العقائد الإسلامية

سيد سابق

بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} صدق الله العظيم

مقدمة

مقدمة. * الإسلام إيمان وعمل. * مفهوم الإيمان. * وحدة العقيدة. * لماذا كانت العقيدة واحدة وخالدة؟ * منهج الرسل فى الدعوة إلى الإيمان. * الانحراف عن منهج الرسل وأثره. * ضرورة العودة إلى تجديد دعوة الإيمان.

الإسلام إيمان وعمل

* الإسلام إيمان وعمل: الإسلام هو دين الله الذى أوحاه إلى محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو إيمان وعمل: والإيمان يمثل العقيدة، والأصول التى تقوم عليها شرائع الإسلام، وعنها تنبثق فروعه. والعمل يمثل الشريعة، والفروع التى تعتبر للإيمان والعقيدة. والإيمان والعمل، أو العقيدة والشريعة كلاهما مرتبط بالآخر ارتباط الثمار بالأشجار، أو ارتباط المسبَّبات بالأسباب، والنتائج بالمقدمات. ومن أجل هذا الترابط الوثيق يأتى العمل مقترنًا بالإيمان فى أكثر آيات القرآن الكريم. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (¬1). {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 25. (¬2) سورة النحل - الآية 97. (¬3) سورة مريم - الآية 96.

مفهوم الإيمان والعقيدة

* مفهوم الإيمان والعقيدة (¬1): ومفهوم الإيمان أو العقيدة ينتظم ستة أمور: أولاً: المعرفة بالله، والمعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، والمعرفة بدلائل وجوده، ومظاهر عظمته فى الكون والطبيعة. ثانيًا: المعرفة بعالم ما وراء الطبيعة، أو العالم غير المنظور، وما فيه من قوى الخير التى تتمثل فى الملائكة، وقوى الشر التى تتمثل فى إبليس وجنوده من الشياطين، والمعرفة بما فى هذا العالم أيضًا من جِن وأرواح. ثالثًا: المعرفة بكتب الله التى أنزلها لتحديد معالم الحق والباطل، والخير والشر، والحلال والحرام، والحسن والقبيح. رابعًا: المعرفة بأنبياء الله ورسله الذين اختارهم ليكونوا أعلام الهدى، وقادة الخلق إلى الحق. خامسًا: المعرفة باليوم الآخر، وما فيه من بعث وجزاء، وثواب وعقاب وجنة ونار. سادسًا: المعرفة بالقدر الذى يسير عليه نظام الكون فى الخَلق والتدبير. * وحدة العقيدة: وهذا المفهوم للإيمان، هو العقيدة التى أنزل الله بها كتبه، وأرسل بها رسله، وجعلها وصيته فى الأولين والآخرين. ¬

(¬1) العقيدة هى التصديق بالشىء والجزم به دون شك أو ريبة، فهى بمعنى الإيمان، يقال: أعتقد كذا أى آمن به؛ والإيمان بمعنى التصديق، يقال: آمن بالشىء، أى صدق به تصديقًا لا ريب فيه ولا شك معه.

لماذا كانت العقيدة واحدة وخالدة؟

فهى عقيدة واحدة، لا تتبدل بتبدل الزمان أو المكان، ولا تتغير بتغير الأفراد أو الأقوام. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬1). وما شرعه الله لنا من الدين، ووصَّانا به - كما وصى رسله السابقين - هو أصول العقائد وقواعد الإيمان، لا فروع الدين، ولا شرائعه العملية؛ فإن لكل أمة من التشريعات العملية ما يتناسب مع ظروفها، وأحوالها، ومستواها الفكرى والروحى. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (¬2) * لماذا كانت العقيدة واحدة وخالدة؟ وإنما جعل الله هذه العقيدة عامة للبشر، وخالدة على الدهر؛ لما لها من الأثر البيِّن، والنفع الظاهر فى حياة الأفراد والجماعات. فالمعرفة بالله من شأنها أن تفجر المشاعر النبيلة، وتوقظ حواس الخير، وتربى ملكة المراقبة، وتبعث على طلب معالى الأمور وأشرافها، وتنأى بالمرء عن مُحَقَّرات الأعمال وسَفسافها. والمعرفة بالملائكة تدعو إلى التشبه بهم والتعاون معهم على الحق والخير؛ كما تدعو إلى الوعى الكامل واليقظة التّامّة؛ فلا يصدر من الإنسان إلا ما هو حسن، ولا يتصرف إلا لغاية كريمة. والمعرفة بالكتب الإلهية إنما هى عرفان بالمنهج الرشيد الذى رسمه الله للإنسان كى يصلَ بالسير عليه إلى كماله المادى والأدبى. ¬

(¬1) سورة الشورى - الآية 13. (¬2) سورة المائدة - الآية 48.

والمعرفة بالرسل إنما يقصد بها ترسم خطاهم، والتخلق بأخلاقهم، والتأسى بهم، باعتبار أنهم يمثلون القيم الصالحة، والحياة النظيفة التى أرادها الله للناس. والمعرفة باليوم الآخر هى أقوى باعث على فعل الخير، وترك الشر. والمعرفة بالقدر تزود المرء بقوى وطاقات تتحدى كل العِقاب والصعاب، وتصغر دونها الأحداث الجسام. وهكذا يبدو بجلاء أن العقيدة إنما يقصد بها تهذيب السلوك، وتزكية النفوس وتوجيهها نحو المثل الأعلى - فضلاً عن أنها حقائق ثابتة - وهى تعد من أعلى المعارف الإنسانية إن لم تكن أعلاها على الإطلاق. وتهذيب سلوك الأفراد عن طريق غرس العقيدة الدينية هو أسلوب من أعظم الأساليب التربوية. حيث إن للدين سلطانًا على القلوب والنفوس، وتأثيرًا على المشاعر والأحاسيس، ولا يكاد يدانيه فى سلطانه وتأثيره شىء آخر من الوسائل التى ابتكرها العلماء، والحكماء، ورجال التربية. فغرس العقيدة فى النفوس، هو أمثل طريقة لإيجاد عناصر صالحة تستطيع أن تقوم بدورها كاملاً فى الحياة، وتُسهم بنصيب كبير فى تزويدها بما هو أنفع وأرشد. إذ أن هذا اللون من التربية يُضفى على الحياة ثوب الجمال والكمال، ويظللها بظلال المحبة والسلام. ومتى سادت المحبة ارتفعت الخصومة، وانقطع النزاع، وحل الوفاق محل الشقاق، وتقارب الناس، وتآلفوا، وسعى الفرد لخير الجماعة، وحرصت الجماعة على إصلاح الفرد وإسعاده.

ومن ثَمّ تظهر الحكمة واضحة من جعل الإيمان عامًا خالدًا، وفى أن الله لم يُخْل جيلاً من الأجيال، ولا أمة من الأمم، من رسول يدعو إلى هذا الإيمان وتعميق جذور هذه العقيدة. وكثيرًا ما كانت تأتى هذه الدعوة بعد فساد الضمير الإنسانى، وبعد أن تتحطم كل القيم العليا، ويظهر أن الإنسان أشد ما يكون حاجة إلى معجزة تعيده إلى فطرته السليمة؛ ليصلح لعمارة الأرض، وليقوى على حمل أمانة الحياة. إن هذه العقيدة هى الروح لكل فرد، بها يحيا الحياة الطيبة، وبفقدها يموت الموت الروحى، وهى النور الذى إذا عمى عنه الإنسان، ضل فى مسارب الحياة، وتاه فى أودية الضلال. {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (¬1). إن العقيدة مصدر العواطف النبيلة، ومغرس المشاعر الطيبة، ومنبت الأحاسيس الشريفة؛ فما من فضيلة إلا تصدر عنها، ولا صالحة إلا ترد إليها. والقرآن الكريم حينما يتحدث عن الصالحات، إنما يذكر العقيدة فى طليعة أعمال البر كأصلٍ تتفرع عنه، وكأساس تقوم عليه، يقول الله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 122.

منهج الرسل فى غرس هذه العقيدة

وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬1). * منهج الرسل فى غرس هذه العقيدة: وكانت الرسل تعرض على الناس هذه العقيدة، عرضًا كله السهولة والبساطة والمنطق؛ فتلْفت أنظارهم إلى ملكوت السماوات والأرض؛ وتوقظ عقولهم إلى التفكير فى آيات الله؛ وتُنبِّه فطرهم إلى ما غُرِس فيها من شعور بالتدين، وإحساس بعالم وراء هذا العالم المادى. وعلى هذه السنن مضى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يغرس هذه العقيدة فى نفوس أمته لافِتًا الأنظار؛ وموجِّهًا الأفكار؛ وموقظًا العقول؛ ومُنبِّهًا الفِطَر؛ ومُتعهِّدًا هذا الغراس بالتربية والتّنمية حتى بلغ الغاية من النجاح، واستطاع أن ينقل الأمة من الوثنية والشرك إلى عقيدة التوحيد؛ ويملأ قلوبها بالإيمان واليقين؛ كما استطاع أن يجعل من أصحابه قادة فى الإصلاح وأئمة فى الخير، وأن يخلق جيلاً يعتزّ بالإيمان؛ ويعتصم بالحق؛ فكان هذا الجيل كالشمس للدنيا والعافية للناس! وقد شهد الله لهذا الجيل بالتفوق والامتياز، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬2). ولقد بلغ الإيمان ببعض هؤلاء الصحابة إلى درجة قال فيها: " لو كُشِف عنِّى الحجاب لَمَا ازْددت يقينًا. ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 177. (¬2) سورة آل عمران - الآية 110.

الانحراف عن منهج الرسل وأثره

وفى حديث الحارث بن مالك الأنصارى رضى الله عنه ما يعطينا الصورة المشرقة لهذا الإيمان. فقد مر حارثة برسول الله صلوات الله وسلامه عليه فقال له الرسول: «كيف أصبحت يا حارثة؟»؛ قال: أصبحت مُؤمنًا حقًا؛ قال: «انظر ماذا تقول، فإن لكل شىء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟»؛ قال: عزَفتْ نفسى عن الدنيا، فأسْهَرْت ليلى، وأظمأت نهارى، وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزًا، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغَوْن (¬1) فيها؛ فقال: «عرفت يا حارثة فالزم» (¬2). * الانحراف عن منهج الرسل وأثره: ومنذ قامت دولة التوحيد على يدى خاتَم أنبياء الله ورسله، بقيت العقيدة تستمد قدسيتها من وحى الله وتعاليم السماء، وتعتمد أوَّل من تعتمد على الكتاب والسنة، وتتّجه فى الدرجة الأولى إلى تربية الملكات، وإعلاء الغرائز، وتهذيب السلوك، كى ترفع الإنسان إلى السمو اللائق بكرامته، وتجعل منه قوة إيجابية فى الحياة. ثم كانت الخلافات السياسية، والاتصال بالمذاهب الفكرية والمذاهب الدينية الأخرى؛ وتحكيم العقل فيما لا قدرة له عليه .. سببًا فى العدول عن منهج الأنبياء؛ كما كانت سببًا فى تحول الإيمان من بساطته وإيجابيته وسموّه إلى قضايا فلسفية، وأقيسة منطقية، ومناقشات كلامية، أقرب ما تكون إلى المناقشات البيزنطية. ¬

(¬1) يتضاغون: يصرخون. (¬2) رواه الطبرانى بسند ضعيف.

ولم يَعُد الإيمان هو الإيمان الذى تزكو به النفس، أو يصلح به العمل، أو ينهض به الفرد، أو تحيا به الأمة. ولقد كان من أثر الخلافات السياسية، والعدول عن نهج الفطرة، والتأثر بالمذاهب الطارئة، وتحكيم العقل .. أن انقسم حملة العقيدة إلى مدارس مختلفة، كل مدرسة منها تُمثِّل لونًا معينًا من التفكير؛ وتستأثر هى وحدها بالحق دون غيرها فى زعمها، ومن لم يدخل فى دائرة تعاليمها يُعَدّ فى نظرها خارجًا عن الإسلام: فمدرسة لأهل الحديث، ومدرسة للأشاعرة، ومدرسة للماتريدية، ومدرسة للمعتزلة، ومدرسة للشيعة، ومدرسة للجهمية .. إلى آخر هذه المدارس المختلفة المتعددة المذاهب والمتنوعة الآراء: وكل يدّعى وصْلاً بليلَى ... وليلى لا تُقرّ لهم بذاكا إذا اشتبكت دموعٌ فى جفون ... تَبيّن من بكى ممن تباكا وأشهر الخلافات التى وسَّعَت الهُوّة بين الأمة الواحدة، هو ما وقع من خلاف بين الأشاعرة والمعتزلة. وكان أهم الموضوعات التى ثار حولها الخلاف هى ما يأتى: 1 - هل الإيمان تصديق فقط، أو هو تصديق وعمل؟ 2 - هل صفات الله الذاتية ثابتة، أو منفية عنه؟ 3 - هل الإنسان مُسيّر، أو مُخيّر .. ؟ 4 - هل يجب على الله فعل الصلاح أو الصلح، أو لا يجب؟ 5 - هل الحسن والقبح يعرفان بالعقل، أو الشرع؟

ضرورة العودة إلى تجديد دعوة الإيمان

6 - هل يجب على الله أن يثيب الطائع، ويعذب العاصى، أو لا يجب ذلك؟ 7 - هل يرى الله فى الآخرة، أو أن ذلك مستحيل؟ 8 - ما حكم مرتكب الكبيرة التى لم يَتُب منها حتى مات؟ إلى آخر هذه المسائل التى كانت مثار فرقة بين المسلمين؛ والتى مزقت الأمة شيعًا وأحزابًا. ولقد كان من نتائج هذا التنازع، ومن آثار هذا الانقسام .. أن جنى المسلمون على أنفسهم جنايات خطيرة: فتزعزعت العقيدة فى النفوس، واهتز الإيمان فى القلوب، فلم يعد للعقيدة السيطرة على سلوك الأفراد، ولم يبق للإيمان السلطان على تصرفاتهم. وتَبعَ ضعف العقيدة الضّعف العام فى الفرد، وفى الأسرة، وفى المجتمع، وفى الدولة، وفى كل جانب من جوانب الحياة، وأخذ هذا الضعف يَدِبّ فى كل ناحية، حتى أصبحت الأمة عاجزة عن النهوض بتبعاتها، والاضطلاع بمسئولياتها داخليًا وخارجيًا، ولم تَبْق الأمة كما أرادها الله أن تكون .. صالحة لقيادة المم وهداية الشعوب. وإذا كان سبب تخلف الأمة عن غاياتها الكبرى، هو ضعف العقيدة كان من الضرورى - ونحن نعمل على إعادة مجد أمتنا - أن نسعى جاهدين فى غرس العقيدة فى نفوسنا، وأن نترسم الخطة التى رسمها الرسول صلى الله علية وسلم فى تعهدها بالتربية والتنمية حتى تبلغ غايتها من القوّة وتصل إلى النهاية من اليقين الذى يدفعنا إلى مجد الحياة، ويرفعنا إلى أسمى درجات العز والشرف.

وهذا الكتاب ما هو إلا محاولة من المحاولات التى تبرز العقيدة، وتوضح أثرها فى النفس وفى الحياة. وقد اعتمدنا فى ذلك على المصدر الأساسى للإسلام من كتاب الله وسنة رسوله. وأملنا فى الله عظيم، ورجاؤنا كبير فى أن تلقى هذه الدراسات من الترحيب والقبول ما يُمكِّن لها حتى تكون لنا العقيدة التى نسود بها فى الدنيا، ونسعد بها فى الآخرة؛ والله الموفق وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

معرفة الله

معرفة الله. * وسيلة المعرفة. * المعرفة عن طريق العقل. * التقليد حجاب العقل. * ميادين التفكير وغايته. * المعرفة عن طريق معرفة الأسماء والصفات. * اسم الله العظيم.

وسيلة المعرفة

إن معرفة الله، هى أسمى المعارف وأجلها، وهى الأساس الذى تقوم عليه الحياة الروحية كلها. فمنها تفرعت المعرفة بالأنبياء والرسل، وما يتصل بهم من حيث عصمتهم، ووظيفتهم، وصفاتهم، والحاجة إلى رسالاتهم، وما يلحق بذلك من المعجزة والولاية، والكرامة، والكتب السماوية. وعنها تشعبت المعرفة بعالم ما وراء الطبيعة: من الملائكة والجن والروح. وعنها انبثقت المعرفة بمصير هذه الحياة، وما تنتهى إليه من الحياة البرزخية، والحياة الأُخروية: من البعث، والحساب، والثواب، والعقاب، والجنة، والنار. * وسيلة المعرفة: وللمعرفة بالله وسيلتان: إحداهما: العقل والنظر فيما خلق الله من أشياء. وثانيهما: معرفة أسماء الله وصفاته. فبالعقل من جانب، وبمعرفة الأسماء والصفات من جانب آخر، يعرف الإنسان ربه، ويهتدى إليه. ولْنُلْق ضوءًا على كل وسيلة من هاتين الوسيلتين: * المعرفة عن طريق العقل: إن لكل عضو وظيفة، ووظيفة العقل، هى التأمل والنظر والتفكير، وإذا تعطلت هذه القوى بطل عمل العقل، وعطل من أهم وظائفه، وتبع ذلك

توقف نشاط الحياة .. مما يتسبب عنه الجمود والموت والفناء؛ والإسلام أراد للعقل أن ينهض من عقاله، ويفيق من سباته، فدعا إلى النظر والتفكير، وعَدّ ذلك من جوهر العبادة. {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬1). {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (¬2). والذين يجحدون نعمة العقل، ولا يستعملونه فيما خلق من أجله، ويغفلون عن آيات الله .. هم موضع التحقير والازدراء، والله سبحانه يعتب عليهم فيقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (¬3). {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (¬4). وتعطيل العقل عن وظيفته يهبط بالإنسان إلى مستوى أقل من مستوى الحيوان، وهو الذى حال بين الأقدمين وبين النفود إلى الحقائق فى الأنفس وفى الآفاق؛ يقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة يونس - الآية 101. (¬2) سورة سبأ - الآية 46. (¬3) سورة يوسف - الآية 105. (¬4) سورة يس - الآية 46. (¬5) سورة الأعراف - الآية 179.

التقليد حجاب العقل

* التقليد حجاب العقل: والتقليد هو المانع للعقل من الانطلاق، والمعوِّق له عن التفكير، ومن ثَمَّ فإن الله يُثْنى على الذين يخلصون للحقائق، ويميزون بين الأشياء، بعد البحث والتمحيص، فيأخذون ما هو أحسن، ويدعون غيره: {فَبَشِّرْ عِبَادِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} (¬1). ويندد بالمقلدين الذين لا يفكرون إلا بعقول غيرهم، ويحمدون على القديم المألوف، ولو كان الجديد أهدى وأجدى لهم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (¬2). * ميادين التفكير: والإسلام حين دعا إلى التفكير، ورحب به، إنما أراد أن يكون ذلك فى دائرة نطاق العقل وحدود مداركه. فدعا إلى النظر فيما خلق الله من شىء، فى السماوات والأرض، وفى الإنسان نفسه، وفى الجماعات البشرية، ولم يحظُر عليه إلا التفكير فى ذات الله؛ لأن ذات الله فوق الإدراك. «تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله، فإنكم لن تقدروا قدره» (¬3). ¬

(¬1) سورة الزمر - الآية 17، 18. (¬2) سورة البقرة - الآية 170. (¬3) رواه أبو نعيم فى الحلية مرفوعًا إلى النبى صلى الله عليه وسلم بسند ضعيف، ومعناه صحيح.

غاية التفكير

والقرآن الكريم ملىء بمئات الآيات الداعية إلى النظر فى مجالات الكون الفسيحة، وآفاقه الرحبة التى لا تحد بحد، ولا تقف عند نهاية. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (¬1). وما أوسع الدنيا التى دعا الإسلام إلى التفكير فيها، وسعتها ليست بشىء فى جانب سعة الآخرة. * غاية التفكير: ومن أجل الغايات التى يريدها الإسلام من: إيقاظ العقل، واستعمال وظيفته فى التأمل والنظر والتفكير هى هداية الإنسان إلى قوانين الحياة، وعلل الوجود وسنن الكون، وحقائق الأشياء؛ لتكون هذه هى المنارات التى تكشف له عن مبدع الكون وخالقه، ولتأخذه برفق إلى هذه الحقيقة الكبرى: حقيقة المعرفة بالله. إن معرفة الله إنما هى نتاج عقل ذكى ملهم، وثمرة تفكير عميق مشرق. وهذه هى إحدى وسائل القرآن الكريم فى الدلالة على الله. إنه يوقظ العقل، ويفتح أمامه كتاب الطبيعة؛ ليتعرف منه ما لله من صفات كماله، ونعوت جلاله، ومظاهر عظمته، وأدلة قدسه، وشمول علمه، ونفوذ قدرته، وتفرده بالخلق والإبداع. لنصغ إلى هذه الآيات فى وعى: ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 219، 220.

المعرفة عن طريق معرفة الأسماء والصفات

{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). فأى برهان أسطع من هذا البرهان؟ وأى حجة أبلغ من هذه الحجة؟! وإذا لم يخضع العقل لهذا البرهان، ويذعن لهذه الحجة، فإنه لا يخضع لبرهان، ولا يذعن لحجة قط. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (¬2). وليس يصح فى الأذهان شىء ... إذا احتاج النهار إلى دليل * المعرفة عن طريق معرفة الأسماء والصفات: والوسيلة الأخرى التى اتخذها الإسلام لتعريف الناس بالله، هى عرض أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا. ¬

(¬1) سورة النمل - الآية 60 - 64. (¬2) سورة النور - الآية 40.

فالأسماء والصفات هى الوسائل التى تعرَّف الله بها إلى خلقه، وهى النوافذ التى يطل منها القلب على الله مباشرة، وهى التى تحرك الوجدان، وتفتح أمام الروح آفاقًا فسيحة تُشاهَد فيها أنوار الله وجلاله. وهذه الأسماء هى التى ذكرها الله سبحانه فى قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1). وهى التى أمرنا أن ندعوه بها. {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ (¬2) بِهَا} (¬3). وعددها تسعة وتسعون اسمًا؛ روى البخارى ومسلم والترمذى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «لِلّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْماً مَنْ حَفِظَهَا (¬4) دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ». وزاد الترمذى فى روايته: " هو الله (¬5)؛ الذى لا إله إلا هو، الرحمن (¬6)؛ الرحيم (¬7)؛ الملك (¬8)؛ القدوس (¬9)؛ ¬

(¬1) سورة الإسراء - الآية 110. (¬2) ادعوه: سموه واذكروه واعبدوه وتقربوا إليه بها. (¬3) سورة الأعراف - الآية 180. (¬4) حفظها ووعاها واستحضر معناها واستشعر فى نفسه آثارها. (¬5) الله: لفظ الجلالة علم على الذات الإلهية المقدسة الواجبة الوجود المستحقة لجميع المحامد؛ وأما بقية الأسماء فكل اسم منها يدل على صفة، ولهذا صح أن تكون وصفًا للفظ الجلالة، وأن يخبر بها عنه. (¬6) الرحمن: المنعم بجلائل النعم. (¬7) الرحيم: المنعم بدقائقها. (¬8) الملك: المتصرف فى ملكه كيفما شاء. (¬9) القدوس: المطهر من العيوب والنقائص.

السلام (¬1)؛ المؤمن (¬2)؛ المهيمن (¬3)؛ العزيز (¬4)؛ الجبار (¬5)؛ المتكبر (¬6)؛ الخالق (¬7)؛ البارئ (¬8)؛ المصور (¬9)؛ الغفار (¬10)؛ القهار (¬11)؛ الوهاب (¬12)؛ الرزاق (¬13)؛ الفتاح (¬14)؛ العليم (¬15)؛ القابض (¬16)؛ الباسط (¬17)؛ الخافض (¬18)؛ الرافع (¬19)؛ ¬

(¬1) السلام: الأمان لخلقه. (¬2) المؤمن: المؤمن لخلقه من العذاب والمصدق وعده لهم. (¬3) المهيمن: المسيطر. (¬4) العزيز: الغالب. (¬5) الجبار: المنفذ لأوامره والمصلح لشئون عباده. (¬6) المتكبر: المنفرد بصفات العظمة. (¬7) الخالق: الموجد للمخلوقات من غير أصل أو المقدر. (¬8) البارئ: الخالق لما فيه الروح والموجد لما له أصل. (¬9) المصور: المعطى لكل شىء صورة تميزه عن غيره، فالخالق الموجد للأشياء إيجادًا أوليًا، أو المقدر، والبارئ المظهر لها، والمصور الذى أعطاها الصورة المناسبة. (¬10) الغفار: كثير المغفرة وستر الذنوب. (¬11) القهار: القابض على كل شىء والقاهر لكل الخلائق. (¬12) الوهاب: كثير النعم دائم العطايا والمنن. (¬13) الرزاق: خالق الأرزاق وخالق أسبابها. (¬14) الفتاح: الذى يفتح خزائن رحمته لعباده. (¬15) العليم: العالم بكل شىء فلا يغيب عنه شىء. (¬16) القابض: قابض الأرواح، أو مضيق الرزق على من يشاء من عباده. (¬17) الباسط: موسع الرزق على من يشاء. (¬18) الخافض: الذى يخفض من هو مستحق للخفض بالخزى والذل والعذاب. (¬19) الرافع: الذى يرفع من يستحق الرفعة من المتقين.

المعز (¬1)؛ المذل (¬2)؛ السميع؛ البصير؛ الحكم (¬3)؛ العدل (¬4)؛ اللطيف (¬5)؛ الخبير؛ الحليم (¬6)؛ العظيم (¬7)؛ الغفور (¬8)؛ الشكور (¬9)؛ العلى (¬10)؛ الكبير (¬11)؛ الحفيظ (¬12)؛ المقيت (¬13)؛ الحسيب (¬14)؛ الجليل (¬15)؛ الكريم (¬16)؛ ¬

(¬1) المعز: يعز من استمسك بدينه ويعطيه النصرة والغلبة. (¬2) المذل: الذى يذلك أعداءه. (¬3) الحكم: الحاكم الذى لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. (¬4) العدل: العادل الكامل فى عدالته. (¬5) اللطيف: العالم بخفايا الأمور ودقائقها. (¬6) الحليم: الذى لا يستفزه غضب ولا يتعجل بالعقوبة. (¬7) العظيم: البالغ أقصى مراتب العظمة. (¬8) الغفور: كثير الغفران. (¬9) الشكور: الذى يعطى الكثير على العمل القليل. (¬10) العلى: الذى بلغ أعلى المراتب التى لا يتصورها العقل، ولا يدركها الفهم. (¬11) الكبير: الذى لا تستطيع الحواس ولا العقول إدراكه. (¬12) الحفيظ: الذى يحفظ الأشياء من الخلل والاضطراب، ويحفظ أعمال العباد، فلا يضيع منها شىء. (¬13) المقيت: خالق الغذاء الروحى والمادى. (¬14) الحسيب: الذى يكفى عباده، أو الذى يحاسبهم يوم القيامة. (¬15) الجليل: الذى له صفات الجلال لكمال صفاته. (¬16) الكريم: المعطى من غير سؤال ولا عوض.

الرقيب (¬1)؛ المجيب (¬2)؛ الواسع (¬3)؛ الحكيم (¬4)؛ الودود (¬5)؛ المجيد (¬6)؛ الباعث (¬7)؛ الشهيد (¬8)؛ الحق (¬9)؛ الوكيل (¬10)؛ القوى (¬11)؛ المتين (¬12)؛ الولى (¬13)؛ الحميد (¬14)؛ المحصى (¬15)؛ المبدئ (¬16)؛ المعيد (¬17)؛ المحى (¬18)؛ ¬

(¬1) الرقيب: الذى يراقب الأشياء ويلاحظها. (¬2) المجيب: الذى يستجيب للداعى إذا دعا. (¬3) الواسع: الذى عمت رحمته كل شىء، ووسع علمه كل شىء. (¬4) الحكيم: صاحب الحكمة لكمال علمه وإتقانه كل شىء. (¬5) الودود: المحب الخير لخلقه، والمحسن إليهم فى كل الأحوال. (¬6) المجيد: البالغ النهاية فى المجد والشرف. (¬7) الباعث: أى باعث الرسل، وباعث الهمم، وباعث مَن فى القبور. (¬8) الشهيد: العالم بكل مخلوق. (¬9) الحق: الثابت الذى لا يتغير. (¬10) الوكيل: القائم بأمور عباده وسائر ما يحتاجون إليه. (¬11) القوى: صاحب القدرة التامة. (¬12) المتين: الذى بلغ النهاية فى الشدة. (¬13) الولى: المتولى أمر خلقه لحبه لهم ونصره إياهم. (¬14) الحميد: المحمود المستحق للثناء. (¬15) المحصى: الذى لا يغيب عن علمه شىء. (¬16) المبدئ: المظهر للأشياء من العدم. (¬17) المعيد: الذى يعيدها بعد عدمها. (¬18) المحى: خالق الحياة فى كل حى.

المميت (¬1)؛ الحى (¬2)؛ القيوم (¬3)؛ الواجد (¬4)؛ الماجد (¬5)؛ الواحد؛ الصمد (¬6)؛ القادر؛ المقتدر؛ المقدم (¬7)؛ المؤخر؛ الأول (¬8)؛ الآخر (¬9)؛ الظاهر (¬10)؛ الباطن (¬11)؛ الوالى (¬12)؛ المتعالى (¬13)؛ البر (¬14)؛ التواب (¬15)؛ ......... ؛ المنتقم (¬16)؛ العفو (¬17)؛ الرءوف (¬18)؛ ¬

(¬1) المميت: سالب الحياة من الأحياء. (¬2) الحى: صاحب الحياة الدائمة. (¬3) القيوم: القائم بنفسه والمقيم لغيره، فبه قامت السماوات والأرض. (¬4) الواجد: الذى يجد كل ما أراده، فلا يحتاج إلى شىء لغناه المطلق. (¬5) الماجد: مثل المجيد. (¬6) الصمد: الذى يقصد فى الحوائج. (¬7) المقدم: الذى يقدم الأشياء بعضها على بعض فى الوجود، وفى الشرف، أو فى الزمان، أو فى المكان. (¬8) الأول: القديم السابق على كل شىء. (¬9) الآخر: الباقى بعد كل شىء. (¬10) الظاهر: الذى أظهر وجوده بآياته. (¬11) الباطن: الخفى بذاته فلا يعلم ذاته أحد. (¬12) الوالى: الذى تولى الأشياء وملكها. (¬13) المتعالى: المنزه عن النقائص. (¬14) البر: كثير البر عظيم الإحسان. (¬15) التواب: الذى يوفق العصاة للتوبة، ويقبلها منهم. (¬16) المنتقم: المعاقب لمن يستحق العقوبة. (¬17) العفو: الماحى لسيئات من أناب إليه. (¬18) الرءوف: عظيم الرأفة والرحمة.

مالك الملك (¬1)؛ ذو الجلال والإكرام (¬2)؛ المقسط (¬3)؛ الجامع (¬4)؛ الغنى (¬5)؛ المغنى (¬6)؛ المانع (¬7)؛ الضار (¬8)؛ النافع (¬9)؛ النور (¬10)؛ الهادى (¬11)؛ البديع (¬12)؛ الباقى (¬13)؛ الوارث (¬14)؛ الرشيد (¬15)؛ الصبور (¬16)؛ جل جلاله. ¬

(¬1) مالك الملك: الذى تجرى الأمور فى السماوات والأرض طبق مشيئته وإرادته. (¬2) ذو الجلال والإكرام: صاحب الشرف والكمال، ومفيض النعم والآلاء. (¬3) المقسط: المنصف للمظلومين من الظالمين بعدله. (¬4) الجامع: الذى يجمع شتات الحقائق المختلفة، والذى يجمع الناس يوم الدين. (¬5) الغنى: المستغنى عن كل ما عداه، والمفتقر إليه كل من سواه. (¬6) المغنى: المتفضل بإغناء من شاء من خلقه. (¬7) المانع: الذى يمنع أسباب الهلاك. (¬8) الضار: الذى ينزل عقابه بأعدائه. (¬9) النافع: الذى عم خيره البلاد والعباد. (¬10) النور: الظاهر بنفسه والمظهر لغيره. (¬11) الهادى: الذى هدى وأرشد كل شىء إلى ما يحفظ وجوده. (¬12) البديع: الذى لا نظير له. (¬13) الباقى: الدائم الوجود. (¬14) الوارث: الباقى بعد فناء الموجودات. (¬15) الرشيد: المرشد لعباده، والذى تجرى تصاريفه لغاياتها بمنتهى الحكمة والسداد. (¬16) الصبور: الذى لا يتعجل بالعقوبة، ولا يتعجل بشىء قبل أوانه.

وفى كتاب الدين الإسلامى: وأسماء الله الحسنى الواردة فى القرآن الكريم هى: 1 - أسماء الله بذاته تعالى وهى: الواحد؛ الأحد؛ الحق؛ القدوس؛ الصمد؛ الغنى؛ الأول؛ الآخر؛ القيوم. 2 - أسماء متعلقة بالتكوين وهى: الخالق؛ البارئ؛ المصور؛ البديع. 3 - أسماء متعلقة بصفتى الحب والرحمة فيما عدا رب، ورحمن، ورحيم وهى: الرءوف؛ الودود؛ اللطيف؛ الحليم؛ العفو؛ الشكور؛ المؤمن؛ البار؛ رفيع الدرجات؛ الرزاق؛ الوهاب؛ الواسع. 4 - أسماء متعلقة بعظمة الله وجلاله وهى: العظيم؛ العزيز؛ العلى؛ المتعالى؛ القوى؛ القهار؛ الجبار؛ المتكبر؛ الكبير؛ الكريم؛ الحميد؛ المجيد؛ المتين؛ الظاهر؛ ذو الجلال والإكرام. 5 - أسماء متعلقة بعلمه تعالى وهى: العليم؛ الحكيم؛ السميع؛ الخبير؛ البصير؛ الشهيد؛ الرقيب؛ الباطن؛ المهيمن. 6 - أسماء متعلقة بقدرته تعالى وتدبيره للأمور وهى: القادر؛ الوكيل؛ الولى؛ الحافظ؛ الملك؛ المالك؛ الفتاح؛ الحسيب؛ المنتقم؛ المقيت. 7 - وهناك أسماء أخرى لم تذكر بالنص فى القرآن الكريم، ولكنها استمدت من أفعال أو صفات له تعالى وردت بالقرآن الكريم وهى: القابض؛ الباسط؛ الرافع؛ المعز؛ المذل؛ المجيب؛ الباعث؛ المحصى؛ المبدئ؛ المعيد؛ المحى؛ المميت؛ مالك الملك؛ الجامع؛ المغنى؛ المعطى؛ المانع؛ الهادى؛ الباقى؛ الوارث.

اسم الله الأعظم

8 - وهناك أسماء أخرى له تعالى مستمدة من المعانى الواردة فى القرآن الكريم وهى: النور؛ الصبور؛ الرشيد؛ المقسط؛ الوالى؛ الجليل؛ العدل؛ الخافض؛ الواجد؛ المقدم؛ المؤخر؛ الضار؛ النافع .. ويتصل بذلك صفتا التكلم والإرادة. * اسم الله الأعظم: وكما أن لله هذه الأسماء، فله اسم أعظم (¬1) إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى، جاء ذكره فيما يلى من أحاديث: 1 - عن بريدة رضي الله عنه قال: سمع النبى صلى الله علية وسلم رجلاً يدعو، وهو يقول: " اللهم إنى أسألك بأنى أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد " .. قال: فقال: «والذى نفسى بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى» (¬2). ¬

(¬1) اختلف العلماء فى تعيين اسم الله الأعظم، والراجح من أقوالهم أنه دعاء مؤلف من عدة أسماء من أسمائه سبحانه، إذا دعا به الإنسان مع توفر شروط الدعاء المطلوبة شرعًا استجاب الله له؛ وليس هو سرًا من الأسرار الذى يعطيه الله لبعض الأفراد فتنخرق لهم العادات ويحققون ما يعجز غيرهم عن تحقيقه، ولا ينبغى أن نزيد شيئًا فى كتاب الله وسنة رسوله. (¬2) رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه، وقال المنذرى: قال شيخنا أبو الحسن المقدسى: هو إسناد لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه روى فى هذا حديث أجود منه؛ وقال الحافظ بن حجر: هذا الحديث أرجح ما ورد فى هذا الباب من حيث السند .. ويراجع فقه السنة جـ2.

2 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبى صلى الله علية وسلم المسجد ورجل قد صلى (¬1) وهو يدعو ويقول فى دعائه: " اللهم لا إله إلا الله أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام .. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «أتدرون بما دعا الله؟ دعا الله باسمه الأعظم الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى» (¬2). 3 - وعن أسماء بنت يزيد رضى الله عنها أن النبى صلى الله علية وسلم قال: «اسم الله الأعظم فى هاتين الآيتين»: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}؛ {الم *اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬3). 4 - وعن سعد بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يقول: «هل أدلكم على اسم الله الأعظم، الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى؟ الدعوة التى دعا بها يونس حيث نادى فى الظلمات الثلاث: " لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين "» فقال رجل: يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة، أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) دخل النبى صلى الله عليه وسلم المسجد ورجل قد صلى .. قال النووى: قال الخطيب: هذا الرجل أبو عباس زيد ابن الصامت الأنصارى الرزقى. (¬2) رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه. (¬3) سورة البقرة - الآية 63، سورة آل عمران - الآية 1، 2 .. والحديث رواه أحمد والترمذى وأبو داود وابن ماجه، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح.

«ألا تسمع قول الله - عز وجل -: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}» (¬1). فهذه الأسماء التى تفتح آفاقًا واسعة من المعرفة بالله إذا فهمها الإنسان، وأدرك معناها، وانفعلت بها نفسه، واتخذها نبراسًا، فإنها تكشف له عن أكبر حقيقة من حقائق هذا الوجود (¬2). ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 88 .. والحديث رواه الحاكم. (¬2) يظن بعض الناس أن لبعض أسماء الله خواص إذا واظب عليها الإنسان حصل له الكثير من الخير والعجائب والخوارق، وهذا الظن ليس له سند من الدين.

الذات الإلهية

الذات الإلهية. * استحالة إدراك الذات. * الطبيعة تؤكد وجود الخالق. * الفطرة دليل وجود الله. * دلالة الواقع والتجارب. * التأييد الإلهى. * شواهد العقل. * لا سند للإلحاد. * اعتراف العلماء المحدثين بوجود الله.

استحالة إدراك الذات

إن حقيقة الذات الإلهية لا يمكن للعقل معرفتها، ولا يستطيع إدراك كُنْهِها؛ لأنها لا تحيط بها الفكرة، والإنسان لم يعط وسائل إدراكها بعد. إن العقل البشرى مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور، وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء. فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية، ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل العلم والفلسفة. وهو عاجز عن معرفة حقيقة الضوء، والضوء من أظهر الأشياء وأوضحها. وعاجز عن معرفة حقيقة المادة، وحقيقة الذرات التى تتألف منها؛ والمادة ألصق بالإنسان. ولا يزال العلم يقف عاجزًا أمام كثير من حقائق الكون والطبيعة، لا يستطيع أن يقول فيها الكلمة الأخيرة. قال العلامة الفلكى المشهور (كاميل فلامَريون) فى كتابه (القوى الطبيعية المجهولة): " نرانا نفكر، ولكن ما هو الفكر؟ لا يستطيع أحد أن يجيب على هذا السؤال؛ ونرانا نمشى، ولكن ما هو العمل العضلى؟ لا يعرف أحد ذلك .. أرى أن إرادتى قوة غير مادية، وأن جميع خصائص نفسى غير مادية أيضًا .. ومع ذلك فمتى أردت أن أرفع ذراعى، أرى أن إرادتى تحرك مادتى، فكيف يحدث ذلك؟ وما هو الوسيط الذى يتوسط للقوى العقلية فى إنتاج نتيجة مادية؟ يوجد من يستطيع أن يجيبنى عن هذا أيضًا؟ بل قل لى: كيف ينقل العصب البصرى صور الأشياء على العقل؟ وقل لى: كيف يدرك العقل هذا؟

العجز عن معرفة حقيقة الأشياء لا ينفى وجودها

وأين مستقره؟ وما هى طبيعة العمل المخى؟ قولوا لى أيها السادة (يريد الملحدين) .. ولكن كفى كفى! فإنى أستطيع أن أسألكم عشر سنين، ولا يستطيع أكبر رأس فيكم أن يجيب على أحقر أسئلتى ". فإذا كان موقف العقل هكذا حيال النفس والضوء والمادة، وما فى الكون المنظور وغير المنظور من أشياء .. فكيف يتطلع إلى معرفة ذات البارى جل شأنه؟ ويحاول إدراك كنهه؟! إن ذات الله أكبر من أن تدركها العقول، أو تحيط بها الأفكار، وما أصدق قول الله سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1). * العجز عن معرفة حقيقة الأشياء لا ينفى وجودها وقصور العقل، وعجزه عن إدراك حقيقة الأشياء لا ينفى وجودها .. فعجزه عن إدراك حقيقة النفس لا ينفى أنها موجودة، وعجزه عن إدراك حقيقة الضوء لا ينفى وجود ضوء يعم الآفاق، وعجزه عن إدراك كنه الذرة لا ينفى أن ثمة ذرات تتكون منها المادة، وهكذا سائر الأشياء التى يقصر العقل عن إدراك حقيقتها ويعجز عن معرفة كنهها. ومثل ذلك الذات الإلهية إذا عجز الإنسان عن إدراك حقيقتها، فليس معنى ذلك أنها غير موجودة، بل هى موجودة كأقوى ما يكون الوجود. إن وجوده سبحانه فى حكم البدهيات الأولية، والمسلمات العقلية، وما كان كذلك لا يطالب بإقامة الدليل عليه، إلا المكابر، كالأعمى الذى يطلب إقامة الدليل على وجود الشمس أثناء النهار، ومع ذلك فنحن نسوق من الأدلة ما يهدى إلى الحق ويكشف عن وجه الصواب. ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 103.

الطبيعة تؤكد وجود الخالق

* الطبيعة تؤكد وجود الخالق: إن وجود الله حقيقة لا شك فى أمرها، ولا مجال لإنكارها، فهو ظاهر كالشمس باهر كفلق الصبح، وكل ما فى الكون شاهد على هذا الوجود الإلهى، ومواد الطبيعة وعناصرها تؤكد أن لها خالقًا ومدبرًا. فالعالم العلوى، وما فيه من شموس وأقمار ونجوم وكواكب، والعالم الأرضى وما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد، والترابط الوثيق، والتوازن الدقيق، الذى يؤلف بين هذه العوالم، ويحكم أمرها .. ما هو إلا آية وجود الله، ومظهر تفرده بالخلق، ولا يتصور العقل أن توجد هذه الأشياء بدون موجد، كما لا يتصور أن توجد الصنعة بدون صانع. فإذا كان العقل يحيل أن تطير طائرة فى الهواء، أو تغوص غواصة فى الماء دون أن يكون فيه صانع للطائرة، ومنشئ للغواصة، فإنه يجزم جزمًا قاطعًا باستحالة وجود هذا الكون البديع، وهذه الطبيعة الجميلة من غير خالق خلقها، ومدبر دبر أمرها. إن ثمة فروضًا ثلاثة يمكن أن نفرضها فى تعليل الأصل الذى صدر عنه الكون، وليس ثمة فرض وراء هذه الفروض: الفرض الأول: أن يكون صدور هذا الكون من العدم. الفرض الثانى: أن تكون الصدفة وحدها هى التى نشأ عنها هذا الكون البديع. الفرض الثالث: أن يكون ثمة موجد أوجد هذا الكون، وأنشأه. ولنمض فى مناقشة كل فرض من هذه الفروض:

فالفرض الأول باطل من أساسه؛ لأن المسببات مرتبطة بأسبابها، والنتائج مرهونة بمقدماتها. ولا يتصور العقل أن يوجد معلول بدون علة، ولا مسبَّب دون أن يسبق بسبب، ولا نتيجة من غير أن يكون لها مقدمات. فصدور الكون من العدم معناه وجود المعلول بدون علة، والمسبَّب دون سببه والنتيجة دون مقدماتها .. أى أن الكون وجد من نفسه وصدر منقطعًا عن سببه. ووجود الأشياء من نفسها منقطعة عن أسبابها محال عقلاً وواقعًا؛ لأن وجود الأشياء من نفسها مع انقطاعها عن أسبابها ترجيح لجانب الوجود على جانب العدم بدون مرجح، وترجيح جانب الوجود على جانب العدم بدون مرجح محال. إننا إذا قلنا: إن الكون وجد من نفسه منقطعًا عن سببه كان ذلك مساويًا لقولنا بأن العدم سبب الوجود. وهذا غاية فى البطلان؛ لأن العدم لا يتصور أن يكون مصدرًا للوجود، ففاقد الشىء لا يعطيه، وهذا هو ما أشارت إليه الآية الكريمة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} (¬1) أى هل وجدوا من غير خالق؟! أم خلقوا أنفسهم، فلا يحتاجون إلى أحد يخلقهم؟! وكل هذا مستحيل. والفرض الثانى وهو أعظم تهافتًا من الفرض الأول، فإن الصدفة لا يمكن أن ¬

(¬1) سورة الطور - الآية 35، 36.

