العزف على أنوار الذكر

محمود توفيق محمد سعد

عزف

العزفُ على أنوار الذِّكر معالم الطريق إلى فقه المعنى القرآنيّ في سياق السورة إعداد محمود توفيق محمد سعد أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف شبين الكوم 1424هـ الطبعة الأولى: 1424هـ الحقوق محفوظة للمؤلف المحتويات المقدمة المخل إلى المنهج الدعوة إلى التدبر مفهوم التدبر المبتغَى إليه بالتدبر مفهوم المعنى القرآني مجال التدبر والبحث عن المعنى القرآني مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني توطئة ***************** الفصل الأول فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآني تنزلات القرآن وجه تسمية الفاتحة أم الكتاب محور المعنى في أم الكتاب البقرة رأس التفصيل وسنامه أنواع المعنى القرآني في السورة علاقة ذلك بتبيان موقع السورة على السياق الكلي علاقة هذا بغرض عبد القراهر من كتابه (أسرار البلاغة) مذهب السيوطي في بيان موقع السورة على السياق القرآني تأويل مذهبه مذهب شيخنا أبي موسى في علاقة الطواسيم ببعضها وموقع كل على السياق القرآني عناية البقاعي بموقع السورة في السياق القرآني بيانه علاقة البقرة بالفاتحة علاقة آل عمران بالبقرة والفاتحة مذهبه في تناسل مقاصد السور مذهبه في تقسم القرآن الكريم إلى مراحل علاقة مفتتح ومختتم كل مرحلة بمفتتح ومختتم المراحل الأخرى علاقة السور المفتتحة بالحمد ومواقعها في السياق القرآني مذهب السعد التفتازاني تفصيل البقاعي مذهب السعد تأويل الفصل بين السور المستفتحة بالحمد علاقة هذه السور الفاصلة بما قبلها وما بعدها ************** الفصل الثاني فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم وجه تفصيل القرآن إلى سور دلالة التسمية بالسورة على وحدة المقصد من إعجاز القرآن عجز الخلائق عن إعادة نسق ترتيب آيات سوره فريضة العناية بالنظر في أول الكلام وآخره لمن تدبّر موقف الشاطبي من غاية الفقه وغاية البياني من تدبر القرآن الكريم أثر ذلك في تدبر وحدة مقصود السورة لكل سورة طابعها الروحي مذهب الشيخ دراز تحقيق المقصود سبيل إلى عرفان تناسب الآيات تشبيه السورة بالشجرة في تناسبها تشبيه السورة بالدائرة في بنائها تكرار القصص ووحدة مقصود السورة المقصد الكلّي هو الروح المهيمن روح التركيب عند الرافعي أثر روح التركيب في تمازج السياقين التشريعي والتكليفي في القرآن لا تفاوت بين بلاغة ضروب البيان التشريعي والتثقيفي روافد استصار المقصود الأعظم في السورة: اسم السورة منهج التسمية ووجه الدلالة فاتحة السورة خاتمةالسورة تدبر الفروق البيانية بين المعاني الكلية المصرفة في السورة تدبر المعاني الكلية الخاصة تدبر الفروق البيانية بين المعاني الجزئية المصرفة في السورة تكرار أو تصريف نمط تركيبي في سياق السورة المعجم اللغوي *********** الفصل الثالث تقسيم السورة إلى معاقد كلية اشتمال السور على معانٍ كلية مترابطة أساس تقسيم السور إلى معاقد كلية أثر هذا التقسيم تقسيم سورة البقرة إلى معاقد: المطلع والمقدمة - قلب السورة - خاتمتها تأصيل ذلك من السنّة والآثار الموقوفة والمرفوعة. مذهب الشيخ دراز في تقسيمها ما أذهب إليه في تقسيم سورة البقرة ووجه ذلك الاختيار علاقة معاقد سورة البقرة ببعضها ************ الفصل الرابع التحليل البياني لكلمات وجمل وآيات السورة بين يدي السفر في التأويل التحليل البياني هو القادر على إضاءة السورة من داخلها التحليل البياني قراءة تأويلية لبيان السورة منزلة الذاتية في التحليل البيلاني ما يقوم عليه المنهج اهمية العناية بالتصريف البياني عن المعنى القرآني في منهج التحليل البياني أهميبة العناية بتوجيه القراءات القرآنية في منهج التحليل البياني التحليل البياني بين التفكيك والتركيب مجال التحليل البياني للسورة التحليل البياني للمفردات التحليل البياني للتراكيب التحليل البياني للصورة البيانية التحليل البيان للجرس والإيقاع فاصلة القول بيان مهم هذا الكتاب نشرته في مصر، وقد تمَّ تدريسه لطلاب جامعة الأزهر كلية اللغة العربية في مادة (قاعة البحث البلاغي) ومن شاء أن يطبعه وينشره في طلاب العلم فله ذلك شريطة الحصول على إذن كتابيّ من المؤلف على عنوانه الآتي: جمهورية مصر العربية - القاهرة - حدائق الزيتون رقم بريدي 11321 شارع سنَّان باشا رقم 17 - برج حمادة الشفة رقم 411

بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . أما بعد: فإن كلّ أمة من الأمم تتخذ لنفسها منهاجًا تقيم شؤون حياتها عليه وتجعل لها " دستورًا" تضبط به حركتها وحركة القائمين على شؤونها، وتندبُ ثُلّة من خيرتها للقيام على هذا المنهاجِ وذلك "الدستور" تعلمًا وتفقها ورعاية وتجديدًا وتقويًمًا. أمر لا تكاد تجد عاقلا ينكرُه.والأمة الإسلامية لم يرض الله - عز وجل - أن يحمِّلها عِبْءَ تأسيس هذا المنهاج و"الدستور" والحفاظ عليه، فتكفل لها بذلك من فيض رحمانيته ورحيميته، فأنزل صفوة ملائكته "جبريل"- عليه السلام - على صفوة خلقه أجمعين: سيدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بأعظم كتاب ومنهاج:القرآن الكريم، ليبنه للناس {ِ.....وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: من الآية 44) {.....وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: من الآية 89) وتكفل بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) فمُنَزِّلُه هو حافظُه من التحريف والتغيير، وحافظُه من أن يكون في الأمَّة نازلةٌ يعجزُ القرآن الكريمُ عن إحسان بيان سواء الصراط فيها، فجعله كتابا مباركًا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) ، {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (الانبياء:50) {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَأُولُوالأَلْبَابِ} (صّ:29) فهو دائم الخير والعطاء، ليس كمثله مناهج الخَلْقِ ودساتيرهم المفتقرة إلى تقويم وتجديد وتغيير بحذفٍ وإضافة ... تكفّل الله - سبحانه وتعالى - بذلك، وزاد الأمة تشريفا بأن حَمَلَها إلى أن تقوم بشرف فقهه وفهمه وتدبره واستخراج مكنون أسرار عطائه ونواله { ... فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: من الآية 122)

وحثهم على التدبر: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (صّ:29) {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82) {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24) وهذا التدبّرُ سبيلٌ مُمْتَدٌّ مُتًراحِبٌ تتعدَّدُ مناهج تحقيقه بتعدد الغايات المنشودة من القيام به والثمار المرجوِّ اجتناؤها، فلكلِّ متدبِّرٍطَلِبته وقطُوفٌ يبتغى جناها، وتتعدَّدُ أدواتُه وآلاتُه، وعلى قدر ما يمتلك المرءُ منها ويُحْسِنُ الانتفاعَ بها يكون نواله وعطاؤه. وهذا ما كان باعثًا لي إلى أنْ أقيمَ هذا الكتابَ، وأنْ أنشرَه في طُلابِ العلم الشريف غاية ووسيلة ومقامًا. أقيمه وأنشره احتسابًا ليكونَ على ثغرٍ من الثغور التي يتكاثر أعداء الأمة على اقتحامها وإتيان الأمَّة منها، فلم يعد العدوان العسكري المسلح هو السبيل الوحيد إلى امتلاك أعدائنا لديارنا وقلوبنا، بل هم يُمَهِّدُون لذلك بضروب من الغزو، منها الغزو الثقافي والعلمي والخلقي والنفسي، فمن ملك العقول والوجدان ملك الشعوب والأوطان. وأيّ أمة لا تُعِدّ جندَها على تلك الثغور يجاهدون هذه الضروبَ من الغزوِ اللطيفِ الخبيثِ على قدرِ ما تُعِدُّ جُندَها لميادين الجهادِ المُسلِّح بالسيفِ والرُّمحِ هِيَ أمَّةٌ لا شَكَّ خاسِرةٌ النِّزالَ في ميدان القتال بالسيفِ والرّمحِ، وإن امتلكت أحدثَ وأعظم ما تُنْتِجُهُ البشريّة من أسلحةٍ وإِنْ أحْسَنَتْ استخدامها وتطويرها. نصرُ أيِّ أمَّةٍ أو هزيمتها مؤسّسٌ على نصرِها أوهزيمتها في ميادين الجهاد الثقافي والعلمي والخلقي والنفسي، فمن ملك هذه الأبعاد من أي أمة ملكها كلها من هنا كان تداعِي الأمم علينا في هذه الميادين أشد وأنكى.

أعداء هذه الأمة – وهم اليوم كُثْر- قد علموا أنَّ الحصن المنيع والحبل المديد المتين الذي لن تضل الأمة ما إن تمسكت به إنَّما هو الكتاب والسنة، ومن ثَم تكالبت وتظاهرت لتفتننا في أمرهما، هم يعلمون أنهم لن يتمكنوا من العباد والبلاد إلا إذا أحكموا تضليل الأمة في فقه وتدبر الكتاب والسنة،ولذلك تنادت النخبة المثقفة والصفوة المستنيرة بفريضة إعادة قراءة القرآن الكريم قراءة معاصرة. و (القراءة المعاصرة) أو (إعادة قراءة القرآن) هي كلمة يراد بها غير ما جاءت به السنّة النبوة: تبشيرًا وتكليفا: «إنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهذهِ الأمّة عَلَى رَاسِ كُلِّ مِئَةِ عَامٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دينَها» (أبوداود: الملاحم) القراءة المعاصرة ترمي إلى اتخاذ منهاج يفسر النص في حركة الفعل الإنساني، فلكلّ عصر ومصر قرآنه، لأنَّ القرآنَ حَمَّالٌ ذو وجوه يَصْلُح لكلّ زمان ومكان: يصلح للمسجد والملهى والمرقص ... ... ومن ثَمَّ تنادى القوم بما أسموه {تجديد الخطاب الدّيني} وهو ولا شكَّ في هذا إنما يريد منه بعض الناعقين به الآن الإعراض عمَّا جاء عن سلف الأمة في فهم الكتاب والسنّة والإغراء بما جاء في لسان. كثير من أدعياء التنوير العلمانيّ المقيت. وتسارعت ثلّة ممن ينتسب إلى أهل العلم فنعقت بما نعق به العلمانيون الذين سعوا إلى أن تجري الكلمة {تجديد الخطاب الديني} على لسان كبيرهم حتّى تملك قدسيّة تحجز الألسنة عن أن تنقض أو تنقد. ليس " تجديد الخطاب الديني" في لسان بطانة السلطان هو التجديد الذي بشرت به الحكمة النبوية. التجديد الذي هدت إليه السنّة النبوية يرمي إلى تجديد تديُّن الأمة وفق الفهم الصحيح لما جاء به بيان الوحي تجديد انبعاث الأمة وإقبالها على ربها بما شرعه لها لا بما شرعته هي لنفسها

القرآن الكريم في التجديد النبويّ يَصْلح لكل زمان ومكان بإصْلاحِ كلِّ زمان ومكان، وما من نازلة في عَصْرٍ ومِصْرٍ إلا ولها ما يهدي في شأنها إلى سواء الصراط: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى:53) التجديد النبوي في قراءة القرآن الكريم لاستنباط ما يقيم الأمة على محجة بيضاء ليلها كنهارها جلاء ونورًا له ضوابطه وآدابه، وله رجاله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ} (النور:37) {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الاسراء: من الآية57) وهذا ما يسعى إليه هذا الكتاب (العزف على أنوار الذكر:معالم الطريق إلى فقه المعنى القرآني في سياق السورة) يسعى إلى أن يشير إلى منهجٍ تدبريًٍّ يعين عَلَى اجتناء المعاني البيانية للقرآن الكريم في سياق السورة تأسيسًا على أنها وحدة التحدّي الصغرى؛ لتكون زادًا إلى حسن فقه مراد ربنا - جل جلاله -َ منا، فنسعى إلى التصاعد في سبيل تحقيق ما يحب - عز وجل - ويرضى. وهذا الذي أسْطُرُه منهاجًا تدبريًّا لبيان القرآن الكريم لايَسْتَهْتِرُ بتطبيق ما يقوم فيه من أصولٍ كليّةٍ ومعالمَ إرشادِيّةٍ تحْمِلُ النَّاظِرَ فيها إلى غايةٍ شريفةٍ نبيلةٍ، ولكنَّها لاتحمُله عليها منهاجٌ يُقِيمُك على مقرُبةٍ لِتُبْصِرَ، ولا يُقِيمُك فِيه فَتُؤسَرَ، يغريك تجريبًا، ولا يَقْسِرُك تطبيقًا. في التطبيق تقديس، وفي التّجريب تقويم وتزكية كلّ تجْريبٍ يُضِيفُ إلى المنهاج ما يُحَقِّقُ له التَّخلُّصَ مما غيرُه أزكى وأندَى

التطبيق يسْطِيعُه ناشئٌ قد لايملك التّحصُّنَ ممَّا قدْ يَأْتَلِقُ من المنهاج الذي بين يديه؛ لأنَّه يمكث قي المنهج، فيأسره، ولا يملك أن يَجُوسَ خلاله يَسْتَكْشِفُ عَوَارَهُ، فإذا هو بتطبيقه يلقِي على ذلك المنهاجِ طَيْلَسَانَ التّقديس ... والتجريب لايقوم به إلا مُتَمكّنُ من استيصارِ أبعاد المنهاج الذي بين يديه نافذ البصيرة فيه، فلا يسيطرُ المنهاج علَيْهِ؛ لأنه لا يمكث في المنهاج بل يقيمه بين ناظريه، يتفرَّسُهُ فيقوم ويسدّد. صاحب المنهاج هو أقرب إلى التطبيق منه إلى التجريب مالم يكن فحلا، ذلك انَّ صاحبَ المنهاجِ وثيق الاعتلاق بما وضع من أصوله ومعالمه، إذ هو وليد قلبه ولسانه، فقد يغفُل، فلا يفتش عمّا فيه من خَلَلٍ، وذلك غير حميد، وإنجاز التجريب من الآخر آمَنُ عُقْبَى، وأوفرُ ثمرًا والربّانيون من أهل العلْم لا يحملون تلاميذهم على مناهجهم، بل يحملونهم إليها حمل إبانة، ويغرونهم بالمناقدة المؤسَّسة على عرفانٍ نافذٍ محيط بما هم قائمون له، ويذكرونهم بأنَّهم في سياق المناقدة والتفتيش عن الأعلى والأزكى والأذكى (الأكمل) قائمون في طاعة سيدهم النبي المكرم سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مؤذنًا فينا: «لا تكونُوا إِمّعَةً: تقُولُونَ: إِنْ أحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإنْ أَسَاءوا فَلا تَظْلِمُوا» (رواه الترمِذي: كتاب البِرّ - حديث: 2007)

وفي تسميته الإساءة في العمل: قولا وفعلا ظلمًا دلالة بينة على أنَّ من لم يجتهد في البلوغ بعمله: قولا وفعلا درجة الإحسان، فإنَّه ظالمٌ نفسَه أَوَّلا؛ إذ حرمها أن تكون مع المحسنين في الدنيا والآخرة، وصحبة أولئك هي النعيم العظيم، وإنّه أيضًا ظالمٌ أمَّتَهُ؛ إذ حرمها أن تنعم بنعمة ما هو الحسن قولا وفعلا، وقد حثّنا بيان الوحي قرآنا وسنة على أن نحسن إلى الصاحب بالجنب، فكيف بمن فوقه؟!! وتدبر قوله - صلى الله عليه وسلم - َ:" وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ " فإنّها هادية إلى الإبلاغ في ترويض النفس وتهذيبها وتدريبها على أن تسكن إلى الإحسان وإن تفردت به، ولم تجد لها عليه ناصرًا ومعينا. وفي هذا هداية إلى أن العقبى لمن أحسن وإن قلَّ عددا،، فلا اغترار لمسلم بما كثر عدده وساء عمله، ولا اغترار بأن الصواب مع الأغلبية، فلم تكن الأغلبية في معايير أهل الفضل أبدًا لكن في قوم يستنصرون بالدهماء والغوغاء، ولا ينظرون إلى الأمرِ فِي نفسه، بل إلى من هو قائم له وبه، فالحق عندهم ما قام به الأغنياء والصفوة من بطانة السلطان وحزبه، والقرآن الكريم يقررغير ذلك: يقرر أن أكثر النَّاس لا يعلمون: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام:116) {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: من الآية187) {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (هود: من الآية17) إن ما جاء في بيان الوحي قرآنًا وسنة في الدعوة إلى الإنقان والإحسان لَجِدُّ كثير لا يتسع المقام للإشارة إليه.

والله - سبحانه وتعالى - أسأله هداية إبانة وإعانة وأسأله أن يصحِّح نياتنا ويجعلَها خالصة له من قبل إِقْدَامِنا وفي سعينا، وعاجل أمرنا وآجله، وأن يرفع ذكرنا بالقرآن الكريم بين عباده الصالحين في الدنيا والآخرة. وصَلّى وسلّم وبارك على عبده ونبيه ورسُولِه سيدِنا محمّدٍ بنِ عبدِ الله وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وأُمَّتِه فِي كُلِّ لَمْحَةٍ وَنَفَسٍ عَدَدَ خَلقهِ وَرِضَاءَ نَفْسِه وزنّةَ عرْشِهِ وَمدادَ كَلِمَاتَه، كَما يُحِبُّ وَيَرْضى صلاة وسلاما وبركة يجمعنا بها مع عبده ونبيه سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا يوم القيامة في فردوسه الأعلى آمين أمين آمين رَ بَّ العالمين. لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وكتَبَه محمود توفيق محمد سعد أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف (شبين الكوم) القاهرة - حدائق الزيتون رجب المعظم: 1424

المدخل إلى المنهج

المدخل إلى المنهج نزَّل الله - عز وجل - القرآنَ الكريم ليكون آية على صحة نبوة عبده سيّدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق دعوته وليكون تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وهذا يقتضِي أن يكون من بعد كمال الإيمان به حسنُ ترتيله وحسن تدبره والعمل بما فيه وتعليمه والدعوة إليه بلسان الحال ولسان المقال ولهذا تسمع قول الحق - سبحانه وتعالى - مقررًا أنَّه قد أنزله مباركًا ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (صّ:29) فهذه (اللام) في (ليَدّبّروا) و (ليتذكر) لام الغاية والحكمة، فمن لم يأخذ حظَّه من مدخولهما لن يأخذ حظه من بركته، فعلى قدر سعيك إلى اكتساب حظك من التَّدبُّر والتَّذكُّر يكون حظك من بركة هذا الكتاب العظيم، وقد وصف الله - جل جلاله - القرآن الكريم في مواضع بالبركة: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام:92) {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (الانبياء:50) والبركة من الكلمات الحبيبة التي تنشرح لها قلوب العباد، فإنَّها مرتبطة في وعيهم بالنماء والزيادة، وقد يغفلون عن معنى الثبات والدوام الذي تتضمنه الكلمة، فقرر بهذه الكلمة نَعْتينِ للكتاب: تجدد عطائه ودوام نفعه. ومن ثَمَّ حثّ على تدبره لاستخراج ما فيه من خير متجدد لا يزول ولا يحول ولا يغيض، فهو لا يَصْلُحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وعصرٍ ومصرٍ فحسب بل هو يُصلِح كلّ ذلك ويقومه ويقيمه على سواء الصراط: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الاسراء:9) {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} (الاسراء:82)

وأنت إذ تنظر في قول الله - عز وجل -: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (صّ:29) تر أنّه - سبحانه وتعالى - قال (ليدّبروا) في قراءة الجماعة، ولتَدَبَّرُا في قراءة أبي جعفر. قراءة "أبي جعفر" بالتاء (المثناة الفوقية) هي لكل من يصح خطابه ولا سيما من كان أمة الإجابة وعلى رأسها المخاطب بصدر الآية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقراءة الجماعة بالياء (المثناة التحتية) لم تعين مرجع (الواو) كمثل ما جاء التعيين في (ليَتذَكّر) إذ جعله من أولي الألباب (وَلِيَتَذَكّرَ أُولُو الألْبَاب) ، إشارة إلى أنَّ التَّذكُّرَ منزلةٌ مُتَرَتِّبَةٌ على حسن التدبر، فمن قام بشيءٍ من حق التَّدبُّر كان له من التذكر نصيب على قدر لبّه، وكثيرًا ما يقرِنُ التذكر بأولي الألباب: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} (البقرة:269) واللب هو خالص القلب الذي به يكون التعقل والتفكر والتذكر، والله - عز وجل - قدْ حَثَّ عبادَه على تدبُّره مقررًا اتِّساقه قائلا - سبحانه وتعالى -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82) فقرر أنَّ ما يكون من عند غير الله - سبحانه وتعالى - فيه الاختلاف الكثير أمَّا ما كان من عنده - جل جلاله - فلا اختلاف فيه البتة، ولكنْ فيه تصريفُ البيان عن المعاني المحقق لبيان المراد كماله

مفهوم التدبر.

وفي هذا دعوة ربانية وإغراء كريم بالعكوف على تدبُّر البيان القرآنيّ والوقوف على اتساقه وتناسبه، فإنه لن يؤمن المرء بأن القرآن الكريم من عند الله - عز وجل - إيمانا مؤسسًا على علم وعرفان إلا إذا استفرغ جهده في هذا التدبّر، فهو من جليل العبادات. مفهوم التدبر. التَّدبُّر في لسان العرب: النظر الثاقب في أدبار الأمور والوقوف على ما تنتهي إليه. وهو عند أهل العلم بكتاب الله - عز وجل -: العمل على تحقيق وتحديق النظر في ما يبلغه المعنى القرآني المَدِيدُ من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم. وهذا نظر لا يتناهَى، فإن المعنى القرآني له أصل يبدأ منه ولكن منتهاه لا يكاد يبلغه أحدٌ من العباد، فصاحب القرآن الكريم في سفر دائم طلبًا للمزيد من المعنى القرآني. وكلّ تَعَقُلٍ وتَفَكُّرٍ وتَفَقُّهٍ وتَفَهُّمٍ للبيان القرآني لا يحقق العلم بدرجة من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم لا يكون من تدبر القرآن الكريم في شيْءٍ. المبتغى إليه بالتّدبر. إذا ما كان التدبر فريضة، فما المغزى الذي يُجَيِّشُ صاحبُ القرآنِ الكريمُِ وقدراته وووسائله ويجمع زادَه ليبلغه أو ليحوم حول حماه؟ أنزل القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون هدى ورحمة وبشرى لعباده: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23)

، وهذا لا يتحقق بالوقوف عند تلاوة كلماته، وجعل تلاوته عملا ليس من ورائه شيء، ففي ذلك تعطيل للأمر بتدبره: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (صّ:29) والتدبُّر لا يكون إلاّ لما هو مكنون في الكلم من المعاني، ومن ثمّ كان المبتغى بالتدبرهوالمعنى القرآني الكريم، وهذا هو مناط البركة الرئيس وإذا ما نظرنا في مدلول كلمة معنى في لسان العرب إلفينا أن مادة (عني) اليائية اللام تدلُّ على القصد والاهتمام والإظهار وتدل أيضا على المقاساة والتجشم. تقول العرب:عنيت كذا: قصدته وعنت القرية: أظهرت ماءها وعنت الأرض: أنبتت نبتا حسنا وتقول:عانيت الأمر: قاسيته وتعناه: تجشمه، وعناه الأمر: أهمه أما المعنى الاصطلاحى لكلمة (معنى) فقد لقى اختلافا بالغا بين العلوم المختلفة. ذات العلاقة باللغة، ومرد اختلافهم فى تحرير المعنى الاصطلاحى لكلمة (معنى) هو اختلافهم حول وظيفة اللغة (1)) ونحن لا نرمى إلى النظر فى معنى (المعنى اللغوى) على إطلاقه بل إلى (المعنى القرآنى) بهذا النعت التقييدي الجليل، ولذلك لن نبحر فى قاموس الاختلاف بين أهل العلم فى بيان معنى المعنى وإنما سنعمد إلى تبيان مرادنا من معنى (المعنى القرآنى)

_ (1) راجع في هذا:التعريفات للسيد الشريف:122، معجم النقد العربي القديم لمطلوب:2/310+326، ومعجم المصطلحات العربية لمجدي وهبة:374،علم النفس اللغوي لنوال عطية:20،42،45، مفهوم المعنى لعزمي سلام:24، سيكولوجية اللغة لجمعة يوسف:125، دور الكلمة في اللغة لستيفان أولمان ترجمة كمال بشر:61، اللغة مبناها ومعناها لتمام حسان: 24

وغير خفى أن الحديث عن المعنى القرآنيّ لا يقصد إلى معانى كلمات القرآن الكريم فى حقلها المعجمى ووجودها الإفراديّ ذلك " أن الألفاظ المفردة التى هى أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها فى أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما من فوائد " (1) ومن ثَمَّ فإنَّا إلى المعني المَنْسُولِ من أوضاع الكلمات التى تحدث بالتأليف والتركيب والبناء وهذه الأحكام وتلك المعانى هى التى كان بها الهدى، وكان بها المنهج الذى عليه تقوم الأمة المسلمة. وفى سعينا إلى تبيان معنى (المعنى القرآنى) علينا أن نتذكر أنَّ الدلالة المعجمية لكلمة (عنى) ذات بُعْدَين رئيسين: بُعْدُ القصد والاهتمام ِ، وبُعْدُ الظّهورِ الذى يرجع إلى المتكلم إنَّما هو بُعْدُ القصد والاهتمام أمَّا بُعْدُ الظهور فإنَّما يرجع إلى الكلام نفسِه من وجه وإلى المخاطَبِ به من وجهٍ آخر. البعْدُ الأول: (القصد) ليس لنا أن نزعم في تدبر البيان القرآني سعيًا إلى إدراك المعنى القرآني أنّنا نملكُ القطع بتحريره وتحقيقه من بيانه القرآنىّ، فإنَّ ما تفهمه الأمَّة من كلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس هو عين مراده من كلامه الموحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك أن القطع بأن ذلك المعنى من هذه الآية مثلا هو عين مراد الله - عز وجل - منها إنما يكون بطريق توقيفى صحيح الإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) ولا يستطيع متلقٍ بيانَ القرآن الكريم الزعمَ يتطابق إدراكه مع مراد الله تعالى لأنَّ القول بهذا فيه جرأة على الله - جل جلاله - ? المعنى القرآنيّ ضربان:

_ (1) دلائل الإعجاز – عبد القاهر - ت: شاكر:539 (2) الزركشي: البرهان في علوم القرآن – ت: محمد أبو الفضل:1/16

(الاول) المعنى القصْدِيّ، وهذا هو عين مراد الله - سبحانه وتعالى -،وهو معنى توفيقى ليس لنا معه إلا الاجتهاد فى فهمه حين يبلغنا بسند صحيح عن سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -. (والآخر) المعنى الإدراكِيّ وهو كلُّ ما يدركه أهلُ العلم والتَّدبُّر من النَّصِّ القرآنيّ وفقا لأصول الإدراك والتَّدبُّر وضوابطها وهذا الضرب (المعنى الإدراكى) هو مناط دراستنا ونستطيع أن نعرفه الآن: «كلُّ مايدركه ويستنبطه أهلُ العلم من النَّصِّ فى سياق السورة المقاليّ والمقاميّ وفقا لأصول وضوابط الفهم والاستنباط» ذلك هو المبتغَى من التَّدبّر. ووجه هذا أنَّه ما كان الاستنباط من النصّ وفق الأصول العلمية للاستنباط قائمًا به من هو أهل لذلك الاستنباط، فإنَّ ثمرة ذلك مما يريد الله - عز وجل - من عباده أن يعرفوه،ويريد أن يبلغهم عنه؛ لأنَّه لو كان ذلك لا يريد إبلاغه إلينا لأقامَ في بيانه من القرائن ما يصرفُنا عن فقهه، فذلك حق المستمع على المتكلم،وقد جاء عن أهل العلم أن من البلاغة ألاَّ يؤتَى السَّامع من قِبَلِ المتكلم، بألاَّ يقيمَ المنائرَعلى الطريق، وألاَّ يضعَ القرائن المُعِينَة على فقه المراد الصَّارفة عمَّا لا يريد. مجال التَّدبّر والبحث عن المعنى القرآنيّ: إذا ما كان المعْنَى القرآني هو بغية المتدبر طَلِبَتِه التي يرتحل إليها، فإن لهذا التَّدبُّر المبتغِي نوالَ المعنى القرآنيّ مجالا تتوالى فيه حركة المتدبّر حلولا وارتحالا، لا يتوقف، ولا يعرف منتهًى ينتهي عِنده؛ ليعقل الراحلة ويحطَّ الرَّحْلَ.

ويمكننا أن نقول إنّ مجال التدبر يتنوع، فقد يكون مجالا موضوعيًّا بأن يجمع المتدبّر الآيات الدَّالة على غرض معين كغرض الجهاد أو التعاون على البرّ،او النهي عن المنكر، فيجمع تلك الآيات ويتخذ له منهاج ترتيب وتصنيف وفقًا لما قد يصطفي،ويبحث عن مناهج التصوير التي اتخذها القرآن الكريم في تصوير ذلك المعنى وفي إيصال ذلك الغرض والمقصد إلى القلب في أحسن صُورة من اللفظ كما يقول الرمَّانيّ. وقد يكون مجالا أسلوبيًّا كأن يتخذ أسلوب التشيبيه في القرآن كله أو في سورة من السّورأوموضوع من الموضوعات، فيجمع الآيات التي بنيت على التشبيه لينظر في الأغراض والمقاصدالتي استخدم التشبيه لتصويرها. وقد يكون مجالا سياقيًا كأن يجعل مجال بحثه عن المعنى القرآني هو سياق ترتيل سورة ما باعتبار أن وحدة التحدي هي السورة فِي سياقِ التِّلاوَةِ نرى أربع دوائر يحيط بعضها ببعض وفقا لاتساع كلّ دائرة، فكلُّ دائرة منها هي أقل اتساعًا تقوم في رحم الدائرة الأوسع. تلك الدوائر هي دائرة الآية، فالمَعْقِدِ، فالسّورة ِ، فالقرآنِ الكريمِ، ويُمْكِنُكَ أن تقول هي خمس دوائر بجعلك الجملة دائرة تحيط بها دائرة الآية، تحيط بها دائرة المعْقِد، تحيط بها دائرة السورة، تحيط بجميع الدوائر دائرةُ السياقِ القرآنِيِّ الكريمِ المعنى القرآني المُجْتَنَى منْ تَدَبُّرِ الجملة في سياق الآية يغلب عليه أنّه معنى قريب، وبرغمٍ من قُرْبِه هو معْنًى كريمٌ وَمُهمٌ، بل هو متعلِّقٌ بما يُعدّ أساسَ المعانِي التي تُنْسَلُ منه فهو أصل المعنى الجمهوريّ للنصّ، ويمكن لمن يكتفي بمثل ذلك الزاد أن يبصر الطريق به إلى مرضاة ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخذًا وتركًا في حركة حياته، وهذا من تيسير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىعلى عباده الذين ليس لهم قدَمٌ في طلب العلم بالكتاب والسنة

فأنت إذا ما نظرت في قول الله - سبحانه وتعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19) وتدبرت قوله - عز وجل -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} وحده من غير أن تربطه بسياقه المقاليّ والمقامي، فإنّك تصل إلى أنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤه يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأمته من بعده أن يعلم أن الله - سبحانه وتعالى - واحد. وهذا المعنى إذا ملأ القلب كفاه زادًا في سعيه في هذه الحياة، ولكنَّ من وراء هذا المعنى الجمهوري المأخوذ من هذه الجملة القرآنية وحدها دون ربطها ببقية الآية وبسياقها المُمْتَدِّ في السورة وسياقها المقامي معانيَ متصاعدةً تتوافدُ عليك كلَّما وسعت دائرة التبصّر والتّدبر. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحثنا على ألاَّ نرضى بالوقوف عند أوّل المَدْرََجَةِ إذا ما كان بمَُلكِنا أن نتصاعد، فنجتني الأوفر والأكبر: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... } (الزمر من الآية:55) فإنَّ من وجوه المعنى – فيما أذهب إليه -: أنَّ ما أنزل إلينا من ربنا - عَزَّ اسْمُهُ - ذو عطاءٍ متكاثرٍ، فعلينا أن نتبع أحسنه عطاءً لقلوبنا، فإنَّ لكل قلبٍ مُعافََى من داء الغفلةِ من المعاني القرآنية ما يُحْسِنُ إليه غذاء وشفاء،فيحسن حاله به والمرءُ السّويّ أبصر بما يصلح قلبه ونفسه، فعليه أن يتبع.

وإذا ما تجاوز صاحب القرآن الكريمُِ في تدبّره دائرة الجملة إلى دائرة الآية كان مجتنى تدبّره أبسطَ وألطفَ وأحكمَ إذا ما كانت الآية ذات معنى يمكن الوقوف عنده دون أن يفتقر المرءُ افتقارًا بالغا إلى أن يقرنَ بها غيرها، وهذا هو الغالب على كثير من آيات القرآن الكريم، ولا سيّما آيات السور الكثير عدد آياتها. وبعضُ آيات القرآن الكريم تكون بالنسبة إلى أختها كالكلمة بالنسبة إلى أختها في بناء الآية؛ لتعلُّق الأخرى بها تعلقًا تركيبيا يصير بعض الآية التالية مكمِّلا بناءَ المعنى في الجملة السابقة ذلك أنَّ تفصيل السورة القرآنية إلى آيات ليس معياره لغويًّا نحويًّا تركيبيًّا، بل من وراء ذلك حكم لطيفة قد لا يتيسر لنا إدراكها. وقد جاء في خبر موقوف عن أم المؤمنيبن سيدتنا " عائشة بنت الصديق – رضي الله عنهما -: " أنها قالت: إن عدد آيات القرآن الكريم على عدد درج الجنة، وكلَّما قرأ صاحب القرآن آية ارتقي في الجنة درجة." ومثل هذا لا يكون من أمِّ المؤمنين أو أحدٍ من الصحابة غيرها من عند نفسه بل هو في حكم المرفوع. المهم أن المعنى القرآني المجْتَنَى من تدبر الآية أوفر عطاء وألطف نوالاً من المعنَى المجتنَى بتدبّر الجملة القرآنية في سياق الآية. ***

وإذا ما تجاوز صاحب القرآن الكريم في تدبره دائرة الآية إلى دائرة المعقد المتشكل من مجموع آيات ذات موضوع واحد كالمعقد الذي يجمع آيات تصنيف الناس إلى ثلاث في صدر سورة البقرة أو المعقد الذي يجمع آيات الإنفاق في سبيل الله - سبحانه وتعالى - وفي غيرسبيله، وما يتعلق بالعلاقات المالية في خواتيم سورة البقرة،أو المعقد الجامع الآيات المتحدثة في شأن الدعوة في خواتيم سورة النحل أو الآيات التي تجمع سمات عباد الرحمن في خواتيم سورة الفرقان إلى غير ذلك – إذا ما جاز إلى تلك الدائرة فإنَّ دقائق من معاني القرآن الكريم تتقاطر عليه أو تترادف وفقَ منزلِه من الفقه والفهم عن الله ربّ العالمين. وتدبُّر المعقد ذو أهمية بليغة للمتدبر أيًّا كانت طلبته من صنوف المعاني القرآنية: صاحب معاني التشريع شأنُه شأن صاحب المعاني البيانيَّة تقتضيه طلبته ألاّ يأسر تبصُّرَه في دائرة الآية، فإنَّ غير قليل من معاني التشريع تقتضي النظر في عديد من الآيات المنسوق بعضها في إثر بعض،على أنَّ بعض المعاني التشريعية يمكن استفادتها من النَّظر في آية واحدة بخلاف المعاني البيانية، فطبيعة المعنى المبتغَى هو المقتضى مجال التدبر. فإذا أراد المتدبِّرُ ضربًا آعلى من دقائق المعاني ولطائفها، فإنَّه يتخذُ دائرة السُّورة مجالا يُعْمِلُ فيه بصيرته وفراسته البيانية، فإنَّ لكلِّ سورةٍ سياقا يوحد نسب آياتها، ويحقِّق الرَّحم القائم بينها، ومراعاة ذلك السياق فيه البرّ برحم المعنى القرآني في السورة،وفي نور السياق الممتد للسورة يتبين للمتدبِّرِ كثيرٌ من اللطائف. وقد أشار إلى ذلك " أبو إسحاق الشاطبي" في الموافقات ":

«الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدًا بكلّ اعتبار، بمعنى أنّه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت، وعليه أكثر سور المفصل،وتارة يكون متعددًا في الاعتبار بمعنى أنّه أنزل في قضايا متعددة كسورة البقرة ... ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة أم نزلت شيئًا بعد شيءٍ ولكن هذا القسم له اعتباران: *اعتبار من جهة تعدد القضايا، فتكون كلُّ قضية مختصة بنظرها،ومن هنالك [أي من النظر في كلّ قضية على حدتها] يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ... * واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة إذ هو ترتيب بالوحي لامدخل فيه لآراء الرجال ... فاعتبار جهة النظمِ مثلا في السورة لايتمُّ به فائدة إلاَّ بعد استيفاء جميعها بالنظر، فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أنَّ الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لايفيد إلاَّ بعد كمال النَّظر في جميعها.» (1) والمعنى المُجْتَنَى من التَّدبُّر في سياق السورة هو المعنى القرآني الذي أذهب إلى أن البحث عنه محقق لكثير من المعاني الإحسانية التي نحن في مزيد الافتقار إليها تفقُّهًا وتأدبا، ولهذا قلت في تعريف المعنى القرآني: "كلُّ مايدركه ويستنبطه أهلُ العلم من النَّصِّ فى سياق السورة المقاليّ والمقاميّ وفقا لأصول وضوابط الفهم والاستنباط" قلت (فى سياق السور) لأنَّ تمام المعنى لا يدرك فى سياقه الجزئى وإنما يدرك فى سياق السورة كلِّها التى هى وحدة التحدى، وكلُّ درس آية خارج سياق سورتها هو درس خداج عاجز عن استبصار كثير من وجوه المعنى القرآنى التى تغذو الروح واللب بلطائف المعانى الاحسانية. وما نجري في سياقه الآن إنَّما هو النَّظر في معالم فقه المعنى القرآني في سياق السورة. ***

_ (1) الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة: ج 3 ص 414- 415 - تح: عبد الله دراز.

ويبقى من بعد هذا المجال الأرحب للتدبر: دائرة السياق القرآني كله من مفتتح تلاوته: (أم الكتاب) إلى مختتم التلاوة: (سورة الناس) والمتدبِّر في تدبُّره في حركة متصاعدة بتصاعد المعنى القرآني، وجميع هذه المعاني المتصاعدة المبثوثة في آيات القرآن الكريم من مفتتح سورة (البقرة: سنام القرآن الكريم) إلى مختتم آيات (سورة الناس) هي تفصيل لما هو مجمل من المعاني في سورة الفاتحة (أم الكتاب) وكلُّ معنى قرآني هو منسولٌ من معنى من معاني سورة الفاتحة، ولهذا قرَّر أهل التحقيق أن (سورة الفاتحة: أم الكتاب) قد جمعت كل معاني القرآن الكريم على سبيل الإحكام، وسائر السور تفصيل لتلك المعاني، وكلام أهل العلم في هذا مبسوط في مواطنه. مجمل القول أن مجالَ التَّدبُّرِ من حيث اتساعه دوائر يحيط بالصغير منها ما هو أكبر منه حتّى تحيط دائرة السياق القرآني كلِّه بالدوائر كلِّها. ولكل دائرة من دوائر مجال التدبر مؤونتها وعطاؤها،وعلى قدْرِ الزَّاد الذي يحمل المتدبِّر والوسائل التي يمتلك والمنهج الذي به يأخذ يكون العطاء والنوال. ***

توطئة

مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني الفصل الأول: فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنى الفصل الثانى: فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم: الفصل الثالث:تقسيم السورة إلى معاقد الفصل الرابع:التحليل البياني للكلمات والجمل والآيات توطئة ... جمهور أهل العلم بالقرآن الكريم على أن أقل قدر تُحُدِّيَ به الثقلان هو السورة أيًّا كان مقدارها الكميّ، فسورة" الإخلاص " وسورة "البقرة " فى التحدِّي سواء من أنّه - سبحانه وتعالى - قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23) وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (يونس:38) وقد جاءت فى كلتيهما (سورة) نكرة، وفى هذا التنكير دلالة على العموم أىْ أىَّ سورةٍ طويلةٍ أو قصيرةٍ، ولكنهم يذهبون أيضا إلى أنَّ ما كان كالسورة فى مقدارها الكميّ (ثلاث آيات) فأكثر يقع به التحدِّي. ويؤخذ من ذلك أنَّه إن كان جزء من آية يعدِل مقدار السورة كَمًا ومقدارًا فلا يقع به التحدِّى، بْل لا بُدَّ أن يكون المُعادل ثلاث آياتٍ، فأكثر، فآية الكرسيّ سيدة آي القرآن الكريم كأنَّها جملة بيانيَّة واحدة، وكذلك آية المداينة فى سورة البقرة على الرغم من أنها تفوق كثيرا من قصار السُّور فى مقدار جملها وكلماتها وحروفها لم يقع التحدى بها وإن كانت في نفسها معجزة، فهى جزء من سورة وعنصر من عناصر بناء معناها بينما سورة من قصار السور أقل فى عدد حروفها وكلماتها ذات مقصد تام وفيها من سمات البيان القرآنى ما فى السورالطوال قد وقع بها التحدى عند جمهور أهل العلم ويذهب برهان الدين البقاعي (ت:885) إلى أنَّ الآية الواحدة القائمة بتمام المعنى يقع بها التحدي، ويتحقق فيها الإعجاز، فلا يفرق بين مناط الإعجاز ومناط التّحدّي.

