب, {فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: من الآية 153) أي: اعملوا بما فيه من المر والنهي حتى تنالوا كل مطلوب, وفيه الدعوة إلى إتباع القرآن, وتعينها على أهل الإيمان. وقوله: {قدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأنعام: من الآية 157) .

_ (1) رواه احمد (3/397) وابن ماجة (11) . (2) تفسير ابن جرير (12/230) ورقمه 14170. (3) انظر: تفسير ابن كثير (3/362-363) والحاكم (2/318) وصححه.

أي: حجة واضحة تعرفونها, قيل: المراد به: محمد والقرآن. وقال: {جَاءَكُمْ} ولم يقل جاءتكم؛ لأنه انصرف إلى البيان, مع أن الفعل إذا تقدم وكان الفعل مؤنثا مجاذيا جاز فيه التأنيث والتذكير, كما هو في كتب العربية موضح التقرير. {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} أي: جاءكم ما فيه البيان, وقطع الشبهات عنكم والارتياب, وهدى لكم من الضلالة, ورحمة من العذاب. وقوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِل إِليْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (الأعراف: من الآية 2) يعني: هذا القرآن أنزل إليك يا محمد فلا يقعن في قلبك شك وارتياب, إنه منزل من رب الأرباب, وقد وجه غليه الخطاب, والمراد غيره كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِليْكَ فَاسْأَلِ الذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (يونس: من الآية 94) , وقيل المعنى: فلا يضيقن صدرك بتكذيبهم. وأصل الحرج في اللغة: الضيق. وقوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ} أي: أنزل إليك, لتنذر الكفار. {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} لأنهم أهل البصائر والاعتبار. ثم قال جل جلاله مخاطبا عباده: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأعراف: من الآية 3) أي: اعملوا به, فإن عقابه السعادة, واقتفوا آثار نبيكم الذي أنزل عليه, وسابقوا إلى هدية وسارعوا إليه, {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: من الآية 3) أي: لا تتخذوا من دونه أربابا, فمن اتخذهم فهو أشد الناس عذابا, وأسوؤهم يوم القيامة مآبا, {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: من الآية 116) {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف:106) . قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} (: من الآية 157) أي: صدقوه وأقروا بنبوته, {وَعَزَّرُوهُ} أي: عظموه بتقويته, {وَنَصَرُوهُ} بالسيف والسنان

{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِل مَعَهُ} يعني: القرآن, وقوله: {مَعَهُ} راجع ومتعلق بقوله: {وَاتَّبَعُوا} أي: اتبعوا النور المنزل, مع إتباع النبي المرسل, فيكون فيه إشارة إلى إتباع الكتاب والسنة, {أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (الأعراف: من الآية 157) , الفائزون بالرحمة الأبدية في الجنة (1) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس: من الآية 57) يعني: قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية والنظرية: أما الحكمة العملية: فهي الكاشفة عن محاسن الأعمال وقبائحها, والمرغبة في المحاسن والفضائل, والزاجرة عن القبائح والرذائل. أما الحكمة النظرية: فهي الشفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد, وهدى إلى الحق واليقين والرشاد, ورحمة للمؤمنين نجوا بها من دركات العذاب, وفازوا بها يوم الحساب, أو يقال خرجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان, وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران, بمصاعد من درجات الجنان (2) . {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} يعني: الإسلام {وَبِرَحْمَتِهِ} يعني: القرآن. قال مقاتل بن حيان وروى عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري والضحاك ومجاهد أنهم قالوا: بفضل الله: القرآن, وبرحمته: الإسلام قاله غير واحد (3) . {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي: بالقرآن والإيمان, {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}

_ (1) انظر: أنوار التنزيل (3/372) . (2) انظر: أنوار التنزيل (1/451) . (3) انظر: تفسير ابن جرير (11/150) .

(يونس:58) , وما يقتنيه من الحطام كل إنسان. قوله تعالى: ِ {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} (يوسف: من الآية 111) يعني: ما كان هذا القرآن, البالغ في الإعجاز والبيان, حديثا مفترى يقدر على التسلق عليه الإنس والجان. {قُلْ لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) . {وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يونس: من الآية 37) من الكتب الإلهية, {وَتَفْصِيل كُلِّ شَيْءٍ} (يوسف: من الآية 111) من الأمور الدنيوية, فكل ما يحتاج في الدين إليه, لابد وأن يوجد فيه سند يدل عليه. وهذا من الكفر والضلال, {وَهُدىً وَرَحْمَةً} (يوسف: من الآية 111) بها خير الدارين ينال. وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً} (النحل: من الآية 89) أي: بيانا بليغا {لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: من الآية 89) من أمور الدين, وما تتوقف عليه مصالح المسلمين. قال مجاهد: "ما يسأل الناس عن شيء إلا في كتاب الله تعالى تبيانه" (1) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كل شيء علمه في القرآن إلا أن أراء الرجال تعجز عنه {وَهُدىً وَرَحْمَةً} (النحل: من الآية 89) للجميع, وإنما حرمان المحروم من تفريطه, {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية 89) خاصة بالجنة" (2) . قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلهُ رُوحُ الْقُدُس} (النحل: من الآية 102) يعني: جبريل عليه السلام, وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر, مثل قولهم: حاتم الجود.

_ (1) لم أجد هذا القول لمجاهد, وقول مجاهد كما في كتب التفسير هو: (كل حلال وكل حرام) ولعل هذا القول لابن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: "قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء" كما في تفسير ابن كثير. (2) انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/567) .

{مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل: من الآية 102) . ملتبسا بالحكمة, {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (النحل: من الآية 102) على الإيمان بأنه كلامه, فإنهم إذا سمعوا الناسخ, وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة, رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم. {وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية 102) المنقادين لحكمه العدل, وقضائه الفصل. (1) وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} (العنكبوت: من الآية 48) أي: وما كنت تقرأ قبل هذا القرآن, الذين تسنم من قمة البلاغة وقمة الفصاحة أرفع مكان. {مِنْ كِتَابٍ} حتى يتعلق المرتاب بعلاقة الشبهة والارتياب. {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي: ولم تكن تكتب شيئا بيدك, وهو محو للشبهة الزائفة, وتقرير للمعجزة النائفة ولكن كما قال: {َمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس: من الآية 101) {وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: من الآية 82) . فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة على من لم يعرف قبله بالقراءة والخط والتعليم خارق للعادة. {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: من الآية 48) أي: ولو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين, وسماهم لكفرهم مبطلين. وقيل: لارتاب أهل الكتاب لوجدناهم نعتك على خلاف ما في كتبهم مقرر, فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر. {بَلْ هُوَ} أي: القرآن {آيَاتٌ} دلالات {بَيِّنَاتٌ} وبراهين ساطعات, وحجج {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} واضحات, وعن التحريف

_ (1) انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/570) .

محفوظات, {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت:49) إلا المتوغلون في الظلم والمكابرة, بعد وضوح دلائل الإعجاز الباهرة. وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الزمر: من الآية 55) المراد به: القرآن؛ لأنه أحسن ما أنزل من كتاب, وأوثق ما يتوصل به إلى النجاة من الأسباب, فاتبعوا ما أمركم به ونهاكم عنه, ولا تلتمسوا ما تحتاجون له في دينكم إلا منه. وقوله سبحانه وتعالى: {وَلوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أي: ولو أنزلناه بلسان العبرانية, لم تنفك تعنتاتهم الشيطانية, ولم تبرح أهويتهم النفسانية. {لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ} أي: هلا بينت بلسان نفقهه, فبين لنا الصواب, ويزول عنا الارتياب. {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أي: أكلام أعجمي ومخاطب عربي, فيشتد تكذيبهم للنبي. والأعجمي: من كان من العجم, وإن كان فصيحا, ويقال أيضا لمن لا يفهم كلامه (أعجمي) وإن كان من العرب, والمقصود: إبطال مقترحهم باستلزام المحذور, والدلالة على أنهم لا ينفكون عما كانوا عليه من الإعراض والنفور. {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً} إلى الحق القويم والصراط المستقيم أو يقال: هدى للمتقين من الضلالة. {وَشِفَاءٌ} لما في الصدور من الشك والشبهة والجهالة. {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي: ثقل وصمم. {وَهُوَ عَليْهِمْ عَمىً} (فصلت: من الآية 44) وذلك لتصامهم عن سماعه, وتعاميهم عما يريهم من الآيات, بحيث لم يكن لهم بها ارعواء ولا التفات.

قوله جل جلاله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ} (البقرة: من الآية 213) . روى ابن جرير بسند عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون, كلهم على شريعة من الحق, فاختلفوا, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين". قال: وكذلك في قراءة عبد الله: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا) . وكذلك كان أبي بن كعب يقرؤها (1) . والمعنى: أن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام, فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام, فكان أول رسول إلى أهل الأرض, ولهذا قال: {وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: من الآية 213) أي: بعد ما قامت عليهم الحجج, وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: من الآية 213) . روي عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة, نحن أول الناس للجنة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا, وأوتيناه من بعدهم, فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه, فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه, فهدانا الله له, فالناس لنا فيه تبع, فغدا لليهود, وبعد غد للنصارى" (2) . وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الآية , اختلفوا

_ (1) تفسير ابن جرير (2/334) . والحاكم (2/262) وصححه. (2) روى البخاري الشطر الأول من حديث أبي هريرة (836) ومسلم (855) . وانظر: تفسير عبد الرزاق (1/82) .