ينبثق عنها هذا النظام، ولا أن يصدر عنها هذا الإحكام، فهل الصدفة هى التى خلقت الذكر والأنثى، وألفت بينهما هذا التأليف الجميل؟ وهل هى التى خلقت الأرض، وما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد؟ وهل الصدفة هى التى علقت الأرض فى الهواء وسيرتها فى مدارها الذى لم تنحرف عنه قيد شعرة منذ ملايين السنين؟ وهل الصدفة هى التى سيرت الكواكب والنجوم مع ضخامتها وكثرتها بهذه السرعة المذهلة دون أن تتصادم؟ وهل الصدفة هى التى أوجدت العناصر التى يتألف منها الكون، وهى التى تُنَسِّقها تنسيقًا دقيقًا صالحًا للاستمرار والدوام إلى المدى الذى أراده الله؟ إن الذرة وهى أصغر الأشياء يحار العقل والعلم فى تركيبها المحكم، وتناسقها العجيب، وتآلف أجزائها بعضها مع بعض، فهل هذا التركيب والتأليف والتناسق صدفة؟ لنستمع إلى كلمة العلم فى الذرة: " تتألف المادة من ذرات لا يمكن رؤيتها بأقوى المجاهر (الميكروسكوب)، ولكى نتصور حجم الذرة علينا أن نتصور أننا لو رصصنا مائة مليون ذرة جنبًا إلى جنب، لبلغ طولها بوصة تقريبًا، ومن ناحية أخرى يوجد فى قطرة من مياه البحر خمسون مليون ذرة من الذهب. وتتألف الذرة من نواة تدور حولها كهارب سلبية (إلكترونات) فى أفلاك مستديرة، وبين الاثنين فراغ يشبه الفراغ بين الكواكب والشمس من حيث النسبة بين الحجم والأبعاد. ويبلغ وزن أخف نواة 1850ضعف وزن الإلكترون، ولو رصصت عشرون ألف نواة جنبًا إلى جنب لبلغ طول قطرها قطر الذرة، أو بعبارة أخرى نسبة النواة إلى الذرة كرأس الدبوس بالنسبة إلى منزل متوسط الحجم.

وتدور الإلكترونات حول النواة فى أفلاك كأفلاك الكواكب، إذ تدور حول الشمس، ولكن هذه الأفلاك أكثر حساسية وأقل تحديدًا من أفلاك الكواكب، ولو أن المادة المؤلفة من النوى الذرية مكدسة مع بعضها أى بدون الفراغ الموجود بين النواة والالكترونات، لبلغ وزن قطعة نقدية فى حجم القرشين حوالى 40 مليون طن. وتتألف النواة من كهارب موجبة (بروتونات) يساوى عددهم عدد الكهارب السالبة (الإلكترونات) التى تدور حول النواة .. ويجد إلى جوار البروتونات كهارب أخرى متعادلة الشحنة تسمى نيوترونات، ولو استطعنا أن نخلخل من هذه الرابطة التى تربط بين البروتونات والنيوترونات، ولو استطعنا أن نخلخل من هذه الرابطة التى تربط بين البروتونات والنيوترونات، أو بالأحرى لو استطعنا أن نهيئ السبل لهروب نيترون واحد من مجموع النيوترونات التى تحيط بالبروتونات إذن لانطلقت طاقة كبرى كان (أينشتين) أول من قدرها بأنها تساوى الكتلة فى مربع سرعة الضوء مقدرًا بالسنتيمتر فى الثانية " (¬1). فإذا انتقلنا من الذرة، ورفعنا رؤوسنا إلى الشمس رأينا العلم يقول: " الشمس هى كرة متأججة بنار أشد وطيسًا من كل نار على الأرض، وهى أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرة، أما بعدها عنا فنحو 92500000 ميل، هذا وإن هى إلا نجمة، وليست هى فى عداد النجوم الكبرى. وهناك مشكلة أخرى أعى حلها النهائى عقول العلماء والفلكيين، هى أن الشمس - كما يؤخذ من علم طبقات الأرض - لم تزل تشع نفس المقدار أو نحوه من الحرارة مدة ملايين من السنين، فإن كانت الحرارة الصادرة عنها نتيجة احتراقها، فكيف لم تفن مادتها مع توالى العصور؟ فلا شك أن طريقة الاحتراق الجارية فيها غير ما نعهد ونألف، وإلا لكفاها 6000 سنة لتحترق، وتنفد حرارتها. ¬

(¬1) مستقبلنا الذرى - تأليف إدوارد تيللر وألبرت لانر - من كتاب الطاقة الإنسانية.

أما فضل الشمس علينا، فليس أنها مصدر نورنا ونارنا فقط، بل هى محور نظامنا السيَّارى، ومصدر حياتنا أيضًا، فهى التى تبخر مياه البحر، وترفعها غيومًا فى الجو، وتنزلها أمطارًا على الأرض، حيث تجرى جداول وأنهارًا تروى زرعنا وتنمى أغراسنا، وتثير الرياح، وتهيج الأنواء، فتطهر الهواء وتنقيه، وتزجى السفن والمراكب فى عُباب المحيط، وهى التى تجر المركبات، وتدير الآلات البخارية، وما الفحم الحجرى إلا حرارة نورها المدخرة منذ قديم الأدهار؛ لينتفع بها بنو العصور المتأخرة، ولا حياة لولا الشمس لحيوان، ولا لنبات؛ فالحيوانات تنتعش بحرارتها، والأطيار تغرد بأنوارها وتسبح تسبيحًا، وبحرارتها وأنوارها تبزغ النباتات، وتنمو الأشجار، وتزهر الأزهار، وتنضج الأثمار .. فنحن مدينون للشمس بمأكلنا ومشربنا، وهى علة وجودنا على هذه الأرض ". فإذا تجاوزنا الشمس وجدنا أن: " أقرب نجم إلينا بعد الشمس يعادل بُعده 260000 مرة بعد الشمس عنا ". ويعتبر هذا شيئًا ضئيلاً جدًا بالنسبة لنجوم المجرة التى أسماها القدماء (طريق التبانة)؛ بل تعتبر المجموعة الشمسية ذرة إذا قيست بالمجرة؛ إذ أنها تحتوى على مائة مليون نجم موزعة فيما يشبه القرص المفرطح الرقيق نسبيًا. ويقول (هيربرت سبنسر جونز) مؤلف كتاب (الفلك العام): " إن الضوء يستغرق مائة ألف سنة ضوئية ليصل بين طرفى المجرة، ومعلوم أن الضوء يسير بسرعة 176000 ألف ميل فى الثانية، أو 300000 ألف كيلومتر .. وعلى هذا فإن السنة الضوئية تعادل عشر مليون مليون كيلومتر. وليست هذه المجرة التى تبلغ هذا الحد من الضخامة التى لا يقوى العقل على استيعابها إلا واحدة من كثيرات لم يحصها العد.

وبقى أن نعرف أن أقرب مجرة لمجراتنا تبعد سبعمائة ألف سنة ضوئية " (¬1). أفبعد هذا يتصور العقل أن يكون ذلك ناشئًا بطريق الصدفة؟ إن القول بالصدفة فى خلق الكون لا يتصوره العقل، ولا يقره العلم، ولا يقوله إنسان إلا إذا فقد أخص خصائصه من الإدراك والتمييز. قال الفيلسوف الألمانى (إدوارد هارنمان) خليفة (شوبنهور) فى كتابه (المذهب الدرونى): " إن الرأى الذى مقتضاه عدم وجود القصد فى الكون عند الدارونيين لا يقوم عليه دليل، وهو من الأوهام التى لا أساس لها من العلم ". وقال الأستاذ (فون باير) الألمانى فى كتابه (دحض مذهب دارون): " وإذا كانوا يعلنون الآن بصوت جهورى بأنه لا يوجد قصد فى الطبيعة، وأن الكون لا تقوده إلا ضرورات عمياء، فأنا أعتقد أن من واجباتى أن أعلن عقيدتى فى ذلك، وهى أنى - على العكس - أرى جميع هذه الضرورات تكشف عن أغراض سامية " .. قال الأستاذ الكبير (محمد فريد وجدى) - رحمه الله - بعد أن ذكر هذا الكلام الأخير: " ولو شئنا الاستئناس بمئات من أقطاب العلم والفلسفة على رأى عدم وجود القصد فى الخليقة، لما كلفنا ذلك أكثر من النقل ". ومتى ثبت وجود القصد فى الكون، فقد ثبت وجود المدبر الحكيم جل وعلا من طريق محسوس لا سبيل للجدل فيه، مصداقًا لقوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬2). وإذا لم يصح الفرض الأول، ولا الفرض الثانى؛ لأنهما خارجان عن دائرة العقل والمنطق والعلم، لم يبق إلا الفرض الثالث: ¬

(¬1) قصة الكون من السديم إلى الإنسان، من كتاب الطاقة الإنسانية. (¬2) سورة إبراهيم - الآية 10.

وهو أن لهذا الكون خالقًا ومدبرًا، وهذا هو مقتضى العقل والمنطق السليم الذى دعا (سقراط) إلى الإيمان بالله، وإفحام (أريستوديم) الذى ينكر الألوهية فى المحاورة التى نذكرها فيما يلى: سقراط: أيوجد رجال تعجب بمهارتهم وجمال صنائعهم؟ أريستوديم: نعم أعجب فى الشعر القصصى بـ (هومير)، وفى التصوير بـ (زوكيس)، وفى صناعة التماثيل بـ (بوليكتيت). سقراط: أى الصناع أولى بالإعجاب، الذى يخلق صورًا بلا عقل ولا حراك، أم الذى يبدع كائنات ذات عقل وحياة؟ أريستوديم: طبعًا الذى يبدع الكائنات المتمتعة بالعقل والحياة، إذا لم تكن من نتائج الاتفاق. سقراط: وهل يمكن أن يكون من الاتفاق أن تُعطَى الأعضاء لمقاصد وغايات خاصة، عين ترى، وأذن تسمع، وأنف يشم، ولسان يتذوق؛ والعين تحاط بحراسة لحساسيتها وضعفها، فتقفل عند النوم، أو عند الحاجة، وتحرس بالرموش والحواجب؛ ويجعل للأذن جهاز خارجى يجمع لها الصوت .. وهل يمكن أن يكون كل ذلك من نتائج الاتفاق؟ والميل المودع فى النفوس للتناسل، والحنان المخلوق فى قلوب الأمهات بالنسبة للأولاد - مع ندرة أن ينفع ولد أباه أو أمه -، والطفل الذى يلهم الرضاعة بمجرد ولادته .. هل يمكن أن يكون ذلك كله من نتائج الاتفاق؟

الفطرة دليل وجود الله

أريستوديم: لا، إن ذلك يدل على الإبداع، وعلى أن الخالق عظيم يحب الكائن الحى، ولكن لماذا لا نرى الخالق؟ سقراط: وأنت أيضًا لا ترى روحك التى تتسلط على أعضائك، فهل معنى هذا أن نقول: إن أفعالك صادرة عن اتفاق وبدون إدراك؟ وصدق الله العظيم الذى يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬1). * الفطرة دليل وجود الله: والكون وما فيه من نظام، وإحكام، وجمال، وكمال، وتناسق، وإبداع، ليس هو وحده الشاهد الوحيد على وجود قيوم السماوات والأرض؛ وإنما هناك شاهد آخر، وهو الشعور المغروس فى النفس الإنسانية بوجوده سبحانه، وهو شعور فطرى فطر الله الناس عليه، وهو المعبر عنه بالغريزة الدينية، وهو المميز للإنسان عن الحيوان، وقد يغفو هذا الشعور بسبب ما من الأسباب، فلا يستيقظ إلا بمثير يبعث على يقظته من ألم ينزل، أو ضر يحيط .. وإلى هذا تشير الآية الكريمة: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (¬2). ¬

(¬1) سورة فصلت - الآية 37. (¬2) سورة يونس - الآية 12.

دلالة الواقع والتجارب

* دلالة الواقع والتجارب: وإذا كان النظر العقلى فى الكون وأسراره يهدى إلى البارى جل شأنه، وإذا كان الشعور الفطرى شعورًا أصيلاً فى النفس الإنسانية، يستوى فيه العالم والجاهل، والحضرى والبدوى، والرجال والنساء، والأولون والآخرون، فإن ثمة دليلاً أخر مأخوذًا من واقع الإنسان وتجاربه، فكم دعا الإنسان ربه، فأجاب دعاءه، وكم ناداه فلبى نداءه، وكم سأله فأعطاه، وكم توكل عليه فكفاه، وكم من مرض شفاه منه، وكم من ألم خففه عنه، وكم من رزق ساقه إليه، وكم من كربة فرجها، وكم من غمة كشفها. إن تجارب الإنسان فى الحياة تأخذ بيده، وتوصله إلى الله مباشرة؛ لأنها تكشف له عن الحقيقة التى لم يستطع أن يلمسها بحواسه والتى تدبر الكون، وتسيِّره وفق نظام محكم وقانون مُطَّرد، وما من إنسان إلا وقد وقع له فى حياته من التجارب ما عرفه بالله، وهداه إليه، وأوقعه عليه. فكثيرًا ما يفقد الإنسان جميع الأسباب المادية التى تجلب الخير له، أو تدفع الشر عنه .. فإذا توجه بقلبه إلى رب كل شىء ومليكه، تحقق له من الخير ما يصبو إليه، واندفع عنه من الشر ما يخاف منه دون سبب ظاهر، أو تعليل معقول، فبماذا تفسر هذه الظواهر؟ وهل لها تفسير سوى أن من ورائها رب الأرباب ومسبب الأسباب. * التأييد الإلهى: ومن دلائل الوجود الإلهى أن المؤمنين بالله إيمانًا حقيقيًا أعلى من غيرهم علمًا، وأكثر أدبًا، وأزكى نفسًا، وأطيب قلبًا، وأكثر تضحية، وأعظم إيثارًا، وأنفع الناس للناس،

شواهد النقل

فما الذى غير طباعهم وغرائزهم وميولهم، ووجهها وجهة الحق والخير والجمال والكمال؟ لماذا لم يكونوا مثل غيرهم ممن لا يؤمنون بالله من غلظ الجهل، وجفاء الطبع، وخبث النفس، وظلمة القلب، وفساد الخلق، وحيوانية فى المطالب والمآرب؟ لابد وأن يكون وراء ذلك سر. وهل فيه سر غير أن المؤمنين بالله يمدهم بالقوى التى تصحح إنسانيتهم ليصلوا إلى أقصى ما قدر لهم من كمال، فهذا التغيير فى نفوس المؤمنين وصفاتهم وأخلاقهم وميولهم، أدل دليل على وجود قوى روحية خفية تعمل عملها فى صمت، وتظهر آثارها جلية فى سلوك المؤمنين بها، الواصلين حبالهم بحبالها. * شواهد النقل: ومما يستشهد به على الوجود الإلهى الحقيقى أن المصطفين من العباد، والأخيار من الناس، نادوا فى الناس من عهد آدم إلى عهد محمد - عليهم صلوات الله وسلامه - بأن لهذا الكون إلهًا حكيمًا، وأجمعوا على ذلك. وقد قامت الشواهد على صدقهم من تأييد الله لهم، وكبت أعدائهم، وجعل كلمة الله هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى .. فأى دليل أبلغ من قول الصادقين مع الله، والمخلصين له، والداعين إليه، والمتفانين فيه، والمؤيدين به. * لا سند للإلحاد: وأخيرًا نقرر أنه لم يثبت من ناحية العقل، ولا من ناحية العلم، أى دليل يمكن الاستناد إليه فى نفى وجود الله .. وكل ما ذكره الملحدون ما هو إلا وهم لا يستند إلى منطق سليم، ولا علم مكين. وليس هذا الإلحاد بجديد على الناس، ولا هو من مبتكرات هذا العصر، وإنما هو قديم، وقديم جدًا، قاومه الأنبياء عبر الأجيال والعصور، يقول القرآن الكريم:

اعتراف العلماء المحدثين بوجود الله

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (¬1). فهل ثمة فارق بين ما قاله الأولون فى عصر الجاهلية، وبين ما يقوله الآخرون فى العصر الذى يتحدثون عنه بأنه عصر النور والعرفان؟ على أن العصر الذى بلغ فيه العلم شأوًا لم يصل إليه من قبل، لم يستطع أن ينكر وجود الله، بل إن علماءه من أشد الناس إيمانًا بالله، ولا نريد بالعلماء السطحيين من أدعياء العلم، وإنما نقصد العلماء الحقيقيين. ومما يؤيد هذا الذى نقوله، ما نشره الدكتور (دينرت) من بحث حلل فيه الآراء الفلسفية لأكابر العلماء بقصد أن يعرف عقائدهم، فتبين له من دراسة 290 عالمًا، أنهم بالنسبة للعقيدة الدينية كما يلى: 242 من هؤلاء أعلنوا إيمانهم الكامل بالله. 28 لم يصلوا إلى عقيدة. 20 لم يهتموا بالتفكير الدينى (¬2). وهكذا نجد أغلبية ساحقة تزيد عن 90% يعلنون إيمانهم بالله عن طريق أبحاثهم العلمية، ونجد من سواهم لا يزالون فى تردد، أو لم يهتموا بالعقيدة الدينية فى أبحاثهم، وأغلب الظن أن المترددين سيصلون يومًا، وأن الآخرين الذين لم يهدهم العلم لساحة الله يعانون نقصًا، لو تخلصوا منه لوصلوا. ونختم هذا البحث عن الدليل العقلى على وجود الله بأقوال مشاهير العلماء: يقول (هرشل) العالم الفلكى الإنجليزى: " كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين ¬

(¬1) سورة الجاثية - الآية 24. (¬2) نقلاً عن مجلة الأزهر - المجلد 29 - عن كتاب الإسلام - الدكتور/ أحمد شلبى.

الدامغة القوية على وجود خالق أزلى لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا، وتضامنوا على تشييد صرح العلم وهو صرح عظمة الله وحده " (¬1). ويقول الدكتور (وتز) الكيماوى الفرنسى: " إذا أحسست فى حين من الأحيان أن عقيدتى بالله قد تزعزعت، وجهت وجهى إلى أكاديمية العلوم لتثبيتها (¬2) ويقول (فولتير) ساخرًا: " لم تشككون فى الله، ولولاه لخانتنى زوجتى وسرقنى خادمى "؟ ¬

(¬1) دائرة معارف " وجدى " مادة 1 له جـ1 ص503. (¬2) مجلة الأزهر - المجلد 19.

صفات الله

صفات الله. * الصفات السلبية. * الصفات الثبوتية. * صفات الذات والأفعال. * صفات الله أعلام هادية.

الصفات السلبية

والله سبحانه الموجد للكون، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، التى هى من مقتضيات كمال ربوبيته وعظمة ألوهيته. وهذه الصفات قد تفرد بها الخالق، فلا يشاركه فيها شريك؛ لأنه وحده هو الرب والإله، فلا رب غيره، ولا إله إلا الله. وهذه الصفات منها صفات سلبية (¬1)، ومنها صفات ثبوتية. * الصفات السلبية: أما الصفات السلبية فهى: الأول والآخر: فالله سبحانه هو الأول: ومعنى أوليته: أنه سبحانه لا أول لوجوده، وأن وجوده غير مسبوق بعدم. وأنه هو الآخر: ومعنى آخريته: أنه سبحانه لا آخر لوجوده، وأنه باق إلى ما لا نهاية، فهو سبحانه أزلى وأبدى، لا يسبقه عدم، ولا يلحقه فناء؛ لأنه واجب الوجود؛ يقول الله سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ (¬2) وَالآخِرُ (¬3) وَالظَّاهِرُ (¬4) وَالْبَاطِنُ (¬5) وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬6). ويقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (¬7). ¬

(¬1) هى التى سلبت عن الله ما لا يليق بكماله. (¬2) الأول: السابق فى الوجود كل الموجودات من غير سبق العدم. (¬3) الآخر: الباقى بعد فناء الموجودات. (¬4) الظاهر: بآثاره الدالة على وجوده. (¬5) الباطن: هو الذى لا تدركه الحواس، ولا تحيط به العقول. (¬6) سورة الحديد - الآية 3. (¬7) سورة القصص - الآية 88.

بدء الخلق فى رأى علماء الشرع

ويقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬1). وروى البخارى والبيهقى عن عمران بن الحُصَيْن قال: إنى عند النبى صلى الله علية وسلم، إذ جاءه قوم من بنى تميم فقال: «أقبلوا البشرى (¬2) يا بنى تميم»، قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم»، قالوا: قبلنا، جئنا لنتفقه فى الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: «كان الله ولم يكن شىء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب فى الذكر كل شىء». والذكر هو اللوح المحفوظ، وهو خَلْق عظيم من خلق الله، سجل الله فيه جميع الكائنات التى قدرها، أو هو عبارة عن علم الله المتعلق بسائر الموجودات: كليها وجزئيها، صغيرها وكبيرها. ومعنى قوله وكان عرشه على الماء: أن العرش فى جهة العلو، والماء تحته فى جهة السفل، وليس معناه أنه ملاصق للماء محمول عليه؛ كما يقال السماء على الأرض، أى أنها فوقها دون ملاصقتها لها. * بدء الخلق فى رأى علماء الشرع: ويظهر من الأحاديث أن العرش هو أول المخلوقات العلوية، وأن الماء هو أول المخلوقات المادية، وأنه خلق قبل العرش كما رواه أحمد والترمذى .. وبعد خلق العرش والماء، خلق الله السماوات والأرض. ¬

(¬1) سورة الرحمن - الآية 26، 27. (¬2) البشرى: هى أن من أسلم نجا من الخلود فى النار.

ويظهر أيضًا من الحديث الصحيح الذى رواه أحمد والترمذى أن أول المخلوقات المعنوية القلم، فقد رويا عن عبادة بن الصامت أن النبى صلى الله علية وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم قال له اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة». وأما ما روى من أن أول المخلوقات العقل، فلم يثبت هذا الحديث، وكذلك حديث: " أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ". وليس ثمة دليل يمكن التعويل عليه فى أصل الكائنات من جهة الشرع. * بدء الخلق فى رأى علماء الفلك وطبقات الأرض: وعلماء الفلك وطبقات الأرض يتفقون مع علماء الشرع فى أن الكون حدث، وتطور بعد أن لم يكن، ولكنهم يختلفون عنهم فى بداية هذا الحدوث وتطوره. فالشرع لا يتحدث عن ذلك، بينما هم يقولون كما جاء فى كتاب (تاريخ الأرض) لـ (جورج جامبو): إن الكون بدأ تطوره منذ بليون بليون سنة؛ أما الأرض فقد نشأت حديثًا جدًا إذ لم توجد إلا منذ بليونين من السنين فقط، وظهرت الحياة على الأرض منذ بليون سنة، والحيوانات البرمائية منذ 200 مليون سنة، أما الحيوانات الثديية - التى يعتبر الإنسان أحد فروعها - فقد بدأ ظهورها على الأرض منذ 120 مليون سنة. والإنسان هو أحدث الوافدين على الأرض، إذ بدأ على صورته الإنسانية منذ 50 مليون سنة. والله أعلم بحقيقة ذلك. ولا يصح أن يقال: إن الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ لأن هذا السؤال خطأ، لأن

الخالق لا يكون مخلوقًا؛ لأنه لو كان مخلوقًا لاحتاج إلى خالق، وهكذا إلى ما لا نهاية؛ وعقولنا القاصرة لا تدرك حقيقة نفسها، فكيف بحقيقة الذات الإلهية؟ وقد نهينا أن نبحث فيها، ففى حديث عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله» (¬1). وقد كتب أحد العلماء الباحثين جوابًا عن هذا السؤال موضحًا له بمثال، فقال: " إذا وضعت كتابًا على مكتبك، ثم خرجت من الحجرة، وعدت إليها بعد قليل، فرأيت الكتاب الذى تركته على المكتب موضوعًا فى الدرج، فإنك تعتقد تمامًا أن أحدًا لابد أن يكون قد وضعه فى الدرج؛ لأنك تعلم من صفات هذا الكتاب أنه لا ينتقل بنفسه .. احفظ هذه النقطة، وانتقل معى إلى نقطة أخرى. لو كان معك فى حجرة مكتبك شخص جالس على الكرسى، ثم خرجت، وعدت إلى الحجرة، فرأيته جالسًا على البساط مثلاً، فإنك لا تسأل عن سبب انتقاله، ولا تعتقد أن أحدًا نقله من موضعه؛ لأنك تعلم من صفات هذا الشخص أنه ينتقل بنفسه، ولا يحتاج إلى من ينقله .. احفظ هذه النقطة الثانية ". ثم أقول لك: " لما كانت هذه المخلوقات محدثة ونحن نعلم من طبائعها وصفاتها أنها لا توجد بذاتها، بل لابد لها من موجد، عرفنا أن موجدها هو الله تبارك وتعالى، ولما كان كمال الألوهية يقتضى عدم احتياج الإله إلى غيره، بل إن من صفاته قيامه بنفسه، عرفنا أن الله تبارك وتعالى موجود بذاته وغير محتاج إلى من يوجده .. ¬

(¬1) رواه مسلم.

وإذا وضَعْت النقطتين السابقتين إلى جانب هذا الكلام، اتضح لك هذا المقام، والعقل البشرى أقصر من أن يتورط فى أكثر من ذلك. * ليس كمثله شىء: والله سبحانه لا يماثله شىء، ولا يماثل شيئًا، فكل ما خطر ببالك، فهو بخلاف ذلك، يقول الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). ومماثلة غير الله فى بعض الصفات، إنما هى من حيث التسمية لا من حيث الحقيقة، فإذا قيل: إن فلانًا عالم وحىّ وموجود وقادر وحكيم ورحيم، فهو من حيث الظاهر فقط، ومع ذلك فإن وجود العلم والحياة، والقدرة والحكمة والرحمة فى الله كاملة غاية الكمال، ووجودها فى الأفراد ناقصة غاية النقص، بالإضافة إلى الله جل شأنه. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). إن الإنسان خُلق ضعيفًا، والله قوى عزيز. والإنسان خلق فقيرًا، والله غنى حميد. والإنسان والد ومولود، والله لم يلد ولم يولد. والإنسان نساى، والله لا يضل ولا ينسى. والإنسان ناقص، والله هو الكمال المطلق. والإنسان محكوم عليه بالموت، والله حىّ لا يموت. ¬

(¬1) سورة الشورى - الآية 11. (¬2) سورة النحل - الآية 60.

يقول سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬1). فالآية تقرر: 1 - أن الله واحد فى ألوهيته لا يعبد معه غيره؛ لأنه هو الحى التام الحياة والقيوم الذى قامت به السماوات والأرض. 2 - وأنه مقدس عن مماثلة غيره من الأحياء، فلا يأخذه نوم، ولا سنة ولا فتور يسبق النوم. 3 - وأن الكون كله: أرضه وسماؤه مملوك له، وأن كل ما فيه ومن فيه خاضع له، لا يخرج عن تقديره وتدبيره. 4 - وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ومشيئته. 5 - وأن علمه محيط بكل شىء: الماضى والحاضر والمستقبل. 6 - ولا يدرك أحد شيئًا من علمه إلا بالقدر الذى يشاؤه. 7 - وأن كرسيه وسع السماوات والأرض. 8 - وأنه لا يثقله حفظهما، وهو العلىّ العظيم. وقد سئل النبى صلى الله علية وسلم: صف لنا ربك .. فأنزل الله عزوجل: ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 255.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (¬1). أى لم يكن له مماثل ولا مكافئ. وما ورد فى الآيات الكريمة والسنّة المطهرة مما يوهم بظاهره مشابهة الله لخلقه فى بعض صفاتهم، فنؤمن به بدون تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ويسعنا ما يسع السلف رضى الله عنهم وأرضاهم. وأحسن ما يقال فى ذلك ما قاله الإمام الشافعى: " آمنت بكلام الله على مراد الله، وبكلام رسول الله على مراد رسول الله ". * الأحد: وهو سبحانه واحد فى ذاته وصفاته وأفعاله. ووحدة الذات: معناها أن ذاته ليست مركبة من أجزاء، وأنه لا شريك له فى ملكه: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬2). ووحدة الصفات معناها: أنه ليس لأحد صفة تشبه صفة من صفاته. ووحدة الأفعال معناها: أنه ليس لأحد غيره فعل من الأفعال، فالله خالق كل شىء، ومبدع كل شىء، فهو سبحانه مستقَل بالإيجاد والإبداع: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}. فهو (أحد)، أى أنه واحد فى ذاته وصفاته وأفعاله، وأن جميع الأمور إليه، وكل شىء فى قبضته. ¬

(¬1) سورة الإخلاص. (¬2) سورة الزمر - الآية 4.

وهو (الصمد)، أى الغنى الذى يقصده الناس فى حوائجهم. (لم يلد): لم ينبثق عنه ولد، فهو كامل غاية الكمال. (ولم يولد): لم ينبثق عن غيره؛ لأنه لا أول لوجوده. (ولم يكن له كفوًا أحد): لم يكن له أحد يساويه، ويماثله. ولو وجد مع الله شريك له فى إلهيّته لبطل نظام هذا الكون العجيب: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬1). أى لو كان فى السماوات والأرض آلهة تدبر أمرهما غير الخالق لهما لاختل نظامهما لتنازع المشرفين عليهما؛ لأن كل واحد يريد أن يكون هو المتصرف؛ وهذا كقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬2). وقد تضمنت الآية: 1 - أن الله سبحانه لم يتخذ ولدًا لاستلزام انفصال الولد عن أبيه، وذلك يقتضى التركيب المحال على الله، ولأن الولد يجانس أباه ويماثله، والله ليس كمثله شىء. 2 - والله لا ينبغى أن يكون معه من إله؛ لأنه لو كان معه إله يشاركه فى الألوهية، ويخلق معه، لذهب كل واحد بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض .. أى غالب بعضهم بعضًا ليوسع ملكه، ولو حصل هذا لفسد نظام العالم. ولو كان معه آلهة كما يزعم المشركون، لطلبوا مغالبة الله ومزاحمة ذى الجلال. {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 22. (¬2) سورة المؤمنون - الآية 91. (¬3) سورة الإسراء - الآية 42، 43.

الثالوث عقيدة وثنية

* الثالوث عقيدة وثنية: عقيدة النصارى أساسها الثالوث الأقدس: أى المركب من ثلاثة أقانيم (¬1) هى: الآب، والابن، وروح القدس .. وهى جواهر ثلاثة، وكل جوهر منها مستقل عن الآخر. والثلاثة مع ذلك إله واحد .. قال أحد النصارى: فهو الإله ابن الإله وروحه ... فثلاثة هى واحد لم تقسم والتثليث ليس خاصًا بالنصارى، جاء فى دائرة معارف القرن التاسع عشر الفرنسية قولها فى تحديد لفظة ثالوث إنه: " اتحاد ثلاثة اشخاص متميزة مكونة لإله واحد فى عقيدة الديانة النصرانية وبعض الديانات الأخرى، فيقال مثلاً: الثالوث النصرانى، والثالوث الهندى " انتهى. قال المرحوم العلامة الأستاذ/ فريد وجدى: " نعم كان الثالوث موجودًا فى ديانة قدماء المصريين بالنسبة لآلهتهم الوطنية، وقد اندثرت تلك الديانة الآن ". " والثالوث الهندى موجود للآن لدى الملايين من الناس فى الهند والصين، وهو أن البراهمة يعتقدون أن الخالق تجسد أولاً فى (برهما) ثم فى (فيشنو) ثم فى (سيفا)، ويصورونهم ملتصقين إشارة إلى هذا التجسد الثلاثى ". " ويعتقد البوذيون أن الإله (فيشنو) الذى هو أحد أركان الثالوث الهندى تجسد مرارًا عديدة لتخليص العالم من الشرور والذنوب، وكان تجسده فى بوذا للمرة التاسعة " انتهى. ¬

(¬1) أى أصول.

هذه العقيدة هى فى حقيقة أمرها وثنية، وأنها دخيلة على دين الله، فالله منزه عن أن يشبهه شىء، أو يشبه هو شيئًا آخر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وذاته فوق متناول العقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1). ولا يجوز أن تتركب ذاته المقدسة من أجزاء، أو تتحد بالأشياء، أو تحل فى خلق من المخلوقات: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (¬2). وعقيدة التوحيد والتنزيه هى عقيدة جميع الأنبياء والرسل، حتى السيد المسيح نفسه، والذين يزعمون غير هذا من النصارى لا برهان لهم من العقل، ولا سند لهم من النقل، وإنما هى ظنون وأوهام طرأت عليهم من الديانات الوثنية القديمة. قالت دائرة معارف القرن التاسع عشر عند كلمة ثالوث: " إن عقيدة الثالوث، وإن لم تكن موجودة فى العهد الجديد الإنجيل، ولا فى أعمال الآباء الرسوليين، ولا فى تلاميذهم الأقربين، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية، والمذهب البروتستنتى الواقف مع التقليد، يزعمون أن عقيدة التثليث كانت مقبولة عند المسيحيين فى كل زمان رغمًا من أدلة التاريخ الذى يرينا كيف ظهرت هذه العقيدة، وكيف نمت، وكيف عَلِقت بها الكنيسة بعد ذلك .. نعم إن العادة فى التعميد كانت أن يذكر عليه اسم الآب، والابن، والروح القدس، ولكننا سنريك أن هذه الكلمات الثلاث كان لها مدلولات غير ما يفهمه عندنا الآن نصارى اليوم. ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 103. (¬2) سورة طه - الآية 110.

وإن تلاميذ المسيح الأولين الذى عرفوا شخصه، وسمعوا قوله، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخالق. وما كان (بطرس) أحد حوارييه يعتبره إلا رجلاً موحى إليه من عند الله. أما (بولس) فإنه خالف عقيدة التلاميذ الأقربين لـ (عيسى عليه السلام)، وقال: إن المسيح أرقى من إنسان، وهو نموذج إنسان جديد، أى عقل سام متولد من الله، وكان موجودًا قبل أن يوجد هذا العالم، وقد تجسد هنا لتخليص الناس، ولكنه مع ذلك تابع للإله الآب ". صلى الله علية وسلم ثم قالت دائرة المعارف بعد ذلك: " كان الشأن فى تلك العصور أن عقيدة إنسانية عيسى عليه السلام كانت عالية مدة تكون الكنيسة الأولى من اليهود المنتصرين. فإن الناصريين (¬1)، والإثبيوتيين، وجميع الفرق النصرانية التى تكونت من اليهودية، اعتقدت بأن عيسى عليه السلام إنسان محض، مؤيد بالروح القدس، وما كان أحد إذ ذاك يتهمهم بأنهم مبتعدون أو ملحدون ". قال (جوستين مارشير) (¬2): " إنه كان فى زمنه فى الكنيسة مؤمنون يعتقدون أن عيسى هو المسيح، ويعتبرونه إنسانًا محضًا، وإن كان أرقى من غيره من الناس، وحدث بعد ذلك أنه كلما نما عدد من تنصر من الوثنيين ظهرت عقائد جديدة لم تكن من قبل " انتهى كلام دائرة المعارف الفرنسية (¬3). إن بطلان عقيدة التثليث واضح وضوح الشمس, ومع ذلك لا أدرى كيف يحرصون على ما هو باطل, ويتعصبون له تعصبًا أعمى, دون سند من التاريخ, أو حجة من المنطق؟! ¬

(¬1) سكان مدينة الناصرة التى تسمى بها النصارى. (¬2) مؤرخ لاتينى فى القرن الثانى. (¬3) من كتاب " كنز العلوم واللغة ".

{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬1). {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (¬2). ومن المحاورات الطريفة: أن بعض المسلمين قال لأحد القسوس: إن بعض الناس أخبرنى أن رئيس الملائكة قد مات, فقال له القسيس: إن ذلك كذب, لأن الملائكة خالدون لا يموتون, فقال له المسلم: وكيف؟ وأنت تقول الآن فى وعظك: إن الإله قد مات على خشبة الصليب, فكيف يموت الإله وتخلد الملائكة؟ .. فبهت القسيس ولم ينطق بكلمة, أو ينبس ببنت شفة. وقال أحد الشعراء المسلمين: عجبًا للمسيح بين النصارى ... وإلى الله والدًا نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا ... إنهم بعد قتله صلبوه فلئن كان ما يقولون حقًا ... فسلوهم فأين كان أبوه فإن كان راضيًا بأذاهم ... فاشكروهم لأجل ما صنعوه وإذا كان ساخطًا غير راض ... فاعبدوهم لأنهم غلبوه ومن أحسن ما قيل فى ذلك, قول البوصيرى فى قصيدته: جاء المسيح من الإله رسولا ... فأبى أقل العالمين عقولا أسمعتم أن الإله لحاجة ... يتناول المشروب والمأكولا؟ وينام من تعب ويدعو ربه ... ويرومُ من حر الهجير مقيلا ويمسه الألم الذى لم يستطع ... صرفًا له عنه ولا تحويلا يا ليت شعرى حين مات بزعمهم ... من كان بالتدبير عنه كفيلا ¬

(¬1) سورة الحج - الآية 46. (¬2) سورة النور - الآية 40.

الصفات الثبوتية

زعموا الإله فدى العبيد بنفسه ... وأراه كان القاتل المقتولا أيجوز قول مُنَزِّه لإلهه ... سبحان قاتل نفسه فأقولا أو جل من جعل اليهود بزعمكم ... شوك القتاد لرأسه إكليلا ومضى لحبل صليبه مستسلمًا ... للموت مكتوف اليدين ذليلا ضلّ النصارى فى المسيح وأقسموا ... لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا جعلوا الثلاثة واحدًا ولو اهتدوا ... لم يجعلوا العدد الكثير قليلا وإذا أراد الله فتنة معَشْر ... وأضلهم رأوا القبيح جميلا * الصفات الثبوتية: ما تقدم من الصفات كان صفات سلبية, أما الصفات الثبوتية فهى: * القدرة: وهو سبحانه قادر لا يعجزه شىء, وصدور هذا الكون ما هو إلا مظهر من مظاهر قدرته وعظمته, وقدرته سبحانه صالحة فى كل وقت لإيجاد كل ممكن وإعدامه .. والتأمل اليسير فى السماوات والأرض, والليل والنهار, والحياة والموت, وما يجرى من شئون فى كل لحظة, يهدى إلى معرفة القدرة الباهرة؛ يقول سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (¬1). ويقول: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة ق - الآية 38؛ واللغوب: التعب. (¬2) سورة المؤمنون - الآية 80.

ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي (¬1) سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ (¬2) بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً (¬3) فَتَرَى الْوَدْقَ (¬4) يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا (¬5) بَرْقِهِ يَذْهَبُ (¬6) بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬7). * الإرادة (¬8): والله سبحانه مريد: أى أنه يخصص الشىء الممكن ببعض ما يجوز عليه, فيجعله طويلاً أو قصيرًا؛ حسنًا أو قبيحًا؛ عالمًا أو جاهلاً؛ فى هذا المكان, أو فى غيره؛ وهو سبحانه له أن يتصرف فى الكون حسب مشيئته وإرادته وحكمته. {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬9). ¬

(¬1) يزجى: يسوق. (¬2) يولف بينه: يجمعه ليتكثف ويتصل بعضه ببعض. (¬3) ركامًا: مجتمعًا يركب بعضه بعضًا. (¬4) الودق: المطر. (¬5) سنا: اللمعان. (¬6) يذهب: يخطف. (¬7) سورة النور - الآية 43 - 45. (¬8) ليس معنى الإرادة هنا: الرغبة أو الميل، وإنما لها معنى خاص. (¬9) سورة النحل - الآية 40.

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (¬3). {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬4). {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (¬5). * العلم: والله عالم بكل شىء, وقد أحاط بكل شىء علمًا, سواء منها المعلومات الماضية, أو الحاضرة, أو المستقبلة. وعِلْم الله لم يسبق بجهل, ولا يعتريه نسيان, ولا يتقيد علمه بزمان ولا مكان. وعلمه بالكليات كعلمه بالجزئيات, وما يبدو فى الكون من نظام وإتقان وإحكام ما هو إلا برهان ساطع على شمول علمه وكمال حكمته: ¬

(¬1) سورة القصص - الآية 68. (¬2) سورة آل عمران - الآية 26. (¬3) سورة الشورى - الآية 49، 50. (¬4) سورة المائدة - الآية 6. (¬5) سورة النساء - الآية 26، 27.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2). {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬3). * الحياة: والله سبحانه هو الحى, والحياة هى الصفة التى تصحح لموصوفها الاتصاف بالقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر, فلو لم يكن حيًا ما ثبتت له هذه الصفات. وحياة الله حياة كاملة, ليس أكمل منها, لا يكتنه كنههًا, ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته. ويحاته لا يلحقها عدم, ولا يقضى عليها بالانقضاء والفناء. ¬

(¬1) سورة المجادلة - الآية 7. (¬2) سورة الأنعام - الآية 59. (¬3) سورة يونس - الآية 61.

والعالم لا يمكن أن يصدر إلا من حى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (¬1). {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (¬3). * الكلام: والله سبحانه متكلم, وكلامه ليس بحرف ولا صوت, وقد أثبت الله هذه الصفة لنفسه, وأنه كلم موسى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (¬4). وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬5). وأنه يكلم أنبياءه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} (¬6). وأن كلماته لا حصر لها: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (¬7). ¬

(¬1) سورة الفرقان - الآية 58. (¬2) سورة غافر - الآية 65. (¬3) سورة طه - الآية 111. (¬4) سورة النساء - الآية 164. (¬5) سورة الأعراف - الآية 143. (¬6) سورة الشورى - الآية 51. (¬7) سورة الكهف - الآية 109.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬1). وهذه الصفة من صفات الله التى أثبتها لنفسه, فنؤمن بها, ولا نبحث عن حقيقتها؛ لأنها كغيرها من الصفات الإلهية التى لا يمكن الوصول إلى العلم بحقائقها. * السمع والبصر: والله سبحانه سميع يسمع كل شىء, حتى إنه ليسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء فى الليلة الظلماء, دون أن يشغله سماعه جماعة عن سماعه جماعة آخرين, ودون أن يشتبه عليه لغة, أو يؤثر عليه ضجيج, أو يشوش عليه مشوش, وهو سبحانه لا يسمع بجارحة, ولا بآلة, ولا بأذن, ولا بصماخ. وقد شكت إحدى النساء زوجها إلى رسول الله صلى الله علية وسلم, وأخذت تجادله؛ فأنزل الله سبحانه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬2). وكما أن الله يسمع كل شىء, فهو يرى كل شىء رؤية شاملة تستوعب كل المدركات, ورؤيته سبحانه ليست بحدقة كما يرى غيره. وقد أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون, وقال لهما: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ¬

(¬1) سورة لقمان - الآية 27. (¬2) سورة المجادلة - الآية 1.

صفات الذات وصفات الأفعال

أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬1). وقال: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). * صفات الذات وصفات الأفعال: صفات الله تعالى منها صفات ذات, وهى الصفات الثبوتية, أو صفات المعانى: وهى صفة الحياة, والعلم, والقدرة, والإرادة, والسمع, والبصر, والكلام. وصفات أفعال مثل: صفة الخلق, والرزق .. فالخالق, والرازق هو الذى يفعل الخلق, ويمنح الرزق, وقد اتفق العلماء على أن صفات الأفعال غير الذات وأنها زائدة عليها. واختلفوا فى صفات الذات: هل هى عين الذات؟ أى أن الله عالم بالذات, وحىّ بالذات, وهكذا إلى آخر الصفات الثبوتية؛ أو أنها صفات زائدة على الذات؟ أى أنه عالم بعلم, وحىّ بحياة, وقادر بقدرة, ومريد بإرادة, وسميع بسمع, وبصير ببصر, ومتكلم بكلام. ¬

(¬1) سورة طه - الآية 42 - 46. (¬2) سورة غافر - الآية 19، 20.