ويذهب العلامة الإمام "محمود شاكر" - رحمه الله - إلى أنَّ قليل القرآن وكثيره فى شأن الإعجاز سواء. يقول بعد أن أبان أنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - من بعد أن نزل عليه الوحى طالب قومه بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه ويُقِرُّوا له بصدق نبوته بدليل واحد، وهو هذا الذى يتلوه عليهم من قرآن يقرءون «كان هذا القرآن ينزل عليه منجَّمًا، وكان الذى نزل عليه يومئذ قليلا كما تعلم وكان هذا القليل من التنزيل هو برهانُه الفرد على نبوته، وإذن، فقليل ما أوحى إليه من آيات يومئذ، وهو على قلته، وقلَّةِ ما فيه من المعانى التى تنامت وتجمعت فى القرآن جملة، كما نقرؤه اليوم منطوٍ علي دليل مُسْتَبِينٍ قاهرٍ، يحكم له بأنَّه ليس من كلام البشر، وبذلك يكون دليلا على أنَّ تالِيهِ عليهم، وهو بشر مثلهم نبى من عند الله مرسَلٌ، فإذا صَحَّ هذا – وهو صحيح لا ريب فيه – ثبت ما قلناه أوَّلاً من أنَّ الآيات القليلة من القرآن، ثُمَّ الآيات الكثيرة، ثُمَّ القرآنُ كلُّه أىّ ذلك كان فى تلاوته على سامعه من العرب الدليل الذى يطالبه بأن يقطعَ بأنَّ الكلامَ مُفارِقٌ لجنس كلام البشر، وذلك من وجه واحد، وهو وجه البيان والنظم. (1) وعندي أن نفرق بين ما يقع به الإعجاز، وما وقف عنده التحدِّي: التحدي وقف عند "السورة" كما دلَّ ظاهر البيان القرآنيّ، ولكنَّ الإعجازَ واقع بالآية الواحدة التامّة المعنى، أمَّا التي لايتم معناها إلا بآية أو آيات أخرى فلا يقع الإعجاز بها وحدها.مثل (مُدْهَامَّتَانِ) (الرحمن:64) ، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى) (العلق:9)

_ (1) تقديم كتاب: " الظاهرة القرآنية " لمالك بن نبي: بعنوان: (فصل في إعجاز القرآن) بقلم محمود شاكر – ص:27-28 –ط: دار الفكر – دمشق - 1405

وإذا نظرنا فى كلمة (سورة) التى كان منتهى التحدِّي عندها ألفينا أنَّ دلالتها فى لسان العربية راجعٌ إلى التصاعد والمرتبة وسورالمدينة والسّؤْر. فهل تكون الدلالة اللغوية لكلمة (سورة) هي المرادة في مقام التحدي في قوله - سبحانه وتعالى -: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23) وقوله - جل جلاله -: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (يونس:38) يذهب البقاعي إلى أنَّ معنى (السورة) في مقام التحدِّي هو المعنى اللغوي: أي قطعة من القرآن الكريم آية فما فوقها، فالإعجاز والتحدّي معًا واقعان بالآية الواحدة، والجمهور على أنَّ المراد في مقام التحدي هو المعنى الاصطلاحي: «قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يَتَغَيَّرانِ مُسَمَّاةٌ باسْمٍ مخصوص تشتمل على ثلاث آيات فأكثر فى غرض تامٍّ ترتكز عليه معانى آيات تلك السورة ناشئ عن أسباب النزول أو عن مقتضيات ما تشمل عليه من المعانى المتناسبة (1) والتسمية باسم (السورة) فيه دلالة على أنَّ بين عناصر هذا المجموع من الآيات ترابطًا بينها سواء كان الجذر الاشتقاقي للتسمية " سور المدينة أو المرتبة والتسور أو السور أو التصاعد "، ففى كلِّ هذا شىء من ذلك المعنى. وكثير من أهل العلم يلمح ما بين هذه التسمية وسورالمدينة من تشابه يقول العلامة: أبو الحسن الحَرَالّيّ (ت / 637 هـ) "السورة تمام جملة من المسموع محيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة"

_ (1) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور:1/84

ومعنى ذلك أنَّه " نُزّلت الآيات والجمل التى هى من أجزاء السورة منزلة المحلات والبيوت فى البلد، ولولا هذا التنزيل لم يصح هذا التشبيه" وقد يأتى البيان القرآنيّ مطلقا كلمة (سورة) على جملة من الآيات مثلما جاء إطلاق كلمة (قرآن) على بعضه، يقول الله - عز وجل -: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:86) {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98) فدلَّ على أنَّ التَّحدَّي غيرُ مقصورٍ على السُّورة بمعناها الاصطلاحى بل يكون التحدى بما كان فيه من الآيات بعض خصائصها من تمام المعنى ومن الاختصاص بمعنى كليّ وغرض تام، كما تراه فى آية الكرسيّ مثلا، فإنَّ مثل هذا القدر من القرآن الكريم فيه من الإعجاز ما يقع به التحدي. وغير خفى أنَّ الذي يهمنا هنا ليس أمر التّحدذي ن بل يهمنا أمْرُ الإعجاز البيانِيّ للقرآن الكريم،وهولا شكَّ متحققٌ بآية تامذة المعنى ن فما فوقها. وإذا ما تحقق الإعجاز الذى هو البرهان القاطع على صحة النبوة بسورة أو ما دونها من الآيات ذوات الغرض الخاص والمعنى التام، فإنَّ الإعجاز مراتب بعضها فوق بعض من حيث مقتضياته الكامنة والشَّاخصة فى بيانه ونظمه، فإنَّ خصائص البيان والنظم المعجزة فى آيات معدودات من سورة ما ليست على قدرها فى السورة كلّها، وليست على قدرها فى القرآن الكريم كله إنَّ الإعجاز ليس خاصا بالسورة بمعناها الاصطلاحى، ولكنَّها ذات خصائص بيانية نظمِيَّة لا تكون فيما دون السورة بمعناها الاصطلاحى لو أنَّنا استقصينا آيات موضوع ما فى القرآن الكريم وبلغت عشرات الآيات كآيات التوحيد مثلا، فإن هذا القدر من آيات التوحيد، وإن كان معجزا يقع به البرهان القاطع على صحة النبوة، فالإعجاز فى هذا القدر من آيات التوحيد لا يكون على قدر الإعجاز فى أقصر سورة من سور القرآن الكريم لِمَا اشتملت عليه السورة من خصائص بيانية ونظمية لن تحقق فى مجموع آيات التوحيد فى القرآن الكريم كلّه. لهذا فإنى أزعم أن التَّدبّر البيانى والبحث عن المعنى القرآنى فى سياق السورة هو أكرم وأوفر أنماط البحث عنه عطاء. وهذا لايعني أنَّ تدبر المعنى القرآني الواحد في مواقع عديدة في السياق القرآنيَّ ليس عليًّا بل لكل منهاجٍ عطاءه ومقْتَضِياته وزاده ووسائله. ولكنِّي هنا بصدد النظر في مراحل تدبر المعنى القرآنيِّ في سياق بناء السورة القرآنية.

الفصل الأول: فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنى

الفصل الأول: فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنى *** للقرآن ثلاثة تنزلات: التنزيل الأول: من الله - سبحانه وتعالى - إلى اللوح المحفوظ {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج:21-22) {بسم الله الرحمن الرحيم* حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف:1-4) (1)

_ (1) - يقول ابن جرير في تأويل هذه الآية: يقول تعالى ذكره: وإنَّ هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب [أي القرآن الكريم] عندنا لعلِيّ، يقول لذو عُلوٍ ورفعة، حكيم: قد أحكمت آيته ثُم فصلت، فهو ذو حكمة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ... ... عن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى {وإِنّه فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنا لَعليٌّ حَكِيمٌ} يعني القرآن في أم الكتاب الذي عند الله، منْهُ نُسِخَ. (جامع البيان في تأويل القرآن ج11ص178-179، ط: دار الغد العربي - القاهرة

وقد نزل القرآنُ الكريمُ جملة فى اللوح المحفوظ، وذلك اللَّوح هو الذى أودع الله - عز وجل - كلَّ شىء فيه: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} (القمر:53) {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38) التنزيل الثانى: من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى السماء الدنيا جملة واحدة فى ليلة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1) {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:185) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان:3) وروى الحاكم بسنده فى المستدرك عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: «فُصِلَ القرآنُ مِن الذِّكْرِ فوضِعَ فى بيت العِزَّةِ من السَّماء الدُّنيا، فجَعَلَ جبريلُ ينزل به على النبى - صلى الله عليه وسلم - يُرتِّلة ترتيلا» (المستدرك: التفسير – أنزل القرآن جملة واحدة – حديث رقم: 2881/10) وروى الحاكم فى المستدرك والبيهقى فى الأسماء والصفات، والطبرانى فى (الكبير) عن ابن عباس - رضِيَ اللهُ عَنْهَما - فى قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1)

قال: «أُنْزِلَ القرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ القَدْرِ إلَى السَّماءِ الدُّنيَا وَكانَ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وكانَ ينزل على رسُولِه - صلى الله عليه وسلم - بعضَه فى أثَرِ بعض ... » (المستدرك الكتاب السابق – حديث:2878/7) وفي تفسير "ابن جرير سورة (القَدْرِ) فيضٌ من الأحاديث الموقوفة المؤكدة ذلك المعنى. وإذا ما كان هذا موقوفا على سيدنا " ابن عباس" - رضِيَ اللهُ عَنْهَما - فإنَّ ما هو موقوف على الصحابى فيما لا مجال فيه للرأى كالمرفوع؛لأنَّه لن يقول صحابى فى هذا من عند نفسه بل لابد أن يكون قد سمعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (1) . التنزيل الثالث: من بيت العزة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ثلاث وعشرين سنة بدأت بليلة القدر: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الاسراء:106) {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء:192-195) {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان:32- 33) فالتنزيل الثالث كان منجَّما على حسب الأحداث والوقائع وفى هذا ضرب من ضروب التربية للأمَّة ومعالجة لأحوالها. فكان للقرآن الكريم سياقٌ تنزيلِىّ تاريخى اقترنت فيه الآيات نزولا بملابسات ووقائع فى السياق الاجتماعى للأمَّة زمن البعثة.

_ (1) - ينظر: الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن ج1 ص43-47- ط: عيسى الحلبي

وإذ ما نظرنا ألفَيْنا النُّزول الأوَّل والثانى كان نزولا جَمْعِيًّا للقرآن الكريم، وكان النزولُ الثَّالثُ نزولاً مُفرَّقا: قد تنزلُ آياتٌ من سورة، فتَتْلوها آياتٌ من سورة أخرى قبل تمام السورة الأولى: ظلت سورة البقرة تتوالى آياتها نزولا سنوات عِدَّة، وكان فى أثناء نزول آياتها تنزل آيات سور آخرى، وكان جبريل - عليه السلام - ينزل بالآية وموضعها من سورتها على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كتاب الوحى بأن توضع آية كذا فى سورة كذا مُحَدِّدًا موضعها حتَّى إذا ما تم القرآن الكريم نزولاً كانت كلُّ آيةٍ فى كل سورة فى موضعها المحكم، وكذلك كل سورة فى موضعها من النسق الكُلِىِّ للقرآن الكريم على النحو الذى هو عليه فى اللوح المحفوظ وفى بيت العزة من السماء الدُّنْيَا (التنزيل الأوَّل والثانى) ولذا كانت العرضتان الأخيرتان للقرآن الكريم فى شهر رمضان الأخير من حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مطابقتين فى ترتيب الآيات والسور لما هو عليه فى اللوح المحفوظ فى بيت العزة، وبذلك تطابقت صورة الترتيب الكليّ للقرآن الكريم فى أطورها التنزيليّة الثلاثة، فما بين أيدينا من صورته الترتيبيَّة آياته وسورة هو ما عليه القرآن الكريم فى اللوح المحفوظ وفى بيت العزة (1) ولعل هذا بعض من معنى قول الله - سبحانه وتعالى -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1) لهذا كان للمعنى القرآنيّ سياقٌ كُلّيٌّ تقع كُلُّ سورةٍ من سُوَرِهِ على مَدْرَجَةٍ من مدارج هذا السياق القرآنى يبدأ هذا السياق بأم الكتاب التى تجمع معانى القرآن الكريم كلِّه فيها فكانت جديرةً بأن تكون أمَّ القرآن وبذلك جاءت السُّنة مؤكدة أنها (أم القرآن) وأنها السبع المثانى والقرآن العظيم.

_ (1) - ينظر: مقدمتان في علوم القرآن: ص 39،وما بعدها

روى البخاري - رضي الله عنه - في كتاب (فضائل القرآن) من صحيحه بسنده عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضي الله عنه - قَالَ كُنَّا فِى مَسِيرٍ لَنَا، فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غُيَّبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ، فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاَثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَناً، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِى؟ قَالَ: لاَ، مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الْكِتَابِ. قُلْنَا:لاَ تُحْدِثُوا شَيْئاً حَتَّى نَأْتِىَ - أَوْ نَسْأَلَ - النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟!! اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِى بِسَهْمٍ» (حديث:5007)

وروى - رضي الله عنه - في كتاب التفسير من صحيحه بسنده عَنْ أَبِى سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى. فَقَالَ «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ثُمَّ قَالَ لِى: لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ» . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ «لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ» ؟. قَالَ: « (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ» (حديث:4474) ومثله فى الموطأ للأمام مالك - رضي الله عنه - من حديث أبى ابن كعب - رضي الله عنه - ولأبى داود - رضي الله عنه - والدَّارمى - رضي الله عنه - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {الحمد لله رب العالمين} أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى". وأمُّ كل شىءٍ أصلُه، فهى أصل القرآن الكريم والجامعة معانيه، ولعلَّه لذلك وجب أن تقرأ فى كل ركعة من الصلاة: روى مسلم - رضي الله عنه - في كتاب الصلاة من صحيحه بسنده عن عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْتَرِئْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . (حديث:901)

وفى رواية له بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْىَ خِدَاجٌ - ثَلاَثاً - غَيْرُ تَمَامٍ» . فَقِيلَ لأَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ. فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِى نَفْسِكَ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِى عَبْدِى وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِى. وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِى عَبْدِى - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَىَّ عَبْدِى – فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ» . (حديث: 904) فهذا دال على أنَّ قوله - سبحانه وتعالى - {إِيَّاك نَعْبُدُ وَإِيَّاك نَسْتَعين} هو مِحْوَرُ المعنى لأم الكتاب، وهو فى الوقت نفسه محور المعنى القرآنيّ كلّه فجميع معانى القرآن الكريم منبثقة من هذه الأية التى هى مفتاح المعنى القرآني كله. والتى كان فيها المقصود الأعظم للقرآن الكريم وهو (جمع العباد على الله جمع عبادة واستعانة) وكانت سورة " الفاتحة " بالنسبة للقرآن الكريم كلّه بمنزلة مكة من قرى الأرض ومدتها فهى أم القرى:

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام:92) {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) يقول الراغب الأصفهانى:" ويقال لكلِّ ماكان أصلا لوجود شئ أو ترتيبه أو إصلاحه أو مبدئه " أمّ ". قال الخليل: كل شئ ضم إليه سائر مايليه يسمى أما" وقد ثبت علميا أن (مكة) هى مركز الأرض فهى أم القرى ومحور أقطارها (1) وكذلك الفاتحة هى محور القرآن الكريمِ كله والجامعة معانيه، فكلُّ معانيه مرتبطة بسورة الفاتحة وبمحورها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم تأتى السور من بعدها بدأ من سورة (البقرة) لتفصل الإجمال والإحكام لمعنى القرآن الكريم الذى اشتملت عليه سورة الفاتحة، وهذا يفسِّر وجها آخر من قول الله - سبحانه وتعالى -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1) فكلّ معنى في كلِّ سورة ولاسيما المعاني الكليّة وثيق الاعتلاق والانتساب إلى سورة (أم القرآن) على اختلاف درجات ظهورالاعتلاق والانتساب.

_ (1) - راجع مجلة " البحوث الإسلامية" ص 242 – العدد السادس سنة 1402 – الرياض

ولِكُلِّ سورة موقع على مَدْرَجَة سياق المعنى الكُلِّىِّ للقرآن الكريم وهى مدرجة متصاعدة، فإذا المعنى القرآني فى حركة نمَاءٍ متكامِلٍ، فكلُّ سورة تتلو أخرى يكون فيها من المعانى الكلية والجزئية ماهو مؤكِّدٌ ما سبق تأسيسُه فى السابق وتأسيسُ ما هو مُكْمِلٌ ما سبقه حتى يصل المعنى القرآني إلى ذروته فى سورة (الإخلاص) و (المعوذتين) وقد نصَّت السنّة المطهرة على أنَّ منزلة البقرة من القرآن الكريم منزلة السنام: روى الترمزي - رضي الله عنه - في كتاب قضائل القرآن من جامعه بسنده عن أبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - عنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وإنَّ سنام القرآنِ سُورةُ البقَرَةِ، وفِيها آيَةٌ هِيَ سَيّدةُ آيِ القرآنِ هي آيةُ الكرسيّ» (حديث رقم: 2878) وفي مسند أحمد (5:26) مثله ونصت السنة أيضا علَى أنَّ " يس " قلب القرآن الكريم: روى الترمزي - رضي الله عنه - في الكتاب السابق من جامعه بسنده عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ لكلِّ شيءٍ قلبًا وقَلْبُ القرآنِ يس ... » (حديث: 2887) وموقعُ السورَةِ على مدرجة السياق الكلّيّ للقرآن الكريمِ به تتبين منزلة كل معنى كُلِّيّ أو جزئِى من معانيها من التأسيس والتأكيد، وبه يتمكن المرء من فقه معانى هذه السورة إذا ما ضَمَّ كل معنى كلىّ أو جزئيّ إلى شكله وقرينه من المعانى السابقة على مدرجة السياق القرآني. وفى تحديد موقع السورة من مدرجة سياق المعنى القرآنيّ لتحديد معانيها الكلية والجزئية من التأسيس والتأكيد بعضُ من الصُّعوبة، ولاسيَّما السُّورُ التى تكون بعيدة الموقع من سورة الفاتحة فى السياق الترتيليّ إلاَّ أنَّه ممَّا ييسِّرُ الأمْرَ أنَّ كلَّ سورة لها نوعان من المعانى: ? مَعانٍ كُلِّيَّةٌ هى معاني المعاقد والنجوم التى تتكون منها السورة.

ومعانٍ جزئيَّةٌ هى معانى الجمل والأيات فى كل نجم ومعقِدٍ من معاقِدِ معانى السورة ونجومها. وحين تكون السورة قريبة من سورة " الفاتحة " فأنَّه من اليسير رَدُّ المعانى الكلية والجزئية بما ترتبط به من معانى السورة السابقة عليها، بل ومن غير العسير ردّ المعانِي الكُليّة إلى ماترتبط به من سورة الفاتحة. أمَّا السُّور التى تقارب نهاية السِّياق الترتيليّ من القرآن الكريم، فإنَّ ردَّ معاقد المعاني وهي المعاني الكليّة إلى ماسبقها كافٍ فى تِبيان موقع السورة على مدرجة المعنى الكليّ للقرآن الكريم. وهذه المرحلة وإنْ كان فيها من الصّعوبة غيرُ قليلٍ إلاَّ أنَّ لها من الأثر والمنزلة فى فقه معنى السورة ومنهج بنائها هذا علاوة على أنَّ فيها بيانًا لتناسب سور القرآن الكريم، وذلك التناسب ضربٌ من إحكام القرآن الكريم لايقلُّ البتّة عن تناسب آيات السُّورة الواحدة. " وهو من أبواب البلاغة العالية التى تََرُوعُ من غير أن تكون داخلة تحت مصطلح من مصطلحات مُتُونِ علم البلاغة؛ لأنَّها علاقات معان تتفق، وتختلف، وتتقارب، وتتباعد، ولها فى تقاربها وتباعدها درجات. كلُّ ذلك بتدبيردقيق، واعتبارات، وسياقات، ومقامات منها ظاهر وخفى (1) وهذا الضرب من العلم يمكن أن نُسْلِكَه فى الغرض الأعظم الذى أقام عليه "عبد القاهر" كتابه العظيم (أسرار البلاغة) يقول الامام رحمه الله:

_ (1) - شيخنا أبو موسى: من أسرار التعبير القرآنيّ ص 24-25 – ط: 1412- مكتبة وهبة

«وأعلم أنَّ غرضي فى هذا الكلام الذى ابتداتُه والأساسِِ الذى وضعتُه أن أتوصَّل إلى بيان أمر المعانى كيف تختلف، وتتفق، ومن أين تجتمع، وتفترق، وأفصّل أجناسَها وأنواعها، وأتتبعُ خَاصَّها ومُشاعها، وأبيّنُ أحوالَها فى كرم مَنْصيِها من العقل، وفى تمكُّنها فى نِصابِه، وقرب رحمها منه، أو بعدها - حين تُنسب - عنه، وكونها كالحليف الجارى مَجْرَى النَّسَب، أوالزَّنِيمِ المُلْصَق بالقوم، لا يقبلونه، ولا يَمْتَعِضُونَ له، ولا يَذُبُّونَ عنه» (1) فدراسة موقع السورة القرآنية على مدرجة السياق الكليّ للمعنى القرآنيّ بها يتبَيَّن أمر المعاني اختلافا واتفاقا واجتماعا وافتراقا ... الخ وقد كان لأهل العلم عناية ببيان علاقة السورة بما قبلها، وكانت جهودهم متفاوتةً، فمنهم من يكتفى ببيان علاقة ظاهر فاتحة السورة بخاتمة ما قبلها وكثيراً ما يقف عند التشابه اللغوى، ومنهم من يتجاوز ذلك في لطف قد لا يتبين لمتعجِّل: وأنت إذا ما نظرت في صنيع تلميذ "البقاعيّ":" الجلال السيوطي" رأيت شيئًا من هذا الذي لايتبين لمن تعجَّل. لننظر فيما قاله " السيوطى " فى علاقة سورة (النحل) بسورة (الحجر) فى كتابه (تناسق الدرر) :

_ (1) عبد القاهر: أسرار البلاغة – ص:26- ط: شاكر. يجمُل بك أن تعيد قراءة مقالة "عبد القاهر" وأن تصغي إلى وقع أجراس حروفها وحركتها، وما أقامها عليه من التعادل الصوتي الذي يملأُ الأذن، فينفذ في القلب، فيشغله بما حمله إليه ذلك الإيقاع الفخم من المعاني، وكيف أن عبد القاهر يوظف ذلك إيصالا لمراداته ومعانيه ومغازيه إلى قلبك، فيبعثه على أن يستغرق في لذة الفهم التي هي خصيصة الصفوة من أبناء آدم - عَلَيْهِ السَّلام، فمن ذاق عرف ومن عرف عشق السعي في التي هي أهدى وأقوم.

«وجه وضعها بعد سورة الحجر أنَّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه، فإنَّ قوله فى آخر تلك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99) الذى هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة لقوله - سبحانه وتعالى - هنا: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النحل:1) وانظر كيف جاء فى المقدمة بـ «يأتيك اليقين» وفى المتأخرة بلفظ الماضى؛ لأنَّ المستقبل سابق علىالماضى، كما تقرر فى المعقول والعربية. وظهر لِى أنَّ هذه السورة: (أى النحل) شديدة الاعتلاق بسورة " إبراهيم" وإنَّما تأخرت عنها لمناسبة " الحجر فى "كونها من ذوات (الر) (1) النظرة العجلَى في مقال " السيوطى " يسرِعُ إليها أنَّه لا يعدو ظاهر العلاقة ولا يتبيّن به المرء وثيق الاعتلاق بين السورتين على لاحب السياق الكلىّ للقرآن الكريم، وأنَّ دعْوَاه أنّه فُصل بين سورة "ابراهيم" - عليه السلام - و" النحل" وهما متأخيتان بالحجر؛ لأنّ " الحجر" من ذوات (الر) كسورة "ابراهيم" - عليه السلام - إنما هى دعوى لاتناسب، ولكنَّك إن تمهَّلت وتبصَّرت أمكنك أن تبصر في مقال السيوطي أمرًا لطيفًا: لعلّك تبصر إشارة إلى أن سورة"الحجر" ذات اعتلاق بسورة "إبراهيم" - عليه السلام - وثيق مِنْ أنَّ كلاً مستفتح بقوله - سبحانه وتعالى - {الر} وهذا فيه إفادة أنَّهما شقيقتان ومن مخرج واحد وأن افتتاح سورتين بصيغة واحدة من صيغ ما يسمّى بالحروف المقطعة سيُغري القلب بالنظر فيما بين السورتين من تناسب أومأ إليه الافتتاح بهذه الصيغة.

_ (1) الجلال السيوطي: تناسق الدرر-ص:111 تح: عبد القادر عطا (أسرار ترتيب القرآن)

واعتلاق سورة" النحل " بسورة " إبراهيم" - عليه السلام - أيضًا جدّ وثِيق إلاَّ انَّه من وجه أخر غير وجه اعتلاق سورة " الحجر " بها، فقدمت " الحجر " من أنهما من (الر) فوجه الاعتلاق أظهره اتفاق المفتتح به في سورة " إبراهيم " - عليه السلام - وسورة " الحجر" ويزيد عليه ما بين سورة "الحجر" وسورة "النحل " من اعتلاق لطيف يستوجب تقديم سورة "الحجر"على سورة " النحل". نحن مفتقرون إلى أن ننظر فيما بين سورة " إبراهيم " - عليه السلام - وسورة " الحجر" من جهة وسورة "إبراهيم " - عليه السلام - وسورة النحل" من أخرى، ولعلك إذا ما نظرت في خواتيم سورة "النحل": (ى:120- 128) وهو ذروة معناها: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *}

وعلاقته بسورة "إبراهيم" - عليه السلام - توافد عليك من لطائف المعاني ما لم يكن لك من قبل: خواتيم النحل تجهر ببيان منهاج الدعوة لإخراج النَّاس من الظلمات إلى النور الذي أنزل الكتاب إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أجله: {بسم الله الرحمن الرحيم * الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم:1) {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (إبراهيم:52) فعلاقة سورة (النحل) بسورة (إبراهيم) - عليه السلام - من جهة غير التي كانت للنحل بسورة "الحجر"، فألمح " السيوطي " إلى شيءٍ من ذلك. والذى يقتضية المقام أن يكون النظر فى علاقة السورة بما قبلها أنفذ فى معاقد المعانى الكلية فى كل سورة بحيث تستكشف العروة الوثقى فى كل معقد من معاقد كل سورة. يقول شيخنا: " لاشك أننا إذا درسنا ترتيب (الطواسيم) وعلاقات المعاني التي فى هذه السور الثلاث: (الشعراء، النمل، القصص) فإنَّنا واجدون - لا محالة - بابًا من أبواب البلاغة الغائبة.

حاول أن تستخلص قصة " موسى" - عليه السلام - فى السور الثلاثة وكيف تكاملت تكاملا يمتد ترتيبا بتكليف موسى - عليه السلام - بالرسالة وأن يأتى القوم الظالمين، بينما بدأت فى سورة " النمل" وهى السورة الثانية بقصة " موسى" - عليه السلام - مع أهله، وأنَّه آنس بمن جانب الطور نارا، وأنَّه سيأتيهم منها بخبر، ثُمَّ كان لقاؤه بربِّه - سبحانه وتعالى - واعداده للنبوة، وإظهار المعجزات له وسماعه نداء ربه - عز وجل -: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (النمل:9) وألقَى عصاه ورآها تهتز، وأخرج يده إلى آخره، وهذا الجزء سابق للجزء الذى جاء فى " الشعراء "؛ لأنَّه قبل الأمر بالذهاب إلى فرعون، ثم جاءت " القصص" وهى السورة الثالثة والأخيرة فى (الطواسيم) وتبدأ بقصة " موسى" - عليه السلام - مع طفولته: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:7) وكأنَّنا مع ترتيب تنازلى يتقدم فى السورة إلى الأمام، وفى القصة إلى الخلف، وهكذا إذا حلَّلت بقية المعاني وجدت من خبرها مالا تعرف، وما يحتاج إلى تحليل وتدبر، حتى تستطيع شرح المذهب الذى يثبت عليه القصة فى السور الثلاثة. وقد ذكرت قصة "موسى"؛ لأنَّ القصة أظهر فى الذى أريده وفى المعانى والأحكام والمواعظ والعقائد وغير ذلك من المقاصد ما فى القصة، ويجري على هذه المعانى فى تنوعها، وترتيبها، وتكاملها ما يجرى على القصة، وقل مثل ذلك فى " الحواميم " (1)

_ (1) - شيخنا: من أسرار التعبير القرآني – ص: 29

يدُلُّك شيخنا على أنَّك اذا مانظرت فى قصة سيدنا" موسى" - عليه السلام - فى ثلاث سور متوالية استفتحت استفتحا أطلق عليها اسم (الطواسيم) ألفيت أنَّ أحداث القصة لا تأخذ فى نهج التسلسل التاريخى الصاعد منذ الميلاد إلى الانتصار وزهق الباطل، بل تأخذ فى نهج التسلسل المعنويّ الصاعد للسور، فسورة (الشعراء) فيها مع تسلية النبى صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا،وبيان سنة الله - سبحانه وتعالى - فى نصر الحق وزهق الباطل إظهار البطش والنقمة لمن خالف أمر الله - عز وجل -،فالجوّ الغالب عليها جو الانذار والعقاب لمن كذَّب؛ ليكون ذلك فى وجة تكذيب قريش وأعوانها واستهزائهم بالقرآن الكريم: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الشعراء:5-6) وقد جعل من لوازم معاقد المعانى الكلية فى السورة قوله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الشعراء:8-9) وقد تكرَّر فيها ذلك ثمانى مرات عقب كل مقصد: عقب قصة موسى - عليه السلام - (ى/10-66) وعقب قصة إبراهيم - عليه السلام - (ى/123-139) وعقب قصة صالح - عليه السلام - (ى/141-158) وعقب قصة لوط - عليه السلام - (160-173) وعقب قصة شعيب - عليه السلام - (176-189) ثم جاء التعقيب بقصة مكذبي قريش ومناصريهم وموقفهم من القرآن الكريم وقد تكرر اسمه (العزيز) فى هذه السورة على نحو لم يتكرر فى غيرها، فقد جاء مقرونا باسمه (الرحيم) تسع مرات (1)

_ (1) - الشعراء الآية:9، 68،104،122،140،159،175،191،217

وفى اسمه (العزيز) تتاغ مع الانذار والتهديد للمعاندين وفيه تأنيس أيضا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - مثلما فى قوله (ربك) وقوله (الرحيم) ولم يأت اسمه (العزيز) مقرونا باسمه (الرحيم) فى غير سورة (الشعراء) إلا أربع مرات: { ... يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم:5) {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (السجدة:6) {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (يّس:5) {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الدخان:42) وسورة النمل فيها إظهار وصف العلم والحكمه، وقد ركَّزت السُّورة على العلم: «علم الله المطلق بالظاهر والباطن وعلمه بالغيب خاصة وآياته الكونية التى يكشفها للناس، والعلم الذى وهبه لداود- عليه السلام - ولسليمان - عليه السلام - منطق الطير، وتنويهه بهذا التعليم،ومن ثَمَّ يجئ فى مقدمة السورة: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل:6) ويجيء في التعقيب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل:65) {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} (النمل:66) {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (النمل:74-75) ويجئ فى الختام {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل:93)

ويجئ فى قصة سليمان - عليه السلام -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (النمل:15) وفى قول سليمان - عليه السلام -: { ... يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل:16) وفي قول الهدهد: {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (النمل:25) وعندما يريد سليمان - عليه السلام - استحضارعرش الملكة لايقدر على احضاره فى حركة طرف العين عفريت من الجن إنما يقتدر على هذا {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) (النمل: من الآية40) وهكذا تبرز صفة العلم فى جوِّ السورة تظلها بشتى الظلال فى سياقها كله من المطلع إلى الختام (1) وقد كان استفتاح السورة بقوله - سبحانه وتعالى -: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (النمل:1-2) ولم تُستفتح سورة بمثل هذا وما جاء فى الحجر قدّم فيه" الكتاب "على " القرآن ": {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر:1-2) ولم يذكر قوله - عز وجل -: {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}

_ (1) - ينظر: في ظلال القرآن لسيد قطب: 2625

وختمت سورة "النمل" بقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل:91-93) وجاءت قصة " موسى" - عليه السلام - فى هذا السياق فأصطفى القرآن الكريم منها ماتآخى وتناغى مع هذا السياق العام، فكان مبدأ القصة هنا رؤيته النار وذهابه إليها وندائه وتكليفه وايناسه بالأيات،ثُمَّ تنتهى القصّة انتهاءً سريعًا يطوى فيها ما كان بينه وبين فرعون وقومه قائلاً: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل:13 -14) وقد جاء قوله: (مبصرة) وقوله: (استيقنتها) متناغيًا مع سياق العلم الذى كانت السورة له، مثلما جاء قوله: (جحدوا بها) كذلك. وفى سورة " القصص" كان السياق لبيان أنَّ الغلبة للقوى الأعظم، وأنَّه لا أقوى ممن كان الله - سبحانه وتعالى - معه، ولذلك بدأ ببيان ذلك فى حياة سيدنا "موسى" - عليه السلام - من بدايتها إلى نهايتها، وانتصاره على أقوى الطواغيت ومثلِهم الأعلى:

بدأ ببيان قصة " موسى " - عليه السلام - وليدا، وانتصاره، وتسخيره لتربيته، ورعايته، وهو لا يعلم سوء عقباه على يده، وهو الذى يدَّعى أنَّه الرب الأعلى، وقصته - عليه السلام - فتِيًّا وقصته نبياً، ففى كلِّ حلقة من هذه الحلقات من قصة حياة سيدنا " موسى" - عليه السلام - آية على انتصار قوة الحق وزهقها باطل الطاغوت وقد ختم القصة بقوله - سبحانه وتعالى -: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص:36-40) فَبِالْيَمِّ كان هلاك الطاغوت فرعون، وباليمِّ كانت نجاة موسى وليدا.

" لقد كانت قصة موسى - عليه السلام - تبدأ غالبا فى السور الآخرى لا من حلقة الميلاد حيث يقف الإيمان القوى فى وجه الطغيان الباغى ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان فى النهاية، فأمَّا هنا، فليس هذا المعنى هو المقصود،إنَّما المقصود أنَّ الشَّر حين يتمحَّضُ يحمل سبب هلاكه فى ذاته، والبغي حين يتمرد لايحتاج إلى من يدفعه من الشر، بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدَى عليهم، فتتقذهم، وتستنقذ عناصر الخير فيهم، وتربيهم، وتجعلهم أئمة، وتجعلهم الوارثين. فهذا هو الغرض من سوق القصة فى هذه السورة، ومن ثم عرضت من الحلقة التى تؤدى هذا الغرض، وتبرزه. والقصة فى القرآن تخضع فى طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض، فهى أداه تربية للنفوس،ووسيله تقرير لمعانٍ وحقائق ومبادئ، وهى تتناسق فى هذا مع السياق الذى تعرض فيه، وتتعاون فى بناء القلوب وبناء الحقائق التى تعمر هذه القلوب" (1) تبين لنا بهذا كيف أنَّ موقع كلِّ سورة ومقصدها الكلى هو الذى يكون معيارًا في تناسق معانيها واصطفاء ما يدرج فى سياق كل سورة مما يفرض على المتدبِّر أن يعيَ موقع كلِّ سورة من سور القرآن الكريم فى سياق المعنى الكليّ للقرآن. (2) وقد يكون ما هو ظاهر من السورة غيرَ بَيِّنِ الاعتلاق بما قبلها وما بعدها مِمَّا يجعل ادراك موقعها على مدرجة المعنى الكلى للقرآن الكريم إدراكًا ضعيفًا ولكنَّ التَّدبُّرَ والتَّدقيقَ يُذكى طاقات الاستبصار الرُّوحى لمعاقد المعنى فى السورة مع ما قبلها وما بعدها من السور على جادة المعنى القرآنيّ.

_ (1) - سيد قطب: في ظلال القرآن:2676 (2) - هذا الذي بسطته هنا يَجْمُل بك أن تستصحب وعيه وعرفانه في الفصل الثاني القادم لأنَّه وثيق الاعتلاق به - أيضًا - من وجه آخر، واستحضارك له يغنينا عن تكلف إعادة الإشارة إليه هناك.

وقد كان لـ" برهان الدين البقاعيّ" عناية بهذا في تفسيره " نظم الدّرَر في تناسب الآيات والسُّور " قد لا تجد مثلها عند غيره كان ذا عناية ببيان علائق مقاصد السور ببعضها وتصاعد معانيها منسولة من ذلك المقصود الأعظم للقرآن العظيم، كان معنيًّا ببيان ترتب مقصود السورة على مقصود التى قبلها ممَّا يعنى أنَّ التَّرابط القائم بين سور القرآن الكريم ليس ترابطًا منحصرًا في تناسب أوَّل السُّورة مع خاتمة ما قبلها، بل الأمر أكبر من ذلك. في تبيانه مقصود سورة " البقرة " يركز على المعنى الذي هو أساس المعاني المنسولة من معنى سورة "أمّ القرآن " الذي هو إجمال معنى القرآن العظيم فهو لها كالحجر الأساس في البناء: معنى الإيمان بالغيب، يقول: " مقصودها إقامة الدليل على أنّ الكتاب هدًى؛ ليتبع في كلّ ما قال [حال] ، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالاخرة، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصَّة البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب، فلذلك سمِّيتْ بها السّورةُ " (1) كلَّ آيات سورة" البقرة " ناظرة إلى تقرير معنى الإيمان بالغيب في القلوب ومن ثَمَّ كانت فيها أول صفة للمتقين صراط المغضوب عليهم وصراط الضّالين صفةَ الإيمان بالغيب (هدى للمتقين الذين يُؤْمِنُونَ بِالغَيْب ... ) فهذا الإيمان بالغيب هو أساس كلّ عمل صالح مصلِح، فإنَّه لامعنى البتة لأيِّ عمل صالح أو إيمان بدين إذا لم يكن ذلك مؤسسا على تقرر معنى الإيمان بالغيب ولا يصلح الإله المعبود أن يكون مشهودًا ملموسا بل لابد أن يكون غيبا مطلقا تشهد الأبصار والبصائر دلائل وجوده ووحدانيته وكمال جلاله وجماله وقهره ورحمته ... إلخ ومن ثَمَّ كان مقصود السورة الأولى من سور تفصيل أم الكتاب: " سورة البقرة " الهداية إلى الإيمان بالغيب.

_ (1) - نظم الدرر:1/24 - بيروت

وهذا تراه جليًا في تسمية السورة بالسنام، والذروة، والفسطاط، فإنَّ الفسطاط جامعٌ لما كان منه بسبب. وإذا ما جاء " البقاعيّ " لتبيان المقصود الأعظم من سورة (آل عمران) فإنَّه يبسط القول في هذا: يبيّن لنا ما كان قد ظهرله أوَّل الأمر في تاويلها، فلمَّا راجع وبالغ التدبّر تبين له تحرير مقصودها على نحو آخر، وهو يبسط القول، فيبين علاقة مقصود سورة (آل عمران) بمقصود سورة (البقرة) ومقصودهما معا بمقصود سورة (الفاتحة) بل إنه ليبسط النظر أكثر، فيمدُّه إلى مقصود سورة (النساء) . يقول:" المقاصد التي سيقت لها هذه السورةُ إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، وإلإخبار بأنَّ رئاسةَ الدُّنْيَا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئًا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأنَّ ما أعدَّ للمتقين من الجنَّةِ والرضوان هو الذي يَنْبغِي الإقبالُ عليْهِ والمسارعةُ إليهِ. وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما ينعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة. هذا ما كان ظهر لي أولاً. وأحسنُ منه أن نخصَّ القصدَ الأول وهو التوحيد بالقصد فيها، فإنَّ الأمرين الأخيرين يرجعان إليه، وذلك؛ لأنَّ الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة، فالقيام يكون على كلّ نفسٍ، والاستقامة العدلُ ... وهذا الوجه أوفق للترتيب لأنَّ " الفاتحة " لماَّ كانت جامِعةً للدين إجمالاً جاء ما به التفصيلُ محاذِيًا لذلك، فابتدئ بسورة الكتاب [البقرة] المحيط بأمرالدين، ثُمّ بسورة التوحيد [آل عمران] الذي هو سرُّ حرف "الحمد"، وأوَّل حروف الفاتحة، لأن التوحيد هو الأمر الذي لايقوم بناءٌ إلاَّ عليه، ولمَّا صحَّ الطريقُ، وثبت الأساسُ جاءت التي بعدها [النساء] داعيةً إلى الاجتماع على ذلك.

وأيضًا فلمَّا ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنَّه هدى، وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه [آل عمران] لإثبات الدعوة الجامعة في قوله - سبحانه وتعالى - (يَأيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا ربَّكُمْ) (البقرة:21) فأثبت الوحدانية لله - عز وجل - بإبطال إلهية غيره بإثبات أنّ " عيسى" - عليه السلام - الذي كان يحيى الموتى عبدُهُ، فغيره بطريق الأوْلَى، فلمَّا ثبتَ أنَّ الكُلَّ عبيدُهُ دعت سورة" النساء" إلى إقبالهم إليه، واجتماعهم عليه. ومما يدلّ على أنَّ القصد بها [أي آل عمران] هوالتوحيد تسميتها بـ"آل عمران" فإنَّه لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعربَ عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه، فهو التَّاجُ الّذي هو خاصَّة الملك المحسوسة، كما أنَّ التوحيد خاصته المعقولة. والتوحيد موجب لزهرة المتحلِّي به، فلذلك سمّيت الزهراء" (1) هذه الوحدانية هي اللبنة الثانية في أساس الإيمان؛ لأنَّه إذا تقرَّر أنَّ الإله لابد أن يكون غيبا غير منظور أو ملموس، فإنَّه أيضًا لابدَّ أن يكون واحدًا، فكما أنه يتعاند مع معنى الألوهية أن يكون الإله مشهوداً منظورًا ملموسا يتعاند أيضًا مع معنى الألوهية أن يكون الإله غير واحد؛ لأنَّ هذا يترتَّبُ عليه فسادُ الكون والحياة فسادًا يقرره منطق العقل المُعافَى من الضلالة. التعالق بين سورة " البقرة " وسورة " آل عمران " تعالق عظيم؛ لأنّهما قائمان على أمرٍ واحدٍ هو تقرُّرُ ما هو جوهرٌ في معنى الألوهية، وما يجب أن يكون أساسًا عظيما من أسس صفات الإله المعبود بحق:

_ (1) – نظم الدرر:2 / 3-4 –ط: بيروت

أن يكون غيبا لاتدركه الأبصار، وأن يكون واحدًا ليس كمثله شيء، وهذا كأنَّه من عطف الخاص على العام. ... والبقاعي كما سمعته لم يكتف ببيان تعالق مقصود سورة (آل عمران) بمقصود سورة (البقرة) بل إنَّه ليمد النظر إلى علاقة مقصود سورة (النساء) بما قبلها. في مفتتح تأويله سورة " النساء " يبيّنُ لنا ما به يتقرر العلم ويتأكّدُ أنَّ مقصودها مبنيٌّ على مقصود " آل عمران" المبنيّ على مقصود سورة "البقرة" قائلا: " مقصودها: الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه " آل عمران "، والكتاب الذي حدت عليه "البقرة "؛ لأجل الدين الذي جمعته " الفاتحة " تحذيرًا مما أراده " شاس بن قيس ِ" , وأنظاره من الفرقة " (1) وأنت إذ تنظر في الأحكام والآداب التى قامت بها سورة "النساء" ترى أنها أحكامٌ وآدابٌ تحقق للمجتمعِ الآخذِ بها اجتماعُه على أساس الدين:" التوحيد " هذا الأساس إذا ما أقيمت عليه علائق أي مجتمع، فإنِّك لن ترى في هذا المجتمع ما تراه في غيره من المجتمعات التى لا تُؤسِّس دينها على التوحيد الخالص. ويأتي تأويل " البقاعي " وتبيانه المقصود الأعظم لسورة " المائدة " فلا يخرج عن ذلك المنهاج، فيقول: " مقصودها الوفاء بماهدى إليه الكتاب، ودلَّ عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكرًا لنِعَمِه واستدفاعًا لنقمه " (2) ويقول في سورة "الأنعام ": «مقصودها: الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد بأنّه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة على البعث وغيره»

_ (1) – نظم الدرر: 2/ 204 (2) – السابق: 2 / 385

ويقول أيضًا من بعد تأويله مطلع السورة: ... «فقد لاح أنّ مقصد السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب [البقرة] الذي تبين أنه الهدى من توحيد الله [آل عمران] والاجتماع عليه [النساء] والوفاء بعهوده [المائدة] بأنه - سبحانه وتعالى - وحده الخالق الحائز لجميع الكمالات من القدرة على البعث وغيره " (1) هو بهذا يريك قيام مقصود " النساء " و" آل عمران " و" البقرة " في مقصود " المائدة " وقيام مقصود تلك السورة كلها في مقصود سورة " الأنعام ". وأنت إذ تنظر في مقال البقاعي في صدر سورة " الأعراف " تراه يبين مقصودها بما يقرر بناءه على ماقررته مقاصد السور السابقة عليها بدأً من سورة " البقرة " وما قامت عليه من دعوة الكتاب المستفتح بيانها بالإشارة إلى عظيم قَدْرِهِ (ذلك الكتَابُ لارَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) وما قامت عليه سورة " آل عمران " من تقرير معنى التوحيد، وما قامت عليه سورة " النساء " من تقرير الدعاء إلى الاجتماع على الخير، وما قامت عليه سورة" المائدة " من الدعوة إلى الوفاء بالعقود، وما قامت عليه سورة " الأنعام " من التدليل على ماسبق قيام السور السابقة عليها (2) وهكذا تتناسل مقاصد السور تناسلا يقوم بأمرين جليلين: الأول: تأسيس معنى لم يكن مؤسسا في التي قبلها 0 والآخر: تأكيد ما سبق تأسيسه. وفي كل تأكيد تأسيسٌ من وجه آخر، ولايكون التأكيد بالتكرير بل بالتصريف البياني في تصوير المعاني ذلك أن القرآن الكريم لا يقوم على منهاج التكرير العقيم المنتجه إعادة البيانِ مكوِّنًا ومكنُونًا ذلك أنَّه لايتأتى البتة تكرّر عنصرٍ مهِمّ من عناصر البيان هو ذو أثر جليل في تصوير المعنى.