في يوم الجمعة, فاتخذ اليهود يوم السبت, واتخذ النصارى يوم الأحد, فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. (1) واختلفوا في القبلة, فاستقبلت النصارى المشرق, واليهود بيت المقدس, فهدى الله أمة محمد للقبلة. واختلفوا في الصلاة, فمنهم من يركع ولا يسجد, ومنهم من يسجد ولا يركع, ومنهم من يصلي وهو يمشي, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم, فقالت اليهود: كان يهوديا, وقالت النصارى: كان نصرانيا, وجعله الله حنيفا مسلما, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى, فكذبت به اليهود, وقالوا لأمه بهتانا عظيما, وجعلته النصارى إلها وولدا, وجعله الله روحه وكلمته, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. وقال الربيع بن أنس: في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: من الآية 213) . "عند الاختلاف كانوا على ما جاء به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, قاموا على المر الأول قبل الاختلاف, واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة, شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون, أن رسلهم قد بلغوهم, وأنهم قد كذبوا رسلهم. وكان أبو العالية يقول:

_ (1) تفسير عبد الرزاق (1/83) .

في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن (1) . وقوله {بِإِذْنِهِ} أي: بعلمه, وبما هداهم له, {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} من خلقه بفضله وكرمه {إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيم} , يفضي به إلى جنات النعيم, وله الحكمة التامة الباهرة, الحجة البالغة القاهرة. وفي هذه الآية الكريمة من الدلالة على ذم الافتراق, ومدح الاجتماع والاتفاق, ما لا يخفى على من له الفهم أدنى مذاق. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية 159) أي: فرقوا دينهم الذي هو الإسلام, الذي ارتضاه الله تعالى واختاره, ورفع في السماوات والأرض شأنه ومناره. {وَكَانُوا شِيَعاً} لأهويتهم الغاوية متبعون, وكل حزب بما لديهم فرحون. {لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} من إصلاح الحال, حتى يحسن لهم المآل, وإنما عليك بلاغ الرسالة, وهذا منسوخ بآية القتال لأهل الكفر والشرك والضلالة. {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّه} (الأنعام: من الآية 159) مفوض إليه؛ لأن بيده التوبة والعذاب, فلا يصلح أن يكون ذلك إلا للإله, {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} , ثم يوم القيامة يرون ما يوعدون, ويجازيهم بما كانوا يعملون. قال المجاهد والضحاك والسدي وقتادة: "هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى, اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا, فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا} . (2) وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ (1) انظر فيما تقدم تفسير الطبري (4/285) . (2) انظر فيما تقدم تفسير الطبري 4/285.

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} إنهم الخوارج" (1) . وروى ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات, وأهل الضلالة من هذه الأمة (2) . وقال شعبة عن مجالد, عن الشعبي عن شريح عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} هم أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة" (3) . والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين محمد (وكان مخالفا له, فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله, وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق, فمن اختلف وكان شيعا, كان كذلك كأهل البدع والنحل والضلالة, فإن الله قد برأ رسوله مما هم فيه, وهذا لقوله: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} (الشورى: من الآية 13) فكل متمسك بشرع بعد الرسول فجهالات وضلالات وأراء وأهواء, فالرسول بريء منه. (4) قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِليْهِ} (الروم: من الآية 31) أي مقبلين عليه بالإقلاع عن الكفر

_ (1) رواه ابن ماجة (173) وابن أبي عاصم في السنة ص 424, قال ابن كثير في تفسيره: "وروى عنه مرفوعا ولا يصح". (2) قال ابن كثير: "هذا إسناد لا يصح؛ فإن عباد بن كثير متروك الحديث, ولم يختلق هذا الحديث ولكنه وهم في رفعه فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث وهو ابن أبي سليم عن طاووس عن أبي هريرة في الآيةأنه قال: نزلت في هذه الأمة". (3) قال ابن كثير: "رواه ابن مردودية وهو غريب ولا يصح رفعه". (4) هذا ترجيح الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.

والرجوع إلى التوحيد, {وَاتَّقُوهُ} واحذروه كما قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} فالتقوى أفضل لباس العبيد. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أداؤها في جميع أوقاتها بإخلاصها له كما شرعت. قوله: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نهي من الله تعالى لرسوله وأمته أجمعين أن يتبعوا سنن المشركين, الذين آثروا الهوى, فآل بهم إلى الافتراق في الدين. {من الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي: الإسلام الذي هو دين واحد. {وَكَانُوا شِيَعاً} كل شيعة اختارت لها إماما قائدا, فتابعته على تأييد دينها الفاسد, وسيوردهم يوم القيامة شر الموارد, {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} (هود:98) . {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: من الآية 32) كل أهل دين بما عندهم راضون مسرورون, ظنا منهم انهم إلى الحق مهتدون {وَسَيَعْلمُ الَّذِينَ ظَلمُوا أَيَّ مُنْقَلبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: من الآية 227) . قوله سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ} أي: بين لكم الدين وهو الإسلام, واختاره لكم دينا وأكرمكم به, وهذا غاية الإكرام. {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} يعني: الذي أمر رسوله نوحا أن يستقيم عليه, وأن يدعو الناس إليه. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ} لتدعو إليه كافة العباد, وتجاهد من أبى عنه من أهل الشرك والإلحاد. {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أي: أمرناهم به, وهؤلاء هم أرباب الشرائع, وهم ألو العزم من الرسل. {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} أي: التوحيد بأن لا يشرك في عبادته سواه.

{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} لا تختلفوا, فمن اختلف فيه كانت النار مثواه, النهي عن الاختلاف إنما هو في الأصل, وأما فروع الشعائر فمختلفة كما قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} . {كَبُرَ عَلى الْمُشْرِكِينَ} أي: أهل مكة وغيرهم. {مَا تَدْعُوهُمْ إِليْهِ} من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. {يَجْتَبِي إِليْهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: يختار لديه من كان أهلا لذلك. {وَيَهْدِي إِليْهِ مَنْ يُنِيبُ} يرشده إلى سلوك دينه الذي هو أحسن المسالك. {وَمَا تَفَرَّقُوا} يعني: المم السابقة, وقيل: أهل الكتاب؛ لقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة:4) . قوله: {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: العلم بأن التفرق متوعد عليه, وأن الاجتماع في الدين هو المدعو إليه. وقيل: العلم بمبعث الرسول, فلم يجنحوا إلى التصديق والقبول {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسدا وعداوة, آلت بهم إلى الشقاوة. {وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} (يونس: من الآية 99) {وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلى الْكَافِرِينَ} (الزمر: من الآية 71) والأمر بإقامة الدين والاجتماع عليه, والنهي عن الاختلاف فيه والتفرق المشار إليه صريح في هذه الآية, والتي قبلها, فقبح الله شيع البدع والهوى, ما أضلها! قوله في حديث أبي سعيد: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" (1) سماه حبلا على سبيل الاستعارة يعني: أن كتاب الله تعالى هو السبب الوثيق الممدود, المدرك من تمسك به كل مقصود. وقال: "من السماء إلى الأرض" ولم يقل من الأرض إلى السماء؛ لأن

_ (1) رواه أحمد (3/59) , والحديث فيه عطية العوفي وهومتكلم فيه.

مبدأ إنزاله ومنها وغايته الأرض, وسيجاء به حجة بعد العرض. وقوله في حديث عبد الله: "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين" (1) يعني: القوي الذي لا يخشى على المستمسك به انفصام, ولا تنال الهلكة من له به اعتصام. وهذا تمثيل للخلق بما يفهمونه من الأسباب التي يتوصلون بها إلى المآرب, وإدراك المقصود والمطالب, وينجون بها من المعاطب. وحاصل الأمر: أن من في الدنيا مثله كمثل من وقع في بئر فيها من كل نوع من الآفات, فلا يمكنه الخروج منها والسلامة من آفاتها والنجاة إلا بحبل قوي وثيق, حتى يكون له السلامة طريقا, فكذلك الدنيا دار محنة, وفيها كل نوع من الآفات والفتنة, فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بأقوى الأسباب, وذلك كتاب الله الذي هو أعظم وأفخم كتاب. قوله: "وهو الشفاء النافع" أي: شفاء لما في الصدور من أدواء الضلالة, وأسقام السفة والجهالة. قوله: "عصمة لمن تمسك به" من الهلاك. قال جل جلاله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (طه: من الآية 123) . قواه: "ونجاة لمن تبعه" أي عمل بما جاء به من المر والنهي في أصل

_ (1) عبد الله ابن مسعود رواه عبد الرزاق عن ابن عيينة (3/375-376) ورواه الحاكم في (المستدرك) من طريق صالح بن عمر 1/555, وابن الجوزي في (العلل) من طريق ابن فضيل 1/101, ثلاثتهم عن إبراهيم الهجري به, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وأما ابن الجوزي فأعله بإبراهيم الهجري وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشبه من كلام ابن مسعود. وقد روي عنه موقوفا عليه كما هو عند الدارمي في سننه (3311) .

الدين وفروعه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "جمع الله تعالى في هذا الكتاب علوم الأولين والآخرين, وعلم ما كان وعلم ما يكون والعلم بالخالق جل جلاله وأمره وخلقه". قوله في حديث أبي هريرة: "إن الله يرضى لكم ثلاثا, ويسخط لكم ثلاثا, يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا" (1) أي: تعبدونه وحده بإخلاص على صواب, وقد قدمت الكلام على التوحيد والشرك, فليطلب في محله. قوله: "وأن تعتصموا بحبل الله جميعا" هذه مما أمر الله تعالى بها جميع العباد, ورضيها؛ لأنها سبب الاستقامة على المراد, وسبيل النجاة يوم المعاد. قول: "وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" مثل هذا ما رواه أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغلو عليهن قلب امرؤ مسلم: إخلاص العمل, ومناصحة ولاة المر, ولزوم جماعة المسلمين" (2) . وروى مسلم عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" قالوا: لمن؟ قال: "لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين, وعامتهم" (3) . وقد أوجب الله النصيحة على المسلمين لأئمتهم, كما أوجب عليهم النصيحة له ولكتابه ولرسوله. فالنصيحة لله تعالى: صحة الاعتقاد في وحدانيته, وإخلاص النية في

_ (1) تقدم تخريجه. (2) رواه أحمد (3/225) . (3) رواه مسلم (55) .