صفات الله أعلام هادية

ونحن نرى رأى من رأى من العلماء, وأئمة الدين, أن هذا من الدخيل على الإسلام, ومن البدع الطارئة على العقيدة, ومن المنكرات التى يجب على المسلمين أن يتنزهوا عنها؛ فإن ذات الله أجل من أن تتناول على هذا النحو. وهذا النوع من التفكير مما نُهينا عنه, ولم يكلفها الله به؛ لأنه خارج عن نطاق العقل المحدود, وذات الله فوق الإدارك: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1). {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (¬3). وتقدم الحديث: «تفكروا فى خلق الله, ولا تفكروا فى الله, فإنكم لن تقدروه قدره». إن كل ما كلفنا به: أن نعلم أن الله موجود, وأن له الأسماء الحسنى, والصفات العليا, والكمال المطلق, وما وراء ذلك يجب الإمساك عنه, ولا يحل البحث فيه, فالعلم به لا ينفع, والجهل به لا يضر. * صفات الله أعلام هادية: وإن علينا أن نسير على هدى هذه الصفات, ونستنير بها, ونتخذها مثلنا الأعلى, ونجعلها غايتنا, حتى نصل إلى أقصى درجات السمو النفسى والارتقاء الروحى. وقد ألف حجة الإسلام الإمام الغزالى رحمه الله, كتاب (المقصد الأسنى) , ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 103. (¬2) سورة الشورى - الآية 11. (¬3) سورة طه - الآية 110.

شرح فيه أسماء الله الحسنى, وبين حظ المؤمن من كل اسم, فينبغى الرجوع إليه, ونحن نقتبس من كتاب الدين الإسلامى ما يأتى: فالله تعالى: رب العالمين .. وهذا مثل أعلى يجب على المؤمن أن يحتذى به, فيحسن تربية نفسه, وذوى قرباه, ويعمل على ما فيه الخير والفلاح. والله تعالى: رحمن .. ينعم على مخلوقاته, ويظهر لهم حبه, دون أن يؤدوا عملاً يستحقون عليه ذلك, وهذا مثل أعلى يجب على الإنسان التحلى به, فيكون رحيمًا ببنى جنسه, يفعل الخير ابتغاء وجه ربه, لا رغبة فى اجتلاب نفع, أو خشية من مس ضر. والله تعالى: رحيم .. يجازى الإنسان على عمله, وهذا مثل أعلى أيضًا يوجب على الإنسان أن يقابل الإحسان بالإحسان. والله تعالى: مالك يوم الدين .. يحاسب الناس على أعمالهم, فيجازى المسىء لا شهوة فى الانتقام, بل بروح التسامح, كما يجب أن يعامل السيد الرحيم مَسوده, والوالد ولده, وهذا مثل أعلى آخر يوجب على الإنسان أن يكون متسامحًا وعفوًا فى معاملاته مع الناس. هذه الصفات الأربع هى أبرز صفات الله العليا, ومثله العليا, وما يقال عنها يقال عن الصفات الأخرى. فصفات الحب والرحمة التى هى: الرءوف, الودود, التوّاب, العفو, الشكور, السلام, المؤمن, البار, رفيع الدرجات, الرزاق, الوهاب, الواسع .. كلها صفات يجب على الإنسان اتخاذها نبراسًا للسير على هداها والتحلى بها كما قدمنا.

وكذلك صفات العلم التى هى: العليم, الحكيم, السميع, البصير, الشهيد, الرقيب, الباطن .. فإنها صفات يجب على الإنسان أن يتبعها ليبلغ مبلغ العلم والحكمة, وأن الله تعالى جعل الإنسان خليفته فى الأرض, حيث قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬1). وميزه عن سائر المخلوقات, فعلمه الأسماء كلها, قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (¬2). وفيما يختص بالحكمة, فقد أرسل الله رسولاً للناس, ليعلمهم الحكمة, قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬3). وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬4). وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 30. (¬2) سورة البقرة - الآية 31. (¬3) سورة البقرة - الآية 151. (¬4) سورة آل عمران - الآية 164. (¬5) سورة الجمعة - الآية 2.

وفيما يختص بصفات الله الدالة على قدرته وتدبيره, فقد أمر الملائكة بالسجود للإنسان, وسخر السماوات والأرض لخدمته ومنفعته, ولهذا يجب على الإنسان أن يتخذ من صفات الله تعالى مثلاً أعلى؛ ليكون أهلاً للقيام بما استخلف عليه, وسخر له, ونحن لا نعنى أن الإنسان باتخاذه صفات الله مثلاً عليًا يمكنه أن يبلغ درجة الكمال, وإنما نعنى أن على الإنسان أن يجعل هذه الصفات رائدة فى حياته؛ ليحيا بها حياة طيبة مبارك

حقيقة الإيمان وثمرته

حقيقة الإيمان وثمرته مظاهر الإيمان ثماره

مظاهر الإيمان

الإيمان بالله يمثل أكرم صلة بين الإنسان وخالقه .. ذلك أن أشرف ما فى الأرض الإنسان, وأشرف ما فى الإنسان قلبه, وأشرف ما فى القلب الإيمان. ومن ثم كانت الهداية إلى الإيمان أجل نعمة, وأفضل آلاء الله على الإطلاق {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} (¬1). {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} (¬2). وليس الإيمان هو مجرد النطق باللسان, واعتقاد بالجنان, إنما هو عقيدة تملأ القلب, وتصدر عنها آثارها, كما تصدر عن الشمس أشعتها, وكما يصدر عن الورد شذاه. ومن آثاره أن يكون الله ورسوله أحب إلى المرء من كل شىء, وأن يظهر ذلك فى الأقوال, والأفعال, والتصرفات؛ فإن كان ثمة شىء أحب إلى المرء من الله ورسوله فالإيمان مدخول, والعقيدة مهزوزة. {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ ¬

(¬1) سورة الحجرات - الآية 17. (¬2) سورة الحجرات - الآية 7، 8.

تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). فالحياة بما فيها من الآباء, والأبناء, والأخوة, والأزواج, والعشيرة, والأموال, والتجارة, والمساكن .. إن كانت أحب إلى الإنسان من الله ورسوله, فلينتظر عقاب الله للذين شغلوا قلوبهم عنه بغيره. إن الإيمان لا يكمل إلا بالحب الحقيقى: حب الله, وحب رسوله, وحب الشريعة التى أوحاها الله إليه. ففى الحديث الصحيح: «ثلاث من كنّ فيه, وجد حلاوة الإيمان: 1 - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. 2 - وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. 3 - وأن يكره أن يعود فى الكفر, كما يكره أن يقذف فى النار». وقال صلى الله علية وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده, وولده, ونفسه التى بين جنبيه, والناس أجمعين». وجاء عمر رضى الله عنه إلى رسول الله صلى الله علية وسلم, فقال: «يا رسول الله .. لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلا من نفسى «, فقال صلى الله علية وسلم: «لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال عمر: «والذى بعثك بالحق لأنت أحب إلىّ من نفسى «فقال صلى الله علية وسلم: «الآن يا عمر (أى الآن تم إيمانك)». وقال صلى الله علية وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به». ¬

(¬1) سورة التوبة - الآية 24.

وكما يتمثل الإيمان فى الحب, يتمثل فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله, والكفاح لرفع راية الحق, والنضال لمنع الظلم والفساد فى الأرض. وكثيرًا ما يقترن الإيمان بالجهاد على أنه روحه ومظهره العملى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1). {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). ولقد برز هذا الكفاح فى الصفوة المؤمنة فى العهد الأول, حتى استحقوا ثناء الله عليهم. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (¬3). وأثر الإيمان يبدو واضحًا فى خشية الله والخوف منه, فإن من عرف الله وعرف عظمته, واستشعر جلاله وكبرياءه, وعرف تقصيره فى حقه, خشيه وخاف منه. {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬4). وهذه سمة أهل الحق القوامين على دين الله. ¬

(¬1) سورة الحجرات - الآية 15. (¬2) سورة التوبة - الآية 111. (¬3) سورة الأحزاب - الآية 23. (¬4) سورة فاطر - الآية 28.

{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (¬1). وكلما كانت المعرفة أكمل, كانت الخشية أتم. ويقول الرسول صلى الله علية وسلم: «إنى لأعلمكم بالله, وأخشاكم له». وأعظم ما يبدو فيه الإيمان الاستمساك بالوحى, لأنه النبع الصافى الذى لم يختلط بشائبة الهوى, أو آفة الظنون. والاستمساك بالوحى, إنما هو اتصال بالله, وأخذ عنه مباشرة بدون توسيط وسطاء, وهذا هو أسمى أنواع الاتصال. والمؤمنون عامة يتجهون هذا الاتجاه, حتى لا يلتبس الحق الذين يؤمنون به بالباطل الذى صنعته عقول الناس وأفهامهم. {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬2) {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (¬3). {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬4). ¬

(¬1) سورة الأحزاب - الآية 39. (¬2) سورة النور - الآية 51، 52. (¬3) سورة الأحزاب - الآية 36. (¬4) سورة النساء - الآية 65.

والإيمان ينشئ علاقات مختلفة: فهو يربط بين المؤمنين وبين الله برباط المودة, والمحبة؛ ويقيم العلاقة بين المؤمنين بعضهم مع بعض, على أساس من الشفقة والرحمة. ويقيم العلاقة بين المؤمنين وبين أعداء الله, الصادين عن الحق, على أساس من الغلظة والقسوة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1). وقد تجلت هذه الصفات فى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (¬2). والعمل الصالح الذى تزكو به النفس, ويطهر به القلب, وتعمر به الحياة, أثر من آثار الإيمان. ولهذا يأتى الإيمان فى الآيات القرآنية مقرونًا بالعمل الصالح؛ لأن ¬

(¬1) سورة المائدة - الآية 54. (¬2) سورة الفتح - الآية 29.

ثمار الإيمان

الإيمان إذا تجرد عن العمل كان إيمانًا عقيمًا, وكان كالشجرة التى لا تثمر ثمرًا, ولا تمد ظلاً؛ فهى بالقطع أولى منها بالبقاء. والعمل إذا خلا عن الإيمان, كان رياء ونفاقًا؛ والنفاق والرياء هما شر ما يصاب به الإنسان. {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬1). إن الإيمان بهذا المعنى, هو الإيمان القرآنى, وهو الإيمان الذى أراده الله لعباده. وإذا تحقق, فإنه يتحول إلى قوة إيجابية فى الحياة, وهو الذى يحول الضعف إلى قوة, والهزيمة إلى نصر, واليأس إلى أمل, والأمل إلى عمل. {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬2). {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). * ثمار الإيمان: وإذا عرف الإنسان ربه عن طريق العقل والقلب .. أثمرت له هذه المعرفة ثمارًا يانعة, وتركت فى نفسه آثارًا طيبة, ووجهت سلوكه وجهة الخير والحق, والسموّ والجمال. ¬

(¬1) سورة العصر. (¬2) سورة غافر - الآية 51. (¬3) سورة الروم - الآية 47.

وهذه الثمار نجمل بعضها فيما يلى: 1 - تحرر النفس من سيطرة الغير, وذلك أن الإيمان يقتضى الإقرار بأن الله هو المحى, المميت, الخافض, الرافع, الضار, النافع. {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1). إن الذى عوق البشرية عن النهوض, وحال بينها وبين الرقى, هو الخضوع للاستبداد, سواء أكان هذا الاستبداد استبدادًا سياسيًا للحكام والرؤساء, أم استبدادًا كهنوتيًا لرجال الدين والكهنوت. وبتقرير الإسلام لهذه الحقيقة, قضى على هذا الأسر, وأطلق حرية الإنسان من سيطرة هؤلاء المستبدين التى لازمته قرونًا طوالاً. 2 - والإيمان يبعث فى النفس احتقار الموت والرغبة فى الاستشهاد من أجل الحق. إذ الإيمان يوحى بأن واهب العمر هو الله, وأنه لا ينقص بالإقدام, ولا يزيد بالأحجام؛ فكم من إنسان يموت وهو على فراشه الوثير, وكم من إنسان ينجو وهو يخوض غمرات المعارك والحروب! {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} (¬2). {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 188. (¬2) سورة آل عمران - الآية 145.

أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬1). {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (¬2). 3 - والإيمان يقتضى الاعتقاد بأن الله هو الرزاق, وأن الرزق لا يسوقه حرص حريص, ولا يرده كراهية كاره. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬3). {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬4). {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬5). وإذا سيطرت هذه العقيدة على النفس, تخلص الإنسان من رذيلة البخل والحرص والشره, والطمع, واتصف بفضيلة الجود, والبذل, والسخاء, والأنفة, والعفة, وكان إنسانًا مأمول الخير مأمون الشر. 4 - والطمأنينة أثر من آثار الإيمان .. أى طمأنينة القلب, وسكينة النفس. ¬

(¬1) سورة آل عمران - الآية 154. (¬2) سورة النساء - الآية 48. (¬3) سورة هود - الآية 6. (¬4) سورة العنكبوت - الآية 60. (¬5) سورة العنكبوت - الآية 62.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬1). {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬2). وإذا اطمأن القلب, وسكنت النفس .. شعر الإنسان ببرد الراحة, وحلاوة اليقين, واحتل الأهوال بشجاعة, وثبت إزاء الخطوب مهما اشتدت, ورأى أن يد الله ممدودة إليه, وأنه القادر على فتح الأبواب المغلقة, فلا يتسرب إليه الجزع, ولا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). 5 - والإيمان يرفع من قوى الإنسان المعنوية, ويربطه بمثل أعلى, وهو الله مصدر الخير, والبر, والكمال. وبهذا يسمو الإنسان عن الماديات, ويرتفع عن الشهوات, ويستكبر على لذائذ الدنيا, ويرى أن الخير والسعادة فى النزاهة والشرف, وتحقيق القيم الصالحة .. ومن ثم يتجه المرء اتجاهًا تلقائيًا لخير نفسه, ولخير أمته, ولخير الناس جميعًا. وهذا هو السر فى اقتران العمل الصالح - بجميع شعبه وفروعه - بالإيمان, إذ أنه الأصل الذى تصدر عنه, وتتفرع منه. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الرعد - الآية 28. (¬2) سورة الفتح - الآية 4. (¬3) سورة البقرة - الآية 257. (¬4) سورة يونس - الآية 9.

{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬2). وإذا اهتدى القلب, فأى شىء من الخير يفوته؟! 6 - والحياة الطيبة يعجل الله بها للمؤمنين فى الدنيا قبل الآخرة. وتتمثل هذه الحياة فى ولاية الله للمؤمن, وهدايته له, ونصره على أعدائه, وحفظه مما يبيّت له, وأخذه بيده كلما عثر أو زلت به قدم؛ فضلاً عما يفيضه عليه من متاع مادى, يكون عونًا له على قطع مرحلة الحياة فى يسر. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (¬4). {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (¬5). {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬6). ¬

(¬1) سورة الحج - الآية 54. (¬2) سورة التغابن - الآية 11. (¬3) سورة النحل - الآية 97. (¬4) سورة النحل - الآية 30. (¬5) سورة النور - الآية 55. (¬6) سورة غافر - الآية 51.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (¬1). {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (¬2). وقد انتهى العالم إلى هذه الحقائق الإيمانية؛ ولا يتسع المجال لإثبات شهادات كبار العلماء, وتسجيل ما شاهدوه. ونكتفى هنا بتسجيل ما نشر بجريدة الجمهورية, يوم السبت 29/ 11/1962م فقد قالت الصحيفة تحت عنوان (العلماء يلجأون إلى الدين لعلاج مرضى الأمراض العقلية): عزاء وسلوان لأولئك الذين تشبثوا بدينهم, ولم يتزعزع إيمانهم فى أحلك لحظات المدنية وأنصعها, أقصد تلك اللحظات التى يتشدق فيها دعاة النظريات العتيدة, وفى مقدمتها نظرية النشوء والارتقاء لـ (داروين) , ويتشدقون فيها بأن الدين بدعة, وبأن الإنسان يقف وحده فى هذا الكون كما زعم (جوليان هاكسلى) جد الكاتب الفيلسوف البريطانى الكبير (الدوسى هاكسلى). إن علماء الأمراض العقلية, لا يجدون اليوم سلاحًا أمضى وأبعد فاعلية لعلاج مرضاهم, من الدين والإيمان بالله .. والتطلع إلى رحمة السماء .. والتشبث بالرعاية الإلهية .. والالتجاء إلى قوة الخالق الهائلة عندما يتضح عجز كل قوة سواه! لقد بدأت التجربة فى مستشفى بولاية نيويورك, وهو مستشفى خاص بمرتكبى الجرائم من المصابين بالأمراض العقلية. ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 96. (¬2) سورة يونس - الآية 98.

بدأت التجربة بإدخال الدين كوسيلة جديدة للعلاج بجانب الصدمات الكهربائية لخلايا المخ, والعقاقير المسكنة والمهدئة للأعصاب. وكانت النتيجة رائعة .. إن أولئك الذين تعذر شفاؤهم, بل فقدوا الأمل فيه, انتقلوا من عالم المجانين إلى عالم العقلاء .. أولئك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم, وهم مسلوبو الإرادة, باتوا يسيطرون على إرادتهم وتفكيرهم وتصرفاتهم, ويذرفون الدمع ندمًا, وكلهم أمل فى رحمة السماء ومغفرة الله. واستسلم العلماء, ورفعوا أيديهم إلى السماء, يعترفون بضعفهم, ويعلنون للدنيا: أن العلم يدعو إلى الإيمان, وليس أبدًا إلى الإلحاد. وأنت طبعًا لست فى حاجة لأكثر من الإلمام بالقراءة, وحتى إذا كان قد فاتك قطار التعليم, فأمامك بيوت الله, وفيها السلوى .. وفيها العزاء.

القدر

القدر. * الله فاعل مختار. * معنى القدر. * وجوب الإيمان بالقدر. * حرية الإنسان. * الإسلام يقرر حرية الإرادة. * بين مشيئة الرب ومشيئة العبد. * الهداية والضلال.

الله فاعل مختار

* الله فاعل مختار: الله سبحانه مالك الملك, يتصرف فيه بمقتضى حكمته ومشيئته, وكل تصرف منه إنما يجرى وفق مشيئته التى وضعها فى الكون, وقوانينه المضطردة فى الوجود. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (¬1). وهو سبحانه لا يجب عليه شىء, ولا يتصرف من أجل أحد. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2). أى أن الله أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يقول فى الناس: إن الله سبحانه مالك الملك الحق, يعطى الملك لمن يشاء, وينزعه ممن يشاء بمقتضى سنن الله فى العطاء والأخذ, ويعز من يشاء بالتوفيق لأسباب العز, ويذل من يشاء بالخذلان. وإنه سبحانه بيده الأمور كلها خيرها وشرها, فهو يعطى ويمنع, ويعز ويذل وينفع ويضر, لأنه القادرعلى كل شىء .. ومن مظاهر قدرته ما يشاهد فى الكون من إدخال الليل فى النهار, وإدخال النهار فى الليل؛ وإخراج الحى من الميت, وإخراج الميت من الحى؛ وأنه يفيض الرزق على من يشاء بغير حساب ولا رقابة؛ لأن الأمر كله له وحده لا شريك له. ¬

(¬1) سورة الرعد - الآية 8. (¬2) سورة آل عمران - الآية 26، 27.

وهو الفاعل المختار. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (¬1). فهو يخلق ويختار من خلقه ما يشاء؛ لأنه المتصرف المطلق, وما كان لأحد الاختيار معه. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2). فهو سبحانه يتصرف فى ملكه كيفما شاء بمقتضى الحكمة والرحمة. فإذا مس الإنسان ضر, فلا يكشفه إلا الله, وإذا أراد الله خيرًا له, فلا يستطيع أحد رده عنه. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3). {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4). فملك السماوات والأرض له وحده؛ وما يبديه الإنسان ويظهره, أو يخفيه ويكنه - من النوايا والإرادات والعزائم والمقاصد - يحاسبه به الله إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر, وهو يغفر لمن يشاء أن يغفر لهم, وقد بين سبحانه من يشاء لهم الغفران فى قوله: ¬

(¬1) سورة القصص - الآية 68. (¬2) سورة يونس - الآية 107. (¬3) سورة فاطر - الآية 2. (¬4) سورة البقرة - الآية 284.

معنى القدر

{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (¬1). فمغفرة الله لمن رجع إلى الله بالتوبة النصوح, وجدّد إيمانه بالله, وعمل العمل الصالح الذى يذهب بالسيئات, وبلغ منزلة الهداية التى يطمئن فيها القلب بالحق واليقين, كما أن عذابه سبحانه ينزل بالعصاة المستحقين له بمقتضى عدله وجزاء كل بعمله. والإيمان بهذا, جزء من الإيمان بالله, ويتفرع عنه الإيمان بالقدر. * معنى القدر: جاء فى القرآن الكريم ذكر القدر مرارًا: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (¬2). {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ} (¬3). {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬4). والذى يؤخذ من مجموع هذه الآيات, أن المقصود بالقدر: هو النظام المحكم الذى وضعه الله لهذا الوجود, والقوانين العامة, والسنن التى ربط الله بها الأسباب بمسبباتها. وعرفه النووى فقال: «إن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء فى القدم, وعلم سبحانه أنها ستقع فى أوقات معلومة عنده عزوجل وعلى صفات مخصوصة؛ فهى تقع حسب ما قدرها «. ¬

(¬1) سورة طه - الآية 82. (¬2) سورة الرعد - الآية 8. (¬3) سورة الحجر - الآية 21. (¬4) سورة القمر - الآية 49.

وجوب الإيمان به

* وجوب الإيمان به: وقد جاء فى الحديث الصحيح عن النبى صلى الله علية وسلم أن الإيمان بالقدر جزء من العقيدة, ويكون المعنى أن الله خلق النواميس والقوانين والنظم التى وضعها لهذا الوجود, وأن الأشياء تجرى وتدور حسب هذه النظم والسنن والقوانين. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (¬1). ويكون الإيمان بالقدر جزءًا من عقيدة المسلم, وليس فيه معنى الإجبار .. قال الخطابى: «قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدره وقضاه .. وليس الأمر كما يتوهمون؛ وإنما معناه الإخبار عن تقديم علم الله سبحانه بما يكون من اكتسابات العبد, وصدورها عن تقدير منه تعالى, وخلقه لها, خيرها وشرها .. والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر «. وعلم الله سبحانه بما سيقع, ووقوعه حسب هذا العلم لا تأثير له فى إرادة العبد, فإن العلم صفة انكشاف لا صفة تأثير؛ فمثلاً علم الإنسان بأن ابنه ذكى مقبل على دروسه ومستوعب لها حفظًا وفهمًا, ليس له تأثير فى نجاحه. * حكمة الإيمان بالقدر: وحكمة ذلك: أن تنطلق قوى الإنسان وطاقاته لتعرف هذه السنن, ولتدرك ¬

(¬1) سورة يس - الآية 37 - 40.

هذه القوانين, وتعمل بمقتضاها فى البناء والتعمير, وفى استخراج كنوز الأرض والانتفاع بما أودع فى الكون من خيرات. وبذلك يكون الإيمان بالقدر قوة باعثة على النشاط والعمل والإيجابية فى الحياة, كما أن الإيمان بالقدر يربط الإنسان برب هذا الوجود, فيرفع من نفسه إلى معالى الأمور: من الإباء والشجاعة والقوة, من أجل إحقاق الحق, والقيام بالواجب. والإيمان بالقدر يُرى الإنسان أن كل شىء فى الوجود إنما يسير وفق حكمة عليا, فإذا مسّه الضر فإنه لا يجزع, وإذا صادفه التوفيق والنجاح فإنه لا يفرح ولا يبطر, وإذا برئ الإنسان من الجزع عند الإخفاق والفشل, ومن الفرح والبطر عند التوفيق والنجاح, كان إنسانًا سويًا متزنًا, بالغ منتهى السمو والرفعة, وهذا هو معنى قول الله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬1). هذا ما ينبغى أن نفهمه من القدر؛ وهو مقتضى فهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه, وفهم أصحابه رضى الله عنهم أجمعين. وقد دخل رسول الله صلى الله علية وسلم يومًا على الإمام علىّ كرم الله وجهه بعد صلاة العشاء, فوجده قد بكر بالنوم, فقال له: «هلا قُمت من الليل؟» فقال: يا رسول الله, أنفسنا بيد الله, إن شاء بسطها, وإن ¬

(¬1) سورة الحديد - الآية 22، 23.

شاء قبضها .. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج وهو يضرف على فخذه ويقول: «{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (¬1)». وسرق أحد اللصوص, فلما حضر بين يدى عمر رضى الله عنه سأله: «لِمَ سرقت؟ «فقال: قدّر الله ذلك, فقال عمر رضى الله عنه: «اضربوه ثلاثين سوطًا, ثم اقطعوا يده «, فقيل له: ولِمَ؟ فقال: «يقطع لسرقته, ويضرب لكذبه على الله «. إن القدر لا يتخذ سبيلاً إلى التواكل, ولا ذريعة إلى المعاصى, ولا طريقًا إلى القول بالجبر؛ وإنما يجب أن يتخذ سبيلاً إلى تحقيق الغايات الكبرى من جلائل الأعمال .. إن القدر يُدْفَع بالقدر, فيدفع قدر الجوع بقد الأكل, وقدر الظمأ بقدر الرىّ, وقدر المرض بقدر العلاج والصحة, وقدر الكسل بقدر النشاط والعمل. ويُذكر أن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حينما فرّ من الطاعون: أتفر من قدر الله؟ قال: «نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله «, أى يفر من قدر المرض والوباء إلى قدر الصحة والعافية .. ثم ضرب له مثلاً بالأرض الجدباء, والأرض الخصبة, وأنه إذا انتقل من الأرض الجدباء إلى الأرض الخصبة لترعى فيها إبله, فإنه ينتقل من قدر إلى قدر. لقد كان يمكن للرسول وصحابته أن يستكينوا كما يستكين الضعفاء الواهنون, معللين أنفسهم بالفهم المغلوط الذى يتعلل به الفاشلون, ولكنه جاء يكشف عن وجه الصواب فلم يهن, ولم يضعف, واستعان بالقدر على تحقيق رسالته الكبرى, ملتزمًا سنة الله فى نصره لعباده. فقاوم الفقر بالعمل, وقاوم الجهل بالعلم, وقاوم المرض بالعلاج, وقاوم الكفر والمعاصى بالجهاد, وكان يستعيذ بالله من الهم والحزن, والعجز والكسل. ¬

(¬1) سورة الكهف - الآية 54.

حرية الإنسان

وما غزواته المظفرة إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا التى تجرى حسب مشيئة الله وقدره. وقد حذر رسول الله صلى الله علية وسلم من أن يفهم فهمًا خاطئًا, ودعا إلى مجاهدة من يرى هذا الفهم الخطأ. فقد روى عن جابر رضى الله عنه عن النبى صلى الله علية وسلم أنه قال: «يكون فى آخر الزمان قوم يعملون المعاصى, ثم يقولون: الله قدّرها علينا, الرّادّ عليهم يومئذ كالشاهر سيفه فى سبيل الله». هذا هو القدْر الذى ينبغى أن نعرفه عن القدَر, وما وراء هذه المعرفة عنه فلا يحل لنا البحث فيه ولا التنازع فى شأنه؛ فإن هذا من أسرار الله التى لا تحيط بها العقول, ولا تدركها الأفكار. فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله علية وسلم ونحن نتنازع فى القدر, فغضب حتى احمر وجهه, وقال: «أبهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من قبلكم حين تنازعوا فى هذا الأمر, عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه». وفى هذا يقول صلى الله علية وسلم لمن سأله فى مثل هذا: طريق مظلم لا نسلكه, كرر عليه السؤال فقال: بحر عميق لا تمجه, كرر عليه السؤال فقال: سر الله قد خفى عليك فلا تفشه .. فمثل هذا النهى إنما ينصب على السؤال عن نظام الله فى الحياة والموت, وبسط الرزق وضيقه, وهكذا .. لا على الكلام فى القدر نفسه. * حرية الإنسان: منذ أقدم العصور, أخذ الإنسان يفكر فى نفسه, وفى الكون المحيط به, وكانت حرية الإنسان إحدى القضايا التى تناولها عقله, وشغلت حيزًا كبيرًا من تفكيره, ولا تزال هذه القضية إلى يومنا هذا مثار جدل ومناقشة بين المفكرين

والفلاسفة, ولا يزال اهتمامهم بها اهتمامًا بالغًا, إذ أنها قضية تتعلق بحياة الإنسان, وتتصل بمصيره, فهو يبحث فيها, ويكد, ويجد فى البحث, علّه يهتدى إلى الحل الصحيح, كى يرسم لنفسه السلوك على ضوء الحل الذى يهتدى إليه. وبدهى أن الإنسان حينما حال الكشف عن وجه الصواب فى هذه القضية, وأراد البحث فيها, لم يجعل ميدان بحثه الأعمال الخارجة عن إرادته واختياره, ككونه أبيض, أو أسود؛ وككونه وُلد من هذا الوالد, أو ذاك؛ وكنبضات قلبه؛ وتنفسه؛ وجريان الدم فى عروقه .. فإن هذه الأشياء خارجة عن نطاق البحث, لأن الإنسان لا اختيار له فيها, وهى غير خاضعة لإرادته. وإنما اتجه الإنسان وهو بصدد البحث فى هذه القضية إلى الأعمال الإدارية التى تدخل فى نطاق الإرادة والاختيار, ومدى حريته فى ممارسة هذه الأعمال, مثل خروجه من البيت؛ واتخاذه طعامًا معينًا؛ ولبسه نوعًا من الملابس؛ وتفضيله لونًا من العلم, أو الكتابة؛ وممارسته حرفة من الحرف؛ وزيارته لغيره وهكذا فى كل عمل من الأعمال الاختيارية. وقد اختلفت الأنظار, وتضاربت الأفكار تضاربًا كادت تضيع معه معالم الحق. فمن قائل بأن الإنسان مسيّر (¬1) غير مخيّر, ومجبر على ممارسة نشاطه الاختيارى, وأنه كالريشة فى مهب الريح تتقاذفها ذات اليمن وذات الشمال. ومن قائل بأن الإنسان مخيّر (¬2) غير مسيّر, ,انه يمارس أعماله الاختيارية بمحض إرادته ومشيئته. ومن قائل بأن الإنسان ليس له من أعماله إلا الكسب (¬3) , أى أن الله يخلق ¬

(¬1) هذا مذهب الجبرية. (¬2) مذهب المعتزلة والإمامية. (¬3) رأى الأشاعرة.

تقرير الإسلام حرية الإرادة

الشىء عند مباشرته, أى أن الله يخلق الشبع عند الأكل, ويخلق المعرفة عند الدراسة, وهكذا .. وليس للعبد إلا الكسب, وبه يصح التكليف والثواب والعقاب والمدح والذم. والذى نراه فى هذه القضية, ونختاره هو ما قرره الإسلام فيما يلى: * تقرير الإسلام حرية الإرادة: قرر الإسلام أن الإنسان خلق مزودًا بقوى وملكات واستعدادات, وهذه القوى يمكن أن توجه إلى الخير, كما يمكن أن توجه إلى الشر؛ فهى ليست خيرًا محضًا ولا شرًا محضًا, وإن كانت إرادة الخير فى بعض الناس أقوى, وإرادة الشر فى البعض الآخر أقوى, وبينهما تفاوت لا يعلمه إلا الله .. وفى الحديث الصحيح: «كل مولود يولد على الفطرة». وفى الحديث أيضًا: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة, خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا .. ». ويؤيد هذا قول الله عزوجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (¬1). أى أن الله خلق النفس مسوّاة ومُعتدلة قابلة للتقوى والفجور, ومستعدة للخير والشر. والله سبحانه زود الإنسان بالعقل الذى يميز به بين الحق والباطل فى العقائد, وبين الخير والشر فى الأفعال, وبين الصدق والكذب فى الأقوال. وأعطاه القدر التى يستطيع بها أن يحق الحق ويبطل الباطل, وأن يأتى الخير ويدع الشر, وأن يقول الصدق ويجانب الكذب, ورسم له منهج الحق ¬

(¬1) سورة الشمس - الآية 7، 8.

والخير والصدق بما أنزل من كتب, وبما أرسل من رسل, ومادام العقل المميز موجودًا والقدرة على الفعل صالحة, والمنهج المرسوم واضحًا, فقد ثبت للإنسان حرية الإرادة, واختيار الفعل. وعلى الإنسان أن ويجه قواه إلى ما يختاره لنفسه من حق أو باطل, ومن خير أو شر, ومن صدق أو كذب. وفى القرآن الكريم يقول الله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (¬1). أى هديناه وأرشدناه إلى طريق الحق والباطل, والخير والشر, والصدق والكذب, فهو إما يسلك السبيل الأهدى, فيكون شاكرًا, أو الطريق المعوج, فيكون كفورًا. وفى هذا المعنى أيضًا يقول القرآن الكريم: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬2)؛ أى الطريقين. وكل إنسان مسئول عن تهذيب نفسه وإصلاحها, حتى تصل إلى كمالها المقدّر لها, فإن إصلاحها وتزكيتها وتنميتها بالعلم النافع والعمل الصالح, هو سبيل فلاحها وفوزها برضا الله, والقرب من مشاهدة جلاله وجماله, كما أن إهمالها هو السبيل إلى خيبتها وخسرانها. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬3). {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الإنسان - الآية 3. (¬2) سورة البلد - الآية 10. (¬3) سورة الشمس - الآية 9، 10. (¬4) سورة القيامة - الآية 14.

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬1). {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬2). والآيات التى تقرر حرية الإنسان كثيرة جدًا, منها قول الله عزوجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} (¬3). فأسند العمل الصالح والعمل السىء إلى الإنسان, ولو لم يكن الإنسان حرًا ما أسند إليه الفعل. وفى موضع آخر من القرآن الكريم يقول الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬4). أى أن الشرور التى تعرض للإنسان إنما هى أثر من آثار عمله ونتاج اختياره وتصرفه. وإن القرآن الكريم ليتحدث عن المفاسد والجرائم التى تحيط بالناس, فيبين أنها ليست من صنع الله, وإنما هى من عمل البشر. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬5). وهذا الذى يُقرره القرآن الكريم, هو ما يشعر به الإنسان من نفسه, فهو يشعر بأنه يمارس أعماله الإرادية بمحض إرادته واختياره, فهو يفعل منها ما يشاء, ¬

(¬1) سورة المدثر - الآية 38. (¬2) سورة الطور - الآية 21. (¬3) سورة فصلت - الآية 46. (¬4) سورة الشورى - الآية 30. (¬5) سورة الروم - الآية 41.

ويدع منها ما يشاء, وهو إذا فعل منها ما هو نافع استحق المدح, وإذا فعل ما هو ضار استوجب الذم, فلو لم يكن مختارًا لَمَا توجه إليه المدح على فعل ما هو نافع, ولَمَا توجه له الذم على فعل ما هو ضار. بل لو لم يكن الإنسان مختارًا لَمَا كان ثمّة فرق بين المحسن والمسىء, إذ أن كلاً منهما مُجْبر على ما يفعله؛ ولبطل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, إذ لا فائدة لهما, حيث إن الإنسان مسلوب الإرادة؛ ولَمَا كان ثمّة معنى لتكليف الله للعباد, لأن تكليفه إياهم مع سلب اختيارهم هو منتهى الظلم الذى يتنزه الله عنه, ويكون الأمر كما قال القائل: ألقاه فى اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تَبْتَلّ بالماء بل لو كان الإنسان مُسيّرًا لضاعت فائدة القوانين, ولبطل الجزاء من الثواب والعقاب. وقد أراد المشركون أن يَحْتجّوا بمشيئة الله على شركهم؛ وأنه لو لم يشأ أن يكونوا مشركين لَمَا كانوا كذلك, فأبطل الله حجتهم ودَحَضها بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). فالقرآن الكريم يرد على المشركين من وجهين: ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 148، 149.

مشيئة الرب ومشيئة العبد

الوجه الأول: أن الله أذاق الكافرين الأول بأسه, وأنزل بهم عقابه, فلو لم يكونوا مختارين للجرائم والمآثم, والكفر والشرك لَمَا عذبهم الله, لأن الله عادل لا يظلم مثقال ذرة. والوجه الثانى: أنهم زعموا ذلك عن جهل بالله, وجهل بدينه, وأنهم ليس عندهم من علم يمكن أن يستند إليه, ويرجع إليه, وإنما كفرهم هذا تمرد على دينه وافتيات على الحق الذى أنزله على ألسنة الرسل. وإذا كان الله قد عذب الأمم السابقة على كفرها, وإذا كان المشركون ليس لهم من حجة يحتجون بها, فقد تقرر أن دعوى المشركين دعوى ظنية لا تقوم عليها حجة, ولا ينهض بها دليل. وبذلك قامت حجة الله البالغة على هؤلاء, ولو شاء الله لأجبرهم على الهداية وإذن فلن يكونوا حينئذ من البشر, لأن البشر فطر على الحرية والاختيار. * مشيئة الرب ومشيئة العبد: وقد يقال: إذا كان الله منح العبد الحرية والاختيار فما معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1). فنقول: معناها أن الإنسان لا يشاء شيئًا إلا إذا كان فى حدود مشيئة الله وإرادته, فمشيئة البشر ليست مشيئة مستقلة عن مشيئة الله, والله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقين: طريق الهداية, أو طريق الضلالة. ¬

(¬1) سورة التكوير - الآية 28، 29.

الهداية والإضلال

فإذا اختار الطريق الأول, ففى نطاق المشيئة الإلهية, وإذا اختار الطريق الثانى ففى نطاقها أيضًا. وكل الآيات التى جاءت على هذا النحو فمعناها لا يتعدى ما ذكرناه. * الهداية والإضلال: وقد يقال أيضًا: لقد جاء فى القرآن الكريم: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1). أى أن الله يضل من يشاء إضلاله, وهيدى من يشاء هدايته, وإذا كان الله يضل ويهدى, فليس للعبد حرية الاختيار, والواقع أن الهداية والإضلال نتائج لمقدمات, ومسببات لأسباب. فكما أن الطعام يغذى, والماء يروى, والسكين تقطع, والنار تحرق. فكذلك هناك أسباب توصل إلى الهداية, وأسباب توصل إلى الضلال. فالهداية إنما ثمار عمل صالح. والضلال إنما هو نتائج عمل قبيح. فإسناد الهداية والإضلال إلى الله من حيث إنه وضع نظام الأسباب والمسببات لا أنه أجبر الإنسان على الضلال أو الهداية. وحينما نرجع إلى الآيات القرآنية نجد هذا المعنى بيّنًا وواضحًا, لا لبس فيه ولا غموض, فالله يقول: ¬

(¬1) سورة النحل - الآية 93.

{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (¬1). {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬2). {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (¬3). فهداية الله للناس بمعنى لطفه بهم, وتوفيقهم للعمل الصالح, إنما هى ثمرة جهاد للنفس وإنابة إلى الله, واستمساك بإرشاده ووحيه. ويقول القرآن الكريم فى الإضلال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬4). {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬5). {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (¬6). {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬7). {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬8). ¬

(¬1) سورة الرعد - الآية 27. (¬2) سورة العنكبوت - الآية 69. (¬3) سورة محمد - الآية 17. (¬4) سورة البقرة - الآية 26، 27. (¬5) سورة إبراهيم - الآية 27. (¬6) سورة غافر - الآية 35. (¬7) سورة الصف - الآية 5. (¬8) سورة المطففين - الآية 14.

{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬1). فنرى من هذه الآيات أن سبب الإضلال هو الزيغ, والخروج عن تعاليم الله والكبر, والجبروت, والتعالى على الناس بغير حق, ونقض عهد الله, وقطع ما أمر الله به أن يوصل, ووصل ما أمر الله به أن يقطع, والفساد فى الأرض, والكفر واقتراف الآثام. فهذه هى الأسباب التى أضلت الناس, وأخرجتهم عن منهج الحق لأنهم آثروا العمى على الهدى, واستحبوا الظلام على النور, فكان أن كافأهم الله فأصمهم, وأعمى أبصارهم بمقتضى نظامه فى ارتباط الأسباب بمسبباتها. وهذا ونحوه كثير فى كتاب الله, ومنه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬2). فهؤلاء أهملوا منافذ العلم والعرفان وعطلوها عما خلقت له, فلم يصل إليها نور الحق. فقلوبهم غلف لا تعقل عن الله وحيه, وعيونهم عمى لا ترى الله فى ملكوته, وآذانهم صم لا تسمع آيات الله, فهم مثل الأنعام التى لا تنتفع بحواسها الظاهرة والباطنة, بل أضل من الأنعام, إذ الأنعام لم تزود بما زُوّد به الإنسان من قوى نفسية وعقلية وروحية. ¬

(¬1) سورة النساء - الآية 155. (¬2) سورة الأعراف - الآية 179.

الملائكة

الملائكة. * من هم الملائكة؟ * مم خلقوا؟ * فضل البشر على الملائكة. * طبيعتهم. * تفاوتهم. * عملهم فى عالم الأرواح. * عملهم فى عالم الطبيعة. * الإيمان بهم.

من هم الملائكة

* من هم الملائكة: الملأ الأعلى - أو الملائكة - عالم لطيف غيبى غير محسوس, ليس لهم وجود جسمانى يُدرَك بالحواس, وهم من عوالم ما وراء الطبيعة, أو غير المنظورة التى لا يعلم حقيقتها إلا الله. وهم مطهرون من الشهوات الحيوانية, ومبرءون من الميول النفسية, ومنزهون عن الآثام والخطايا. والملائكة ليسوا كالبشر: يأكلون, ويشربون, وينامون, ويتصفون الذكورة أو الأنوثة؛ وإنما هم عالم آخر, قائم بنفسه, ومستقل بذاته, لا يتصفون بشىء مما يتصف به البشر من الحالات المادية, ولهم قدرة على أن يتمثلوا بصور بشرية, وغيرها من الصور الحسية, فقد جاء جبريل إلى السيدة مريم متمثلاً فى صورة بشرية: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (¬1). ودخلت جماعة منهم على سيدنا إبراهيم فى صورة آدميين يحملون إليه البشرى, وظنهم ضيوفًا فقدم إليهم الطعام: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا (¬2) إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (¬3) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ (¬4) ¬

(¬1) سورة مريم - الآية 16، 17. (¬2) أى الملائكة. (¬3) مشوى على الحجارة المحماة بالنار. (¬4) وجد منهم غير ما يعرف.

مم خلقوا؟

وَأَوْجَسَ (¬1) مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ (¬2) فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (¬3). * مم خُلقوا؟ والملائكة خلقهم الله من نور, كما خلق آدم من طين, وكما خلق الجانّ من نار؛ روى مسلم عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «خُلِقت الملائكة من نور, وخُلق الجانّ من مارج من نار, وخُلق آدم مما وصف لكم». ومسكنهم السماء, وينزلون منها بأمر الله. روى أحمد والبخارى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» قال: فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (¬4). وخلقهم متقدم على خلق الإنسان, وقد أخبرهم الله بأنه سيخلفه ويجعله خليفة فى الأرض. ¬

(¬1) شعر بالخوف منهم. (¬2) سرورًا وفرحًا بالبشرى. (¬3) سورة هود - الآية 69 - 73. (¬4) سورة مريم - الآية 64.

فضل البشر على الملائكة

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (¬1). * البشر أفضل منهم: والظاهر أن البشر أفضل من الملائكة, كما هو واضح فى عجزهم عن الإجابة على الأسماء التى عرضها الله عليهم, بينما أجاب آدم إجابة صحيحة, فشرف العلم الذى خصه الله به, وامتاز عليهم فى معرفة الأشياء وإداكها. وكذلك فى أمر الله للملائكة بالسجود لآدم ما يفيد تفضيله عليهم. {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬2). ومن جانب آخر, نرى أن طاعة الملائكة جبلية, وتركهم للمعصية لا يكلفهم أدنى مجاهدة؛ لأنه لا شهوة لهم. فأى فضل لهم فى الطاعة, وترك العصيان, مع أن ذلك يقع منهم وقوعًا اضطراريًا, كما ينبض القلب, ويجرى الدم, وتتنفس الرئتان؛ بينما الإنسان يجاهد النفس, ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 30. (¬2) سورة البقرة - الآية 31 - 34.