_ (1) – السابق: 2 / 578، 580 (2) - السابق: 3 / 3

ذلك العنصر هو السياق الذي يقوم فيه البيان المًعاد ذكر مُكَوّنه المرتَّل، فإذا ما تغير موقع البيان المعاد مكوِّنه المرتلّ تغير المكنون المتذوّق، فليس القائم بالمعنى المكنون في البيان هو ما يرتِّله اللسانُ بل هنالك أمورٌ أخرى لاتقِلُّ منزلة عنه. منها السياق المقالى الذي يقوم فيه لك البيان، وذلك السياق معصوم من التناسخ، فهو كدفقة الموج في سياق ماء المحيط الزّاخر لاتتكرّر أبدًا. والبقاعيّ ينظر في السياق الكلّيّ للمعنى القرآنيِّ فيبصرُ أنّه من منازل ومراحل ذات وجوه عدَّة من تلك الوجوه النظر في بيان الله - سبحانه وتعالى - عن القرآن الكريم منزلاً ومقصدًا ,، نظر" البقاعيّ " في هذا البيان فرأى أن تفصيل (أمّ الكتاب) قد بدأ بالبقرة المستهلة بيانها عن القرآن الكريم {ذَلِكَ الْكِتَابُ لارَيْبَ فِيه هُدًى لِلْمُتَّقينَ} وكانت التالية لمفتتح هذه المرحلة هي سورة " آل عمران " وقد أثبت فيها أنَّ القرآن الكريم حقٌّ: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ} (آل عمران:3) وأنّ السياق قد امتدَّ حتى آخر سورة " التوبة " التي هي آخر (الطول) والنازلة في شأن غزوة العُسْرَةِ: تَبُوك، وهي في غَزْوِ الرُّومِ، وكان انتهاءُ التلاوة فيها: {يأيُّها الّذين آمنُوا قَاتِلُوا الّذِين يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّار وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظةً وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقينَ} إلى قوله - عز وجل - {فإنْ تَوَلَّوا فَقَلْ حَسْبِيَ اللهُ لاإِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ العَظِيمِ} (التوبة:123-129) وابتدأ البيان من بعد هذه المرحلة بسورة (يونس) - عليه السلام - التي هي أوَّل (المِئين) والمستهِلَّةِ بيانَها - أيضًا - عن القرآن الكريم:

{بسم الله الرحمن الرحيم الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس:1-2) وكان مقصودها الأعظم " وصف الكتاب بأنَّه من عند اللهِ لما اشتمل عليه من الحكمة...." وكانت التالية لها سورة " هود " مقصودها " وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة " {بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبيرِ} (هود:1) وأن السياق قد امتدّ حتّى آخر سورة " الروم" النازلة في شأن الروم،وانتصار الفرس عليهم،ووعد الله - سبحانه وتعالى - بنصرالروم عليهم؛ ليفرح المؤمنون، وكان انتهاء التلاوة في هذه المرحلة قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كلِّ مثَلٍ وَلَئنْ جِئْتهُمْ بِآيِة لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الّّذِين لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلايَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لايُوقِنُونَ} (الروم:58-60) وابتدأ البيان من بعد هذه المرحلة بسورة " لقمان" المستهلة بيانها أيضًا عن القرآن الكريم {بسم اللهِ الرّحمن الحيم الم * تلك آياتُ الْكِتَاب الْحكِيمِ * هُدًى وَرَحْمةً للْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكاة وَهُمْ بٍِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِمْ وَأُولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان:1-5) وكانت التالية لها سورة " السجدة " مقررة نفي الريب عن القرآن الكريم ومقرّرة أنّه تنزيل من ربّ العالمين:

{بِسْمِ اللهِ الرّحمنِ الرحِيمِ* الم * تَنْزِيلُ الكِتابِ لارَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العَالَمينَ) (السجدة:1-2) وتنتهي هذه المرحلة بانتهاء سورة " الفتح " التي هي آخر (المئين) فأوَّلُ كلّ مرحلة حديث عن القرآن الكريم وآخر كلّ مرحلة سورة من سور الجهاد وانتصار الحق (التوبة- الروم- الفتح) وتأتي سور (المُفَصَّل) المفتتحة بسورة " الحجرات " - على مذهب البقاعي – (1) والمفصّل مَنْزِلُهُ مَنْزِلُ ملخَّص القرآن، فهي كالختام لمراحل السياق الكلّي للمعنى القرآنيّ الكريم. يقول "البقاعيّ" في مفتتح تأويله البيان القرآنيّ في سورة (لقمان) : «مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منزله - سبحانه وتعالى - في أقواله وأفعاله، وقصّة لقمان المسمَّى بها السورة دليل واضح على ذلك كأنّه - سبحانه وتعالى - لمَّا أكمل ما أراد من أوَّل القرآن إلى آخر" براءة " التي هي سورة غزو الروم، وكان - سبحانه وتعالى - قد ابتدا القرآن بعد " أمّ القرآن " بنفي الرَّيب عن هذا الكتاب وأنَّه هدًى للمتّقين واستدلّ على ذلك فيما تبعها من السور، ثُمَّ ابتدأ سورة" يونس "بعد سورة غزو الروم بإثبات حكمته، وأتبع ذلك دليله إلى أنْ ختم سورة الروم، ابتدأ دورًا جديدًا على وجه أضخم من الأول فوصفه في أوّل هذه التالية للروم بما وصفه به في" يونس " التالية لغزو الروم، وذلك الوصف هو الحكمة، وزاد أنَّه هدى وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون أصحاب البدايات

_ (1) - ينظر في القول بأن (الحجرات) أول المفصّل: البرهان في علوم القرآن للزركشي:1 / 245- 246،وهو مذهب ياخذ به غير الجمهور.

ولمَّا أثبت في" آل عمران " [التالية للبقرة التي هي أوَّل المرحلة الأولى] أنّه أنزل بالحق أثبت في" السجدة " التالية للقمان التي هي أول المرحلة الثالثة] تنزيله ونفي الريب عن أنّه من عنده وأثبت أنّه الحقُّ واستمر فيما بعد هذا من السور مناظرًا في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكّر والتَّأمُّلِ والتَّدبُّر" (1) ويقول في مفتتح تأويل سورة (الحجرات) : «حاصل مقصودها مراقبة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الأدب معه؛ لأنَّها أوَّل المفصّل الذي هو ملخَّصُ القرآن، كما كان مقصود (الفاتحة) التي هي أوَّلُ القرآن مراقبة الله - عز وجل - وابتدئ ثاني المفصّل بحرف من الحروف المقطّعة، كما ابتدئ ثاني ما عداه [المئين والمثاني] بالحرف المقطَّعة» (2) كذلك يتبيّن تصاعد المعنى القرآني، وتصاعد المقاصد الكلية في السياق الكُلّي للقرآن الكريم، الذي هو أساس عظيم في فقه حركة المعنى القرآني على لاحب سياق التّرتيل، وهو باب من أبواب البلاغة الغنية العَلِيّة التي نفتقر إلى مزيد العناية به.

_ (1) - نظم الدرر: 6 / 3 (2) – السابق:7 / 220

وهذا يضاف إلى منهاج آخر كثُر عند غير قليل من المفسرين: منهاج علاقة فاتحة السورة بخاتمة ما قبلها، وهو منهج جليل يضيف إلى منهاج تصاعد المقاصد وتناسل المعاني، ذلك أنَّ مقصود كلّ سورة إنَّما يستهل مفتتحها بالإعلان عنه في لطفٍ، ومن ثَمَّ تنادَى العلماءُ ببراعة استهلال السور القرآنية، ففاتحة كل سورة عنوان بليغ لطيف لما قام فيها من المقصد الأعظم والمعاني الكلية. (1) *** وإذا ما كان النظر فى علاقة السورة بما قبلها وبما بعدها من السُّور يُبِّين موقع السورة على لا حب سياق المعنى الكليّ للقرآن الكريم، وكان ذلك النّظر قد لقى عناية كثيرة من أهل العلم، فإنَّ ثَمَّ صورةً هى أبعد مدى، وأوفر جدًى [جَدَا] (2)

_ (1) - البلاغيون والنقاد العرب لهم اعتناء بالغ بهذا في تدبرهم البيان القرآنيَّ، وتذوقهم بيان الشعر، فقديما قال ابن المقفع: ليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك، ويعلق الجاحظ قائلا: ... إنه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي قصدت، والغرض الذي إليه نزعت " (البيان والتبيين: 1/116) ولمزيد من العرفان بهذا راجع: إحكام صنعة الكلام للكلاعي: ص 66، وقانون البلاغة للبغدادي – ص 450، وتحرير التحبير لابن أبي الإصبع: 172، ومقدمة تفسير ابن النقيب: 290، والجامع الكبير لابن الأثير: 187، والمثل السائر لضياء بن الأثير: 2/223، ومعيار النظار في علوم الأشعار لأبي المعالي الزنجاني: 302، والإيضاح (بغية) 4/130، والإكسير في علم التفسير للطوفي: 225 (2) - الجدا يكتب بالألف وبالياء كما يقول " ابن السّكيت" وكتبته أعلى بالياء ليتشاكل مع (مدى) والجَدَا: المطر العام، وفي الحديث: اللهمّ اسقنا غيثًا غَدَقًا، وجَدًا طبَقًا. والجدا: العطية، مثل الجَدْوَى، وأنت تسمع الناس يقولون: " دراسة جدوى المشروع " أي عطاؤه ونفعه،ومثنّي الجَدَا: جَدَوَانِ وَجَديان. ولكلٍّ من (الجدَا، والجَدى) مقام، فإن أردت قوة الجدا، فالألف أدل لأنَّ أصلها الواو، وهو صوت قويّ، وإن أردت اليسر، فالف المكتوبة ياء؛ لأنَّ أصلها الياء، وهو صوت فيه سهولة وخفض.

هى أن تنظر فى السور التى تقاربت فواتحها؛ لأنَّ فى تقارب الطوالع آية على تقارب المقاصد، ولا سيما أن قارئ كتاب الله - سبحانه وتعالى - يجدُ سُورًا قد تباعدت مواقِعُها فى السياق الترتيلى إلاَّ أنَّها تقاربت فواتِحُها ومطالِعُها وإذا ما كان الذكر الحكيم من عند رب العالمين فأدْنى النظر الظنُّ أنَّ من وراء ذلك ما يُغْرِي المَرْءَ باستبصاره واستنباط ما فيه من الهُدَى والرَّحمة. صاحب القرآن الكريم يجِدُ خمسَ سورٍ قد استفتحت بحمد الله، وقد تباعدت مواقعها: سورة الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ،وفاطر. وقد اختلف مقتضى الحمد المذكور فى مفتتح كل، وهي جميعها مكية النزول: - (أم الكتاب:) : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:1-4) - (الأنعام:) {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) }

- (الكهف) : {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) } - (سبأ:) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } - (فاطر:) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) }

فُصِلَ بين سورة (أمّ الكتاب) وسورة (الأنعام) بأربع سور، وبين سورة (الأنعام) وسورة (الكهف) بإحدى عشرة سورة، وبين سورة (الكهف) وسورة (سبأ) بخمسَ عشرة سورة، ولم يكن بين سورة (سبأ) وسورة (فاطر) فاصل، فليس لنا إلاَّ أن نعمد إلى السعي إلى تدبر واستبصار شيء من حكمة البيان القرآني على هذا الوجه من النّسق الترتيليّ، وأسلافنا الأماجد كان منهم سعْيٌ إلى ذلك: يقول السعد التفتازانى (ت 792) في مفتتح شرحه التلويح في أصول الفقه: الحمد يكون على النعمة وغيرها، فالله تعالى يستحق الحمد أولا بكمال ذاته وعظمة صفاته وثانيا بجميل نعمائه وجزيل آلانه ... نعمة الله - سبحانه وتعالى - على كثرتها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولا، وإيجاد وإبقاء ثانيا ... أشير في الفاتحة إلى جميع النعم، وفي "الإنعام " إلى الإيجاد وفى (الكهف) إلى الإبقاء اولاً، وفى (سبأ) إلى الإيجاد وفى (الملائكة) إلى الإبقاء ثانيًا. (1) وهذا الذي قاله السعد فيه إجمال (2)

_ (1) - السعد التفتازاني: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه لصدر الشريعة الحنفي:1/ 4 – ط: محمد على صبيح: القاهرة. (2) - كان " الإمام: ابو عبد الله محمد بن أحمد الخزرجي الأندلسي القرطبيّ المصري توفي بصعيد مصر سنة671هـ قد سبق "السعد" بإشارة عجلى إلى ذلك: قال في مفتتح تأويل سورة (الأنعام) : " ... فإن قيل: فقد افتتح غيرها بالحمد لله، فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره "، فيقال: لأنّ لكلّ واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة،وأيضًا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون "، فانظر في قوله (من أجل عقده بالنعم المختلفة) فإنه هادٍ بإشارته إلى ما جاء " السعد" فمنحه بعضًا من البيان. وأذكر أنّي كنت قد اطلعت على مقالة لمفسر أظن أنّه يسبق القرطبي فيها شيء من التفصيل القريب من تبيين السعد، ويخيّل لي أنه " ابو بكر بن العربي " الفقيه المالكي،ولكني لا أكاد أتيقن من ذلك الآن، ولا أذكر أين قرأت ذلك، وهذا من العيوب التي يقع فيها طالب العلم: لايقيد بعقله أو قلمه ما يقرأ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار، ولعلّى أُهْدَى إليْه إنْ شاءَ الله تَعالَى.

،يعمد البرهان البقاعى (ت 885 هـ) فى تفسيره (نظم الدور) إلى تفصيله مبينا احتواء سورة (أم الكتاب) على مقتضيات الحمد على كمال الذات وعلى جميع نعم الإيجاد والإبقاء. فالحمد على كمال الذات قوله - سبحانه وتعالى - (الحَمْدُ للهِ) أى (أنه المستحق لجميع المحامد لا لشىء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات) أما الإيجاد الأول في قوله - سبحانه وتعالى -: (رَبِّ العالَمينَ) فإنَّ الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية. وأما الإبقاء الأول في قوله - سبحانه وتعالى -: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أى المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء. وأما الإيجاد الثانى في قوله - سبحانه وتعالى -: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو ظاهر (أى – لا يكون مالكا لهذا اليوم إلا إذا أوْجَدَ الخلق مرة ثانية كمثل ما أوجدهم فى الأول.) وأما الإبقاء الثانى في قوله - سبحانه وتعالى -: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخرها، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة) . وأما سورة الأنعام فالحمد فيها على نعمة الإيجاد الأول: ولذلك برز فعل الخلق فى مطلعها: { ... خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ثم انتشر الحديث عن الخلق والإيجاد فى آياتها: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:14)

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38) {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:73) {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:79) {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام:94) {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (الأنعام:95) {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:97) {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (الأنعام:98)

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:99) {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنعام:100) {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام:101) {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الأنعام:102) {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الأنعام:136) {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام:141)

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّعَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الأنعام:164) فهذه السورة كثر فيها الدلالة على فعل الخلق والإيجاد، ولم يرد فى غيرها أن وصف الله نفسه بقوله (فالق) وقد ذكره مرتين متتاليتين كما أنَّه لم يرد اسمه البديع إلا فى هذه السورة: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام:101) وفى سورة البقرة: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة:117) وانظر كيف جعل فى آية (الأنعام) قوله - سبحانه وتعالى - {وخلق كل شىء} ولم يجعل ذلك فى سورة (البقرة) . وإذا نظرت رأيت أن سورة (الأنعام) مكية، وقد نزلت جملة واحدة، كما عليه جمع من أهل العلم، وسورة (البقرة) مدنية، وقد نزلت في سنين عددًا (1) ومنزل سورة الأنعام من السور المكية منزل سورة (البقرة) من السور المدنية: سورة الأنعام "نزلنت مبيّنَةً لقواعد العقائد وأصول الدين ... فغيرها من السور المكية المتأخر عنها نزولا مبنيٌّ عليها، وسورة البقرة قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الإنعام، فغير سورة (البقرة) من السور المدنية مبنيٌ عليها (2)

_ (1) - ينظر: مصاعد النظر للبقاعي: 2 / 119 (2) - ينظر الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي:3 /406-407

فسورة الأنعام المكية عنيت بحمد الله - سبحانه وتعالى - على نعمة الإيجاد الأول الناظر إلى قوله - سبحانه وتعالى - في سورة الفاتحة {ربِّ العَالمين} ، وقد نظرت في مواقع كلمة ربّ في السياق القرآني، فرأيت أنه يَعظم وقوعها في الآيات المكية، وقد جاءت في سورة (الأنعام) أكثر من خمسين مرة.. ولو أنَّا جمعنا معجم كلمات سورة (الأنعام) وتبصرنا المفردات المتعلقة بالخلق والإيجاد الأول لتبين لنا غلبة معنى الإيجاد الأول على هذه السورة المكية المقررة معنى التوحيد الذي هو أساس الدين الذي ارتضاه الله - عز وجل - لعباده. وفى خاتمة السورة- أيضًا - تناغ وتاخٍ مع مطلَعِها المُعْلِنَ حمد الله على نعمة الإيجاد الأول: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّعَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (ي:164) {وَهُوَالَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (ي:165) فقد ختم السورة بما به ابتداءها فإن قوله - سبحانه وتعالى -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (ي:165) هو من مَعْدِنِ قوله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (الأنعام:2)

وقوله - جل جلاله -: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:14) وقوله - عز وجل -: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام:164) هما من معنى قوله - سبحانه وتعالى -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام:1) فدلَّ هذا كُلُّه على أن سورة (الأنعام) " تتكفل بتفصيل نعمة الإيجاد الأول لجميع العالمين من السماوات والأرض وما بينهما وما فيها من آدمى وغيره المشار إليه فى (الفاتحة) برب العالمين كما تقدم" (1) فالتحميد في الأنعام فرد من أفراد تحميد (الفاتحة) تحقيقًا لكونها أمًّا (2) (وأما سورة الكهف) فإنَّ الحمد فيها كان على كمال ذاته (الحمد لله) وعلى نعمة الإبقاء الأول: أى الإبقاء فى الأرض بنعمة الهداية وذلك الإبقاء إنَّما يكون بالكتاب المنزل وبالنبيّ المرسل صلى الله عليه وسلم، ولذلك استفتح السورة بهذين قائلا:

_ (1) - البقاعي: نظم الدرر: 2 / 580 – بيروت (2) - البقاعي: السابق:2 / 579

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً *} فنصَّ على إنزال الكتاب على عبده مقدما قوله: (على عبده) تشريفا للرسول - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - وتباينا لمنزلته، وإشارة إلى أنَّه الذى أسري بعبده ليريه من آياته، وأنّه أنزل عليه الكتاب هداية للناس إلى الحق استبقاء لهم فى الأرض دون إهلاك، ولم يجعل لكتابه عوجا، فهو المستقيم الذى لا عيب فيه مما يجعل أسباب البقاء متينة، فهو الهادي إلى كلِّ حقٍ وخير، وهو الكتاب القيم المهيمن على غيره والمقيم له ولكل من استمسك به. وغير خفِيّ أن " نظام العالم وبقاء النوع الإنساني يكون بالنبيّ والكتاب " (1) وقد نصّ عليهما في مفتتح السورة. وقد كثر الحديث عن أسباب البقاء الأول فى الحياة الدنيا، فذكر قصة أهل الكهف الذين كتب الله - سبحانه وتعالى - لهم البقاء والعصمة من الهلاك بالفتنة فى دينهم كما انتظم بهم أمر من اطلع عليه من أهل زمانهم الذين كانوا على غير هُدى من الله - عز وجل - فأسلموا لما عرفوا من أمرهم

_ (1) - السابق: 4 / 442

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} (الكهف:21) وجاء الأمر بتلاوة ما أوحى فيه الهدى والحفظ: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} (الكهف:27) والأمر بالصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشى يريدون وجه {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28) ففى ذلك تعاون على البر والتقوى الذين هما من أسباب البقاء الأول وذكر قصة صاحب الجنتين وصاحبه وما أحاط بصاحب الجنتين من فنائهما لعدم إيمانه واستمساكه بالهدى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) } {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:46)

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وذكر من قصة العبد الصالح مع سيدنا موسى عليه السلام أحوال من حفظوا من الفناء والهلاك كحال أصحاب السفينة وحال الأبوين الصالحين بقتل غلامهما الطاغى الكافر استبقاء لهم على الإيمان والصلاح وحال الغلامين اليتيمين ابنى الرجل الصالح وبناء الجدار استبقاء لكنزهما. وهذه الحلقة من قصة سيدنا " موسى" - عليه السلام - لم تذكر فى غير سورة الكهف على الرغم من ذكر قصته - عليه السلام - فى مواطن كثيرة من سور القرآن الكريم. (1)

_ (1) - إذا ما تأملت الأحداث الثلاثة التي كانت من العبد الصالح، وما كان من شأن سيدنا موسى - عليه السلام - في الاستفهام عمَّا كان من العبد الصالح، وتأملت حال سيدنا موسى - عليه السلام - من قبل لرأيت أنه قد كان لسيدنا موسى - عليه السلام - حال، وهو رضيع كمثل حال خرق السفينة: ألا ترى أنّ أمه رضي الله عنها قد ألقت به في اليم لينجو؟ أتكون بمنطق العقل البشري نجاة في إلقاء وليد في اليم؟ أتلحظ شيئًا من الإشارة إلى معنى {ِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً} . وكان منه قتل القبطيّ كمثل ما كان من العبد الصالح قتل الغلام الكافر. وكان من سيدنا موسى - عليه السلام - سقي الغنم للفتاتين دون أجر، وهو الذي كان في افتقار إلى ذلك، وهذا كمثل ما كان من العبد الصالح من بناء الجدار في قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما. وهي قد نسقت في السورة كمثل ما نسقت نظائرها وقوعًا في حياة سيدنا "موسى" - عليه السلام -:الأول فالأول. تأمل هذا التقارب، وما فيه من لطائف الإشارات، ووجه البيان عنه في سورة الحمد على نعمة الإبقاء الأول، ومنزلة الفقه عن الله - عز وجل - وأثره في تحقيق كمال البقاء الأول.

وذكر من قصَّة ذى القرنين ما انتظم به من حال جميع أهل الأرض بما أقامه من الردم الحاجز بينهم وبين يأجوج ومأجوج فحفظ لهم البقاء الأول { ... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} (الكهف: من الآية98) هذا القصص مشير إلى أسباب البقاء الأول،ولم يذكر فى غير هذه السورة وهولم يذكر معها قصة (الروح) وجعلها فى سورة (الإسراء) : {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} (الاسراء:85) على الرغم من أنَّ سؤال الكافرين كان عن الثلاثة: أصحاب الكهف وذى القرنين والروح (1) فجاء حديثه عن الروح فى (الإسراء) لأنَّه به أليق وأنسب، وذكر قصة الكهف وذى القرنين هنا لما فيهما من دلالة على نعمة الإبقاء الأول بالهداية إلى الحق والصراط المستقيم. وقد ختم السُّورة بما هو دالٌّ على ذلك -أيضا - فكان متناغيًا متآخيًا مع ما استفتحت به إذ يقول - سبحانه وتعالى -: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف:109 -110) ***

_ (1) - ينظر: تفسير ابن كثير:أول سورة الكهف، وأسباب النزول للواحدي ص:197- ط: الحلبي 1388

(وأما سورة سبأ) فإنَّ الحمد فيها كان على كمال ذاته - جل جلاله - (الحمد لله) وعلى نعمة الإيجاد الثانى بالبعث من القبور ويوم القيامة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآ خِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فقد جاء قوله {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} دون ذكر الأول، بينما جاء فى سورة "القصص": {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:70) ولم يرد ما جاء فى سورة " سبأ "من اختصاص الآخرة بالذكر فى أى سورة أخرى. وذكر علمه بما يلج فى الأرض وما يخرج وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهذا العلم الدقيق المحيط يستلزم القدرة على البعث وقد ذكر فى السورة ما يدل على التبديل والبعث فى مواطن عديدة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (سبأ:3-5) ويبرز - سبحانه وتعالى - التعجيب من حال الذين كفروا في انكارهم الإيجاد الثاني:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) } فمقصود السورة تقرير أمر الآخرة البعث والإيجاد الثاني للحساب " ولقصّة "سبَأٍ" التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد لما فيها من الآيات الشهودية المشهودة لاسيما عند العرب على قدرته - سبحانه وتعالى - على الإيجاد والإعدام للذات والصفات، والتحويل لما يريد من الأحوال، والتصرّف بالحكمةِ في الإعطاءِ والمنعِ ابتداءً وجزاءً لمن شكرأوكفر" (1) {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ:16) {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ:21) {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (سبأ:26) {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (سبأ:30)

_ (1) البقاعي: مصاعد النظر: 2 / 377

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (سبأ:31) {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (سبأ:5) {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} (سبأ:38) {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (سبأ:40) {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (سبأ:42) {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌلَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46) فآيات السورة كما ترى يشيع فيها الحديث عن البعث والإيجاد الثانى وما فيه من حشر وحساب وعقاب فظهر أنَّ سياق الكلام إلى إثبات الحشر والرد على منْكرى الساعة وقد ازداد جلاء بما ختمها به من قوله - جل جلاله -: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ* وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ* وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (سبأ: 51-54) ***

(وأما سورة فاطر) فإنَّ تسْتَهِلُّها بقوله - سبحانه وتعالى -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فاطر:1) دالٌ دَِلالة بيّنة على نعمة الإبقاء الثاني يوم القيامة فقوله (يزيد في الخلق ما يشاء) يتجلى ظهوره لنا أعظم ما يتجلى في الجنة؛ "لأنَّه لا شىء يعدل ما فى الجنة من تجدد الخلق، فإنَّه لا يأكل منها شىء إلا عاد كما كان فى الحال، ولا يراد شىء إلا وجد فى أسرع وقت، فهى دار الإبداع والاختراع بالحقيقة، وكذا النار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (النساء: من الآية56) ." (1) فكانت جديرة باسم (فاطر) الدّال على كمال تحققه في الدّار الآخرة دار البقاء الثاني. ومن أعظم ما يتجلى فيه معنى قوله - سبحانه وتعالى -: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } هو الدار الآخرة: دار البقاء الأخير وقد توالت فى السورة الآيات الدَّالة على ذلك الإبقاء الثانى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (فاطر:7) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر:10)

_ (1) البقاعي: نظم الدرر: 6 / 199 – ط: بيروت

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (فاطر:12) {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ... } {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر:29) {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32) ثم ختم السورة بما هو جِدُّ جلى فى نعمة الإبقاء الثانى بإثابة الطائع ومعاقبة العاصى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) (فاطر:45) يعلم الطائع، فيُثيبُه بطاعته ثوابا لا ينقطع أبدًا،ويعلم العاصى، فيجازيه بعصيانه ما يستحق.

بهذا تبين لنا كيف أنَّ كلَّ سورة منها قد اختصت بغيرما اختصت به الأخرى من مقتضِيات الحَمْدِ، وكيف أنّها رتبت ترتيبا مُحْكَمًا، فكانت (أمُّ الكتاب) جامعة للمحامد وكانت الأنعام للإيجاد الأول الذى يسبق الإبقاء الأوَّل الذى كانت له (الكهف) وكان الإيجاد الثانى بسورة (سبأ) وكانت آخر السور الخمس (فاطر) للنعمة العظمى والأخيرة (الإبقاء الثانى) . (1) وبهذا يتبين لك عظيم دلالة الاستهلال على المقاصد المتصاعدة في السياق القرآنيّ، فلا يكون بِمَلْكِ أحد من العالمين أن يقدم سورة على أخرى {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: من الآية78) (بيان الفصل بين هذه السور) قد يكون الالتفات إلى دلالة استهلال هذه السور بالحمد ميسّرًا، فينبعث القلب إلى التبصّر والتّدبّر، غير أن من اللطافةِ بمكانٍ فَصْلَ السياق الترتيلى بين سورة (الفاتحة) وسورة (الأنعام) بأربع سور: (البقرة،وآل عمران، والنساء، والمائدة) وهي جميعها مدنية بين مكيتين

_ (1) - كنت قد تناولت شيئًا من القول في استهلال هذه السور الخمس بالحمد في فصل من فصول بحثي لنيل درجة العالمية (الدكتوراه) سنة: 1403هـ، وهي لمَّا تنشر في الناس بعد =? ? == فراجعه في كلية اللغة العربية بالقاهرة إن احببت، أوراجع كتابي: (الإمام البقاعي: جهاده ومنهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم) وهومنشور، وأنا أشرف الآن على دراسة للعالمية (الدكتوراه) في بلاغة القرآن الكريم في كلية اللغة العربية بالمنوفية موضوعها (براعة الاستهلال بالحمد في السور الخمس: دراسة تحليلية) يقوم لها الباحث " شحاته عبد الرزّاق " المدرس المساعد بقسم البلاغة والنقد في كلية اللغة العربية بالمنوفية.

وفصل بين سورة (الأنعام) وسورة (الكهف) بإحدى عشرة سورة: الأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، والإسراء، وهي مكيّة خلا الأنفال والتوبة وفصل بين سورة (الكهف) وسورة (سبأ) بخمس عشرة سورة مكية خلا: سورة: الحج، والنور، والأحزاب فإنها مدنية. ولم يفصل بين سورتي (سبأ) و (فاطر) وهما معًا مكيَّتان. حكمة الفصل وتركه من اللطافة، فيفتقِرُ المرءُ معها إلى مزيد من الاستبصار والتّدبر، وما قد ينتجه التَّدبر هو أقرب إلى لطائف الإشارات منه إلى جليّ الدَِّلالات مما يجعل مجال التغاير في فقهه مُتَّسِعًا: فصل بين سورة الفاتحة وسورة الأنعام بأربع سور (البقرة – آل عمران –النساء-المائدة) وقد كثر فى هذه السور الحديث عن تهيئة الإنسان، ولذلك جاء الحديث عن قصة سيدنا آدم - عليه السلام - قبل الإنزال إلى الأرض والحديث عن تعليمه الأسماء كلها والإيمان بالغيب الذي أعلاه الإيمان بالله والإيمان بالبعث، وتعليم التوحيد الذى أشارت إليه سورة (آل عمران) الذي هو سبب الاصطفاء، وتعليم الاجتماع على أهل الدين (حواء) الذى أشارت آية سورة (النساء) وتعليم الوفاء بالعهد (العهد بترك ألأكل من الشجرة) ذلك الوفاء الذي نصت عليه سورة (المائدة) . كل ذلك كان تعليمه للإنسان الأول في الجنّة قبل الإيجاد على الأرض.

ثُمَّ جاءت سورة الإنعام (الإيجاد الأول) وفصل بينهما وبين سورة (الكهف) بإحدى عشرة سورة، وقد ذكر فى هذا الفاصل الإنذار والتذكير بقصص السالفين فى (الأعراف) وما بعدها،وهذا يمهِّدُ للبقاء الأول، فإنَّ الإنذار والتذكير بسنن الله - سبحانه وتعالى - في خلقه الطائعين والعاصين مرشدٌ إلى الصراط المستفيم المطلوب الاهتداء إليه في سورة (أمِّ الكتاب) ،وكاشِفٌ عن صراط المغضوب عليهم،وصراط الضَّالين ليُتّقى، وكاشفٌ عن صراط الذين أنعم الله - عز وجل - عليهم ليُقتَدَى، حتى ختمت بسورة (النحل) سورة النعم والآلاء العامة المفاضة من اسمه (الرحمن) وسورة (الإسراء) سورة النعمة الخاصة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المفاضة من اسمه (الرحيم) وقد ختمها بقوله - سبحانه وتعالى -: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الاسراء:111) إشارة إلى أنَّه مما ينبغى أن يختم المرء وجوده بالحمد وبأعلى ما يكون من خصال الدين. وفصل بين سورة (الكهف) سورة الإبقاء الأول وسورة (سبأ) سورة الإيجاد الثانى بخمسَ عشرةَ سورةً كان التأكيدُ فى هذه السور الفاصلة على أمرين:أهل وده وصفائه، ومهلة البرزخ، فقد أكثر من ذكر الموت وما بعده من البرزخ، ولم تذكر كلمة البرزخ بمعنى ما بين الموت والبعث إلا في سورة (المؤمنون) : {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون: من الآية100)

وقد تكرَّر الحديث عن الموت فى هذه السور الفاصلة على نحو ظاهر، وصدرت سور منها بالحديث عن الموت والبعث: سورة (الأنبياء، والحج) وجاءت سورة (سبأ) تتلوها سورة (فاطر) دون فاصل، لأنَّه ليس بين (الإيجاد الثاني: سبأ) والإبقاء الثانى: (فاطر) مهلة، فلم يقتضِ المقامُ الفصلَ بينهما. (1) وهذه الإشارة الإجمالية لمقضيات الفصل وعدمه بين السور المفتتحة بالحمد تفتقر إلى مزيد من التفصيل في بحث مستقل مبسوط؛ لتبين لنا مقدار صحة هذا التصور في حركة التّدبّر، فإذا ما تجلَّت معالم ذلك زاد العِرفان التفصيليّ، وانتقلنا من طور المعرفة الإجمالية إلى طور المعرفة التفصيلية بأنَّ ترتيب السور على لاحب السياق القرآنى كُلِّه إنَّما هو فى غاية الإحكام والاتساق وأنَّ كلَّ سورة لها موقعها على مدرجة السياق القرآني لا يتأتى التقديم والتأخير، فيكون في هذا دفعًا لمقالة الذاهبين إلى أن ترتيب بعض السور اجتهاد، وليس توقيفًا،وهم يعتمدون في هذا على قرائن لا تثبت عند المناقشة والمناقدة (2)

_ (1) - راجع في هذا البقاعي: نظم الدرر ج4ص442-443 (مفتتح تفسير سورة الكهف) ومما يحسن النّظر فيه العلاقة التوافقية بين سورة (الأنعام) و (سبأ) وسورة (الكهف) و (فاطر) ليستبصؤر ما بين محاور المعنى في كلّ من التوافق والتكامل. (2) - في كتابي: الإمام البقاعيّ جهاده ومنهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم عرضت لشيء من مناقشة ذلك، ولك أن تبحر في الأسفار التي تناولت ذلك بالبسط والتحقيق من ذلك: تفسير المحرر الوجيز لابن عطية:1/34-35،والبرهان في ترتيب سور القرآن لأبي جعفر بن الزبير – ص:182،والبرهان في علوم القرآن للزركشي:1/257،والإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1 / 177، وتفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور: القدمة الثامنة ج 1 ص86، ومناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد عبد العظيم الزرقاني: 1 /353، وهذا الأمر نفتقر فيه إلى دراسة علمية بلاغية جامعة تحيط بمقالات أهل العلم في الأسفار المخطوطة والمطبوعة وتدرس مواقف العلماء نفيا وإثباتًا دراسة نقدية، وتحلل مناهج القائلين بالتوقيف في تبيانهم وجوه التناسب، وتقيم الأصول العلميَّة التي يحسن الاعتماد عليها في تأويل بلاغة ترتيب سور القرآن الكريم في سياقه الترتيليّ. ومثل هذا المشروع العلميّ لا يقوم ببعض حقه قليل من الباحثين في مرحلتي التخصص والعالمية بل هو مستوجب ثلّة من الجادين المحتسبين من أهل الاختصاص بعلوم القرآن الكريم وبلاغته من قسم التفسير وعلوم القرآن في كلية أصول الدين وقسم البلاغة في كلية اللغة العربية.برعاية جامعة أو مركز علمي عالٍ.

إنَّ استبصار موقع السورة في السياق الكلّي لترتيل القرآن الكريم معين على استكشاف حركة المعنى فيها مبدأ ومنتهى واستكشاف علاقة المعانى الكلية والمعانى الجزئية فيها بما سبقها وبما سيتلوها تأسيسا وتأكيدا وإجمالا وتفصيلا ... الخ. ومثل هذا وان كان مستصعبا أو مظنونا أنَّه عقيم غير مُجْدٍ كما يتسارع إلى قذفِه بعض الأساتذة في وجوه طلاب العلم (1)

_ (1) - درج بعض الأساتذة إذا ما سأله طالب علم عن موضوع ما أن يلقي في وجهه بأن ذلك موضوع عقيم، وأنه قد استهلك قولا أوبحثًا، يقول ذلك دونما دراسة جادة ونظر محيط ثاقب فيما يحكم عليه بالعقم، والأمر أعظم من ذلك، فخير لطلاب العلم أن يستكشفوا الموضوعات بأنفسهم، ولا يستسهلوا الاعتماد على مشورة من لا يعرف خطر المشورة في مثل هذا. أنا لا أعرف أنَّ هنالك موضوعًا عقيما إذا ما أنزل طالب العلم عليه سبحات غيثه التفكيريّ والتدبري، كلّ موضوعات العلم أرض نقيّة تقبل الماء الطهور فتنبت الكلأ والعشب الكثير. المهم أن يصيبها الغيث من سماء قلب طالب العلم النّافع. ولذا لا ارى وجها لما درجت عليه أنظمة الدراسات العليا في الجامعات من منع تسجيل دراسة في موضوع سبق تسجيله من سنين عديدة. لا أظنّ أنَّ هنالك من يمكنه أن يوفيّ أيّ موضوع حقّه وإن كان شيخ الشيوخ في عصره فلا يبقى من الموضوعِ الكثيرُ المفتقرُ إلى حقّه من النظر والمباحثة والمفاتشة. ينبغي أن نعيد النظر في مثل هذا، بل ينبغي أن نأذن لأكثر من باحث العمل في موضوع واحد في وقت واحد تحت إشراف أستاذين مختلفين منهجًا وثقافة، فإنَّ ذلك يمنحنا فيضًا عظيمًا من العلم النافع، ولو أن الأمر بيدي في مثل هذا لعملت على تحقيقه، ولكن لا يطاع لقصير أمر.

، فإنَّ من يقترب من شاطئ قاموسه المحيط الذي لا تتراءى شطآنه يدرك بل يوقن أنَّ فقه بناء المعانى وتصويرها فى القران الكريم يلزم صاحبه التّبَصُّرَ والتّدبّر فيما كان عليه حال بناء هذا المعنى وتصويره فى سورة سبقت على جادة السياق الترتيلى وفى سورة لاحقة لها فى ذلك السياق ومثله لا يَُرَى إلا بتحقيق فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنيّ تلك المدرجة التى هي في حقيقتها مدارج ارتفاع الروح فى رياض المعنى القرآني كله تضارعها مدارج إرتقاء صاحب القرآن الكريم يوم القيامة فى مدارج الجنة حين يقال له " أقرأ وارتقِ ورتِّلْ كما كنت تُرَتِّلُ فى الدنيا، فإنَّ منزلتك عن آخر آية تقرأها) . (سنن أبي داود: الصلاة- أبواب الوتر) وقد جاء فى (شعب الإيمان) للبيهقى من حديث أم المؤمنين "عائشة" رضى الله عنها وأرضاها مرفوعا (عدد درج الجنة عدد آى القرآن فمن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة)

الفصل الثانى: فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم

الفصل الثانى: فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم *** أشرت فيما سبق إلى أن القرآن الكريم نزلت آياته منجمة فى ثلاث وعشرين سنة وأن الوحى كان ينزل بالآية أو ما دونها أو ما فوقها وينزل بتحديد ما نزل به فى سورته، فكان المُنَزَّلُ وموضِعُه وحيا من الحق - عز وجل -ذلك موضع اتفاق بين أهل العلم وكتاب الله - سبحانه وتعالى - أضحى بديهة ومسلمة لا ينازع فيها. وإذا ما كان موضع النجم النازل محدًدا توقيفا، فهذا يعنى أنَّ علاقته بما قبله وما بعده لا تتأثر بتقدمه أو تأخُّره عنه فى النزول، فتنجيمه لا يقتضى قطع علائق آيات السورة الواحدة ذلك أنَّ القرآن الكريم فى تنزله الأول إلى اللوح المحفوظ وتنزله الثانى إلى بيت العزة إنّما كان فى صورته الكاملة وكان فى عرضته الأخيرة على رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلا آيات قليلة جدًا نزلت ما بين رمضان وربيع الأول وكان فى صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمثله فى اللوح المحفوظ وبيت العِزَّة، وكذلك كان عند رحيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى عند كثير من الصحابة المحافظين آياته وسوره (1) وإذا ما كان تقسيم القرآن الكريم وتفصيله إلى سور عدتها أربع وعشرون ومائة سورة توقيفا من قبل الحق - جل جلاله - فإنَّ من فوائد هذا التفصيل كما يقول جار الله الزمخشرى «إنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض وبذلك تتلاخط المعاني ويتجاوب النظم» . (2)

_ (1) - مقدمتان في علوم القرآن: 40 (2) - الكشاف: 1/241

فى قوله تتلاحظ المعانى ويتجاوب النظم من الدلالة على أن آيات كلّ سورة إنَّما يكون بينهما من التناسب والتجاوب والتآخى والتناغى ما يحقِّقُ لكُلِّ سورة وحدة بيانيّة معجزة مُدْهِشةً. بل إنَّ تسمية كلِّ قسم من هذه الأقسام باسم (سورة) - وهى تسمية توقيفية - أيضًا - تدلُّ على أنَّ كلَّ قسمٍ سُمِّيَ باسم " سورة" إنَّما يجمع آياته غرضه الرئيسيّ وتربطها علائقُ جوانِيَّةٌ وثيقةُ، فإنّّ كلمة (سورة) يمكن أن تقول هي مأخوذة مما يدل على معنى المنزلة أو الرتبة أو الإحاطة أو البقية على نحو ما ذكره أهل العلم فى اشتقاقها اللغوى. (1) يقول أبو الحسن الحَرالّيّ (ت:637) : «السورة تمام جملة من المسموع محيط بمعنى قام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة» (2) ومعنى ذلك أنَّه كما أنَّ سور المدنية يحيط بجمع من البيوت فى بلد إحاطة جامعة يكون لكلِّ ما فى داخله ما يَنْسِقُه ويربطه مع غيره، ويكون كُلّ ما فيها تحت سلطانٍ بيده تصريف أمر ما فى المدينة كذلك الآيات والجمل والكلمات التى هى أجزاء السورة وعناصرها يحيط بها سور عام، ويكون لكُلٍّ ما ينسِقُه ويتواخى بينه وبين ما اجتمع فيها ويكونُ كُلُّ ما فيها تحت سلطانٍ واحدٍ ميهيمن عليه. وإذا كانت السورة بمعنى المنزلة والمرتبة، فذلك دلالة على أنَّ ما جمعته من آيات فى محيطها المحكم يمثل منزلة ومرتبة من مراتب المعنى القرآنيّ المتصاعد، فإنَّ كل سورة من سور القرآن الكريم مترتبة على التى قبلها، فهى منزلةٌ من منازله المتصاعدة.

_ (1) - المفردات للراغب: 247-248،عمدة الحفاظ للسمين:254، تفسير الطبري:1/86-87،البرهان للزركشي:1/ 263،الإتقان:1/150, مناهل العرفان للزرقاني:1/350 (2) نظم الدرر للبقاعي ج1ص162- ط: الهند

وإذا كانت السورة من"السُّؤْرِ"الَّذِي هو بقية مِمَّا يُشْرَبُ، ثُمَّ خُفِّفَتْ همزتُه، فإنَّ فى ذلك دَِلالةً على تجانس آياتها من جهة وتجانسها مع سائر السور الأخرى؛ لأنَّ سؤرَ الشَّرابِ يجانس سائره. ولعلَّ معنى الجمع الذى هو الرئيس فى اسمه (القرآن) واسمه (الكتاب) يؤازر دَِلالة التَّناسق والتَّناسب والتَّآخي والتَّناغي بين آيات وكلمات السُّورة من وجه وسوره جميعا فيما بينها من وجهٍ آخر؛ لأنَّ العزيز الحكيم العليم لا يجمع بين ما تناقر فى ظاهره وباطنه، وهو الذى ألَّف بين أرواح خلقه فيما هدى إليه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. «عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» . (حديث: 3336 – بخاري: أحاديث الأنبياء والنّص له،ومسلم: البر – حديث: 6867) كذلك آيات القرآن الكريم، وسوره جنود مجندة، فعالم الإنسان من خلقه وعالم القرآن من أمره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: من الآية54) وكل ما يُخيل أنَّ له أثرا فى ضعف فحول الأدباء اتقانَ وجوه التناسق والتناسب والتآخى والتناغى بين أجزاء بيانهم الإبداعى لا يتطرق إلى عقل أن يتخيله إذا ما كان الأمرُ تناسقَ وتناسبَ وتآخي وتناغي جمل وآيات السورة القرآنية وسور القرآن الكريم كلِّه؛ ذلك أنَّ الذى قاله وأنزله إنَّما هو الله رب العالمين العزيز الحكيم العليم الحميد. يقول الحق جل جلاله فى شأن القرآن الكريم: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 192) {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (يّس:5) {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر:1)

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (غافر:2) {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت:2) {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42) فكلُّ هذه الآيات دالةٌ على أنَّ القرآنَ الكريم لم تجمع آياته فى سوره بين دفتيه جمعًا غير حكيم، فإبراز وصف العِزَّة والحِكمَة والعِلم والرحمة وربوبيته العالمين وإبراز أنَّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإبراز الحديث عن مظاهر من عالم الخلق لا يخْفى اتساقها وتناسبها وتأخيها وتناغيها فى مرأى العين،وإبراز أنَّه ليس بقول شاعر ولا قول كاهن، كُلُّ ذلك آياتٌ بيناتٌ على أنَّ القرآن الكريم فى جمل آياته وآيات سوره وفى جميع سوره متناسب متناغم متآخٍ محكم. ولو أنَّ الإنس والجن والخلق أجمعين تظاهروا على أن يلمحوا مجرد لمح أىَّ فرق بين تناسق وتناسب وتآخي وتناغي آيات سورةٍ أنزلت منجمة فى عِدَّةِ أعوام كسورة " البقرة " وسورة أنزلت جملة واحدة كسورة " الأنعام " – على ما يذهب إليه بعض أهل العلم - أو أن يلمحوا الفرق بين آيات النصف الأول والنصف الثانى فى سور نزل نصفها الأول جملة،ثُمَّ نزل نصفها الآخر جملة، كمثل سورة (العلق) ، ولو أنّهم أجمعين تظاهروا على أن ينسقوا آيات سورة من القرآن الكريم على نحو آخر غير الذى هى عليه منذ أن لحق رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى إلى يومنا هذا والى أن تقوم الساعة أو أن يضيفوا إليه آية أو يحذفوا منه آية لتجَلّى للعالمين شَنَارُ صنيعهم ولأدرك كل من له علم بالإسلام والعربية أن ما فعلوا ظاهر العوار، بيّنَ الفَضِيحَةِ. فهم ليسوا بالعاجزين عن الإتيان بسورة من مثله فحسب بل هم العاجزون عن أن يعيدوا نسق آيات سورة من سوره على نحو آخر يحفظ لها بلاغتها وإعجازها في هديها.