عبادته. والنصيحة لكتابه: الإيمان به والعمل بما فيه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته, وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه. والنصيحة لأئمة المسلمين: حب صلاحهم ورشدهم وعدلهم, وحب اجتماع الأمة عليهم, وكراهة افتراق الملة عليهم, والتدين بطاعتهم في طاعة الله تعالى, والبغض لمن رأى الخروج عليهم, وحب إعزازهم في طاعة الله. (1) قوله في حديث أحمد: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة, وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (2) يعني: الأهواء. "أهل الكتاب" هم بنو إسرائيل, وإسرائيل لقب يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم, ومعناه بالعبرانية (عبد الله) وقيل: (صفوة الله) . وقد ذكر الله تعالى بني إسرائيل في كتابه ذكرا متعددا, وعدد ما أمتن به عليهم, وما أكرمهم به وفضلهم به على أهل زمانهم, وأخبر عما جرى منهم من الاختلاف, وما قبلوا به النعم, وما أجرى عليهم من النقم. قوله: "كلها في النار إلا واحدة" هذا يدل عليه القرآن والآثار: قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:115) . "ومن شذ شذ في النار" (3) .

_ (1) انظر: جامع العلوم والحكم (1/221, 222) . (2) تقدم تخريجه. (3) رواه الترمذي (2167) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن غريب.

قوله: "إلا واحدة" وهي الجماعة أي: الذين اعتصموا بكتاب الله المبين, واتبعوا سنة سيد المرسلين. قوله: "إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء". التجاري: التفاعل من الجري, وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة, والتداعي فيها تشبيها بجري الفرس. والأهواء: جمع هوى, والمعروف عند أهل العلم أنه إذا أطلق فالمراد به الميل إلى خلاف الحق. قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: من الآية 26) . وقال –تعالى- {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40-41) وقد يطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقا فيدخل فيه الميل إلى الحق. قالت عائشة: لما نزل قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِليْكَ مَنْ تَشَاءُ} (الأحزاب: من الآية 51) "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" (1) . ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه في قصة المشاورة في أساري بدر, "فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر, ولم يهو ما قلت" (2) (3) . هذا وقد أخبر الصادق المصدوق أن تلك الأهواء التي مالوا إليها, وأقبلوا بكليتهم من غير علم عليها, {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (الروم:29) إنها خالطت مشاشهم وسرت فيها؛ بل لا تزال تتزايد, وتجري في عظامهم مجرى

_ (1) رواه البخاري (4788) ومسلم (1464) . (2) رواه احمد (1/31) , ومسلم (1763) . (3) انظر: فيما تقدم جامع العلوم والحكم (2/398,399) .

الدم وتتصاعد, لا تدع مفصلا إلا دخلته ولا عرقا, فقد صاروا في داء هذا الهوى غرقا. ولذا شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حالهم بحال من بداء الكلب قد أصيب, فما لهم في عداد العقلاء من نصيب. والكلب بفتح الكاف واللام داء معضل يحصل به أعظم الآلام, ويحدث بسببه سقم من أشد الأسقام, وهو يعرض للإنسان من عض الكَلْب الكَلَب, فيصيبه شبه الجنون, فلا يعض أحدا إلا كلب, ويعرض له أمراض رديئة, ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشا. واجتمعت العرب على أن دواءه قطرة من دم الملك (1) يخلط بماء فيسقاه. (2) وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ابن عباس رضي الله عنهما حين أخذ مال البصرة: "فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب والعدو قد حرب" يعني: اشتد. قوله: "لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم فغيركم من الناس أحرى أن يقوم به". مراده رضي الله عنه الحث والحض لهم على الاجتماع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والاعتصام بذلك, وشدة الاهتمام والاعتناء بذلك, لان به تحصل السعادة والسؤدد في العجل والآجل, وتكمل لمن قام به شريف الفضائل, وهذا مع ما فيه من الحث على القيام بما جاءهم به

_ (1) قال الليحاني: إن الرجل الكلب يعض إنسانا, فيأتون رجلا شريفا, فيقطر لهم من دم أصبعه فيسقون الكلب فيبرأ. انظر: اللسان (1/723) ولا شك في تحريم هذا؛ لان الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها. ودم الإنسام مما حرم على الإنسان. (2) لسان العرب (1/723) عادة كلب.

عليه الصلاة والسلام, ففي ضمنه أخبار لهم وتذكير بما حازوا به من العز الكبير, والخير الكثير, الواسع الغزير, بعد ما كانوا عليه من سوء الحال وضيق العيش, وسفاهة الأحلام والطيش, فنالوا ببركة ما جاءهم من النور, المج والشرف والنصر على الأعداء والظهور, ولو لم يكن إلا الهداية إلى الإسلام, والإقلاع عن عبادة الأوثان والأصنام, ولا شرف أعظم من ذلك به يسعدون ويشرفون {وَإِنَّهُ لذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:44) . وقد بين لهم ذلك عليه الصلاة والسلام, وامتن عليهم في معرض العتب في الكلام, فقال: "ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي, وكنتم متفرقين فألفكم الله بي, وعالة فأغناكم الله بي, وكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن" (1) , فإذا كان صلى الله عليه وسلم منهم, والله قد فضلهم به, وأنجز لهم ما وعدهم على لسانه, ولم يعملوا بما جاءهم به ولم يهتموا بشأنه, فغيرهم من الناس بالإعراض أولى وأجدر, لأنهم إنما حسدوهم على هذا الشرف الأكبر, والذكر الجميل الأنور. وهذا الحديث الذي رواه أحمد قد روي من طرق متعددة مختلفة. فروى الحاكم في مستدركه: "افترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين فرقة, وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة , قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي" (2) .

_ (1) رواه أحمد (4/42) ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد. (2) لم اجده عند الحاكم بهذا اللفظ وفيه ألفاظ, متقاربة (1/129) والحديث رواه ابن ماجة (3993) وابن أبي عاصم في السنة 1/32 (63) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقد حسن العلماء هذا الحديث لشواهده. انظر صفة الغرباء ص 30 وما بعده.

وخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتي على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتي أمه علانية, ليكونن من أمتي ما يصنع ذلك, وإن بيني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة , قالوا: من هي؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي" (1) . وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة, وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة, وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" (2) . وروي أنه قال: "وستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا من كان على ما أنا عليه وأصحابي". والبضع: من الثلاث إلى التسع, والمراد به هنا الثلاث, لأنه جاء كذلك في أكثر الروايات هذا الحديث. وقد تبين ما ذكرنا من الآيات والأخبار, وجوب الاعتصام بكتاب الله المبين, ولزوم التمسك بسنة سيد الخلق أجمعين, وأن الفرقة الناجية من العذاب الأليم, هي التي تسلك سبيله المستقيم, وتأخذ بشرعه القويم, وباقي فرق الضلالة من أمة الإجابة في نار الجحيم؛ لنبذهم العمل بالذكر

_ (1) رواه الترمذي (2641) والحاكم (1/128) والحديث مداره على عبد الرحمن بن زياد الأفريقي, وهو ضعيف. انظر: صفة الغرباء ص 28-29. (2) رواه المروزي في السنة ص 19 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الحكيم, ومخالفتهم لمنهاج الرسول الكريم. فقد روى أبو داود بسنده عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة, وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة, ثنتان وسبعون في النار, وواحدة في الجنة وهي الجماعة" (1) . واعلم أن أول ما حدث في الدين من المحن, ووقع في الإسلام من الفتن: فتنة الخوارج: وكان مبدؤهم بسبب الدنيا, حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين فقال قائلهم وهو ذو الخويصرة "اعدل, فإنك لم تعدل" (2) الحديث, ففاجئوه بفظيع هذه المقالة, فردهم الله إلى أسوأ حالة. ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وضلالات, وأهواء ونحل كثيرة منتشرة ومقالات. وقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي غالب قال: سمعت أبي أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (آل عمران: من الآية 7) قال: هم الخوارج, وفي قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (آل عمران: من الآية 106) قال: هم الخوارج (3) . وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَل عَليْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَات}

_ (1) رواه أبو داود (4597) وأحمد (4/102) والحاكم (1/128) وصححه وحسنه ابن حجر في كتابه "الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" ص 63, وقال ابن تيمية في الاقتضاء (1/188) : "هذا حديث محفوظ..". (2) رواه البخاري (3414) ومسلم (1063) من حديث أبي سعسد الخدري. (3) رواه أحمد (5/262) .

إلى قوله: {إِلا أُولُو الْأَلْبَاب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله.. فاحذروهم" (1) . وروى الإمام أحمد عنها في هذه الآية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رايتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم" (2) . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخوارج كلاب أهل النار" (3) . وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أنه ذكر الخوارج فقال: "فيهم رجل مخدج اليد, أو مودن اليد, لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قلت: أنت سمعته من محمد صلى الله عليه وسلم قال: إي ورب الكعبة ... إي ورب الكعبة ... إي ورب الكعبة" (4) . وخرج الإمام أحمد بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَال لمَّا خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ بِالنَّهْرَوَانِ قَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَصْحَابِهِ فَقَال: "إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ, وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ, وَهُمْ أَقْرَبُ الْعَدُوِّ إِليْكُمْ, وَإِنْ تَسِيرُوا إِلى عَدُوِّكُمْ, وأَنَا أَخَافُ أَنْ يَخْلُفَكُمْ هَؤُلاءِ فِي أَعْقَابِكُمْ, إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَخْرُجُ خَارِجَةٌ مِنْ أُمَّتِي ليْسَ صَلاتُكُمْ إِلى صَلاتِهِمْ بِشَيْءٍ, وَلا صِيَامُكُمْ إِلى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ, وَلا قِرَاءَتُكُمْ إِلى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ, يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لهُمْ

_ (1) رواه البخاري (4547) ومسلم (2665) . (2) رواه أحمد (6/124) والبخاري (4273) . (3) رواه احمد (4/355) وابم ماجة (4273) . (4) رواه مسلم (1066) .