طبيعتهم

ويصارع الهوى, ويحارب الشيطان, ويتكلف الطاعة, ويسعى جاهدًا فى تكميل نفسه, وترقية روحه رغبًا ورهبًا. * طبيعتهم: وطبيعة الملائكة الطاعة التامة لله, والخضوع لجبروته, والقيام بأوامره, وهم يتصرفون فى شئون العالم بإرادة الله ومشيئته, وهو سبحانه يدبر بهم ملكه, وهم لا يقدرون على شىء من تلقاء أنفسهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬1). {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (¬2). {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬3). روى البخارى أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا (¬4) لقوله, كـ أنه صلصلة (¬5) على صفوان, فإذا فُزِّع (¬6) عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال الحق, وهو العلى الكبير». ¬

(¬1) سورة النحل - الآية 50. (¬2) سورة الأنبياء - الآية 26 - 28. (¬3) سورة التحريم - الآية 6. (¬4) خضعانًا: مصدر، أى خضعت خضوعًا. (¬5) الصلصلة: الصوت المتدارك الذى يسمع ولا يثبت، أو ما يقرع السمع حتى يفهم بعد؛ والصفوان: الحجر الأملس. (¬6) فُزِّع: انكشف الفزع.

تفاوتهم

* تفاوتهم: وهم يتفاوتون فى الخلق, كما يتفاوتون فى الأقدار تفاوتًا لا يعلمه إلا الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). أى أن الله جعل الملائكة أصحاب أجنحة (¬2) , فمنهم من له جناحان, ومنهم من له ثلاثة, ومنهم من له أربعة, ومنهم من يزيد على ذلك؛ وهذا مظهر التفاوت فى الأقدار عند الله والقدرة على الانتقال. روى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله علية وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح. وكثرة الأجنحة دليل القدرة على السرعة فى تنفيذ أوامر الله وتبليغ رسالته. {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (¬3). قال ابن كثير: وما من ملك إلا له موضع مخصوص فى السماوات, ومقامات العبادات لا يتجاوزه, ولا يتعداه. ¬

(¬1) سورة فاطر - الآية 1. (¬2) هذا من الغيب الذى نؤمن به ولا نبحث عنه، لأننا لم نكلف العلم به، ولم يخبرنا المعصوم عنه. (¬3) سورة الصافات - الآية 164 - 166.

عملهم

وقال ابن عساكر فى ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن ابن العلاء ابن سعد عن أبيه - وكان ممن بايع يوم الفتح-: إن رسول الله صلى الله علية وسلم قال يومًا لجلسائه: «أطّت السماء وحُقّ لها أن تئط, ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد .. ثم قرأ: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ *وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (¬1)». * عملهم: وللملائكة عمل فى عالم الأرواح, وعمل فى عالم الطبيعة, ولهم صلة خاصة بالإنسان. * عملهم الروحى: فعملهم فى عالم الأرواح يتلخص فيما يلى: 1 - التسبيح والخضوع التام لله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (¬2). {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الصافات - الآية 164 - 166. (¬2) سورة الأعراف - الآية 206. (¬3) سورة الزمر - الآية 75.

2 - حمل العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} (¬1). {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (¬2). 3 - التسليم على أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} (¬3). 4 - تعذيب أهل النار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬4). {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً} (¬5). 5 - النزول بالوحى: وملك الوحى, هو جبريل - عليه السلام - , قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} (¬6). ¬

(¬1) سورة غافر - الآية 7. (¬2) سورة الحاقة - الآية 17. (¬3) سورة الرعد - الآية 23، 24. (¬4) سورة التحريم - الآية 6. (¬5) سورة المدثر - الآية 27 - 31. (¬6) سورة الحاقة - الآية 17.

ويسمى الروح الأمين, قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (¬1). ويسمى روح القدس, قال الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (¬2). ويسمى أيضًا بالناموس, كما قل ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله علية وسلم فى أول عهده بالوحى: لقد جاءك الناموس الذى نزّل الله على موسى. ويأتى جبريل عليه السلام أحيانًا فى صورة بشر, وأحيانًا فى مثل صلصة (¬3) الجرس. روى البخارى عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضى الله عنه سأل الرسول صلى الله علية وسلم فقال: يا رسول الله, كيف يأتيك الوحى؟ فقال: «أحيانًا يـ أتينى مثل صلصلة الجرس, وهو أشده علىّ, فيفصم (¬4) عنى وقد وعيت عنه (¬5) ما قال .. وأحيانًا يتمثل فى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول»؛ ¬

(¬1) سورة الشعراء - الآية 192 - 194. (¬2) سورة النحل - الآية 102. (¬3) أى أن صوته يشبه الصلصلة وهو الرنين المتتابع. (¬4) يفصم: يقلع. (¬5) وعيت: حفظت .. إنما كانت الحالة الأولى أشد، لأنها انسلاخ من البشرية واتصال بالروحانية؛ وكانت الثانية أخف، لأنها انتقال ملك الوحى من الروحانية إلى البشرية.

عملهم فى عالم الطبيعة

قالت عائشة رضى الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه, وإن جبينه ليتفصد عرقًا. وفى الحديث الذى أخرجه ابن أبى دنيا والحاكم عن ابن مسعود, أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «إن روح القدس نفث فى روعى أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها, فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب». * عملهم فى الطبيعة ومع الإنسان: وللملائكة عمل فى تدبير أمور الكون من إرسال الرياح والهواء, ومن سوق السحب وإنزال المطر, ومن إنبات النبات, ونحو ذلك من الأعمال الخافية على الأنظار التى لا تقع تحت الحواس. وهم يلازمون الإنسان فى حياته كلها, وبعد مماته, يقول الرسول صلى الله علية وسلم: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء, وعند الجماع, فاستحيوهم وأكرموهم». 1 - تنشيط القوى الروحية الكائنة فى الإنسان بإلهام الحق والخير: عن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «إن للشيطان لمة (¬1) بابن آدم, وللملك لمة, فـ أما لمة الشيطان, فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق, وأما لمة الملك, فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد من ذلك شيئًا, فليعلم أنه من الله, وليحمد الله, ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان .. ثم قرأ: ¬

(¬1) اللمة كهمة: الخطرة بالقلب، لمة الشيطان: وسوسته بالسوء؛ ولمة الملك وحيه بالخير.

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1)». 2 - دعاء الملائكة للمؤمنين: والله سبحانه لسعة مغفرته, ولحبه لعباده, يلهم ملائكته أن يضرعوا إليه بالدعاء, ويسألوه برحمته التى وسعت كل شىء, وعلمه الذى وسع كل شىء, أن يغفر للتائبين, ويدخلهم فى عباده الصالحين. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2) وروى مسلم أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان يدعوان, يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكًا تلفًا, ويقول الآخر: اللهم أعط منفقًا خلفًا». 3 - تأمينهم مع المصلين: والملائكة تؤمن من المصلين, فعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله علية وسلم قال: ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 268. (¬2) سورة غافر - الآية 7 - 9.

«إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (¬1) فقولوا: آمين (¬2) , فإن الملائكة يقولون: آمين, وإن الإمام يقول: آمين, فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬3). 4 - حضورهم صلاة الفجر والعصر من كل يوم: روى البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله علية وسلم قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة, وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلاة الفجر» (¬4) , يقول أبو هريرة رضى الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ (¬5) إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (¬6). وروى الشيخان عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسـ ألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادى؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» (¬7). 5 - نزولهم عند قراءة القرآن الكريم: وهم ينزلون عند قراءة القرآن الكريم، ويستمعون إليه .. فعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن أسيد بن حضير بينما هو فى ليلة يقرأ ¬

(¬1) سورة الفاتحة - الآية 7. (¬2) أى قولوا: آمين مع الإمام مع الموافقة له. (¬3) رواه أحمد وأبو داود والنسائى. (¬4) رواه الطبرانى بسند ضعيف. (¬5) أى صلاة الفجر. (¬6) سورة الإسراء - الآية 78. (¬7) رواه الطبرانى بسند ضعيف.

فى مربده (¬1) إذ جالت (¬2) فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضًا .. قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى فقمت إليها، فإذا مثل الظلة فوق رأسى، فيها أمثال السُّرُج عرجت فى الجو حتى ما أراها، فقال: فغدوت على رسول الله صلى الله علية وسلم فقلت: يا رسول الله، بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ فى مربدى إذ جالت فرسى، فقال رسول الله صلى الله علية وسلم: «اقْرَإِ ابْنَ حُضَيْرٍ»، قال: فقرأت، ثم جالت أيضًا، فقال رسول الله صلى الله علية وسلم: «اقْرَإِ ابْنَ حُضَيْرٍ»، قال: فقرأت، ثم جالت أيضًا، فقال رسول الله صلى الله علية وسلم: «اقْرَإِ ابْنَ حُضَيْرٍ»، قال: فانصرفت، وكان يحيى قريبًا منها خشيتُ أن تطأه، فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت فى الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله علية وسلم: «تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ» (¬3). 6 - حضورهم مجالس الذكر: وهم يلتمسون حلقات الذكر لإمدادهم بالقوى الروحية .. عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِى الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِى؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِى؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ ¬

(¬1) المربد: الجرن. (¬2) جالت: وثبت. (¬3) رواه البخارى ومسلم، واللفظ له.

مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِى؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيداً، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحاً، قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِى؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصاً، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَباً، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَاراً، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» (¬1) وفى رواية: «إِنَّ لِلّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضْلاً يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِساً فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِى الأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِى؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِى؟ قَالُوا: لاَ أَىْ رَبِّ، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِى؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِى؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِى؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِى؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» (¬2). ¬

(¬1) رواه البخارى، واللفظ له. (¬2) رواه مسلم، واللفظ له.

7 - صلاتهم على المؤمنين وخاصة أهل العلم منهم: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (¬1). وعن أبى أمامة أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض ليصلون على معلم الناس الخير» (¬2). 8 - تبريكهم أهل العلم وتواضعهم لهم: عن أبى الدرداء أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع» (¬3). 9 - حملهم البشريات: روى مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله علية وسلم قال: «إِنَّ رَجُلاً زَارَ أَخاً لَهُ فِى قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ (¬4) مَلَكاً، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخاً لِى فِى هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا (¬5)؟ قَالَ: لاَ، غَيْرَ أَنِّى أَحْبَبْتُهُ فِى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ». 10 - إعلانهم عمن يحبه الله وعمن يبغضه: يقول الرسول صلى الله علية وسلم: ¬

(¬1) سورة الأحزاب - الآية 43. (¬2) رواه الترمذى، وقال: حديث حسن. (¬3) رواه أبو داود والترمذى. (¬4) مدرجته: طريقه. (¬5) تصلحها.

«إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّى أُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِى فِى السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ .. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّى أُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِى فِى أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِى الأَرْضِ» (¬1). 11 - كتابتهم الأعمال: وهم يكتبون أعمال الإنسان، ويحصون عليه حسناته وسيئاته. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬2). {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) سورة ق - الآية 16 - 18. (¬3) سورة الانفطار - الآية 10 - 12.

{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (¬1). ويسجلون هذه الأعمال عندهم فى سجل لكل فرد، ثم تعرض يوم الحساب. {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (¬2). وفى أثناء العرض يشهدون على ما عمل الإنسان من خير أو شر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (¬3). 12 - تثبيت المؤمنين: وهم يثبتون المؤمنين بما يلقونه فى قلوبهم من التأييد: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬4). {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الزخرف - الآية 79، 80. (¬2) سورة الإسراء - الآية 13، 14. (¬3) سورة ق - الآية 20 - 22. (¬4) سورة الأنفال - الآية 12. (¬5) سورة المجادلة - الآية 22.

13 - وهم موكلون بقبض الأرواح: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (¬1). {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (¬2). 14 - وهم يحيون الطيبين تحية طيبة عند قبض أرواحهم: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} (¬3). 15 - ويبشرونهم بالجنة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (¬4). أى إن الذين آمنوا بالله إيمانًا حقًا، واستقاموا على الطريق الذى رسمه لعباده، فإن الملائكة تنزل عليهم عند الموت، وتقول لهم: لا تخافوا مما أمامكم من أهوال القبر وعذاب الآخرة، ولا تحزنوا على ما تركتم وراءكم من أموال وأولاد، وأبشروا بالجنة التى وعدكم الله بها .. بينما يمتهنون الفسقة، ويضربون وجوههم وأدبارهم. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 61. (¬2) سورة السجدة - الآية 11. (¬3) سورة النحل - الآية 32. (¬4) سورة فصلت - الآية 30 - 32. (¬5) سورة النساء - الآية 97.

الإيمان بهم

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (¬1). * الإيمان بالملائكة: وإذا كان هذا هو شأن الملائكة فى عالم الروح، ودورهم الإيجابى فى الكون والطبيعة، وإذا كانت هذه هى صلتهم بالإنسان فى هذا العالم وفى العالم الذى يأتى بعده .. كان من الواجب الإيمان بوجودهم، ومحاولة الاتصال بهم عن طريق تزكية النفس، وتطهير القلب، وعبادة الله عبادة خاشعة. وفى الاتصال بالملائكة سموّ للروح، وتحقيق للحكمة العليا التى خلق الإنسان من أجلها، وهى أداء أمانة الحياة، والقيام بالخلافة عن الله فى الأرض .. ولهذا كان الإيمان بالملائكة من البر، ومن دلائل الصدق والتقوى. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ} (¬2). إن الإيمان لا يكون له حقيقة إلا إذا آمن الإنسان بهذا العالم الروحى إيمانًا لا يتطرق إليه الشك، ولا تتسرب إليه الظنون. وهذا هو نهج الأنبياء والمؤمنين الذين انكشفت الحقائق أمام أبصارهم، فأدركوا من الكون ما لم يدركه الغافلون. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأنفال - الآية 50. (¬2) سورة البقرة - الآية 177. (¬3) سورة البقرة - الآية 285.

إن هذا العالم الغيبى لا يدرك بالحس ولا بالعقل، بل إن الشياطين لا يمكنهم الوصول إليه. {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} (¬1). وسبيل معرفته هو الوحى، لأنه غيب من الغيوب. { قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (¬2). وكل ما يجب الاهتمام به أن نؤمن بهم، ونرعى حق صحبتهم، ونوثق صلتنا بهم كما أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم، وأكرموهم». ¬

(¬1) سورة الصافات - الآية 8. (¬2) سورة ص - الآية 65 - 70.

الجن

الجن. * من هم؟ * طريق العلم بهم. * المادة التى خلقوا منها. * طوائفهم. * الجن مكلفون كالبشر. * استماعهم القرآن من الرسول. * الجن لا يعلم الغيب. * تسخير الجن لسليمان. * إبليس والشياطين. * كل إنسان معه شيطان. * الإعراض عن هداية الله يمكن للشيطان. * التحذير من عداوة الشيطان. * لا سلطان للشيطان على المؤمنين. * مقاومة الشيطان. *حكمة خلق إبليس.

من هم؟

* من هم؟: الجن نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، ولكنهم مجردون عن المادة البشرية، مستترون عن الحواس، لا يُرَوْن على طبيعتهم، ولا بصورتهم الحقيقية، ولهم قدرة على التشكل. * طريق العلم بهم: والطريق الذى يوصلنا إلى العلم بهذا العالم هو الوحى، وقد هدانا الكتاب والسُّنة الصحيحة عن أصل المادة التى خلقوا منها، وعن طوائفهم، وعن مصير كل طائفة، وعن تكليفهم واستماعهم القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم. * المادة التى خلقوا منها: يقول الله - سبحانه وتعالى - فى أصل المادة التى خُلِق منها الجانّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (¬1). والآيتان تدلان على: 1 - أن الإنسان فى أول أمره خلق من تراب، ثم عجن بالماء، فصار طينًا ثم مكث حتى صار حمأ (¬2) مسنونًا، ثم يبس هذا الحمأ المتغير الرائحة حتى صار صلصالاً (¬3). ¬

(¬1) سورة الحجر - الآية 26، 27. (¬2) الحمأ: طين أسود متغير ريحه من طول مجاورته للماء. (¬3) أى يظهر صوته إذا نقر عليه.

طوائفهم

2 - وأن الجانّ فى أول أمره، خلق من نار لا دخان فيها؛ لأن السموم هو لهم النار الخالص. 3 - وأن خلق الجانّ سابق لخلق الآدميين. * طوائف الجنّ: والجن طوائف: فمنهم الكامل فى الاستقامة والطيبة وعمل الخير، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم البُلْه المغفلون، ومنهم الكفرة، وهم الكثرة الكاثرة. يقول الله سبحانه فى حكايته عن الجن الذين استمعوا إلى القرآن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} (¬1). أى أن منهم الكاملين فى الصلاح، ومن هم أقل صلاحًا، فهم مذاهب مختلفة كما هو الحال عند البشر. ويقول الله عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} (¬2). أى أن منهم المسلمين، ومنهم الظالمين أنفسهم بالكفر، فمن أسلم منهم فقد قصد الهدى بعمله، ومن ظلم نفسه فهو حطب جهنم. ¬

(¬1) سورة الجن - الآية 11. (¬2) سورة الجن - الآية 14، 15.

الجن مكلفون كالبشر

* الجن مكلفون كالبشر: والجن مكلفون كالإنس، ورسلهم من البشر، يقول الله سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (¬1). {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (¬2). ومعنى الآيات: سنفرغ لكم لنحاسبكم حسابًا دقيقًا لا يشغلنا عن ذلك شىء يا أيها الثقلان .. والثقلان مثنى ثقل وهما: الجن والإنس. يا جماعة الجن والإنس إن قدرتم أن تفروا من جانب من جوانب السماوات والأرض للهرب من الحساب ففروا، واهربوا، ولكن لن تستطيعوا ذلك إلا بالقوة التى تفوق قوة الله، وذلك لا يكون لاستحالته. * استماعهم القرآن من الرسول: وقد خضر وفد من الجن، وسمعوا القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يرهم وقت وجودهم، ولم يعلم بحضورهم. وفى ذلك يقول الله سبحانه: ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 130. (¬2) سورة الرحمن - الآية 31 - 36.

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم .. انطلق صلى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب؛ قالوا: ما ذلك إلا من شىء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها .. فمر النفر الذين أخذوا تهامة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا .. فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم (¬2): {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} (¬3). وقال الحافظ البيهقى: وهذا الذى حكاه ابن عباس رضي الله عنه، إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت ¬

(¬1) سورة الأحقاف - الآية 29 - 32. (¬2) رواه الشيخان والترمذى والنسائى والبيهقى. (¬3) سورة الجن - الآية 1.

الجن لا يعلم الغيب

حاله، وفى ذلك الوقت لم يقرأ عليهم، ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعى الجن، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله عز وجل. وهذا يشير إلى ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب النبى ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكن قد افتقدناه ذات ليلة، وهو بمكة فقلنا: اغتيل، أو استطير، ما فعل به؟ فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، حتى إذا أصبحنا، أو كان فى وجه الصبح، فإذا نحن به يجىء من حراء، قال: فذكروا له الذى كانوا فيه، فقال: أتانى داعى الجنة، فأتيتهم، فقرأت عليهم، فانطلق، فأرانا أثرهم وأثر نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم. * الجن لا علم له بالغيب: عِلْم الغيب مما استأثر الله به، والله لا يطلع أحدًا على غيبه، إلا إذا أراد أن يبلغ من ارتضاه من رسله ما يريد إبلاغه للناس. {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (¬1). أى أنه يجعل حرسًا حول هذا الرسول الذى أطلعه على بعض الغيب المتعلق برسالته، وهذا الحرس من الملائكة والشهب لحفظ هذا الغيب من تلاعب الشياطين. وفى قصة سليمان يقول القرآن الكريم: ¬

(¬1) سورة الجن - الآية 26، 27.

تسخير الجن لسليمان

{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (¬1). * تسخير الجن لسليمان - عليه السلام -: والله سبحانه سخر الجن لسليمان، ولم يحدث ذلك لغيره فيما نعلم: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (¬2) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (¬3) * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (¬4) * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬5). {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (¬6). وطلب سليمان من جلسائه أن يأتيه أحد منهم بعرش بلقيس، فقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (¬7). ¬

(¬1) سورة سبأ - الآية 14. (¬2) أصاب: أراد. (¬3) غواص فى البحار لاستخراج اللؤلؤ. (¬4) مربوط بعضهم مع بعض فى السلاسل. (¬5) سورة ص - الآية 36 - 39. (¬6) سورة سبأ - الآية 12، 13. (¬7) سورة النمل - الآية 38، 39.

إبليس والشياطين

وعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتًا من الجن تفلَّت البارحة، ليقطع علىّ صلاتى، فـ أمكننى الله منه، فـ أخذته، فـ أردت أن أربطه إلى سارية من سوارى المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخى سليمان: " رب هب مُلكًا لا ينبغى لأحد من بعدى " فرددته خاسئًا». * إبليس والشياطين: إبليس اسم أعجمى، ولهذا كان ممنوعًا من الصرف، وقيل إنه عربى مشتق من الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله، أو الإبعاد عن الخير؛ ومنع من الصرف لأنه لا نظير له فى الأسماء، أو لأنه يشبه الأسماء الأعجمية .. وهو أبو الشياطين (¬1)، وأصلهم الأول (¬2) .. والشياطين هم المتمردون من عالم الجن. وإذا كانت الملائكة هم جُند الله الذين يمثلون الخير والفلاح والصلاح، فإن إبليس ومن معه من الشياطين هم أعداء الله الذين يمثلون الشر والفساد، فأعمال الملائكة والشياطين على طرفى نقيض. إذ أن أعمال الملائكة تتجه أول ما تتجه إلى عبادة الله، وترقية الحياة، وتنظيم أمر هذا الوجود، وإقامة معالم النظام .. وهى تعمل دائمًا على التأليف والتجميع والتنسيق، وهداية الإنسان إلى الحق، ودعاء الله أن يغفر له سيئاته ويحفظه منها. ¬

(¬1) الشياطين جمع شيطان، والشيطان كل متمرد من الإنس أو الجن أو الحيوان، والمقصود بهم هنا المتمردون من عالم الجن. (¬2) وهو سيبقى إلى يوم القيامة، فقد طلب إنظاره، فأجابه الله: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ? إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} سورة الحجر - الآية 37، 38؛ وله ذرية: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} سورة الكهف - الآية 50.

أما أعمال الشياطين فهى تتجه دائمًا إلى التمرد على الله، وإلى التفريق والتمزيق والتخريب والتدمير، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يقطع، فما من شر فى الأرض ولا فساد فى الوجود، إلا ولهم به صلة. وهم الذين زينوا للأمم السابقة سوء العمل، وحسنوا لهم الكفر والمعاصى، ودعوهم إلى تكذيب الرسل ومخالفة أوامر الله، ولا تزال هذه أعمالهم. {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). وعن عياض المجاشعى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم فى خطبته: «أَلاَ إِنَّ رَبِّى أَمَرَنِى أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِى يَوْمِى هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً حَلاَلٌ (¬2)، وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ (¬3)، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ (¬4)، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ (¬5)، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِى مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ ¬

(¬1) سورة النحل - الآية 63. (¬2) أى وقال ربى كل مال أعطيته لعبدى من طريق مشروع فهو حلال له كمنحة من ذى سلطان، وهدية من بعض الناس، وصناعة، وزراعة، ووظيفة، ونحوها، فلا تحرموا على ما لم يحرم الله عليكم. (¬3) أى على الفطرة مستعدين لقبول الهداية. (¬4) ذهبت بهم للباطل. (¬5) من الأنعام كالبحيرة ونحوها.

الْكِتَابِ (¬1)، وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِىَ بِكَ (¬2)، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ (¬3)». فالشياطين هى التى دعت إلى تحريف الدين، والخروج على الفطرة، وإلى الإشراك بالله، وحرمت الحلال، وأحلت الحرام، ولا تزال الشياطين تقعد للإنسان بكل طريق صادة عن سبيل الله ومحاولة صرفه عن جلائل الأعمال. ففى حديث سبره بن فاكه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق: فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم، وتترك دينك ودين آبائك؟ فعصاه، وأسلم .. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر؟ أتدع أرضك وسماءك؟ فعصاه وهاجر .. ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال، فتقاتل، فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ فعصاه وجاهد». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن فعل ذلك، فمات، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة». والشيطان هو الذى قام بدور رئيسى فى القضاء على دعوة الإسلام فى أول صدام له مع أعدائه. ¬

(¬1) نظر إلى أهل الأرض فغضب عليهم غضبًا شديدًا قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا فريقًا من أهل الكتاب الأول لم يغيروه. (¬2) لابتليك هل تقوم بحق الرسالة أولاً وأبتلى بك الناس: هل يؤمنون بك أو يكفرون. (¬3) لا يغسله الماء لأنه ليس فى صحف بل محفوظ فى الصدور يقرأ فى كل حال.

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1). وهذا الشيطان هو الذى يزين لكل فرد ما تهفوا إليه نفسه، ويميل إليه هواه من حب للجنس، أو طمع فى المال، أو حرص على المنصب، أو تطلع إلى الجاه، أو إيثار للاستبداد، أو ميل إلى الطغيان .. بل إنه ليتسلط على المتدينين أنفسهم، ليزيدوا فى شرع الله، أو ينقصوا منه، ليطوِّعوا الدين لأهوائهم، ويخضعوه لشهواتهم. وهو الذى يغرى العداوة والبغضاء بين الناس، فيفرق بين الأخ وأخيه، وبين الزوج والزوجة، وبين طوائف الأمة وجماعاتها. وهو الذى يوقد نيران الحروب بين الأمم والشعوب، وينفخ فيها لتهلك الحرث والنسل، وتأتى على الأخضر واليابس. وكلما كان الشيطان أقدر على الشر كان أقرب منزلة وأعلى قدرًا لدى رئيسه إبليس لعنه الله. عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً .. يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، قَالَ: ثُمَّ يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ». إن الفساد الجنسى، والفساد الخلقى، والفساد الاجتماعى، والفساد السياسى، والفساد ¬

(¬1) سورة الأنفال - الآية 48.

كل إنسان معه شيطان

الاقتصادى، وكل ما يعانيه الإنسان من فتن وويلات، إنما هو من نتاج إبليس وجنوده الأشرار. * كل إنسان معه شيطان (¬1): وكما أمد الله الإنسان بملك يهديه، ويؤيده .. فإنه كذلك يمده بشيطان يوسوس له، ويزين له السوء، ويغريه بالمنكر، ويدعوه إلى الفتنة، يستوى فى ذلك الأنبياء وغيرهم. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (¬2). وعن عائشة رضى الله عنها قالت: خرج النبى صلى الله عليه وسلم من عندى ليلاً، فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: «مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ، أَغِرْتِ؟»، قلت: وما لى لا يغار مثلى على مثلك؟ فقال: «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟»، قلت: يا رسول الله، أومعى شيطان؟ قال: «نَعَمْ»، قلت: ومع كل إنسان شيطان؟ قال: «نَعَمْ»، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: «نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّى أَعَانَنِى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ» (¬3). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ¬

(¬1) ليس فى العقل، ولا فى العلم، ما يمنع من روح شرير يحاول إغواء بنى آدم ليبتلوا به فى حياتهم، والعالم الروحانى عالم واسع، وقد ثبت وجوده علميًا، وقد مر على البشر قرون وأزمان وهم يجهلون الميكروبات وأثرها فى حياتهم، ثم اكتشفوها أخيرًا، فهل حينما كانوا يجهلونها كانت غير موجودة؟! إن الجهل بالشىء لا يعنى عدم وجوده. (¬2) سورة الأنعام - الآية 112. (¬3) رواه مسلم.

الإعراض عن هداية الله يمكن للشيطان

«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّاىَ، إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ» (¬1). * الإعراض عن هداية الله يمكن للشيطان: والشيطان لا يتمكن من نفس الإنسان إلا إذا أعرض عن هداية الله، وخرج عن المنهج المرسوم. فإذا أعرض الإنسان عن الطريق المرسوم له، عاقبه الله بتمكين الشيطان منه، فيوجهه وجهة الشر والفساد فى كل قول وفى كل فعل. {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (¬2). ومع التمادى فى الغى والضلال، يستحوذ الشيطان على النفس الإنسانية، ويستولى عليها استيلاء كاملاً، حتى يبلغ الإنسان أن يكون جنديًا لإبليس، أو عضوًا فى جماعة الشياطين. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) سورة الزخرف - الآية 36 - 39. (¬3) سورة المجادلة - الآية 19.

التحذير من عداوة الشيطان

وحين يصل الإنسان إلى هذا المستوى، ويهبط إلى هذا الدرك، يكون قد بلغ النهاية فى الانحطاط الروحى، والكفر بذخائر النفس. وفى هذا الدرك تختل المقاييس، وتضطرب الموازين، وتلتبس الحقائق، ويعلو سلطان الباطل، وتسود شريعة الغاب، ويتعادى الناس تعادى الحيوانات المفترسة، ويصبح الإنسان - وهو أبدع ما أنشأته العناية الإلهية - أداة من أدوات الشر والفساد، وعاملاً من عوامل الهدم والتخريب. {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} (¬1). بل يصل الإنسان إلى الحالة التى يتبرأ الشيطان فيها منه. {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬2). * التحذير من عداوة الشيطان: إن الشيطان يمثل الشر فى الأرض، ويعمل دائبًا على تدمير حياة الإنسان بزحزحته عن هداية الله، وإبعاده عن منهج الحق والرشاد. لهذا حذرنا الله من كيده، وأخبرنا بعداوته، ودعا إلى مقاومته بكل وسيلة حتى يضعف سلطانه، وتخف شروره وآثامه، فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬3). ¬

(¬1) سورة مريم - الآية 83؛ أى تغريهم بالمعاصى إغراء، وتزعجهم إليها إزعاجًا شديدًا. (¬2) سورة الحشر - الآية 15، 16. (¬3) سورة فاطر - الآية 6.

وقص علينا من عداوته لأبينا آدم عليه السلام ما فيه العظة البالغة، فقد استطاع أن يُغْريه بالأكل من الشجرة، وأن يخرجه من الجنة بكذبه وخداعه، وأن يوقعه فى مخالفة أمر الله وارتكاب نهيه، ثم قال عقب ذلك: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (¬1). وبيّن للإنسان ما أخذه الشيطان على نفسه منذ خصومته لآدم، أنه سيقعد على الصراط المستقيم يغوى الناس ويضلهم، قال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (¬2) لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ (¬3) مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ (¬4) وَأَجْلِبْ (¬5) عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬6). وفى سورة الأعراف يقول الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ (¬7) الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 27. (¬2) أتصرفن فيهم بالوسوسة. (¬3) الاستفزاز: الحث بشدة. (¬4) وسوستك. (¬5) أى صح عليهم بجندك مشاة وراكبين. (¬6) سورة الإسراء - الآية 62 - 65. (¬7) أى على الصراط، وهو طريق الله.

مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ (¬1) وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (¬2). وكان حكمه هذا ظنًا وقد تحقق: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وفى سورة النساء يقول الله سبحانه: { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً (¬4) وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (¬5) *لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (¬6) * وَلأُضِلَّنَّهُمْ (¬7) وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ (¬8) فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ (¬9) وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ (¬10) ¬

(¬1) أى لا يترك جهة إلا هجم عليهم منها. (¬2) سورة الأعراف - الآية 16، 17. (¬3) سورة سبأ - الآية 20. (¬4) أصنام ذات أسماء مؤنثة: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. (¬5) شديد التمرد والخروج على الطاعة. (¬6) معينًا ومحتمًا استيلاؤه عليه. (¬7) أضلنهم عن الحق بالوسوسة. (¬8) أى أن الشيطان حلف أن يأمر أتباعه بقطع آذان الأنعام تعظيمًا للأصنام، وكان الوثنيون يقطعون أذن الناقة ويشقونها إذا ولدت خمس بطون وجاءت فى المرة الخامسة بذكر، وكان ذلك علامة على أنه ملك للأصنام لا تركب ولا ينتفع بها أحد. (¬9) أى يأمرهم بسوء التصرف، فيتغير خلق الله، ولاسيما الدين الذى هو فطرة. (¬10) يعدهم بالفقر إذا أنفقوا فى سبيل الله، وبالغنى إذا غشوا ولعبوا القمار مثلاً، ونحو ذلك .. ويمنيهم الباطل الذى لا حقيقة له، وما يعدهم فى الحقيقة إلا بما يغر ويضر، وليس له أصل ولا نفع.

وَيُمَنِّيهِمْ (¬1) وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (¬2). ويعلمنا أن الشيطان جادّ فى إلقاء خواطر السوء، ومهتم بتقوية دواعى الشر والباطل فى النفس الإنسانية. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (¬3). أى أن الشيطان يوسوس للإنسان، ويلقى فى نفسه بأن الإنفاق يذهب بالمال، ويأمره بالإمساك والبخل والحرص على المال ومنع الزكاة؛ ومن ثم كان من الواجب الحذر منه، واتقاء شروره وآثامه. {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (¬4). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬5). ومن أبلغ ما ذكره القرآن فى الترهيب من متابعة الشيطان، ما جاء فى سورة الأنعام: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} (¬6). أى أن الله يقول يوم الحشر للجن وقد استكثرتم من إغواء الإنس، وقال ¬

(¬1) يشغلهم بالأمانى الباطلة: كطول العمر، وعدم البعث، والجزاء على العمل، حتى يغفلوا عن الاستعداد للقاء الله. (¬2) سورة النساء - الآية 117 - 120. (¬3) سورة البقرة - الآية 268. (¬4) سورة البقرة - الآية 168، 169. (¬5) سورة النور - الآية 21. (¬6) سورة الأنعام - الآية 128.

أتباعهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، أى استمتع الجن بالإنس حيث قادوهم، وأخضعوهم لسلطانهم، فكانت لهم لذة السيطرة ومتعة الرياسة، واستمتع الإنس بالجن، حيث زينوا لهم الشهوات أو دلوهم عليها، واستمر هذا الاستمتاع حتى بلغو الأجل المقدّر لهم. وفى مشهد من مشاهد القيامة يميز الله فيه المجرمين، ويوجه إليهم الخطاب ناعيًا عليهم طاعتهم للشيطان وعبادتهم له. {وَامْتَازُوا (¬1) الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ (¬2) أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا (¬3) الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ (¬4) كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (¬5). وفى مشهد آخر من مشاهد القيامة يخطب الشيطان فى أتباعه موقعًا اللوم عليهم فى ضلالهم ومتابعتهم له. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬6). قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعد ما قضى الله بين ¬

(¬1) انفردوا. (¬2) العهد: الوصية. (¬3) عبادة الشيطان: طاعته والاستجابة له. (¬4) جبلاً: أقوامًا. (¬5) سورة يس - الآية 59 - 62. (¬6) سورة إبراهيم - الآية 22.

عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس لغنه الله يومئذ خطيبًا، ليزيدهم حزنًا إلى حزنهم، وغمًا إلى غمهم، وحسرة إلى حسرتهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} على ألسنة رسله، ووعدكم فى اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقًا وخبرًا صادقًا، وأما أنا {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} - كما قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (¬1) - ثم قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}؛ أى ما كان لى عليكم فيما دعوتكم إليه دليل، ولا حجة فيما وعدتكم به، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه {فَلا تَلُومُونِي} اليوم {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج، واتبعتمونى بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أى بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أى بنافعى بإنقاذى مما أنا فيه من العذاب والنكال {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} .. قال قتادة: أى بسبب ما أشركتمونى من قبل وقال ابن جرير: يقول أنى جحدت أن أكون شريكًا لله عز وجل .. وهذا الذى قاله هو الراجح .. وحين يقف الإنسان وقرينه أمام الله فى الآخرة يقول الإنسان: يا رب {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} (¬2)، فيقول شيطانه الذى وكل به: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} (¬3)، فيقول الله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ (¬4) وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} (¬5) ¬

(¬1) سورة النساء - الآية 120. (¬2) سورة الفرقان - الآية 29. (¬3) سورة ق - الآية 27 .. (¬4) أى لا تختصموا عندى، فقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت إليكم الكتاب، وقامت عليكم = = الحجج والبراهين. (¬5) سورة ق - الآية 28، 29.

لا سلطان للشيطان على المؤمن

* لا سلطان للشيطان على المؤمن: والإيمان يفيض على النفس إشراقًا، ويملأ القلوب نورًا، وإذا أشرقت النفس واستنار القلب، انمحى كل ما يوسوس به الشيطان. {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (¬1). وإذا ألم بالقلب الموصول بالله من مس الشيطان شىء، فسرعان ما يستيقظ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (¬2). وقد استطاع الشيطان أن يغرى آدم بالأكل من الشجرة، وأن يوقعه فيما حظره الله عليه، وأن يحرك فى نفسه بواعث الهوى ودواعى الشر إغراء وخداعًا. {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ ¬

(¬1) سورة النحل - الآية 98 - 100. (¬2) سورة الأعراف - الآية 201.

الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (¬1). إلا أن نوازع الخير ودواعيه تيقظت فى قلب آدم وحواء، وعلما أنه خدعهما بهما، فتغلبت هذه النوازع والدواعى على وسوسة الشيطان وحظه من النفس، فتابا إلى الله، وأنابا قائلين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2). فقبل الله توبتهما واستجاب دعاءهما: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬3). {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (¬4). وبالتوبة والإنابة إلى الله تغلب جانب الخير على جانب الشر، ومتى تغلب جانب الخير على جانب الشر فى نفس الإنسان، تعرض لهداية الله، وكان أهلاً للاجتباء والاصطفاء. والله لم يذكر لنا هذه القصة إلا لتكون مثلاً حيًّا لما ينبغى أن يكون عليه الإنسان، فالإنسان لم يخلق ملكًا منزهًا عن النقائص، وإنما خلق وعنده استعداد للبر والإثم، والصواب والخطأ، والخير والشر، والطاعة والمعصية، والتقوى والفجور. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 20 - 22. (¬2) سورة الأعراف - الآية 23. (¬3) سورة البقرة - الآية 37. (¬4) سورة طه - الآية 121، 122. (¬5) سورة الشمس - الآية 7، 8.

مقاومة الشيطان

والإنسان بمقتضى خلافته عن الله فى الأرض مكلف بأن ينمى فى نفسه معانى البِرّ، والصواب، والخير، والطاعة، والتقوى؛ وأن يقاوم نوازع الإثم، والخطأ، والشر، والفجور، حتى يبلغ الكمال الروحى الذى أراده الله له. وفى هذه المعركة يتدخل الشيطان، ليصرف الإنسان عن تنمية قواه العليا من جانب، وليضعف من روح المقاومة بطريق الخداع والإغراء والتزيين من جانب آخر. ومن ثم كان واجبًا على الإنسان أن يحذر مكايد الشيطان، ويعرف أساليبه التى يتخذها، ليصرف الإنسان عن وظيفته الأولى فى هذه الحياة. فإذا زلّت به قدم، أو تورط فى الإثم، أو جانبه صواب، أو مارس شرًّا، أو اقترف معصية، أو ارتكب فجورًا .. فأمامه السبيل الذى رسمه له أبوه آدم من التوبة، واستئناف حياة أزكى وأطهر .. وبهذا يخلص الإنسان من سلطان الشيطان وسيطرته عليه. * مقاومة الشيطان: إن الله لم يذكر فى القرآن النفس الأمارة بالسوء، ولا النفس اللوامة إلا مرة واحدة، ولكنه ذكر الشيطان وكرر التحذير منه فى صور متنوعة، وما فعل ذلك إلا ليكون الإنسان منه على حذر، كى لا يضل، ولا يشقى؛ ذلك أن عمل الشيطان فى النفس مثل عمل الميكروب فى الجسم، والميكروب ينتهز فرصة ضعف الجسم فيهجم عليه محاولاً القضاء عليه والفتك به، ولا خلاص للجسم من عمل الميكروب إلا إذا كانت له حصانة، وفيه مناعة تبطل عمل الميكروب، وتقضى على ضراوته. وكذلك الشيطان ينتهز فرصة ضعف النفس ومرضها، فيهجم عليها محاولاً إفسادها.

ولا خلاص منه إلا إذا صحت النفس من أمراضها، التى هى المداخل الحقيقية للشيطان ووسوسته. وأمراض النفس التى هى مداخل الشيطان هى نقائص الإنسان التى يجب عليه أن يتخلص منها حتى لا يكون للشيطان سبيل عليه، وهذه الأمراض أو هذه النقائص هى - على سبيل المثال لا الحصر (¬1) -: الضعف، واليأس، والقنوط، والبطر، والفرح، والعجب، والفخر، والظلم، والبغى، والجحود، والكنود، والعجلة، والطيش، والسفه، والبخل، والشح، والحرص، والجدل، والمراء، والشك، والريبة، والجهل، والغفلة، واللدد فى الخصومة، والغرور، والادعاء الكاذب، والهلع، والجزع، والمنع، والتمرد، والعناد، والطغيان، وتجاوز الحدود، وحب المال، والافتتان بالدنيا .. فهذه هى أمراض النفس، وبواسطتها يتدخل الشيطان ليدمر حياة الإنسان، وليزحزحه عن فضائله العليا، ولا سبيل إلى طرده ومعالجة وسوسته وإغرائه إلا إذا عولجت النفس أولاً عن طريق المجاهدة، حتى تبرأ من هذه الأمراض جميعها، وتعود إليها الصحة والعافية، وتكون نفسًا مطمئنة بالحق والخير. وحينئذ يكون ذكر الله، والاستعاذة به من الشيطان، والتبرى من الحول والقوة، وإسلام الوجه لقيوم السماوات والأرض، مما يقوّى من معنويات الإنسان ويرفع من مستواه الروحى، حتى يصل الإنسان إلى درجة يخاف فيها الشيطان من أن يلقاه فى طريق من الطرق، كما حدث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه .. روى البخارى ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكاً فَجًّا (¬2)، إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ». ¬

(¬1) يراجع كتابنا عناصر القوة. (¬2) فجًا: طريقًا.

حكمة خلق إبليس

إن سعادة الإنسان لا تتم إلا بكبح جماح النفس، والتغلب على هواها باتباع وحى الله، ومحاربة نزغات الشيطان. {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ *وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (¬1). {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *مَلِكِ النَّاسِ *إِلَهِ النَّاسِ *مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ *الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ *مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ *} (¬2). * حكمة خلق إبليس: وقد يقال: لِمَ خلق الله إبليس يوسوس بالشر؟ ويدعو إلى محادة الله، ومحاربة تعاليمه؟ وقد أجاب عن ذلك بعض العلماء فقالوا أنه يظهر للعباد قدرة الله تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات التى هى أخبث الذوات وسبب كل شر، فى مقابلة ذات جبريل عليه السلام التى هى من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهى سبب كل خير، فتبارك الله خلق هذا وهذا؛ كما ظهرت قدرته فى خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر .. وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها مجال تصرفه وتدبيره، فخلو العالم عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته. ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذى البطش الشديد، والخافض، والرافع، والمعز، والمذل؛ وأن هذه الأسماء والأفعال كمالات لابد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء. ¬

(¬1) سورة المؤمنون - الآية 97، 98. (¬2) سورة الناس.

ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة كلأه، وعفوه، ومغفرته، وستره، وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن يشاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأشياء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبى صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» (¬1). ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم، الخبير، الذى يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشىء فى غير موضعه ولا ينزله فى غير منزلته التى يقتضيها كمال علمه، وتمام حكمته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكر له جميل صنعه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قرر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذى هو أعظم من الشر الذى فى تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التى فيها من المصالح ما هو أضعاف ما يحصل بها من الشر. ومنها حصول الطاعات المتنوعة التى لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن طاعة الجهاد من أحب أنواع الطاعات، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه الطاعة وتوابعها من الموالاة لله تعالى والمعاداة فيه، وطاعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى، والتوبة، والاستغفار والصبر، والاستعاذة بالله أن يجيره من عدوّه، ويعصمه من كيده وأذاه، إلى غير ذلك من الحكم التى تعجز العقول عن إدراكها. ¬

(¬1) رواه مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه.

الكتب السماوية

الكتب السماوية. * الكتب المدونة. * القرآن الكريم آخر الكتب. * تحريف التوراة. * تحريف الإنجيل. * تصديق القرآن للكتب السابقة. * الطريق إلى الحقيقة.