وإذا ما كان بعضُ أهل العلم قد استطاع أن يدُسَّ فى بعض قصائد الجاهلين أبياتا أو استطاع أن ينتحل على بعض الشعراء قصائد تامة مما هو معروف فى مظانّه، فإنَّ أهل العلم بالشعر قد مازُوا النَّسيب من الزَّنيم، ولم يخف عليهم ما انتحل. (1) هذا فى الكلمة الشاعرة التى يأتيها الباطل بين يديها ومن خلفها، فكيف بالكلمة المعجزة كلمة العزيز الحكيم العليم الحميد؟ !!! والذى لا ريب فيه أن سور القرآن الكريم ولاسيما السبع الطُّول والمئيين إنّما هى ذات معانٍ كليّة ومعانٍ جزئية تمثل الجملة والآية المعنى الجزئى الذى هو عنصر من عناصر تكوين المعنى الكُلّيّ الذى يشكِّلُ معقِدًا من فصول ومعاقد السورة. والسورة القرآنية فى تشكيل جملِها وآياتها معاقد بمعانيها الكليّة التى يتولى كُلُّ معقد منها تبيان قضية من قضايا الوحى تستوجب أن يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر فى أولها دون آخرها، ولا فى آخرها دون أولها، فإنَّ القضية وأن اشتملت على جمل، فبعضها متعلِّق بالبعض؛ لأنَّها قضية واحدة نازلة فى شئ واحد، فلا محيص للمتفهِّم عن رَدِّ آخر الكلام على أوَّله وأوَّله على آخره " (2)

_ (1) - يقول "ابن سلاّم الجمحي ": "وليس يشكلُ علَى أهلِ العلم زيادة الرّواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضعَ المولدون، وإنّما عضَل بهم أن يقول الرجل من أهلِ البادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال " طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي:1/46-47- ت: شاكر (2) - الموافقات في أصول الشريعة: للشاطبي:3/413- تح: عبد الله دراز

ولابد له من بعد ذلك من الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب السورة برُمَّتها، فتعدد قضايا السورة الواحدة وتعدد معانيها الكلية نازل على سلطان الغرض الأعظم من كلّ سورة، فليست منزلة القضية الواحدة ذات المعانى الجزئية من السورة إلا كمنزلة الجملة والآية من القضية الواحدة، فكما أنَّه لا يستقيم إلا رَدُّ أوَّل الكلام على آخره فى كل قضية ومعقد من معاقد المعاني الكلية، كذلك لا يستقيم إلاَّ رَدُّ أوّ‍ل الكلام على آخره فى كل سورة من سور القرآن الكريم. "وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع فى فهم المكلف، فإن فَرَّقَ النظر فى أجزائه لا يتوصل إلى مراده، فلا يصح الاقتصار على بعض أجزاء الكلام إلا فى موطن واحد وهو النظر فى فهم الظاهر بحسب اللسانِ العربِيِّ وما يقتضِيه لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صَحَّ له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام، فَعَمَّا قريب يبدو له منه المعنى المراد، فعليه بالتعبُّد به (1) فَوَجب على من أراد أن يعرفَ ما يريد منه الحق - سبحانه وتعالى - بكلامه وما يُحبُّ، ويرضى من قليل الخير وكثيره ودقيقه وجليله، وما يبغض ربنا - عز وجل - ويكره من شىءٍ: التَّقوُّل والفعل والاعتقاد أن ينظرَ فى الخطة التى بها يستكشف المراد، ويوقف على المقصود، وهى خطة من أساسها ملاحظة أول الكلام وآخره والشّاطيِيُّ يفرق بين غاية الفقيه، وما يلزمها من مجال حركة التّدبر، وغاية البيانِيِّ، وما يلزمها من مجال حركة التّدبّر: غاية الفقيه تحصيل المعنى الشرعي المتمثل في الحلال ودرجاته، والحرام ودرجاته، وهذه الغاية تتحقق بحركة تدَبُّريّةٍ مجالها قد يكون آية أو آيتين أو عدة آيات.

_ (1) - السابق: 3 / 413 - 414

وغاية البيانيِّ المعنى القرآنيُّ في كماله وامتداده، والذي بِه تتحقق الدلالة على أنَّ القرآن الكريم آية النبوة المحمدية، وهذا لا يتحقق إلا بامتداد النظر في سياق السورة والسُّوَرِ، ذلك أنَّ الوقوفَ على أوجه الإعجاز القرآنيّ وما تزخر به كلّ سورة من الرقائق والدقائق واللطائف لا يَتِمُّ إلاَّ بالنَّظرِ فى أوَّل السورة وآخرها و" إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر، فالاقتصارعلى بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أن الاقتصار على بعض الآية فى استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر فى جميعها. (1) وإذا ما كان النظرفى الآية كلها أوفى جملة من الآيات يمكن اكتساب الوقوف على المعنى الجُمهوريّ فيها، فإنَّ ما فى هذه الآية أو الجملة من الآيات من المعانى الإحسانية التى هى مطمحُ أهل التُّقَى والإحسان لا يمكن استبصار شىء منه إلا بالتدبر للوجود الجمعيّ (النصِّيِّ) للسورة كلها. ولذلك أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عبد الرزاق - رضي الله عنه - فى "المُصَنّف " سيدنا " بلالا " - رضي الله عنه - حين سمعه يخلط فيقرأ من هذه السورة آيات ومن تلك السورة آيات، فقال له: اقرأ كلَّ سورة على نحوها (المصنف: كتاب الصلاة – قراءة الليل) وفى رواية أخرى إذا قرأت السورة فأنفذها) (2)

_ (1) - السَابق: 3 / 415 (2) - الزركشي: البرهان:1/469، والبقاعي:مصاعد النظر:1/450

وما ذاك إلاَّ لأنَّ لِكُلِّ سورةٍ طابِعَها الروحيَّ الذى فيه تعبق المعاني الإحسانية بأرَجِها، والمسلم الناصح نفسه لا يَقْصُرُها على المعانى الجمهوريَّة من القرآن الكريم التى بها يكون جَذْرُ الإيمان بالقلب، وإنَّما شأن المسلم النَّاصح أن يغذُو قلبه نميرَ المعانى الإحسانية، ولذلك كان الأمر بالتَّدبر في آيات القرآن الكريم، فذلك هو السبيل إلى استبصار المعانى الإحسانية وإدراك ما بين المعاني الجزئية فى الآية أو الجملة من الآيات أيسر من إدراك ما بين المعانِي الكليَّة فى السورة، وما المعانى الجزئية فى تلاحمها إلاَّ كمثل أجزاء العضو الواحد من الإنسان بينما المعاني الكلية فى السورة كلِّها تلتحم فيها " كما تلتحم الأعضاء فى جسم الإنسان، فبين كلِّ قطعة وجارتها رباطٌ موضِعِىٌّ من أنفسهما، كما يلتقى العظمان عند المفصل، ومن فوقها تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب من وراء ذلك كلّه يسرِي فى جملة السورة فى اتجاه معين، وتؤدى بمجموعها غرضًا خاصًا، كما يأخذ الجسم قواما واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد مع اختلاف وظائفه العضوية. (1) وبناء السورة القرآنِيَّة من معان كلّيّة بُنِيَت من معانٍ جزئيَّة يكون على أنحاءٍ ومناهج عديدة.

_ (1) - دراز: النبأ العظيم:155-الكويت 1397- لايخفى عليك أن حديث الشيخ "دراز" تمثيليّ تقريبيّ. وكذلك غالب حديث البلاغيين والمفسرين في شأن القرآن الكريم تقريب لما تعجز الألسنة عن الإبانة عن حقيقته الجليلة? ? التي لاتحيط بها العقول، وتدركها القلوب المؤمنة إدراكًا نورانيّا يُبنى عليه إدراك عِرفاني يتولد منه إدراك إحساني عَلِيّّ كريم العطاء

ومجمل الأمر فى هذا " أنَّ كلَّ سورة لها مقصدٌ واحدٌ يُدار عليه أوَّلُها وآخرُها، ويستدلُّ عليه فيها، فترتَّب المقدِّمات الدَّالة عليه على أتقن وجه وأبدع نهج، واذا كان فيها شئٌ يحتاج إلى دليلٍ استدلّ عليه، وهكذا فى دليل الدليل، وهلمَّ جرّا، فإذا وصل الأمرُ إلى غايتِه ختِمَ بما منْه ابتدأ، ثم انعطف الكلامُ وعاد النظر عليه على نهج آخر بديع، ومَرَّ فى غير الأوَّل منيع، فتكونُ السورة كالشجرة النَّضيرة العالية والدَّوحة البهيجة الأنيقة الحَالِية المُزَيَّنة بأنواع الزِّينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدُّر وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر، وكلُّ دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها، وآخر السُّورة قد واصل أولها، كما لاحم انتهاؤها ما بعدها وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كلُّ سورة دائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغُرِّ البديعة النظم العجيبة الضَّمِّ بِلِينِ تعاطف أفنائها، وحسن تواصُلِ ثمارِها وأفنانِها. (1) فمن مقتضَيات هذا أنَّ " مَنْ حقَّقَ المقصودَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ عرف تناسبَ آياتها وقصصها وجميع أجزائها. (2) فالسُّورةُ فى تناسب جُملها وآياتِها ونجومِها ومَعاقِدِها تُشبه الشَّجرةَ ذات الأوراق والأغصان، والتى يسرى فيها كلِّها عصارة واحدة، فلا تختلف طعومها ولا رائحتها، فجميع ثمارها سواء، وجميع أغصائها وأوراقها سواء، هذه العصارة فى الشجرة هى المقصود والمغزى فى السورة وهى المبدأ المُهيمن على كل شئ فيها (3)

_ (1) - البقاعيّ: مصاعد النظر: 1/149 (2) - السابق (3) - قد يتسابق إلى قلبك حين تقرأ كلام البقاعي (ت:885) ما قاله النقاد المحدثون في هذا: «في القصيدة وحدة مصدرها المبدأ الذي يصبغ عناصرها لون واحد، والذي ينساب في أطرافها جميعا كما تنساب العصارة الخضراء التي تغذي الشجرة جذرا وساقا وأغصانا وأوراق، ولهذا فنحن نطلب من القصيدة التي تتحقق فيها الوحدة أنْ ترتبط عناصرها جميعا كما يرتبط الجذر والساق والأغصان والأوراق، فيؤدي كلّ عنصر فيها وظيفته حقا غير منفصلة عن الوظيفة التي يقومُ بأدائها عنصرٌ آخر بحيثُ تسيرُ هذه الوظائفُ مجتمعةً في اتجاه واحد، وتؤدي إلى غاية واحدة هي الأثرُ الكُليُ الموحد الذي تولّده القصيدة في نفس القارئ ". ? - راجع: دراسات في الشعر والمسرح للدكتور مصطفى بدوي: ص7- ط: 2/ سنة 1979، الهيئة المصرية العامة للكتاب، فنّ الشعر لإحسان عباس: ص:196- ط:6 سنة 1979- بيروت. وكتاب الخطيئة والتكفير لعبد الغذامي: ص 116-ط: النادي الأدبي بجدة سنة1405 وهذا المعنى تجده في غير قليل من كتب النقد الأدبي الحديث، لم أشأ أن أثقل عليك بتعدادها، فإذا مالقيك منها، فتذكر مقالة البقاعيّ،ولا تغرنَّك حداثة ما لقيك من مقالاتهم النقدية.

وفى تشبيه السورة بالدائرة وجهٌ آخرُ من وجوه تناسب آياتها ومعاقد معانيها، فكلُّ آيةٍ فى السُّورة دائرة صُغرى ينعطفُ آخرها على آولها وهذه الآيات (الدوائر الصُّغرَى) تتلائم فى محيط دائرة كبرى (السورة) حيث ينعطف آخرُها على آولها، ويلتحم مقطعها بمطلعها، ويرتدُّ عجزها على صدرها، فكلُّ سورةٍ دائرةٌ كبرَى مشتملةٌ على دوائر الأيات،وكلُّ دائرةٍ منها لها شعبة متصلة بما قبلها. وليس بين تشبيه السُّورة بالشَّجرة وتشبيهها بالدَّائرة الكُبرى المحيطة بدوائر صغرى إلا التكامل: التشبيه بالشجرة إنَّما هو فى مجال العلاقة الكليَّة بين عناصر السورة ويكشف عن الروح الموحد، كالشجرة فى سريان عصارة واحدة هى المقصود فى السورة. والتشبيه بالدائرة إنَّما يوضح علاقة آخر الآية بصدرها، ثُمَّ علاقة الآية بالأخرى، فهو ربط الآيات ببعضها المُسَمَّى بالرَّبْط الجُزْئى الذى هو أيسرُ من الربط الكُلى وهذا الرَّبْطُ الجُزئى (الدائرى) لا يكشف المبدأ المهيمن والرُّوحَ السَّارِي والعصارةَ الخضراءَ،وهو ما يسميه العلماء المقصود الأعظم لكلَّ آيات السُّورة، والذى يدار عليه أولها وآخرها، ومن حقَّقه عرف تناسب آيات السورة وقصصها وجميع أجزائها، وبه ينكشف غامض المعنى وتتبين أسرار القصص المكررات وأنَّ كلَّ سورة أعيدت فيها قصة، فلمعنى ادعي فى تلك السُّورة استدلّ عليه بتلك القصة غير المعنى الذى سيقت له فى السورة السابقة، ومن هذا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنَّها لا يخالف شئ من ذلك أصل المعنى الذى تكونت به القصة. (1)

_ (1) نظم الدرر للبقاعي:1/14- ط: الهند

فالمقصد الكُلىّ والمغزى هو الروح المهيمن على جميع عناصر السورة بدأ من الكلمة فى أصغر صورها وانتهاء إلى المعقد ذى الآيات العِدَّة فى أكبر صوره، فإذا العناصرُ كلُّها المكونة للسورة متحدةٌ اتحادَ أعضاء الجسدِ الواحد وأجزاء الشَّجرة الواحدة، يتغلغل فى كلِّ عنصرٍ منها القصدُ الرئيسيُّ، فيطبع صورته ومعناه وموقعه وعلاقاته بالطابع التى يطبع به كل ما اتحد معه فى تكوين السورة، فإذا كُلُّ كلمة أو جملة أو آيةٍ أَوْ نَجْمٍ من نُجومِ السورة يعكس لنا حقيقة واحدة كليَّة هى المغزى الرئيسيّ المهيمن، وهذا ما ترى به كلَّ عنصرٍ معتمدا فى أداء رسالته الكليِّة على بقية العناصر كلها ومتعاونا معها تعاونا لا تغفل عنه البصيرة مما يجعل كلَّ عنصرٍ من هذه العناصر خارج السياق الجمعيّ للسورة غيره وهو فى ثَبَجِ هذا السياق الجمعيّ وعلى لاحِبِه، فيكون لهذا العنصر مفردًا عن منظومته السياقية روحٌ غير تلك التى كانت له وهو فى تلك المنظومة السياقية، والتى سماها " مصطفى الرافعى" (روح التركيب) والتى «لم تعرف قَطُّ فى كلام عربيّ غير القرآن، وبها انفرد نظمه، وخرج مما يطيقه النَّاسُ، ولولاها لم يكن بحيث هو كأنَّما وُضِعَ جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين إذ تراه ينظر فى التركيب إلى نظم الكلمة وتاليفِها، ثُمَّ إلى تاليف هذا النظم: فمِنْ هاهنا تعلَّق بعضُه ببعضٍ، وخرج فى معنى تلك الروح صفة واحدة هى صفة إعجازه فى جملة التركيب. وإن كان فيما وراء ذلك متعدِّدَ الوجوه التى يُتصرَّف فيها من أغراض الكلام ومناحى العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب، كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال إلى نحوها مما تدور عليه» . (1)

_ (1) - الرافعي:إعجاز القرأن والبلاغة النبوية: ص 279 – ط:8 –1389- المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة.

وبهذا الروح يتحقق التمازج بين السياقين الكلِّيَّين للقرآن الكريم: السياق التشريعيّ والسياق التثقيفى. ترى آيات التشريع العقدي والسلوكي ممزوجة بآيات التثقيف والتربية النفسية للامة لتقبل على التشريع إقبالَ رغبةٍ وشغفٍ وتلذُّذٍ في ما شَرَع الله - سبحانه وتعالى - لذة ومتعة واسترواحا، فتسهترت النفس المطمئنة فىذلك استهتار الفاجرة الأمَّارة بالسوء فى الموبقات والآثام، بل إنَّ هذه الروح لتمزج التشريع والتثقيف فى الآية الواحدة مزجًا لا تحس معه أىُّ نفسٍ مُرْهفة أىَّ شيءٍ مِنَ التَّبايُن والتّفاصُل على الرغم ممَّا قد يُظنُّ أنَّ البيانَ التَّشريعِيّ يقتضِي غيرما يقتضِيه البيان التثقيفى مفرداتٍ وتراكيبَ وتوقيعا صوتيا..الخ. اقرأ ما شئت مما سمى بآيات الأحكام بقلبٍ سليمٍ وحِسٍّ لغويٍّ مرهفٍ وذائقة بيانيَّة نافذةٍ، وانظر ماذا ترى؟ ترى آيات التشريع العقديّ والسلوكيّ تمازج بها نَمِيرُ التثقيف والتربية النفسية والشحذ الروحيّ للقوى بحيث لا ترى نفسُ المسلم فيما جاء فيها من واجبات أثر المشقة والإثقال وتكبيل حرية الحركة السلوكية للمسلم فى الأرض، بل ترى فى ذلك إشراقة الهدى والإعانة والتنظيم والوقاية وجلال التشريف بالسوق الرؤوف على مدارج القرب الأقدس. ولهذا لا ترى تفاوتا بين بلاغة القرآن الكريم المعجزة فى وجه من وجوهها: لا ترى تفاوتا بين أيَّ ضربٍ من ضروب آياته التشريعية أو التثقيفية، ولا بين أيّ سورة وسورة أخرى، فجميع جمله وآياته وسُوَرِه على درجة سواء فى بلاغتها المعجزة ذلك أنَّ الإعجاز البلاغيّ للجملة أو الآية أو السورةٍ ليس فى كثرة ما اشتملت عليه من خصائص التراكيب، وصنوف التصوير وضروب التَّحْبِير:

ليست الآية التى حوت عشرات من خصائص التركيب والتصوير بأشدّ إعجازا فى بلاغتها من الآية التى حوت ثلاثا من ذلك، وليست سورة "البقرة " بأشدَّ إعجازا من سورة " الكوثر " فإنَّ إعجازه البلاغيَّ ليس بكثرة ما حوى من خصائص التركيب وضروب التصوير والتَّحبير، ولكن بكيفية تركيب المعنى القرآنيّ بناءًا وتصويرًا وتحبيرًا فى السورة القرآنِيَّة جميعها، ثُمَّ في القرآن الكريم كله، ففي هذا يكتمل سلطان الروح التركبييّ المنبثق من المقصد والمغزى الكليّ الرئيسيّ لكلِّ سورة وبغير اكتمال هذا السُّلطان لا يكتمل لبلاغة القرآن ِ الكريمِ إعجازُه. هذا المغزَى الكُلِّيُّ والمقصودُ الرئيسيُّ هو مفتاح خزائن كلِّ سورة من لطائف المعانى، ورقائقها، وحقائقها، لأنَّه المهيمن على كلِّ عنصر من عناصر البيان فى السورة (1)

_ (1) - يشير بعض نقدة النصوص الإبداعية إلى شيءٍ من أهمية السعي إلى استكشاف المغزى الدقيق الذي يهيمن على أجزاء النّصّ الذي يصالح بين الفقرات المتعارضة، ففي كلّ نصٍّ لابد أن يكون ثَمَّ معنى ينسجم مع كلّ الفقرات، وبه يكون كلّ جزءٍ منه متلائمًا متّصلا ببقية = = الأجزاء. ومنهم من يذهب إلى أنّ في كلّ نصّ جملة مفتاحية، بها يكون الولوج إلى أدغال النصّ، ويعدّ العثور على تلك الجملة عثورًا على المفتاح الأعظم. راجع: قواعد النفد الأدبي لكرومبي -تر: محمد عوض- ص: 56، ومجلة (فصول) ص:56- مجلد:1 عدد 2 - يناير: 1981، وكتاب قضايا النقد الأدبي لزكي العشماوي:- ص:146، وفن الشعر لإحسان عباس:210،

فكان الاعتناءُ باستبصاره واستحضاره هو فى حقيقته سعيٌ الى امتلاك مفاتح خزائن المعنى القرانيّ فى السورة وهو من اللطافة والدّقة ما يُخيّل للنَّاظر العّجِل أنَّ لسورتين من القرآن الكريمِ تقارنتا أو تباعدتا مغزًى ومقصدًا واحدًا، وانَّ لخزائن معانيها مفتاحًا واحدًا اغتررًا بتقارب بعض الجمل والآيات والمعاقد فى السورتين، فلا يَكَادُ يُجْدِي حينَذاك استِفْتَاحُهُ خَزَائنَ المَعَانِي فِي السُّورتَينِ بمفتاحٍ واحدٍ فى استبصار شيءٍ من دقائقِ المعانيِ ورقائِقِها ولطائفِها فى السُّورتين التى بها يرتقى المرء فى مقامات القرب الأقدس. - - - - روافد استبصار المقصود الأعظم استكشاف المغزى والمقصود الكليّ فى سورة يحتاج الى مصابرة ومدارسة فسيحة عميقة متكاثرة الروافد، أشير هنا إلى بعض هذه الروافد التى يمكن أن يُسْتَقَى منها فقهه واستبصاره. - اسم السورة: لكلِّ سُورةٍ من القران الكريم اسمٌ تعرف به بين أصحاب القرآن الكريم منذ عصر النبوة الماجد، وبعض السور لها أكثر من اسم منها ما هو توقيفِيّ جاء على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لسان بعض صحابته - رضي الله عنهم - ومنها ما هو اصطلاحى (1) واسم كل سورة مترجم عن مقصودها؛ لأنَّ اسم كلِّ شئ تلحظ المناسبة بينه وبين مسماه، عنوانه الدَّال بالإجمال على تفصيل ما فيه (2)

_ (1) - تفسير الطبري:1/84 (2) - مصاعد النظر:1/209

ولعله لذلك كان تعليم آدم الأسماء، ففى الاسم بيان العنوان الدَّال على ما في المُسَمَّى به. وسواء قولنا إنّ (الاسم) مشتق من السُّمُوِّ: الارتفاع كما ذهب اليه البصريون من أنَّه معتلُّ " اللام"، أو مشتقٌ من الوَسْمِ كما هو مذهب الكوفيين، فيكون معتلَّ " الفاء "،فإنَّ فى الارتفاع والسمو دَِلالةً على أنَّه أظهرَ مسماه ورفعه للعيان، فصار به مرفوعًا معلومًا، وفى الوَسْمِ دَِلالةٌ على أنَّه تميَّز بكشف ما فيه عن غيره، فإذا ما كان الاسم توقيفا كانت دَِلالته على مضمون مُسمَّاه، وما به امتاز عمَّا عداه جِدّ وثيقة. ألا تَرَى أنَّ الله - سبحانه وتعالى - هو الذى سمَّى خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم - محمدًا (1) وهى تسمية دالة على حقيقته وكنهه. وجاء قول الله - سبحانه وتعالى - {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (الفتح: من الآية29) جامعا بين ما هو كاشف عن حقيقته: (محمد) وما هو كاشف عن وظيفته (رسول الله) وكذلك أسماءُ سور القرآن الكريم سُمِّيَتْ كُلُّ سُورةٍ باسم كاشفٍ عن مقصودها الأعظم، فهي لا تُسمَّى إلاَّ بما هو أهمُّ ما فيها فى علاقته بالروح المهيمن على جميع كَلِمِها وجُملها وآياتها ومعاقدها، وليس بما كثُرَ ذكرُهُ فيها،أو بسط القول فيه، أو اختصت بذكره دون غيرها أو غلب ذكرُه فيها، فكُلُّ هذا ممَّا جاء عن بعض أهل العلم إنَّما هو غير معتبر، ألا ترَى أنَّ رسولَ اللهِ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - ذكر في أربع سور (آل عمران – الأحزاب – محمد – الفتح) ولم تُسمَّ به إلاَّ سُورة واحدة: (محمد) ، وكان مقتضى الظاهر أن تُسمَّى باسمه سورة (الأحزاب) أو سورة (الفتح) .

_ (1) - ينظر: الروض الأنف:1/182- دار المعرفة- بيروت، وأنساب الأشراف للبلازري: 1/80-81 = تح: محمد حميد الله – دار المعارف- مصر.

الناظر فى السورة التى سميت باسمه وفيما كان من شانه - صلى الله عليه وسلم - منذ نشأ إلى أنْ لَحِقَ بالرَّفيق الأعلى من المجاهدة فى سبيل الله - سبحانه وتعالى - فاستوعب صور الجهادِ الحِسِّيِّ والمعنويِّ والقتاليِّ والتربويِّ والدَّعويِّ والدِّفاعيِّ والفَتحِيِّ والعمليِّ والعِلْمِيِّ وكذلك قارئ الآيات التسع من فاتحة السورة التى سميت باسمه والتى لم تستفتح سورة بمثل ما استفتحت به: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

يدرك عظيم الاعتلاقِ بين مضمونِ هذه السّورةِ، ومقصودها الأعظم واسم رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نبيِّ الملحمة القائل فيما أخرجه البخارى - رضي الله عنه - في كتاب الجهاد بسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى» . (حديث: 88) (باب: ما قيل في الرماح) والقَائل فيما رواه البخاري - رضي الله عنه - بسنده عن عبد الله بن أبي أوفَى رَضِيَ الله عَنْهُمَا في كتاب الجهاد أيضًا: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ» (باب الجنة تحت بارقة السيوف) حديث: 2818 ويدرك فى الوقت نفسه عظيم التناسب بين اسمها (محمد) واسمها (القتال) من جهة وبينها وبين مضمونها ومقصودها الأعظم. وكذلك سورة (يونس) تراها سميت بذلك مع أنَّ قصة سيدنا (يونس) - عليه السلام - جاءت فى سورة (الصافات) فى عشر آيات. وفى سورة (الانبياء) بينما لم يأت ذكره فى سورة (يونس) - عليه السلام - إلاَّ فى آية واحدة. {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98) وكانت هذه السورة أحقَّ باسم (يونس) - عليه السلام - فإنَّ قصة يونس فيها " هى المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغة العذاب لهم، فيتوبون الى ربهم - سبحانه وتعالى - وفى الوقت سعة، وهم وحدهم فى تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم - عليه السلام - قبل وقوعه بهم كما هى سنة الله - جل جلاله - فى المكذبين المُصِرّين" (1) ومطلع السورة هاد الى ذلك:

_ (1) سيد قطب: في ظلال القرآن: 1752

{بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس:1- 2) ولم يرد هذا المطلع فى مفتتح سورة أخرى، ولا فى غير مطلعها، ففيه دَِلالة على أنَّ القرآنَ الكريمَ وحيٌ من عند الله - عز وجل -،وليس من عند غيره وأنَّ غيره لا يقدر على شئ من ذلك، ولذلك استنكر تعجب الناس أن يوحِى الله - سبحانه وتعالى - الى رجل منهم بإنذار المعاندين وتمكين المؤمنين إذ كيف يعجبون ولا يستطيعه أحد سواه - جل جلاله -. وكذلك كشف العذاب وتمكين قوم لما آمنوا لا يستطيعه أحد سواه، ففى تفرُّد قوم (يونس) - عليه السلام - بالايمان الجَمْعِيّ وكشف العذاب عنهم دون غيرهم من الأمم آية صادقة على أنَّ القرآن الكريم من عند الله - سبحانه وتعالى - وحده أوحاه إلى رجلٍ من العرب عبده سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من العرب.

وإذا نظرنا فى قصة سيدنا (موسى) - عليه السلام - رأينا أنَّها أكثر قصص الأنبياء وُرودًا فى عديد من السور، وقد بسطت فى سور كثيرة، ولم تُسمَّ سورة واحدة باسم (موسى) - عليه السلام - وإن سميت سورة (الإسراء) باسم (بنى إسرائيل) ، وعلى الرغم من أنَّ سيدنا (موسى) - عليه السلام - من أولِي العزم من الرُّسل الذين سمى باسم ثلاثة منهم (نوح – إبراهيم – محمد) عليهم السلام سورة من سور القرآن الكريم خلا سيدنا (موسى) و (عيسى) عليهما السلام، وموسى كليم الله - عز وجل - وعيسى كلمة الله - سبحانه وتعالى - ففى كلٍّ منهما ماليس فى غيره من الأنبياء وسيدنا (موسى) - عليه السلام - قد ورد اسمه فى القرآن الكريم ستا وثلاثين ومائة مرة (136) وسيدنا (عيسى) ورد اسمه خمسا وعشرين مرة. وكان ظاهر الأمر أن تسمَّى سورة (القصص) باسم سيدنا (موسى) - عليه السلام - فقد أفردت السورة لقصته منذ ولادته إلى انتصاره وهلاك أعدائه: فرعون وهامان وقارون، وحين ذُكرت قصة (قارون) كانت لاحقة بقصة (موسى) - عليه السلام -: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ... } (القصص: من الآية76) وكان إفراد سورة (القصص) لقصة (موسى) - عليه السلام - أشبه بإفراد سورة (يوسف) - عليه السلام - لقصته. وكان مقتضى الظاهر أيضا فى سورة (النمل) أن تسمى سورة (سليمان) - عليه السلام - او سورة (الهُدهُد) ، فإنَّ شأنَ (الهُدهُد) لا يقلُّ عن شأن (النملة) فى القصة، ولا سيما أنَّ سورة (النمل) مقصودها الأعظم إظهار العلم والحكمة، وفى قصة "الهدهد": {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل: من الآية22)

وفى قصة النملة {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18) ترى فى مقالتها الحكمة ممزوجة بالعلم، ولا ترى فى مقالة (الهدهد) إلا أظهار العلم فى ثوب فخر، فكانت مقالة (النملة) أعلقَ بمقصود السورة، فالاعتداد فى التسمية ليست فى قلة ذكر ما سُمِّيَ به أو كثرته. فالامر مرجعه إلى إنباء الاسم عن وَسْمِ السورة. وقد يكون للسورة الواحدة أكثرمن اسم توقِيفيّ، كما فِي سُورة (الفاتحة) (1) وكثرة الاسماء التوقيفية آيَةٌ على عِظمِ مقصودِها، فإنَّ كلَّ اسمٍ من أسمائها ناظرٌ إلى وجه من وجوه مقصودِها، وهذا له أصول تصلح لإقامة علم فقه أسماء سور القران الكريم، وذلك وحده جدير بأن يفرغ له بعض أهل العلم لمدارسته وتحقيقه. *** - فاتحة السورة وخاتمتها: لم يشأِ الله - عز وجل - أن يجعل القرآن الكريم كلّه سورة واحدة بل جعله سورًا تتفاوت في عدد آياتها وكلماتها،وجعل لكلّ سورة مطلع تلاوة ومقطعها، فهل لذلك علاقة بالغة بمقصود السورة الأعظم؟. ? الفاتحة والمطلع: (2)

_ (1) - تفسير الطبري: 1/89-90، (2) - في كلّية اللغة العربية بالقاهرة دراسة لنيل العالمية في البلاغة للدكتور:" إبراهيم صلاح السيد الهدهد" الأستاذ المساعد في الكلية موضوعها (علاقة المطالع بالمقاصد في القرآن الكريم: دراسة بلاغية) أشرف عليها شيخي: محمد أبو موسى،وقد شاركت في مناقشتها سنة 1414، وقد أفدت منها خيرًا وافرًا.

من سنة العربية فى بيانها أن تجعل فى الصدر دلالة على المراد وإنباءً بالمقصود، كيما يكون السَّامع على بصيرة بما هو متلقٍ له وشان العربيّ فى حياته الاستدلال بما كشف له على ما غاب عنه، وقد علمته حياة الصحراء الاستدلال والفراسة، فكانوا يستخدمون الدليل فى أسفارهم؛ ليكشف لهم ما غاب عنهم، ويهديهم ما اشتكل فى مناهج أسفارهم. وهم فى بيانهم من قبل نزول القرآن الكريم يتخذون من صدور قصائدهم هوادى إلى مضامينها، وجاء الذكر الحكيم على ما كان من سننهم فى الإنباء بمطالع البيان على مقاصدهم، فكان مطلع كلِّ سورة مضمَّنا معالمَ هادية إلى مقاصدها. فاتحة الكتاب وأمِّ القرآن الكريم هى مطلعه وفيها إجمال تفصيل القرآن من الأصول والفروع تشريعًا ومن والمعارف واللطائف تثقيفًا، فيحصل لمن تدبَّر " من معانى الفاتحة – تصريحا وتضمينا- علم إجمالى بما حواه القرآن من الأغراض، وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلّب التفصيل على حسب التمكن والقابلية، ولاجل هذا فرضت قراءة (الفاتحة) فى كل ركعة من الصلاة حرصًا على التذكر مما فى مطاويها " (1) وكأنَّ المُصلِّي قد استذكر المعاني القرآنيَّة على سبيل الإجمال والإحكام فى كل ركعة.

_ (1) - التحرير والتنوير لابن عاشور: 1/134

إذا ما كان هذا فى إنباء مطلع القرآن الكريمِ بما حواه تفصيلا فى سوره، فالأمر كمثله فى كلِّ سُورة، إذْ ينبئ مطلعُ كلِّ سورة على مضمونها ومقصودها. وأهل العلم بالبيان على أن يكون الابتداءُ دلائلَ البيان مناسبًا لقصد المتكلم من جميع جهاته (1) فاستبصار مقصود المتكلم من مفتح كلامه نهج قديم وسنن تليد دعا إليه وأخذ به الأقدمون وهو فى باب التدبُّر القرآنيّ أسمق وأوسق. (2) واذا ما كانت سور القران الكريم ليست على درجة سواء فى طولها وقصرها وعدد آياتها، فانَّه لمن العسير أن يكون ثَمَّ معيار كَمِّيٌّ للمطلع، وليس هناك تلازم توافقي بين مقدار المطلع ومقدار سورته طولا وقصرا، ولكن الذى هو أقرب أنَّ المطلع هو مجموع ما انتظم به تمام المعنى ولهذا تستطيع أن تستانس فى هذا بهدى النبوة. روى الدَّارميُّ - رضي الله عنه - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - – موقفا:

_ (1) - الصناعتين للعسكري: 489، سرّ الفصاحة:270، منهاج البلغاء لحازم: 309 (2) - يقول البدر بن مالك "ت 686 هـ": «واذا نظرت الى فواتح السورجملها ومفرداتها رايت من البلاغة والتقنن وأنواع الاشارة ما يقصر عن كنه وصفة العبارة» (المصباح:271) ويقول الخطيب (739 هـ) «وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود» (الإيضاح: بغية: 4/130) ثم يقول فى آخر العبارة له فى الايضاح «جميع فواتح السور وخواتمها واردة على احسن وجوه البلاغة واكملها – يظهر ذلك بالتامل فيها مع التدبر لما تقدم من الاصول) . وهى مقالة كثيفة متَّسمة بالإشارة إلى أنَّ استبصار دلالة المطلع على المقصود إنَّما يكون بالتامل والتدبر وفقا لأصول علوم البلاغة المعانى والبيان من خصائص أنماط التراكيب وضروب التصوير وصنوف التحبير، فهذا إيماء إلى وجوب التدبر البيانيّ لمطلع السورة لاستكشاف دلالتها على مقصود السورة، وذلك يعنى أن دلالته على المقصود ذات خفاء لا يستبصره إلا أهل العلم.

«مَنْ قَرَا أربعَ آياتٍ من أوّل سورةِ البقرةِ وآية الكرسى وآيتين بعد آية الكرسيّ، وثلاثًا من آخر سورة " البقرة " لم يقربْه، ولا أهلَهُ يومئذٍ شيطانٌ، ولا شيءٌ يكرهه، ولا يُقْرِأَنَّ على مجنون إلا أفاق» سنن الدرمي: فضائل القرآن –: فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي. ومثل هذا وإن كان موقوفًا على سيدنا "ابن مسعود" - رضي الله عنه - فإنَّه مما لا يقوله الصحابى من عند نفسه؛ لأنَّه من الغيب الذى لا يُعلمُ إلاَّ عن طريق الوحى، ولعل عدم رفع سيدنا " ابن مسعود" - رضي الله عنه - مقالَه هذا الى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن يكون فى مقاله ما هو على غير يقين من منطوقه، وإن كان على يقين من مضمونه، فحين يقوم فى ظنِّ الصحابيّ مخافة أن يتجاوز المنطوق يروى المضمون ولا يرفع. وهذا من عظيمِ وروعهم،وصدقهم،وأمانتهم. وهذا الموقف قد جاء مرفوعا من السيدة عائشة رَضِيَ الله عَنْها الى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فى " مسند الفردوس " مثله: «مَنْ قرَأ من أول البقرة أربع آياتٍ وآية الكرسى والآيتين بعدها والثلاث من آخرها كلأه الله فى أهله وولده وماله ودنياه وآخرته» (1) وإذا نظرنا ألفينا أنَّ مطلع سورة " البقرة " من أولها إلى آخر قوله - سبحانه وتعالى -:

_ (1) - البقاعيّ: مصاعد النظر: 2/57 في هذا الحديث دَِلالة على أنّ (الم) في مفتتح البقرة ليس آية مستقلة كما هو شائع، فيكون عدد آيات سورة البقرة خمسًا وثمانين ومئتين، فقد انفرد العدّ (الكوفيّ) بجعل (الم) آية مستقلة، وليست جزءًا من آية. والمدنيّ والمكي والبصري والشامي لايعدونها،وهذا ما يتفق مع الحديث الموقوف والمرفوع.

{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة:5) وختامها من أول قوله - عز وجل -: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 284 – 286)

وقلب السورة الآيات: {اللَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:255-257) (1) مطلع السورة هو مقدمتها التى تبدأ من أوَّلها إلى نهاية قول الله - سبحانه وتعالى -: { ... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: من الآية20) فمقدمة السورة أبسط وأمد من مطلعها هنا، وكذلك فى سورة (آل عمران) فإنَّ مطلعها هو قوله - سبحانه وتعالى -: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

_ (1) - إذا ما كان قلب القرآن سورة (يس) وهي ليست في وسطه، فإنَّ لكل سورة قلبا، ولا يلزم أن يكون في وسطها كما في سورة الفاتحة حيث جاء قول الله - سبحانه وتعالى - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) في وسطها، فقد يكون قلبها قريبا من بدايتها أو نهايتها.

ولكن مقدمتها تمتد إلى نهاية قوله - جل جلاله -: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران:9) وقد يكون المطلع هو المقدمة، كما فى سورة (النساء) فإنَّ مطلعها هو الآية الأولى منها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) وهى أيضا المقدمة وما بعدها موضوعها.

وإذا ما نظرنا فى مطلع سورة (البقرة) ألفينا أنَّه مجموع ما انتظم به تمام الدلالة على أم المعنى القرآنى فى السورة، ففى هذا المطلع ثلاثة مرتكزات: (الكتاب- المتقين - الإيمان بالغيب وما بعده) الثانى والثالث (المتقين - الإيمان بالغيب) من الأول (الكتاب) ، ولذلك جاءت العبارة عنه فى قوله- سبحانه وتعالى - {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} فى غاية الإيجاز لمعنى جدّ مديد بسيط لا يُحاط به، ولأهل العلم من المفسرين والبلاغين مقالات فى بيان التعريف فى (ذلك الكتاب) وفى النفى فى قوله {لا ريب فيه} ثُمَّ فى ما تعلق بقوله (هدى) فإن قوله (للمتقين) أي المتقين صراط المغضوب عليهم من اليهود، ومن اتخذ منهاجهم في نبذ الحقّ بعد علمه تكبّرًا وجحدًا، وصراط الضَّالين من النصاري ومن اتخذ منهاجهم في العبادة على جهل بما يعبد وكيفية العبادة التي ترضيه وهذا المعنى أساس الإيمان وما يبنى عليه من منازل الطاعة والقرب. (1) وقد شاع فى هذه السورة الحديث عن شيئين بهما تأطيد معنى كمال ذلك الكتاب: - الأول: الإيمان بالغيب

_ (1) - ذلك ما أذهبُ إليه من تقييد قوله (المتقين) بمعمول مفهوم من ختام سورة الفاتحة، والتقوى هنا ليست هي التقوى في قوله - سبحانه وتعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) والتي جاء في البيان النبويّ كشفُ حقيقتها ومبدأ أمرها بقوله - صلى الله عليه وسلم - {لايبلغ العبدأن يكون َ مِنَ المتّقِين حتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأسُ} (رواه ابن ماجه: كتاب الزهد – باب: الورع والتقوى – حديث:4215) فهذاالمتقى يدع سبعين بابا من الحلال مخافة الوقوع فى شئ من الحرام التي هي منزل أعلى من منزل الإيمان. وهذا من تلاحظ المعنى في مطلع سورة البقرة ومختتم سورة الفاتحة.

- والآخر: (التقوى) فقد وردت هذه الكلمة ومشتقاتها فى سورة " البقرة" ستا وثلاثين مرة، وهذا ما لم يك فى غيرها. وفى مطلع كل سورة تكون مفردة من مفردات القرآن الكريم تذكر من بعد ذلك فى السورة على نحو لافت بمادتها وصيغتها أو مادتها فقط وعلى نحو لا يكون مثله مقدارا وكيفية فى أى سورة أخرى، وكذلك يتوارد فى السورة ما كان من الأسرة الدلالية لهذه المفردة وفى هذا آية على أنَّ دلالة هذه المفردة عنصر رئيس من عناصر المقصود الأعظم للسورة، فليس بقية السورة من بعد ذلك عمل عقيم أو عابث لا يجدى، فإنَّه تنزيل من عزيز حكيم عليم حميد، فمن النصح للقرآن الكريم تدبُّرا ملاحظة ذلك فى استبصار عناصر المقصود الأعظم للسورة. ولما كانت التقوى أساسُها ملاحظة الله - سبحانه وتعالى - الذى هو الغيب المطلق ذاتا والشهود الحاضر فى الكون صفة وفعلا كانت التَّقوى قائمة على يقين راسخ بالغيب. لهذا كان لسورة البقرة عنايةٌ خاصَّة وظاهرة بأمرالغيب والإيمان به، وبكلِّ ما هو من سبيله، وعلى رأسه الإيمان بالبعث، وقد انتشر ذلك فى السورة على نحو ظاهر: فى قصة أبينا (آدم) - عليه السلام - إبراز لمعنى الإعلام بالغيب على نحو لا يتكرر فى هذه القصة فى سورة أخرى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (ي: 30) {قَالُوا سُبْحَانَكَ لاعِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (ي:32) {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (ي:33) وفى غيرهذه القصة جاء قوله- سبحانه وتعالى -: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (ي:72) {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (ي:77)

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (ي:255) وغير ذلك كثير وعنيت السورة بأمر البعث وهو من أمر الغيب: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (ي:28) {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (ي:46) {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (ي:48) {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (ي:123) {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (ي:203) {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (ي:56) {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (ي:73) ومن أبرز هذا قوله - جل جلاله -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (ي:243) وقوله - عز وجل - فى محاجة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وقد تفردت السورة بذكرها:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (ي:258) وكذلك فى مخاطبته ربه - جل جلاله -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (ي:260) وكان فيها آخر آية أنزلت: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (ي:281) فجمع فيها بين التقوى والبعث. وكثير مما جاء من تشريعات لا يقبله إلا من آمن بالغيب وأيقن بالبعث من نحو تشريعات الإنفاق صدقة أو قرضاً، وتشريع حرمة الربا وتشريع فريضة الصيام والحج بل أنَّ الحديث عن أركان الإسلام: (الصلاة والزكاة والصيام والحج) لم يجمع القول فيه مبسوطاً فى سورة كمثل جمعها هنا. وهى أركان مبنية على الإيمان بالغيب والبعث، ومثل ذلك ما اعتنت السورة بذكره من أمر الجهاد، ولا يُقْدِمُ عليه إلاَّ من آمن بالغيب والبعث وأيقن بهما. فأنت تجد أنَّ مطلع السورة قد جعل من خصال المتقين الذين كان الكتاب الكامل الحق لهم هدى الإيمان بالغيب الشامل كلَّ هذه الفرائض كما أنَّ المَطْلَعَ قد عُنِيَ بصفة إيمانهم بما أنزل من قبل وإيقانهم باليوم الآخر.