وَهُوَ عَليْهِمْ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ, وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لهُ عَضُدٌ وَليْسَ لهَا ذِرَاعٌ عَليْهَا مِثْلُ حَلمَةِ الثَّدْيِ عَليْهَا شَعَرَاتٌ بِيضٌ, لوْ يَعْلمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا لهُمْ عَلى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لاتَّكَلُوا عَلى الْعَمَلِ فَسِيرُوا عَلى اسْمِ اللَّهِ عز وجلّ" (1) . وفي الصحيحين عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: "إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا, فو الله لان أخر من السماء أحب إلي من أن أقول عليه ما لم أقل, وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم, فإن الحرب خدعة, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان, سفهاء الأحلام, يقولون من خير البرية, يقرءون القرآن, لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فأينما لقيتموهم فاقتلوهم, فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم عند الله يوم القيامة" (2) . وخرج أبو داود عن أبي سعيد وأنس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة, قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل, يقرءون القرآن لا يجاور تراقيهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, ثم لا يرجع حتى يرتد على فوقه, وهم شر الخلق, طوبى لمن قتلهم وقتلوه, يدعون إلى كتاب الله, وليسوا منه في شيء, من قاتلهم كان أولى بالله تعالى منهم" (3) .

_ (1) رواه أحمد (1/91) . (2) رواه البخاري (3415) ومسلم (1066) . (3) رواه أبو داود (4765) .

الفوق: موضع وقوع الوتر من السهم. وخرجه الشيخان من رواية أبي سعيد بنحو هذا (1) . وخرج مسلم عَنْ [عُبَيْدِ اللَّهِ] (2) بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالُوا لا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ قَال عَلِيٌّ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ وَأَشَارَ إِلى حَلْقِهِ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِليْهِ مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلمَةُ ثَدْيٍ فَلمَّا قَتَلهُمْ عَلِيُّ قَال انْظُرُوا فَنَظَرُوا فَلمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَال ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَال عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ" (3) وخرج الدارقطني بسنده عن أبي مجلز أن عليا رضي الله تعالى عنه نهى أصحابه أن يبسطوا على الخوارج حتى يحدثوا حدثا, فمروا بعبد الله بن خباب فأخذوه فانطلقوا به فمروا على تمرة ساقطة من نخلة, فأخذها بعضهم فألقاها في فمه, فقال له بعضهم: تمرة معاهد فيم استحللها؟ قال عبد الله: أفلا أدلكم على من هو أعظم حرمة عليكم من هذا؟ قالوا: نعم, قال: أنا. فقتلوه, فبلغ ذلك عليا فأرسل إليهم أن أقيدونا بعبد الله بن خباب, قالوا: كيف نقيدك به وكلنا قتله؟ قال:

_ (1) رواه البخاري (4771) ومسلم (1064) . (2) في المخطوط عبد الله والصواب ما أثبت. (3) رواه مسلم (1066) .

وكلكم قتله, قالوا: نعم قال: الله أكبر ثم أمر أن يبسطوا عليهم, وقال: والله لا يقتل منكم عشرة. ولا ينفلت منهم عشرة قالوا: فقتلوهم, فقال اطلبوا منهم ذا الثدية" (1) . وخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة مجوس, ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر, فمن مات منهم فلا تشهدوا جنازته, ومن مرض منهم فلا تعودوهم, وإن ماتوا فلا تشهدوهم" (2) . وله من رواية مرفوعا: "لا تجالسوا أهل القدر, ولا تفاتحوهم بالكلام" (3) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي ليس في الإسلام نصيف: المرجئة والقدرية" (4) القدرية الذين يقولون الخير من الله والشر من الإنسان, وإن الله لا يريد أفعال العصاة. وخرج أبو داود والترمذي عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنه فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام فقال له إنه بلغني أنه قد أحدث فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وذلك في المكذبين بالقدر". (5)

_ (1) رواه الدارقطني (3/131) . (2) رواه أبو داود (4692) وضعفه الألباني. (3) رواه أبو داود (4710) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وضعفه اللباني. (4) رواه الترمذي (2149) وابن ماجة (62) وقال الترمذي: حديث غريب حسن صحيح. وضعفه الألباني. (5) رواه الترمذي (2152) وابن ماجة (4061) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. ولم أجده عند أبي داود.

وخرج الإمام أحمد عن أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ رَجُلا وُلِدَ لهُ غُلامٌ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى به النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِبَشَرَةِ وَجْهِهِ وَدَعَا لهُ بِالْبَرَكَةِ قَال: فَنَبَتَتْ شَعَرَةٌ فِي جَبْهَتِهِ كَهَيْئَةِ (1) الْقَوْسِ وَشَبَّ الْغُلامُ فَلمَّا كَانَ زَمَنُ الْخَوَارِجِ أَحَبَّهُمْ فَسَقَطَتْ الشَّعَرَةُ عَنْ جَبْهَتِهِ فَأَخَذَهُ أَبُوهُ فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ قَال: فَدَخَلْنَا عَليْهِ فَوَعَظْنَاهُ وَقُلْنَا لهُ فِيمَا نَقُولُ أَلمْ تَرَ أَنَّ بَرَكَةَ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَقَعَتْ عَنْ جَبْهَتِكَ فَمَا زِلْنَا بِهِ حَتَّى رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِمْ, فَرَدَّ اللَّهُ عَليْهِ الشَّعَرَةَ وَتَابَ." (2) وروى الإمام أحمد عن سعيد بن جهمان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه فقال: من أنت فقلت: أنا سعيد بن جهمان قال: فما فعل والدك قلت قتله الأزارقة قال: لعن الله الأزارقة. حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب النار. قلت الزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بل الخوارج كلها. فقلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل لهم وبهم, فتناول يدي فغمزها غمزة شديدة ثم قال: ويحك يا بن جهمان عليك بالسواد الأعظم, عليك بالسواد الأعظم, إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته, فأخبره بما تعلم, فإن قبل منك, وإلا فدعه, فإنك لست بأعلم منه (3) . وخرج رزين بسنده عن سالم أن رجلا من أهل العراق سأل ابن عمر عن قتل محرم بعوضا؟ فقال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة,

_ (1) في المخطوط (كهيلة) وما أثبت من المسند. (2) رواه أحمد (5/456) . (3) رواه أحمد (4/382) .

وأجرأكم على الكبيرة, يقتل أحدكم من الناس ما لو كان عددهم سبحات لرأيت أنه إسراف, وإنا كنا نسير مع رسول الله فنزلنا منزلا, فنام رجل من القوم, ففزعه رجل, فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يحل لمسلم تفزيع مسلم" (1) . وخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَلمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلاهُ عَنْ الْحَرُورِيَّةِ هل سَمِعْتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ يذكرها؟ , قَال لا أَدْرِي مَا الْحَرُورِيَّةُ سَمِعْتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ" وَلمْ يَقُلْ مِنْهَا "قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلى سَهْمِهِ إِلى نَصْلِهِ إِلى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنْ الدَّمِ شَيْءٌ". (2) وروى مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَال دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَليْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلسْتُ إِليْهِ فَقَال كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ, فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ, وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ, وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ, إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ جَامِعَةً, فَاجْتَمَعْنَا إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: "إِنَّهُ لمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَليْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلى خَيْرِ مَا يَعْلمُهُ لهُمْ, وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلمُهُ لهُمْ, وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِل عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا, وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فينزلق أو

_ (1) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (8/256 (7543) وقد رواه مسلم بمعناه مختصرا (2905) . (2) رواه البخاري (6532) ومسلم (1064) .

فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا, وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي, ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ: هَذِهِ, فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَل الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ, وَلْيَأْتِ إِلى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِليْهِ" الحديث. (1) وخرج الإمام أحمد عن أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ سَاجِدٍ وَهُوَ يَنْطَلِقُ إِلى الصَّلاةِ فَقَضَى الصَّلاةَ وَرَجَعَ عَليْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: "مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَحَسَرَ عَنْ يَدَيْهِ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ ثُمَّ قَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي, كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلاً يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ ثُمَّ قَال: "مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ " فَقَامَ رَجُلٌ فَقَال: أَنَا فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ حَتَّى أَرْعَدَتْ يَدُهُ فَقَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلاً سَاجِدًا يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لوْ قَتَلْتُمُوهُ لكَانَ أَوَّل فِتْنَةٍ وَآخِرَهَا". (2) قلت: ومثل هذا ما رواه البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: كان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعجبنا تعبده وجهاده, فذكرناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه فلم يعرفه, ووصفاه بصفته, فلم يعرفه, فبينا نحن نذكره إذ طلع علينا الرجل فقلنا هو هذا: "إنكم لتخبروني عن رجل على وجهه سعفة من الشيطان" , فأقبل حتى وقف على القوم يسلم فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم

_ (1) رواه مسلم ورقمه (1844) . (2) رواه أحمد (5/42) .