الكتب المدونة

إن لله سبحانه تعاليم ووصايا، أوحاها إلى رسله وأنبيائه منها: ما دوّن فى كتب، ومنها ما لا علم لنا به .. فلكل نبىّ رسالة بلغها قومه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬1). {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (¬2). * الكتب المدونة هى: التوراة التى نزلت على موسى عليه السلام: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (¬3). {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} (¬4). والإنجيل الذى نزل على عيسى عليه السلام: ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 213. (¬2) سورة آل عمران - الآية 184. (¬3) سورة المائدة - الآية 44. (¬4) سورة الأنعام - الآية 91.

{وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). والزبور الذى نزل على داود: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} (¬2). ومنها صحف إبراهيم وموسى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى*وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى*وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى *وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (¬3). {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى*وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى *بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى*إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (¬4). عن أبى ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالاً كلها». أيها الملك المسلط (¬5)، المبتلى (¬6)، المغرور (¬7)، إنى لم أبعثك بتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكنى بعثتك لترد عنى دعوة المظلوم، فإنى لا أردها وإن كانت من كافر. وعلى العاقل - ما لم يكن مغلوبًا على عقله - أن يكون ساعات: ¬

(¬1) سورة المائدة - الآية 46. (¬2) سورة الإسراء - الآية 55. (¬3) سورة النجم - الآية 36 - 42. (¬4) سورة الأعلى - الآية 14 - 19. (¬5) المسلط: صاحب السلطان النافذ. (¬6) المبتلى: المختبر بالحكم. (¬7) المغرور: الناسى حقوق الله الذى أصابته الغفلة.

فساعة يناجى (¬1) فيها ربه. وساعة يحاسب فيها نفسه. وساعة يتفكر فيها فى صنع الله عز وجل. وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل، ألا يكون ظاعنًا (¬2) إلا لثلاث: تزود لمعاد (¬3)، أو لمعاش (¬4). أو لذة فى غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه؛ ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه (¬5). قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى عليه السلام؟ قال: «كانت عِبَرًا (¬6) كلها». عجبت لمن أيقن بالموت، ثم هو يفرح. عجبت لمن أيقن بالنار، ثم هو يضحك. عجبت لمن أيقن بالقدَر، ثم هو ينصب (¬7). عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها، ثم اطمأن إليها. ¬

(¬1) يناجى: يدعو ربه. (¬2) ظاعنًا: مرتحلاً. (¬3) عمل صالح للآخرة. (¬4) سعى لعيشه. (¬5) يعنيه: يقيده. (¬6) عبرًا: عظات. (¬7) ينصب: يتعب.

عجبت لمن أيقن الحساب غدًا، ثم لا يعمل. قلت: يا رسول الله، أوصنى .. قال: «أوصيتك بتقوى الله، فإنها رأسُ الأمر كله». قلت: يا رسول الله، زدنى .. قال: «عليك بتلاوة القرآن، وذكر الله، فإنه نور لك فى الأرض، وذخر لك فى السماء». قلت: يا رسول الله، زدنى .. قال: «إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب (¬1)، ويذهب بنور الوجه». قلت: يا رسول الله، زدنى .. قال: «عليك بالجهاد، فإنه رهبانية (¬2) أمتى». قلت: يا رسول الله، زدنى .. قال: «أحبَّ المساكين وجالسهم». قلت: يا رسول الله، زدنى .. قال: «انظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى ما هو فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدرى نعمة الله عنك». قلت: يا رسول الله، زدنى .. قال: «قل الحق وإن كان مُرًا». ¬

(¬1) فلا يتأثر بالمواعظ. (¬2) انقطاع إلى طاعة الله وتبتل.

القرآن الكريم آخر الكتب

قلت: يا رسول الله، زدنى .. قال: «ليردك عن الناس ما تعلمه من نفسك، ولا تجد عليهم فيما تـ أتى، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك، وتجد عليهم فيما تـ أتى». ثم ضرب بيده على صدره، فقال: «يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب (¬1) كحُسن الخُلُق» (¬2). * القرآن الكريم وهو آخر الكتب السماوية نزولاً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ *نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ *مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (¬3). * مزايا القرآن: وللقرآن الكريم مزايا تميز بها عن الكتب السماوية التى تقدمته، وهى: 1 - أنه تضمن خلاصة التعاليم الإلهية التى تضمنتها التوراة والإنجيل وسائر ما أنزل الله من وصايا، وأنه مؤيد للحق الذى جاء بها: من عبادة الله وحده، والإيمان برسله، والتصديق بالجزاء، ووجوب إقامة الحق، والتخلق بمكارم الأخلاق. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ (¬4) ¬

(¬1) شرف. (¬2) رواه ابن حبان فى صحيحه، واللفظ له؛ والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. (¬3) سورة آل عمران - الآية 2 - 4. (¬4) المقصود من الكتاب هنا الجنس، فيشمل التوراة والإنجيل.

وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (¬1). أى أن الله أنزل القرآن الكريم على النبى صلى الله عليه وسلم مقترنًا بالحق فى كل ما جاء به، ومصدقًا لما تقدمه من الكتب الإلهية التى أنزلها الله على الأنبياء السابقين، ورقيبًا عليها: يقر ما فيها من حق، ويبيّن ما دخل عليها من تحريف وتصحيف؛ ثم يأمر الله نبيّه أن يحكم بين الناس - مسلمين وكتابيين - بما أنزل الله فى القرآن متجنبًا أهواءهم. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬2). ثم نسخت الأحكام العملية السابقة بالشريعة الإسلامية، والأحكام النهائية الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان .. وأصبحت العقيدة واحدة، والشريعة واحدة للناس جميعًا. 2 - وتعاليم القرآن هى كلمة الله الأخيرة لهداية البشر، أراد الله لها أن تبقى على الدهر، وتخلد على الزمن، فصانها من أن تمتد إليها يد التحريف، أو التصحيف، أو التغيير، أو التبديل. ¬

(¬1) سورة المائدة - الآية 48. (¬2) سورة الشورى - الآية 13.

{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬1). {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). والغاية من ذلك أن تبقى حجة الله على الناس قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. 3 - وهذا القرآن الذى أراد الله له الخلود، لا يتصور أن يأتى يوم يصل فيه العلم إلى حقيقة ما تتعارض مع أى حقيقة من حقائقه، فالقرآن كلام الله، والكون عمل الله، وكلام الله وعمله لا يتناقضان أبدًا، بل يصدق أحدهما الآخر، ومن ثم فقد جاءت الحقائق العلمية مصدقة لما سبق به الكتاب، تحقيقًا لقوله عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬3). 4 - والله يريد لكلمته أن تذاع، وتصل إلى العقول والأسماع، وتتحول إلى واقع عملى، ولا يتم ذلك إلا إذا كانت مسيرة للذكر والحفظ والفهم، ولهذا جاء القرآن سهلاً، ليس فيه ما يشق على الناس فهمه، أو يصعب عليهم العمل به {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬4). ومن تيسيره أن حفظه الرجال والنساء، والصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، ويرددونه فى البيوت والمساجد، ولا تزال أصوات القراء تدوى به فى كل ناحية، ¬

(¬1) سورة فصلت - الآية 41، 42. (¬2) سورة الحجر - الآية 9. (¬3) سورة فصلت - الآية 53. (¬4) سورة القمر - الآية 17.

تحريف التوراة

ولا نعلم أن كتابًا من الكتب غير القرآن نال من هذه الميزة بعض ما اختص به القرآن الكريم. والقرآن بهذا لا يساميه أو يقاربه كتاب آخر فى تأثيره وهدايته، ولا فى موضوعه وسمو أغراضه؛ ومن ثم كان خير الكتب وأفضلها على الإطلاق * تحريف التوراة: إن الإيمان بالتوراة التى نزلت على موسى عليه السلام، ركن من أركان الإيمان، وقد أخبر الله أن فيها هدى ونورًا وأثنى عليها بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). إلا أن هذه التوراة التى نزلت على موسى عليه السلام غير موجودة بالمرة، كما هو مسلم من الجميع. أما التوراة المتداولة الآن، فقد قام بكتابتها أكثر من كاتب، وفى أزمان مختلفة، وقد دخلها التحريف، يقول المرحوم الأستاذ الكبير/ محمد فريد وجدى: " ومن أدلة التحريف الحسية، أن التوراة المتداولة لدى النصارى تخالف التوراة المتداولة عند اليهود ". وقد أثبت القرآن هذا التحريف، ونعى على اليهود التغيير والتبديل الذى أدخلوه على التوراة. {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 48. (¬2) سورة البقرة - الآية 75.

فهم تجرأوا على كتاب الله، فحرفوه ليخفوا ما فيه من الحق، ونسوا قدرًا مما ذكرهم الله به فى التوراة؛ فالذى عندهم من التوراة الصحيحة، هو بعضها فقط. {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (¬1). وأول دليل على صحة نقد القرآن للتوراة المتداولة، وأنها ليست كلها هى توراة موسى عليه السلام، التى جعلها الله نورًا وهدى، ما جاء فى التوراة من وصف الله بما لا يليق بجلاله وكماله، ففى سفر التكوين (3: 22): " وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا بالخير والشر " .. وفيه (6: 6): " فحزن الرب أنه عمل الإنسان وتأسف فى قلبه ". فهل يعقل أن هذا من كلام الله؟! وهل يصح أن ينسب إليه الحزن والأسف على شىء عمله؟! وكذلك ما جاء فيها مما يمس شرف الأنبياء، ويتنافى مع ما لهم من عصمة ومكانة رفيعة، وخُلُق متين، فقالوا عن إبراهيم عليه السلام أنه كذاب، وأن لوطًا عليه السلام زنا بابنته، وهارون عليه السلام دعا الإسرائيليين إلى عبادة العجل، وداود عليه السلام زنا بزوجة أوريا، وسليمان عليه السلام عبد الأصنام إرضاء لزوجته. فهل ثمة دليل على التحريف أقوى من هذا؟! لقد اضطر النقاد من مصلحى اليهود أنفسهم إلى الاعتراف بهذه الحقيقة، وأن التوراة قد حرِّفت، وقد أورد مذهبهم (حاخام باريز أجوليان ويل) فى كتابه (اليهودية). ¬

(¬1) سورة النساء - الآية 46.

تحريف الإنجيل

* تحريف الإنجيل: والإنجيل الذى نزل على عيسى عليه السلام هو مثل التوراة التى نزلت على موسى عليه السلام، كلاهما كلام الله، وفيها هدى ونور، إلا أن الإنجيل قد لحقه ما لحق التوراة من التحريف: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬1). ويكفى لصحة التدليل على التحريف فى الأناجيل المتداولة بأيدى النصارى الآن، أنها أربعة اختيرت من نحو سبعين إنجيلاً، وهذه الأناجيل تناولت الكتابة عن سيرة سيدنا عيسى عليه السلام، ومؤلفوها معروفون، وأسماؤهم مكتوبة عليها، وقد قرر نقاد المسيحيين أنفسهم أن عقائد الأناجيل هى رأى بولس دون سائر الحواريين ودون أقرب الأقربين إلى عيسى عليه السلام. وقد وجد فى مكتبة أمير من الأمراء فى باريز نسخة من إنجيل برنابة، وقد طبعته مطبعة المنار بعد ترجمته إلى العربية، وهو يخالف الأناجيل الأربعة مخالفة كبيرة. * معنى تصديق القرآن للكتب السابقة: وإذا كان التحريف فى التوراة والإنجيل ثابتًا ثبوتًا حقيقيًا لا ريب فيه - بنص القرآن من جهة، وبالأدلة الحسية من جهة أخرى - فما معنى أن القرآن جاء مصدقًا لما تقدمه من الكتب الإلهية؟ ¬

(¬1) سورة المائدة - الآية 14، 15.

الطريق إلى الحقيقة

معنى ذلك أن القرآن جاء مؤيدًا للحق الذى ورد فيها كما سبقت إليه الإشارة من عبادة الله وحده، والإيمان برسله، والتصديق بالجزاء، ورعاية الحق والعدل، والتخلق بالأخلاق الصالحة؛ وهو فى الوقت ذاته مهيمنًا عليها ومبينًا ما وقع فيها من أخطاء وأغلاط، وتحريف وتصحيف، وتغيير وتبديل. وإذا انتفت هذه الأخطاء التى أدخلها رجال الدين على الكتب السماوية وزوروها على الناس باسم الله، ظهر الحق، واستبان، والتقى القرآن مع التوراة والإنجيل. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1). وإقامتها لا تتحقق إلا بعد تطهيرها من الزيف. * الطريق إلى الحقيقة: إن من يبتغى الحق؛ ويريد الوصول إلى التعاليم الإلهية الصحيحة، لا يجد أمامه غير القرآن الكريم، فهو الكتاب الذى حفظت أصوله، وسلمت تعاليمه، وتلقته الأمة عن محمد صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله تعالى؛ الأمر الذى لم يتوفر لكتاب مثله، وأنه الجامع لأسمى المبادئ، وأقوم المناهج، وخير النظم، والحافل لكل ما يحتاج إليه البشر من حيث العقائد، والعبادات، والآداب، والمعاملات، والنظم؛ وإنه الكفيل بخلق الفرد الكامل، والأسرة الفاضلة، والمجتمع الصالح، والحكومة العادلة، والكيان القوى ¬

(¬1) سورة المائدة - الآية 68.

الذى يقيم الحق والعدل، ويرفع الظلم، ويدفع العدوان؛ وأنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق الخلافة، ووراثة الأرض. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ *يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة المائدة - الآية 15، 16.

الرسل

الرسل. * لكل أمة رسول. * الرسول بشر. * الرسول رجل. * الغرض من بعثة الرسل. * عصمة الأنبياء. * ما نسب إلى الرسل. * أُلو العزم من الرسل. * حتمية النبوة والرسالة. * الأعمال الكبرى التى قام بها الرسول. * دلائل صدقه. * التبشير بظهوره. * آيات الرسل. * الفرق بين آيات الرسل، وغيرها من الخوارق. * الفرق بين المعجزة والكرامة. * معجزة خاتم الأنبياء.

الإيمان بجميع الرسل

أوجب الله على المسلم أن يؤمن بجميع رسل الله، دون تفريق بينهم، فقال عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ (¬1) مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬2). وبيّن أن هذا هو إيمان المؤمنين، فقال عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬3). وأخبر أن البرَّ فى هذا الإيمان، فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (¬4). وإذا آمن الإنسان ببعض الرسل، ولم يؤمن بالبعض الآخر، وفرق بينهم فى الإيمان، فهو كافر، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ¬

(¬1) النبى هو من أوحى إليه بشريعة ليعمل لها فى نفسه، والرسول هو من أوحى إليه بشريعة ليعمل بها فى نفسه وليبلغها غيره. (¬2) سورة البقرة - الآية 136. (¬3) سورة البقرة - الآية 285. (¬4) سورة البقرة - الآية 177.

وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} (¬1). وهؤلاء الرسل منهم من قصّه الله علينا فذكرهم بأسمائهم، ومنهم من لم يقصصه علينا، قال عز وجل: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (¬2). أما الذين قصّهم الله علينا فعددهم خمسة وعشرون، وهم المذكورون فى قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬3). وقد جمعت هذه الآيات ثمانية عشر رسولاً، ويجب الإيمان بسبعة آخرين مذكورين فى عدة آيات: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء - الآية 150، 151. (¬2) سورة النساء - الآية 164. (¬3) سورة الأنعام - الآية 83 - 86. (¬4) سورة آل عمران - الآية 33.

لكل أمة رسول

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} (¬1). {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} (¬2). {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} (¬3). {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ *وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬4). {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬5). وقد ورد أن عدد الأنبياء: 124. * لم تخل أمة من رسول: وهؤلاء الرسل أرسلهم الله إلى الأمم فى جميع العصور المتطاولة، فلم تخل أمة من رسول يدعوها إلى الله، ويرشدها إلى الحق، يقول الله عز وجل: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} (¬6). {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (¬7). {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} (¬8). {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬9). ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 65. (¬2) سورة هود - الآية 61. (¬3) سورة هود - الآية 84. (¬4) سورة الأنبياء - الآية 85، 86. (¬5) سورة الأحزاب - الآية 40. (¬6) سورة النحل - الآية 63. (¬7) سورة فاطر - الآية 24. (¬8) سورة يونس - الآية 47. (¬9) سورة الرعد - الآية 7.

الرسول بشر

* والرسول من نفس الأمة: والرسول بشر من نفس الأمة، وإن كان من معدن كريم، خصه الله بمواهب عقلية، وروحية، ليستعد لتلقى الوحى عن الله. {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬1). {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬2). وإنما خص الله الرسول بمزايا وفضائل ليقوى على الاضطلاع بأعباء الرسالة، وليكون مثالاً يُقتدى به فى أمور الدين والدنيا، ولو لم يتميز رسل الله بهذه الخصائص العقلية والروحية بأن انحطت فطرهم، أو ضعفت عقولهم، لما كانوا أهلاً لحمل هداية الله إلى الناس. * والرسول رجل يأكل الطعام: والرسول رجل يأكل الطعام، ويمشى فى الأسواق، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} (¬3). * والرسول يتزوج: والرسول يتزوج ويولد له كغيره من البشر. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} (¬4). ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 124. (¬2) سورة الحج - الآية 75. (¬3) سورة الفرقان - الآية 20. (¬4) سورة الرعد - الآية 38.

* والرسول يتعرض لما يتعرض له غيره من البشر: والرسول يتعرض لما يتعرض له غيره من الصحة والمرض، والقوة والضعف، واللذة والألم، والحياة والموت، إلا أن ما ينزل به لا يعرضه لتنفير الناس منه. { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (¬1). {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} (¬2). والرسول - أىّ رسول - لا يتصرف فى الكون، ولا يملك النفع والضر، ولا يؤثر فى إرادة الله، ولا يعلم من الغيب إلا القدر الذى أراده الله له. {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬3). {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً *لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (¬4). ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 83، 84. (¬2) سورة آل عمران - الآية 144. (¬3) سورة الأعراف - الآية 188. (¬4) سورة الجن - الآية 26 - 28.

الرسول رجل

* الرسول رجل: ولا يكون الرسول إلا رجلاً، فلم يرسل الله ملكًا، ولا أنثى. {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} (¬1). {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} (¬2). * الغرض من بعثة الرسل: والغرض من بعثة الرسل هو الدعوة إلى عبادة الله، وإقامة دينه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬3). {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬4). {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬5). وإقامة الدين، وعبادة الله، تنتظم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما تنتظم الأعمال الصالحة التى تزكى النفس الإنسانية، وتطهرها، وتغرس فيها الخير، لتبلغ الكمال المادى والأدبى فى هذه الحياة، ولتستعد لكمال أرقى، وأبقى. وهذه التعاليم العالية لا يمكن للبشر أن يصلوا إليها بعقولهم، وإنما يتعلمونها بوحى الله. ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 7. (¬2) سورة الإسراء - الآية 95. (¬3) سورة الأنبياء - الآية 25. (¬4) سورة النحل - الآية 36. (¬5) سورة الشورى - الآية 13.

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬1). وبهذا لا تنهض حجة من أغفل الله قلبه عن ذكره، واتبع هواه، وكان أمره فرطًا، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً *وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً *رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (¬2). {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3). قال ابن كثير: " يقول الله تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل: إنه لا يضل قومًا إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (¬4). ¬

(¬1) سورة الجمعة - الآية 2. (¬2) سورة النساء - الآية 163 - 165. (¬3) سورة التوبة - الآية 115. (¬4) سورة فصلت - الآية 17.

عصمة الأنبياء

والله عز وجل لا يعذب أحدًا حتى يقيم عليه الحجة، ويقطع عذره. {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (¬1). * عصمة الأنبياء (¬2): الرسل اصطفاهم الله واختارهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬3). ونزههم عن السيئات، وعصمهم من المعاصى، صغيرها وكبيرها. {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (¬4). وحلاهم بالأخلاق العظيمة من الصدق، والأمانة، والتفانى فى الحق، وأداء الواجب، فمنهم الصديق: ¬

(¬1) سورة الإسراء - الآية 15 .. استدل الأشاعرة والمالكية والكمال بن الهمام بهذه الآية على أن أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة ناجون وإن عبدوا الأصنام؛ وذهب أبو حنيفة والماتريديه أنه يشترط فى نجاتهم فى الآخرة ألا يشركوا مع الله غيره، لأن معرفة الله الواحد يكفى فيها العقل .. والأول أظهر، لأن الله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} " سورة النساء - الآية 115 ". (¬2) العصمة هى أنهم لا يتركون واجبًا، ولا يفعلون محرمًا، ولا يقترفون ما يتنافى مع الخلق الكريم. (¬3) سورة آل عمران - الآية 33. (¬4) سورة آل عمران - الآية 161.

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} (¬1). ومنهم من اصطنعه الله لنفسه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (¬2). {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى *وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (¬3). ومنهم من هو بعين الله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬4). ومنهم من اجتباه الله وعلمه: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬5). وبعد أن ذكر الله جملة من الأنبياء فى سورة مريم، قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (¬6). وهم وإن تفاوتوا فى الفضل، إلا أنهم بلغوا الغاية من السمو الروحى والصلة بالله. ¬

(¬1) سورة مريم - الآية 41. (¬2) سورة طه - الآية 39. (¬3) سورة طه - الآية 40، 41. (¬4) سورة الطور - الآية 48. (¬5) سورة يوسف - الآية 6. (¬6) سورة مريم - الآية 58.

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (¬1). وهكذا نجد النصوص الكثيرة الواردة فى القرآن بشأن الأنبياء والرسل، تضفى عليهم من الطهر والنزاهة والقداسة، ما يجعل منهم النموذج الحى، والصورة المُثْلى للكمال الإنسانى. ومثل هؤلاء، لا يمكن إلا أن يكونوا معصومين من التورط فى الإثم، ومنزهين عن الوقوع فى المعاصى، فلا يتركون واجبًا، ولا يفعلون محرّمًا، ولا يتصفون إلا بالأخلاق العظيمة التى تجعل منهم القدوة الحسنة، والمثل الأعلى الذى يتجه إليه الناس، وهم يحاولون الوصول إلى كمالهم المقدر لهم. والله عز وجل هو الذى تولى تأديبهم وتهذيبهم وتربيتهم وتعليمهم، حتى كانوا قممًا شامخة، وأهلاً للاصطفاء والاجتباء. {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬2). {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 253. (¬2) سورة الأنعام - الآية 89، 90. (¬3) سورة الأنبياء - الآية 73.

ما نسب إلى الرسل

{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬1). فهذه الآيات أدلة بيّنة على مدى الكمال الإنسانى الذى أفاضه الله على أنبيائه ورسله، ولو لم يكونوا كذلك لسقطت هيبتهم فى القلوب، ولصغر شأنهم فى أعين الناس، وبذلك تضيع الثقة فيهم، فلا ينقاد لهم أحد، وتذهب الحكمة من إرسالهم ليكونوا قادة الخلق إلى الحق، بل لو فعلوا شيئًا مما يتنافى مع الكمال الإنسانى بأن يتركوا واجبًا، أو يفعلوا محرّمًا، أو يرتكبوا ما يتنافى مع الخلق الكريم، لكانوا قدوة سيئة، ولم يكونوا مُثلاً عُليا، ومنارات هدى. إن رسل الله يدركون بحسهم الذى تميزوا به على غيرهم من البشر، أنهم دائمًا فى حضرة القدس، وأنهم يبصرون الله فى كل شىء، فيرون مظاهر جماله وجلاله، ودلائل قدرته وعظمته، وآثار حكمته ورحمته، يرون ذلك فى أنفسهم وفيمن حولهم: فى الأرض والسماء، وفى الليل والنهار، وفى الحياة والموت، فتمتلئ قلوبهم إجلالاً لله ووقارًا له، فلا يبقى فيها مكان لشيطان، ولا موضع لهوى، ولا جنوح لشهوة، ولا إرادة لشىء سوى إرادة الحق والتفانى فيه والاستشهاد من أجله. وما ورد فى القرآن الكريم مما يوهم ظاهره بأنهم ارتكبوا ما يتنافى مع عصمتهم، فهو ليس على ظاهره، ويتجلى ذلك فيما نذكره بالنسبة لما نسب لكل نبىّ فيما يلى: * آدم عليه السلام: يقول الله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (¬2). ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 90. (¬2) سورة طه - الآية 121.

فظاهر هذه الآية أن آدم عصى ربه، وغوى، بمخالفة أمر الله، واستجابته لدعوة الشيطان، وأن ذلك كان زلة وقع فيها. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} (¬1). ولكن إذا أمعنا النظر، رأينا أن هذه المعصية إنما وقعت من آدم نسيانًا منه لعهد الله، ولم يصدر عنه هذا الفعل عن إرادة وقصد، والله عز وجل لا يؤاخذ على الخطأ ولا على النسيان؛ لأن ذلك تكليف بما لا يطاق، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والأصل فى هذه القاعدة قول الله عز وجل: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2). وقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬3). والدليل على أن ما وقع من آدم كان نسيانًا وعن غير عمد، قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (¬4). أى أن آدم نسى عهد الله الذى وصاه به حين ارتكب ما نهاه عنه من الأكل من الشجرة، ولم يوجد له عزم على فعل ما نهى عنه .. وحيث لم يوجد له عزم على فعل ما نهى عنه، وحيث لم يوجد العزم على المعصية، فلا توجد المؤاخذة. وإنما اعتبر القرآن ذلك النسيان عصيانًا نظرًا لمقام آدم الذى خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلّمه الأسماء كلها، ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 36. (¬2) سورة الأحزاب - الآية 5. (¬3) سورة البقرة - الآية 286. (¬4) سورة طه - الآية 115.

والذى شأنه هكذا يجب أن يكون يقظًا كأقوى ما تكون اليقظة، بحيث لا ينسى وصاية الله له وعهده إليه، فهذا: من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. * نوح - عليه السلام -: أما نوح عليه السلام فما وقع منه فهو أنه سأل الله عن هلاك ابنه مع من هلكوا فى الطوفان، مع وعد الله بنجاته ونجاة أهله، فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). فلم يكن لنوح عليه السلام علم بأنّ نسب ابنه إليه قد انتفى بكفره وإعراضه عن دعوة الله، فسأل الله كيف هلك مع الوعد بنجاة أهله، وابنه من أهله؟ فعلمه الله أن الصلة الدينية والنسب الروحى أقوى من صلة الدم، فإذا انقطعت هذه الصلة، ذهبت بصلة النسب والدم، فقال له معلمًا إياه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} معللاً ذلك بأن عمله غير صالح، ومادام ذلك كذلك، فليس هناك صلة نسبية، وبذلك ينتفى نسبه من أبيه، فلا يكون من أهله الذين وعدوا بالنجاة. وكان على نوح عليه السلام - وهو الأب الثانى للبشر - الذى بذل حياته لله، ولبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو إلى الله، ويجاهد فى سبيله، كان عليه أن ¬

(¬1) سورة هود - الآية 45 - 47.

يفطن لهذا المعنى، وأن يدركه، فلما لم ينتبه إليه، وغلبت عليه عاطفة الأُبُوّة اعتبر ذلك نقصًا بالنسبة لمقامه الرفيع، ومنزلته الكبرى التى حباه الله بها .. ومن ثم فقد لجأ إلى الله أن يغفر له هذه العثرة التى لم يقصد إليها؛ ولم يكن له علم بها فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. * إبراهيم - عليه السلام -: وجاء فى دعاء إبراهيم عليه السلام قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (¬1). ونحن لا نعرف لإبراهيم خطيئة، والذى نعلمه أن الله قد اتخذه خليلاً، وأضفى عليه من صفات الكمال ما هو خليق به. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2). {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3). وطلبه من الله أ، يغفر له خطيئته، ليست خطيئة بالمعنى الذى يتبادر إلى الذهن، وإنما هى ما يستشعره فى نفسه من قصور فى تفانيه فى الله، وأداء رسالته، نظرًا لمكانته السامية، ومنزلته الرفيعة. ¬

(¬1) سورة الشعراء - الآية 82. (¬2) سورة البقرة - الآية 130. (¬3) سورة النحل - الآية 120 - 122.

* يوسف عليه السلام: والله يقول فى يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (¬1). وليس فى هذا ما يدل أدنى دلالة على أن يوسف هَمَّ بالفاحشة، لأن المقصود بالهَمّ هنا الهَمّ بالضرب والأذى .. وذلك أن امرأة العزيز راودته عن نفسه، فغلقت الأبواب، ودعته إلى نفسها، فاستعصم، وأبى، وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (¬2). وإزاء هذا الاستعصام والتأبى والترفع عن التسفل، همت امرأة العزيز بضربه وإلحاق الأذى به، بعد أن عجزت عن إغرائه بكل وسيلة، فهَمّ هو بأن يعاملها بالمثل دفاعًا عن نفسه، لولا أن رأى أن ذلك لا يليق بأمثاله من أصحاب النفوس الكبيرة، ولاسيما أن هذا البيت أواه، وأكرمه؛ فضلاً عن أنها سيدته التى تبنته، وأنها زوجة رجل عظيم فى أمة عظيمة. فلولا أن رأى ذلك كله، وهو صاحب شعور نبيل وعاطفة جياشة، لقابلها بالمثل، ولأذاها بالضرب المبرح. ولكنه كذلك لا يرضى بالاستكانة، ويقف ذليلاً يتلقى الضربات من امرأة أصابها جنون الشهوة الحيوانية - وهو من هو - فآثر أن يفر منها تفاديًا من الحرج الذى تعرض له، ولكنها أبت إلا أن تتابعه لتثأر لنفسها منه. {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (¬3). ¬

(¬1) سورة يوسف - الآية 24. (¬2) سورة يوسف - الآية 23. (¬3) سورة يوسف - الآية 25.

فكان فى ذلك خلاصه. والذى يدل على هذا أبلغ دلالة: أولاً: أن الله آتاه العلم والحكمة. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (¬1). ثانيًا: أنه أجاب امرأة العزيز بعد المراودة، بما يدل دلالة قاطعة على أن السوء لا يخطر على قلبه. {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (¬2). فالذى يقول هذا لا يتصور منه الهم بالفحش. ثالثًا: أن الله صرف عنه السوء والفحشاء، وأخلصه لنفسه. {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬3). ومن كان كذلك لا يمكن أن تتوجه نفسه مجرد توجه إلى سوء أو إلى فحش، لا فى القوم ولا فى العمل. رابعًا: أن كل هَمّ فى القرآن إنما يقصد به الهَمّ بالأذى، كالضرب والقتل. {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} (¬4). {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} (¬5). وهكذا لو تتبعنا جميع أسباب براءة يوسف عليه السلام من الهَمّ بالفاحشة، لوجدناها من الكثرة بحيث لا يتسع لها هذا المختصر. ¬

(¬1) سورة يوسف - الآية 22. (¬2) سورة يوسف - الآية 23. (¬3) سورة يوسف - الآية 24. (¬4) سورة غافر - الآية 5. (¬5) سورة التوبة - الآية 74.

* موسى عليه السلام: والله عز وجل يقول فى موسى عليه السلام: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ *قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). فموسى عليه السلام دخل المدينة، فوجد فيها مصريًا وإسرائيليًا من قومه، وهما يتضاربان، إلا أن الإسرائيلى الذى هو من شيعته وقومه ضعيف غير قادر على مقاومة المصرى، فاستغاث بموسى، لينقذه منه، فحدث - كما يحدث غالبًا فى مثل هذه المواقف - أن ضرب موسى المصرى بيده ضربة أصابت منه مقتلاً، ولم يقصد إلى قتله قط، وإنما قصد أن يمنع عدوانه عن أخيه، فحدث القتل الخطأ الذى لا مؤاخذة عليه إلا من حيث عدم التحرى والوعى الكامل، ولاسيما لمن هم فى أعلى المستوى البشرى كـ موسى، ونحوه من أولى العزم، ولذلك رجع إلى ربه ذاكرًا خطأه طالبًا من الله العفو والغفران. * داود عليه السلام: يقول الله - سبحانه وتعالى - فى داود - عليه السلام -: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ ¬

(¬1) سورة القصص - الآية 15، 16.

فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ *فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (¬1). وهذه القصة ليس فيها ما يدل على أن داود عليه السلام قد عصى ربه بارتكاب ما ينافى العصمة. وكل ما يمكن أن يقال فى هذا .. إنه قضى بين الخصمين بعد أن سمع من أحدهما، وقبل أن يسمع من الآخر؛ والتعجيل بالحكم قبل الاستماع إلى الطرفين، يعتبر فى نظر القضاء مخالفة، ولاسيما إذا كان القاضى نبيًا كـ داود عليه السلام، ممن أوتوا الحكمة وفصل الخطاب. ويمكن أن يقال أيضًا: إنه خاف من تسور الخصمين المحراب، ودخولهما عليه بغتة، وهو بين يدى الله؛ خاف أن يقتلاه - كما كانت عادة بنى إسرائيل من قتلهم الأنبياء - فكان هذا الخوف - وهو فى المحراب وماثل بين يدى الله - مما لا يليق بمكانته، وعظيم قدرته، وحسن صلته بالله، مالك ناصية كل شىء. وسواء أكان ما ينسب إلى داود عليه السلام من العجلة فى الحكم، أو من ¬

(¬1) سورة ص - الآية 21 - 25.

الخوف من القتل، فقد ظن أنه مُختبر بما وقع له، فاستغفر ربه، وخر راكعًا منيبًا إلى الله، راجعًا إليه. ولا يمكن أن تتضمن القصة التى ذكرت فى القرآن معنى آخر وراء ذلك مما ينتقص من قدر نبىّ عظيم. وما ذكر من أن المقصود بالنعجة هى المرأة، وأن داود اغتصب زوجة أحد قواده بحيلة احتالها عليه، فهو من الإسرائيليات المكذوبة، ومن الدخيل الذى يتنافى مع عظمة الرسالة، وكمال النبوة، وشرف الدعوة التى انتدب الله لها خيار خلقه وصفوة عباده. * سليمان - عليه السلام -: يقول الله - سبحانه وتعالى - فى سليمان - عليه السلام -: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ *قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬1). والابتلاء الذى تعرض له سليمان عليه السلام - وهو المرض الذى جعل منه جسدًا ملقى على الكرسىّ لا يستطيع معه الحركة - كان سببًا فى ضعف نفسه، وضعف مقاومته، فتاب إلى الله من هذا الضعف الذى يعترى البشر عادة، وكان الأجمل به يتجمل بالصبر الجميل. ويقال إن سليمان كان له ولد فاجر، انتزع ملكه من أبيه، فكان ذهاب ملك سليمان على يد ابنه الفاجر ابتلاء له، ثم ردّ الله ملكه إليه بعد أن سلب منه، فسأل الله عقب ذلك أن يغفر له ما يمكن أن يكون قد حدث من تقصير فى شكر الله، وسأله أن يهبه ملكًا لا ينبغى لأحد من بعده، فاستجاب الله له. ¬

(¬1) سورة ص - الآية 34، 35.

* محمد - صلى الله عليه وسلم -: وجاء فى القرآن الكريم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (¬1). {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً *وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (¬2). وظاهر الآية الأولى، يوهم بأن للرسول صلى الله عليه وسلم ذنبًا، وأن عليه أن يستغفر الله. وظاهر الآية الثانية، يفيد بأن الله غفر له صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر. والمعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه معصوم قبل البعثة وبعدها، فقد عصمه الله تعالى من عبث الطفولة ولهو الشباب، فلم يله كما كان يلهو غيره، لأنه أعد لحمل رسالة الهدى والنور؛ وقد أشار إلى هذا فيما حدَّث به عن نفسه فقال: «ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بينى وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى الله برسالته، قلت ليلة للغلام الذى يرعى معى بـ أعلى مكة: لو أبصرت لى غنمى حتى أدخل مكة، وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة، سمعت عزفًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذنى، فنمت، فما أيقظنى إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبى، فسـ ألنى، فـ أخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت مكة، فـ أصابنى مثل أول ليلة .. ثم ما هممت بسوء». ¬

(¬1) سورة محمد - الآية 19. (¬2) سورة الفتح - الآية 1 - 3.

وكذلك كان صلى الله عليه وسلم مدة حياته لا يخطر السوء على قلبه، وإذا كان ذلك كذلك، فما معنى الذنب الذى أمر أن يستغفر منه، والذى قد غفر له ما تقدم منه وما تأخر؟ مما لا جدال فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تصدر عنه بعض التصرفات التى لم يوح إليه شىء بخصوصها، بل كان أمرها متروكًا إلى اجتهاده الخاص، فكان فى بعض الأحيان يؤديه اجتهاده إلى ما هو حسن، متجاوزًا ما هو أحسن منه، فاعتبر وقوفه عند الرأى الحسن، وعدم إصابته ما هو أحسن منه ذنبًا بالنسبة إليه وبالإضافة إلى مكانته من العلم والعقل والفقه؛ وقد ذكر القرآن أمثلة لذلك: فمنها اجتهاده فى أسرى بدر، وقبوله الفداء، وقد عتب الله عليه عتبًا أبكاه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1). أى لولا أن كتاب الله وحكمه سبق بعدم مؤاخذة المجتهد على اجتهاده، لعاقبكم بالعذاب العظيم على قبول الفداء، وعدم الإثخان فى الأرض. ولما نزلت هذه الآية بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى معه أبو بكر رضي الله عنه بكاءً شديدًا، وقال: «لو نزل عذاب من السماء، ما نجا غير عمر». ففى هذه الحادثة، لم يكن من الرسول إلا الاجتهاد فى قضية لم يوح إليه فيها بشىء، ¬

(¬1) سورة الأنفال - الآية 67، 68.

ولم يخطىء فى حكمه فيها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، وإنما عدل عما هو أحسن إلى ما هو حسن. ومنها أنه قبل أعذار المتخلفين عن الغزو دون تمحيص هذه الأعذار، ليتبين له من هو صادق ممن هو كاذب. {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (¬1). ومن ذلك عتاب الله تعالى له فى إخفائه أمر زواجه زينب بنت جحش - بعد طلاق متبناه زيد بن حارثة لها - وكان الله قد أمره بذلك، ليبطل تقليدًا من تقاليد الجاهلية، إذ كانت هذه التقاليد تقضى بتحريم زواج زوجة المتبنى، مثل تحريم الزواج بزوجة الابن من النسب، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجد حرجًا مثل أى إنسان عندما يتحرج من مخالفة التقاليد، والخروج على العادات؛ وقد رفع الله عنه الحرج بعد العتب اليسير. {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً *مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} (¬2). ¬

(¬1) سورة التوبة - الآية 43. (¬2) سورة الأحزاب - الآية 37، 38.

وما قيل غير ذلك فهو محض اختلاق. ومما يدخل فى هذا النطاق، قول الله عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَن جَاءهُ الأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى*أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى*فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى *وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى*وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى*وَهُوَ يَخْشَى*فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (¬1). فهذا عتب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين طمع فى إسلام بعض صناديد قريش فأقبل عليهم يدعوهم إلى الله، وهم ينصتون له، ويقبلون عليه. وفى هذه الأثناء حضر عبد الله بن أم مكتوم، وأخذ يقاطع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول له: علمنى مما علمك الله، ويكرر ذلك، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يضيق بهذه المقاطعة، ويعبس من الضيق؛ ومع أن الرجل أعمى لا يبصر هذا العبوس، ومع ذلك عاتبه الله فيه ن فكان لما لقيه بعد، يقول له: «أهلاً بمن عاتبنى فيه ربى». ومن هذا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (¬2). تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى. فهذا كذب محض، وافتراء أحقر من أن يناقش، وليس فيه صلة بين هذه الأكذوبة، وبين قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ ¬

(¬1) سورة عبس - الآية 1 - 10. (¬2) سورة النجم - الآية 19، 20.

فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). فإن الآية تقرر أنه ما من نبىّ، ولا رسول تمنى هداية قومه، واستجابتهم دعوته إلا جاء الشيطان واضعًا أمامه العقبات، وميئسًا له من الوصول إلى الهدف الذى يستهدفه، إلا أن الله سبحانه يعجِّل بإزالة ما يلقى الشيطان من وسوسة تيئسُهُ ويحيى فى نفسه الأمل والرجاء. هذا هو ما نسب إلى رسل الله وأنبيائه، وهو لم يخرج عن كونه هنات هينات لا تصل إلى درجة المعصية، ولا تتنافى مع العصمة، ولا تنقص من أقدارهم السامية، أو تنال من مكانتهم الرفيعة. ويأبى اليهود والنصارى إلا أن يجرحوا كثيرًا من الأنبياء والرسل، وينسبوا إليهم ما نزَّههم الله عنه، وصانهم منه، بل إن كتبهم ترمى بعض الأنبياء بكبائر الإثم والفواحش. والنصارى تغالوا فى هذا، وبالغوا فيه، ليوجبوا العصمة للمسيح وحده، وهم يقصدون بهذا إقامة الأدلة على أن عيسى إله منزه عن الخطايا من جهة، وأنه جاء ليخلص الإنسان من خطيئة أبيه آدم، والتى ورثها عنه أبناؤه، ويفدى البشر بنفسه من جهة أخرى. وعقيدة الفداء هذه هى أساس ديانة النصارى، ولكن كتبهم - مع اعتقادنا بتحريفها - تكفى فى الرد عليهم. ¬

(¬1) سورة الحج - الآية 52.

ففيها نصوص قاطعة بأن يوحنا أفضل من المسيح وأعظم منه، وأنه هو الذى تولى تعميده، وأنه معصوم من كل خطيئة، وأنه لم يشرب خمرًا قط. بينما نسب إلى المسيح أنه شريب خمر، كما نسب إليه عدم استجابته لدعوة أمه حينما دعى إليها (¬1). ففى إنجيل لوقا (1 - 65) أنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس. وفيه (66) كانت يد الرب معه. وقال المسيح فيه (متّى 11) الحق أقول لكم إنه لم يضم بين المولدين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. وقال فيه (18) جاء يوحنا لا يأكل، ولا يشرب، فيقولون: فيه شيطان وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة. أما عيسى عليه السلام فقد شهدت الأناجيل بأنه أهان أمه، وهى التى فضلها الله على نساء العالمين. فقد جاء فى إنجيل لوقا (2 - 8) فأخبروه قائلين: أمك وأخوتك واقفون خارجًا يريدون أن يروك؛ فأجاب وقال: أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله، ويعملون بها. ¬

(¬1) ونحن ننزهه عن هذا، ونعتقد أنه كان وجيهًا فى الدنيا والآخرة ومن الصالحين.

أولو العزم من الرسل

* أولو العزم من الرسل: يقول الله - سبحانه وتعالى -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ (¬1) مِنَ الرُّسُلِ} (¬2). قيل: إن أولى العزم هم كل الرسل، وتكون من لبيان الجنس. والمشهور من الأقوال: أنهم: محمد، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم صلوات الله وسلامه. وقد نص الله على أسمائهم من بين الرسل فى آيتين: الأولى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (¬3). الثانية: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬4). * أفضل الرسل: أفضل الرُّسل على الإطلاق هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (¬5). ¬

(¬1) العزم: الثبات والصبر. (¬2) سورة الأحقاف - الآية 35. (¬3) سورة الأحزاب - الآية 7. (¬4) سورة الشورى - الآية 13. (¬5) سورة البقرة - الآية 253.

ختم النبوة والرسالة

والذى رفعه الله درجات هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأدل دليل على هذا ما جاء فى سورة آل عمران من تبشير الأنبياء به، وأخذ العهد والميثاق عليهم بالإيمان به ونصرته، إن هم أدركوا بعثته. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (¬1). وروى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعنى». وأما منعه صلى الله عليه وسلم من التفضيل بين أنبياء الله، وقوله: «لا تفضلوا بين أنبياء الله». فالقصد منه منع الغلو فى تعظيمهم من جهة، وكف المسلمين عن تنقيص أحد من إخوانه الأنبياء من جهة أخرى. * ختم النبوة والرسالة: الأنبياء جميعًا - صلوات الله وسلامه عليهم - كانت مهمتهم أن ينقذوا الناس ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، فكانوا دائمًا دعاة الخير، وأئمة الإصلاح، وحملة المشاعل فى الدنيا المظلمة .. وكان كل واحد منهم يأتى عقب الآخر، ليتمم ما بناه مَن قبله، فيزيد فى الإصلاح لبنة حتى استكمل البناء بخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) سورة آل عمران - الآية 81.