كل هذا دال على المقصود الأعظم لهذه السورة: «إقامة الدليل على أن الكتاب هدى يتبع فى كلِّ حال وأعظم ما يهدى إليه الإيمان بالغيب،ومجمعه الإيمان بالآخرة،ومداره الإيمان بالبعث الذى أعربت عن قصة البقرة التى مدارها الإيمان بالغيب، فلذلك سميت بها السورة» (1) مطلع السورة واسمها منبئان عن مقصودها، واذا ما كنت قد تجاوزت القول فى (ألم) فى مطلع السورة،فإن «استخراج مناسبات هذه الحروف وأحوالها إلى مقاصد السور وأغراضها يحتاج إلى مزيد من التوفر والفهم والصفاء ووراءه علم دقيق ومعرفة لطيفة شريفة» (2) ومذاهب العلماء فى استبصار دلالات هذه الاستفتادات كثيرة وقليل منها ما سعى أصحابها إلى استخراج ما بينها وبين مقاصد سورها ومعانيها من تناسب ونتائج.وهي محاولات لا تسلم من المناقدة والتوقف (3) *** - الخاتمة والمقاطع: إذا ما كان فى مطلع تلاوة كُلِّ سورة دلائلُ على مضمونِها وقرائن هداية إلى حسن استبصار معالم مقصودها الأعظم، فإنَّ من سنن بناء الكلام فى أدب العربية أن ينعطفَ آخرُ الكلام على أوَّله، ويكون فى آخره ما يتأخى مع أوله ويتناعى مع مفتتحه. وقد جعل"شبيب بن شيبه" العناية بجودة الانتهاء كمثل العناية بجودة الابتداء يقول:" الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه وأنا موكل بتفضيل جودة القطع ويمدح صاحبه " (4)

_ (1) - البقاعي: نظم الدرر:1/55، ومصاعد النظر:2/9 (2) - شيخنا أبو موسى:الإعجاز البلاغي:236 (3) - ينظر: البرهان للزركشي: 1/168، نظم الدرر:12/156 (4) - البيان والتبيين: 1/112

فإنَّه إذاماكان فى المطلع، والافتتاح إسهام، وأرصاد، وإنباء بما يتضمنه الكلام من مقاصد، فإن فى مقطع التلاوة، ومختتمها استجماعَ معانى الكلام، واكتنازَ مقاصده، فهو آخر ما يسمع، فوجب أن يكون كنزا جامعا لمعانيه ومقاصده. ومن ثَمَّ عُنِىَ أهل الأدب به. (1) فى الذكر الحكيم خاتمة السورة كمطلعها «فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - ختمَ كلَّ سورةٍ من سوره بأحسن ختامٍ، وأتمها بأعجبِ إتمام ختامًا يطابق مقصدها، ويؤدي معناها» (2) ومقطع تلاوة كلِّ سورة يقابل مطلعها، فقد يكون ذلك المقطع هو خاتمة السورة وقد يكون آخر خاتمتها، فإذا نظرنا فى سورة "البقرة" فى ضوء ما سبق أن ذكرناه فى الحديث عن مطلعها ألفينا أنَّ مقطعها هو خاتمتها بخلاف مطلعها، فهو أول مقدمتها، فإنَّ مقدمتها من أولها إلى آخر الآية العشرين أما خاتمتها، فهى من قوله - جل جلاله - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:284) إلى آخر السورة.

_ (1) - في كلية اللغة العربية بالمنوفية بحث للعالمية (الدكتوراه) موضوعه خاتمة القصيدة العربية للدكتور: " حسين عبد الوهاب "المدرس في قسم الأدب. ومن قبله نشر الصديق " كاظم الظواهري" الأستاذ في قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالمنوفية بحثًا عنوانه (خاتمة القصيدة العربية ودلالاتها التاريخية والفنية) في حولية الكلية العدد السادس سنة 1406، ونحن نفتقر إلى دراسة مستوعبة مدققة لخواتيم السور القرآنية وعلاقتها بالمطالع وعلاقتها أيضًا بالمقاصد، وهو باب لا يصلح فيه إلا الاستيعاب التام للخواتيم. (2) - العلوي: الطراز: 3/ 183

وأنت إذا ما تأملت هذه الخاتمة ألفيتها دالة على ما يتآخى مع ما دلَّت عليه مطلعها فإنَّه " لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذى لا ريب فيه على الوجه الذى تقدم ختمها بعد تفصيل الإنفاق الذى وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهى " (1) فأنت فى الخاتمة تلحظ استظهار الإيمان بالغيب الذى هو صدر صفات المتقين الذين كان القرآنُ الكريم هدًى لهم وتلحظ التعانق البديع بين قوله - سبحانه وتعالى - فى المطلع: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:4) وقوله - جل جلاله -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285) وكذلك بين قوله - عز وجل - {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة:5) في مطلعها، وذلك الدعاء البديع فى آخرها ولا سيما قوله - سبحانه وتعالى -: { ... أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (ي:286) فمن كان الله - سبحانه وتعالى - مولاه وكان منصورًا على الكافرين كان يقينا على هدى من ربه وكان مفلحا.

_ (1) - البقاعي: نظم الدرر: 4/ 168

وكذلك التعانق بين قوله - سبحانه وتعالى - {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة: 3) فى مطلعها وحديثه عن أحكام الإنفاق فى سبيل الله - عز وجل - صدقة وحديث عن الإقراض فى الآية السابقة على ختمها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ... } (البقرة: 282) فكان فى هذا ضربٌ من التآخى جد بديع مما جعل رد المقطع على المطلع المُنْبئ عن المقصود من الأعظم ردًا جدَّ وثيق، فدلَّ على أنَّ فى ختمها اكتنازًا لمقصودها، وهكذا الشأن فى كلِّ سورِ القرآن الكريم (1) - - - تدبر الفروق البيانية بين المعانى الكلية المصرفة فى السور: تشتمل السبع الطول والمئون على معان كلية مكونة من معان جزئية. هذه المعاني الكلّيّة قد يتشابه بعضها فى سورة مع بعض فى سورة أخرى، لما يتسم به الذكر الحكيم من التصريف، وهذايثْمِرُ فروقًا بيانيَّةً فى بناء آيات تلك المعانى الكلية فِي السّورتين. وتصريف المعاني فى القرآن الكريمِ وجه من وجوه بلاغة المعجزة كما نص على ذلك الأقدمون (2)

_ (1) - قد كان "برهان الدين البقاعى" (885 هـ) ذا عناية فائقة برد عجز كل سورة ومقطعها على مطلعها؛لأنَّه يرى أنَّ كلَّ سورة يتلاحم طرفاها تلاحما جد لطيف، كالحلقة المفرغة، فإذا ما كان فى طرفها ابتداء إنباء بمقصودها الأعظم، فإنَّ فى طرفها انتهاء استجماع، واكتناز لذلك المقصود. وإذا ما كان لمح إنباء الابتداء بالمقصود بحاجة إلى لقانية وفراسة بيانية، فإنَّ استبصار استجماع الانتهاء ذلك المقصود بحاجة أشد إلى تلك اللقانية والفراسة. (2) - الرماني: النكت في إعجاز القرآن:101 (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تح: خلف الله وسلام – دار المعارف – مصر

وهذا التصريف للمعاني ينفى عنها وصف التكرار والإعادة؛لأنَّه تصريفٌ منبثِقٌ عن المقصود الأعظم لكل سورة، وأكثر ما يكون جلاء ذلك التصريف فى القصص القرآنيّ حتى كان القول بالتصريف البياني فيها مما شاع ذكره فى أسفار أهل العلم. وفد سبق أن تبين لك من شيخنا " أبي موسى" كيف أنَّ قصة موسى - عليه السلام - قد اختلف بناؤها القصصيّ والبيانيّ فى كل من سورة (الشعراء) و (النمل) و (القصص) وهى سور متوالية فى الترتيب الترتيليّ. وكذلك ترى التصريف جليًّا فى وصف أعمال الذين آمنوا وثوابهم يوم القيامة ووصف أعمال الذين كفروا وعقابهم. وكذلك فى وصف مشاهد اليوم الآخر وغير ذلك كثير. وفى تديُّر بناء كل معنى من المعاني الكليّة المصرَّفة فى السور استكشاف للمقصود الأعظم لكلِّ سورة، وهو استكشافٌ يملك به المتدبرُ مفاتِحَ خزائن المعنى القرآني فى السورة. والنظر البيانيّ فى مثل هذا مصروفٌ إلى ملاحظة بناء المعنى الكليّ من المعانى الجزئية الماثلة فى الجملة القرآنية على اختلاف مقاديرها إيجازًا وبسطًا، وهو نظر لا يرى فى هذا تكرارا بل يراه من قبيل التتميم والتكميل الذى هو وجه من وجوه التصريف؛ لأنَّ كلَّ معنى كليٍّ من تلك المعاني مكمّلٌ ومتممٌ لما قاربه فى سورة سابقة على سورته، وهذا التتميم إنَّما يكون بجديد يتناغَى مع السياق الذى أقيم فيه، ومن هنا كانت الفروق البيانية شكلا ومضمونا مما اقتضاه تشابه سياقات المعاني الكليّة فى بعض سور القرآن الكريم، والتَّفرُّس والتَّدبُّر لما بين المعاني الكليّة فى سورة ما وما بين المشابه لها فى أخرى رافد من روافد تحرير المقصود الأعظم للسورة وما فى استبصار تصريف المعانى الكلية المتشابه فى السور من حزونه لا يتغلب عليها إلا بطول الصحبة ونفوذ الرؤية والمثابرة. *** تَدَبّر المعاني الكلية الخاصّة.

إذا ما كان كثير من المعاني الكليّة التى هى معاقد بناء المعنى فى السورة قد صار مصرفاً فى أكثر من سورة، فإنَّ بعضَ المعانِي الكليّةِ قد خصَّت به سورةٌ دون غيرها من سور القرآن الكريم. وفى تدبُّر هذا ما يُعينُ على استبصار الروحِ المُهَيمِنِ على تلك السورة، ذلك أنَّ معالم ذلك الروح ستكون باديةً فى ذلك المعنى الكليّ المخصوص به تلك السورة. قِصّةُ "البقرة" مثلاً لم ترد في غير سورة "البقرة"، وكذلك قصّة " هاروت وماروت"،وقصّة تحويل القبلة،وفريضة الصيام، وبيان أحكامها، وقصّة: " طالوت وجالوت " وقصّة الذين خرجوا من ديَارِهِمْ وهُم ألُوفٌ حذرَ الموتِ، وقصّة الذي حاج "إبراهيم " - عليه السلام - في ربّه، وقصّة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصّة " إبراهيم " - عليه السلام - والطير، وأحكام المداينة ... كلُّ ذلك مما أختصت به سورة (البقرة) ولم يكن فى غيرها مما يدلُّ على أنَّ فى هذه المعاني ما هو أعلق بمقصود سورة البقرة من غيرها فلم تصرّف هذه المعانى فى ما دونها من السور. وكذلك سورة (الكهف) إختصت بقصة أصحاب الكهف وقصة العبد الصالح - عليه السلام - مع موسى - عليه السلام - وقصة صاحب الجنتين وقصة ذى القرنين، وفى هذا دلالة على أنَّ فيما بين هذه القصص ما يُوحّد بينها من جهة وما يجعلها أشدَّ تناسباً بمقصودها الأعظم، فاختصت بها من دون غيرها من السور. وتكاد كلّ سورة ولاسيما السور الطول والمئين تنفرد بمعنى كلّيّ لا يتصرّف في غيرها، مثلما تجد في كلّ سورة من الطول والمئين معنى هو تصريف معنى في سورة أخرى. (1)

_ (1) - دراسة فرائد البيان القرآني: الكلمات مادة وصيغة وموقعا وأداءً ورسمًا وكذلك الجمل والصور البيانية والمعاقد الكلية والقصص والأحكام التشريعية من الدراسات التي نقتقر إلى مزيد من العناية بها وهي جديرة بإفرادها بدراسة مستوعبة تعتمد على منهاج التحليل والتأويل والتعليل.

دراسة مثل هذا يكشف لنا عن بعض معالم الرُّوح المهيمن على السورة، وبه يتبين لنا الوجه فى عدم تصريف هذه المعانى فى سور آخرى، فلولا أنَّ فى تلك المعاقد من معانٍ خاصة تفَرِّقُ بين الروح المُهيمن على سورتها والروح المهيمن على ما عداها لكانت جديرة بالتَّصريف الذى هو سَمْتٌ غالب على كثير من المعانى الكليّة فى القرآن الكريم {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ نُفُورا} (الاسراء:41) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاَّ كُفُوراً} (الاسراء:89) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف:54) *** تَدبُّر الفروق البيانية بين المعاني الجزئية المصرفة في السورة المعاني الكلية المصرَّفة فى السور مكوَّنة من معانٍ جزئية تمثلها الجمل القرآنية على إختلاف مقاديرها، وأكثر سور القرآن الكريم فيها غير قليل من المعانى الجزئية المصرَّفة المتشابهة فى بعض وجوه النظم مع معان جزئية فى سورة آخرى. وما بين هذه المعانى وصورها من وجوه اتفاق وافتراق كثيراً ما تستجلى معالمه فى ضوء السياق الجزئيّ القريب الذى هو إمتداد السياق الأكبر مما يجعله أقرب إدراكاً، ومنه يتوصل إلى الروح المهيمن على السياق الكليّ للسورة الذى هو المهيمن على السياق الجزئيّ الذى هو أظهر سلطاناً على مشتبه النظم فى المعانى الجزئية. وهذا يستوجب المناظرة بين مناهج التفصيل للمعانى المصرَّفة مناظرةً تتجاوز الاكتفاء بتسجيل ظواهر الاتفاق والافتراق فى مشتبه النّظم إلي السعي إلى استبصار أثر السياق الجزئيّ أولاً، ثُمَّ الانتقال منه إلى السياق الكلى للسورة الذى به تُستبين معالم المقصود الأعظم الذى هو الروح السارى فى السورة كلّها.

وإذا ما كان مشتبه النظم قد لقى عناية بالغة من أهل العلم قديماً وحديثاً، فقد غلب على كثير منهم ملاحظته واستبصاره فى سياقه الجزئى الذى هو خطوة إلى أمد أبعد، وقليل من أولئك من مد استبصاره وتدبره مشتبه النظم فى ضوء السياق الكلى للسورة ملاحظاً سلطان المقصود الأعظم، وما ذلك إلاَّ لخفاء ذلك السلطان على مشتبه النظم فى المعانى الجزئية التى يغلب أن يكون نظمها نظماً تركيباً بخلاف سلطان المقصود الأعظم على سياق المعانى الكلية ومشتبه النظم الترتيبي فيها، فإنَّه أجلى منه فى التركيب، وبهذا يتبين لك أنَّ مشتبه النظم فى المعانى الجزئية غيره مشتبه النظم فى المعانى الكليّة التى هى معاقد السورة ونجومها الكبرى. ذلك أنَّ النظم القرآنيّ الكريم ضربان: - نظم تركيبيّ - ونظم ترتيبيّ الثانى منهما مرتب على الأول، والتركيبيّ مجاله المعانى الجزئية التى هى عناصر بناء المعانى الكلية، والترتيبيّ مجاله المعانى الكلية التى هى عناصر بناء السورة كلها، والنظم التركيبى أقرب إدراكاً لأنَّ معالمه أجلى للبصائر، واشتغال أهل العلم به،ولا سيما النحاة والبلاغيون والمفسرون أعظمُ، بل إنَّ أغلبَهم قصر سعيه فى ميدانه. والنظم الترتيبيّ أبعد، ُوأعسرُ إدراكاً؛ لأنَّ معالمه أخفى، وقليل من أهل العلمِ مَنْ عُنِى بترتيب المعانى الكليّة وبمنهجِ بنائها لإقامة السورة القرآنية كلها. (1) يقول الله - سبحانه وتعالى - في سورة (آل عمران) : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133) ويقول - عز وجل - في سورة (الحديد) :

_ (1) - كان برهان الدين البقاعى من أبرز وأكثر أهل العلم اعتناء بالنظم الترتيبى فى القرآن الكريم وبملاحظة السلطان المقصود الأعظم على مشتبه النظم التركيبى مثل ملاحظة سلطانه على مشتيه النظم الترتيبيّ.

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:21) ما يبين الآيتين من تصريف المعاني ومن مشتبه النظم جليٌ لا يخفى: فى آية (آل عمران) وسارعوا (وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر بغير واو عطف وكذلك هو فى مصاحف المدينة والشام وقرأ بقية العشرة بواو العطف وعليه مصاحف مكة والعراق) {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} دون أداة تشبيه مع جمع السماء) {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وفى آية الحديد: {سابقوا} (عند القراء العشرة) بغير عطف. {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} بداه تشبيه مع ذكر المشبه المضاف (عرض) وأفراد المضاف اليه (السماء) {أعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وغير خفيٍّ أنَّ هذه المفارقات فى العطف والتشبيه والحذف والأفراد والجمع وغير ذلك له ما يقتضيه من سياقه الجزئى وسياقه الكلى لسورةِ كُلٍّ. (1)

_ (1) - لم ينظر الخطيب الإسكافى " (420هـ) ولا الكرمانى (القرن الخامس) فيما يبين الآيتين من مشتبه النظم إلا أن أبا جعفر بن الزبير (708هـ) والبقاعى (885هـ) من بعده قد نظرا فيما يبين الآيتين من مفارقات بيانية ومرد تلك المفارقات وهما وأن تفاوتاً فى مستوى النظر ومجاله فإنما التقيا على النظر فى السياق الجزئى للآية وفى السياق الكلى للسورة. انظر ملاك التأويل لابن الزبيرجـ1ص171-176 (تحقيق محمود كامل- طبعة بيروت/1405) ونظم الدور للبقاعى ج 2 ص156، ج 7 ص:454 (ط/ بيروت) .

فى آية سورة (آل عمران) كان الأمر بالمسارعة وفى آية سورة (الحديد) بالمسابقة، وكانت الجنَّة الموعود بها فى آية سورة (آل عمران) عرضها السموات والأرض، والجنة الموعود بها فى آية سورة (الحديد) عرضها كعرض السماء والأرض، وفى آية سورة (آل عمران) كانت الجنة للمتقين، وفى آية سورة (الحديد) كانت الجنة للذين آمنوا. آية سورة (آل عمران) سياقها الحَضُّ على الجهاد وتعظيم فضله والإبلاغ فى ذلك، وسورة (آل عمران) إنّما هى سورة التوحيد وسورة الاصطفاء والمصطفين الأخيار الذين من أهم صفاتهم التقوى والصبر، وقد شاعت هاتان الصفتان فى آيات السورة على نحو جِدّ ظاهر. وهذه الآية فى سورة (آل عمران) جاءت عقيب بيان أسباب النصر وأسباب الخذلان الذي من أهم أسبابه الإقبال على الدنيا التى أشار إلى ذمها بقوله - جل جلاله -: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14) وعقيب الأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقرب، فجأة الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والى جنة عرضها السموات والأرض، ويبيِّن أنَّ أولئك الذين أُعدَّت هذه الجنة لهم هم المتقون الذين تقدمت الإشارة إليهم كثيراً والذين يتخلّوْنَ عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعتينهم إلى الإزدياد من شىء منها، ويتحلَّون بالزُّهد فيها والإنفاق لها فى سبيل الله - سبحانه وتعالى -.

أمَّا آية سورة (الحديد) فقد جاءت فى سياق الأمر بالإيمان بالله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والإنفاق فى سبيل الله - جل جلاله - مما استخلفهم فيه وحثهم على الإنفاق ورغبهم فى الإقرض الحسن إبتغاء أجرِ يومٍ كبير، ناعِيًاً عدم خشوع قلوبهم لذكر الله - عز وجل -، وما نزل من الحق الداعى إلى الإيمان والإنفاق والإقراض مؤكدًا الحثَّ على الصدقة والإقراض، مبينًا حقيقة الدنيا ومتاعها، فالسياق الكليّ كما ترى يدفع بطائفة ليست على المستوى الإيمانى العَلِيّ، فيدعوهم إلى المسابقة فيما بينهم إلى مغفرة وجنة عرضها كعرض السماء والأرض. وهى جنة دون جنة "آل عمران " التى أعدت للمتقين؛ لأنَّ أصحاب هذه الجنة إنما هم الذين آمنوا: الذين ما تزال فيهم رغبة فى الحياة الدنيا، ومنْ ثَمَّ كان الأمر هنا بالمسابقة لا بالمسارعة؛ لأنَّ المسابقة وإن تكنْ فعل من يسابق شخصاً، فهو يسعى فى سبقه إلاَّ أنَّها ربَّما كانت المسابقة بين بَطِيئَيْنِ يَسِيرَانِ الْهُوَيْنَا، فلا يلزم من المسابقة الإسراع، وهذا أليق بحال الذين آمنوا: الذين لم يرتقوا إلى درج التقوى.

أمَّا المسارعة فلا تكونُ الاَّ بجهد النفس مع السُّرعة، وهى قريبة لفظاً وإقتضاء من (المُصارعة) الدَّالة على القوة والاجتهاد مما يدل على حاجة المسارعة إلى قوة واجتهاد، وهذا ما يتناسب مع حال من أعدت لهم جنة (آل عمران) فإنَّهم قد بلغوا فى التقوى مبلغاً صارت التقوى صفة لهم، وهذا لا يكون مناسباً لمن لهم سياق آية (الحديد) ولهذا كانت المسارعة فى سياق (آل عمران) والمسابقة فى سياق آية سورة (الحديد) وليس اختصاص كل منهما بما جاء فيها لأن المسارعة أسبق من المسابقة كما ذهب اليه (أبو جعفر ابن الزبير) فأعطى الأول (المسارعة) لما هو أسبق ترتيلا:سورة آل عمران، وأعطى الآخر: (المسابقة) لمن هو تالٍ ترتيلاً: سورة الحديد، كلاَّ،بل ذلك مرجعه إلى السياق الكليّ والجزئيّ فى كلٍ على نحو ما فصَّلتُ.

وكان جمع السموات فى سياق (آل عمران) وحذف أداة التشبيه وحذف المضاف (عرض) ؛لأنَّ فى ذلك إبلاغاً فى وصف ما أُعِدَّ للمتقين يتناسب مع سياق السورة القائم على الإبلاغ فى تحقيق الوحدانية وفى تحقيق صفات المصطفين والاتقياء، فكان نظم آية (آل عمران) يحتمل المعنَى معه إرادة الطول والعرض معًا، أيْ عرض الجنّة هذه هو طول وعرض السماوات جميعها والأرض، فلم يذكر كلمة العرض ليشمل إرادة الطول والعرض معاً مضافاً إلى أنها ليستْ طول وعرض سماءٍ واحدةٍ بل السماوات كلها، ومضافاً إلى ذلك - أيضًا - أنَّ عرض هذه الجنة ليس مقارباً أو مشابها عرض السماء والأرض كما فى سورة (الحديد) بل هو طول وعرض السموات جميعاً والأرض بل والأرضين بدلالة جمع السماوات، فالقرآن الكريم لا يجمع الأرض وإنَّما تفهم إرادة الجمع من عطف الأرض على جمع السماء: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأََرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق:12) . *** - تكرار أو تصريف نمط تركيبى فى سياق السورة: يكون فى بعض سور القرآن الكريم إعادةُ بعض الجمل أو الأنماط التركيبية الجزئية على نهجٍ متميِّزٍ لا يكونُ فى غيرها، ومثل هذا فيه دَِلالةٌ على إعتناء السُّورة بما يتضمنه هذا العنصر التركيبيّ المصرف أو المكرّر فيها، لما له من مزيد اعْتلاقٍ بمضمونها وسياقها الكليّ ومقصودها الأعظم، وهذا على ضربين:

- الضرب الأول هو التكرار النظميّ الذي تكون فيه الإعادة لنمط تركيبى بحروفه ومعناه فى سياق السورة الواحدة، كتكرار قوله - سبحانه وتعالى -: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} في سورة (القمر) وتكرار قوله - عز وجل -: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فى سورة (الرحمن) ، وتكرار قوله - جل جلاله - {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} فى سورة المرسلات وتكرار قوله - جل جلاله -: (اتقوا الله) فى سورة (البقرة) وقوله - عز وجل -: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهذا لم يكن كذلك في غيرها، وتكرار قوله - عز وجل -: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} في سورة (الشعراء) ، وكذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} . - الضرب الثاني: هو التصريف النظميّ الذى تكون فيه الإعاداة لنمط تركيبي ذي عدول فى بعض مفرداته أو مواقعها فى سياق السورة الواحدة، وهو ما يعرف بمشتبه النظم فى السورة الواحدة. ومن نحو قوله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33)

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:41) ومن نحو قوله تعالى فى سورة الأنفال: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:52) {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} (الأنفال:54) وغير ذلك جد كثير لا يخفى. وهذا الضرب جدير باسم التصريف لما فيه من تصريف فى العبارة هو آية على تصريف فى المعنى مما يَصْرِفُه عن استحقاق اسم التكرار، فانَّه كما ذهب اليه الإمام" عبد القاهر" من أنَّه لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى حتى يكون لها فى المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها وقد تكون تلك المزيّة تقديم حرف من حروف المعانى على آخر من نحو قولك:" كأنَّ زيداً أسدٌ " وقولك " إنَّ زيداً كالأسد". وجود هذين الضربين أو إحداهما فى سورة ما فيه دَِلالة على أنَّ ثَمَّ مزيداً من اعتلاق مضمونه بالسياق الكلي للسورة ومقصودها الأعظم.

وهذا الذى نقوله فى دَِلالة تكرارأوتصريف بعض عناصرالسورة وانتشارها على لا حب سياقها في وحدتها البيانية، وما يهيمن عليها من الروح السّاري في جملها وآياتها ومعاقدها إنّما يقول بمثله بعض مذاهب النقد الحديث، ونحن لا نقول ذلك إستظهاراً بمذهب نقديّ على صحة مذهب فى البيان القرآنيّ، بل لبيان أنَّ ما نذهبُ إليه هنا إنّما هو من معين الإدراك الفطريّ الرشيد للحقائق فى أى ضرب من ضروب البيان.. *** المعجم اللغوى. لكلِّ سورة من سور القرآن الكريم معجمٌ لغويٌّ يتميز بصنفين من الكلمات ? الصنف الأول: ما توارد فيها على نحو لافت للبصر. - والصنف الآخر ما اختصت به دون غيرها على نحو من الأنحاء: مادة أو اشتقاقاً وتصريفاً. الصنف الأول: يشمل المعجمُ الكلماتِ التى تنمتى إلى إسرة لغوية واحدة بحيث يكون بين تلك الكلمات قرابة دلالية قد تكون جلية حيناً، وقد تكون خفية حيناً آخر. والأسرة اللغوية تُسْتَجْمَعُ فيها الكلمات عن طريق الاشتقاق الذى تلتقى الكلمات فيه حول جذر لغوي واحد. ويمكن أن يجمع إلى تلك الأسرة اللغوية تلك الكلمات التى تتلاحظ معانيها، ويتجاوب، وأن لم يكن بينهما اشتقاق لغوى، كمثل كلمات التقوى والطاعة والايمان، والاحسان، الإيقان، فهى من أسرة دلاليّة متقاربة، وكذلك ما يتعلق بذلك من عبادات كالصلاة والزكاة والجهاد والقتال ونحو ذلك.

ولتوارد أسماء الله الحسنى فى سورة ما على نحو خاص مزيد عناية بملاحظة وتدبُّر إعتلاق معانيها بسياق ومقصود السورة التى فيها،فالله - عز وجل - لايقيم اسمًا من أسمائه الحسنى إلا في سياقه ليدل على ما يترادف من فيوض المعاني على ذلك السياق، فكان فقه معانى أسماء الله الحسنى ومواقعها فى الذكر الحكيم بابًا من العلم جدُّ عظيم، ولا يقوم به إلا من كان محتسبًا متخلقًا بما يليق به من معاني تلك الأسماء،فيكون له من ذلك زاد إلى زاد عرفانه العلمي يهديه إلى حسن استبصار الروح المهيمن على السورة (1) إنَّ من السور ما اختص بكثرة ذكراسم من أسماء الله الحسنى على نحو فريدٍ،كمثل اسمه (العليم) جاء فى سورة (البقرة) إحدى وعشرين مرة، كان مفردًاغير مقترن باسمٍ آخر ثماني مرات، ومقترنًا باسمه الحكيم مرة واحدة، وباسمه الشاكر مرة واحدة، وباسمه الواسع أربع مرات، وباسمه السميع سبع مرات.

_ (1) - يقول "أبو الحسن الحرالّيّ" في الباب الثالث من كتابه " مفتاح الباب المقفل": «لكلّ اسمٍ من أسمائه الحسنى بيانٌ يخصّ إقامته طورًا من أطوار خلقه تفصيلاً وإجمالا، فمن تفطّنَ إلى رتب الخطاب في القرآن بحسب أسماء الله، وأطوار الخلق وتنزلات الأمر، ورتب تنامي القلوب في الرجوع إلى الله، ورتب الأخلاق والأعمال، وما يقابل ذلك من دركات البعد والبغض والطرد واللعن فتح الله له بابًا إلى الفهم يجد به يقين تجربة إبانته ووضوح صدق إنبائه عن كنه الذوات ورتب التنزلات ... » هذا متن دقيق كثيف لطيف، نقلته لك برغم من ذلك إغراء بأنَّ في مقالات أهل العلم ما يفتقر إلى السعي إلى استنباط ما فيه من دقيق العلم وشريفه، فكم ترك الأول للآخر، وليس في علوم القرآن الكريم علم نضج حتّى احترق كما يتصايح به جمع، فينصرف طلبة العلم يائسين،إنَّ حدائق العلم رحيبة الأرجاء كريمة العطاء.

وجاءاسمه (الحكيم) سبع مرات اقترن بالعليم مرة واحدة، وبالعزيز ست مرات. واسمه (الواسع) لم يتكرر في سورة غير البقرة، ولم يقترن في البقرة باسم آخر غير العليم، بل لم يقترن باسم آخر في القرآن الكريم إلا مرة واحدة باسمه الحكيم في سورة النساء: ... {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً ً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} (النساء:130) واسمه (الشاكر) لم يرد في القرآن الكريم إلا مرتين في البقرة، وآية النساء. واسمه (الغفور) جاء فى سورة (النساء) عشر مرات وجاء فيها اسمه (الرحيم) ثلاث عشرة مرة. وإسمه (الرحمن) جاء فى سورة (مريم) ست عشرة مرة. وجاء إسمه (العزيز) فى سورة (الشعراء) تسع مرات ومثل هذا الاستبصار رافد من روافد فقه الروح المهيمن على بيان السورة،فاذا مالا حظنا معه أمراً آخر هو اقتران بعض الأسماء مع بعض على نحو فريد فى بعض السور كان ذلك أيضاً معينا على معرفة معالم المقصود الأعظم، فاسمه (العزيز الرحيم) لم يأت على ذلك النحو كمثل ما جاء فى سورة (الشعراء) بل لم يرد فيها إسمه (العزيز) أو اسمه (الرحيم) ألا مقترنين مع تقديم (العزيز) على (الرحيم) على الرغم من أن الذى هو شائع فى القرآن الكريم اقتران إسمه (العزيز) باسمه (الحكيم) . ومن الجدير بالملاحظة أنَّ كلمات الأسرة اللغوية إذا ما تكاثر تواردها فى سورة ما كان فى هذا آية على هيمنة ما تلتقى عليه تلك الكلمات دلاليا على موضوع السورة، ذلك أنَّ حشد مفردات هذه الأسرة اللغوية وتَجْييشها في سورة واحدة لن يكون عملاً عقيماً أو عابثاً، فهو تنزيل من عزيز حكيم عليم حميد. إذا نظرنا فى سورة (البقرة) ألفينا أن فى معجمها اللغوى كلمات قد تواردت على نحو لم يكن فى غيرها، وهى مفردات تتناسل من رحم مقصودها الأعظم الذى أشرت إليه من قبل، وهى فى الوقت نفسه مفردات تتجاوب مع مفردات مطلع السورة.

نجد أن مفردات (الإيمان) جاءت أربعاً وسبعين مرة. ومفردات معنى (التقوى) جاءت ستا وثلاثين مرة ومفردات (الهدى) جاءت ثلاثين مرة ومفردات (الخير) جاءت سبعا وعشرين مرة ومفردات (الإحسان) جاءت اثنتى عشرة مرة. وجاءت مفردات (الصلاة) جاءت اثنتى عشرة مرة ومفردات (الزكاة) خمس مرات ومفردات (الانفاق) عشرين مرة ومفردات (الصيام) ست مرات ومفردات (الحج والاعتمار) عشر مرات ومفردات (القتال والجهاد) ست مرات. ومثل هذا لم يجتمع فى سورة على ذلك النحو الفريد فى غير هذه السورة وجاء اسم أبى الأنبياء (ابراهيم) خمس عشرة مرة وهذا ما لم يكن مثله فى غيرها فهذه المفردات فى معجم سورة (البقرة) منبثقة من سياقها الكلي، واستبصار تلك المفردات فى دلالتها السياقية يهدى إلى معالم مقصودها الأعظم. والصنف الآخر هوالذى تختص به السورة دون غيرها على نحو من الأنحاء، فانَّ كثيراً من السور تختص بكلمات لا تكون فى غيرها على اطلاق الوجوه كلها، أو تختص بها من وجه دون وجه، مثل اختصاصها بها من وجه الاشتقاق دون وجه المادة أو وجه الجمع دون الأفراد....إلى آخر ذلك. والناظر فى معجم الكلمات القرآنية يرى كثيراً منها لم يرد ذكره الا فى سورة واحدة، وبين يدى عشرات من فرائد المفردات فى الذكر الحكيم، وغير خفيّ أنَّ فى هذا الاختصاص آياتٍ بيّنةً على مزيد اختصاص معناها بمقصود سورتها، ولولا ذلك ما كان لها أن تختص السورة بها من دون غيرها، ولا سيما أن غيرها قد يرد فيها ما يتوارد معها فى معناها العام. ومن هذا اختصاصُ بعض السور باسم من أسماء الله الحسنى فاسمه (المقيت) لم يأت إلا فى قوله - سبحانه وتعالى -: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} (النساء:85)

واسمه (البر) لم يأت إلا فى قوله - عز وجل -: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (الطور:28) واسمه (المليك) لم يأت إلا فى قوله - جل جلاله -: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر:55) وإسمه (الفتاح) لم يأت إلا فى قوله - سبحانه وتعالى -: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (سبأ:26) ***ُ ومما يحسن استبصاره فى هذا أسماء الجنة والنار واليوم الأخر فان بعض السور تختص باسم غير معهود من ذلك مما ينبىء عن مزيد إعتلاق بين معنى ذلك الاسم وسياقه الجزئي، فالكلي، ثم مقصود السورة الأعظم، وقد يكون فى اختصاص معنى ما بمقصود سورتها خفاءٌ يستوجب مزيد اجتهادٍ فى الاستبصار والتدبر، وان كان اختصاص معناها بسياقها الجزئى أجلى وأظهر. إنَّ تدبر فرائد المفردات في البيان القرآني ذو عونٍ على حسن فقه المعاني الإحسانية التي بها يتصاعد العبد في مقامات القرب الأقدس إذا نظرنا فى سورة (البقرة) ألفينا أن فى معجمها اللغوى كلمات لم ترد فى غير سورة البقرة من ذلك كلمة (يسفك) و (فاقع) (إعتمر) (العمرة) (انفصام) (صفوان) (وابل) (طل) (يتخبط) (يربي) وإذا ما نظرت في سورة (القمر) مثلاً رأيت كلمات التي لم ترد في غير سورة القمر من نحو: (منهمر) ، (دسر) ، (منقعر) ، (أشر) .... فهذا قليل من مفردات قرآنية خاصة بمعجم سورة "البقرة" وسورة "القمر"ولن يكون اصطفاء هذه المفردات دون غيرها، ولا سيما التى لها ما يقارب دلالتها الا إذا ما كان لهذه المفردات وثيق اعتلاق بسياقها الجزئى أولاً وبسياقها الكليّ ثانياً من أن السياق الجزئيّ عنصر من عناصر بناء السياق الكليّ للسورة الذى يهيمن عليه المقصود الأعظم لتلك السورة وأن تحدرت على لاحبه موضوعات عديدة متنوعة إلاَّ أنَّها فى تعددها وتنوعها خاضعة لسلطان روح واحد مهيمن عليها ومعدن الجمال والكمال إنَّما هو تنوع العناصر فى وحدة تسوقها إلى غاية عظمة مثلما الكون كلُّه على اختلاف أجناسه وأنواعه مسوق إلى تحقيق عبوديته لله رب العالمين الواحد القهار.

الفصل الثالث: تقسيم السورة إلى معاقد كلية

الفصل الثالث: تقسيمُ السُّورَةِ إلَى معاقِدَ كُلِّيَّةٍ *** يغلبُ على سور القرآن الكريم أن تكون ذات معان كلية تمثل معاقد لبناء السورة الكليّ وتحرير معالم هذه المعاقد مبتدأ ومنتهى إنَّما يقع عليه المرء من طول قراءة ونظر وتبصّر فى السورة به يصبح المعنى الكليّ للسورة مستحضراً فى قلب القارئ، فيتأتي له إبصار تلك المعالم، ثمَّ تحديدها، ومثل هذا ذو أهميَّة بالغة فى الوقوف على مدارج المعنى القرآنيّ فى السورة الذى به تتحقق معرفة حركة المعنى في سياق السورة. وهو ذو أهمية أيضاً فى معرفة مواقع هذه المعانى الكلية فى السورة على مدرجة المعنى القرآنيّ فيما سبق السورة مناط البحث. تقسيم السورة إلى معاقد تقسيم أساسه تآخي المعاني الجزئية وتناغيها فى تشكيل وحدة كليّة بيّنة المعالم التى بها تمتاز عما سبقها وما تلاها من وجه، وبها يتحقق الإعتلاق بما سبقها وما تلاها - أيضاً - من معاقد على جادة السياق الكليّ للسورة.

وهذا التقسيم به يتبين صاحب القرآن الكريم مقدّمة السورة ومفتتحها ومؤخرتها ومختتمها وما جرى بينهما من معاقِد، وموقع قلب السورة الذى منه تتناسل وشائج القربى وأسباب التآخي وأشطانه، فانَّ كلَّ سورة ولا سيّما الطول والمئين وكبار المفصل لا تكاد تخلو من: (المطلع والمقطع والقلب) وإذا ما كان المطلع تلاوة والمقطع ترتيلاً قد تحدد موقعهما من السورة، فانَّ مقداريهما يختلفان من سورة إلى آخرى، كما أنَّ موقع قلب السورة ليس محدَّدًاً، فقد يكونُ فى ثبجها، وقد يكون أقرب إلى مطلعها، أو أقرب إلى مقطعها. وإذا ما نظرت في سورة (البقرة) وقد امتد نزول آياتها سنين عددًا امتدادًا لم يكن لغيرها مثله، كان مقتضى ظاهر النَّظر أن يُمْنَى بناؤها بالاقتضاب والتبتير، ولكن القراءة الواعية المتدبرة تريك أمرًا غير الذي يحْسبه من كان أعجميً القلب واللسان سبق أن بينتُ مطلع تلاوة سورة (البقرة) ومختتمها وقلبها أما تقسيمها إلى معاقد، فانَّ هذا له مرجع موضوعى ومرجع ذاتى، ولهذا نجد تقسيم العلماء سورة (البقرة) إلى معاقد متقارباً من وجه متباعداً من وجه آخر. الناظر فى صنيع العلامة " دراز" فى سفره القيّم: " النبأ العظيم " وصنيع " سيد قطب" فى تفسيره الجليل" فى ظلال القرآن" والشيخ العالم" عبد المتعال الصعيدي " فى كتابه " النظم الفنى فى القرآن " وصنيع كثير غيرهم سيجد اختلافاً فى تبيان الفصول والمعاقد بدءاً وانتهاء، فاذا هى كثيرة عند أحدهم لتفصيله وقليلة عند آخر لإجماله، وهذا مرده - فى غالب الأمر- إلى أمرٍ ذاتيٍ يختلف باختلاف المتدبر. والأمر فى هذا متسع يحتضن كل استبصار رشيد. ولعل تقسيم العلامة " دراز " سورة "البقرة" هو الأقرب إلى الإحكام، أوجز لك صنيعه على أن يكون فيه ما يهدى. يقول تحت عنوان: «نظام عقد المعانى فى سورة البقرة» ما خلاصته: إنَّ هذه السورة على طولها تتألف وحدتهامن مقدمة، أربعة مقاصد وخاتمة.

المقدمة: (ى/1-20) : فى التعريف بشأن هذا القرآن الكريم وبيان أن ما فيه من هداية قد بلغ من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم، وإنَّما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان فى قلبه مرض وقد فصل القول فيما اشتملت عليه تلك المقدمة من معان. (المقصد الأول: من مقاصد سورة البقرة) : دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام جاءت فى خمس آيات (ى:21-25) لخصت فيها أركان الدعوة من أمر بالإيمان بالله - سبحانه وتعالى - وحده والإيمان بكتابه والأمر باتقاء العذاب وبابتغاء الثواب. ثم كانت أربع عشرة آية (ي: 26-29) مفصلة ما جاء فى المقدمة مجملاً من وصف القرآن الكريم بأنَّه هدى وبيان طريقته فى الهداية، وقد أبرز وشائج القربى بين ما فى المقدمة: (ي:1-20) وما فى هذه الدرة الفاصلة فى عقد نظام السورة بين آيات المقصد الأول (ي: 21- 25) وآيات المقصد الثانى (ي:40-162) وفى الوقت نفسه مبينا وشائج القربى بين هذه الفاصلة وبين آيات المقصد الأول بأركانه الثلاثة،وكيف أنَّ هذه الفاصلة ختمت حديثها بالمخالفين،كما ختمته المقدمة،وذلك تمهيدا للانتقال مرة أخرى إلى نداء فريق منهم ودعوتهم إلى الاسلام فى فاتحة المقصد الثانى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40) مثلما استفتح المقصد الأول بنداء الناس كافة ودعوتهم إلى الاسلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) فكل من المقصد الأول والثانى مستفتح بالنداء والدعوة إلى الإسلام.

(المقصد الثانى) من مقاصد السورة فى دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول فى هذا الدين الحق وجاء ذلك فى ثلاث وعشرين ومائة آية (ي: 40 – 162) فالسورة " مدينة " وفى المدينة النبويّة اليهود أشد الناس عداوة للإسلام، فكان من المقتضى العناية بدعوتهم خاصة إلى الإسلام، ودحض أباطيلهم، فدعاهم، وذكرهم بالنعمة، وطالبهم بالوفاء بالوعد، وفصل لهم ذلك الوعد وبيّن لهم نعم الله - سبحانه وتعالى - عليهم. (ي: 40 – 48) ثُمَّ بين سالفتهم وتاريخهم (ي: 49-74) وكشف أحوال المعاصرين منهم للبعثة (ي:75-121) ،وذكرقدامى المسلمين من لَدُن سيدنا (إبراهيم) - عليه السلام - (ي: 122 - 134) ؛ ليكون فى ذكرهم قدوة وباعثا على الاستجابة لدعوة الحق من بعد أن دحض أباطيل بنى اسرائيل. ثمَّ ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة (ي:135-162) بيانا لتعالق الخلف بالسلف، فأمّة سيدنامحمد - صلى الله عليه وسلم - هى امتداد لأمة أبى الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -. (المقصد الثالث من مقاصد السورة) (ي: 163 – 283) معقود لعرض شرائع الإسلام عرضها مفصلا، فالسورة مدينة متكفلة بتأسيس أصول التشريع السلوكي في ذلك العهد المدني (ي:163-283) وقد جعل لهذا المقصد الرئيسي من مقاصد السورة مدخلاً اشتمل على خمس عشرة آية (ي: 163 - 177) ليكون ذلك المدخل توطئة لما تفصله آيات المقصد من شرائع الاسلام فى (ست ومائة آية) : (ي:178 - 283) تفصيلا يرسم نظام العمل للمؤمنين فى شتَّى مناحى الحياة فى شأن الفرد والأسرة والأمة. وقد استفتح ذلك بأحكام ما يحقق للأمة قوتها وأمنها فى داخلها أحكام القصاص (ي:178 - 179) ثم توالت أحكام الشريعة مفصلة منسوقة ممزوجة بما يعين على القناعة والرضى بها. (المقصد الرابع من مقاصد السورة) (ي: 284) فى ذكر ما يبعث على ملازمة الشرائع ويعصم عن مخالفتها،وقد جاء هذا فى آية واحدة (ي: 284) هي من جوامع الكلم في هذا الغرض.

كأنَّ الشيخ "دراز"ينظر إلى ما بين الآية رقم (163) : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة:163) التى عدَّها فاتحة الشطر التشريعي فى السورة، والآية رقم (284) : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:284) التى جاءت فى عقب تفصيل آيات الشطر العملي التشريعى. فإنَّ ما بين الآيتين جدُّ وثيق وغير خفيّ، فكأنَّ فيه ردَّعجزٍ على صدر. (الخاتمة) : (ي: 285-286) فى التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم فى آجلهم وعاجلهم فإذا مقطع السورة بلاغ عن نجاح الدعوة ووفاء بوعدها لكل نفس بذلت وسعها فى اتباعها وفتح باب الأمل على مصراعيه أمام هؤلاء المهتدين. ثُمَّ يختم العلامة (دراز) بيان نظام عقد المعانى فى سورة البقرة بقوله: ( ... لئن كانت للقرآن فى بلاغة تعبيره معجزات وفى أساليب تربيته معجزات وفى نبوءاته الصادقة معجزات وفى تشريعاته الخالدة معجزات وفى كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات ... إنَّه فى ترتيب آيه على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات. (1) وإذا ما كنت ذاهبًا إلى أنَّ تقسيم العلامة (دراز) سورة "البقرة" أفضل من تقسيمات أخرى فإننى أميل إلى أن السورة مكونة من مقدمة وقسمين كبيرين وخاتمة. المقدمة من الآية (1-20) مثلما أبان عنه العلامة (دراز) والقسم الأول من الآية (21 - 167) من أول قول الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21)

_ (1) - دراز: النبأ العظيم: 211

إلى آخر قوله - عز وجل -: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة:167) وهو قائم بالحقائق والتشريعات العقدية الإيمانية. وأيات هذا الشوط مقسومة على عقدين: الأول من أوّل قول الله - عز وجل -: {يَاأَيُّهَاالنَّاسُ اعْبُدُوارَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21) إلى آخر قوله - جل جلاله -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:39) فهذه ثماني عشرة آية في دعوة الناس كافة إلى الإسلام. وجاءت فيها قصة سيدنا (آدم) - عليه السلام - أبي ابشر بعد أن أنكر عليهم الكفر بالله - سبحانه وتعالى -،وقد كانوا أمواتا، فأحياهم، ثُمَّ يميتهم، ثُم يحيهم، ثُمَّ إليه يرجعون، ومبينا لهم فى قصة سيدنا (آدم) - عليه السلام - أنه فطر على الإيمان وأنَّ الشيطان استكبر، وكان من الكافرين، فهو لن يرضى إلا أن يكونوا مثله، ومن ثَمَّ ختمت آيات هذا العقد بقول الله - جل جلاله -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:39)

ليكون في هذا تقريرٌ بالترهيب من الإعراض عما دعا إليه في مفتتح المعقد بالترغيب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:21 - 22) وآيات العقد الثانى من هذا القسم من قول الله - سبحانه وتعالى -: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوانِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوابِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40) إلى آخر قوله - جل جلاله -: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة:167) سبع وعشرون ومئة آية (127 ي) فى دعوى أهل الكتاب خاصة إلى ترك باطلهم والدخول فى هذا الدين الحق.