أحد أفضل مني وخير مني؟ ". قال: اللهم نعم, ثم دخل يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يقتل الرجل؟ " قال أبو بكر: أنا, فدخل عليه فوجده يصلي فقال: "سبحان الله أأقتل رجلا يصلي وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب المصلين" (1) . ويظهر لي أن هذا الرجل المذكور في الحديث هو الرجل الذي حدث عنه أبو بكرة, وأن القصة واحدة, ويحتمل التعدد؛ إذ لا مانع من ذلك. وخرج الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول اله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني, فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر, فجاءنا الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ , قال: "نعم" قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يستنون بغير سنتي, ويهتدون بغير هديي, تعرف منهم وتنكر" , فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ , قال: "نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" , قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ , قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" , قلت: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها, ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" (2) . وخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: "والله ما ادري أنسي أصحابي أم تناسوا, والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى

_ (1) رواه الدارقطني (2/54) ولم أجده عند البيهقي. (2) رواه البخاري (3411) ومسلم (1847) .

أن تنقضي (1) الدنيا, يبلغ من معه من ثلاثمائة فصاعد إلا سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته" (2) , فهؤلاء هم الذين استحوذ عليهم الشيطان فأغواهم, فعدلوا عن الحق واتبعوا هواهم, كتب الله تعالى عليهم الخذلان, فقيض لهم بعدله الشيطان, فحسن لهم القبيح, وزين لهم سيء الأعمال, فاستحبوا طريق الغي والضلال, قادهم بمكره وكيده فأوداهم, واستدرجهم بخداعه فأرداهم, فلما تمكن من قصده بهم ناداهم, وهم مصطادون في شبكة الاحتيال {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إبراهيم: من الآية 22) , ما لكم من الله من وال, هيهات تفرقت بهم السبل عن الصراط المستقيم, فطوحت بهم إلى سواء الجحيم, تيسيرا إلى قضاء الله المحتوم, وقدره المبرم المختوم, وإبداء لذلك وتحقيقا, وتنجيز الوعد لوعد الصادق المصدوق, وإظهارا لهذه المعجزة بعده وتصديقا, فقد حقق الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمته وعده, فظهروا وتفرقوا حتى استكملوا تلك العدة, ولم يكن ذلك عن طول أمد, بل وقع في اقصر مدة, وكان مبدؤهم كما ذكرنا من قسمة غنائم حنين, وظهور أسوأ القول ممن في قلبه رين, غيرانه لم يقع بها تظاهره, ولا مساعدة ولا تناصر, ولم يشب لنارها ضرام, ولم يكن وقودها جثث وهام, إلا أيام علي بن أبي طالب رضي اله عنه, فقتلهم بالنهروان, فصار لها من تلك الأيام إعلان, وقام لها دعاة وأعوان, ونشرت أعلامها في أكثر البلدان, فانبعثت القدرية, وأول من قال به وقام, معبد الجهني بالبصرة فضل وأضل أقواما, ثم المعتزلة, ثم الجهمية, ثم الشيعة والإمامية.

_ (1) في المخطوط (القضاء) والتصحيح من سنن أبي داود. (2) رواه أبو داود (4243) .

والحاصل أن الفرق الكبار من أمة الإجابة ثمان: الأولى: فرقة الحق أهل الإسلام والإيمان, والمعتزلة والشيعة, والمرجئة, والجبرية, والخوارج, والنجارية, والمشبهة. فهؤلاء الذين سلكوا أقبح المناهج. والمعتزلة: افترقوا عشرين فرقة, يكفر بعضها بعضا, وكل فرقة تروم لحجة الأخرى نقضا (1) . منهم الواصلية: قوم واصل بن عطاء الذي أظهر الاعتزال, وكان يجالس الحسن البصري قبل تظاهره بالضلال. ومنهم الهذيلية: أصحاب أبي الهذيل بن حمدان (2) العلاف, وهو شيخهم ومقرر طريقتهم, مات سنة خمس وثلاثين ومائة (3) . ومنهم النظامية: أصحاب إبراهيم بن سيار النظام, (4) وهذا من شياطين القدرية, طالع كتب الفلسفة, وخلطها بكلام المعتزلة. والإسكافية: أصحاب أبي جعفر الإسكاف. (5) والجعفرية: أصحاب جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر. (6)

_ (1) انظر: هذه الفرق في كتاب الفرق بين الفرق 181 الملل والنحل للشهرستاني (1/43) . (2) محمد بن الهذيل بن عبد الله كما في سير أعلام النبلاء (11/173) . (3) في سنة وفاته قيل سنة ست وعشرين, ويقال خمس وثلاثين ومئتين. ومولده سنة خمس وثلاثين ومائة, قاله الذهبي في السير (11/173) : بهذا يتبين وهو المؤلف والناسخ غفر الله للجميع والله أعلم. (4) النظام ليس اسما إنما عرف به. وانظر في سبب التسمية: الفرق بين الفرق ص 93. (5) واسمه: محمد بن عبد الله الإسكافي, انظر: طبقات المعتزلة ص 78. (6) في المخطوط (جعفر بن جعفر بن مبشر بن حريب) والصواب أأثبت. انظر: الفرق ص 123 والسير (10/549) .

والبشرية: أصحاب بشر بن المعتمر كان من أفاضل علماء المعتزلة. ومنهم الهشامية (1) : أصحاب هشام بن عمرو الفوطي وكان من أشد المعتزلة مبالغة في إنكار القدر. والصالحية (2) , والخطابية, (3) والحدثية (4) والمعمرية, (5) . والثّمامية: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري وكان هذا الشيطان جامعا بين سخافة الدين وخلاعة النفس, ومن قبيح قوله أنه يقول: اليهود, والنصارى, والمجوس, والزنادقة يصيرون في الآخرة ترابا لا يدخلون جنة ولا نارا. ومنهم الخياطية: أصحاب أبي الحسن الخياط (6) . والجاحظية: أصحاب عمر بن بحر الجاحظ, وكان هذا بليغا ظهر في أيام المعتصم والمتوكل, وأخذ من كتب الفلاسفة. ومنهم الكعبية: أصحاب القاسم بن محمد الكعبي (7) من معتزلة بغداد تلميذ الخياط. ومنهم الجبائية: أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب

_ (1) في المخطوط (الهاشمية) والصواب ما أثبت. انظر: الفرق ص 17. (2) هم اتباع صالح بن عمر الصالحي. انظر: الملل والنحل 1/145. (3) هم اتباع أحمد بن خابط. انظر: الملل والنحل (1/60) . وفي المخطوط (الحطابية) والصواب ما أثبت. انظر: الفرق ص 208. (4) هم أتباع الفضل الحدثي ت: 2075هـ. انظر: الملل والنحل (1/60) . (5) هم اتباع معمر بن عباد السلمي, وكان رأسا للملحدة, وذنبا للقدرية. انظر: الفرق بين الفرق ص 110. (6) واسمه: عبد الله بن محمد بن عثمان الخياط. انظر طبقات المعتزلة ص 85. (7) اسمه: عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي, المعروف بالكعبي. انظر الفرق ص 133.

الجبائي من كبار معتزلة البصرة, ومن قبيح مقالاته: إنكاره الكلام, ويقول: إن الله يخلق كلامه في جسم, والمتكلم ذلك الجسم, وينكر رؤية الله في الآخرة, ومرتكب الكبيرة يخلد في النار.. وغير ذلك, ولهم بقايا فرق. وأما الشيعة: (1) سموا أنفسهم بذلك, وادعوا أنهم شايعوا عليا. فهم اثنتان وعشرون فرقة, يكفر بعضهم بعضا, وأصول فرقهم ثلاث فرق: غلاة, وزيدية, وإمامية. والغلاة ثماني عشر: أولهم السبائية: أصحاب عبد الله بن سبأ, يقولون لعلي رضي الله عنه أنت الإله حقا, وعلي لم يمت, وإنما قتل بن ملجم شيطانا تصور بصورة علي, وعلي في السحاب, والرعد صوته, والبرق سوطه, وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا. ومنهم الكاملية: أصحاب أبي كامل, يكفرون الصحابة بترك بيعة علي, ويكفرون عليا بترك طلب الحق. ومنهم الغرابية: قالوا: محمد أشبه بعلي من الغراب بالغراب, والذباب بالذباب, فبعث الله جبريل إلى علي فغلط جبرائيل في الرسالة من علي إلى محمد. ومنهم النصيرية والإسحاقية: قالوا: حل الله في علي, والذمية يقولون

_ (1) انظر: الفرق بين الفرق ص 22 وما بعده. الملل والنحل 1/78.

علي هو الإله, وقد بعث محمدا يدعو له, فدعى لنفسه. ومنهم الإسماعيلية: ويلقبون بالقرامطة, لأن رأسهم حمدان قرمط, وقيل عبيد الله بن ميمون القداح, وهؤلاء هدموا الشريعة وأركانها جملة. وباقي فرق الشيعة وروافضهم كثيرة, ومقالاتهم الفاسدة شهيرة. وأما الزيدية: الذين ينسبون أنفسهم إلى طريقة زيد بن علي بن الحسين زين العابدين, فهم ثلاث فرق: الجارودية: أصحاب ابي جارود الذي سماه الباقر شيطانا, فهؤلاء كفروا الصحابة لمخالفتهم عليا. والسليمانية, (1) والبترية (2) . وأما الإمامية: فقالوا بالنص الجلي على إمامة علي, وكفروا الصحابة ووقعوا في أعراضهم. وأما الخوارج فهم عشرون فرقة: (3) المحكمة: وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه عند التحكيم وكفروه, وكانوا اثني عشر ألفا, كانوا أهل الصلاة وصيام وقراءة, وفيهم قال صلى الله عليه وسلم: "يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم, وصومه في جنب

_ (1) هؤلاء أتباع سليمان بن جرير الزيدي. انظر الفرق ص 23. (2) في المخطوط "البترية" والصواب ما أثبت, وهؤلاء أتباع رجلين: الحسن بن صالح بن حي, وكثير النواء الملقب بالأبتر. انظر الفرق ص 23. (3) انظر: الفرق بين الفرق ص 49.