الأعمال الكبرى التى قام بها الرسول

فكان دينه خلاصة الأديان السابقة، وكانت دعوته هى الدعوة الجديرة بالبقاء، ففيها عناصر الحياة، ودعائم الإصلاح. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (¬1). وبإكمال دين الله الحق، تمت نعمة الله على الناس بما أنزله إليهم من هداية، فلا حاجة إلى هداية بعدها. وبهذا انقطعت النبوّة، وختمت الرسالة. {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2). وإذا كانت النبوّة قد انقطعت، فقد انقطعت بالتالى الرسالة، فلا نبوة ولا رسالة بعد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم رسل الله، وفى ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «مثلى ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا، فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها، فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، فـ أنا موضع اللبنة، خُتم بى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام». * الأعمال الكبرى التى تمثل نجاح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: إن لرسولنا صلى الله عليه وسلم أعمالاً كبرى يتمثل فيها نجاحه فى دعوته، وهذه الأعمال يمكن تلخيصها فيما يلى: العمل الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قضى على الوثنية، وأحل محلها الإيمان بالله واليوم الآخر. ¬

(¬1) سورة المائدة - الآية 3. (¬2) سورة الأحزاب - الآية 40.

دلائل صدقه

العمل الثانى: أنه صلى الله عليه وسلم قضى على رذائل الجاهلية ونقائصها، وأقام مقامها الفضائل والمكارم والآداب. العمل الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم أقام الدين الحق الذى يصل بالإنسان إلى أقصى ما قدر له من كمال. العمل الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم أحدث ثورة كبرى غيرت الأوضاع، والعقول، والقلوب، ونظام الحياة الذى درج عليه أهل الجاهلية. العمل الخامس: أنه صلى الله عليه وسلم وحّد الأمة العربية، وأقام دولة كبرى تحت راية القرآن الكريم. هذه هى الأعمال التى تمثل نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم فى مهمته؛ وهى كما تبدو كلها أمور كبيرة، وإقامتها، بل إقامة واحد منها، من الخطورة بمكان. وإنه لا يمكن أن يتأتى النجاح لفرد فى بعض هذه الأعمال، فضلاً عن توفر النجاح فى كل ناحية من هذه النواحى. إن القيام بهذه الأعمال والنجاح فيها على هذا النحو، لهو المعجزة الكبرى لحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان عيسى عليه السلام له معجزة إحياء الموتى، وموسى عليه السلام له معجزة العصا، فإن هاتين المعجزتين فى جانب هذه الانتصارات، وإلى جانب هذه المعجزات، لا تساوى شيئًا. * دلائل صدقه: ومن دلائل الصدق على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مرسل من عند الله ما يأتى: أولاً: أنه كان زاهدًا فى الدنيا، فلم يكن يطلب على عمله أجرًا، فقد كان زاهدًا فى المال، وفى كل ما هو مادى، كما كان زاهدًا فى الجاه والمنصب.

أما زهده فى المال، فإن طبيعة حياته تدل على ذلك أبلغ دلالة، فهو لم يفترش الحرير، ولم يلبس الديباج، ولم يتزين بالذهب؛ كان بيته كأبسط بيوت الناس، وكان يمر عليه الشهران، ولا يوقد فى بيته نار؛ قال عروة وهو يسمع خالته عائشة تتحدث بهذا إليه: يا خالتى، ما كان يُعَيِّشُكم؟ قالت: إنما هما الأسودان: التمر والماء. وذات مرة رأى عمر بن الخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم نائمًا على حصير بالية، وقد أثر فى جسمه، فبكى، فقال له الرسول: «ما يبكيك؟» فقال: ما بال كسرى وقيصر ينامان على الديباج والحرير، وأنت رسول الله يؤثر فى جنبك الحصير، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عمر، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!». ولقد جاءت الغنائم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتصار المسلمين، فرأى نساؤه أن يستمتعن بشىء من هذه الغنائم، وطلبن منه أن يكون لهن نصيب منها، فإذا بالآية الكريمة ترد على سؤال هؤلاء النسوة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً *وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (¬1). فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، وقال لهن: «هل تردن الله ورسوله والدار الآخرة؟ أم تردن الدنيا وشهواتها؟» فاختارت كل واحدة منهن الله ورسوله والدار الآخرة، فمدحهن وأنزل فى حقهن: ¬

(¬1) سورة الأحزاب - الآية 28، 29.

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (¬1). ولقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودى، وقد عاش طول حياته وما شبع من خبز الشعير قط. أما زهده فى الجاه، فهو يتمثل فى كل حال من أحواله. أراد الصحابة أن يمتدحوه، ويثنوا عليه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح بن مريم». وجاءه الوليد بن المغيرة مندوبًا عن المشركين ليفاوضه، وعرض عليه من كل متع الحياة، فكان جوابه أن قرأ عليه افتتاحية سورة حم فصلت. هذا هو الزهد الذى كان طبيعة من طبائع الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: أنه كان أُمِّيًّا، وأقام هذه الأعمال الكبار وهى أُمّىّ لم يقرأ ولم يكتب، ولم يدخل معهدًا، ولم يتتلمذ على أستاذ؛ ولكنه نجح، وبلغ هذه المرتبة التى لم يبلغها أحد قبله، ولا أحد بعده. والقرآن يسجل هذه الحقيقة ليجعلها أمارة صدقه ودليل أمانته، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الأحزاب - الآية 32. (¬2) سورة الشورى - الآية 52، 53.

وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم شيئًا من النبوة، ولا ما يتصل بالذات العلية، فجريان هذه الأعمال على يديه، إنما هو دليل الإعجاز؛ لأن المتعلمين الذين ينقطعون للعلم والبحث، ليعجزون أن يصنعوا شيئًا مما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن هذا تأييد وتوفيق من الله تبارك وتعالى، والقرآن يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (¬1). ولقد كان ذلك معروفًا لدى خصومه، وكان يواجههم به، ولم يستطع أحد منهم أن يشكك فى هذه الحقيقة السافرة، فيقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15)) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬2). ثالثًا: الصدق، فلم يُعلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذب قط قبل البعثة ولا بعدها، ولقد جاءه الوحى، فذهب إلى خديجة، وقال لها: «لقد خشيت على نفسى»، فقالت له: كلا والله لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لتصدق ¬

(¬1) سورة العنكبوت - الآية 48. (¬2) سورة يونس - الآية 15، 16.

التبشير بظهور خاتم الرسل

الحديث، وتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقرى الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر. ولقد عرض الرسول صلى الله عليه وسلم لأول عهده بالنبوة الإسلام على أبى بكر رضي الله عنه، فصدّقه لأول وهلة، وما توقف عن المسارعة إلى الإيمان به، لأنه كان يعلم صدقه وأمانته، ودخل أعرابى عليه، فنظر إليه فوجد الصدق يحوطه، فقال: والله ما هذا الوجه بوجه كذاب. * التبشير بظهور خاتم الرُّسل: لم تخل الكتب الإلهية المتقدمة من التبشير بظهور محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، ففى سفر تثنية الاشتراع (التوراة) بشارة يقول: " أتى الرب من طور سيناء وارتفع من صير إليهم، وشع شعاعة من فاران، وتقدم إلى الأمام ومعه عشرة آلاف من الأبرار، ومن يمينه خرج كتاب التقوى ". فالإتيان من طور سيناء، يشير إلى ظهور الرب لموسى الكليم؛ والارتفاع من صير، يشير إلى استيلاء داود على صير؛ وأما فاران، فهو اسم أرض الحجاز القديم، حيث ظهر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلالة إبراهيم عليه السلام؛ وأما التقديم إلى الأمام ومعه عشرة آلاف من الأبرار، فهو إشارة إلى النبى محمد صلى الله عليه وسلم، فقد دخل مكة يصحبه عشرة آلاف من أنصاره يوم فتح مكة؛ ومن يمينه خرج كتاب التقوى، يشير إلى الشريعة التى خرج بها محمد صلى الله عليه وسلم على العالم، والتى لازال نورها يضىء كل ما له شأن بالدين والدنيا، من حياة عامة وخلق اجتماعى. وفى إنجيل يوحنا، الإصحاح الرابع عشر 13، 155:

" إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم معزيا آخر، ليمكث معكم إلى الأبد: روح الحق ". وهذا مثل ما جاء فى القرآن الكريم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. وفى إنجيل يوحنا، إصحاح 14 - 26: " أما المعزى الروح القدس الذى سيرسله الأب باسمى، فهو يعلمكم كل شىء ". وهذا مثل قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬1). وفى إنجيل يوحنا أيضًا، إصحاح 16 - 12: " إن لى أمورًا كثيرة أيضًا لا أقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، ولكن متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدهم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما يأتى ". وهذا يتفق مع قوله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (¬2). * محمد صلى الله عليه وسلم، دعوة إبراهيم عليه السلام وبشرى عيسى عليه السلام: ولقد سجل القرآن الكريم أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، كما كان بشرى بشر بها عيسى عليه السلام؛ ففى سورة البقرة، يحكى القرآن الكريم أن إبراهيم وإسماعيل كانا يدعوان الله، وهما يرفعان القواعد من البيت، فيقولان: ¬

(¬1) سورة النحل - الآية 89. (¬2) سورة الإسراء - الآية 81.

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). وفى سورة الصف يقول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬2). وروى الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبى أمامة قال: قلت: يا نبى الله، ما كان أول بدء أمرك؟ قال: «دعوة أبى إبراهيم، وبشرى عيسى». قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: إن هذه الآية التى فى القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (¬3). قال فى التوراة: " يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدًا، ومبشرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل؛ ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينًا عمياء، وآذانًا صماء، وقلوبًا غلفًا ". ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 129. (¬2) سورة الصف - الآية 6. (¬3) سورة الأحزاب - الآية 45.

آيات الرسل

* آيات الرسل: لم يرسل الله رسولاً ليلغ الناس الدين، ويعملهم الشريعة، إلا وأيده بالآيات التى تقطع بأنه مرسل من عنده، وأنه موصول بالملأ الأعلى يتلقى عنه، ويأخذ تعاليمه منه. وهذه الآيات التى يؤيد الله بها رسله، لابد أن تكون فوق مقدور البشر، وخارج نطاق طاقاتهم وعلومهم ومعارفهم؛ كما يجب أن تكون مخالفة للسنن الخاصة بالمادة، وخارقة للعادات المعروفة، والقوانين الطبيعية المألوفة. ولذلك سمى العلماء هذه الآيات بالمعجزات، لأنها تعجز العقل عن تفسيرها، كما تعجز القدرة الإنسانية عن الإتيان بمثلها. وعرّفوا المعجزة بأنها: الأمر الخارق للعادة، الذى يجريه الله على يدى نبى مرسل، ليقيم به الدليل القاطع على صدق نبوّته. ومن ثم كانت المعجزة ضرورية، وإظهارها واجبًا، ليتم بها المقصود من تبليغ الرسالة، وتقام بها حجة الله على الناس. وهذه الآيات ممكنة فى ذاتها، والعقل لا يمنعها، والعلم لا ينفيها، والواقع يؤيدها. فقد قام رجال وادعوا أنهم رسل الله، وتحدّوا أممهم بما أظهروه من هذه الخوارق، ورآها الناس عيانًا، وآمن بها ألوف وألوف عبر القرون والأجيال. بل إن العلم الحديث نفسه أثبت أن النواميس الطبيعية يمكن تخلفها عن إحداث آثارها بنواميس أخرى أرقى منها، كما أثبت العلم أيضًا أن معجزات الأنبياء كلها صحيحة.

والناظر فيما كتبه العلماء المحدثون عن عالم الأرواح، وعجائب استحضارها، وغرائب التنويم المغناطيسى، وما إلى ذلك يدرك لا محالة أن هذه الخوارق أمور ممكنة، وليس شىء منها بمحال أصلاً. والمؤمنون بالله لا يتوقفون فى تصديق شىء، متى ثبت بالدليل القاطع الذى لا يتطرق إليه الشك، لأنهم يعلمون أنه عز وجل لا يتقيد بالسنن التى وضعها، فهم يعلمون بأن الذى قدر على جعل النار محرقة، قادر على سلبها خاصة الإحراق، كما فعل مع إبراهيم عليه السلام حين ألقى فى النار، فلم يحترق. {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ *قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬1). وهم يعلمون أن الذى قدر على خلق الإنسان من ذكر وأنثى، وخلق آدم من تراب، قادر على أن يخلق من السيدة مريم العذراء بدون لقاح طبيعى أو صناعى. {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً *قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} (¬2). {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬3). وهم يؤمنون بأن الذى أعطى المرأة الولود القدرة على الإخصاب، قادر على أن يعطى العقيم هذه القدرة، كما فعل ذلك لأم يحيى بن زكريا - عليهما السلام -. ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 68، 69. (¬2) سورة مريم - الآية 20، 21. (¬3) سورة الأنبياء - الآية 91.

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ *فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ *قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬1). وهكذا يرى المؤمنون بالله أن الله خالق الكون، ومدبر أمره، وواضع سننه لا يتقيد بهذه السنن الظاهرة، وأن وراء هذه السنن سننًا أخرى فوق ما نعرف، وأن الكون ليس كما يزعم السطحيون من الماديين: ميكانيكيًا يسير حسب ما يتصورون، وأنه ليس له مدبر يدبر أمره وينظم شئونه .. لا، إن الكون أكبر مما يتصوره هؤلاء وأعظم، وما عرفوا منه إلا الأسماء التى يسترون بها جهلهم، وينفسون بها عن غرورهم .. وإن الأمر كما قال القرآن الكريم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2). وجاء فى كتاب (الإسلام مع الحياة) بعنوان " العلم الحديث ورد الشمس ": جاء فى قصص الأنبياء، أن يوشع بن نون كان فى معركة مع أعداء الله، وكانت الشمس تغرب قبل أن ينتهى القتال، فخشى أن يعجزوه إذا امتد القتال إلى اليوم التالى، فقال للشمس: أنت فى طاعة الله، وأنا فى طاعة الله، فأسألك أن تقفى حتى ينتقم الله من أعدائه قبل الغروب، فاستجاب الله الدعاء، ووقفت الشمس وزيد فى النهار حتى تم النصر ليوشع. وقال الله تعالى: ¬

(¬1) سورة آل عمران - الآية 38 - 40. (¬2) سورة الإسراء - الآية 58.

{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (¬1). قال المفسرون: إن موسى عليه السلام ومن معه هربوا من فرعون لخوف القتل، ولما انتهوا إلى البحر، ولم يجدوا سبيلاً إلى ركوبه، أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، وحينما امتثل ما أمر الله به، تجمع الماء على الطرفين بعضه فوق بعض، حتى صار كالجبل، وخرج موسى وأنصاره، وتبعهم فرعون وقومه فى نفس الطريق، فأغرقهم الله، وكان البحر يبسًا فى طريق موسى، وماء فى طريق فرعون. وكذب الكافرون كلاً من المعجزتين أو الحادثتين: أولاً: لأنها خرق لقوانين الطبيعة. ثانيًا: لو صحت لجاء ذكرها فى غير الكتب الدينية، لأنها من الأحداث العالمية العجيبة. وقرأت فى جريدة الجمهورية عدد 13 - 12 - 57، أن كتابًا فى علوم الطبيعة ظهر حديثًا، وقد أثار ضجة كبرى فى الأوساط العلمية، ولدى المؤرخين حيث أثبت بالأرقام المحسوسة واقعة انشقاق البحر، ووقوف الشمس فى كبد السماء. أما المؤلف فهو عالم روسى من علماء الطبيعة اسمه " إيمانويل فليكوفسكى " درس العلوم الطبيعية فى جامعة أدنبورج، ودرس التاريخ والقانون والطب فى جامعة موسكو، ودرس علم الإحياء فى برلين وفى زيورخ، ودرس الطب النفسى فى فينا، ولقد خرج المؤلف من أبحاثه التى استمرت أكثر من عشر سنوات إلى استنتاجات علمية تؤيد بدون قصد ما جاء فى القرآن الكريم، وسيرة الأنبياء. وقد رأيت أن أنقل للقراء مقتطفات من الكتاب كما ترجمتها، ونشرتها جريدة الجمهورية. ¬

(¬1) سورة الشعراء - الآية 63.

قالت الجريدة: يقول المؤلف: إن نيزكًا هائلاً مر إلى جوار الكرة الأرضية فى عهد يوشع خليفة موسى عليهما السلام، ثم عادت الظاهرة إلى الوجود بعد ذلك بسبعمائة عام .. وهذه الظاهرة الكونية الهائلة التى تسيرها قوى خارقة غير مرئية تفسر المعجزات التى جاء ذكرها فى الكتب السماوية والتوراة والإنجيل والقرآن. إن اقتراب كوكب أو نيزك كبير من الأرض يحدث ظواهر متعددة، منها أن دوران الأرض حول نفسها يقل أو يقف حتى يخيل إلى الناس أن الشمس قد وقفت فى كبد السماء، ومنها انشقاق البحر، وانعقاد أعمدة من الغمام فى النهار والليل؛ ولقد مر كوكب فى عهد الفراعنة، فأمطر الأرض سيلاً أحمر طبع الأرض والنيل والبحر بلون الدم، وهذا يؤيد ما جاء فى الآية الكريمة: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} (¬1). وقد تساقط هذا التراب الأحمر فى جهات متفرقة من الأرض. إن المعجزة التى تخرق كل قوانين الفلك والطبيعة، لا تصنعها سوى قدرة الخالق وحده. لقد تمت المعجزة حين هرب موسى عليه السلام من اضطهاد فرعون مصر، فتابعه فرعون بجيوشه، ولكن انشق البحر، فمر موسى عليه السلام ومن معه بسلام، حتى إذا اتبعهم فرعون وجنوده، عاد البحر إلى سيرته الأولى، فانطبق على المطاردين، وابتلع الرجال والفرسان، ولم ينج منهم أحد. ويقول المؤلف: إنه فى العهد الذى يقابل عهد موسى عليه السلام، يقول المؤرخون الصينيون: إن الشمس آنذاك لم تغرب حتى لقد حرقت الغابات، وذاب الجليد؛ وهكذا لبثت الأرض ساكنة، كأن قوة جبارة قد صنعتها، ولا يعرف على وجه التحديد كم استمر ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 133.

الفرق بين آيات الرسل وغيرها من الخوارق

وقوفها قبل أن تتابع دورانها حول نفسها مرة أخرى. ولكن هل تابعت الأرض دورانها فى نفس الاتجاه؟ إن الأرض الآن تدور من الغرب إلى الشرق، فهل كانت هكذا دائمًا؟ .. إذا رجعنا فى الإجابة على هذا السؤال إلى الخرائط القديمة، فإن الإجابة هى: لا؛ لأن الخرائط التى رسمها قدماء المصريين فى سقف أحد المعابد تدل على أن الأرض كانت تدور قبل وقوفها من الشرق إلى الغرب، وهذا ما أكده أفلاطون فى حواره عن السياسة، حيث قال: " إن الشمس من قبل كانت تغيب حيث نراها تشرق "، وهذا يفسر الآية الكريمة: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (¬1). * الفرق بين آيات الرسل وغيرها من الخوارق: ولا تلتبس معجزات الرسل وآيات الأنبياء، بما يحدث على يد غيرهم من خوارق العادات، فإن المعجزات تأتى مصحوبة بالتحدى، وتصدر عن رجال عرفوا بالتقوى والصلاح، وأنهم بلغوا منهما الذروة الى لا يتطاول إليها أى إنسان. وتأتى المعجزات بدون كسب لأحد من البشر، فالله هو الذى يمدهم بها مباشرة، لأنها كما قلنا ليست فى مقدورهم ولا مقدور غيرهم من الناس، وإنما هى آية من الله وحده، ومعجزة لنبيه يتحدى بها معارضيه. وأما ما يظهر على يد غير الرسل من خوارق العادات، فهو كما قال الشيخ/ رشيد رضا، منقول عن جميع الأمم فى جميع العصور، نقلاً متواترًا فى جنسه دون أنواعه، وليست كلها حقيقة. فإن منها ما له أسباب مجهولة للجمهور، وإن منها لما هى صناعى يستفاد بتعليم ¬

(¬1) سورة الرحمن - الآية 17.

الفرق بين المعجزة والكرامة

خاص، وإن منها لمن خصائص قوى النفس فى توجيهها إلى مطالعها، فى تأثير أقوياء الإرادة فى ضعفائها. ويدخل فى هذين الأمرين المكابدة فى بعض الأمور، أن التنويم المغناطيسى يشفى بعض المرضى، ولاسيما المصابين بالأمراض الفظيعة التى يؤثر فيها الاعتقاد والوهم؛ ثم يقول: ومنها انخداع البصر بالتخيل الذى يحذقه المشعوذون، ومنه ما فعله سحرة فرعون .. المعنى بقوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (¬1). ومن انخداع السمع، كالذى فعله الذين يدّعون استخدام الجن، إذ يتكلمون ليلاً بأصوات غريبة عن أصواتهم المعتادة، فيظن مصدقهم أن ذلك صوت الجن، وقد يتكلمون نهارًا من بطونهم من غير أن يحركوا شفاهم؛ فلا ينبغى أن يؤثق بشىء من أخبارهم ... الخ. فأين هذا من معجزات الأنبياء وآيات الرسل؟! أين هذا من انشقاق البحر لموسى عليه السلام، وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام، وإخراج الناقة من الصخرة لصالح عليه السلام، ونبع الماء من أصابع محمد صلى الله عليه وسلم؟!! * الفرق بين المعجزة والكرامة: والكرامة هى ما يكرم الله به أولياءه بما يظهر على أيديهم، وليس من شرطها أن تكون خارقة للعادة، ولا خارجة عن مألوف الناس. ¬

(¬1) سورة طه - الآية 66.

معجزة خاتم الأنبياء

ومن الكرامة الاستقامة، والتوفيق إلى طاعة الله، والزيادة فى العلم والعمل وهداية الخلق إلى الحق. وقد يحدث بعض الخوارق للعادات على أيدى بعض الصالحين فى بعض الأقوال، فيعد ذلك من الكرامات التى تلازم بعض المخلصين والمتفرغين لعبادته، والذين سلمت فطرهم وزكت نفوسهم، كما وقع للسيدة مريم، وقد حكى القرآن الكريم عنها أنه: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). ولكن مع ذلك لا يتحدى بها، بل الأصل فيها الإخفاء والكتمان، قال الشيخ/ أحمد الرفاعى: إن الأولياء يستترون من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض وهذا يخالف المعجزة، لأن إظهارها واجب ليتم بها تبليغ الرسالة. * معجزة خاتم الأنبياء: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أيده بالآيات الكونية والمعجزات المخالفة للسنن المعروفة للناس، والخارجة عن مقدور البشر، ليكون إظهارها على يديه مع بشريته دليلاً على أنه مرسل من عند الله. فعدم حرق النار لإبراهيم عليه السلام، وناقة صالح عليه السلام، أو عصا موسى عليه السلام، وما ظهر على يدى عيسى عليه السلام (¬2) من العجائب، كلها من هذا القبيل. ¬

(¬1) سورة آل عمران - الآية 37. (¬2) كان السحر اشتهر فى عهد موسى - عليه السلام -، وكان طب إنكار الروح فى عهد عيسى - عليه السلام -، وكانت البلاغة فى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت معجزة كل نبى حسب ما اشتهر على عهده، مع ملاحظة أن المعجزة فوق مقدور البشر، فهى أعلى مستوى وأرفع قدرًا.

وكانت الآيات حسية يوم أن كان العقل الإنسانى فى الطور الذى لم يبلغ فيه الرشد بعد، ويوم أن كانت هذه العجائب تبلغ من نفسية الجماهير مبلغًا لا تملك معه إلا الإذعان والتسليم. فلما بدأ النوع الإنسانى يدخل فى سن الرشد، وبدأت الحياة العقلية تأخذ طريقها إلى الظهور والنماء، لم تعد تلك العجائب هى الأدلة الوحيدة على صدق الرسالة. ولم يعد من السهل على العقل أن يذعن لمجرد شىء رآه خارجًا عن عرف الحياة. إنه يريد شيئًا جديدًا يتناسب والطور الذى وصل إليه؛ يريد الإيمان الذى لا تخالطه الشكوك، واليقين الذى يبدد ظلام الشبهات. وما كان الله ليمد النوع الإنسانى فى طفولته بما يحفظ به حياته الروحية، ثم يدعه بعد أن أخذ سبيله إلى النظر العقلى، والاستقلال الفكرى، دون أن يقيم له من الأدلة ما يتناسب والارتقاء الذى انتهى إليه، فكان أن بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأيده بالمعجزة العلمية، والحجة العقلية، وهو القرآن الكريم. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (¬1). وروى البخارى ومسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء نبى إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيته وحيًا أوحاه الله إلىّ، فـ أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» وهذا القرآن ليس من تأليف أحد، إنما هو وحى الله أنزله على أكمل صورة من صور الوحى. ¬

(¬1) سورة الإسراء - الآية 88.

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬1). فالآية تقرر أنواع الوحى الثلاثة: 1 - وحيًا، أى إلقاء المعنى فى القلب، المعبر عنه بالنفث فى الروع؛ وفى الحديث: «إن روح القدس نفث فى رُوعى أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب». 2 - الكلام من وراء حجاب، وهو أن يسمع الموحى إليه كلام الله، من حيث لا يراه، كما سمع موسى عليه السلام النداء من وراء الشجرة. {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ *فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2). 3 - ما يلقيه ملك الوحى المرسل من الله إلى رسوله، فيراه متمثلاً بصورة رجل أو غير متمثل. روى البخارى عن عائشة رضى الله عنها، أن الحارث بن هشام، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال: «أحيانًا يـ أتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علىّ، فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لى الملك رجلاً، فيكلمنى فـ أعى ما يقول»، ¬

(¬1) سورة الشورى - الآية 51. (¬2) سورة القصص - الآية 29، 30.

قالت عائشة رضى الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا. وأكمل هذه الأنواع هو إرسال الرسول بالوحى. وهذه الصورة هى التى نزل بها القرآن الكريم، فقد نزل بواسطة جبريل عليه السلام. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬1). {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2). جاء هذا الوحى ثورة على الباطل فى كل صوره، وعلى الفساد فى جميع مظاهره، فثار على الخرافات التى لوثت العقول، وعلى الانحراف الذى شوه الفطر، كما ثار على العرف الفاسد الذى عطل حرية الفكر واستقلال الإرادة. ثار على هذا كله ثورة عاتية دمرت كل معالم الشر، ومحت كل لون من ألوان الفساد، واستبدل بها الحقائق التى تهدى العقل، وتنير الضمير، وتسمو بالنفس، لتصل إلى أقصى ما قدر لها من الكمال الإنسانى. ولم تكن هذه الثورة تستهدف مصلحة ذاتية، ولا منفعة وطنية، ولا ترجيح ¬

(¬1) سورة الشعراء - الآية 192 - 195. (¬2) سورة البقرة - الآية 97.

كفة جماعة حاكمة على كفة جماعة أخرى، ولا إيثار مذهب على مذهب، وإنما كانت لخير العالم كله، ومصلحة الناس جميعًا. جاء هذا الوحى ليحل المشكلات التى أعضلت الناس قديمًا وحديثًا؛ وليجيب على كل سؤال من هذه الأسئلة: 1 - ما هو الدين؟ وما مبادئه؟ 2 - من هو الله؟ وما صفاته؟ 3 - ما هى الرسالة؟ ومن هم الرسل؟ وما وظائفهم؟ 4 - ما ماهية الحياة بعد الموت؟ 5 - ما هو الخير؟ وما هو الشر؟ 6 - لماذا خلق الإنسان؟ وما مركزه فى الكون؟ 7 - ما علاقة الإنسان بغيره؟ وما علاقة الأمم والشعوب بعضها ببعض؟ 8 - ما علاقة الرجل بالمرأة؟ 9 - ما هى الثروة؟ وما مصدرها؟ وما هى كيفية توزيعها؟ 10 - ما هى الحياة الطيبة؟ وما السبيل إليها؟ وهكذا يمضى القرآن يضع أمام العقل الإنسانى مئات المسائل التى لا يستغنى عنها فى دور العلم والفلسفة، والتى تعجز جميع العقول الإنسانية عن الإحاطة بعشر معشارها، فضلاً عن الإحاطة بها كلها، والتى يحتاج إليها فى قطع مرحلة هذه الحياة لتكون أعلامًا هادية، تجنبه الضلال فى شئون الدين والانحراف فى تقلبات الدنيا. {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة لقمان - الآية 27.

كل هذه المسائل، جاءت فى أسلوب بلاغى رائع، يملك على المرء حسه، ويستولى على مشاعره، ويوقظ حواس الخير فيه، مع بعده عن الاختلاف، وسلامته من التناقض. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (¬1). إنه لم يعرف لكتاب من الكتب مثل ما لهذا القرآن، من سمو الموضوع، وسحر البيان، وقوة التأثير، مما وجه عناية العلماء إلى الاهتمام بدراسته من حيث ألفاظه، ومعانيه، وعقائده، وآدابه، وأحكامه، وتشريعاته؛ فخلقوا بهذه الدراسة ثروة ضخمة من العلم والأدب، لا تزال ولن تزال المادة الصالحة لقيام حضارة إنسانية ينعم فيها البشر بحياة أفضل وعيش أرغد. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬2). هذه هى المعجزة التى أيد الله بها نبيه الأمىّ، والتى غير بها نفوسًا، وأحيا قلوبًا، وأنار بصائر، وربى أمة، وكون دولة، فى سِنِى تعد على الأصابع. إذا كان قلب العصا حية معجزة، فإن تغيير العقول والقلوب أبلغ فى الإعجاز. وإذا كان إحياء الميت من الخوارق التى أيد الله بها بعض أنبيائه، فإن إحياء أمة أمّية من الجهل والرذيلة، وجعلها مصدر إشعاع وهداية، هو الخارق الذى تتضاءل فى جوانبه جميع المعجزات. الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا لا تذكر الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا ¬

(¬1) سورة النساء - الآية 82. (¬2) سورة الشورى - الآية 52.

الروح

الروح. * الإنسان جسد وروح. * العلم الحديث والمباحث الروحية. * حدوث الروح. * الروح والنفس. * الروح بعد مفارقتها الجسد. * السؤال فى القبر. * مستقر الأرواح.

الإنسان جسد وروح

* الإنسان مركب من روح وجسد: فبالجسد يتحرك ويحس؛ وبالروح يدرك، ويعى، ويفكر، ويعلم، ويختار، ويحب، ويكره؛ وأصل الجسد التراب - وهذه قضية مسلم بها - فإن الإنسان لا يكاد يموت حتى ينحل إلى عناصره الأولى التى لا تختلف عن باقى عناصر الأرض. فلو أخد الإنسان جزءًا من تراب الأرض الخصبة، وحللها تحليلاً كيماويًا، لوجدها تتركب من عدة عناصر؛ ولو أخذ قطعة من جسم الإنسان، وأجرى عليها عمليات التحليل، لوجدها تتركب من هذه العناصر نفسها. وقد أحصى العلماء العناصر التى يتألف منها جسم الإنسان، وقالوا: إنه به من الكربون ما يكفى لعمل 9 آلاف قلم رصاص، وبه من الفسفور ما يكفى لعمل 2000 رأس عود كبريت، وفى الإنسان حديد، وجير، وبوتاسيوم، وملح، ومغنسيوم، وسكر، وكبريت؛ وهى كلها من المعادن التى تتألف منها تربة الأرض. أما الروح فإن أمرها كان وما زال مثار لجدل ونقاش بين العلماء والفلاسفة، ولم ينتهوا فى شأنها إلى رأى حاسم بعد. أما القرآن، فقد أجاب عن التساؤل الذى ثار حولها إجابة بعد معجزة من معجزاته الكثيرة: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬1). ¬

(¬1) سورة الإسراء - الآية 85.

العلم الحديث والمباحث الروحية

فالروح من أمر الله الذى لا يعلمه غيره، ولم يطلع عليه أحدًا سواه، ولم يُعط الإنسان الوسائل التى توصله إلى هذا اللون من العلم والإحاطة به، فعلم الإنسان قليل ومحدود، وهو لم يدرك حقيقة المادة، ولا الكون المحسوس المحيط به، فكيف يتطلع إلى إدراك سر من أسرار الله، وغيب من غيوبه؟! إن كل ما يمكن أن نعرفه عن الروح، هو أنها تحل فى الجسم، فتدب فيه الحياة، ويظهر فيه الإدراك، والوعى، والتفكير، والعلم، والإرادة، والاختيار، والحب، والبغض، وأنها تفارق الجسم، فيتحول إلى مادة هامدة جامدة كسائر المواد. ومن ثم فقد كانت الروح هى المميزة للإنسان عن غيره فى هذا العالم، وبها صار عالمًا وحده، وبالروح أسجد الله للإنسان ملائكته، وسخر له ما فى السماوات وما فى الأرض جميعًا منه، وجعله سيد هذا الكون، وخليفته فى الأرض. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (¬1). وقد عرّفها العلماء من المسلمين، بأنها ذات مجردة عن المادة، وأنها جسم نورانى علوى حى، يغاير هذا الجسم المادى، ويسرى فيه سريان الماء فى العود الأخضر، لا يقبل التحلل ولا الانقسام، يفيض على الجسم الحياة وتوابعها، مادام الجسم صالحًا لقبول الفيض. * العلم الحديث والمباحث الروحية: ووجود الروح متفق عليه فى الأديان السماوية كلها. وظل الملايين من البشر يعتقدونه، ويؤمنون به منذ عرفوا هذه الأديان، حتى ¬

(¬1) سورة الحجر - الآية 28، 29.

كان المذهب المادى الذى انتشر فى القرون الثلاثة الأخيرة، فأخذ ينكر هذه الثنائية بقوة، ويعلن أنه ليس هناك عالم سوى هذا العالم المنظور، وأنه ليس شىء سوى المادة، وأنه لا مكان للروح فى هذا الوجود. ولقد تأثر كثير من الناس بهذا المذهب، ووجد له معلمون وأنصار فى كل مكان، حتى كاد يطمس على كل معتقد دينى، ويطغى على كل ما عرفه الناس من التعاليم الإلهية، وجرف معه العلوم الطبيعية فى هذا الاتجاه؛ إلا أن الله عز وجل قيض من العلماء من يتدارك هذا الأمر، ويقيم الأدلة العلمية على وجود عالم روحانى وراء هذا العالم المنظور بما لا يدع مجالاً للشك، ولا موضعًا للارتياب، فتأسست جمعيات لدراسة المباحث الروحية، وقد ثبت لها من الحقائق ما لم يكن يخطر على بال، ونحن نذكر ما كتبه العلامة الأستاذ/ محمد فريد وجدى - رحمه الله - فى ذلك قال: فى تاريخ تأسيس جمعية المباحث الروحية فى انجلترا سنة 1882م: جاء فى كتاب الشخصية الإنسانية، للعلامة الأستاذ (هـ. و. ميرس)، مدرس علم النفس فى جامعة كمبردج ما يأتى: " حوالى سنة 1873م حيث كان المذهب المادى قد أوغل فى البلاد حتى وصل إلينا، وبلغ أوج سطوته على العقول ". اجتمع ثلة من الزملاء فى كمبردج، وأجمعوا رأيًا على أن هذه المسائل العويصة المتنازع فيها - يريد المباحث الروحية - تستحق التفاتًا، وجهدًا جديًا، أكثر مما عولجت به إلى ذلك الحين، وكنت أرى أنا أن محاولة جديرة بهذا الاسم لم تعمل إلى ذلك الوقت للبت فى: هل نحن أهل، أو غير أهل للإلمام بشىء يتعلق بالعالم غير المرئى؟ وكنت مقتنعًا بأنه لو أمكن معرفة شىء من ذلك العالم على أسلوب

يمكن العلم أن يقبله، ويحفظه، فلا يكون ذلك بالتنقيب فى الأساطير القديمة، ولا بوسيلة التأمل فيما بعد الطبيعة، ولكن بواسطة التجربة والمشاهدة، وبتطبيقنا على الظواهر التى تحدث فينا أساليب المباحث المضبوطة نفسها فإنها منزهة عن الهوى، ومتروى فيها، أقصد بها تلك الأساليب التى نحن مدينون بها بمعارفنا عن العالم المرئى المحسوس. فالمباحث التى يجب علينا عملها ولا يمكن أن تقتصر على تحليل ساذج للأسانيد التاريخية، أو التى صدرت عن هذا الوحى أو ذاك، مما حدث فى الزمان الماضى، ولكن يجب أن تؤسس قبل كل شىء - ككل بحث علمى بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة - على تجارب يمكننا تكرارها اليوم، مؤملين أن تزيد عليها غدًا، فلا يمكن أن تكون إلا مباحث مؤسسة على هذه القضية، وهى: " إذا كان يوجد عالم روحانى، وكان هذا العالم الروحانى موجودًا فى أى عهد كان، وكان قابلاً لأن يظهر ويستكشف، فيجب أن يكون كذلك فى أيامنا هذه ". " فمن هذه الوجهة، وبالجرى على هذه الاعتبارات العامة، واجهت الجمعية التى أنا عضو فيها هذه المسألة ". ثم أخذ الأستاذ (ميرس) يسرد التجارب التى عملها، وعملها غيره، مما لا سبيل إلى نشره هنا، ثم قال: " ما هى الأدلة التى تحملنى على الاعتقاد بأن كل هذا ليس بصحيح؟ هذا سؤال يجب أن يضعه كل إنسان نصب عينه، إذ التوصل إلى التحقق بغير طريق التأمل من الجهل المطلق الذى هو عليه بماهية الوجود الحقيقية .. إنى أعترف فى كل حال بأن معارفى فيما هو مرجح أو غير مرجح فى الوجود، لم تظهر لى كافية، لرفض مشاهدات يظهر لى بحق أنها حقيقية، وأنها مع ذلك ليست

مناقضة لمشاهدات وأصول عامة أكثر منها تأسيسًا، ومهما كان مجال المشاهدات العلمية واسعًا، فإنه حتى باعتراف ممثلى العلم الرسمى، ليس إلا نظرة عَجْلَى فى العالم المجهول، وغير المتناهى للنواميس الطبيعية ". هذا هو تاريخ تكوّن جمعية المباحث الروحية بلوندره سنة 1882م، من أقطاب العلم فى إنجلترا، ولا تزال باقية الآن. وقد جمعت من التجارب الروحية ما وقع فى نحو أربعة وخمسين مجلدًا؛ وهو ذخر علمى لم يوجد له مثيل قط فى أى عهد من عهود العقلية الإنسانية، فإذا أراد قراؤنا أن يدركوا مقام هذه الجمعية فى نظر رجال العلم، فليقرأوا ما كتبه عنها الأستاذ الكبير (وليم جمس) (¬1) فى كتابه (إرادة الاعتقاد). قال فى الصفحة (313): " إن جمعية المباحث الروحية التى يمتد عملها فى إنجلترا وأمريكا قد سمحت بأن يتلاقى العالمان: العلمى والروحانى، فى مجال واحد، وإنى أعتبر أن هذه الجمعية مهما كانت وظيفتها محدودة، سيكون لها نصيب كبير فى ترتيب المعارف الإنسانية، فلهذا أستحسن أن أفضى إلى القارئ بنتائج أعمالها بإيجاز، فأقول: إذا صدقنا الجرائد، وأوهام الصالونات؛ خيل إلينا أن الضعف العقلى وسرعة التصديق، هما الرباط المعنوى الجامع بين أعضاء هذه الجمعية، وأن حب ¬

(¬1) وهو مدرس علم النفس بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، ويعتبر - بلا منازع - أعظم علماء النفس فى القرن التاسع عشر؛ وأن تلميذه " وليم مكدوجل " أستاذ علم النفس بجامعة ديوك - يعتبر عمدة فى علم النفس الاجتماعى - وهو من أعظم علماء النفس فى القرن العشرين.

العجائب هو الأصل المحرك لها، والواقع أنه يكفى أن نلقى نظرة واحدة على أعضائها لدحض هذه التهمة، فإن رئيس هذه الجمعية هو الأستاذ " سدجوبك " المعروف بأنه أشد الناس شكيمة فى النقد، وأعصاهم قيادًا فى الشك بجميع البلاد الإنجليزية، ووكيلاها: " المستر أرثر بلفور " و" الأستاذ ج. ب. لنجلى " سكرتير المجمع العلمى .. ويمكن التنويه من أعضائها العاملين بالأستاذ " ريشيه الفيزيولوجى " الفرنسى الخطير، وتشمل قائمة أعضائها رجالاً آخرين كفايتهم العلمية أشهر من نار على علم، فإذا طلب إلىّ أن أعين جريدة علمية تكون مصادر أغلاطها منقاة بأدق أساليب التمحيص؛ فإنى أنوه بمحاضر جمعية المباحث الروحية، فإن الفصول الفيزيولوجية التى تنشرها الجرائد الخاصة بهذا العلم لا تبلغ فى دقة النقد مبلغ دقة هذه المحاضر المذكورة، حتى أن صرامة الأساليب الكشافة التى طبقت منذ عدة سنين على شهادات بعض الوسطاء كانت بحيث توجد اختلاف الآراء فى باطن الجمعية نفسها " (¬1). وقبل أن تتألف هذه الجمعية حمل الرأى العام المجمع العلمى الإنجليزى على تأليف لجنة لفحص الظواهر الروحية، وتمحيصها، فندبت ثلاثًا وثلاثين علمًا من أعلامها للقيام بهذه المهمة العلمية، فبذلوا فى تحقيق هذا الموضوع ثمانية عشر شهرًا، ثم حرروا تقريرًا إجماعيًا وقع فى (514) صفحة، وطبع فى أكثر اللغات الحية، جاء فى آخره ما نصه: ¬

(¬1) ولا تزال هذه الجمعية قائمة الآن فى إنجلترا وأمريكا، وهى تقبل فى عضويتها المؤمنين بوجود الأرواح والمناهضين لهذه الفكرة، وكل ما تشترطه هو الاهتمام بالروح كظاهرة طبيعية.

" عقدت هذه اللجنة اجتماعاتها فى البيوت الخاصة بالأعضاء لأجل نفى كل احتمال فى إعداد آلات لإحداث هذه الظواهر أو أية وسيلة من أى نوع كانت؛ وقد تحاشت اللجنة أن تستخدم الوسطاء المشتغلين بهذه المهنة، أو الذين يأخذون أجرًا على عملهم هذا، لأن واسطتها كان أحد أعضاء اللجنة، وهو شخص جليل الاعتبار فى الهيئة الاجتماعية، وحاصل على صفة النزاهة المطلقة، وليس له من غرض مالى يرمى إليه، ولا أية مصلحة فى غش اللجنة .. كل تجربة من التجارب التى عملناها بما أمكن لمجموع عقولنا أن نتخيله من التحوطات، عملت بصبر وأناة، وقد دُبِّرت هذه التجارب فى أحوال كثيرة الاختلاف، واستخدمنا لها كل المهارة الممكنة لأجل ابتكار وسائل تسمح لنا بتحقيق مشاهداتنا، وإبعاد كل احتمال لتزوير، أو توهم .. وقد اكتفت اللجنة فى تقريرها بذكر المشاهدات التى كانت مدركة بالحواس، وحقيقتها مستندة إلى الدليل القاطع .. وقد بدأ نحو أربعة أخماس أعضاء اللجنة تجاربهم، وهم فى أشد درجات الإنكار لصحة هذه الظواهر، وكانوا مقتنعين أشد الاقتناع بأنها كانت إما نتيجة التدليس، أو التوهم، أو أنها تحدث بحركة غير اعتيادية للعضلات، ولم يتنازل هؤلاء الأعضاء المنكرون للغاية عن افتراضاتهم هذه إلا بعد ظهور المشاهدات بوضوح لا تمكن مقاومته فى شروط تنفى كل فرض من الفروض السابقة .. وبعد تجارب وامتحانات مدققة مكررة، اقتنعوا مضطرين بأن هذه المشاهدات التى حدثت فى خلال هذا البحث الطويل هى مشاهدات حقة لا غبار عليها ..