والتشابه بين العقدين ابتداء وانتهاء جدّ واضح، وجدّ وثيق، وجاءت دعوة أهل الكتاب إلى الاسلام من بعد دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم - جل جلاله - وهم من جملة الناس تأكيدا لتلك الدعوة، ولأنَّهم أحقُّ الناس بالاستجابة لها والدخول فيها سراعا: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة:41) لأنهم أعلم الناس حينذاك بصدق الدعوة المحمدية، وإذا ما آمن أهل الكتاب بالاسلام كان ذلك أدعى إلى دخول غيرهم فيه أفواجا، لذلك بسطت آيات ذلك العقد بسطا وعظم القول فى أهل الكتاب ونَعَى عليهم كثيرا من أفاعيلهم وكتمانهم الحق وهم يعلمون، وتبديلهم قولا غير الذى قيل لهم، وتوليهم من بعد أخذ الميثاق عليهم أن يأخذوا ما آتاهم بقوة، ويذكروا ما فيه، وايمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، وكفرهم بالكتاب المصدق لما معهم واعلانهم الايمان بما أنزل عليهم وكفرهم بما وراء ذلك، ونبذهم كتاب الله - سبحانه وتعالى - وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون، وودّهم ردّ المسلمين عن دينهم، وانكارهم تحويل القبلة، وكتمانهم ما انزل الله - عز وجل - من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس فى الكتاب، فكان هذا البسط اعتناءً بشأن دعوتهم إلى الاسلام. ***

والقسم الثانى من السورة من الآية: (168 - 283) من أول قول الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:168) إلى آخر قوله - سبحانه وتعالى -: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة:283) فهذه خمسَ عشرة ومئة آية (115ي) معقودة لبيان أحكام الشريعة لتكتمل بها صورة الاسلام وهدية عقيدة وشريعة، فإن السورة سنام القرآن الكريم، واستهلال هذا الشطر بدعوة الناس كافة إلى أن يأكلوا مما فى الارض حلالا طيبا ولا يتبعوا خطوات الشيطان، فهو عدوهم المبين يتناغى مع ما عقدت له آياته من بيان أحكام الشريعة وأبرزها أحكام المطعم؛ لأنَّها أساس قبول الأعمال، فإنَّ كلَّ جسم نبت من حرام مآله إلى النار لا تقبل صلاته وصيامه وزكاته وحجه وجهاده إلى آخر تلك الشرائع التى فصلتها آيات هذا العقد. التوحيد رأس الجانب العقدى. وطيب المطعم رأس الجانب التشريعي فكانت الدعوة إلى الأول للناس كافة فى مستهل القسم الأول العقدي وكانت الدعوى إلى الآخرللناس كافة فى مستهل لقسم الثانى التشريعي

ثُمَّ توالت تشريعات ما أحل الله - جل جلاله - من الطعام، ثُمَّ بيان البِرِّ وصوره، وأحكام القصاص ليحقق الأمن من بعد طيب المطعم واحكام الصيام والجهاد والحج والإنفاق والقتال فى الأشهر الحرم والخمر والميسر وأحكام الأسرة وأحكام المعاملات المالية من صدقه وربا وقرض ورهن، فختم آيات هذا القسم بأطول آية: (آية المداينة) فأية الرهن مؤكدا الدعوة إلى الأمانة والقيام بحق الشهادة. ثم تأتى الخاتمة فى ثلاث آيات (284-286) : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)

فهذه الثلاث مقررة أنَّ الكون يكون كلَّه لله - عز وجل - وحده، وأن ما فى الأنفس يحاسب عليه، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، فكأنَّ فى هذه تعقيبا على القسمين معا العقدي والتشريعي وفى الوقت نفسه توطئة لذكر الذين قاموا بحق هذين القسمين، فكان هذا ردَّ عجز السورة على صدرها الذى يبين صفات المتقين، فتلاقى حديثه عن المؤمنين فى مقطعها مع حديثه عن المتقين فى مطلعها. تبين لنا مما مضى بناء السورة من معاقد وفصول متلاحمة هيمن عليها جميعاً مقصد رئيس سَرَى فى جميع متعاقد السورة وآياتها. إنَّ تقسيم السورة إلى حلقات تجمع فى محيطها مجموع المعانى الجزئية التي تشكِّل معنى كلياً هو أساسٌ لاستبصارالعلاقات بين معاني السورة على نحو محكم ذلك أنَّ استبصار علاقة المعنى الجزئي بغيره فى محيط حلقة من حلقات المعنى القرآنيّ للسورة أقرب إدراكاً وأيسر تحصيلاً من استبصار علاقته بمعنى جزئيّ فى محيط حلقة أخرى من حلقات السورة، لأن تلك العلاقة ذات خفاء،وهو خفاء لا علاقة له بوثاقه الاعتلاق أو وَهَنَِهِ، فقد يكون وجه الاعتلاق خفياً الا أنه جد وثيق. (1) واستبصار السورة آية آية دون تقسيمها إلى فصول ومعاقد كلية يضعف قدرة المستبصرعلى إدراك معالم المقصود والغرض الأعظم المهيمن على السورة، فان إنشغاله بتلاحم الآية بالآية التى بعدها لا يعنيه على مد بصره إلى أفق أبعد، لكن استبصار التلاحم بين آيات المعقد الواحد أقرب وأمكن ثم من بعده استبصار علائق المعاقد بعضها ببعض وخضوعها لسلطان غرض رئيس ومقصود أعظم.

_ (1) - ذهب إلى فريضة استبدال تقسيم آيات السورالقرآنية إلى حلقات خاضعة للمعنى، وليس إلى المقادير الكمية لعدد الآيات والكلمات كما هو قائم في المصاحف اليوم، فهو قائم على غير أساس معنوي فإنك ترى القصة الواحدة، وقد لاتكون ممتدة قد جعل بعضها في حزب وبعضها في آخر، بل ترى المعطوف في أول (جزء) والمعطوف عليه في آخر كما في {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: من الآية24) وانظر ما كان منهم في سورة (محمد) - - صلى الله عليه وسلم - مثلا تراهم قد جعلوا أوَّل نصف الحزب الآية العاشرة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد:10) وآخره الآية (32) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:32) وكان بملكهم أن يجعلوا أول هذا الحزب أول السورة وآخره آخرها، بل انظر صنيعهم في سورة (العاديات) فإنّك يجعلون نهاية نصف الحزب الآيةالثامنة: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات:8) وكان بملكهم أن يجعلوا نهايته نهاية السورة. إنّ مثل هذا ليس من ورائه نفع في فقه المعنى القرآني، ولاسيما أنه ليس توقيفيا، ولم يرد عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمعيار القويم التقسيم إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وأثمان إنما هو المعاقد الكلية للسورة، وليس عدد الأسطر والكلمات.

الفصل الرابع: التحليل البياني

الفصل الرابع: التَّحْليلُ البَيَانيّ لكلمات وجمل وآيات السورة *** بين يدي السَّفَر: الذى يحسن إدراكه أنَّ البناء الكليّ سورة ينبثق من معايشته ومخادنته مزيجٌ من التصورات الفكرية والانفعالات القلبيّة والاشراقات الروحيَّة، وينتهى الاستغراق فى الترتيل المصحوب باليقين بقدسية البيان المفجّرِ تلك التّصورات والانفعالات والإشراقات إلى اكتساب توازنٍ نفسيّ وقلبيّ وروحىّ مشرق. هذا التوازن ضرورة لإنجاز الرؤية النظرية لمعالم التحليل للسورة، فانَّ تلك الرؤية غير كافية للاقدام العَزْمِيّ على تحقيق ذلك التحليل واستثماره، ذلك أنَّ هذا التحقيق والإنجاز حمل ثقيل لا يصبرُ عليه الا مستغرِقٌ فِي لذة المخادنة ونوارنية الاشراق الروحيّ. وهذا التوازن يعصم صاحبه من الذاتية الخالصة، لأنَّه توازنٌ موضوعيٌّ؛ لانبثاقِهِ من الاستغراق فى الترتيل الواعي المستبصر. *** التحليل البيانى للسورة هو القادر على إضاءة السورة داخلياً فتشرق مضامين الهدى منها فى نفوسنا على نحو يحقق إكتساب أمرين: الأول: المضمون التشريعي ببعديه: العقدي والسلوكي، والمضمون التثقيفى متوازيين أو متمازجين. الأخر: القناعة والرضا القلبيّ المثمر زهدًا في كلّ ما يشغل عن التلذّذ بالعبودية لرب العالمين، فإنَّ لها لذة هي الثواب الحقيقيّ للإخلاص في كلّ طاعة مما يجعل ذائقها في الفردوس على الرغم من أنَّه قد يكون حنيئذٍ أشعث أغبر ذا طمرين مدفوعًا بالأبواب لايؤبه له.

وكلُّ أنحاء التدبر للسورة المفتقرة إلى منهج التحليل البيانى للسورة عاجزة عن تحقيق هذين الأمرين معاً مما يحقق لتلك الأنحاء عجزاً أو تقصيراً فى النصيحة لكتاب الله - عز وجل -،فإنّ رسالة المتدبر ليست مقصورة على إستكشاف المضمون التشريعيّ التثقيفى بل ذلك فريضة استنبات القناعة والرضا القلبي بذلك المضمون ثم استثماره فى توليد الطاقة الإنجازية لذلك المضمون، فلا قيمة لاستكشاف معالم التشريع والتثقيف بل هى له مجموعاً إليه استيلادُ دوافع الإنجاز والإتقان. وإذا ما عجز التحليل البيانى للسورة عن استيلاد دوافع الانجاز والإتقان فى نفس المتلقي، فانَّ مردَّ ذلك إلى نقص فى تناول عناصر السورة بالتحليل أو إلى خلل فى تصور معالم ذلك التحليل أو فى توظيف ذلك التصور توظيفاً متلائماً مع شخصية السورة التى هى مناط التحليل، فإنَّ منهاج التوظيف لتلك المعالم تختلف من سورة إلى أخرى، ولا مسوغ البتة إلى إسقاط ما يصلح لسورة ما على سائر السور الأخرى، لما بينها من تغاير مضموني وبنائي يرمى فى سياق كليّ إلى غاية واحدة. ليس التحليل البيانى للسورة إلاَّ قراءة إنتاجية فاحصة كلَّ عناصرها فحصاً كاشفاً عن قيمة كلِّ عنصر وعلاقته فى تشكيل الوجود الدلاليّ للسورة مثلما كان له قيمة فى تشكيل وجودها اللغوى المقروء أو المسموع. هذه القراءة يجتاز بها صاحبها مرحلة تحويل المسطور على وجه صحيفة إلى مسموع مَنْغُوم فى أذن سامع، فذلك معنى عام للقراءة يشارك فيه الدهماء أهل العلم.

وإنّما هى قراءة قائمة بإخضاع جميع عناصر المقروءة فى وجود الكليّ للاستبصار: فهى موقف استبصاري إنتاجي من السورة، وهذا يقتضِى من صاحب هذه القراءة التحليلية للسورة أن يتسلل بوعيه فى الوجود اللغوي للسورة يجوس خلاله ويخادنه، فيمتزج وعيه بالسورة مثلما تمتزج السورة بوعيه، وهذا ما يجعل المعنى القرآنيّ للسورة فى صورته الإدراكية لا القصدية يختلف باختلاف وعى المتلقى، فانَّ ثَمَّ علاقةً جدلية بين السورة والمتلقي قائمة على التَّبادل، فهو يأخذُ من السورة مقومات وجودها اللغوى، ويضيف إلى وجودها الدلاليّ من ذاته القائمة بالإيمان والتعلم العميق الفسيح والخبرة وملكة التذوق والاستبصاروالالتزام السلوكيّ وغير ذلك. وإنى أزعم أنَّ التحليل البيانيّ للسورة القرآنية سبيلٌ من سبل حسن القيام بالاستجابة لأوّل أمر إلهيّ فى دعوة الإسلام {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1) فما أظن أنَّ الوحى كان يطلب من سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حينذاك أن يقرأ قراءة تُحِيلُ المسطور مسموعاً، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - ما كان إلاَّ أميًّا لا يملك تلك الطاقة المُحِيلة ما هو مسطورٌ إلى مسموع، فضلاً عن أنّه لو كان ذلك هو مراد الأمر بالقراءة فى أول آية نزلت لما كان سيدنا " جبريل " - عليه السلام - بحاجة إلى أن يأخذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيغطه حتى يبلغ من النبى - صلى الله عليه وسلم - الجهد ثلاث مرات، فانَّ مثل هذا لا يليق أن يُفعل حينذاك إلاَّ إذا كان المأمور به شيئاً غير ذلك، تفسّره لنا تَهْيِئَةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه له بالاعتكاف والتعبد والتحنّث فى الغار والاعتصام مما يشغله، ويهوش عليه من حركة الحياة المائجة الماجنة تهيئة بتوفيق من ربه - عز وجل - الذى خلق واصطفى، ودونما قصد منه - صلى الله عليه وسلم -.

ما أُمر به هو قراءة استيعاب للكون محسوسه ومعقوله استيعاباً يُفعم النفس،ويسيطر على منهج السلوك المعرفيّ والحركة المشكّل وجوداً جديدا للإنسان به يحقق رسالة الاستخلاف العظمَى ورسالة الشهادة على الأمم الأخرى، فتنال به الأمة المحمديّة مقام الخيريّة. أزعم أنَّ القراءة التحليلية للسورة القرآنية سبيل إلى تحقيق تلك القراءة المأمور بها فى سورة العلق. *** - منزلة الذاتية فى التحليل البياني البيان القرآنيّ وحى من الله - سبحانه وتعالى - لم يجعله خاضعاً لسلطان ما يُعرف ويشْهرُ من معايير وقواعد بيان الانسان؛ لأنَّ ما كان من الله - عز وجل - لا يخضع لما كان من الانسان على الرغم من أنه اتخذ لغة الانسان مظهراً للقرآن الكريم حتى يبين لهم الذى يختلفون فيه، ومن ثم لا يصلح كل ما استنبطه العلماء من قواعد من بيان الإنسان أن يتخذ معياراً أو نموذجاً يلتزم به فى التحليل البيانى للسورة، فانَّ قواعد البيان الإنسانيّ لا تَعْدُو الاسترشاد بها والاهتداء بضوئها مما يمنح أو يفرض على القائم بالتحليل البياني للسورة أن يكون منهجه التحليلي وحركته الإنجازية لذلك المنهج متناسقين مع الواقع البياني لكلّ سورة من سور القرآن الكريم وفقاً لمعالم شخصيتها البيانية التى هى الصورة الحسية لشخصية مضمونها التشريعيّ والتثقيفى، وإنجاز ذلك حمل جد ثقيل. وكل ما يذكره أهل العلم من معالم التحليل البيانى فى مثل هذا إنَّما هو مفاتيح أبواب طرائق مديدة فسيحة إلى عالم التحليل البيانى للسورة فلا يكاد يحاط بأقطاره المترامية. ولهذا كان للذاتية الرشيدة الثَّقِيفة أثرٌعظيمٌ فى استيلاد طرائق تحليلية متناسقة مع واقع كل سورة.

وإذا ما كان نقدة الأدب يذهبون إلى أنَّ أولى قواعد المنهج العلمى هى أن تخضع نفوسنا لموضوع دراستنا لكى تنظم وسائل المعرفة وفقاً لطبيعة الشىء الذى نريد معرفته وأنَّنا نكون أكثر تمشياً مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثيرية فى دراستنا شريطة أن تخضع هذه التأثيرية للضبط والمراجعة - إذا كان هذا فإن الأمرَ مهمٌّ فى التحليل البيانيّ للسورة لأن إخضاع نفوسنا لها سوف يفجر فينا طاقة معرفية ذوقية تدرك ما لا تمكن العبارة عنه، لكنَّه يؤثر تأثيراً نافذاً فى شتى المجالات التى تمكن العبارة عنها، فالذَّوق الذى هو دعامة أساسية من دعائم التحليل البياني هو الذوق المتحدر من عدة روافد موضوعية يمكن اكتسابها بالمدارسة والدُّربَة، ومن ذاتية شخصيته تكتسب من سلوك إيمانى ناصح والتزام حركى خالص. وإذا ما كان من جوهر الأخذ بالذوق الذاتي الرشيد بالثقافة والسلوك الحركيّ أن يكون معللاً فانّه مما لا يخفى أنَّه ليس بلازم أن يكون ذلك التعليل موضوعياً جلياً فى كل أمر. المهم أن يقوم المنهاج على ثلاثة: التحليل والتأويل والتعليل وهذه المرتكزات ليست مما استحدثه التفكير البياني والنقدي بل ذلك أمرٌ قد حثَّ عليه وأكّده الأسلاف في أسفارهم: تراه جليًا عند "عبد القاهر الجرجانيّ" في فواتح (دلائل الإعجاز) : ‹‹ لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسا وأن تصفها وصفا مجملا وتقول فيها قولا مرسلا،بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصّل القول،وتحصّل،وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدَّها واحدة واحدة وتسميها شيئا شيئا وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الأبريسم الذي في الديباج وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع وكل آجرة من الآجر الذي في البناء البديع ›› (1)

_ (1) - دلائل الإعجاز- تح: شاكر ص 37

فهذا دالٌ دَِلالةً بيّنَةً على أن الاستقصاء والتحليل دعامتان رئيسيتان في منهج التفكير البيانيّ، فالإجمال، والاكتفاء بظاهر البيان مما يتحرز منه التفكير البياني، ولذا يُذَكِّرُ به ‹‹عبد القاهر›› في مواضع عديدة من كتابه؛ ليكون المتدبر والمتذوق عغلى ذكر من أهميته. يقول:‹‹ واعلم أنك لا تشفي الغلة ولا تنتهي إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملا إلى العلم به مفصلا،وحتَّى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتَّى تكونَ كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته ومجرى عروق الشجر الذي هو منه ›› (1) تأمل قوله:‹‹ لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه....›› يتبيّن لك عظيم أهمية الاستقصاء في التحليل البياني ليقف المرء على ما هو مكنون في البيان من خصال البلاغة والبراعة والبيان. ولهذا تجد الإمام يهديك في مفاتح " الدلائل" إلى نهج في التتبع والتقصي، وهو يبين لك أن فضائل الكلم من علائقها ومواقعها: ‹‹ وهل تشكُّ إذا فكرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود:44) فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقربها إلى آخرها وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها.

_ (1) - السابق:260

إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدَّت من الفصاحة ما تؤدِّيه، وهي في مكانها من الآية قل ‹‹ابلعي›› واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها وكذلك فاعتبر سائر ما يليها. وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أنَّ مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء بـ " يا " دون " أي " نحو يا أيتها الأرض، ثم إضافة "الماء" إلى " الكاف" دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض، وأمرها بما هو من شأنها، ونداء السماء، وأمرها كذلك بما يخصها، ثُمَّ أن قيل:" وغيض الماء "، فجاء الفعل على صيغة " فُعِلَ " الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر، ثُمَّ تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى:" قضي الأمر"، ثُمَّ ذكرماهو فائدة هذه الأموروهو " استوت على الجودي "، ثم إضمار السفينة قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثُم مقابلة قيل في الخاتمة بـ" قيل " في الفاتحة أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق، أم كلّ ذلك لمَّا بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب ›› (1) هو في صنيعه هذا كمن يعلمك كيف تصطاد، فلا تفتقر إلى غير جهدك من العباد. وتراه يبينه لك في غير البيان القرآني حتّى لا تظنّ أن ذلك فريضة في تدبر القرآن الكريم،وليس فريضة في تذوق الشعر، يقول:

_ (1) - السابق:45-46

‹‹ اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثُمَّ جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصا دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمله فإذا رأيتك قد ارتحت، واهتززت، واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مِمَّ كانت، وعند ماذا ظهرت، فإنَّك ترى عيانا أن الذي قلتُ لك كما قلتُ. اعمد إلى قول البحتري: بَلَوْنا ضَرائبَ مَن قَد نَرَى * فما إن رأينا لفتحٍ ضَريبَا هُوَ المَرْء أبدت له الحادثات * عزْمًا وَشِيكًا ورأيًا صَلِيبا تنَقَّل فِي خُلُقَي سُؤدَدٍ * سَماحًا مُرَجَّى وبَأسًا مَهِيبَا فكالسّيفِ إنْ جِئتَه صارِخًا * وكالبَحْرِ إنْ جِئتَه مُسْتَثيبَا فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازا في نفسك، فعُد، فانظر في السبب، واستقص في النظر،فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر، وعرّف ونكَّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرَّر، وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كلِّه، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة. أفلا ترى أنَّ أول شيء يروقك منها قوله:‹‹ هو المرء أبدت له الحادثات ››، ثم قوله:‹‹ تنقل في خلقي سؤدد ›› بتنكير ‹‹السؤدد››، وإضافة ‹‹الخلقين ›› إليه، ثم قوله: «فكالسيف» وعطفه بـ" الفاء" مع حذفه المبتدأ؛ لأنَّ المعنى لا محالة: فهو كالسيف، ثم تكريره "الكاف " في قوله: «وكالبحر» ، ثُمَّ أنْ قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه، ثم أنْ أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله: «صارخا» هناك و «مستثيبا» هاهنا؟ لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو في حكم ما عددت فأعرف ذلك. وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى، فانظر إلى قول " إبراهيم بن العباس ":

فَلوْ إذْ نَبَا دهْرٌ وأنْكر صاحبٌ * وسلط أعداءٌ وغابَ نَصيرُ ... تكونُ عن الأهوازِ داري بنجوة * ولكنْ مقاديرٌ جرَتْ وأمورُ ... وإنّي لأرْجو بعد هذا محمدا * لأفْضَلَ ما يُرجَى أخٌ ووزيرُ فإنّك ترى ما ترى من الرونق والطَّلاوة ومن الحسن والحلاوة، ثم تَتَفَقَّدُ السبب في ذلك، فتجده إنّما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو: «إذ نبا» على عامله الذي هو: «تكون» وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنحوة إذ نبا دهر، ثم أن قال:" تكون" ولم يقل: "كان"، ثُمَّ أن نكر "الدهر" ولم يقل:"فلو إذ نبا الدهر"، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد، ثم أن قال:"وأنكر صاحب"، ولم يقل:" وأنكرت صاحبا" لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في النظم وكله من معاني النحو كما ترى. وهكذا السبيل أبدا في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وفضل وشرف أحيل فيهما عليه» (1) يهمنا – هنا- قوله:" واستقص في النظر" وقوله:" تَتَفَقَّدُ السبب" يدلك هذا دلالة بينة على وجوب الاستقصاء في التحليل والتذوق (2)

_ (1) - دلائل الإعجاز: 85-86 (2) - لا ريب في أنَّ من شاء الاستدراك على " عبد القاهر " في استقصائه هنا كان له إلى ذلك سبيل، فإنه كما ترى لم يستوف ولم يستقص، بل ثَمّ أمور مهمة في الصورتين الشعريتين نفتقِرُ إلى تذوقها.

المهم أن هذا الاستقصاء في التحليل والتّدبر والتّذَوّق لابدَّ معه من تعليلٍ وتأويلٍ وإبانةٍ عن ذلك بلسان مبين، فإنَّ الاستقصاء في تحليل وتدبر البيان لا يعدو مرحلة التذوق الانطباعي الذي قد لا يستفاد منه. يقول الإمام: «لا بُدَّ لكلِّ كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة ومعان شريفة» (1) فالعلم بجهة الحسن والاستجادة وعلة ذلك وسببه، ثُمَّ الاقتدار على الإبانة عن ذلك الذي أدركته بفراستك البيانية؛ليكون تدبّرك وتذوقك موضوعيًا علميًا متطهرًا من الذاتية المجردة التي لا يستفاد منها غالبًا في باب العلم والتعلم، ولا تهدى إلى الآخر ما به يسطيع السيرعلى الطريق الذي سلكت، فإنَّ البلاغيّ والناقد من رسالتهما فتح السبل إلى الولوج في النص، وإغراء القارئ بمخادنة النّص بالإشارة إلى بعض من جليل مكنونه. *** وتبقَى الإشارة التذكيرية بأمرين رئيسيين في منهاج التحليل البياني للقرآن الكريم في سياق السورة: ? الأول: العناية بتحليل مشتبه النظم (التصريف البياني للمعنى القرآنيّ) ? الآخر: العناية بالتوجيه البياني للقراءات القرآنية. هذان أمران لا تستقيم دراسة تحليلية لبيان القرآن الكريم غفلت عن أحدهما أو تساهلت في العناية بالوفاء ببعض حقهما.

_ (1) - السابق: 41

ينتبه بعض الباحثين إلى الأمر الأول «التصريف البياني للمعنى القرآني» فيقرنون النظر فيما تشابه نظما وتركيبا ... مع ما هم بصدد تحليله تحليلا بيانيا، وقد كان لسلفنا مزيد عناية بذلك، فأفردت أسفار جليلة في هذا كما تراه في كتاب " درة التنزيل وغرة التأويل " المنسوب إلى " أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي " (ت: 420هـ) ، وكتاب:" ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من أي التنزيل " لأبي جعفر احمد بن الزبير الغرناطي" (ت: 708هـ) وهما من أهم ما أفرد السلف من الأسفار في هذا الباب، وقد فاتهما أشياء غير قليلة (1) والأمر الآخر يغفل عنه غير قليل من الدارسين على الرغم من الزعم بأنّ مناط درسهم بلاغة القرآن الكريم، والقرآن الكريم ليس بالمقصور على ما جاء في قراءة حفص عن عاصم، وإن كان ترتيل جمهور أهل القرآن الكريم بها، علينا أن نقوم ببعض حق تدبر وتأويل بلاغة القرآن الكريم في وجوه الترتيل الأخرى، وهي متواترة تواترًا لايقل البتة عن تواتر قراءة حفصٍ عن عاصم، فليس من العدل أن نقصر عنايتنا بوجه من القراءات المتواترة دون غيرها مما تواتر مثلها.

_ (1) - لكثير من المفسرين عناية بتوجيه بعض مشتبه النظم في مواضع من تفاسيرهم، وقد برزت عناية " البقاعي" (ت: 885هـ) بهذا في تفسيره، ولو جمع كلامه في هذا لكان سفرًا، ولو حلل صنيعه لرأيت له منهاجًا في التأويل غير الذي تراه عند " ابن الزبير" في " ملاك التأويل".

التوجيه البياني للقراءات القرآنية فريضة في كل بحث يعمد إلى تدبر البيان القرآني الكريم: تحليلا وتأويلا وتعليلا، سواء ما كان مجال القراءة فيه متعلقا بالكلمة مادة وصيغة وموقعا، وما كان متعلقا بالنظم والتركيب والتصوير والتوقيع والتغني. (1) *** التحليل البيانى بين التفكيك والتركيب: التحليل البيانى يعنى بفحص كل عنصر وسبره وهذا يقتضى أن يتناول كل عنصر أولاً على حدة ثم فى سياقه الجزئى وينتهى إلى النظر فيه فى سياقه الكلى.

_ (1) - في كلية اللغة العربية بالقاهرة دراسة للعالمية موضوعها (التوجيه البلاغي في القراءات القرآنية) أعدها الدكتور: عبد الله عليوه – رحمه الله- سنة 1986، ونشر الدكتور:عبد المنعم الأشقر بحثًا بعنوان (البلاغة في القراءات الشاذة عند ابن جني) سنة 1990، ونشرالدكتور: محمد إبراهيم شادي دراسة بعنوان (مدخل القراءات القرآنية في الإعجاز البلاغي) سنة 1987، ومن أوسع تلك الدراسات دراسة الدكتور:أحمد سعد محمد، وعنوانها (التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية) نشره سنة 1418- مكتبة الآداب بالقاهرة

فهو لا يمزق النَّص ويجعله أشلاء، ثم يلقى بها، بل هو يحلل النَّصَّ إلى عناصره؛ ليفحص خصائص هذه العناصر وسماتها، وليفحص ما ببينهما من علائق ووشائج تحقق لها التعاون والتكافل فى إقامة النَّصَّ وإكتماله، فالتحليل البيانيّ لا يتوقف عند تجزئة النص وتفكيكه بل ينتهى إلى إعادة جميع العناصر بعد فحصها إلى مواقعها ليقوم النَّصُّ مشرقاً من بعد أن استكشف التحليل خصائصه فى عناصره وفى بنيته الكليَّة، ولهذا لا يحسن فى التحليل البيانى أن يقوم على النظر فى مسائل أسلوب ما مجموعة من واقعها فى النص معزولة عن سياقها، بل الأجدى أن يعتمد التحليل على النظر فى آيات كل معقد مجتمعة ليحلِّل كلَّ عنصر وتركيب وأسلوب فى سياق ذلك المعقد ثم فى خاتمة كل فصل تصنف الأساليب والخصائص التي إشتمل عليها ذلك المعقد دون أن نجعل تصنيف البلاغيين أساليب البيان فى علومه الثلاثة: معانى وبيان وبديع هى أساس التحليل والتصنيف ذلك أن صنيع علمائنا البلاغيين كان معنياً بالجانب التربوى فى ذلك التصنيف تقريباً لذلك العلم إلى طلابه، ولم يكن تصنيفاً يفصل بين الأساليب وفقاً لخصائص بيانية لذلك تراهم يحرصون على التصريح بأن علم المعانى كالجزء من علم البيان، فإنَّ كلَّ مسألة من مسائل علم البيان هى قائمة على مسائل علم المعانى، كما أن كل مسألة من مسائل علم المعاني تقوم بالتصوير، وكذلك تستطيع أن ترجع مسائل علم البديع إلى علم المعانى وعلم البيان، ذلك أنَّها قائمة على النظم أيضا الذى هو المحيط بعلم المعانى وهو فى الوقت نفسه عمود علم البلاغة كلّها، وعلم البلاغة كلُّه هو علم التصوير بالكلمة. ولذلك ترى حرص عبد القاهر على التصريح بعلاقة الاستعارة وهى رأس التصوير البيانى أو سنامه بالنظم وأنها لم يتحقق لها الحسن معزولة عن النظم. وكذلك حرصه على التصريح بعلاقة الجناس والسجع والطباق وهى سنام البديع بالنظم.

وهذا يقتضى منا ألا يكون التحليل البيانى منتهجا الى تصنيف مسائل التقديم ... والتشبيه ... والتجنبس ... الخ كل فى باب بل يحلل كل أسلوب فى سياقه ثم تجمل خصائص كل معقد المعنوية والأسلوبية حتى تستكشف الأساليب التى قامت ببناء معاني ذلك المعقد وتصويرها وتحبيرها حتى إذا فرغ التحليل من معاقد وفصول السورة كلّها استطاع أن يصنف الأساليب فى وحدات بل استطاع أن يستكشف الأساليب الرئيسية في السورة كلّها والأساليب المساعدة وأن يفسّر ذلك فى ضوء المقصود الأعظم والأغراض الكلية التى تندرج فى ذلك المقصود. (1) *** - مجال التحليل البيانيّ للسورة. السورة القرآنيّة فى وجودها اللغوى مكونة من عدة عناصر متنوعة، ولكلِّ عنصر صورة صوتية أفرادية أو تركيبية ودلالية ذهنية أو تركيبية أو سياقية وأنماط تكوينية وصور وظلال وعلاقات ووشائج. وإذا ما كان أىّ بيان يتحقق وجوده الكلّيّ من خلال تمازج عناصره اللفظية والمعنوية أو التركيبية تمازجاً لا يتأتى معه أن يقوم عنصرما بعملِه منعزلاً عن بقية العناصر، أوأن يُستبدل به عنصرٌ أخر، فإنَّ دراسة هذا البيان لا تتأتى إلا باستقصاء التحليل الذى يقتضى دراسة كلّ عنصر فى ذاته وفى وجوده السياقي الجمعيّ. ولهذا التحليل البياني لصورة المعنى القرآنيّ المتعبّد بترتيلها في السياق السوريّ مجالات عديدة، وهي مجالات متصاعدة في تحقيق الوجود النّصي المكتمل لبناء السورة.

_ (1) - التحليل البيانى أكثر مناهج البحث اقتضاء للفهارس المفصلة الشاملة لأن اعتماده على النظر فى المعاقد، وتجنبه فصل الأساليب عن سياقاتها يجعلنا فى حاجة ماسة إلى فهارس تفصيلية تبين لنا موضع كل شئ فى أثناء ذلك التحليل.

كلّ مجال منها يُقريك تدبُّرُه زادًا إلى تدبّرِ ما بعده من المجالات المتصاعدة، بل إنك لتجد نفسك - وقد حسبت أنك قد فرغت - تملك من الزَّاد ما يُغريك بأن تكونَ الحالّ المرتحل في تدبُّرك وتذوقك، فإذا بك وقد أردت أن تحط الرحال، تسرج الجياد إلى ما بدأت به، فتستأنف التدبر والتذوق فإذا سُبُحات العطاء تتوافد وتترادف على قلبك. وتلك َمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواعلى المجاهدة في التحليل والتَّدبُّر والتَّذوِّق وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الطَّبْعِ والعِلْمِ والتقْوى. ومجالات التحليل البيانيّ للسورة القرآنية إذا ما شئنا حركة من الأدنَى إلى الأعلى، والجزئي إلى الكلّى تبدأ بتحليل المفردات في سياقها التركيبي، ثُمَّ تحليل الهيئة التركيبية للبيان، ثُمَّ الصورة البيانية، ثُمَّ فنون التوقيع والتغنّي التي بإتقانها يتحقق لصاحب القرآن الكريم شيءٌ من فضيلة تحسينه القرآن الكريم بترتيله في قلوب المتلقين، وذلك وجه من وجوه النَّصيحة للقرآن الكريم ولعامة المسلمين وخاصتهم. *** - أولاً: التحليل البيانيّ للمفردات وكنت قد حدثتك عن المعجم اللغوي للسورة،وأثره في تحقيق وتحرير مقصود السورة التي أنت بصدد تدبُّرها، فإنَّ «أوّل ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيلُ معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه،كنحصيل اللبِنِ في كونه أوّل المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه ... " (1)

_ (1) - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني - تح:محمد سيد كيلاني - ص 6 - ط: مصطفى الحلبي -1381- القاهرة

ومن العَليّ هنا أن ترصد المفردات في كلّ سورة رصدًا كاملاً يشمل أدوات المعاني والأسماء والأفعال، وذلك من قبل أن يتم إعداد معجم كلمات لكلّ معقد من معاقد السورة على حدة؛ ليتبين للمتفقه معانيها ما بين معاقد كل سورة من المجموع الكليّ لكلّ صنف من كلمات السورة، فإذا ما جئنا إلى سورة البقرة مثلا رصدنا أوَّلاً جميع كلماتها، وهذا ليس بالعسير اليوم، وقد كثرت وسائل ذلك ويُسِّرت، ثُمَّ فصّلنا ما فيها من أدوات معاني كل أداة على حدة، ثُمّ كل مادة، ونبين ما كان اسما وما كان فعلا وما كان من الأفعال ماضيا وما كان غير ذلك، وما هو مجرد وما هو مزيد، ومن الأسماء ما هو جامد وما هو مشتق، وكل مشتق يصنف وفق نوع اشتقاقه. وإعداد هذا المعجم مع كلِّ معقد ونجم ثم محاولة المقارنة بين معاجم كل إنَّما يعين على إدراك ما لكل معقد من تميز وما فى كلٍّ من العرى الوثقى التى يتواشج بها لغوياً وتركيباً ودلاليا مع المعاقد الأخرى فى السورة، فانَّ حضور مادة لغوية ما فى المعاقد كلها أو أكثرها قد يكون آية من آيات الإعتلاق والتناسج بين فصول السورة ومعاقدها، لهذا فإنِّي أوثر إعداد معجم لكلِّ معقدٍ بعد المعجم الكليّ للسورة، ثم مقارنته ببعضه واستبصار ما بينه من تحالف وتخالف كميٍّ ونوعيٍّ ودلاليٍّ. ومن البين السافر أنَّ التحليل البيانيّ لمفردات السورة يعمد فيه صاحبه إلى محاولة استبدال عناصر لغوية مقاربة بعناصر لغوية تشكلت منها السورة، ثم موازنة ما استبدال بما استبدل به ليتأتى له استبصار بعض معالم خصائص تلك العناصر اللغوية التى تنفرد بها،ولا سيَّما اذا ما كانت تلك الكلمات المستبدلة بغيرها مما له وجود فى سياق سورة أخرى.

وقد رأيت " عبد القاهر " يهديك إلى شيْءٍ من هذا، وهو يلفت بصرك إلى تدبر قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ....} (هود: من الآية44) وكان يوقفك لتنظر في مادة الكلمة وصيغتها وموقعها وعلائقها بأخواتها.... وغير خفى إنَّه إذا ما كانت الكلمات القرآنية هى كلمات العربيّة من قبل تنزل القرآن الكريم، فلم يبدع كلمات لم تعرفها العرب، فانَّ بلاغة القرآن الكريم ليست فى إنَّه جاء بما لا تعرف العرب من كلمات بل بلاغته فى أنه نسج بيانه من كلمات تقاذفتها ألسنة العرب من قبل، وبرغم من هذا كان البيان القرآنيّ بما اصطفاه من مفردات المعجم العربيّ ونسجه لها معجزاً حتّى إنك لو شئت أن تقيم كلمة غير قرآنية مقام كلمة قرآنية بينهما تآخ في المعنى والأداء لتبين لك فرق ما بينهما وفضل ما جاء في البيان القرآنِيّ على ما اجتهدت في اصطفائه من المعجم العربي على اتساعه. يقول " أبو محمد ابن عطية الأندلسي " (ت: 546هـ) : ... " كتابُ اللهِ لو نزعت منه لفظةٌ، ثُمَّ أُديرَ لسان العربِ فِي أن يوجد أحسن منها لم يوجد " (1) وكان من قبله قد أعلمك " عبد القاهر " أنَّ العرب في عصر المبعث المحمّديّ قد فتشوا القرآن الكريم تفتيشًا مدققًا فما وجدوا فيه كلمةً غيرُها يعدلها فضلا عن أن يفضلها:

_ (1) - ابن عطية:المحرر الوجيز: ج1ص 39 – ط: المجلس العلمي بفاس – تونس: 1395

«أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه وبدائع راعتهم من مبادىء آيه ومقاطعها ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كلِّ مثلٍ ومساق كلِّ خبرٍ وصورة كلِّ عِظةٍ وتنبيه وإعلام وتذكيرٍ وترغيبٍ وترهيبٍ، ومع كلِّ حجة وبرهان وصفة وتبيان، وبهرهم أنَّهم تأمَّلوه سورة سورة، وعُشْرا عشرا،وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق بل وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور،ونظاما،والتئاما، وإتقانا، وإحكاما لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حك بيافوخه السماء موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول وخلدت القروم فلم تملك أن تصول» (1) ومن قبل ذلك بقرن من الزمان قال "أبو سليمان الخطابيّ" إن حسن اختيار الكلمات من عمود بلاغة الخطاب عامة، فكيف بذلك في بلاغة القرآن الكريم: «.. اعلم أنَّ عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كلّ نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخصّ الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إمَّا تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإمَّا ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة " (2) تأمل قوله: " إذا أبدل منها....إلخ " تدرك أثر اختيار المفردات من حيث هي مادة أو صيغة في المعنى، فقد يفسد المعنى العقلي، وقد يفسد المعنى البياني الذي عبر عنه بذهاب الرونق.

_ (1) - دلائل الإعجاز:39 (2) - الخطابي:بيان إعجاز القرآن: ص 29 – ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تح: محمد خلف الله وزغلول سلام – دار المعرف بمصر:1387

ولعلَّ هذا مما استمدّ منه "عبد القاهر" تبينه الطريق إلى تحقيق مقومات تمام بلاغة الخطاب في قوله: ... «ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات [البلاغة والقصاحة..] وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيماله كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب وأولى بأن تطلق لسان الحامد وتطيل رغم الحاسد ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية» (1) تأمل قوله:" ويختارله اللفظ ... " كيف أنّه أوجب في اللفظ المختار خمس صفات: أن يكون أخصّ بالمعنى. وأكشف عنه. وأتم له. وأحرى بأن يكسبه نبلا. ويظهر فيه مزية. فعبد القاهر كما ترى يهديك إلى أن المفردات التي منها يقوم بناء الخطاب البليغ المتسم بحسن الدلالة وتمامها وتبرجها في صورة بهية معجبة مفردات ليس لها بدائل تقوم مقامها، فليس ما يعرف بالترادف الذي تقوم فيه كلمة مقام أخرى في الخطاب البليغ ثُم لا يكون ثَمَّ أثر في بلاغته، وهذا ما يجعل المثابرة في التحليل البياني لمفردات الخطاب أساسًا يبنى عليه غيره. إصطفاء القرآن الكريم كلماته من مفردات معجم العربية إنَّما كان ناظراً فيه إلى كثير من مكونات الكلمة المصطفاه من صوت وصيغة ومدلول ودلالة اكتسبها من روافد عدة، فمنحتها قدرة على أن تتناسج مع مفردات أخرى فى سياقات عديدة على أنحاء متنوعة.

_ (1) - دلائل الإعجاز: 43

فتحليل السورة يستوجب النظروالاستبصار لمثل تلك الاصطفاءات والاستخدمات القرآنية لهذه الكلمات، ومن هنا عُنِيَ أهل العلم بالقرآن الكريم بمحاولة استكشاف تناسق وتناسب الكلمة القرآنية فى سياقها من وجوه عديدة: من حيث صورتها الصوتية، وصورتها التكوينية ومن حيث جذرها الاشتقاقى (1) ومنهم من عُنِيَ بالصورة الكتابية للكلمة القرآنية وكيف أن إخراج بعض كلماته فى صورتها الكتابية على خلاف مقتضى الظاهر المعهود فى النحو الكتابى للعربية إنَّما يكون عنصراً فى بناء المعنى وتصويره وتحييره.