صومهم, ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم" (1) . وكفروا عثمان وأكثر الصحابة. ومنهم البيهسية: أصحاب بيهس بن الهيصم بن جابر (2) , قالوا: من وقع في شيء لا يعلمه أحلال أم حرام, فهو كافر. ومنهم الأزارقة: أصحاب نافع بن الأزرق, كفروا عليا بالتحكيم, وقالوا: إنه هو الذي نزل في شأنه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلدُّ الْخِصَامِ} (البقرة:204) وابن ملجم محق في قتله, وهو الذي نزل فيه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 207) وفيه قال مفتي الخوارج وزادها عمران بن حطان (3) . ياضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا (4) وهؤلاء كفروا عثمان, وطلحة, والزبير, وعبد الله بن عباس, وعائشة, وسائر المسلمين, وحكموا عليهم بالخلود في النار.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) الصواب في اسمه هو: أبي بيهس هيصم بن عامر. انظر: الفرق ص 74. (3) انظر: سير أعلام النبلاء 4/214. (4) البيات في الكامل للمبرد 3/169, والأغاني (18/111) ط الدار, وقد رد على عمران بن حطان الفقيه الطبري كما جاء في نسخة من الكامل للمبرد فقال: ياضربة من شقي ما أراد بها ... إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا إني لأذكره يوما فألعنه ... إيها وألعن عمران بن حطان وقال محمد بن احمد الطبيب يرد على عمران بن حطان: يا ضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنسانا إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا

ومنهم النجدية: أصحاب نجدة بن عامر النخعي (1) . ومنهم العاذرية: الذين عذروا الناس في الجهالات في الفروع, وذلك أن نجدة وجه ابنه مع جيش إلى أهل القطيف, فقتلوهم وأسروا نساءهم, ونكحوهم قبل القسمة, وأكلوا الغنيمة, فلما رجعوا إلى نجدة, أخبروه بما فعلوا, فقال لهم: لم يسعكم ما فعلتم, فقالوا: لم نعلم أنه لا يسعنا, فعذرهم بجهالتهم, فاختلف أصحابه بعد ذلك, فمنهم من تابعه, ومنهم من خالفه. ومنهم الصفرية: أصحاب زياد بن الأصفر. ومنهم الأباضية: أصحاب عبد الله بن إباض, قالوا: مخالفوهم كفار. وكفروا عليا وأكثر الصحابة, وافترقوا أربع فرق: الحفصية: أصحاب حفص بن أبي المقدام. واليزيدية: أصحاب يزيد بن أنيسة قالوا: يبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء, ويترك ملة محمد, ويختار ملة الصابئة. والحارثية: أصحاب أبي الحارث الأباضي, (2) خالفوا الإباضية في القدر. (3) ومن فرق الخوارج: العجاردة: أصحاب عبد الرحمن بن عجرد (4) وهم أربع فرق, كلها مشهورة بالضلال, معلومة الحال.

_ (1) صوابه الحنفي كما في الفرق ص 58. وقد نبه الناسخ للمخطوط إلى هذا الخطأ. (2) قال في الفرق ص 71: هؤلاء أتباع حارث بن يزيد الأباضي. (3) الفرقة الرابعة لم يذكرها المؤلف رحمه الله وهي أصحاب طاعة الله لا يراد الله بها. (4) الصواب عبد الكريم بن عجرد. انظر: الفرق ص 63.

من الفرق الكبار المرجئة: (1) لقبوا بذلك لأنهم يرجون العمل على النية, أي: يؤخرونه عنها, وعن الاعتقاد من أرجأه إذا اخره, قال تعالى: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (الأعراف: من الآية 111) أي: أمهله وأخره. وقيل: إنما سموا بذلك, لانهم يقولون لا تضر مع الإيمان المعصية, كما لا تنفع الطاعة مع الكفر, وقد افترقوا خمس فرق: اليونسية: أصحاب يونس النميري, قالوا: الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع, ولا يضر مع ذلك ترك الطاعات. والعبدية: (2) قبحهم الله وقبح مقالهم. والغسانية: أصحاب غسان الكوفي, يقولون: إن الله فرض الحج, ولا ندري أهذه الكعبة أم غيرها؟ وبعث محمدا ولا ندري اهو الذي بالمدينة أو غيره؟. والثوبانية: أصحاب أبي ثوبان المرجىء. (3) والتومنية: أصحاب أبي معاذ التومني, ومن مقالاتهم: ان السجود للصنم ليس كفرا, بل علامة على الكفر, وتبعهم ابن الراوندي وبشر المريسي قبحهم الله تعالى. ومن الفرق الكبار الجبرية: والجبر إسناد فعل العبد إلى الله, وهؤلاء يقولون بحدوث علمه تعالى, بل لا يتصف بعلم ولا قدرة, ويقولون بنفي رؤيته, وبخلق

_ (1) انظر: الفرق ص 151. (2) أصحاب عبيد المكتئب, الذي يقول: إن ما دون الشرك مغفور لا محالة. انظر الملل (1/140) . (3) كذا في الفرق ص 152.

القرآن, وهؤلاء وافقوا الجهمية أصحاب جهم بن صفوان, فقالوا: لا قدرة للعبد يكتسب بها, بل هو بمنزلة الجمادات, فلذا لا يقولون بخلود احد في النار, بل ولا في الجنة, ويقولون الجنة والنار يفنيان إذا دخل أهلهما فيهما, فلا يبقى إلا الله. ومن الفرق الكبار النجارية: أصحاب محمد بن الحسين النجار (1) وهؤلاء يوافقون المعتزلة على نفس الصفات وحدوث الكلام, ونفي الرؤية, وفرقهم ثلاث: البرغوثية (2) , والزعفرانية (3) , والمستدركة (4) , وأكثر هؤلاء يكفرون من لم يقل بخلق القرآن. ومن الفرق الكبار المشبهة: (5) شبهوا الله تعالى بالمخلوقات, ومثلوه بالحادثات تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وثم فرقة واحدة؛ لأنهم وإن اختلفوا فالتشبيه يجمعهم, والمشبهة صفة تعمهم. فهذه فرق الأهواء والضلال, وشيع الغواة الضلال, الذين مرقوا من الملة الحنيفية, مروق السهم من الرمية, فليس لهم حظ ول نصيب من الدين, {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: من الآية 116)

_ (1) والصواب الحسين بن محمد بن عبد الله النجار. انظر الفهرست لابن نديم ص 268. (2) هؤلاء اتباع محمد بن عيسى الملقب ببرغوث. انظر الفرق ص 156. (3) هؤلاء اتباع الزعفراني الذي كان بالري. انظر: الفرق ص 157. (4) هؤلاء قوم من النجارية يزعمون أنهم استدركوا ما خفي على أسلافهم. انظر: الفرق ص 157. (5) انظر: الفرق ص 170.

{وَإِذَا دُعُوا إِلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور:48) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (التوبة: من الآية 115) . وإنما أطلت بذكر هذه الفرق الضالة؛ ليتبين حال أهل التوحيد والدين من حال أهل الزيغ والغي والجهالة, ولأمور غير ذلك, أرجو أنها حسنة المسالك: منها: أن الموحد من أهل الدين, إذا سمع أقوال هؤلاء المبطلين, جد في عبادة الله وحده على بصيرة ويقين. ومنها: أنه يزداد بذلك إيمانا, ويدأب في الجهد والثناء على الله الذي أهله للهداية, ووفقه لطريق العناية, فضلا منه وإحسانا. ومنها: إظهار بطلان ما يقال في هذه الأزمنة والأعصار من المعادين والمعاندين, والقائمين في عداوة أهل هذه الدعوة والمساعدين أن الرافضة ومن شابههم هم زند الدين والهدى, ومن قام بإخلاص الدعوة لله تعالى هم أهل الضلال والردى. ومما يدل على أن هذا القيل كل رضيه وطاب به قلبا, أن هؤلاء الفرق قد ملكوا البلدان شرقا وغربا, وجدوا فيمن قدروا عليه نهبا وسلبا, ولم نر أو نسمع أن أحدا من الحكام الذين يدعون أنهم أهل السنة والجماعة, نصب لأحد من هذه الفرق حربا, ولا قام ولا قعد في عداوتهم, وألب عليهم الجيوش عجما وعربا, ولكن كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلمُونَ} (الروم:59) {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأعراف:186) .

الخاتمة.

الخاتمة في الفرق الناجية من النيران, وهم أهل الإسلام والإيمان, الذين تمسكوا بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم واعتصموا بالقرآن, فنالوا بذلك رفيع الدرجات في الجنان. قال الله جل جلاله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:2) . وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (طه: من الآية 123) . فوصف الله تعالى هذه الفرقة بالتقوى, ثم بين في كثير من الآيات أن القرآن هدى لهم ورحمة وشفاء وبشارة, وأنهم لا يضلون في الدنيا, ولا يشقون في الدنيا ولا في الآخرة. وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" (1) . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به, ولا شيء يقربكم من النار إلا وقد حدثتكم به" (3) وقد تقدم قبل هذا حديث العرباض المتضمن لأمره صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين من بعده, عند حصول الاختلاف والافتراق, وحدوث المنازعة والشقاق.