هذا ما ورد فى ذيل ذلك التقرير الضخم؛ ولسنا فى حاجة لأن نقول: إن هذا أكبر حدث سجل فى تاريخ العلم .. ومن العبث المحض أن يتوهم متوهم أن الحقيقة تضيع، أو أن التدليس يروج بين يدى ثلاثة وثلاثين رجلاً من أعلام العلم المتمرسين على النظر والتمحيص، وتمييز الغث من السمين فى كل ضروب البحوث البشرية .. ولقد كان لهذا التقرير أثر عالمى عام، فهبّ ألوف من العلماء والفهماء فى جميع ممالك الأرض لبحث هذه الخوارق، وألفوا لها مئات من الجمعيات، ونشروا مثلها من المجلات، ووضعوا فيها ألوفًا من الكتب؛ ولا تزال هذه المؤسسات قائمة إلى اليوم، والاهتمام بها يزداد على نسبة كثرة ما يعمل فيها من التجارب والبحوث؛ وقد أقيمت لها خمسة مؤتمرات عالمية فى لوندرة، وباريس، وغيرهما؛ وأصدرت تقارير إضافية ترجمت إلى اللغات الحية ". ثم بعد أن ذكر شهادة كثير من العلماء على صحة وجود عالم وراء هذا العالم، قال: " يرى قراؤنا مما قدمناه أن العلماء المنصرفين لدراسة الكون والكونيات، قد ظهر لهم عقب حديث اكتشافات خطيرة لم تكن تخطر لهم ببال، أن حدود العلم لا تزال بعيدة عنهم .. وأن كل ما حصلوه منه لا يعدو العلاقات الموجودة بين بعض ما يقع تحت حسهم من الموجودات .. أماكنه تلك الموجودات، وحقيقة النواميس التى تدبرها، فلا يزال أمرهما

مجهولاً، وقد تجلى لهم أن من الحماقة وضع حد للممكنات، والتكذيب بما لم يحيطوا بعلمه من المجهولات؛ ثم يرى قراؤنا أيضًا أن طائفة من أماثل هؤلاء العلماء قد وُفِّقوا منذ تسعين سنة عقب ظهور حوادث محققة تدل على وجود عالم وراء العالم المحسوس، إلى التنقيب عن حقيقة ذلك العالم، جارين على أسلوبهم العلمى من المشاهدة والتجربة، فوقفوا على أمور لم يكن يدور فى خلد أحد أن أقطاب العلم المادى يعودون، فيثبتون وجودها، وقد سبق لهم نفيها، والتشنيع على القائلين بها من الشئون الروحانية .. ولسنا نريد أن نثبت إمكان الوحى بالاستناد إلى اكتشافات هؤلاء العلماء فى عالم ما وراء الطبيعة، فقد أثبتنا وجوده بالحس من الغرائز التى طبعت عليها الحيوانات، ومن حوادث العبقريات، ولكننا نستأنس بها فى بحثنا هذا، استدلالاً على أن الإنسانية قد اجتازت دون الافتتان بالماديات، وبدأت تدخل إلى عهد من الحياة تتفق فيها فتوحات الروح من طريق النبوة، وفتوحات العقل من طريق العلم، فتستقيم على الجادة التى توصلها إلى كمالها المرجو لها خالصة من الشبهات الرائنة على الصدور، والشكوك المحيِّرة للعقول ". إلى هنا كانت مرحلة العلم بالناحية الروحية إلى أواخر العقد الثانى من القرن العشرين، حتى إذا استثارت هذه المباحث عقل " وليم مكدوجل "، ورأى أن ندرة تلك الظواهر التى تعتمد على الوساطة الروحية، وهى نادرة الوجود بين الأفراد، مما يجعل من المستحيل لتلك التجارب أن تتكرر بالانتظام العلمى المطلوب فى إثبات الظواهر الكونية، والقوانين الطبيعية.

فطلب " مكدوجل " من صديقه الدكتور " راين " وكان أستاذًا للنبات وعضوًا فى جمعية المباحث الروحية التى سبقت الإشارة إليها، أن ينتظم فى بحث علمى تجريبى يخضع لكل الاشتراطات العلمية من القابلية للتكرار، والتحكم العلمى الدقيق، وأن يقوم " مكدوجل " بإنشاء معامل تخصص لهذا النوع من البحث فقط، وفعلاً أنشئت معامل الباراسيكولوجى " ما وراء علم النفس بجامعة ديوك " بولاية كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية، ودخل فيها " راين "، وصحبته زوجته، وكانت هى الأخرى أستاذة لعلم النبات، وبدأوا فى أوائل العقد الثالث يوالون أبحاثهم التجريبية فى معامل تجريبية أدخلت إليها، وفيها جميع أساليب الضبط، والتحكم العلمى الدقيق، لدرجة أن القيود العلمية التجريبية التى أدخلت على بعض هذه التجارب كانت أكثر من أى قيود فرضت على أى تجربة علمية سابقة. وقد كان من نتيجة هذه الأبحاث التجريبية الوصول إلى النتائج الآتية: 1 - درس " راين " ومعاونوه الظواهر الروحية الخارقة، وبدأ بظاهرة انتقال الفكر " الِّلِبْثِى " وأثبتوا وجودها علميًا. 2 - درسوا ظاهرة الاستشفاف، أو الجلاء البصرى، وهى الإحساس بالحوادث التى تحدث على مسافات بعيدة، وأثبتوا وجودها. 3 - أثبتوا أن انتقال الفكر، والجلاء البصرى مظهران لظاهرة واحدة أطلقوا عليها اسم: " الإدراك خارج الحواس ". 4 - أثبتوا أن ظاهرة الإدراك خارج الحواس لا تخضع للعلاقة المكانية،

والزمانية التى تخضع لها جميع الظواهر المادية، وظواهر الطاقة سواء أكانت كهربائية أو حرارية أو ضوئية أو غيرها، بمعنى طاقة الجاذبية، أو طاقة الضوء تخضع لقانون التربيع العكسى أى أن شدة الجاذبية أو شدة الإضاءة، تتناقص بنسبة تتناسب مع مربع البعد عن مصدر الضوء، أى أن قوة إضاءة الشمعة إذا أُبْعِدت عن الرائى يراها على بعد متر إذا أبعدت إلى مترين، أى ضعف المسافة نزلت قوة الإضاءة إلى الربع، أى عكس مربع 2 وهو 4 فتصير. هذا من ناحية العلاقة المكانية التى تخضع لها كل أنواع الطاقة. كذلك العلاقة الزمانية التى يعبر عنها فى العلوم الطبيعية بقانون (السببية) أو العلة والمعلول، أى أن السبب يسبق النتيجة دائمًا، ولكن هذا القانون انكسر فى تجارب الإدراك خارج الحواس، بمعنى أن يحدث تنبؤ، فيحدث الإدراك العقلى للحادثة " هى نتيجة " قبل أن تحدث الحادثة فى الكون وهى المؤثر أو السبب. 5 - أثبت هؤلاء الباحثون أن العقل الذى يتأثر بالقانون العام المعروف فى علم النفس، وهو قانون المؤثر والاستجابة له، أو الرد عليه، كذلك العقل يستطيع أن يحس، أو يتأثر بالمادة عن طريق الإدراك الخارج عن الحواس، وكذلك فيؤثر فى المادة بالطاقة، التى سموها الطاقة النفسية المحركة، أى أن العقل يؤثر فى المادة دون اتصال مادى مباشر. 6 - فإذا كان هناك إدراك خارج عن الحواس، وطاقة نفسية محركة، فهذا دليل على أن للشخصية الإنسانية شقًا لا يخضع للقوانين الطبيعية المعروفة فى علم الفيزياء والكيمياء، أى أنه شق روحى. ومن شاء الاستزادة من هذه الأبحاث، فليرجع إلى كتاب " العقل وسطوته "

حدوث الروح

تأليف " ج. ب. راين " وترجمة الدكتور/ محمد الحلوجى؛ ففيه بحوث مستفيضة عن هذه الناحية؛ كما أن به أن هذه البحوث التجريبية قد عرضت على مؤتمرين لكل علماء الولايات المتحدة فى الرياضة الإحصائية وفى علم النفس، وأخذت أقرارهم جميعًا عليها، وبذلك فقد أصبحت الآن فى موقف علمى فوق النقد، أو الجدل. * حدوث الروح: والروح حادثة، وليست بقديمة بإجماع المسلمين، ويظهر أنها تحدث بعد تسوية الجسم، وتتصل به، وتحل فيه وهو جنين. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يُجْمَعُ خَلْقه فى بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون فى ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون فى ذلك مُضْغَة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بـ أربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد، فوالذى لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (¬1). * الروح والنفس: والروح والنفس معناهما واحد، يقول الله - سبحانه وتعالى -: ¬

(¬1) رواه مسلم.

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} (¬1). ويقول - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (¬2). فالأنفس فى الآيتين، المقصود بها الأرواح. وقد ذكر القرآن النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة، وليست هذه بأقسام للنفس، وإنما هى صفات: فالنفس فى حالة تسلط الغرائز، وسيطرة الاستعدادات الفطرية عليها، تكون أمارة بالسوء. {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} (¬3). فإذا تعلمت وتهذبت بالدين، والتعاليم المثالية، وُجد الضمير، وهو الشعور النفسى الذى يقف من المرء موقف الرقيب يدعو إلى الخير، وينهى عن الشر، ويحاسب بعد أداء العمل مستريحًا للإحسان، ومستنكرًا للإساءة. فإذا وصلت النفس إلى هذا الطور من اليقظة والمراقبة والمحاسبة، واستراحت للخير وضاقت بالشر، كانت فى هذا الطور نفسًا لوّامة. {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (¬4). فإذا واصل الإنسان جهاد نفسه، فتخلص من الهوى، وكبت شهواته، وارتفع عن النقائص، وسمت نفسه إلى الحق، والخير، والجمال، والكمال .. بلغ منزلة الرشد ¬

(¬1) سورة الزمر - الآية 42. (¬2) سورة الأنعام - الآية 93. (¬3) سورة يوسف - الآية 53. (¬4) سورة القيامة - الآية 1، 2.

الروح بعد مفارقتها للجسد

الذى يريد الله أن يصل إليه الإنسان فى هذه الحياة، ليكون أهلاً لجواره فى الدار الآخرة. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (¬1). وحين يرتفع الإنسان إلى هذا المستوى الرفيع، تكون نفسه قد اطمأنت بالحق والخير. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي} (¬2). وما لم يصل الإنسان إلى هذا المستوى، يكون قد عرض نفسه لخسارة لا يمكن تداركها بعد. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬3). * الروح بعد مفارقتها للجسد: والروح بعد مفارقتها للجسد يكون الموت، وتبقى هى مدركة تسمع من يزورها، وتعرفه، وترد عليه السلام، وتحس لذة النعيم، وألم الجحيم. قال ابن تيمية: " وقد استفاضت الأخبار بمعرفة الميت بحال أهله وأصحابه فى الدنيا، وأن ذلك ¬

(¬1) سورة الحجرات - الآية 7. (¬2) سورة الفجر - الآية 27 - 30. (¬3) سورة الشمس - الآية 7 - 10.

السؤال فى القبر

يعرض عليه، وأنه يرى ويدرى ما يُفْعَل عنده، ويسر بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا .. وروى أن عائشة رضى الله عنها، بعد أن دفن عمر رضي الله عنه، كانت تستتر وتقول: " كان أبى وزوجى، فأما عمر فاجَنَبىُّ " .. تعنى أنه يراها، وروى أن الموتى يسألون الميت عن حال أهليهم، فيعرفهم أحوالهم، وأنه وُلِدَ لفلان ولد، وتزوّجت فلانة ". * السؤال فى القبر: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كل إنسان يسأل بعد موته قُبِر أم لم يُقْبَر، فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادًا، ونسف فى الهواء، أو غرق فى البحر، لسئل عن أعماله، وجوزى بالخير خيرًا، وبالشر شرًا، وأن النعيم أو العذاب على النفس والبدن معًا، قال ابن القيم: " مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون فى نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا، ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى، أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى ". وفى مسند الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وصحيح أبى حاتم، أو النبى صلى الله عليه وسلم قال:

«إن الميت إذا وضع فى قبره إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فان كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلى مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلى مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلى مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلى مدخل، فيقول له اجلس، فيجلس، قد مثلت له الشمس وقد أدنيت للغروب، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذى كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعونى حتى أصلى، فيقولون: إنك ستفعل، أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك (¬1) هذا الرجل الذى كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا شهدت عليه؟ قال: فيقول محمد؟ أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال: هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفسح له فى قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ منه فيجعل نسمته (¬2) فى النسيم الطيب، وهى طير تعلق فى شجرة الجنة، قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬3) »، وذكر فى الكافر ضد ذلك إلى أن قال: «ثم يضيَّق عليه فى قبره إلى ¬

(¬1) أرأيتك: أى أخبرنا. (¬2) نَسَمَنَهُ: أى رُوحَه. (¬3) سورة إبراهيم - الآية 27 ..

أن تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضَّنْكُ التى قال الله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬1)». وقال الحافظ فى الفتح: " وذهب ابن حزم، وابن هبيرة، إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عَوْد إلى الجسد، وخالفهم الجمهور، فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد، أو بعضه كما ثبت فى الحديث، ولو كان على الروح فقط، لم يكن للبدن من ذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد، ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه؛ والحامل للقائلين: بأن السؤال يقع على الروح فقط، أن الميت قد يشاهد فى قبره حال المسألة لا أثر فيه، من إقعاد ولا غيره، ولا ضيق فى قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب؛ وجوابهم: أن ذلك غير ممتنع فى القدرة، بل له نظير فى العادة، وهو النائم، فإنه يجد لذّة وألمًا، لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألمًا ولذّة لما يسمعه، أو يفكر فيه، ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم، إبقاء عليهم، لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت، إلا من شاء الله، وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور، كقوله: «إنه ليسمع خفق نعالهم»، وقوله: «تختلف أضلاعه لضمّة القبر»، وقوله: «يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق»، وقوله: «يضرب بين أُذنيه»، وقوله: «فيُقعِدانه»، وكل ذلك من صفات الأجساد. ¬

(¬1) سورة طه - الآية 124.

مستقر الأرواح

* مستقر الأرواح: عقد ابن القيم فصلاً ذكر فيه أقوال العلماء فى مستقر الأرواح، ثم ذكر القول الراجح، فقال: " الأرواح متفاوتة فى مستقرّها فى البرزخ أعظم التفاوت ". فمنها: أرواح فى أعلى عليين فى الملأ الأعلى، وهى أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهم متفاوتون فى منازلهم، كما رآهم النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. ومنها: أرواح فى حواصل طير خُضْر تسرح فى الجنة حيث شاءت، وهى أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدَيْن عليه أو غيره، كما فى المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لى إن قُتِلت فى سبيل الله؟ قال: «الجنة»، فلما ولى، قال: «إلا الذين سارّنى به جبريل آنفًا»؛ ومنهم من يكون محبوسًا على باب الجنة، كما فى الحديث الآخر: «رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة»؛ ومنهم من يكون محبوسًا فى قبره، كحديث صاحب الشمْلة التى غلّها (¬1) ثم استُشهد فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده إن الشّمْلة التى غَلّها لتشتعل عليه نارًا فى قبره»؛ ومنهم من يكون مقرّه باب الجنة، كما فى حديث ابن عباس رضي الله عنه: الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فى قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية (¬2)؛ ¬

(¬1) غلّها: سرقها من الغنيمة قبل القسمة. (¬2) رواه أحمد ..

وهذا بخلاف جعفر بن أبى طالب، حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما فى الجنة حيث شاء؛ ومنهم من يكون محبوسًا فى الأرض، لم تعْلُ روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحًا سُفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية، كما لا تُجامعها فى الدنيا، والنفس التى لم تكتسب فى الدنيا معرفة ربها، ومحبته، وذكره، والأنس به، والتقرّب إليه، بل هى أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك؛ كما أن النفس العلوية التى كانت فى الدنيا عاكفة على محبة الله، وذكره، والتقرب إليه، والأنس به، تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب فى البرزخ ويوم القيامة، والله تعالى يُروّج النفوس بعضها ببعض فى البرزخ ويوم المعاد، ويجعل لوحه (يعنى المؤمن) مع النّسم الطيب (يعنى الأرواح الطيبة المشاكلة لروحه)، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها، وإخوانها، وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك. ومنها أرواح تكون فى تنور الزناة والزوانى، وأرواح فى نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة. فليس للأرواح - سعيدها وشقيها - مستقر واحد، بل روح فى أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض. وأنت إذا تأملت السنن والآثار فى هذا الباب .. وكان لك بها فضل اعتناء، عرفت حجة ذلك، ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة فى هذا الباب تعارُضًا، فإنها كلها حق يُصدِّق بعضها بعضًا؛ لكن الشأن فى فهمها، ومعرفة النفس وأحكامها، وأن لها شأنًا غير شأن البدن. وأنها مع كونها فى الجنة، فهى فى السماء، وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهى أسرع شىء حركة وانتقالاً، وصعودًا وهبوطًا، وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة،

وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة، ومرض، ولذة، ونعيم، وألم، أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة، والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها فى هذا البدن بحال الطفل فى بطن أمه! وحالتها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار، فلهذه الأنفس أربع دور، كل دار أعظم من التى قبلها: الدار الأولى: فى بطن الأم، وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث. الدار الثانية: هى الدار التى نشأت فيها وألَفْتَها، واكتسبت فيها الخير والشر، وأسباب السعادة والشقاوة. الدار الثالثة: دار البرزخ، وهى أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الأولى. الدار الرابعة: دار القرار، وهى الجنة والنار، فلا دار بعدها. والله ينقلها فى هذه الدور طَبقًا بعد طَبَق حتى يبلغها الدار التى لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهى التى خلقت لها، وهيئت للعمل الموصل إليها. ولها فى كل دار من هذه الدور حكم وشأن، غير شأن الدار الأخرى، فتبارك الله فاطرها، ومنشئها، وممتها، ومحييها، ومسعدها، ومشقيها، الذى فاوت بينها فى درجات سعادتها وشقاوتها؛ كما فاوت بينها فى مراتب علومها وأعمالها، وقواها وأخلاقها؛ فمن عرفها كما ينبغى، شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوة كلها، والقدر كلها، العز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله، وأن الذى جاءوا به هو الحق الذى تشهد به العقول، وتًقر به الفطر، وما خالفه فهو الباطل. وبالله التوفيق.

أشراط الساعة

أشراط الساعة. العلامات الصغرى. العلامات الكبرى. المهدى. خروج المسيح الدجال.

العلامات الصغرى

الساعة وإن خفى علمها على الناس، فقد جعل الله لها أمارات تدل على قربها يقول الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} (¬1). وهذه العلامات منها: علامات صغرى، وعلامات كبرى. * العلامات الصغرى: فأما العلامات الصغرى، فنجملها فيما يلى: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختم النبوة والرسالة به، فعن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «بعثة أنا والساعة كهاتين (وأشار بالسبابة والوسطى)» (¬2). والمراد بهذا التشبيه أنه صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبين الساعة نبى آخر، فهى تليه، وتأتى بعده، وهذا علم بقربها، ولا يستلزم العلم بوقت مجيئها، فإن العلم بوقت المجىء لا يعلمه إلا الله. وأن يصبح الملوك والأمراء والرؤساء من أولاد السرارى، لا من أولاد بنات البيوتات العريقة فى حسن التربية، وعلو الأخلاق، وكمال المروءة، كما يصبح أهل البداوة، ورعاة الغنم من أصحاب الثروة والترف والقصور العالية والترأس على الناس. فعن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يومًا بارزًا للناس، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال: «ما المسئول عنها بأعلم من المسائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها: ¬

(¬1) سورة محمد - الآية 18. (¬2) رواه البخارى ومسلم والترمذى.

إذا ولدت الأمة ربتها، فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العراة رعاة الشاء رءوس الناس، فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاة الغنم فى البنيان، فذاك من أشراطها» (¬1). وفى حديث جبريل عليه السلام أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: «ما المسئول عنها بـ أعلم من المسائل»، قال: فأخبرنى عن أماراتها، قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان» (¬2) وفى حديث الإمام البخارى جملة من هذه العلامات، عدتها إحدى عشرة علامة، فعن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ (¬3)، وَحَتَّى يُبْعَثَ (¬4) دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبٌ مِنْ ثَلاَثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ (¬5)، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ (¬6)، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ (¬7)، وَيَتَقَارَبَ ¬

(¬1) رواه ابن أبى شيبة. (¬2) رواه البخارى ومسلم عن عمر. (¬3) هما: فئة الإمام علىّ، وفئة معاوية. (¬4) أى يظهر. (¬5) مثل مؤسس القديانية والبهائية، وآخر ما سمعنا به من هؤلاء الدجالين الأحياء اليشع محمد الذى ظهر أخيرًا فى المكسيك، وادعى أنه رسول الله، واستطاع أن يضلل مجموعة كبيرة من الزنوج الأمريكيين، ولا يزال يعمل على تضليل الناس هناك باسم الدين، وأنه رسول رب العالمين. (¬6) المراد بقبض العلم: قبض علماء الدين والدعاة إلى الله، ففى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤسًا جهالاً، فسئلوا، فـ أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا». (¬7) أى تكثر كثرة زائدة عما يعهده الناس، وهذه الكثرة تكون مقدمة للزلزلة الكبرى التى تتغير بها معالم الحياة ..

الزَّمَانُ (¬1)، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهْوَ الْقَتْلُ (¬2)، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لاَ أَرَبَ (¬3) لِى بِهِ. وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِى الْبُنْيَانِ (¬4)، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ (¬5)، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ - يَعْنِى - آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْراً، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَتَبَايَعَانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ (¬6) فَلاَ يَطْعَمُهُ، ¬

(¬1) أى أن المسافات البعيدة تقطع فى زمن قليل بواسطة سفن الفضاء والطيارات والبواخر والقطر، ونحو ذلك مما اخترعه الناس، وفى هذا إشارة من أمر الغيب الذى أعلم الله به رسوله بما سيحدث فى مستقبل الزمان. (¬2) أى أن الفتن المذهبية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية تظهر بقوة، فيتسبب عنها القتل الكثير، كما حدث فى الحرب العالمية الثانية، وكما ينتظر أن يحدث فيما إذا قامت حرب ذرية عامة، وهذه إحدى نبوآت الغيب. (¬3) لا أرب: لا حاجة لكثرة المال التى تكون آخر الزمان. (¬4) وقد تطاول الناس فى هذا الزمان حتى بنوا ناطحات السحاب، كما هو معروف فى نيويورك بأمريكا وغيرها. (¬5) لما يرى من تقديم ما يستحق التأخير وتأخير ما يستحق التقديم، وتجاهل أقدار أصحاب المواهب وكثرة التعرض للفتن. (¬6) اللقحة: ذات اللبن من النوق ..

العلامات الكبرى

وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهْوَ يُلِيطُ (¬1) حَوْضَهُ فَلاَ يَسْقِى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ (¬2) إِلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُهَا». * العلامات الكبرى: أما العلامات الكبرى، فنجملها فيما يلى: - طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة: عند قرب الساعة يحدث تغيير فى نظام الكون، وتظهر آيات غير مألوفة للبشر، فتطلع الشمس من المغرب على خلاف ما نعهده الآن من طلوعها من المشرق، وتخرج دابة من الأرض تكلم الناس. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجاً طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيباً» (¬3). وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْراً» (¬4). ¬

(¬1) يليط: تُصلح. (¬2) أكلته: المضغة من الطعام، والمعنى أن الساعة تأتى بغتة والناس لا يشعرون. (¬3) رواه مسلم وأبو داود. (¬4) رواه البخارى ومسلم وأبو داود: أى لا ينفع الإيمان نفسًا كافرة لم تكن آمنت من قبل، ولا تنفع التوبة من المعاصى نفسًا مؤمنة لم تكن كسبت خيرًا فى إيمانها.

ويقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} (¬1). ففى هذه الآية إخبار عن خروج دابة تكلم الناس حينما يأتى أمر الله، كمقدمة من مقدمات الساعة، وحينما لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت فى إيمانها خيرًا. ولا ينبغى أن يبحث عما وراء ذلك من الغرائب التى قيلت فى وصف هذه الدابة: من أن طولها ستون ذراعًا بذراع آدم، وأن لها وجه إنسان، ورأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وأنه لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، وأنها تحمل عصا موسى، وخاتم سليمان، فذلك لم يصح منه شىء. قال الإمام الرازى: " واعلم أنه لا دلالة فى الكتاب على شىء من هذه الأمور، فإن صح الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل، وإلا لم يلتفت إليه ". إن خروج الدابة غيب من الغيوب، فيجب علينا الوقوف عند ما أخبر به القرآن الكريم والسنة الصحيحة، ولم يأت فيهما سوى أن دابة ستخرج، وتكلم الناس، وذلك من أمارات الساعة. وقد ذكر فى السورة نفسها، أن موسى عليه السلام ألقى عصاه بأمر الله، فإذا هى تهتز كأنها جان، وأن سليمان عرف لغة الطير، وسمع النملة وهى تدعو جماعتها لتدخل مساكنها، مخافة أن يحطمها سليمان هو وجنوده وهم لا يشعرون، وأن سليمان تبسم ضاحكًا من قولها. ¬

(¬1) سورة النمل - الآية 82.

المهدى

وفى السورة أيضًا، أن الهدهد كلم سليمان بخبر سبأ، وقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ *أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬1). والدابة التى ستخرج من الأرض، وتكلم الناس، سيكون كلامها لهم من هذا القبيل. * المهدى: خلاصة القول فى الإمام المهدى: أنه سيظهر فى آخر الزمان، وأن اسمه محمد بن عبد الله، أو أحمد بن عبد الله (¬2)، وأنه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة (¬3)، وأنه يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم فى الخُلُق، ولا يشبهه فى الخَلْق (¬4)، وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف (¬5)، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلئت ظلمًا وجورًا، وأنه يقيم شريعة الإسلام، ويحيى ما اندثر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام تعلو كلمته فى عهده، يُلقى بجرانه إلى الأرض (¬6)، ويمكن له، ويكثره الرخاء فى أيامه من وفرة العدل، وكثر ما يعطى ¬

(¬1) سورة النمل - الآية 23 - 25. (¬2) رواه أحمد والترمذى. (¬3) رواه رواه أبو داود والحاكم. (¬4) رواه أبو داود من كلام الإمام علىّ. (¬5) أى منحسر الشعر عن مقدم الرأس، وأن أنفه طويل مع حدب وسطه ودقة أرنبته. (¬6) يقرأ مرة ويستقر، رواه أبو داود.

من المال، فهو يحثو المال حثوًا، لا يعدّه عدًّا (¬1)، وأنه يمكث سبع (¬2) سنين، ويأتى بعده الدجّال، ثم ينزل عيسى، فيتعاون عيسى مع المهدى على قتله ن ثم يُتوفّى المهدى، ويصلى عليه المسلمون. هذه هى خلاصة الروايات التى تحدثت عن المهدى، ورويت فى شأنه، وهى فى جملتها لا تخرج عن كونها أخبارًا عن ظهور رجل من المصلحين فى آخر الزمان يرفع لواء الحق، ويعلى كلمة الله، ويُمكّن للإسلام، ويكون طليعة للخير العام الذى يأتى بعده، كما كان يوحنا قبل ولادة عيسى عليه السلام. على أثر ذلك يخرج الدجال اليهودى، كمظهر من مظاهر الفتنة الكبرى، ليقاوم هذه النهضة الإسلامية، محاولاً فتنة الناس عن دينهم بما أُعطى من علم وبراعة وقوة، فيبطل الله أمره بما يحدثه من آيات أكبر من فتنته بإنزال عيسى عليه السلام ليكون قوة للحق الذى يمثله المهدى حينئذ، ويتعاون كل من عيسى والمهدى ومن ورائهما كتائب الإسلام على قتله، وإحباط أمره. فإذا قتل الدجال انهزم اليهود الذين يقاتلون معه، وعددهم سبعون ألفًا (¬3)، ثم يكشف الله أمرهم، فلا يتوارى منهم يهودى وراء شىء إلا أنطق الله هذا الشىء فقال: يا عبد الله المسلم، هذا يهودى فتعال اقتله؛ وبهذا يقضى على أكبر فتنة من الفتن التى تحدث فى الأرض؛ ثم يأخذ عيسى عليه السلام فى العمل على محو المسيحية التى ارتكبت كل الحماقات باسمه، والتمكين لدين الحق دين الإسلام، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فيكون عيسى فى أمتى حكمًا عادلاً، وإمامًا مقسطًا، يدق الصليب (¬4) وذبح ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه أبو داود. (¬3) رواه ابن ماجه. (¬4) يكسره إعلانًا بإنهاء المسيحية، كما انتهت على يديه اليهودية.

الخنزير، ويضع الجزية (¬1)، ويترك الصدقة (¬2)، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتُنزع حَمة كل ذى حُمّة (¬3) حتى يدخل الوليد يده فى الحية فلا تضره، وتُفر الوليدة الأسد فلا يضرها (¬4)، ويكون الذئب فى الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور (¬5) الفضة تنبت نباتها بعهد آدم (¬6)» وبهذا يتحقق وعد الله من إظهار الإسلام وإعلائه على الدين كله. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (¬7). ثم يحدث بعد ذلك النقصان، ولا يزال الناس يبتعدون عن الدين شيئًا فشيئًا حتى يرتدون عن دينهم، فتقوم الساعة وهم على ما هم عليه من ردّة وليس بعد الكمال إلا الفناء والزوال. {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬8). ¬

(¬1) أى لا يقبل من أحد غير الإسلام. (¬2) لا يقبلها لغنى الناس وقتئذ. (¬3) ينزع السم من ذوات السموم. (¬4) تحاول أن تفعل به ما يهرب منه ويفر. (¬5) إناء الفضة. (¬6) تنبت نباتها كما كان على عهد آدم فى نمائه وحسنه وبركته. (¬7) سورة الفتح - الآية 28. (¬8) سورة يونس - الآية 24.

خروج المسيح الدجال

* خروج المسيح الدجال (¬1): من علامات الساعة وأماراتها الكبرى، أن يخرج المسيح الدجال، ويدعى الألوهية، ويحاول أن يفتن الناس عن دينهم بما يحدثه من خوارق العادات، وبما يظهر على يديه من عجائب، فيُفتن به بعض الناس، ويثبت الله الذين آمنوا، فلا يخدعون بأضاليله، ثم ينجلى أمره، ويقضى على فتنته، ويقتل بأيدى المسلمين وقائدهم - حينئذ - عيسى عليه السلام. وقد حذرت الرسل أممهم من فتنته وغوايته، كما حذر منها خاتمهم، صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا. فعن عمر رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم استنصت (¬2) الناس يوم حجة الوداع، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر الدجال، فأطنب فى ذكره، وقال: «ما بعث الله من نبى إلا أنذر أمته، وإنه يخرج فيكم، فما خفى عليكم من شأنه، فلا يخفى عليكم إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه طافية» (¬3). قال الشيخ رشيد رضا: " ويدل القدر المشترك منها (¬4) على أن النبى صلى الله عليه وسلم كشف له، ويمثل له ظهور دجال فى آخر الزمان، يظهر للناس خوارق كثيرة، وغرائب يفتتن بها خلق كثير، وأنه من اليهود، وأن المسلمين يقاتلونه، ويقاتلون اليهود فى هذه البلاد المقدسة، وينتصرون عليهم، وقد كشف له ذلك مجملاً غير مفصل، ولا يوحى به ¬

(¬1) سمى بهذا الاسم، لأنه يمسح الأرض ويقطعها فى مدة زمنية، ولأنه أعور ممسوح العين. (¬2) استنصت: أى طلب سكوتهم. (¬3) رواه البخارى ومسلم. (¬4) أى الأحاديث الواردة فى الدجال.

عن الله، كما كشف له غير ذلك من الفتن فذكره، فتناقله الرواة بالمعنى، فأخطأ كثير منهم، وتعمد الذين كانوا يبثون الإسرائيليات الدس فى رواياته .. ولا يبعد أن يكون طلاب الملك من اليهود الصهيونيين بتدبير فتنة فى هذا المعنى يستعينون عليها بخوارق العلوم والفنون العصرية كالكهرباء والكيمياء وغير ذلك، والله أعلم ". ويؤيد هذا الذى قاله الشيخ رشيد الأحاديث الآتية: 1 - عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقومن الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودى: يا مسلم هذا يهودى ورائى فاقتله» (¬1) .. وهذا مجاز عن عدم إفادة الاختباء شيئًا. 2 - وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال» (¬2) .. وهذا الفتح غير الفتح الأول، ففى رواية الترمذى: «فتح القسطنطينية مع قيام الساعة». * نزول عيسى - عليه السلام -: يستخلص من مجموع الأحاديث، أن عيسى عليه السلام ينزل فى آخر الزمان أثناء وجود الدجال، ويكون نزوله هذا علامة من علامات الساعة الكبرى، فيحكم بالقسط، ويقضى بشريعة الإسلام، ويحيى من شأنها ما تركه الناس، ويقتل الدجال، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يموت، ويصلى عليه ويدفن، ثم تهب ريح تقبض أرواح المؤمنين جميعًا، فلا يبقى بعد ذلك إلا شرار الناس، فلا يكون بعد الكمال إلا الفناء والزوال. ¬

(¬1) رواه البخارى ومسلم. (¬2) رواه أبو داود.

عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًًا (¬1)، فيكسر الصليب (¬2)، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (¬3)، ويفيض (¬4) المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها»، ثم قال أبو هريرة: اقرءوا ما شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} (¬5) .. أى ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى، قبل موت عيسى حين ينزل إلى الأرض، قبل قيام الساعة. وعن عروة بن مسعود الثقفى رضي الله عنه قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِى أُمَّتِى، فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ - لاَ أَدْرِى أَرْبَعِينَ يَوْماً أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْراً أَوْ أَرْبَعِينَ عَاماً -، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَيَطْلُبُهُ، فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحاً بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّأْمِ، فَلاَ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِى كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِى خِفَّةِ ¬

(¬1) أى حاكمًا بشريعة الإسلام، قائمًا بالعدل. (¬2) يكسر الصليب إظهارًا لكذب النصارى وافترائهم عليه فى دعوى أنه قتل وصلب. (¬3) يسقطها عن أهل الكتاب، ولا يقبل منهم إلا الإسلام. (¬4) أى يكثر الخير بسبب العدل. (¬5) سورة النساء - الآية 159؛ والحديث رواه البخارى ومسلم.

الطَّيْرِ وَأَحْلاَمِ السِّبَاعِ (¬1)، لاَ يَعْرِفُونَ مَعْرُوفاً، وَلاَ يُنْكِرُونَ مُنْكَراً، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ: أَلاَ تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَهُمْ فِى ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ، فَلاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلاَّ أَصْغَى لِيتاً وَرَفَعَ لِيتاً - قَالَ - وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ، رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ - قَالَ - فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَراً كَأَنَّهُ الطَّلُّ (¬2) أَوِ الظِّلُّ - نُعْمَانُ الشَّاكُّ - فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ (¬3) أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} - قَالَ - ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ - قَالَ - فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ». وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء» (¬4). ¬

(¬1) أحلام السباع: أى أنهم يسرعون إلى الشر والظلم، فيكونون فى المسارعة كالطير، وفى الظلم كالسباع المفترسة. (¬2) كأنه الطل: أى المطر الخفيف .. (¬3) ينفخ فيه: أى الصور، ولا يعلم عنه أحد شيئًا إلا أنه قرن ينفخ فيه، فتكون الساعة، وتقوم القيامة، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فيكون البعث، وما بين النفختين مدة زمنية غير معلومة بالضبط عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بين النفختين أربعون (قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يومًا، قال: أبيت " أى لا أدرى "، قالوا: أربعون شهرًا، قال: أبيت، قالوا: = = أربعون سنة، قال: أبيت) ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شىء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا، وهو عجب الذنب " هو آخر عظم سلسلة الظهر، لا يدركه البلى، ومنه ينبت الجسم فى النشأة الآخرة " منه يركّب الخلق يوم القيامة». (¬4) رواه البخارى ومسلم.

اليوم الآخر

اليوم الآخر. * الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان العقيدة. * لم يخلق الإنسان عبثًا. * مفهوم اليوم الآخر. * اهتمام القرآن به. * حكمة الاهتمام به. * بداية اليوم الآخر. * العلم الطبيعى واليوم الآخر. * متى هو؟ * البعث. * أدلة البعث. * شبهة منكرى البعث. * اختلاف الناس عند البعث. * الشفاعة.

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وجزء من أجزاء العقيدة، بل هو العنصر الهام الذى يلى الإيمان بالله مباشرة. لأن الإيمان بالله يحقق المعرفة بالمصدر الأول الذى صدر عنه الكون، والإيمان باليوم الآخر يحقق المعرفة بالمصير الذى ينتهى إليه هذا الوجود. وعلى ضوء المعرفة بالمصدر والمصير، يمكن للإنسان أن يحدد هدفه، ويرسم غايته، ويتخذ من الوسائل والذرائع ما يوصله إلى الهدف، ويبلغ به الغاية ومتى فقد الإنسان هذه المعرفة، فإن حياته سوف تبقى لا هدف لها، ولا غاية منها. وحينئذ يفقد الإنسان سموه الروحى، وفضائله العليا، ويعيش كما تعيش الأنعام، تسيرها غرائزها الطبيعية، واستعداداتها الفطرية، وهذا هو الانحطاط الروحى المدمر لشخصية الإنسان. * لم يخلق الإنسان عبثًا: والقرآن الكريم يلفت الأنظار إلى أن الله لم يخلق الإنسان من غير هدف عال، ولا غاية سامية؛ لأن ذلك يتنافى مع كماله الأقدس وحكمته العليا. فالله لم يخلق الإنسان بيده، وينفخ فيه من روحه، ويفضله على ملائكته، ويسخر له ما فى السماوات وما فى الأرض، ويجعله سيد هذا الكوكب الأرضى دون غاية أو غرض؛ فإن ذلك عبث يتنزه الله عنه.

مفهوم اليوم الآخر

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ *فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (¬1). إن للإنسان رسالة، وهى الخلافة عن الله فى الأرض، وقد كلّف بالقيام بواجبات هذه الخلافة، وهو مسئول عنها أمام الله؛ وحُسبان غير هذا عدول عن الحق إلى الضلال. {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى *أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (¬2). * مفهوم اليوم الآخر: يبدأ اليوم الآخر بفناء عالمنا هذا، فيموت كل من فيه من الأحياء، وتتبدل الأرض والسماوات. ثم ينشىء الله النشأة الآخرة، فيبعث الله الناس جميعًا، ويرد إليهم الحياة مرة أخرى. وبعد البعث يحاسب الله كل فرد على ما عمل من خير أو شر. فمن غلب خيره شره أدخله الله الجنة، ومن غلب شره خيره أدخله الله النار. * اهتمام القرآن بتقرير الإيمان بهذا اليوم: والقرآن يهتم اهتمامًا بالغًا بتقرير الإيمان بهذا اليوم، ويبدو هذا الاهتمام باليوم الآخر فيما يلى: ¬

(¬1) سورة المؤمنون - الآية 115، 116. (¬2) سورة القيامة - الآية 36 - 40.

أولاً: يربطه بالإيمان بالله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2). ثانيًا: يكثر القرآن من ذكره له، فلا تكاد سورة تخلو من الحديث عنه، مع تقريبه إلى الأذهان تارة بالحجة والبرهان، وتارة بضرب الأمثال. ثالثًا: أن المتتبع لآيات القرآن يجد أنه وضع لهذا اليوم أسماء كثيرة، وكل اسم منها يدل على معنى ما سيحدث من أهوال فى هذا اليوم. فهو يوم البعث: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (¬3). ويسمى يوم القيامة: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (¬4). ويسمى الساعة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 177. (¬2) سورة البقرة - الآية 62. (¬3) سورة الروم - الآية 56. (¬4) سورة الزمر - الآية 60. (¬5) سورة القمر - الآية 1.

ويسمى الآخرة: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬1). ويسمى يوم الدين: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬2). ويسمى يوم الحساب: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} (¬3). ويسمى يوم الفتح: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} (¬4). ويسمى يوم التلاق: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ *يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} (¬5). ويسمى يوم الجمع والتغابن: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (¬6). ¬

(¬1) سورة الأعلى - الآية 16، 17. (¬2) سورة الفاتحة - الآية 4. (¬3) سورة غافر - الآية 27. (¬4) سورة السجدة - الآية 29. (¬5) سورة غافر - الآية 15، 16. (¬6) سورة التغابن - الآية 9؛ والتغابن: يوم يغبن فيه أهل الجنة أهل النار، ويقال: يوم الذهول الذى يحصل بين الناس من شدة الهول.

ويسمى يوم الخلود: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (¬1). ويسمى يوم الخروج: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (¬2). ويسمى يوم الحسرة: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (¬3). ويسمى يوم التناد: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} (¬4). ويسمى الآزفة: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ *لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (¬5). ويسمى الطامة: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى *يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} (¬6). ¬

(¬1) سورة ق - الآية 34. (¬2) سورة ق - الآية 42. (¬3) سورة مريم - الآية 39. (¬4) سورة غافر - الآية 32؛ والتناد: يوم يتنادى فيه أهل الجنة والنار. (¬5) سورة النجم - الآية 57، 58؛ والآزفة: القريبة يوم القيامة. (¬6) سورة النازعات - الآية 34، 35؛ والطامة: الداهية، لأنها تطم على كل شىء، أى تعلوه وتغطيه، أى أنها تعلو على سائر الدواهى.

حكمة الاهتمام به

ويسمى الصّاخّة: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ *يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬1). ويسمى الحاقة: {الْحَاقَّةُ *مَا الْحَاقَّةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (¬2). ويسمى الغاشية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (¬3). ويسمى الواقعة: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ *لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ *خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (¬4). * حكمة الاهتمام به: وإنما اهتم القرآن هذا الاهتمام باليوم الآخر، لعدة أسباب: أولاً: أن المشركين من العرب كانوا ينكرونه أشد إنكار. ¬

(¬1) سورة عبس - الآية 33 - 37؛ والصاخة: تصخ: أى تصم الآذان من شدتها. (¬2) سورة الحاقة - الآية 1 - 3؛ والحاقة: سمى اليوم بذلك لأن فيه تظهر حقائق الأمور، وهى مأخوذة من حق الشىء إذا ثبت ووجب، لأن حصولها واجب. (¬3) سورة الغاشية - الآية 1؛ والغاشية: الداهية التى يغشى هولها الناس. (¬4) سورة الواقعة - الآية 1 - 3؛ والواقعة: لأنها ستقع قطعًا لا محالة.

بداية اليوم الآخر

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} (¬1). ثانيًا: أن أهل الكتاب، وإن كانوا يؤمنون باليوم الآخر، إلا أن تصورهم له قد بلغ منتهى الفساد. فالنصارى مثلاً، يعتمدون فيه على وجود يسوع الفادى المخلِّص الذى يَفْدى الناس بنفسه، ويخلِّصهم من عقوبة الخطايا .. وهذا يطابق ما يقوله الهنود فى كرشنه، وبوذا، سواء بسواء. وعقيدة اليهود فى الله وفى اليوم الآخر، لا تقل فى فسادها وضلالها عن عقيدة النصارى، والهنود. ثالثًا: أن الإيمان باليوم الآخر يجعل لحياتنا غاية سامية، وهدفًا أعلى، وهذه الغاية هى فعل الخيرات، وترك المنكرات، والتحلى بالفضائل، والنخلى عن الرذائل الضارة بالأبدان والأديان، والأعراض والعقول، والأموال؛ أى تحقيق معنى الخلافة. ولابد من تقوية الوازع النفسى الذى يرغِّب فى الخير، ويصد عن الشر، ولا يقوى الوازع إلى بكثرة التذكير والتفنن فى التصوير، وضرب الأمثال المتنوعة، حتى تعمق جذوره، ويقوى تأثيره، ويحقق الغاية منه، فيرجع المنكر عن إنكاره، ويصحح المخطئ خطأه، ويحدد كل إنسان هدفه الأعلى لا يضل الطريق، أو تتعثر به الخطا. * بداية اليوم الآخر: ويؤخذ من مجموع الآيات الكريمة، أن اليوم الآخر يبدأ بإحداث تغيير عام فى هذا الكون، فتتشقق السماء، وتتناثر النجوم، وتتصادم الكواكب، وتتفتت الأرض، ويخرب كل شىء، ويدمر كل ما عرفه الناس فى هذا الوجود. ¬

(¬1) سورة الجاثية - الآية 24.