_ (1) - يحسن بك أن تخادن في هذا الأسفار الآتية: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري لشيخنا أبي موسى، و" دراسات جديدة في إعجاز القرآن " للدكتور: عبد العظيم المطعني " و"الإعجاز البياني في صيغ الألفاظ " للدكتور: محمد أمين الخضري " والتفسير البياني للقرآن الكريم للدكتوره:"عائشة عبد الرحمن" وكتاب" الإتيان والمجيء: فقه دلالتهما واستعمالهما في القرآن الكريم، للدكتور محمود حمدان و" النظم القرآني في آيات الجهاد للدكتور ناصر الخنين "

ومثل هؤلاء ينطلقون من أنَّ للقرآن الكريم خصوصياتِه المقدسةَ التى لا يشاركه فيها بيانٌ آخر، فطرائق الأداء الصوتيّ للقرآن الكريم هي طرائق توقيفية متوارثة تعرف بالقراءات القرآنية وكذلك طرائق كتابته ورسمه فهو مثلما كان من أسمائه (القرآن) كان من أسمائه (الكتاب) فله خصوصية كتابية مثلما له خصوصية قرائية، فطرائق الأدء الكتابيّ لبعض كلماته لا تخضع لمعايير التصوير الكتابيّ لتلك الكلمات فى لغة البيان الإنسانيّ، وهم يرون فى تلك الصورة الاصطفائية لكتابة تلك الكلمات القرآنية معاني قرآنية طريفة لطيفة، وكان لهذه الصورة الكتابية عِلْمٌ أُلِّفَتْ فيه الأسفار مثلما كان للصورة الأدائية علمٌ ألِّفت فيه الأسفار (1)

_ (1) - يحسن بك أن ترجع إلى: إلى كتاب:" كشف الأسرار في رسم مصاحف الأمصار للسمرفندي " تح: حاتم الضامن – نشر في مجلة المورد العراقية العدد الرابع من المجلد الخامس عشر: 1407، وكتاب:" عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل " لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي " تحقيق: هند شلبي. وإلى (النوع الخامس والعشرين:علم مرسوم الخط) من كتاب (البرهان في علوم القرآن للزركشي – ج1ص376-431،وإلى مواضع من تفسير: نظم الدرر لبقاعيّ،، وإلى (النوع السادس والسبعين في مرسوم الخط) من كتاب (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج4ص145-166والمبحث العاشر: في كتابة القرآن ورسمه من كتاب (مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني – ج1 ص361-410) وقد نقل الزركشي والسيوطي عن البيهقي - رضي الله عنه - في شعب الإيمان قوله: (من كتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على حروف الهجاء التي كتبوا بها تلك المصاحف ولا يخالفهم فيها ولا يغير مما كتبوا شيئا فإنهم أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة منا فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم)

فيحسن بالقائم بالتحليل البياني للسورة أن يعنى بكثير من وجوه كلمات القرآن الكريم، فإنّه سوف يبدوله من تلك الوجوه ضروبًا من التناسق المبهر هو جدير بأن يكون مناط عناية البلاغيين في درسهم وبحثهم. وقد بين لنا "سيد قطب" (ت 1286) نماذج قرآنية رسمت كلمات منها صوراً مشخصة أمَّا بجرسها الذى تلقيه فى الأذن أو بظلها الذى يلقيه فى الخيال أو بالجرس والظل معاً. والمثابرة والمصابرة على تدبر ذلك وتذوق تحليل أهل العلم معين على اكتساب مزيد من الحنكة والخبرة. فالنظر فى الكلمات القرآنية من وجوهما المختلفة وعلاقة تلك الوجوه بالسياق الجزئى الذى تنسج فيه وبالسياق العام للسورة كلها ثم علاقتها بالسياق القرآنى كله لأمر جد عظيم فى حاجته إلى مجاهدة علمية وروحية وجد عظيم فى عطائه. ينظر صاحب التحليل البيانى إلى مادة الكلمة لقرآنية والعطاء الدلالى لتلك المادة فى سياقها من نحو أن ينظر كيف أن القرآنَّ الكريم ذكر كلمة (إبليس) فى سياق الامتناع عن السجود، ولم يذكر كلمة (شيطان) في هذا السياق، وكذلك لم يذكر كلمة (إبليس) فى سياق أغواء أدم وحواء بل ذكر كلمة (شيطان) على الرغم من أنهما اسمان لذات واحدة. وكيف أنه عبر بكلمة (قرية) فى قوله - سبحانه وتعالى -: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} (الكهف:77)

وعبر بكلمة (مدينة) على البقعة نفسها فى قوله - سبحانه وتعالى -: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82) ومن نحو اصطفاء القرآن الكريم كلمة: (يثرب) فى سياق حكاية مقالة المنفقين فى سورة الأحزاب: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَاراً} (الأحزاب:13) ولم يرد ذلك فى غيرها. وإن وردت مادة (الثرب) في قول الله - جل جلاله -: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:92) ومن نحو اصطفاء كلمة (إنسان) فى سياقات الذم ولم يصطفها فى مقام تكريم. وكيف أن الله - عز وجل - لم يصطف البتة فى كتابه إيقاع فعل (الرؤية) على اسم الجلالة (الله) إلا فى سياق إنكاره وقوع ذلك والتوبيخ على طلبه وبيان ضلاله المبين: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة:55)

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153) وما جاء فى القرآن الكريم إنما هو إيقاع النظر لا الرؤية وعلى إسمه (الرب) وليس (الله) من نحو قول الله - عز وجل -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 22 - 23) وما جاء من قول الله - عز وجل -: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (لأعراف:143) فغير خفي أن قول سيدنا "موسى " - عليه السلام - (أرني) لايطلب مفعولا ثانيا يقدر، وإنما هو من جعل المتعدي إلى مفعولين متعديا إلى واحد، فمن قدر (أرني ذاتك) فقد وهم؛ لأنَّ ذات الله - سبحانه وتعالى - لا تُرى، والمعنى أرني:أي امنحني القدرة على رؤية الأشياء، فإن منحتني تلك القدرة أنظر إليك، وكاف الخطاب في (إليك) عائدة إلى اسمه (رب) - جل جلاله -، وليس إلى اسم الجلالة، فإنه لم يقل اللهم أرني أنظر إليك. إن علينا أن نعرف علائق الكلم بعضها ببعض، وقد قال "عبد القاهر": « ... إنّك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع،ثُمَّ تراها بعينها تثقُلُ علَيْكَ وتوحشك في موضع آخر» (1)

_ (1) - دلائل الإعجاز: تح: شاكر ص 46

وإذا ما كان صاحب التحليل البيانيّ لمفردات القرآن الكريم ناظرًا في مادة الكلمة القرآنية وعلاقتها بسياقها والغرض المنصوب له البيان، فإنَّه أيضًا ناظر إلى صيغة الكلمة القرآنية والعطاء الدلاليّ لها فى سياقها من نحو اصطفاء (المضارع) : (يسبحن) واسم المفعول: (محشورة) من قول الله - جل جلاله -: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (صّ:18- 19) ومن نحو اصطفاء المضارع (يخرج) على الرغم من اصطفاء اسم فاعل (فالق) قبله و (مخرج) بعده فى قول الله - جل جلاله -: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (الأنعام:95) إلى غير ذلك من صور الكلمة القرآنية من جمع وأفراد (1) وتعريف وتنكير فان ذلك باب فسيح لا يكاد يتناهى. واذا ما كان «النظر فى مفردات النص الأدبى من أوجب ما يجب على مفسره ودارسه؛ لأنّها مفتاح النّصّ، وزمام ما فيه من دقيق المعاني وخفي الإشارات، وكلَّما أحسن الدراسُ هذه الوقفات واستشف من المفردات كلّ ما تعطيه وتلوح به من معنى ووحي ورمز كان أقدر على الاندماج والمشاركة، وبهذا يصِل نفسَه بنفس منشئة، ويلحق فى آفاقه، ويتابع خطراته، ويملك تجربته كاملةً ... » (2) فإنَّ الأمر أعظم فى تدبر سورة من القرآن الكريم

_ (1) - للصديق الدكتور" محمد أمين الخضري " دراسة قيمة في (الإعجاز البياني في صيغ الألفاظ: دراسة تحليلية للإفراد والجمع في القرآن " – ط: مطبعة الحسين الإسلامية بالقاهرة:1413 يحسن الرجوع إليها. (2) - البلاعة القرآنية لشيخنا: 261

مجمل الأمر في هذا أنَّ القائم بالتحليل البيانى للسورة القرآنية فريضة أولى عليه أن يتدبر كلمات السورة كلمة كلمة يسبر أغوار كلّ وجه من وجوهها سبرًا يستكشف به بعض آماد التناغمٍ بين تلك الوجوه وسياقها الجزئى وسياق سورتها. وذلك يهيىء السبيل إلى أعداد معجم دلاليّ لكلمات القرآن الكريم تفتقر اليه الدراسات البيانية القرآنية وما بين أيدينا من نحو كتاب (المفردات) للراغب وكتاب (عمدة الحفاظ فى تفسير معانى كلمات القرآن الكريم) لأبى العباس السمين (ت:756) ونحو ما هو معروف من كتب علم معرفة الوجوه النظائر انما هو توطئه لصناعة معجم دلاليّ سياقِي لكلمات القرآن الكريم يعنى بوجوه الدلالة فى كل كلمة، وسياق كلِّ وجه ومقامه وما يتلاقى معه فى الكلمات الأخرى وما بينه وبين ما قاربه من الكلمات خارج السياق القرآنى من مفارقات. (1) وهذا يجعلنا على عرفان بحال كلّ كلمة قرآنية وسنة القرآن الكريم في استخدامها لتحقيق مقاصده ليكون لنا من ذلك زادٌ في سفرنا إلى مرضاة ربنا - عز وجل -، فنعرف للكلمات حقوقها وحدودها، فلا نستخدم الكلمة في غير ما يجب أو يِجْمُل استخدامها فيه:

_ (1) - لأستاذي الدكتور " محمود موسى حمدان" الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية بالمنوفية دراسة عنوانها (الإتيان والمجئ: فقه دلالتهما واستعمالهما في القرآن الكريم) (نشر مكتبة وهبة: 1418) عمد فيها إلى الاستقصاء والتحليل والتأويل، فكانت دراسة قيمة شأن سائر دراساته. وللدكتور:" السيد محمد سلام " الأستاذ المساعد في الكلية نفسها دراسة في الفعلين: (أعطى وآتى في القرآن الكريم) نشرها في حولية الكلية، وهو يَعْدُو على منهاج شيخه تدقيقًا وإحسانا. ومثل هذه الدراسات خطوة طيبة في طريق إعداد (المعجم البياني السياقي لكلمات القرآن الكريم) ولعل الله - عز وجل - يعين أهل العلم ببيان كتابه على إكماله وإتقانه

روى البخاري - رضي الله عنه - في كتاب (الرقائق) من صحيحه بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ» . (حديث رفم (6478) ألا ترى كيف أخذت الصاعقة بني إسرائل إذ قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} (النساء: من الآية153) فلم يحسنوا اختيار الكلمة في طلبهم، فنعت الله - سبحانه وتعالى - فعلهم بأنّه ظلم، فكانت تلك عقباهم. لذا كانت صناعة مثل هذا المعجم البيانيّ السياقيّ لكلمات القرآن الكريم فريضة لازمة لازبة ومن النصيحة لكتاب الله - عز وجل -. هذا وإن بدا عسيرا، فإنّه غير عقيم إنه ييمنحك - أيضًا - زادًا كريمًا مجيدًا في رحلتك المديدة إلى فقه المعنى القرآني وفهمه من السورة، وإذا امتلأ قلبك بالفقه والفهم عن الله - سبحانه وتعالى - في هذا، فإنَّك في جنّات النعيم، وإن كنت حافِي القدمين طاوي البطن أشعث أغبر ذي طمرين لا يأبه أهل الدنيا لمثله، لكنَّك عند ربك ذي الجلال والإكرام لو أقسمت لأ برّ قسمك. صاحب القرآن الكريم تلاوة وتدبرًا وتأدُّبا في جنة عرضها السموات والأرض في حياته على الأرض، من قبل أن يكون فيها يوم القيامة، فيقال له:" اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " (سنن أبي داود: الوتر- استحباب الترتيل في القراءة) *** - ثانياً: التحليل البيانيّ للتراكيب.

لا ريب فى أن مفردات أى لغة لم توضع لتعرف معانيها فى أنفسها بل لأن ينسق بعضها مع بعض، فيتولد من ذلك النسق معنى يؤدى به الغرض ويصور به الحال، وأدْنَى صورذلك النسق المحقق ذلك المعنى المُؤَدَّى المُصَوَّر إنما يسمى (جملة) من أن الجَمْلَ هو الجَمْعُ (1) وهو فى صناعة الكلام جمع للكلم على نحو خاص، وليس مجرد ضم. وكل لغة لها نهجها ونحوها فى نسق كَلِمِها فى جمل وعبارات تصوّر ما هو مكنون فى الصدور من دقائق الفكر ورقائق الشعور.. وهذا التنسيق الجُملى بين الكَلِم يتأثر بصانعه تأثراً جد عظيم أكثر من تأثره بمواضعات التنسيق الكلية فى كلّ لغة، فسلطان النَّاسق الناظم أعظم من سلطان الأصول الكلية للتنسيق، لأنَّ تلك الأصول ما هى إلا متناثرة هادية يُسترشد بنورها ولا يخضع لسلطانها أو يتعبد باتباعها.

_ (1) - تقول العرب: أجمَل الشيءَ: جمعه عن تفرق، والجملة: جماعة كلّ شيءٍ بكماله من الحساب وغيره، وأجملت الحساب: جمعتُ آحاده وكملت أفراده،والجُمُل بضم أوله وثانية: الجماعة من الناس، والجامِل: القطيع من الإبل معها رعيانها وأربابها، والجامِلُ أيضًا: الحيّ العظيم، والجميل:ما استجمل أصول الحسن المعنوي أو الحسيّ. فأنت تلحظ علاقة بين المل والجمع، اتفقا في الأصل من اتفاقهما في فاء الكلمة وعينها،وافترق كل بشيءٍ، فالجمل ليس مطلق الجمع بل هو كمع على سبيل الكمال. فتسمية العرب مجموع الكلمات التي يتولد من اجتمعا معنى جملة فيه دلالة على أنَّه ليس مطلف جمع،وإلا كانت اولى بأنْ تسمى (جمْعة) وليس جملة،وكأنهم يستحضرون باختيار كلمة جملة معنى الكمال والحسن في جمعها المفردات.

والجملة أصغر الإنساق الدالة على معنى مكنون ولذلك قلَّما يكون خطاب أو حوار أو بيان تقوم به جمل تواردت دون أن يبنى منها عبارة أوتنسق منها فقرة مما يجعل الجملة فى سياق التخاطب كمثل الكلمة فى بناء الجملة ... وإذا كان القرآن الكريم قد بنى سوره من آيات، فإنَّ بناء الآية لا يخضع ابتداء وانتهاء إلى معيار موضوعى من ظاهر المعنى أو التركيب أو النسق الصوتى بل من وراء ذلك أمرٌ قد تعجز عقولنا عن وعيه أو عباراتنا عن بيانه فانظر فى قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء/92-98) . {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الصافات:141-152) {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ} (الدخان:43 -44) {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى *عَبْداً إِذَا صَلَّى} (العلق:9-10) وغير ذلك جدُّ كثير فى القرآن الكريم، أنت لا تراه قائماً على معيار من تمام معنى أو اتساق تركيب وعلى هذا لا يحسن إتخاذ الآية إطاراً لتحليل التراكيب، بل الأقرب إتخاذ الجملة، ثم العبارة ذات الجمل المنسوقة على نهج يحقق للمعنى تمامه. والتحليل البيانى لتراكيب العبارة القرآنية القائمة بتمام المعنى يعمد أول ما يعمد إلى تحليل ما يحقق لبلاغةِ العبارة عمودها، ثُمَّ يَعْمَدُ من بعده الى يحقِّقُ لَهَا تَمامَها: عمود بلاغة الكلام إنَّما هو فى نظم العبارة من الكلم على وفق مناهج نحو العربية. يقول الامام "عبد القاهر" كاشفاً عن عمود البلاغة وما يكون منه:

«إعلم أن ليس النظم الا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه (علم النحو) وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك، فلا تخل بشى منها، وذلك أنَّا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظرَ فى وجوه كلِّ بابٍ وفروقه. فينظر فى (الخبر) إلى الوجوه التى تراها فى قولك " زيد منطلق" و" زيد ينطلق " " وينطلق زيد " و" منطلق زيد " و" زيد المنطلق " و" المنطلق زيد " و" زيد المنطلق "و" زيد هو منطلق " وفى (الشرط والجزاء) إلى الوجوه التى تراها فِي قولك: " إن تخرج أخرج " و" إن خرجت خرجت "و" إن تخرخ فإنا خارج "و" أنا خارج إن خرجت "و" أنا إن خرجت خارج " وفى (الحال) إلى الوجوه التى تراها فى قولك:" جاءنى زيد مسرعاً " و" جاءنى يسرع "و" جاءنى وهو مسرع " أو " وهو يسرع "و" جاءنى قد أسرع "و" جاءنى وقد أسرع ". فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجىء به حيث ينبغى له. وينظر فى (الحروف) التى تشترك فى معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية فى ذلك المعنى، فيضع كلا من ذلك فى خاص معناه، نحو أن يجىء"بـ (ما) فى نفى الحال، بـ (لا) اذا أراد نفى الاستقبال وبـ (أن) فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون وبـ (إذا) فيما علم أنه كائن. (1)

_ (1) - لأستاذي " محمود موسى حمدان" دراسة نال بها درجة العالمية في بلاغة القرآن الكريم من كلية اللغة العربية بالقاهرة بإشراف شيخنا " محمد أبو موسى " سنة: 1409 موضوعها: مواقع التقييد بأدوات الشرط: إن وإذا ولو في القرآن الكريم، وهي دراسة لا يستغني عنها أهل العلم ببيان القرآن الكريم، ولعلّه يوفق إلى نشرها في طلاب العلم، فقد قيل إن علمًا لا يُعَّلم كحكمة لايعمل بها.

وينظر فى (الجمل) التى تُسرد، فيعرف موضع (الفصل) فيها من موضع (الوصل) ، ثم يعرف فيما حقه (الوصل) موضع (الواو) من موضع (الفاء) وموضع (الفاء) من موضع (ثم) وموضع (أو) من موضع (أم) وموضع (لكن) من موضع (بل) . ويتصرف فى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير فى الكلام كلّه، وفى الحذف والتكرار، والإضماروالإظهار، فيصب بكلّ من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغى له. (1) فعبد القاهر يرشدك إلى أصول يُبنى عليها تركيب الجملة من الكلم، والعبارة من الجمل، وأنت تلحظ أنَّ هذه الوجوه لا تقف عند نمط من الأنماط، كنمط الموقع مثلا، بل تتناول الموقع كما في التقديم والتأخير،وتتناول هيئة الكلمة من خارجها من نحو التعريف والتنكير، وتتناول العلائق بين المكونات، وغير ذلك مما لايخفى عليك في كلامه. وهذه الفروق والوجوه في بناء التركيب جملة وعبارة كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها إزدياداً بعدها، وتكاثرها هذا يجعل المرء ليس همه استيعاب الأنماط بمقدار الفقه لمنهج التركيب،وأصول العلائق بين الكلم في بناء الجملة، وبين الجمل في بناء العبارة. فقه المنهج أجدى على المرء من حفظ مفردات المنهج؛لأنّ الإحاطة بأنماط التراكيب،وإن كان عسيرًا بل متعذرًا، فإنَّ عطاءه من دون ما يبذل فيه،وذلك أنَّ المزية ليست بواجبة لهذه الفروق والوجوه والأنماط " فى أنفسها ومن حيث هى على الاطلاق ولكن تعرض بسبب المعانى والأغراض التى يوضع لها الكلام أو بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض" فهذه ثلاث مثابات يؤول إليها أصل المزية في تلك الوجوه والفروق والأنماط التركيبية: المعنى والغرض الموضوع له الكلام. موقع الوجوه والفروق بعضها من بعض استعمال بعضها مع بعض

_ (1) - دلائل الإعجاز: تح:شاكر ص 81-83

وهذا يوجب على القائم بالتحليل البياني للتراكيب أن يرجع مزايا البيان وبلاغته إلى هذه الأمور، وليس من شك في أنَّ هذه الثلاث متغيرة متنوعة بتغير السياق وتنوعه،ومن ثمّ لا تجد قوانين تطبق بحذافيرها فِي كلّ موطن وسياقٍ. وهذه المثابات الثلاث توجب علينا في تحليلنا البياني للتراكيب أن تكون من خطواتنا الرئيسية في التحليل: تحقيق التناسب بين الوجه الذي اصطفيناه والمعنى والغرض المنصوب له الخطاب. وهذه خطوة مهمة جدًا وكثيرًا ما نغفل عنها، أولانوفيها كثيرًا من حقها. إذا ما نظرت فيما يعرض من احتمالات التأويل رأيت غير قليل منها لا يتناسب مع المعنى والعرض المقام له الكلام، وأقرب شيء ترى فيه ذلك تأويلهم بعض آيات الغيب واليوم الآخر، وآيات أفعال الله وصفاته على أنّها مجاز أو تخييل، وهذا التحليل لا يتناسب مع المعنى والغرض المنصوب له الكلام. العناية بعلاقات الأساليب واستعمال أنماط التركيب بعضا ببعض. وهذا يستوجب أن نبحث عن النمط الرئيسي في تصوير المعنى، والأساليب المعينة له على ذلك، ففي كل صورة معنى،ولا سيّما المعاني الكليّة الممتدة القائمة من عدة أساليب وهي ليست منازلها سواء في تحقيق المعنى، منها ما هو رئيس،ومنها ما ليس كذلك،وقد تتعدد الأساليب الرئيسة فتكون أكثر من أسلوب. علينا أن نستبصر النمط التركيبي الرئيس في كل صورة من صور المعاني التي نحن بصدد تحليل تراكيبها تحليلا بيانيا. لتنظر مثلا في سورة (والليل) وسورة (والضحى) أيمكن أن تقول إن الأسلوب الرئيس الذي تبنى عليه الأساليب الأخري،وعليه مدار تصوير المعنى في كل أسلوب واحدٌ؟ سورة (والليل) تجد اسلوب القسم والمقابلة هو النمط التركيبي الرئيس المهيمن، تسانده أساليب أخرى. وفي سورة (والضحى) تجد أسلوب القسم والتقسيم هو الأسلوب المهيمن،وليس المقابلة. العناية بتدبر مواقع الأساليب والأنماط التركيبية بعضها مع بعض

الأسلوب المهيمن مثلا ليس بلازم أن يكون في صدر صورة المعنى، فيكون النمط التركيبي الرئيس مما بني عليه الأنماط الأخرى. ترى هذا مثلا في (آية الكرسي) ولكنك ترى في قوله - سبحانه وتعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) (البقرة) الأسلوب الرئيس في قوله - عز وجل -: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وسائر الأساليب مساندة لتقرير هذه الحقيقة التي أخبربها هذا النمط التركيبي المؤسس من خبر مجرد من التأكيد في صورة مقابلة قائمة في بصر القارئ وبصيرته، يلقى بها في وجه كلّ من يسعى إلى المجادلة بالتي هي أسوأ في شأن الربا. وهو خبر على ما فيه من تجرد من عوامل التوكيد مكنوز فيه كل ما يقيم المسلم أمام حقيقة لا يملك عند سماعها إلا أن يقول بلسان يصور فيض التسليم الذي في قلبه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: من الآية285) تحقيقا لما أخبر الله - سبحانه وتعالى - به عن شأن المؤمنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور:51)

وإذا ما كانت كل صورة من صور المعاني من عدة أساليب، فإنّه ليس ثَمَّ أسلوبٌ ونمط تركيبيّ هو المقدم على غيره، والذي تبنى عليه الأساليب والأنماط الأخرى بل يتخذ موقعه وفق ما يفتضيه حال صورة المعنى في حسن دلالته وتمامها عليه.وهذا مما لانكاد نعنى به كثيرًا في تحليلنا البياني لتراكيب صور المعاني. ولهذا عُنِيَ " عبد القاهر " بالتنبيه إلى تلك المثابات كيما يقوم في قلوبنا وحركة تأملنا وتدبُّرنا، وينبهنا إلى عظيم لطفها، كأنَّها التي تكتم عنك أنفاسها كما تكتم الحسناء حركتها وحسّها عن كلّ غريب: «واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال تحدث بسببها وعلى حسب الأعراض والمعانى التى تقع، دقائق وخفايا لا إلى حد ونهاية، وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا ينتبه لأكثرها، ولا يعلم أنَّها هى، وحتى لا تزال ترى العَالِم يعرضُ له السهو فيه وحتى إنِّه ليقصدُ إلى الصَّواب، فيقع فى أثناء كلامه ما يوهم الخطأ كل ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض.» (1)

_ (1) - السابق: 285

وهذا يقيمك في سياق المجاهدة والمصابرة والعمل على اقتناص اللطائف، والتطهرمن معابة التساهل والتسارع والاستغناء بظاهرالنظر. ... وتشتد الحاجة إلى المصابرة والمجاهدة في التدبر وتحليل التراكيب تحليلا بيانيا حين يكون الأمر على وجهين من التأويل أو أكثر أحدهما أنسب وآنس بالسياق والمقام والغرض المنصوب له الكلام، وإذا ما كان بيّنًا فى الشىء أنَّه لا يحتمل إلا الوجه الذى هو عليه حتى لا يشكل، وحتى لا يحتاج فى العلم بأن ذلك حقه وأنه الصواب إلى فكرة وروية فى مزية، وكانت المزية تتحقق ويجب الفضل إذا إحتمل فى ظاهر الحال غير الوجه الذى جاء عليه وجها آخر ثم رأيت النفس تنبوعن ذلك الوجه الأخر ورأيت للذى جاء عليه حسناً وقبولاً تعد مهماً إذا أنت تركته إلى الثانى. (1) فإنَّ المجاهدة في التحليل والتأويل حينئذٍ فريضة لا مناص من القيام لها وبها. بهذا يبين لنا "عبد القاهر" السببل إلى التحليل البيانيّ لعمود بلاغة الكلام الذي بغيره لا يكون كلام يؤدي معنى ويصور حالاً. ومن وراء عمود بلاغة الخطاب (النظم) ما به يتحقق لبلاغة الكلام تمامها، وهو ثلاثة: حسن الدلالة على المعنى. تمام الدلالة على المعنى تبرج الدلالة على المعنى في صورة بهية معجبة.وفد سبق أن ذكرت لك مقاله (2) ولذلك نراه فى التحليل البيانى لقول الله - عَزَّ اسْمُهُ -: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود:44) يذهب إلى أن ما تجده من المزية الطاهرة والفضيلة القاهرة والاعجاز الباهر إنما هو لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض ويذهب إلى أنه لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لا قت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة.

_ (1) - ينظر السابق: 281 (2) - دلائل الإعجاز: 43

وغير خفيٍّ أنَّ حسن الدلالة وتمامها وتبرج صورتها ليس مقصوراً على النَّظم بل النَّظم عمود ذلك وبدونه لا يكون حسن دلالة ولا تمامها ولا تبرج صورتها. ولذلك يقرر أنَّ ذهابه إلى أنَّ عمود البلاغة المعجزة هو النظم لا يخرج ما فى القرآن الكريم من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، بل ذلك يقتضى دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو معجز، وذلك لأنَّ هذه المعاني التي هى الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم، وعنه يحدث، وبه يكون ... " (1) فالإمام حين يكون بصدد التحليل البيانى لعمود البلاغة يقصر قوله على النظم القائم على ما بين الكلم من علائق تركيبه إسنادية راجعة إلى معانى النحو. وحين يكون بصدد التحليل البيانيّ لتمام البلاغة لا يقصره على شىء دون غيره، ولذلك نراه يدخل السلامة من الثقل والتنافر وما شاكل ذلك فيما تقع به الفضيلة (2) بل إنه ليذهب إلى ما هو بعيد حين يرى أن السجع والجناس حين يقتضيها المعنى مقوماً من مقومات تمام بلاغة الكلام حتى إنَّ المتكلم لو رام تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا سجع لدخل من عقوق المعنى وإدخال الوحشة عليه فى شبيه مما يتسبب اليه المتكلف للتجنيس المستكرة والسجع النافر (3) ومثل هذا جعل "أبا فهر" يذهب إلى إنِّ «الذى فعله عبد القاهر فى كتابه (دلائل الاعجاز) هو أول تحليل للغة من حيث هى تركيب. ومزية كل تركيب فى إشتماله على وجوه (البيان) القائمة فى نفس المبين عنها. وبهذا الكتاب وصنْوِه: (كتاب أسرار البلاغة) أسس" عبد القاهر" (علم تحليل البيان الانسانى كله) لا فى اللسان العربى وحده بل فى جميع ألسنة البشر.

_ (1) - السابق: 312 (2) - السابق: 59، 474 (3) - أسرار البلاغة: 14

وضع عبد القاهر هذا الأساس فلم يسبقه إليه سابق ولا لحقه من بعده لاحق فى لسان العرب ولا فى غير لسان العرب.» (1) فاستطاع بهذا التحليل أن يكشف لنا «عن سر تأثير الكلام المركب من الألفاظ فى نفس الإنسان المتذوق لهذا الكلام، فيهتز لبعضه اهتزاز الأريحية، ويجد له من العذوبة والبشاشة ما يحمله على حفظه وترديده وتأمل جماله وروعته» (2) وجملة الأمر فى هذا أن التحليل البيانى للتراكيب وإنماطها فى إطار سياق كل معقد من معاقد السورة ثم إطار سياق السورة كلها لا يدع نمطاً تركيبياً إلا ونظر فى جميع وجوهه ووصفها وفسرها وبين أوجه المعنى وعلته ومقتضاه من السياق والمقام بدأ من تركيب الجملة فتركيب المعقد فالسورة، فاذا ما تم ذلك كانت الحاجة بالغة إلى حسن التأليف والتصنيف وإستكشاف ما غلب من أنماط تركيبية فى العقد ثم فى السورة وما ندر وما كان فريداً. واستكشاف ما كان النمط التركيبى الرئيس فى كل سياق ومقام وما يتمازج معه من أنماط تركيبية آخرى. واستكشاف ذلك في كلِّ معقدٍ، ثم فى السورة كلِّها معين على فقه المعنى القرآني أولاً ثم معين ثانياً على فقه طبائع التركيب فى البيان القرآنيّ عامة وهذا يهدى أيضاً إلى فقه ما بينهما فى السياق القرآنى والسياقات الأخرى من مفارقات منها تدرك الأذواق أنَّ هذا تركيب قرآنيّ أو غير قرآني وإنْ عجزت عن الإبانة والتفسير فضلا عن التَّأويل والتّعليل. (3) ***

_ (1) - محمود محمد شاكر: مداخل إعجاز القرآن: 120 (2) - السابق:126 (3) - للوقوف على بعض من التحليل البياني لصور تركيبية من البيان القرآني يمكن النظر في كتابي: معالم التكليف والتثقيف في آيات الربا من سورة البقرة، وكتابي: (شذرات الذهب: قراءة عربية في بيان القرآن الكريم) فإنَّ فيهما ما يمكن أن أعده نموذجا للتحليل البياني للتراكيب، فإن شئت الاطلاع على ما هو أعلى أمجد فانظره في كتاب شيخي: (من أسرار التعبير القرآني)

- ثالثاً: التحليل البياني للصورة البيانية. الصورة البيانية فى القرآن الكريم جزء من التصوير القرآنيّ لمعانيه، فانَّ التصوير الذى هو تشكيل المعنى إنَّما هو متعدد العناصر، بل إنَّ كلَّ عنصر من عناصر البيان هو فى حقيقته عنصر فى بناء صورة المعنى. الصورة القرآنية في مفهومها العام هى: الهيئة التى تكون عليها الكلمات والعبارات بما فيها من سمات صوتيةٍ وتكوينية ودلالية فى سياق من سياقات القول المبين عمَّا يحقق به المرء عباديته الخالصة. فهى كل ما يحقق للمعنى هيئة فى نفس الملتقى تختلف عن هيئة غيره، فكل ما شارك فى تكوين هذه الهيئة هوعنصرمن عناصرالصورة (1) وبذلك لا تنحصر الصورة فيما عرف عند البلاغيين المتأخرين بالتشبيه والمجاز والكناية. بل يشمل " تصاريف الكلمات في النظم والضمّ، فكلّ تعلق أو احتكاك بين لفظتين يلد لا محالة صورة خاصة لمعنى خاص لاينطبق على غيره ... " (2) وهذا كما ترى مؤسس على قول "عبد القاهر":

_ (1) - يقول شيخنا عن مصطلح " الصورة ": " الواقع أنَّ هذا المصطلح البلاغيّ له دلالة دقيقة في إطلاقات القدماء. وهو بإيجاز شديد - ما يدركه المتأمّلُ في المعاني من فوارق دقيفة وشفيفة بين هيآتهها وأشكالها وشياتها وملامحها، وأشياء كثيرة غامضة يفترق بها المعنى في الذهن عن المعنى، وتكون له في النّفسِ بها هيأة لا تكون لغيره، وهذا ما سماه العلماء " الصورة" (ص 69 - دراسة في البلاغة والشعر - مكتبة وهبة - القاهرة:1411 (2) - دراسة في البلاغة والشعر: 72، وانظر دلائل الإعجاز: ص 258

«وأعلم أن قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذى نراه بأبصارنا، فلمَّا رأينا البيْنونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبيُّن إنسان من إنسان، وفرس من فرس بخصوصية تكون فى صورة هذا لا تكون فى صورة ذاك، وكذلك كان الأمر فى المصنوعات، فكان تبيُّن خاتم من خاتم وسِوارٍ من سِوار بذلك، ثُمَّ وجدنا بين المعنى فى أحد البيتين وبينه فى الآخر بينونةً فى عقولنا وفَرْقًا عبَّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى فى هذا صورة غير صورته فى تلك. وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن إبتدأناه، فينكره منكِرٌ بل هو مستعمل مشهور فى كلام العلماء، ويكفيك قول " الجاحظ ": «وإنَّما الشعر صياغة وضرب من التصوير.» (1) فالتشبيه والمجاز والكناية إنَّما هى من أنماط التصوير وليست هى التصوير كلّه فى عرف علمائنا الأقدمين وأن تكن أصولاً كبيرة فى التصوير «كأنَّ جُلَّ محاسن الكلام أن لم نقل: كلها- متفرعة عنها وراجعة اليها وكأنها أقطاب تدور عليها المعانى فى متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها.» (2) والمتأخرون من علماء البلاغة حين خصوا هذه الأنماط التصويرية الثلاثة: (التشبيه والمجاز والكناية) باسم علم البيان لم يكن ذلك منهم إختصاصاً لهذه الثلاثة بأنها عِلْمُ تصوير المعنى بل بيان أنماط دلالة الكلام على معناه وضوحا وخفاءً؛ لأنَّ علم البيان عندهم ليس علم تصوير المعانى بل البلاغة كلّها علمُ تصوير المعانى، والبيان منها علم وجوه دلالة الصورة على المعنى وضوحا وخفاءً. وآية ذلك تعريفهم علم البيان بأنَّه: علمُ يعرفُ به منهجُ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى تصويره من حيث وضوح الدلالة عليه وخفاؤها

_ (1) - دلائل الإعجاز: 508 (2) - أسرار البلاغة: 27

وكلٌّ من الإيضاح والإخفاء بيانٌ، فتعريفهم علم البيان محط الفائدة فيه ومناط الخصيصة الفارقة قولُهم (فى وضوح الدلالة عليه) وليس قولهم «يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة» على سبيل الاطلاق بل هو إختلاف فى مناهج الإبانة عن المعنى وضوحاً وخفاء، وإلا فإنَّ علم البلاغة كلَّه هو علم إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة أى علم تصوير المعنى بصور مختلفة سواء كان هذا الإختلاف بتقديم عنصر أو تأخيره أو فصله أو وصله أو تعريفه أو تنكيره أو ذكره أوحذفه ... الخ، فاذا تغيرت صورة العبارة عن المعنى تغيراً لا يتعلق بوضوح الدلالة عليه، فإنَّ هذه الصورةَ لا تكونُ من علم البيان أى لا تكون صورة بيانية بل تكون صورة تعبيرية إن صحت العبارة. وليس تسمية العلم بالبيان من أنَّه مقصورٌ على درجات الوضوح ومصروفٌ عن درجات الخفاءِ، فالإبانةُ ليست ظهورًا ووضوحًا يقابلُ الخفاءَ، بل البيانُ هو التَّفصيلُ الذى يتأتَّى منه أن تكونَ السُّبُل إلى المعاني واضحة، وإن كانت هذه المعانى دفينة، وليست العبرةُ بوضوح المدلولِ بل العبرة بوضوح الدلالة. وإذا ما كنت قد تحدثت عن تحليل التراكيب أو الصورة التعبيرية في معناها العام عند علمائنا الأقدمين، فإنِّي هنا مشيرٌ إلى الصورة البيانيّة في معناها الخاص عندهم دون أن يغيبَ عنَّا أن الصورة البيانيّة عنصر من عناصر الصورة العامة. والأعلى أن نشيرَ إلى أمرين مهمين: الأول: الأساس الذي يكون عليه النظر. والأخر: معالم الطريق إلى التحليل أساس النظر:

من الأسس المهمَّة هنا ضرورة المحاذَرَة من الإسراع إلى حُسبان أنَّ كلَّ ما لا تدركه أبصارنا أو عقولنا أو ليس له وجود فى واقعنا مِمَّا تحدَّث عنه القرآنُ الكريم إنَّما هو من قبيل المجاز أو التمثيل؛ لأنَّ ذلك الحسبانَ إنَّما يكون مقبولاً حين يكونُ صاحب هذا التصوير كمثلنا ومن بنى جنسنا، فنحسَِب كلَّ ما لا تقع عليه العين أوكلّ ما لا يَعِيه العقل، أو لا يكون له وجود فى واقعنا من عالم التصوير القائم على التمثيل والتقريب أمَّا إذا كان صاحب هذا التصوير هو الحق - سبحانه وتعالى - الذى يرى الأشياء على حقائقها، فيصفها لنا بما لا يتجاوز حقيقتها فهو الذى خلقها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) فالأمرُ ليس من المجازِ في شيءٍ من ذلك. فاذا وصف الحق - جل جلاله - ما غاب عنا أو غابت عنا حقيقته فإنَّ وصفه - عز وجل - لنا لا يتجاوز حقيقة الموصوف التى علمها بل التى خلقها وأوجدها: يقول الحق - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5)

ويقول - جل جلاله -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت:39) يذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك من قبيل المجاز المُقَرِّبِ للحقيقة فى همود الأرض وخشوعها وإهتزازها وربوها وأحيائها. يقول "الزمخشرىّ" فى آية فصلت: «الخشوع:التذلُّل والتقاصر، فأستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لانبات فيها، كما وصفها بالهمود فى قوله - سبحانه وتعالى -: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو وهو الارتفاع إذا أخصيت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال فى زيه وهى قبل ذلك كالذليل الكاسف البال فى الأطمار الرثّة» (1) هذا إن قُبِلَ منه في زمانه، فلا يقبلُ منَّا فِي زَمَانِنَا الذي انتهى فيه العلم الموضوعيّ إلى أنَّه يكون من الأرض فى جدبها حالة وفى خصبها وإنباتها آخرى غيرها هى إهتزاز وربّو وحياة.

_ (1) - الزمخشري: الكشاف: 3/454، ومثل هذا تراه في (نظم الدرر للبقاعي: 6/ 577، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور - ج 24/ 302،

هذا علاوة على أن الذى أخبرنا بأنَّ الأرض خاشعة وهامدة فى جدبها ومهتزة رابية فى خصبها إنّما هو الذى خلق هذه الأرض وعلم حالها، فاذا وصفها لم يكن وصفه لها إلا كشفاً لحقيقتها، فالذى علم حالها - جل جلاله - قبل نزول الماء عليها وعلم معنى الخشوع والهمود على حقيقته هو الذى وصف حالها هذا بالخشوع والهمود والذى علم حالها بعد نزول المطر وعلم حقيقة الاهتزاز والربو والحياة هو الذى وصفها بذلك بعد، ولو أنه علم بأنّ ذلك هو الحق المطلق لما وصفها بشىء من ذلك في حاليها. (1) ولا يقال إنَّ الله - سبحانه وتعالى - خاطبنا بما نعرف، ولم يخاطبنا بما يعلم مما لانعرف، فهو مجاز بناء على ما نعرف لا بناء على ما هو معلوم عند الله - جل جلاله -.

_ (1) - مناط الإعتبار القرآني في الآيتين: (آية سورة الحج، وآية سورة فصلت) هو الإرشاد العملي إلى جلاء حقيقة البعث، وأنَّ ذلك أمر إذا لم تخبر عنه الرسل فإنَّ فطرة العقل هادية إلى تقرره، فقرن بين أطوار خلق الإنسان، وأطوارإنبات الأرض. وجعل هذا من آيات الله - سبحانه وتعالى - الدالة على أن َّ الذي أحيا هذه الأرض هو المحيي الموتى وانه على ذلك قدير. ليس مناط البلاغة في الاستعارة في هامدة أو خاشعة أو اهتزت وربت بل الصورة البيانية العلِيّة في روح التشبيه الذي أقيم عليه بيان الآيتين، وهذا ما ينبغي أن يكون مناط التحليل، ليس المجاز في (هامدة وخاشعة واهتزت وربت)

إنَّ هذا يفتح بابًا من ورائه ما لايطاق، فقد يَمُدُّ بعض الناظرين القول فيما يتعلق بصفات الله - سبحانه وتعالى - وأفعاله، فيعدّ هذا من المجاز، وأن الله - عز وجل - لم يخاطبنا على ما عليه حقائق صفته وفعله، بل بما نعرف، فإذا قوله - جل جلاله -: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ... } (آل عمران:181) البيان بالسمع مجاز عن فعل من أفعاله وليس حقيقة. ومثل هذا: { ... وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: من الآية77) وقوله - عز وجل - { ... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: من الآية11) وغير ذلك من أفعاله وصفاته، والقول بأنّ هذا من المجاز الذي هو ضدّ الحقيقة مما أراه باطلا، وإن قال به بعض ممن يؤخذ عنه العلم (1)

_ (1) - ليس يخفى عليك أن عبد القاهر ممن يقول بالمجاز في أفعال الله - سبحانه وتعالى - وصفاته، وهذا مما لايسلّم له كمثل قوله بالكلام النفسي في القرآن الكريم مما لايسلم له، وقد بنَى نظرية في نظم القرآن الكريم على القول بالكلام النفسي لله تعالى، ولم يفرق بين نظم الكلام عند الخلق ونظم الكلام عن الله - سبحانه وتعالى -. القول بالكلام النفسي وترتيب المعاني في النفس قبل النطق بالكلمات نأخذ به فيما يتعلق بنظم العباد بيانهم، وذلك ما نراه من أنفسنا عند إنشاء بياننا عمّا هو مكنون في صدورنا من دقائق الفكر ورقائق الشعور فأنا من قبل أن أكتب لك هذه الحاشية مثلا زورت الكلام وأعددته في نفسي - وهذا هو الكلام النفسي - قبل أن يخطه قلمي، أمَّا في شأن كلام الله - سبحانه وتعالى - فالأمر ليس كذلك. ليس ثَمّ كلام نفسي يسبق الكلام الذي أوحي. ومن العجيب أن من الأشعريين من قال إن المعجز من القرآن الكريم هو الكلام النفسي، وهو القديم غير المخلوق، أمَّا ما أوحي وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنبأنا به ونتلوه أناء الليل وأطراف النهار في مصاحفنا فليس هو الكلام القديم غير المخلوق، وليس هو الكلام المعجز. أرأيت كيف زلت الأقدام؟!!!

وإذا ما كانَّا لا نعلم حقيقة خشوع الأرض وهمودها وإهتزازها وربوها وأحيائها فليس معنى ذلك أن نسقط علمنا بحقائق هذه الأوصاف فى غير الأرض على حقيقتها فيها، ذلك أنَّ منطق فقه العربية يقضِي أن تفهم حقائق الأفعال وفق حقائق فاعليها، فنحن لا نفهم فعلاً من الله - سبحانه وتعالى - كمثل فهمنا ذلك من أحدنا، ولا نفهم فعلاً أسنده الله العليم - سبحانه وتعالى - إلى الأرض أو السماء كمثل فهمنا ذلك الفعل حين يُسند إلى أحدنا، فإنَّ الأرض والسماء وما شاكلهما هي عند الله - جل جلاله - ليس كما هي عندنا، فليس ثّمَّ مقتضٍ إسقاط حقائق أفعال الإنسان على حقائق أفعال غيره فى بيان الله - عز وجل -. ومما قيل فيه بالمجاز وليس فيه قول الله - سبحانه وتعالى -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ولِلأََرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11) فهذا ليس من التصوير المجازى فى شىء إذا هو وصف للحقيقة المطلقة سواء فى (اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ) أو (قالَ لَها ولِلأَرْضِ) و (قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ) فهو قول على الحقيقة من الله - سبحانه وتعالى - للسماء والأرض، وقول منهما أيضاً على الحقيقة. وكذلك قول الله - جل جلاله -: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72) لا أرى أنه على سبيل التمثيل المفروض المتخيل والتصوير المجازى، بل هوحقيقة كانت من الله الخالق القادر - سبحانه وتعالى -.

وإذا كانت عقولنا لا تسع ذلك من أن يكون حقيقة مشهورة فى عالمنا الأرضيّ، فعقولنا ليس فى مقدروها أن تسع الكون كله من قبل ومن بعد حسية ومعنوية ملكه وملكوته، ولا يصلح الادراك العقليّ فى الإنسان معيارَ الحقيقة والمجاز فى بيان الله - جل جلاله - دون ملاحظة كماله. ومجمل الأمر فى هذا أن كل ما كان من صفات الله - سبحانه وتعالى - وأفعاله، وما كان من عالم الغيب الذى لا يطلع عليه البشر أو ما هو من عالم اليوم الآخر والمعيشة والنار أو من علم حقائق الكون التى لم يكشف العلم الغطاء عنها حتى يومنا هذا، فإن الذى هو حميد عندى ألا يجعل من باب التصوير المجازى فان القرآن الكريم والسنة المطهرة قد هديا إلى ذلك: يقول الحق - جل جلاله -: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (فصلت:20) فهذه آية بيّنةٌ قاهرة على أن الشهادة حقيقة وأن النطق حقيقة مطلقة. وقوله - سبحانه وتعالى -: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} (الاسراء:97) فلما كان هذا يحتمل أن يكون كناية عن الإسراع بهم إلى جهنم من قول العرب: قد مر القوم على وجوههم إذا أسرعوا ويحتمل أن يكون على سبيل الحقيقة سأل الصحابة - رضي الله عنهم - النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال لهم: «إنَّ الذى أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كلّ حدبٍ وشوك» (الترمذي - ك: تفسير القرآن وأحمد في مسنده:مسند أبي هريرة) .