_ (1) رواه اللالكائي نحوه في شرح أصول الاعتقاد (1/80) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. رواه مالك 2/199 عن جابر رضي الله عنه. (2) رواه أحمد (4/126) . (3) رواه الحاكم (2/5) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

فأما وجوب التمسك بالقرآن والاعتصام به وأن مخالفته كفر فهو معلوم من الدين بالضرورة, وقد نطق بذلك القرآن كما ذكرته من قبل هذا. ومن ذلك قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأعراف: من الآية 3) . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (هود: من الآية 17) . وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} (القلم: من الآية 44) . وقد قدمت من دلائل الكتاب والسنة صدر هذا الفصل ما فيه كفاية وذكرى لكل ذي عقل. وقد خرج رزين بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنها ستكون فتن, قال: فما المخرج منها يا جبريل؟ , قال: كتاب الله تعالى (1) . وقد روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وأني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله, وهو حبل الله الذي من اتبعه كان على الهدى, ومن تركه كان على الضلالة, وعترتي أهل بيتي" الحديث (2) . وأما وجوب التمسك بسنة نبينا (وان مخالفتها كفر: فمن المعلوم بالضرورة أيضا, والقرآن يصرح بذلك في آيات كثيرة, والأحاديث متواترة. وقد قدمت في هذا الفصل ما فيه مقنع, لمن أراد أن يتبع سبيله الأرفع.

_ (1) انظر: جامع الأصول (7/95) ورقمه (6232) وقد ذكره ابن كثير في فضائل القرآن بمعناه عقب حديث الحارث عن عبد الله بن مسعود, وقال: رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "فضائل القرآن" وقال: هذا غريب من هذا الوجه. (2) رواه مسلم (2408) .

وأيضا كل ما أمر به أو نهى عنه أو حكم به أو فعله, فهو: إما يكون ذلك بالوحي النازل عليه؛ لان الوحي كما ينزل بالقرآن ينزل بالسنة, إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إني أوتيت القرآن ومثله معه" (1) يعني: السنة. وإما أن يكون ذلك مما فهمه صلى الله عليه وسلم من القرآن. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِليْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: من الآية 105) . وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لهُمُ الَّذِي اخْتَلفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل:64) . وقال جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا إِليْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِليْهِمْ وَلعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: من الآية 44) . وأما وجوب التمسك بعده بسنة خلفائه الراشدين, والاقتداء بأصحابه المهتدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين: فالذي تقدم من الآيات والأحاديث الصحيحة, يدل على ذلك دلالة واضحة صريحة, وقد ورد النهي بالتمسك بهديهم والاقتداء بهم خصوصا وعموما مما هو معلوم في كتب السنة, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (2) . وأيضا فقد ثبت لهم النجاة, والسلامة من النار والمعافاة كما دل على ذلك كثير من الأحاديث والآيات:

_ (1) رواه أحمد (4/131) . (2) ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/91) وقال: هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول. انظر: السلسلة الضعيفة (1/78) (58) , وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/238) ضعفه ائمة الحديث) .

قال الله تعالى: {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التوبة:88) . وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100) . وقال جل جلاله: {لقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (التوبة: من الآية 117) . وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} (الحديد: من الآية 12) . وقال سبحانه وتعالى: {لقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَل السَّكِينَةَ عَليْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:18) . وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} (الفتح: من الآية 29) . وقال تعالى: {يوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (التحريم: من الآية 8) . وقال تعالى: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (النساء: من الآية 95) . والأحاديث الواردة في خصوص الآحاد (كالعشرة) رضي الله عنهم, والواردة في أهل بدر رضي الله عنهم, وبيعة الرضوان, وأهل أحد أشهر من أن تذكر وأجل من أن تجحد أو تنكر, وما ورد في حقهم رضي الله عنهم عموما فكثيرة أيضا: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (1) . وقوله: "لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد

_ (1) رواه البخاري (6064) ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

أحدهم ولا نصيفه" (1) . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي, لا تتخذوهم غرضا بعدي, فمن أحبهم فبحبي أحبهم, ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني, ومن أذاني فقد أذى الله فيوشك أن يأخذه" (2) . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين" (3) . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله, والملائكة, والناس أجمعين, لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" (4) . ومنها ما رواه الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمس النار مسلما رآني, أو رأى من رآني" (5) . وخرج مسلم عن أبي موسى حديث: "أنا أمنة لأمتي, فإذا ذهب أصحابي آتى أمتي ما

_ (1) رواه البخاري (3673) من حديث أبي سعيد الخدري, ورواه مسلم (2540) من حديث أبي هريرة. (2) رواه الترمذي (3862) وأحمد (5/54) وابن حبان (7256) وصححه, وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (3) انظر: المجروحين (2/41) , سير أعلام النبلاء (10/414) . (4) رواه الطبراني في الكبير (12/142) وقال الهيثمي في المجمع (10/24) : وفيه عبد الله بن خراش وهو ضعيف: انظر السلسلة الصحيحة (5/446) وقد حسنه لمجموع طرقه. (5) رواه الترمذي (3858) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم النصاري وروى علي بن المديني وغير واحد من أهل الحديث عن موسى هذا الحديث الأنصاري وروى علي بن المديني وغير واحد من أهل الحديث عن موسى هذا الحديث.

يوعدون" (1) . وخرج الترمذي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يموت من أصحابي بأرض ألا بعث لهم نورا وقائدا يوم القيامة" (2) . ولولا أنهم على هديه المطهر ودينه الذي أظهر, وشرعه الذي قدر, لما أمر صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنتهم عند الاختلاف والافتراق, وحدوث النزاع في الدين والشقاق, وما ذلك إلا أنهم اتبعوا سبيله وسيره, واقتفوا في أفعالهم وأقوالهم آثره, والتزموا طريقه ومنهاجه, ورفعوا قواعد الدين, ومهدوا فجاجه, حتى أضاءت بلوامع الحنيفية حوالك الأفاق, وأشرقت بقواطع مرهفاتهم كل الإشراق, وتلألأت بأنوار علومهم المغارب والمشارق, فأضحى بدر الدين بعد الأفول شارقا, وأصل الزيغ والضلال مستأصلا زاهقا, فمن تأمل آثارهم, وتدبر أحوالهم وأخبارهم, سيما عند النزاع والاختلاف, علم أنهم على السبيل الأعدل, والهدي الأكمل, وطريق الحق والإنصاف. ولقد جرى بينهم منازعة اجتهادية, في أمور ليست اعتقادية, فلم يعدلوا فيها عن السنة والكتاب, بل كان ذلك فيما اختلفوا فيه فصل الخطاب, ولم يبغوا عن كتاب ربهم حولا, ولا عن سنة نبيهم بدلا, إذ لا قصد لهم سوى إقامة الصراط المستقيم, وإدامة مناهج الشرع القويم. فمن ذلك اختلافهم عند قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته "ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده , حتى قال عمر رضي الله عنه: إن رسول

_ (1) رواه مسلم (2531) . (2) رواه الترمذي (3865) وقال: هذا حديث غريب, وروي هذا الحديث عن عبد الله بن مسلم أبي طيبة عن بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وهو أصح.

الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع, حسبنا كتاب الله, وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع" (1) . ومن ذلك, اختلافهم عن التخلف عن جيش أسامة رضي الله عنه, فقال قوم بوجوب الاتباع, لقوله صلى الله عليه وسلم: "جهزوا جيش أسامة" (2) , وقال قوم بالتخلف, انتظارا لما يكون من رسول الله في مرضه. ومن ذلك اختلافهم في موته, حتى قال عمر رضي الله عنه: من قال إن محمدا قد مات علوته بسيفي, وإنما رفع إلى السماء, كما رفع عيسى بن مريم, وقال أبو بكر رضي الله عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات, ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت, وتلا قوله تعالى: {مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: من الآية 144) فرجع القوم إلى قوله, وقال عمر رضي الله عنه: كأني ما سمعت هذه الآية إلا الآن" (3) . ومن ذلك اختلافهم في موضع دفنه بمكة أو المدينة أو القدس, حتى سمعوا ما روي من أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون" (4) . ومن ذلك اختلافهم في الإمامة, وفي ثبوت الإرث عن النبي صلى الله عليه وسلم ورجوعهم للنصوص في ذلك. ومن ذلك اختلافهم في قتال مانعي الزكاة, حتى قال عمر رضي الله عنه: كيف نقاتلهم وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس

_ (1) رواه البخاري 1637) من حديث ابن عباس. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 685. (3) رواه البخاري (4454) . (4) تقدم تخريجه.

حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم" , فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أليس قد قال: "إلا بحقها", "ومن حقها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة, ولو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه" (1) . ومن ذلك اختلافهم في تنصيص أبي بكر على عمر رضي الله عنه في الخلافة, ثم في أمر الشورى حتى استقر الأمر على عثمان. وقد وقع بينهم اختلاف في بعض أحكام فرعية: كاختلافهم في الكلالة, وميراث الجد مع الأخوة, وعقل الأصابع, وديات الأسنان ... وغير ذلك. فهذا هديهم رضي الله عنهم في حال الوفاق, وشأنهم عند اختلاف الآراء والافتراق, والرجوع والرد إلى ما أمرهم الله تعالى عند التنازع بالرد إليه, وندبهم إلى ذلك في كتابه وحثهم عليه. فالفرقة الناجية من العذاب, الآمنة من فزع يوم الحساب, هم الذين سلكوا سنن الصواب, وحكموا فيما اختلفوا فيه السنة والكتاب, واقتفوا في ذلك منهاج الأصحاب, وهم الذين إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيمانا, وامتلأت قلوبهم معرفة به سبحانه وتعالى وإيقانا, فشدوا عقد الأعمال على الصواب إحكاما وإتقانا, وصيروا كتاب الله تعالى نورا يستضيئون به في دجى المشكلات وبرهانا, فإن قصرت أفهامهم فلم يستخرجوا منه على مرادهم سلطانا, ردوا إلى السنة التي جعلها الله تعالى إيضاحا وإفصاحا لما اختلفوا فيه وتبيانا, وإلى عمل الصحابة الذين اقتبسوا من مشكاته في حياته, فاستضاؤوا بلآلىء أنواره بعد

_ (1) تقدم تخريجه. انظر: الملل (1/25) وما بعده.