العلم الطبيعى واليوم الآخر

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬1). * العلم الطبيعى واليوم الآخر: وهذا التخريب العام الشامل، ليس بمحال، أو بعيد الحصول، فقد ثبت لدى علماء العلم الطبيعى، أن هذا الكون سيأتى يوم ينتهى فيه كل شىء، فكما أنه تطور من الزمن القديم إلى ما انتهى إليه فى وضعه القائم، فإنه سيتطور تطورًا حتميًا إلى الفناء والزوال. فليس فيما قرره القرآن الكريم عن نهاية هذا العالم ما يتنافى مع أحدث نظريات العلم الطبيعى. ومن أدل الدلائل على أن هذا من عند الله، أنه لم يسبق أن تحدث أحد عن فناء هذا الكون بهذه الصورة، كما لم تتحدث الأديان السابقة؛ ولا يمكن أن يكون من تفكير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه إحدى معجزاته! * متى هو؟: وقيام الساعة أو اليوم الآخر، مما استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه لا نبيًا مرسلاً، ولا ملكًا مُقرّبًا. {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (¬2). ولقد كان الناس يسألون عنها رسول الله، ويُلْحِفُون فى المسألة، فأمره الله أن يَرُدّ علمها إليه وحده. ¬

(¬1) سورة إبراهيم - الآية 48. (¬2) سورة لقمان - الآية 34.

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬1). وسجل هذا السؤال والإجابة عليه فقال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا (¬2) لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ (¬3) فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ (¬4) عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬5). عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما فى الأرحام، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدرى نفس بـ أى أرض تموت». قال الألوسى فى تفسيره: " وإنما أخفى الله عز وجل أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك ". ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضى ذلك أيضًا، لم يبعد. وظاهر الآيات أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم وقت قيامها .. نعم، صلى الله عليه وسلم قرّبها على الإجمال، وأخبر صلى الله عليه وسلم به، فقد أخرج الترمذى، وصححه عن أنس مرفوعًا: «بعثت أنا والساعة كهاتين (وأشار بالسبابة والوسطى)». ¬

(¬1) سورة فصلت - الآية 47. (¬2) لا يجليها لوقتها: أى يظهر أمرها. (¬3) ثقلت: أى صعب علمها، فلا يستطيع أهل السماوات والأرض الوصول إليه. (¬4) حفى عنها: أى عالم بها. (¬5) سورة الأعراف - الآية 187.

وفى الصحيحين عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا أيضًا: «وإنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم، من صلاة العصر إلى غروب الشمس». أما نهاية هذه الحياة، فلم يأت فيها حديث صحيح يمكن التعويل عليه. قال ابن حزم: " وأما نحن (يعنى المسلمين)، فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا، ومن ادّعى فى ذلك سبعة آلاف سنة، أو أكثر، أو أقل؛ فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح، بل صح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمدًا لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله عز وجل: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم فى الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود، أو الشعرة السوداء فى الثور الأبيض». وهذه نسبة من تدبرها، وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، علم أن للدنيا أمدًا لا يعلمه إلا الله، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين (وضم إصبعيه السبابة والوسطى)». وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله تعالى لا أحد سواه، فصح أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد شدة القرب لا فصل الوسطى عن السبابة، إذ لو أراد ذلك لأخذت نسبة ما بين الأصبعين ونسب من طول الإصبع، فكان ¬

(¬1) سورة الكهف - الآية 51.

البعث

يعلم بذلك متى تقوم الساعة، وهذا باطل، وأيضًا فكان تكون نسبته صلى الله عليه وسلم إيانا إلى من قبلنا، بأننا كالشعرة فى الثور كذبًا .. ومعاذ الله من ذلك، فصح أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد شدة القرب، وله صلى الله عليه وسلم منذ بعث أربعمائة عام ونيف وألف، والله تعالى أعلم بما بقى من عمر الدنيا، فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقِلّته وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى، فهو الذى قال صلى الله عليه وسلم من أننا فيمن مضى كالشعرة فى الثور، أو الرقمة فى ذراع الحمار. * البعث: ويبدأ اليوم الآخر بالبعث: وهو إعادة الإنسان روحًا وجسدًا، كما كان فى الدنيا، وهذه الإعادة تكون بعد العدم التام، ولا يستطيع الإنسان معرفة هذه النشأة الأخرى، لأنها تختلف تمام الاختلاف عن النشأة الأولى. {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ *عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ *وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} (¬1). * أدلة البعث: ولقد أورد القرآن الكريم أدلة كثيرة على البعث، مستدلاً بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، ومبينًا أن الله قادر على كل شىء، وعالم بكل شىء، فلا تعجزه إعادة الأجسام لنفوذ قدرته، ولا يضيع منها شىء لسعة علمه. ¬

(¬1) سورة الواقعة - الآية 60 - 62.

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (¬1). والإنسان وتطوره فى الخلق، وتحوله من حال إلى حال، والأرض وما تخرجه من نبات، مظهر للعلم والقدرة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ (¬2) ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ (¬3) ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ (¬4) وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ (¬5) لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (¬6). ¬

(¬1) سورة يس - الآية 78، 79. (¬2) تراب: العناصر التى يتركب منها جسم الإنسان هى نفس العناصر التى تتركب منها تربة الأرض، وتتحول هذه العناصر من تربة الأرض إلى جسم الإنسان بواسطة الطعام الذى يتناوله مما خرج من الأرض. (¬3) العلقة: هى الدم المتجمد الغليظ. (¬4) المضغة: هى قطعة لحم بقدر ما يمضغ. (¬5) مخلقة وغير مخلقة: أى منتظمة الشكل وغير منتظمة. (¬6) سورة الحج - الآية 5 - 7.

شبهة منكرى البعث

وإذا كان الله لم يعى بخلق السماوات والأرض، ولا يزال يخلق، ويرزق، ويحيى، ويميت؛ فهل يستبعد بعد هذا المشاهد المنظور، أن يعيد الخلق مرة أخرى! {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (¬1). إن إنكار البعث وإعادة الحياة مرة أخرى بعد هذه الدلائل البيّنة فى الأنفس والآفاق، لا معنى له. * شبهة منكرى البعث: لقد استبعد طوائف من الناس هذه الحقيقة، زاعمين أنها مخالفة لما عهدوه من السنن المألوفة، ومستبعدين ذلك، ومستعظمين أمره، لأن عقولهم لا تكاد تصدق إعادة الحياة إلى الأجسام بعد تفرقها، وتحللها، وبعد أن يتداخل بعضها فى بعض، فإن الإنسان بعد أن يموت يتحول جسمه إلى تراب، ثم يتحول التراب إلى نبات فيتغذى إنسان آخر بذلك النبات، ثم يموت. هكذا الإنسان يتحول كغيره، وهكذا تتداخل الأجسام بعضها فى بعض، فيكف يبعث الناس بعد هذا التداخل؟! (¬2) وهذه الشبهة قديمة، ولا تزال تتردد فى صدر الكثير، والقرآن ذكر هذه الشبهة وعالجها، فقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ¬

(¬1) سورة ق - الآية 15. (¬2) يجيب علماء العقائد عن هذه الشبهة بأن للإنسان أجزاء أصلية وأجزاء عرضية، والأجزاء الأصلية تبقى كما هى، والعرضية هى التى تتحول.

اختلاف الناس عند البعث

وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ *وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬1). فهؤلاء الذين استنكروا البعث، ردّ الله عليهم بأن استبعادهم لا معنى له، لأنهم يجهلون عظمة الله، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وأنهم لا يبصرون فى أنفسهم، فهم أنفسهم أدل الدلائل، وأقوى الحجج على نفى ما ينكرونه من البعث، فالله أحياهم أولاً وأماتهم ثانيًا، ولا تزال القدرة الصالحة لإحيائهم مرة، وجمعهم مرة أخرى يوم القيامة، فأى استبعاد فى هذا؟! {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). * اختلاف الناس عند البعث: والناس يختلفون عند البعث اختلافًا كبيرًا حسب أعمالهم، فالذين صلحت عقائدهم وأعمالهم، وزكت نفوسهم، يكونون أكمل أجسادًا وأرواحًا، والذين خبثت أعمالهم، وفسدت عقائدهم، يكونون أنقص أجسادًا وأرواحًا. فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، ¬

(¬1) سورة الجاثية - الآية 24 - 26. (¬2) سورة الروم - الآية 27.

الشفاعة

وصنف على وجوههم» قيل: يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذى أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حَدَب وشكوك» (¬1). وفى الحديث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «يحشر المتكبرون والمتجبرون يوم القيامة فى صور الذَّرِّ تطؤهم الناس، لهوانهم على الله - عز وجل -». وروى مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يبعث كل عبد على ما مات عليه»، أى إن من مات على خير بعث على حال سارّة، ومن مات على شر بعث على حال شنيعة. ومع كون البعث بالأجساد والأرواح، إلا أن القوى الروحية تكون هى القادرة على التصرف فى الأجساد، فتستطيع قطع المسافات البعيدة فى أقصر مدة، والتخاطب بالكلام بين أهل الجنة والنار، ويكون مثلهم فى ذلك مثل الملائكة والجن فى قدرتها على التشكل وظهورها فى أجساد تأخذها من مادة الكون، وقد ثبت ذلك ثبوتًا علميًا، كما تقدم فى بحث مسألة الروح. * الشفاعة: المقصود بالشفاعة: سؤال الله الخير للناس فى الآخرة، فهى نوع من أنواع الدعاء المستجاب. ومنها الشفاعة العظمى، ولا تكون إلا لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يسأل الله عز وجل أن يقضى بين الخلق، ليستريحوا من هول الموقف، فيستجيب الله له، فيغبطه الأولون والآخرون، ويظهر بذلك فضله ¬

(¬1) رواه الترمذى؛ والحدب ما ارتفع من الأرض.

على العاملين، وهذا هو المقام المحمود الذى وُعِد به فى قول الله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (¬1). وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العَرَق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، فيقول: لست بصاحب ذلك ثم بموسى، فيقول كذلك، ثم بمحمد، فيشفع، ليقضى بين الخلق، فيمشى حتى يـ أخذ بحلْقَة باب الجنة، فيومئذ، يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم» (¬2). وعن أبىّ بن كعب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنتُ إمام الأنبياء، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر» (¬3). وما عدا هذه الشفاعة من الشفاعات (¬4) فهى مشروطة: 1 - بأن تكون بإذن الله. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (¬5). 2 - وأن تكون لمن ارتضى الله أن يشفع له. {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (¬6). ¬

(¬1) سورة الإسراء - الآية 79. (¬2) رواه أبو داود والحاكم. (¬3) رواه أبو داود. (¬4) ستأتى شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فى إخراج عصاة المؤمنين من النار. (¬5) سورة البقرة - الآية 255. (¬6) سورة الأنبياء - الآية 28.

ولا يرتضى الله الشفاعة إلا لمن يستحقون العفو على مقتضى العدل الإلهى، وتكون الشفاعة لإظهار كرامة الشافع ومنزلته عند ربه، تنفيذًا للإرادة الإلهية عقب دعائه وطلبه من الله، وليس فيها ما يدعو إلى الغرور أو التهاون فى ترك ما كلف الله به من إيمان تزكو به النفس، وعمل صالح يصل بالإنسان إلى كماله المنشود. وكان الوثنيون يعتمدون على أوثانهم، ويعتقدون أنها ستشفع لهم عند الله. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (¬1). فأيأسهم الله من الاعتماد على هؤلاء الشفعاء: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ *فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (¬2). وقد اعتاد كثير من الناس الاعتماد على شفاعة الصلحاء، واستساغوا كل لون من ألوان الانحراف، والخروج عن طاعة الله، ارتكانًا على هذه العقيدة، فقطع الله حجتهم، وأنزل قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً *وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً *وَمَنْ ¬

(¬1) سورة يونس - الآية 18. (¬2) سورة المدثر - الآية 38 - 48.

أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (¬1). إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله، وإحسان العمل، وإن روح الإسلام هى وصاية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضى الله عنها: «اعملى يا فاطمة، فأنى لا أغنى عنك من الله شيئًا». والله يتنزه عن محاباة أحد من خلقه، وهذه سنته فى الأولين والآخرين. {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} (¬2). ¬

(¬1) سورة النساء - الآية 123 - 125. (¬2) سورة النجم - الآية 36 - 41.

الحساب

الحساب. * الحساب هو مقتضى العدل الإلهى. * كيفية الحساب. * العلم وتسجيل الأعمال. * دقة الحساب. * الله هو الذى يتولى الحساب. * رحمة المؤمن فى الحساب. * الحوض. * الصراط.

الحساب هو مقتضى العدل الإلهى

* الحساب هو مقتضى العدل الإلهى: إن الله عز وجل متصف بصفات الكمال، ومن صفاته الكمالية: العدل، والحكمة؛ فهو عدل لا يظلم أحدًا من خلقه، وحكيم لا يضع الشىء فى غير موضعه. ومن عدله وحكمته ألا يسوِّى بين البر والفاجر، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين المحسن والمسىء؛ فإن التسوية بينهما منتهى الظلم والسفه. والله عز وجل قد أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، فاهتدى فريق إلى الله، وانحرف فريق عن هدايته، فلم تكن له العقيدة الحقة، ولا العبادة الصحيحة، ولا العمل الصالح. والذين اهتدوا كلفتهم الهداية جهادًا شاقًا، وتضحيات مريرة، ومغالبة للهوى، ومحاربة للباطل، ومكافحة للشرور والآثام، وطال جهادهم، ودام كفاحهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم. فهل يستوى هؤلاء الأبرار مع التافهين الفارغين الفسقة، الذين استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الغَىَّ على الرشاد، وتعجلوا حظوظهم الدنيئة وشهواتهم الخسيسة، وظلوا سادرين فى غيِّهم لا يصدّهم عنه صاد، ولا يأخذ بحجزاتهم أحد؟! لقد قضى كل من الفريقين حياته: هذا يجاهد فى سبيل الله ليعلى كلمته، وليرفع راية الحق، وليطهر الأرض من الشر والفساد .. وذاك يجاهد من أجل شهواته وغرائزه الدنيا، سائرًا فى ركب الشيطان، مؤتمرًا بأمر نفسه الأمارة بالسوء .. فهل من العدل والحكمة أن يكون مصير هؤلاء جميعًا واحدًا؟ إن ذلك لا يجوز فى العقل السليم، بله الله أعْدَل العادلين، وأحكم الحاكمين.

إن الحكم بالتسوية بين الفريقين حكم جائر: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (¬1). إن التسوية بين مصير الصالحين وغيرهم، تفكير السطحيين الذين يحسبون الحياة لهوًا ولعبًا. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬2). إن الناس لا يعلمون هذه الحقيقة، وقلما يتذكرونها. {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ *وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ *إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} (¬3). إنه لابد من يوم تتكشف فيه الحقائق، وتظهر فيه مكنونات الضمائر. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (¬4). ¬

(¬1) سورة الجاثية - الآية 21، 22. (¬2) سورة ص - الآية 27، 28. (¬3) سورة غافر - الآية 57 - 59. (¬4) سورة النجم - الآية 31.

كيفية الحساب

وكان المشركون يمارون فى الساعة أشد المراء، ويُكذبون بها كأعظم ما يكون التكذيب، ويحلفون بالأيمان المغلظة أن ذلك لن يكون، فذكر الله تكذيبهم، ورد عليهم بأن ذلك مقتضى حكمته، حتى يتميز الحق من الباطل، ويتبين الصادق من الكاذب. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ *لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (¬1). * كيفية الحساب: بعد أن يرد الله الحياة إلى الناس من جديد، يحشرهم إليه، ويجمعهم لديه، ليحاسب كل فرد منهم على ما عمل من خير أو شر، فتشهد الأرض بما حدث عليها. {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (¬2) *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (¬3) *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا *يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ (¬4) النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ (¬5) ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (¬6). وعن أبى هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) سورة النحل - الآية 38، 39. (¬2) الزلزلة: هى الاضطراب الشديد. (¬3) أثقالها: الجثث المدفونة فيها. (¬4) يصدر الناس أشتاتًا: يبعثون أفرادًا متفرقين من الهول ليروا أعمالهم. (¬5) مثقال: قدر. (¬6) سورة الزلزلة.

{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}، فقال: «أتدرون ما أخبارها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن أخبارهم أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا» قال: «فهذه أخبارها» (¬1). وكما تتحدث الأرض عن أخبارها؛ تشهد الألسنة، والأيدى، والأرجل، والجلود .. وبهذا تتم حجة الله على العالم. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬2). {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ *وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} (¬3). {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ¬

(¬1) رواه أحمد والبغوى والترمذى وصححه. (¬2) سورة النور - الآية 24، 25. (¬3) سورة فصلت - الآية 19 - 23.

مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله تعالى حُفاة عُراة غُرْلاً (¬2) {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (¬3) ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتى، فيؤخذ بهم ذات الشمال ن فـ أقول: يا رب أصحابى، فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فـ أقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬4)» .. قال: «فيقال لى: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فـ أقول: سحقًا سحقًا» (¬5). ¬

(¬1) سورة المجادلة - الآية 6، 7. (¬2) أى أن حشر الناس إلى الله يوم القيامة، يكون وهم حفاة عراة غير مختونين، كما كان خلقهم من بطون أمهاتهم. (¬3) سورة الأنبياء - الآية 104. (¬4) سورة المائدة - الآية 117، 118 .. والعبد الصالح هو: سيدنا عيسى - عليه السلام -. (¬5) رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى.

كيفية إحصاء الأعمال وعرضها

وعن أبى برزة الأسلمى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟» (¬1) * كيفية إحصاء الأعمال وعرضها: وإحصاء الأعمال وتسجيلها، يكون بواسطة الملائكة الموكلين بها - كما تقدم فى بحث الملائكة -. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَاماً كَاتِبِينَ *يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (¬2). {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬3). فإذا كان يوم الحساب، جىء بالكتب التى دونت فيها الأعمال لتعرض على أصحابها. {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً *اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (¬4). {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (¬5). ¬

(¬1) رواه الترمذى، وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) سورة الانفطار - الآية 10 - 12. (¬3) سورة ق - الآية 18. (¬4) سورة الإسراء - الآية 13، 14. (¬5) سورة الكهف - الآية 49.

العلم وتسجيل الأعمال

وهذه الكتب التى توزع على أصحابها، منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ويكون بشرى من البشريات السارة؛ ومنهم من يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويكون ذلك علامة على سوء الحساب. {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ *فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً *وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً *وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ *فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً *وَيَصْلَى سَعِيراً *إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً *إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ *بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} (¬1). * العلم وتسجيل الأعمال: وتسجيل الأعمال من الأمور التى قد ثبتت ثبوتًا علميًا، فما من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات، إلا وهى مسجلة فى سجل الكون، ومدونة فى كتاب الوجود، فليس منها شىء ضائع، ولا يمكن لشىء منها أن يزول، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الانشقاق - الآية 6 - 15. (¬2) سورة الأنعام - الآية 59.

دقة الحساب

* دقة الحساب: وتبلغ الدقة فى الحساب منتهى ما يمكن أن يتصور، حتى يأخذ كل واحد جزاء ما عمل من خير أو شر، سواء أكان ذلك عملاً مارسه بالفعل، أو عملاً نواه وأصر عليه، فتقام لذلك موازين القسط، حتى يتحقق العدل الإلهى على أكمل صورة. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬1). ثم تكون عاقبة كل حسب رجحان الميزان بالعمل الصالح، أو نقصانه. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (¬2). * الله هو الذى يتولى الحساب: والله عز وجل هو الذى يحاسب الناس جميعًا بنفسه، بدون واسطة. عن عدى بن حاتم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربُّه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدّم من عمله، وينظر أشـ أم منه، فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة» (¬3). وقد حدث الإمام علىّ - كرم الله وجهه - بهذا الحديث، فقال له أحد الرجال: يا أمير المؤمنين، كيف يحاسب الله الناس كلهم فى وقت واحد؟ فقال: كما يرزقهم فى آن واحد يسألهم فى آن واحد. ¬

(¬1) سورة الأنبياء - الآية 47. (¬2) سورة المؤمنون - الآية 102، 103. (¬3) رواه البخارى ومسلم والترمذى.

رحمة الله المؤمن في الحساب

* رحمة الله بالمؤمن عند الحساب: والمؤمن لا يناقش الحساب رحمة به وشفقة عليه، لأن من نوقش الحساب عذب، قيل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله يقول فى النجوى (¬1)؟ قال: سمعته يقول: «يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه (¬2) عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره (¬3)، ثم يقول: إنى سترت عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار فينادى على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين» (¬4). عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك» فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} (¬5)، فقال: «إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذب». * الحوض: إن لكل نبى حوضًا يشرب هو وأمته منه بعد الموقف، وقبل دخول الجنة، ولنبينا حوض كذلك، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من ¬

(¬1) المراد بها هنا: مناجاة الله لعبده المؤمن فى الآخرة. (¬2) ستره. (¬3) أى يقرره بذنوبه. (¬4) رواه البخارى ومسلم. (¬5) سورة الانشقاق - الآية 7، 8.

الصراط

المسك، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا. فعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا فرَطُكم على الحوض، من مر علىَّ شرب، ومن شرب لا يظمـ أأبدًا، لَيَرِدَنّ علىَّ أقوام أعرفهم ويعرفوننى، ثم يحال بينى وبينهم، فـ أقول: إنهم منى (¬1)، فيقال: لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فـ أقول: سُحقًا سُحقًا لمن غيَّر بعدى» (¬2). * الصراط: روا مسلم والترمذى، أن عائشة رضى الله عنها تلت هذه الآية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬3)، قالت: يا رسول الله، أين يكون الناس؟ قال: «على الصراط»، وهو طريق يوضع على ظهر جهنم، يمر عليه الأولون والآخرون بعد انصرافهم من الموقف، فأهل الجنة يمرون عليه، وهم متجهون إليها، وأهل النار يسقطون فيها. {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً *ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} (¬4). وفى حديث الإمام مسلم، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يضرب الصراط بين ظهرى جهنم، فـ أكون أنا وأمتى أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوة الرسل يومئذ: اللهم سلم، وفى جهنم كلاليب مثل شوك السّعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله - عز وجل - تخطف الناس بـ أعمالهم». ¬

(¬1) أى من أمتى. (¬2) أى بعدًا لمن ارتد عن دينه؛ والحديث رواه البخارى ومسلم. (¬3) سورة إبراهيم - الآية 48. (¬4) سورة مريم - الآية 71، 72.

الجنة والنار

الجنة والنار. * النار. * أهوال الجحيم. * نسبة نار الدنيا إلى الآخرة. * أهون الناس عذابًا. * المؤمن لا يخلد فى النار. * الشفاعة للعصاة. * التخاطب بين أهل الجنة وأهل النار. * آخر ما يدخل الجنة، وآخر من يخرج من النار. * الجنة. * أهلها. * نعيمها. * أعلى نعيم الجنة. * الخلود.

النار

إذا كان الله عز وجل يكافئ الأبرار بالنعيم، فإنه يجازى الفجار بالجحيم، عقابًا لهم على ما اقترفوا من كبائر الإثم والفواحش. والجحيم هذه هى دار العذاب، وتُسمى الهاوية، والهاوية: هى المكان المنخفض كثيرًا الذى لا يرجع من يسقط فيه. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ *فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ *نَارٌ حَامِيَةٌ} (¬1). وتُسمى السعير: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (¬2). وتُسمى لظى: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى *نَزَّاعَةً لِلشَّوَى *تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى *وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (¬3). أى أنها شديدة نزع جلدة الرأس، وتجذب إليها من أعطى ظهره للحق، وتولى منصرفًا عن الطاعة، وجمع المال ووضعه فى وعاء، لشدة حرصه عليه وافتنانه بالدنيا. وتُسمى سقر: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ *لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ *لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ *عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬4). أى أنها لا تبقى على شىء ما يطرح فيها، بل تحرقه، ولا تتركه يخرج منها، وأنها تُسَوِّد الجسم وتشوهه. ¬

(¬1) سورة القارعة - الآية 8 - 11. (¬2) سورة الملك - الآية 5. (¬3) سورة المعارج - الآية 15 - 18. (¬4) سورة المدثر - الآية 26 - 30.

أهوال الجحيم

وتُسمى الحطمة: {لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (¬1) *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ *نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (¬2) *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ *إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (¬3) *فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (¬4)} (¬5). * أهوال الجحيم: وقد وصف الله الجحيم وصفًا تشيب منه النواصى، وتنخلع منه القلوب، كى يرتدع الغاوون عن غيهم، فذكر أن وقودها الناس والحجارة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬6). وأنها لا تشبع مما يلقى فيها، بل تطلب المزيد دائمًا، حتى لا يبقى فيها مكان خال. {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (¬7). قال مجاهد: ليس هناك قول، وإنما جرى الكلام على سبيل تمثيل حال جهنم بأنها امتلأت حتى لم يبق فيها مكان خال. وأن طعامهم الزقوم، وهى شجرة من أخبث أنواع الشجر المر المنتن الرائحة. {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ *إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (¬8) *إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ *طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ *فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ} (¬9). ¬

(¬1) الحطمة: كثير التحطيم والتكسير لما يلقى فيها. (¬2) الموقدة الملتهبة التهابًا شديدًا. (¬3) موصدة: أى مغلقة. (¬4) فى عمد ممددة: أى مغلقة بعمد طويلة فلا يخرج منها من يدخل فيها. (¬5) سورة الهمزة - الآية 4 - 9. (¬6) سورة التحريم - الآية 6. (¬7) سورة ق - الآية 30. (¬8) أى محنة للظالمين بإرغامهم على الأكل منها. (¬9) سورة الصافات - الآية 62 - 67.

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} (¬1). وثيابهم من نار. {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ *وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ *كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬2). وقد جاء فى الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجحيم ليصب على رءوسهم، فينفذ الحميم، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما فى جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» (¬3). وجهنم تحيط بالمعذبين من كل جانب، فهى فراش وغطاء. {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ *لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (¬4). {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (¬5) وأهل جهنم لا يموتون فيستريحون، ولا يحيون الحياة الهنيئة. ¬

(¬1) سورة الكهف - الآية 29. (¬2) سورة يونس - الآية 101. (¬3) رواه الترمذى، وقال: حسن صحيح. (¬4) سورة الأعراف - الآية 40، 41. (¬5) سورة الزمر - الآية 16.

{وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى *الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى *ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} (¬1). وأهل النار محجوبون عن الله، وهذا هو أشد أنواع العذاب. {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬2). وفى الآية الكريمة يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (¬3). ففى هذه الآية، أن النار كلما أكلت جلودهم بدلهم الله جلودًا غيرها، والسبب فى ذلك أن أعصاب الألم هى الطبقة الجلدية، أما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية، فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذى لا يتجاوز الجلد يحدث ألمًا شديدًا، بخلاف الحرق الشديد الذى يتجاوز الجلد إلى الأنسجة، لأنه - مع شدته وخطره - لا يحدث ألمًا كبيرًا. فالله تعالى يقول لنا: إن النار كلما أكلت الجلد الذى فيه الأعصاب، يجدده كى يستمر الألم بلا انقطاع، ويذوقوا العذاب الأليم، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان (¬4)، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}. ومن شدة الهول، وقسوة العذاب، يود المجرم أن يفدى نفسه بكل حبيب لديه وعزيز عليه، ولكن لا ينفع فداء، ولا يقبل رجاء. {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ *وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ *وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ *كَلاَّ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأعلى - الآية 11 - 13. (¬2) سورة المطففين - الآية 15. (¬3) سورة النساء - الآية 56. (¬4) انظر: كتاب الطب والإسلام للدكتور/ عبد العزيز إسماعيل. (¬5) سورة المعارج - الآية 11 - 15.

نسبة نار الدنيا إلى نار الآخرة

* نسبة نار الدنيا إلى نار الآخرة: عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه الذي توقدون جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال: فإنها فضلت بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها» * أهون الناس عذابًا: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أهون الناس عذابًا من له تعلان، وشراكان من نار، يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا» (¬1). * المؤمن لا يخلد فى النار: جاء فى السنة الصحيحة أن المؤمن لا يخلد فى النار. فإن كان قد ارتكب بعض الكبائر ولم تُكفّر بحد، أو توبة نصوح، أو مصيبة أو مرض، أو شىء من المكفرات، فهو محاسب على عمله، والله يوازن بين أعماله الصالحة وبين جميع معاصيه التى لم يتب منها، فإن رجحت حسناته فهو فى الجنة، وكذلك إذا تساوت حسناته وسيئاته. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬2). ¬

(¬1) رواه الطبرانى بسند ضعيف. (¬2) سورة الأنبياء - الآية 47.

الشفاعة للعاصاة

وإن رجحت سيئاته فإنه يدخل النار، فيعذب فيها بقدر ما ارتكب من إثم، ثم يخرج منها بعد أن يتطهر، وبعد أن يوفيه الله جزاءه بمقتضى عدله وحكمته. فعن أبى سعيد الخدرى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودّوا، فيلقون فى نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل (¬1)، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية» (¬2). وعن أنس رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار، من قال: لا إله إلا الله، وفى قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار، من قال: لا إله إلا الله، وفى قلبه وزن بُرّة من خير، ويخرج من النار، من قال: لا إله إلا الله، وفى قلبه وزن ذرّة من خير» (¬3). * الشفاعة للعاصى: ثم يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن يأذن الله له، وبعد انتهاء مدة العذاب، فى خروج العاصى من النار، فقد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن النبى صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) أى أنهم يخرجون بعد ما يغمسون فى نهر الحياة وأجسامهم نضرة فرحين بعودة الحياة. (¬2) رواه البخارى ومسلم والنسائى. (¬3) رواه البخارى ومسلم والترمذى.

التخاطب بين أهل الجنة وأهل النار

يشفع لأهل الكبائر بعد دخولهم النار، فيقبل الله شفاعته فيهم، ويخرجهم منها، وتكون الشفاعة إظهارًا لكرامة الشافع عند الله، وإظهار فضله. فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة» (¬1). وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين» (¬2). * التخاطب بين أهل الجنة وأهل النار: وبعد أن يستقر أهل الجنة فى الجنة، وأهل النار فى النار، يدور بينهم حوار ومناقشة، فيذكر كل واحد ما كان منه من عمل فى الدنيا، وما ناله من جزاء فى الآخرة. ولا يُقال كيف يتم التخاطب بين الفريقين مع البعد بين الجنة والنار، ومع التفاوت الكبير بينهما، فإن ذلك شأن من شئون الآخرة التى لا اطلاع لنا عليها، ولا علم لنا بها، والله عز وجل سيطوِّر خلق الإنسان ويجعله على صورة أخرى غير الصورة المعهودة، ويعطيه حواس أخرى أقوى من حواسه التى أعطاها إياه فى ¬

(¬1) رواه البخارى ومسلم، وزاد مسلم: «فهى نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئًا». (¬2) رواه البخارى وأبو داود والترمذى وابن ماجه، وسُمّوا بهذا الاسم ليذكروا ما كانوا فيه من عذاب وما أدركوه من نعيم، فيزدادوا فرحًا وسرورًا.

الدنيا، وقد استُحدث أخيرًا ما يقرِّب هذا من أمثال أجهزة التليفزيون، فالناس مع بعد بعضهم عن بعضهم، يتمكنون بواسطتها من المشاهدة والسماع. {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ *عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} (¬1). وفى القرآن الكريم إخبار عما يدور بين أهل الجنة وأهل النار من خطاب، مع وجود سور فاصل بينهما، فهو من جهة أهل الجنة فيه الرحمة، ومن جهة أهل النار فيه العذاب؛ فنؤمن بذلك ونكل علم حقيقته إلى علاّم الغيوب. {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ *يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ *فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬2). وفى مشهد آخر يعرض القرآن لونًا من ألوان الخطاب بين أهل الجنة وأهل النار. ¬

(¬1) سورة الواقعة - الآية 60، 61. (¬2) سورة الحديد - الآية 12 - 15.

آخر من يدخل الجنة، وآخر من يخرج من النار

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ *الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} (¬1). ثم بعد ذلك يقول القرآن الكريم: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ *الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (¬2). * آخر من يدخل الجنة، وآخر من يخرج من النار: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهُوَ يَمْشِى مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً وتَسْفَعُهُ (¬3) النَّارُ مَرَّةً فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ تَبَارَكَ الَّذِى نَجَّانِى مِنْكِ لَقَدْ أَعْطَانِىَ اللَّهُ شَيْئاً مَا أَعْطَاهُ أَحَداً مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّى إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِى غَيْرَهَا. فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 44، 45. (¬2) سورة الأعراف - الآية 50، 51. (¬3) تسفعه النار: أى تلفحه لفحًا يغير بشرته.

الجنة

مَائِهَا ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ لأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ لَعَلِّى إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِى غَيْرَهَا. فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا. ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَيَيْنِ. فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ لأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا قَالَ بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْخِلْنِيهَا. فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِى (¬1) مِنْكَ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا قَالَ يَا رَبِّ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ». فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَلاَ تَسْأَلُونِّى مِمَّ أَضْحَكُ فَقَالُوا مِمَّ تَضْحَكُ قَالَ هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ وَلَكِنِّى عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ» (¬2). * الجنة: الجنة فى الأصل: البستان من النخل أو الشجر. وهى مأخوذة من جَنَّ إذا ستر، وسميت بذلك لأن نخيلها الباسقات وأشجارها المورقة تلتف أغصانها بعضها ببعض، فتكون كالظلة تستر ما تحتها. ¬

(¬1) ما يصرينى منك: أى ما الذى يرضيك ويقطع مسألتك. (¬2) رواه مسلم.

أهلها

والمقصود بالجنة هنا، الدار التى أعدّها الله للمتقين جزاء لهم على إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح. وقد أطلق عليها القرآن عدة أسماء فهى: جنة المأوى، وجنة عدن (إقامة وخلود)، ودار الخلود، والفردوس، ودار السلام، ودار المقامة، وجنات النعيم والمقام الأمين .. وجاء فى القرآن الكريم أن عرضها السماوات والأرض. وقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن مكان النار إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، فـ أين الليل إذا جاء النهار؟». * أهل الجنة: والجنة لا يدخلها إلا من قام بجلائل الأعمال، واتصف بكرائم الصفات. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة التوبة - الآية 111، 112.

نعيمها

* نعيم الجنة: وصف الله الجنة بأن نعيمها دائم، وسرورها لا ينفد، وكل ما فيها بغير حساب، فأنهارها كثيرة ثَرَّة، ففيها أنهار من ماء غير آسن (¬1)، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى؛ وهذه الأنهار تجرى من تحت القصور، وفيها الفواكه، ولحوم الطيور، وكلما رُزق أهلها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذى رُزقنا من قبل وأتوا بها متشابهًا يماثل بعضه بعضًا فى الحسن والجودة. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2). وأن الرزق الذى يقدم لهم من الطعام والشراب، يطوف به خدم من الولدان، إذا رأيتهم حسبتهم - لفرط جمالهم - لؤلؤًا منثورًا، وهؤلاء الولدان يحملون صحافًا وأوانى وأكواب من ذهب، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتَلَذّ الأعين. ولباسهم فيها حرير من سندس وإستبرق، وحليتهم الذهب، ومساكنهم طيبة، وهى غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الأنهار. وأصحاب الجنة هم وأزواجهم فى ظلال على الأرائك يتكئون، وهؤلاء الزوجات ينشئهن الله إنشاء، عربًا أترابًا، كما ينشىء معهم الحور العين، كأنهن بيض مكنون، وهن مطهرات من عيوب النساء الدنيا، فلا حيض، ولا نفاس، ولا دمامة خَلْق، ولا سوء خُلُق. ¬

(¬1) آسن: متغير الطعم والرائحة. (¬2) سورة البقرة - الآية 25.

وأهل الجنة نزع الله من صدورهم الغِلّ إخوانًا على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها نصب، وما هم منها بمخرجين. والجنة لا يسمع فيها اللغو، ولا التأثيم، وإنما يسمع فيها تقديس الله، وإجلاله، وسلام الله على المؤمنين، وسلام بعضهم على بعض. {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬1). وقد جاء فى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم والترمذى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّىٍّ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ (¬2) الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ (¬3) الأَلُوَّةُ (¬4) الأَنْجُوجُ عُودُ الطِّيبِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعاً فِى السَّمَاءِ». وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه: «ألا مشمِّر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هى ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام أبدًا فى حبرة (¬5) ونضرة (¬6)، فى دور عالية سليمة بهية» قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: «قولوا: إن شاء الله»، ثم ذكر الجهاد وحض عليه (¬7). ¬

(¬1) سورة الرعد - الآية 23، 24. (¬2) الرشح: العرق. (¬3) المجامر: مواضع البخو. (¬4) الألوة: العود. (¬5) الحبرة: النعمة وسعة العيش. (¬6) نضرة البهجة والحسن. (¬7) رواه ابن ماجه.

أعلى نعيم الجنة

* نعيم الجنة فوق ما يتصوره العقل: وهذا النعيم المذكور جاء على مثال ما هو معروف فى هذا العالم الأرضى، وإن كان أرقى منه نوعًا وشكلاً وطعمًا، وحقيقته فوق ما يتصوره البشر. روى البخارى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬1)» فنعيم الآخرة لا يشبهه شىء من نعيم الدنيا، فهو - وإن شابهه فى الاسم - مختلف عنه فى الصفة. قال ابن عباس رضي الله عنه فى تفسير قوله عز وجل: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2): لا يشبه شىء مما فى الجنة ما فى الدنيا إلا فى الأسماء. * أعلى نعيم الجنة: وأعلى نعيم أهل الجنة هو رؤية الله عز وجل، ومناجاته، والفوز برضاه. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬3). {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ *هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ ¬

(¬1) سورة السجدة - الآية 17؛ وقرة العين: كناية عن السرور. (¬2) سورة البقرة - الآية 25. (¬3) سورة القيامة - الآية 22، 23.

عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ *لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ *سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (¬1). {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (¬2). {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬3). وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ يقولون: ألم تُبيّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟» قال: «فيكشف (¬4) الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم»، ثم تلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى (¬5) وَزِيَادَةٌ} (¬6). عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا القمر، لا تضامون (¬7) فى رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، فافعلوا» ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (¬8). وأما رؤية الله فى الدنيا، فلم تقع لأحد قط؛ وقد سأل موسى عليه السلام ربه ¬

(¬1) سورة يس - الآية 55 - 58. (¬2) سورة التوبة - الآية 72. (¬3) سورة آل عمران - الآية 15. (¬4) فيكشف الحجاب عن أهل الجنة. (¬5) رواه مسلم وغيره؛ والحسنى: الجنة، والزيادة: هى الرؤية. (¬6) سورة يونس - الآية 26. (¬7) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى؛ وتضامون: تشكون. (¬8) سورة طه - الآية 130.

قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). وذهب ابن عباس رضي الله عنه - وكثير من أهل العلم - إلى أن سيدنا محمد رأى ربه ليلة أُسْرى به. قال ابن عباس فى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (الاسراء: من الآية60)} (¬2) هى رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْرى به (¬3). وكان الحسن يحلف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وأنكرت السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه. فعن مسروق قال: قلت لعائشة عائشة رضي الله عنها: يا أمتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قَّفَّ شعرى مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدّثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (¬4)، ¬

(¬1) سورة الأعراف - الآية 143. (¬2) سورة الإسراء - الآية 60. (¬3) رواه البخارى. (¬4) سورة الأنعام - الآية 103.

الخلود

ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} (¬1) ومن حدثك أنه كتم شيئًا من الوحى فقد كذب، ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬2)، ولكنه رأى جبريل عليه السلام فى صورته مرتين (¬3). * الخلود: والجنة خالدة لا تفنى، وكذلك النار، وأهل كل منهما مخلدون، لا يدركهم الموت ولا يلحقهم الفناء. {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (¬4). وسر خلود أهل الجنة فى الجنة، وأهل النار فى النار، أن كلا من الفريقين كان مصرًا على ما هو عليه، فأهل الجنة كانوا مريدين الإيمان والطاعة مهما طالت بهم ¬

(¬1) سورة لقمان - الآية 34. (¬2) سورة المائدة - الآية 67. (¬3) رواه البخارى ومسلم والترمذى. (¬4) سورة هود - الآية 106 - 108.

الحياة وامتد بهم العمر، وأهل النار كانوا مصرين على الكفر والعصيان ولو عاشوا ملايين السنين، فكان الجزاء للفريقين على الإرادة والنية، وبمقتضى هذه الإرادة والتصميم، كان الخلود، إذ أن الإيمان والكفر وما يستتبعانه من أعمال، قد تمكن من النفس تمكنًا لا يزول. ولقد صور القرآن هذا التمكن، فذكر أن الكفار لو رجعوا إلى الدنيا بعد معاينتهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وسوء العمل. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬1) والأصل فى كون الجزاء على الإرادة والنية، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». ¬

(¬1) سورة الأنعام - الآية 27، 28.

خاتمة

خاتمة وبعد .. فإن سلوك الإنسان وتصرفاته فى الحياة مظهر من مظاهر عقيدته. فإذا صلحت العقيدة صلح السلوك واستقام، وإذا فسدت فسد واعوج، ومن ثم كانت عقيدة التوحيد والإيمان ضرورة لا يستغنى عنها الإنسان ليستكمل شخصيته ويحقق إنسانيته. ولقد كانت الدعوة إلى هذه العقيدة أول شىء قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون حجر الزاوية فى بناء الأمة المسلمة، كما كانت أول شىء قام به رسل الله جميعًا، ذلك أن رسوخ هذه العقيدة فى النفس الإنسانية يسمو بها عن الماديات الوضيعة، ويوجهها دائمًا وجهة الخير والنبل، والنزاهة والشرف. وإذا سيطرت هذه العقيدة، أثمرت الفضائل الإنسانية العليا من الشجاعة والكرم، والسماحة، والطمأنينة، والإيثار، والتضحية. والتمكين لهذه العقيدة هو الذى يهذب الحياة، ويرقيها، ويصل بها إلى المدنية الحقة، ويبلغها ما تنشده من الخير والتقدم، وما تستهدفه من الحق والعدل فينعم الفرد، وتسعد الجماعة، وتحيا الحياة الطيبة. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬1). ¬

(¬1) سورة النحل - الآية 97.

وفى ظلال العقيدة، تتوافر عناصر الارتقاء المادى والروحى، ويجد الإنسان من عناية الله وولايته وكرامته، ما يبلغه ذروة الكمال الذى أراده الله له. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬1). {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). والعقيدة مثلها مثل الشجرة الطيبة التى لا ينقطع ثمرها، فهى تؤتى أكلها كل حين: فى صيف أو شتاء، ليل أو نهار، والمؤمن كذلك لا يزال يرفع له عمل صالح فى كل وقت وحين؛ ولهذا كثر فى القرآن الكريم اقتران الإيمان بالعمل الصالح، لأنه ثمرة من ثماره، وأثر من آثاره، وما أصدق قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (¬3). ولقد كان لعقيدة الإيمان فى تربية المؤمنين الأولين الأثر الكبير، فهى التى زكت النفوس، وطهرتها من الحسد والحقد، والكبر والعجب، والفسق والفحش، والظلم والجور، والقوة والغلظة، والأثرة والأنانية. وهى التى خلصتهم من درن التربية الفاسدة، ووضر البيئة الرديئة، وشر الوراثات الدنيئة. وهى التى أعلت هممهم، فطلبوا معالى الأمور، ووطنوا أنفسهم على إمامة ¬

(¬1) سورة البقرة - الآية 257. (¬2) سورة الحج - الآية 54. (¬3) سورة إبراهيم - الآية 24، 25.

البشر، وقيادة الأمم، وتحريرها من الخرافات، واستبداد الملوك، وتطهير الأرض من الكفر والفساد. وهى التى مكنت لهم من الفتح والظفر، والعلم والعمل، وإقامة الحضارة التى شع نورها، وعم خيرها مشارق الأرض ومغاربها، فى سنين تعد على الأصابع. قال الدكتور " غوستاف لبون " فى كتابه " تطور الأمم: " إن ملكة الفنون لا يتم تكوينها لأمة من الأمم الناهضة إلا فى ثلاثة أجيال: أولها: جيل التقليد. ثانيها: جيل الخضرمة. ثالثها: جيل الاستقلال والاختصاص. إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الفنون فى الجيل الأول الذى بدءوا فيه بمزاولتها ". وما أصدق ما قاله النابغة الجعدى: بلغنا السماء مجدُنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: «ما المظهر يا أبا ليلى؟» قال: الجنة، قال: «إن شاء الله .. !».

§1/1