وفاته, فهم أعلم بذلك وأحكم, وإتباعهم يهدي للتي هي أقوم, ويرشد إلى الطريق الأسلم, فمن اقتفى أثر نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه, أدرك السعادة والنجاة في مآبه, وحاز الفوز والنجاح, وفاز بالحسنى والفلاح, ومن اتخذ ذلك وراءه ظهريا, وصير العمل بالكتاب والسنة شيئا فريا, وجعل دينه هواه, فقد أضله الشيطان وأغواه, فاستبدل بالحق خرافات أهل البدع والأهواء, واختار على الصراط المستقيم المنهج الإغواء. خرج أبو داود عن أبي البختري قال حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم" (1) ومعناه: أن الله لا يهلكهم حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم, وتقوم الحجة عليهم, ويتضح لهم عذر من يعاقبهم. وهذه الفرقة التي أخبر صلى الله عليه وسلم بنجاتها من النار, هي التي وعدها بالظهور والتمكين والانتصار, والقيام بأمره على الكفار, مستمرين على ذلك مدة الدهور والأعصار, لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الملك القهار. فقد روى البخاري بسنده عن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية رضي الله عنه خطيبا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين, وإنما أنا قاسم والله يعطي, ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله تعالى لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" (2) . وخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين, وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة, ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل

_ (1) رواه أحمد 4/260 وأبو داود (4347) . (2) رواه البخاري (71) .

من أمتي بالمشركين, وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان, وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابا كلهم يدعي أنه نبي, وأنا خاتم النبيين, لا نبي بعدي, ولا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفه حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (1) . واعلم أن الله جل جلاله قد أوجب على كل من دان الله تعالى بدين الإسلام, واتبع سنة خير الأنام, لا سيما العلماء والأمراء والولاة والحكام, أن يدعوا الناس إلى التوحيد, الذي هو أفراد الله بالعبادة وإخلاصها للملك الحميد, ويجاهدهم على ما داموا به وراضت نفوسهم عليه من شرك التقريب والتقليد, الذي يخلد صاحبه في العذاب الشديد. قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108) . وقال جل جلاله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلى اللَّهِ وَعَمِل صَالِحاً وَقَال إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33) . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة:159) . وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:187) . وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104) .

_ (1) رواه مسلم (2889) وأبو داود (4252) والترمذي (2229) وابن ماجة (3952) .

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها" (1) . وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب حين أعطاه الراية يوم خيبر: "فولله لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" (2) . وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولا لله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلم أخاه المسلم" (3) , وإنما كان تعليم العلم أفضل أنواع الصدقة, لأن الانتفاع به فوق الانتفاع بالمال, لأنه ينفد ويفنى والعلم باق. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من داع إلى هدى إلا كان له أجر من تبعه من غير أن بنقص من ثوابهم شيئا" (4) . وخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لولا آيتان أنزلهما الله تعالى في كتابه ما حدثت شيئا أبدا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} . (5) وورد من طرق متعددة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سئل عن علم فكتمه, ألجمه يوم القيامة بلجام من نار" (6) .

_ (1) رواه ابن المبارك في الزهد (1/484) . (2) رواه البخاري (2847) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه ابن ماجة (243) وضعفه الألباني. (4) رواه مسلم (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (5) رواه البخاري (118) ولم أجده عند مسلم بهذا اللفظ, والموجود عن ابن عباس بنحوه (2787) . (6) رواه أحمد (2/344) والترمذي (2649) وأبو داود (3658) وابن ماجة (264) وصححه. وقال الترمذي: حديث حسن.

وقال علي رضي الله عنه: "ما أخذ الله تعالى على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا" (1) . وخرج البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا, فكان منها نقية قبلت الماء, فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء, فنفع الله بها الناس فشربوا, وسقوا, وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله تعالى به, فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (2) . والمراد بالعلم: العلم النافع للقلوب, الموصل إلى خير المطلوب, وهو ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الهدى الذي أعظمه التوحيد. وقد تضمن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} أبلغ وعيد, وأعظم زجر شديد, لمن كتم ذلك أو قصر فيما أمر به من القيام في الدعوة على العباد, وبذل الوسع في الاجتهاد, والحث على سبيل الرشاد, فمن دأب نفسه في ذلك نال الفوز والإسعاد؛ لأنه اقتفى آثار نبيه عليه الصلاة والسلام؛ وهدي أصحابه وأتباعهم الذين سلكوا منهج السداد, ومن قصر فيه فقد فرط وخالف المنهاج النبوي وباء بالسخط واللعنة والإبعاد. قال الله تعالى: {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة: من الآية (159) .

_ (1) انظر: فيض القدير (3/145) . (2) رواه البخاري (79) ومسلم (2282) .

وقال جل جلاله: {قلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلى اللَّهِ} أي: قل يا محمد هذه الدعوة التي تدعوا جميع الناس عليها, والطريقة السوية التي أنا عليها, {سَبِيلِي} أي: سنتي ومنهاجي القويم, {أَدْعُو إِلى اللَّه} أي: إلى توحيده, الذي هو الصراط المستقيم {عَلى بَصِيرَةٍ} أي: على يقين ومعرفة أبين بها الحقّ والهدى, والضلال والردى {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي: من آمن بي وصدق, وعرف الإيمان وحقق, يدعو إلى مل دعوت إليه, ويجاهد الآبين عليه. فظهر من هذا وبان, أن الدعوة واجبة وحق على كل إنسان, يدعي أنه من أهل الإسلام والإيمان, وأنه متبع للسنة والقرآن, ولكن كل على حسب حاله في ذلك, إذ ليسوا سواء في المراتب والمسالك. وقال الحافظ العماد بن كثير: في قوله تعالى: {ولتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104) . أي: منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر. قال أبو جعفر الباقر (1) : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ} فقال: "الخير اتباع القرآن سنتي" رواه ابن مردودية. والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه (2) .

_ (1) هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الباقر, وقيل له الباقر لأنه بقر العلم أي شقه وعرف أصله وخفيه, ولد سنة 56هـ وتوفي سنة 114هـ. انظر: السير (1/142) . (2) انظر: تفسير ابن كثير (2/75) .

وهذا المقام مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون, ويعتني بشأنه الناصحون, ويرغب في تحصيل أجره الراغبون, {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43) . والمدار في العمال الإخلاص والاحتساب, فعليهما يترتب القبول والثواب. وقد آن لجواهر عقد هذه اللآلىء, أن تنتظم فرايدها في سلك الكمال, وحان لها أن ترتسم غررا في صفحات محيا الوجود, وتلتئم دررا يفوق نظامها العقود, وأذنت شموس بيانها أن تطلع غربا وشرقا, فتصبح نفوس أعدائها بكؤوس المر شرقا, مع أنها لم تغص عليها قريحة لها في الفهم طول باع, ولا في العلم تبحر وجودة وسعة اطلاع, بل فهم كليل, وذهن عليل, ومسحة من علم قليل, ولكن إذا ساعدت الأقدار, رفعت الأغمار من الحضيض إلى اليفاع, وسهلت لمعارج المصاعد إلى رقي مدارج المقاصد, ويسرت أسباب المطالب, وأنجحت الأماني والرغائب, فزالت من المرء وصمة الاتضاع, وأرجو أن تكون إلى الصراط المستقيم داعية, وأن تعيها من الناس أذن واعية, ولهدم شبه المبطلين ساعية, فلا يكون لها إن شاء الله بعد هذه ارتفاع, وأن تكون في وجه أهل الضلال وسوما, ولشياطين المشركين رجوما, ولهداة المسلمين نجوما, وان يعم النفع بها والانتفاع, واسأل من يسرها منه بالمعونة, أن يجعلها عن شوب الرياء مصونة, وأن يصيرها بالقبول مقرونة, وأن يحقق رجائي فيه يوم اشتداد الإفزاع, وأن يمن علي في الحياة باقتفاء سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه والاتباع, وأن

يحشرني في زمرته وأصحابه والاتباع, وأن لا يجعلني ممن ضل سعيه وبطل عمله وضاع. وأعوذ بك اللهم من علم لا ينفع, وقلب لا يخشع, ودعاء لا يسمع, ونفس لا تشبع. نعوذ بك اللهم من شر هؤلاء الأربع. والحمد لله الذي هدانا لهذا, وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين, إنك حميد مجيد. وكان الفراغ من جمع هذه الدرر, وتسطير هذه الغرر, في رابع يوم من صفر عام 1216هـ ألف ومائتين وستة عشر, أحسن الله لنا الختام, وتجاوز عما اقترفناه من الآثام, ولا يؤاخذنا بما سعت الأقدام, وطغت به الأقلام, وطفحت فيه الأفهام, فهو أهل التقوى وأهل المغفرة, وأهل الفضل وقبول المعذرة.. إنه على ما يشاء قدير, وبعباده لطيف خبير. وكان الفراغ من نسخ هذه الرسالة الجليلة المقدار نهار ثالث وعشرين من صفر المذكور, بقلم أحوج العباد إلى عفو ربه الجبار, محمد بن علي بني النجار. غفر الله له وللمسلمين القائمين بالدين, ولمن ألفها, وقرأها, وطالع فيها, وتأمل معانيها, وامتثل أوامرها, وانتهى عن مناهيها. غفر الله للجميع بمنه وكرمه.. أمين

وكان الفراغ من تحقيق هذه الرسالة ومراجعتها في نهار اليوم السادس من شهر ربيع الأول, بقلم أفقر الخلائق إلى الجليل الخالق, أتم الله له حسن الخاتمة, وتمام العاقبة في الدنيا والآخرة. والله أعلم, وصلى الله وسلم على خير البشرية, وعلى أصحابه, ومن سار على نهجه إلى يوم يرث الله البرية.

§1/1