فدلَّ هذا دلالة ظاهرة قاهرة على أن ما كان من هذا الباب ونحوه يحمل على الحقيقة، فهو من عالم الغيب أولاً، والفاعل هو الله القادر - عز وجل - فلا مجال البتة لتحكيم أعراف العقل والعادة، بل منطق العلم يقضِي باستحضار جلال الله وكماله. وهذا الذي قلته هنا لايضير البحث في التصوير البياني في القرآن الكريم، فإنّ أنماط التصوير البيانيّ في القرآن الكريم وفيرة فى غير هذا الباب، علاوة على أنَّ الذهاب إلى الحقيقة فى مثل هذا الذى ذكرت أدخل فى باب البلاغة التى تُبقى صور الحقائق على حالها دون تجريدها إلى معان ذهنية. وهذا الذى أقوله – أيضًا - ليس إنكاراً للقول بالمجاز فى بيان القرآن الكريم بل هو إنكار للتساهل في القول به فى كل ما يحسب إمكان القول به فى بيان القرآن الكريم دون تحقيق لما يقتضيه حال المتكلم به من كماله فى ذاته وصفاته وأفعاله ودون تحقيق لما بين بيان الحق - جل جلاله - وبيان الخلق من تفاوت لا يحاط، ودون تحقيق لما يقتضيه حال المعنى والغرض المنصوب له البيان. (1)

_ (1) - ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أنَّ صورة المعنى لها أكثر من وجه في أخذ المعنى منها، يجمع هذه الوجوه طريقان كليان: طريق الدلالة، وطريق الإفادة طريق الدلالة يجمع ما هو من قبيل دلالة الصورة علىالحقيقة ويدخل فيها ما يعرف بالتوسع، لأنَّه لا يقوم على النقل، كمثل دلالة كلمة العمى على فقد إدراك المحسوسات بالبصر وإدراك المعنويات بالبصر، فالكلمة موضوعة لمطلق معنى فقد إدراك بالبصر والبصيرة، وليس ما كان حسيًا أصل لما كان معنويًا؛ لأنّ الإنسان الأول: سيدنا آدم - عليه السلام - كان نبيًا تتساوى عنده المحسوسات والمعنويات، وكذلك علم زوجه وذريته. ويجمع ما هو من قبيل المجاز القائم على النقل أما طريق الإفادة فهو كطريق مديد وسيع تدخل فيه مسيتبعات الراكيب كلها، فعلينا ألاَّ نتسارع إلى القول بالمجاز فيما لا يجمل القول فيه.

الحق الذى أراه أن يكون ثَمَّ منهجٌ خاصٌّ بفقه بيان القرآن الكريم ولا سيما ما يعرف بالتصوير البيانى، هذا المنهج يستحضر فى القلب كمال قائله - سبحانه وتعالى - في كل خطوة، واستحضار أن ما يقتضى الأدباء المبدعين إلى ارتكاب التصوير المجازى من ذواتهم وموضوعات إبداعهم لا وجود له البتة مع الله - سبحانه وتعالى -. وإذا ما كان القرآن الكريم أنزل تبياناً لكلِّ شىءٍ متعلق بما يرضاه الله - جل جلاله - منَّا، فأمرنا به، وما لايرضاه، فنهانا عنه، فهذا البيان وأن اقتضَى أن يكون بلسان المخاطبين به في عصر التنزيل، وعلى مذهبهم ومنهاجهم، فإنّ ذلك فيما يتعلق ببناء المعنى ونهج صورته التعبيرية أما مناهجهم فى تخيّل ما لا يعلمون أو يعرفون فإنَّ ذلك ليس من سنة بيان القرآن الكريم، فانَّ الله - سبحانه وتعالى - عليم بكلِّ الأشياء بحقائقها، وعليم أيضاً بلغة المخاطبين بالقرآن الكريم، وعليم بأنَّ صورة معنى الكلمة تختلف باختلاف ما تسند أو تضاف إليه، وهذا أساس بيانى قائم على أن معانى الكلمات قائمة على مركز دلالي وفضاء دلالي: المركز الدلالى أسٌّ ثابت مكتسبٌ من جذرها الاشتقاقى، أمَّا الفضاء الدلاليّ، فهو مفتوح، فتتغير دلالة الكلمة بتغيّر ما يلحق بها أو تضاف اليه. ***

= تحليل الصورة البيانية لا يغنى فيه تفصيل العناصر المكونة لها ثم الوقوف بها عن استبصار التطابق بين الحقيقة والمثال بل هو ضرورة أن يرمى بالتحليل إلى المقاصد القرآنية التى يرمى بالصورة إليها، فالاستهتار بتحليل عناصر الصورة ومنازعها ومنهج تركيبها، والانشغال به وحده، ثم التشاغل عن استكناه مقاصد هذه الصورة البيانية لا يعين على فقه المعنى القرآنى فى سياق السورة، فإذا صحَّ فى بيان الشعر فلا يصح في تدبر البيان القرآنيّ؛ لأنَّ اختلافهما فى باب التصوير البيانيّ جدّ عظيم،كما لايخفى على من يفقه ما يليق بالبيان القرآنيّ، ويقف على طبيعة الكلمة الشاعرة. إذا ما نظرت في الصورة التشبيهية في قول الله - جل جلاله -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:275) تجد أنَّ التشبيه هنا مرميّ به إلى تصوير حال أكلة الربا تصويرًا لا يبقى ذو عقل معه إلا فارًّا من كلّ شائبة ربًا، وإن أحاطت به الحاجات فضلا عمَّا دونها. إنك لا تجد أحدًا يؤقن أنَّ هذا كلام ربّ العالمين يرضي أن يكون كمن يتخبطه الشيطان من المسّ إن في حياته الدنيا وإن في الأخرى. قراءة الصورة التشبيهية وتحليلها في نور مغزاها ومقصده هو الذي يفعم القلب بأثرها.

وغير خفيّ عليك أن طريق دلالة التشبيه هنا على ذلك المقصد دلالة جلية باهرة لا يتفاوت النّاس في إدراك أصل المعنى الذي يبنى على المقصد والمغزى، وإن بقيت لطائف يتفاوت أهل العلم فيها تأتيك من التدبر والتذوق لمنهاج بناء الصورة واختيار مفرداتها ومواقعها من نحو اختيار فعل الأكل، والبيان باسم الموصول، والبيان بالفعل المضارع (يأكلون) والنفي بـ "لا" ... (1) ليست كل الصور البيانية فى سياق السورة على درجة سواء من منزلة بناء السورة، فمنها ما هو رئيسي يشكل حلقة رئيسية من حلقات المعنى ومنها ما تراه وشيجة التحام بين الحلقات تنساب بينهما روح التأخى والتناغى بين الحلقات الرئيسية، وهى برغم من ذلك خاضعة لسلطان ذلك الروح المهين. المحلل البيانى لهذه الصورة البيانية عليه أن يعى أقدار الصور ويعرف منازلها فينزل كل صورة منزلها من العناية بالتحليل والتفسير والتأويل واستكشاف أثرها فى بناء المعنى القرآنى واستلاب وعى التلقى. *** معالم الطريق = التصوير البيانيّ فى القرآن الكريم بانماطه الثلاثة لا يحسن البته تدبره خارج سياق السورة التى أدرج على لاحبها فإنَّ فى ذلك السياق ما يكشف عن مكونات الصورة ومنازعها وعن منهج التصوير وآماده.

_ (1) - لمزيد من فقه هذه الصورة البيانية راجع كتابي: معالم التكليف والتثقيف في آيات الربا من سورة البقرة)

وجميع الصور البيانية مطبوعة بطابع سورتها ودراسة هذه الصور فى سورة من سور القرآن الكريم دراسة متأتية جديرة بأن تكشف الوشيجة الجامعة بين هذه الصور " لأنها ما دامت قد جرت فى سورة واحدة ذات سياق واحد، فلا بدَّ أن تكون فيها جامعة تجمعها، وهذه الجامعة قد تخفى وتدق، ولكنَّها رفيعة ورائعة كهذه الطباع الخفية الحية التى تراها تجرى فى أبناء العشيرة الواحدة، أو كهذه السيما والملامح الدقيقة التى تراها فى القوم يرجعون إلى آب واحد، لأن كل رموز السورة وصيغها وصورها ترجع إلى ما يشبه أن يكون أبا واحداً هو المحور الذى تدور حوله ولابد أن يكون فى كل هذه الصيغ وهذه الرموز وهذه الصور نفس واحد يجمعها ويؤلف بينها ويجعلها (عائلة) واحدة ذات سيما وملامح متقاربة والبحث الواعى الفطن هو الذى يقع على هذا. (1) وهذا ما قام به شيخنا حين عمد إلى دراسة (أمثال سورة النور) ، فتناول ثلاثة أمثال جاءت فيها، وقد عُنِي شيخنا – أعزّه الله تعالى - بالنظر في سياق هذه الأمثال ومواقعها من سياق السورة، كما عُني بالنَّظر في تراكيبها،وفي دلالتها على الغرض المنصوب له المثل، والمنصوب له السورة،وعلاقات هذه الأمثال ببعضها وموقع كل مثل من الآخر، فهو يضع أمامه المثابات الثلاثة التي يُرجِع " عبد القاهر " بلاغة الأنماط والأساليب إليها. والنهج التحليلي للصورة البياني فيما كتبه شيخنا هنا مما يحسن أن يتخذ نبراسًا يهتدى بنوره , كيما يمتلك به المتدبر ما يمكن أن يضيفه إليه. ***

_ (1) - شيخنا أبو موسى: دراسة في البلاغة والشعر:21

= أن يعمد التحليل للصورة البيانية فى سياق سورة ما إلى أن يبحث عمَّا يناظر هذه الصورة البيانية فى سياقات السور الأخرى، فانَّ هذه المقارنة تكشف عن وجوه كثيرة من حقيقة هذا الشىء المصور، وعن الفروق التركيبية بين الصورتين فيتحقق لنا بذلك العلم بوجه دلالة كلّ صورة على المعنى والغرض المنصوب له الكلام، كمثل علمنا بأمر المعاني فيم تتفق وتختلف وكيف ذلك ومن أين تجتمع وتفترق والعلم بأجناس تلك المعانى وأنواعها مفصلة وبالخاص منها بالسورة وما هو شائع فى غيرها ومثل هذا العلم يوقف صاحبه على شىء من أسرار بلاغه القرآن الكريم اللطيفة. وأنت في قراءتك ما كتبه شيخنا في (أمثال سورة النور) تجده قد ناظر تمثيل أعمال الذين كفروا في سورة النور بسراب في قيعة وسيعة بتمثيل أعمالهم في سورة (إبراهيم) - عليه السلام - برماد اشتدت به الريح في يوم عاصف،وبين الفرق بين كلّ وما اقتضى خصوصية المشبه به في كلّ صورة،وعلاقة ذلك بالسياق والغرض المنصوب له البيان في كلّ سورة. تشبيه أعمال الذين كفروا جاء فى سورة "إبراهيم" - عليه السلام - وفى سورة النور. فى سورة " إبراهيم" شبهت أعمالهم برماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف. وفى سورة (النور) شبهت بسراب بقيعة أو ظلمات فى بحر لجى. يقول الحق فى سورة (إبراهيم) - عليه السلام -:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) } ويقول - سبحانه وتعالى - فى سورة النور: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) } سياق سورة (إبراهيم) - عليه السلام - غير سياق سورة (النور) ، كما أنَّ سورة (إبراهيم) - عليه السلام - مكية كلها إلا فى قول يستثنى قوله - سبحانه وتعالى -:

{أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) } فإنَّها مدنيّةٌ نزلت فى قتلى قريش يوم بدر. (1) وسورة (النُّور) مدنية كلها إجماعا. وغير خفى أنَّ سياق المكيَّة غير سياق المدنيَّة. سورة (إبراهيم) - عليه السلام - المكية «موضوعها الأساسيّ هو موضوع السور المكية الغالب عليه العقيدة فى أصولها الكبيرة: الوحى والرسالة التوحيد والبعث والحساب والجزاء. وهذا تراه مبنيًا على ما جاءت به سورة الأنعام، فإنها رأس السور المكية في هذا، ومعاني السّور المكيّة تبنَى على معانيها في هذا الباب، مثلما معاني السّور المدنيّة مبنيّة على ما جاء في سورة (البقرة) ، فمنزل سورة (الإنعام) من السُّور المكيّة كمثل منزل سورة البقرة من السور المكية (2)

_ (1) - البقاعي:مصاعد النظر:2/196، 309 (2) يقول أبو إسحاق الشاطبيّ (ت:790) : «المدنيّ من السور ينبغي أن يكون منزَّلا في الفهم على المكيّ، وكذلك المكيّ بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في النزول ... وأوّل شاهد على هذا أصل الشريعة، فإنّها جاء ت متممة لمكارم الأخلاق، ومصلحة لما أفسد قبل من ملّة أبراهيم - عليه السلام -. ويليه تنزيل سورة " الأنعام" فإنّها نزلت مبينة لقواعد العقائد، وأصول الدين، وقد أخرج العلماء منها قواعد التوحيد.... ثُمَّ لمَّا هاجر رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - إلى المدينة كان من أوَّلِ ما نزل عليه سورة "البقرة"، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة "الأنعام" فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها،وإن تبيّن في غيرها تفاصيل لها ... فغيرها من السور المدنية المتأخرةعنها مبنيّ عليها، كما كان غير " الأنعامِ " من المكيّ المتأخر عنها مبنيًا عليها، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القُذّة بالقُذَة ... " (الموافقات: 3/406-407)

ولكنَّ السياق فى السورة يسلك نهجا خاصا فى عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصلية نهجا مفردا يميزها - كالشأن فى كل سورة قرآنية - عن السورغيرها: يميزها بجوّها وطريقة أدائها والأضواء والظلال الخاصة التى فيها الحقائق الكبرى ولون هذه الحقائق التى قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها فى السور الأخرى، ولكنًَّها تعرض من زاوية خاصة فى أضواء خاصة، فتوحِى إيحاءات خاصَّة كما تختلف مساحتها فى رقعة السورة وجوِّها، فتزيد إطرافاً وتنقص إطرافاً، فيحسبها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد.... ويبدو أنَّه كان لجو السورة من اسمها نصيب (إبراهيم) أبو الأنبياء الشاكر الأوَّاه المُنيب كلُّ ظلالِ هذه الصفات ملحوظة فى جو السورة وفى الحقائق التى تبرزها وفى طريقة الأداء وفى التعبير والإيقاع. ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية فى العقيدة، ولكنَّ حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة: ? حقيقة وحدة الرسالة والرسل ووحدة دعوتهم ووقفتهم أمة واحدة فى مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله - عز وجل - على اختلاف الأمكنة والازمان ? وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران (1) فى سياق الحقيقة الأولى جاء تشبيه أعمال الذين كفروا بالرَّماد معقبا به على موقف الذين كفروا من جميع الرسل: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (ابراهيم:9)

_ (1) - سيد قطب: في ظلال القرآن:4/ 2077

وقالوا لرسُلِهم: {....لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا....} (ابراهيم: من الآية13) فوعد الله - عز وجل - رسله بالنصر والاستخلاف المكين { ... فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) } ويصور لنا جانبا من تلك الخيبة إذ يرى الذين كفروا أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الرِّيحُ فى يومٍ عاصفٍ، فلا يبقى منه شئ. وقد صور عظيم تفريقه وابادته بقوله (اشتدت به) فآذن باقتلاعه، ثم تعقيبه بقوله - جل جلاله -: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} مقدما قوله (مما كسبوا) على قوله (على شئ) بخلاف ما جاء فى سورة (البقرة) من قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264) فإن الأمر فى سورة (إبراهيم) - عليه السلام - تمحض للأعمال، فكان تقدمها أنسب " وهو تعقيب حكيم، لأنَّ كلمه (لا يقدرون) فيها محاولة واستنفار أقصى الطاقة لتبلغ القدرة مبلغًا يصلُ بها إلى اقتناص ما كسبت، ثم إخلادهم إلى التسليم والعجز، وهذا وصفٌ خفيّ للهول الذى لا يحاط به. وهذا التشبيه الذى يلخص ويكشف حالة الضياع للشئ المرجوّ نفعه فى وقت الحاجة إلى الانتفاع به جاء مغْروسًا فى موضعه من السورة كما يغرس العضو من أعضاء الإنسان فى موضعه الذى هو فيه.

بيان ذلك أن هذا التشبيه جاء متمما لوصف عذاب صاحب العمل وقد وصف القرآن الكريم ذلك وصفا يخلع القلب تأمل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (18) } تأمل اللغة والصور التى وراء اللغة. تأمل قوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد} وكيف اسقطت هذه الكلمات صروح الطواغيت فى مستنقع الخيبة والضياع. ثُمَّ تأمّلْ هذه الصورة الصارخة {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} وكيف دلَّ البِناءُ للمجهول على أن هناك سُقاةً غلاظا يعالجون سقيه وهو كاره رافض وهم يصبون فى قمة ماء الصديد صبًا بعد معالجةٍ. ثُمَّ تأمل قوله - سبحانه وتعالى - {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} والمراد أسباب الموت، ولكنَّ العبارة جعلت الموت جيشا يقتحم بحشوده يحيط بهذا البائس التَّعس وقوله - جل جلاله - {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} يعنى أشباح الموت المخيفة المفزعة قد تزاحمت بها جنبات الأرض من حوله. (1)

_ (1) - دراسة في البلاغة والشعر: 29-30

فالضعف البادى من المشبَّه به أعمالُ الذين كفروا الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدّون عن سبيل الله - عز وجل - ويبغونها عوجا يتناسق مع اجتماعهم فى وجه دعوة الرسل لهم، فردُّوا أيديهم فى أفواههم، وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به، وإنَّا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب، وقالوا لهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا، هذا التجمّع والتظاهر والتآذر فى وجه الحق سيستحيل يوم القيامة رمادا تشتد به الريح فى يوم عاصف، وهؤلاء القادرون على مواجهة الحق فى الدنيا لا يقدرون مما كسبوا على شئ يوم القيامة. «ولا يمكن أن يوضع تشبيه سورة (النور) هنا لا يمكن أن يكون الكلام فى سورة (إبراهيم) - عليه السلام - بعد عرض حالة هذا الذى {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} هو {.. كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ... } (النور: من الآية39) وذلك لأمر ظاهر هو أنَّ كلَّ تشبيه إنَّما هو امتداد للأنسجة اللغوية التى صاغت السياق كله، وهذا يعنى ضروبا من الاتساق الخفى المكين.» (1) وفى سورة (إبراهيم) - عليه السلام - صاحب الأعمال لا وجود له فقد انقطع عنها بموته وهو بين الزبانية يسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه، فكيف يكون راكضا وراء سراب، بل الأنسب أن يكون عمله رمادا. وبهذا ترى أنَّ فى تشبيه أعمال الذين كفروا بالرماد فى سورة (إبراهيم) دَِلالةً على ما كان عليه أصحاب هذه الأعمال من استجماع وتظاهر فى وجه الحق الذى جاءت به الرسل لتخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. فكلّ تشبيه جاء في موطنه اللائق بالغرض المعقود له التمثيل، مما يجعل دلالته على معناه وغرضه دلالة لطيفة من وجه وحتميّة من وجه آخر، بحيث لا يجد المتدبِّر نفسه إلا مستقبلة من هذا المثل الغرض المنصوب له البيان، فكان الاقتضاء قويًا على الرغم من لطفه.

_ (1) - السابق: 30

وهذا فيه – أيضًا - دَِلالةً مع مطلع السورة واسمها على مقصودها الأعظم: «التوحيد وبيان أنَّ هذا الكتاب غاية البلاغ إلى الله - جل جلاله - لأنَّه كافِلٌ ببيان الصراط الدال عليه المؤدى إليه» (1) فإبراهيم "أبو الأنبياء"، والرُّسلُ أجمعون غايتُهم دعوة أقوامهم إلى التوحيد وبيان الصراط المستقيم صراط العزيز الحميد. أمَّا سورة (النور) المدنية فإن «المحور الذى تدور عليه السورة كلّها هو محور التربية التى تشتد فى وسائلها إلى درجة الحدود وترقّ إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة التى تَصِلُ القلبَ بنورِ الله - جل جلاله - وبآياته المبثوثة فى تضاعيف الكون وثنايا الحياة. الهدف واحد فى الشدة واللين هو تربية الضمائر واستجاشة المشاعر ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة حتَّى تشفَّ وترفَّ وتتصل بنور الله - عز وجل - وتتداخل الآداب النفسية الفردية وآداب البيت والأسرة وآداب الجماعة والقيادة بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة فى الله - جل جلاله - متصلة كلها بنور واحد هو نور الله - عز وجل -، وهى فى صميمها نور وشفافية واشراق وطهارة وتربية عناصرها من مصدر النور الأول فى السماوات والأرض نور الله - جل جلاله - الذى أشرقت به الظلمات فى السماوات والأرض والقلوب والضمائر والنفوس والأرواح» (2) وفي استحضار مقصودالسورة وسياق المعنى استحضار للمعنى والغرض المساق له المثل؛ ليبين لك وجه دلالته على هذا المعنى والغرض الكليّ، فليس تدبّر الصورة البيانية بالمقصور على إدراك ما يُسمَّى بالغرض البلاغي من التشبيه أوالصورة البيانية كما هو متعالم عند الناشئة بل تدبّرها يَؤُمّ إلى إدراك الغرض الكليّ - أيضًا - ووجه دلالةِ هذه الصورة على ذلك الغرض، واتساقها مع سائر الصور لتحقيق الإبانة العَلِيّة عن هذا الغرض الكليّ.

_ (1) - البقاعي: مصاعد النظر:2/198 (2) - سيد قطب: في ظلال القرآن:4/ 2486

فى وسط السورة: فى عقدها الثالث يأتى تشبيه أعمال الذين كفروا بسراب بقيعة أو بظلمات فى بحر لجى.... وقد تقدمه عقد يبين جريمة الزنا وجريمة القذف وحدَّهما وعقد يُبيّن وسائل الوقاية من هاتين الجريمتين ويأتي من بعده عقد يبين المفارقة بين أخلاق المنافقين وأخلاق المؤمنين وموقفَ كُلٍّ من الدَّعوة ورسولِها - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - وعقد يبين آداب الاستئذان والضيافة وهى آداب يُثمرُ التَّمسُّكُ بها الوقايةَ من التَّردِي فى جريمتى الزنا والقذف به.

جاء تمثيل أعمال الذين كفروا فى سورة (النور) بالسراب أو بالظلمات من بعد تمثيل نور الله - سبحانه وتعالى - بمشكاة فيها مصباح ... تمثيلا يقرب صورة غير المحدود للإدراك، وهى صورة تموج بالنور الباهر المتجلى فى السماوات والأرض المتبلور فى بيوت الله - عز وجل - المشرق فى قلوب أهل الإيمان، فإذا بتمثيل أعمال الذين كفروا يقابل هذا المجال النورانيّ الباهر، لأنَّه مجال مظلم فى مبدئه مخيب موئس مخيف مرعب فى آخره، فإذا كان نور الحق ساطعا لا يخبو، فإنَّ فى أعمال الذين كفروا التماعًا كاذبا يتبعه صاحبه المتلهف، فلا يجد شيئا، ولكنَّه يجد الله - سبحانه وتعالى - عنده، فيوفيه حسابه، وهو سريع الحساب للذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله - عز وجل - وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخائفين يوما تقلب فيه الأبصار، فيجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله وهو سريع الحساب للذين كفروا بنور الله - سبحانه وتعالى - الذى جاءت به الرسل، فإذا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا أو كظلمات فى بحر لُجِّيٍّ، والله - عز وجل - يَطْوِي بيانَ حِسابِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) هَكذا فِي سُرْعَةٍ عَاجِلَةٍ تَتَنَاسَقُ مَعَ الْبَغْتَةِ وَالْفَجَاءَة (1) سُورةَ "النّور" عُنِيَتْ بِحَديثِ الإفْكِ الّذِي يُمثِّلُ أخْطَرَ ما يُمكن أن يلْحَقَ بالمُجتمعِ بعد الشِّرْكِ، فَيُقَوِّضهُ، حديث الإفكِ قدْ جعلَ كثيرًا في بَحْرٍ لُجّيٍّ يَغْشَاه موجٌ من فوقِه موجٌ، ولقيَ منْه - صلى الله عليه وسلم - وعائشة وأبواها - رَضِيَ الله عَنْهُم - ما لا يطاقُ، ولكنَّ نورَ الحقِّ بدد تلك الظلمات، فاذا المرجفون بالفتنة أعمالهم لا تبقى وإذا هى سرابٌ بقِيعَةٍ بسيطةٍ وسيعةٍ لاتتناهَى.

_ (1) - راجع:السابق: 4/2521

حديث الأفك وما أدَّى إليه وما أعقبه والعمل على وقايَةِ الأمَّة من مثله هو المقصود الأعظم لهذه السورة، وهذا منسول من الأصل الذي تقوم عليه السور المدنية: التصاعد في منازل التقوى من كلّ ما يردي الأمّة في المذلة والهوان في الدارين. سورة " النّورِ "وإنْ صوَّرت أعمال الذين كفروا فى صورتين متعاقبتين صورة سرابٍ بأرضٍ قيعة يحسبه الظمآن ماءً، وصورة ظلمات فى بحر لجيّ، الأول تصوير لما يقع منهم من أعمال حسبوا أن لها نفعاً أيَّ نقع. وهم بلا شك يفعلون بعض البِرِّ فطرة إلا أنَّه ليس لرب العالمين، وليس على هدي،فليس عملا صالحًا (1) ولذلك جاء تصوير هذه الأعمال بالسَّراب الذى يظنُّه صاحبُه ماءً، وما هو إلا سرابٌ ليشاكل حُسْبَانَهم أنَّ فى عملهم البرَّ على غير هدى نفعاً لهم. والتشبيه الثانى تصوير للأعمال الأخرى التى يعْلَمون أنَّها غيرُنافعةٍ، ولذلك لا يطمعون فيها، ومن ثَمَّ لم يكن فى تصويرها ما يَدُلُّ على أنَّ لهم فيها مطمعاً فى الآخرة. (2) ولما كانت مفاسد الذين كفروا وأعمالهم الفاجرة التى لا تليق مع منطق العقل وفطرة الإنسانِ حشد تصويرُ أعمالِهم الفاجرة كلَّ هذه الظلمات وكلَّ هذه الأمواج والسحب على نحو فريد. (3) فكان فيه من التساوق مع أعمالهم تلك مالا تغفلُ عنه بصيرة قارئ. وهو شديد المقابلة للمثل الأول فى السورة: مثل نور الله - سبحانه وتعالى -:

_ (1) - العمل الصالح كلّ عمل نافع، وأريد به وجه الله - سبحانه وتعالى -، وأقيم على هدي الشريعة كتابا وسنة، فهذه ثلاثة شروط لا بدَّ من كمال تحققها ليتحقق وصف العمل بالصلاح، وإلا فإنّه مردود على صاحبه، وإن أفاد العباد والبلاد على تطاول الأزمان وتفاسح البلدان. فعلى كلّ عاقلٍ أن ينظر فيما قدمت يداه ليعلم موقعه منه يوم القيامه (2) - راجع دراسة في البلاغة والشعر لشيخنا: 38 (3) - السابق: 34

«الأول نُورٌ على نورٍ، والثانى ظلمات بعضها فوق بعض، وفوق ذلك التقابل تقاربٌ فى البناء اللغوى لهما: إحتشد الأول لبيان وهج النور، فذكر المشكاة ( ... مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ على نُورٍ....) (النور: من الآية35) وإحتشد المثل الثانى لتداخل الظلمات وأطباقها وتكاثفها حاذياً فى الصياغة حذو الأول تأمل ( ... يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ... ) (النور: من الآية40) ثم إنَّ كل صورة من الصورتين لها مدَدٌ يمدُّها، ولا ينضب، ففى الأولى شجرة مباركة يوقد منها، وفى الثانية سحاب مطبِقٌ فوق موج من تحته موج وكما قال هناك أيضا ( ... يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء ... ) (النور: من الآية35) قال هنا ( ... وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ... ) (النور: من الآية40) (1) وهذا المثل أقوى فى الدلالة على مقصود السورة الذى أشرنا إليه من قبل، فأعمال الفجور والقذف به وحبَّ إشاعة الفاحشة فى الذين آمنوا مما لا يطمع فى نفعه، فهى ظلماتٌ فى بحر لجيّ معصوم منها الذين هداهم الله - عز وجل - لنوره، المُسبّحون له فى بيوته بالغدوِّ والآصال لا يليهم عن ذكره - جل جلاله - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عَرَضٌ من الدنيا فضلاعن أعمال الفجور.

_ (1) - السابق: 330

وإذا كانت معرفة معاني الكلمات والصِّيغ الجارية فى هذه التشبيهات متوقفة على معرفة السياق الذى جرت فيه؛ لأنَّ السياق هو الجذر الذى أمدها بالحياه والأسرار وهو الأرومة والمعدن الذى اليه يُرَدُّ الأمر فان تحرير المقصود الأعظم للسورة متوقف على معرفة معاني الكلمات والصيعِ الجارية فيها من خلال سياقها فالمقصود الأعظم له سلطان على السياق وما يدرج عليه من كلماتٍ وتراكيب وصور إلاَّ أنَّ معرفته وتحريره ينبثقان من معرفة السياق والكلمات والتراكيب والصور؛ لأنَّ ذلك أجلى مظهراً وأقرب إدراكاً. ولذلِكَ لا يَتَأَتَّى تَحْريرُ "المقْصُود الأعظم" من بادئ النَّظر والتأمّل، بل يكونُ ذلك من بعد تردِيدٍ للنَّظرِ، وكلّمَا ازداد المرءُ نظرًا فِي السِّياقِ والتراكيب، وانْمَاط التصوير وفنون التحبيرازدادَ قُرْبًا مٍِن تَحرير "المقصُود الأعظم" وهذا وأن كان غير يسير فان طول الصحبة وإخلاصها استبصار وامتلاك بعض من ذلك. *** وأنت إذا ما نظرت فيما جاءنا عن أبي الحسن:علي بن عيسى الرمّانيّ " (ت: 386هـ) مثلا في تدبر التشبيه في القرآن الكريم في رسالته (النكت في إعجاز القرآن) (1)

_ (1) - نشرت الرسالة ضمن كتاب: (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) بتحقيق الدكتور:محمد خلف الله، والدكتور:زغلول سلام – دار المعارف بمصر. وقد عني أهل العلم بالنظر فيما جاء فيها، فكان لشيخنا " أبو موسى " تحليلٌ ضمنه كتابه (الإعجاز البلاغي: دراسةتحليلة اتراث أهل العلم) نشرته مكتبة وهبة: 1405، (ص:81-153) . وكان من قبل قد توفَّر على دراسة جهود الرماني في بلاغة القرآن الكريم "الصديق عبده زايد سنة:1975، فنال درجة التخصص من كلية اللعة العربية بالقاهرة، وقد نشرها بعد أكثر من خمس وعشرين سنة في مجلة الكلية نفسها العدد التاسع عشر والعشرين: (ص 558 –ج1 – ع:20- سنة1422) وكان أستاذنا الشيخ " كامل الخولى" قد تناول هذه الرسالة بالتحليل في سفره القيّم (أثر القرآن في تطور البلاغة العربية) (ص:79-109) ط:1381ومن قبلُ تناولها بالدرس:الدكتور محمد زغلول سلام في كتابه (اثر القرآن في تطور النقد العربي) (ص: 234-255) ط: دار المعرف:1968وما يزال في الرسالة ما يمكن لطالب العلم أن يستنبطه، فكم ترك الأول للآخر من الخير في معادن العلم ومكانزه.

رأيت عنايته بتبيان منهاج القرآن الكريم في التصوير البياني للمعاني، ودلالته عليها، ولذا يكثر من التصريح بأنَّ هذا بيان قد أخرج كذا إلى كذا. وقد يحسب العجل أنَّ هذا ممّا قَرُب إدراكه وقلّ نفعُه، ولو أنَّه تمهَّل وتبصّر لرأى أن "الرماني" يهدينا إلى مناط العناية الرئيسيَّة في قراءة الصورة البيانية: العناية بالنظر في منهاج التصوير وطريق الدلالة. فانظر قوله: «فبلاغة التشبيه الجمعُ بين شيئين بمعنى يجمعهما يكسب بيانًا فيهما. والأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه به على وجوه: (1) - منها إخراج ما لاتقعُ عليه الحاسَّة إلى ما تقعُ عليه الحاسَّة. -ومنها إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة. -ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما لا يعلم بالبديهة. -ومنها إخراج ما قوة له في صفة إلى ما له قوة في صفة» (2) قوله (إخراج ... ) بيان منهاج، وهذا الإخراج ليس سبيلا مطرَّقًا،لأنّه إخراج مرتهن بالسياق والمقصد الأعظم الذي يساق إليه البيان. وهو يبين لنا شيئًا من ذلك: يعرض لقول الله - عز وجل - في سورة (النور:39) : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فيبرز لنا منهاج البيان فيه بأن «هذا بيانٌ قد أَخرَج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقعُ عليه.

_ (1) - يغرينا الرمانيّ بقوله (الأظهر) بأن هنالك ما قد لطف، وشرف، فإذا كان هذا هو الأظهر، وهو كما ترى جودًا وكرما، فكيف بما لَطُف، إنّه طَلِبة الأشراف عقلا وقلبًا وهمًّا. وقليلٌ ما هم.أمَّا أشراف الأحساب زعمًا فهم اليوم كثر. (2) - الرمانيّ: النكت في إعجاز القرآن:81- ضمن: (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)

وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة، ولو قيل: يحسبه الرائي ماءً، ثُمّ يظهر أنّه على خلاف ما قدَّر لكان بليغًا. وأبلغ منه لفظ القرأن؛ لأنَّ الظمآن أشدّ حرصًا عليه وتعلّقَ قلبٍ به،ثُمَّ بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد في النَّار – نعوذ بالله من هذه الحال وتشبيه أعمال الكفار بالسَّراب من حسن التشبيه، فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة وصحة الدلالة» (1) الرُّمَّانيّ كما ترى عُني أولاً بِلَفْتِكَ إلى المقصد المَرْمِيّ بالتشبيه إليه لتعرفَ موقعه في طرفي التشبيه، وهي معرفة تبيّن لك منهاج الدلالة، ومنهاج اختيار صورة الطرفين أيضًا، فأفادك أنَّ المشبّه، والمشبه به قد اجتمعا، لم يجمعهما جامع قَسْرًا بل تعارفا، فاجتمعا، وهو يُحرِّر لك مناط الاجتماع: بطلان المتوهّم، وهذه كلمة تبين لك امتلاء النفس بما بطل، وتبيّن لك عظيم جهالة من يملأُ نفسه بمثل هذا، ولو أنّه لم يكن مفتقرًا إليه لكان له في أن يملأها بذلك ما يغفر له، ولكنّه يبيِّن لك أنَّه توهّم باطلا، وهو شديد الحاجة وعظيم الفاقة. فكشف لك بهذه الكلمات القليلة مبلغ ما هو آخذ بالنفس حينذاك. وانظر كيف أنه أبرز أثرين: الشدة والعظم. في الشدّة نفوذ وحركة رأسية للأثر، وفي العِظَم إحاطة وحركة أفقية له، فإن العظيم ما أحاط بالأشياء وجمعها. ثُم يترقّى بك إلى أفقٍ أعلى من النَّظر: يُقيمك أمام منزلين من البيان: بيان عارٍ من التصوير: (يحسبه الرائي ماءً ... ) عبارة دَالة ولكنها لا تملأ النفس بالشعور بشديد الخيبة وعظيمه.

_ (1) - السابق: 81-82

وبيان مصور (يحسبه الظمآن ماء) أرأيت إلى تلك الكلمة المصورة ما هو آخذ بخناق الحاسب (1) . وهذا منهج عالٍ من مناهج إدراك الفروق بين نمطين من البيان. الرمانيّ لم يجرد هذا البيان العاري من البلاغة، فإنَه ناظر إلى قوله (يحسبه) وهي كلمة لا تقال إلا في مقام الدلالة على أنَّ هذا من ظلمات الخطأ او الخطيئة،وكذلك هي في البيان القرآنيّ لا تأتي إلا دالة على أن ما كان ليس بحق أو ليس بنافع. وناظر إلى قوله (ثُمَّ يظهر أنّه ... ) يقول: «لو قيل: يحسبه الرائي ماءً، ثُم يظهر أنّه على خلاف ما قدّر لكان بليغًا» وكأنَّه يهدينا إلى أن البيان العاري من التصوير لا يفقد كل عناصر بلاغته، فإنَّ عناصرها كثيرة. وهذا منهج في التقويم دقيق.

_ (1) - يقول شيخنا أعزّه الله تعالى: «لاريب أنَّ هناك فرقًا بين أنْ تفيضَ الكلمات بالمعاني والمقاصد، وأن تفيض بها الأحداث والصور. فرقٌ بين ما يدلُّ عليه لفظ الشجاعة، وما تدلُّ عليه صورة الأسد ببطشه وإقدامه وبأسه وشدّته. المعاني التي تفيضُ بها الأحداثُ والصّور أغزر وأبين وأمكن، ولا بدَّ أن يكون هذا القدر الزائد مقصودًا، وأن لا يكون هناك سبيل إلى الإبانة عنه إلا هذا الطريق؛ لأنَّ كلّ وسيلة من وسائل البيان لا يصار إليها إلا لضرورة ... وإنّما كلّ شيءٍ في كلام أهل الطبع ركن فيه لاينهض إلاَّ به، فإذا رأينا تشبيهًا أو مجازًا أو كناية ليس موقعه في الكلام موقع ما لا يتحصّل الشيء إلا به فهو تكلف ساقط» (التصوير البياني: دراسة تحليلية لمسائل البيان: 7)

وهو يقرن بهذا البيان العاري ذلك البيان القرآنيّ العَلِيّ، فيبيِّن أنَّه الأبلغ: «أبلغ منه لفظ القرآن (1) ؛لأنّ الظمآن أشدَّ حرصَا عليه وتعلق قلب به، ثُمَّ بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيّره إلى عذاب الأبد في النار» بيَّن لنا أنَّ كلمة «الظمأن» في نظمها هنا قد صورت لنا ما هو آخذ بالحاسب، فالصورة قد قامت على كلمة ساندتها كلمات، فهيَ أساس الصورة. كذلك يرسم "الرماني" لنا منهاج النظر، ويقيم المعالم على طريق فقه الصورة البيانية في القرآن الكريم. ثُمّ يضيف إلى هذا أنَّ هذا التشبيه لأعمال الكافرين بالسَّراب من حسن التشبيه. وكلمة (حُسْن) من كثرة ما مرت على الآذان كادت بعض القلوب تغفل عن مدلولها. الحُسن ما فاض عليه من نافلة العطاء من بعد أن توفَّى لك فريضة العطاء، ومنه الإحسان، فهذا شيءٌ "حسنٌ " أي جاءك بما هو فوق حقك، فأحسن إليك، ومن قدم إليك حقك عنده أحسن إلى نفسه أولا إذ عتقها من التَّبعة، ومن قدَّم لك ما فوق حقك فقد أحسن إلى نفسه وإليك معًا، فافترقا (2)

_ (1) - أي نظمه وتصويره، فإن ائمة البلاغيين لا يريدون باللفظ مفردات القول بل الصورة النظمية التركيبية للمعنى. فهذا هو المناط الرئيس لبلاغة البيان ومناط المفاضلة. (2) - من الكلمات التي كادت القلوب تغفل عن مدلولها كلمة (جيّد) فقولنا: «وهذا قول جيد» قد يُظن أنّه نعتٌ له بما لايُبين عن عَليّ منزله، ولكنك إذا ما نظرت في معدن المدلول ومكنزه، وهو «الجود» رأيت أن الجيد هو ما كان بيِّن الجود، وما جاد عليك وأفاض، فهو الملِيء القادر الحميد، ومنه الجواد من الخيل: ما يعطيك من عدوه فوق ما تطلب ومن غير ما تطلب، فعلينا أن نحيي مدلول الكلمات في قلوبنا، فإنَّ إحياءها، ولا سيّما الكلمات القرآنية والنبوية من الخير الذي أظنّ أنه من العمل الصالح

كلمة (من حسن التشبيه) دالّة على أن هذا التصوير قد أفاض عليه فوق ما جاءك من البيان العاري عن التشبيه. ثُم يلفتك إلى أنَّ روافد الإحسان إليك من الصورة التشبيهية في الآية قد تكاثرت فقال «فكيف إذا تضمَّن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة وصحة الدلالة» هذا الاستفهام التعظيمي يرسُم في قلبك شيئًا من فخامة العطاء وعظمته حين تتضام الروافد وتتلاقى: حسن النظم، عذوبة اللفظ، كثرة الفائدة، صحة الدلالة. أربعة روافد اجتمعت إلى حسن التشبيه، فقوله (حسن النظم) دلَّك على أنَّ حسن التشبيه هنا ليس قائمًا من حسن النظم وحده وإن كانا متمازجين: حسن التشبيه آتيك من منهاج الإخراج: إخراج ما تقع عليه الحاسة إلى ماتقع عليه. وحسن النظم آتيك من منهاج التعالق والتآلف والتآخي. وعذوبة اللفظ تبين لك مبلغ ما يقوم في فمك وأذنك من الترتيل فينساب العطاء إلى قلبك، كأنّي به ينظر إلى ما يحمل عطاء الحسنين إلى قلبك: إنها عذوبة اللفظ فتناغي الألفاظ في إيقاعاتها وجرسها يفجر نهر العذوبة في فمّ التَّالى وأذن المستمع، فلا يملّ التالى من ترتيله، ولا السامع من إصغائه، وذلك هو شرف التواصل والاجتماع والتعاون على البر ّ والتقوى (1) وهذا وجه من وجوه المعنى في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... ) (الحجرات:10) فشأن الأخوة التلاقى على البِرّ لا التدابر والتخاصم لعرض من الدنيا،وخير التلاقي ما كان على تلاوة القرآن واستماعه. ويأتيك قوله (كثرة الفائدة) مؤسسًا على قوله: «حسن التشبيه وحسن النظم وعذوبة اللفظ» والكثرة تقال لما نما وزاد مما شأنه النماء، أمَّا إن بقي على حاله وجمد فلا يقال له كثير، وإن تعدد، فلم يحصَ.

_ (1) - وهذا كما ترى منسول من حقيقة البلاغة عند "أبي الحسن" فهي عنده «إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ»

وكأنّه يلمح إلى أن عطايا هذا التشبيه تنمو بما يتردد فيه النظر المتأمل، وهذا يثمر صحة دلالتك عَلَى عَلِيِّ معاني الهدى إلى الصراط المستقيم، ومن ثمَّ رتّب عليه قوله (وصحة الدلالة) وفي الصِّحة براءة من المعابة والعجز، فالصحيح نقيض السَّقيم أي لاشائبة ولا معابة فيه، وهذا يدلّك على أن تشبيه القرآن الكريم يحقِّق لك النَّظرُ النَّاصِحُ فيه شيئًا ممَّا تطلبه في ابتهالك في أم الكتاب: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) . (1) نقلت لك ما جاءك به " الرمانيّ" منذ عشرة قرون مضت لترى المعالم التي أقامها أسلافك على طريق فقه المعنى القرآني، فتهتدي كمثل ما اهتدى شيخنا " أبو موسى" فلم يقف جوادُه عند ما وقفت جياد الأسلاف بل أغذَ فِي السَّير، فكان منه الذي بدأت بذكره ليملأ قلبك، فتعلم أنّه مبني على حركة عالم مضى منذ عشرة قرون، وأنَّ لك أن تبني على ما بنى عليه شيخنا، فيتصاعد السفر إلى منازل الشرفاء. (2)

_ (1) - يجمل بك أن تراجع تحليل شيخنا مقالة الرماني في هذا التشبيه في كتابه: (الإعجاز البلاغي: 101- 103) ط:1405- مكتبة وهبة بالقاهرة، وما كتبه الصديق " عبده زايد" في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة العشرين: (ص 558 –ج1 – سنة1422) (2) - دلنا شيخنا "أبو موسى" في سفره الجواد (الإعجاز البلاغي: 99-100) على قيام مقالة "الرّماني" هنا في مقالة " عبد القاهر " في شأن التشبيه، وهذا منه بيان لتناقل المعرفة في قلوب العلماء تناقل الأبناء في أصلاب الأباء، فيحمل كلٌّ من ذات أبيه ما يميزه عن أخيه.

وليس يخفى عليك أنّي لست هنا إلى دراسة التصوير البياني في القرآن الكريمِ فاستقصى لك القولَ في أنماطه، وإنّما أنا إلى الإشارة إلى معالم تقوم على جنبات الطريق إلى فقه المعنى القرآني في سياق السورة، وهذا ما عُنِيت به، فبينت لك شيئًا من تلك المعالم قائمة في بيان شيخنا أبي موسى، وفي بيان أبي الحسن الرمانيّ " لتهتدي بهما، فيكون منك إحسان كما كان منهما. -..رابعاً: التحليل البياني لجرس والايقاع.. ... جماع الأثر في البيان القرآنيّ ... ليس متوقفًا في التسليم به أنّ البيان القرآنيّ الكريم يحمل أثرين جليلين ممتزجين في بنائه اللسانيّ المعجز: الأثر الأول: موضوعيّ متعفّل يمكن إدراكه وتعقُّله وضبطه والإبانة عنه الأثر الآخر: انطباعيّ نشعر به وندركه ونتبينه في قلوبنا وأرواحنا، ولكنَّ الجمهرة لا تضبطه، ومن ثَم لا نكاد نملك الاقتدار على وصفه وتبين معالمه وملامحه، بل قد يتعذر على كثير منا أن يحيط بمبعثه ومصدره - الأثر الأول عنيت الدراسات البيانية به فيما عرف بأصول النظر في نظم البيان ومناهج تركيبه وأنماط تصويره، وفنون تحبيره، وقد قام بكثير من حقوق ذلك علم بلاغة العربية. وهذا ما قرّر عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الأعجاز " فريضة الإحاطة به، والوقوف على تعليل الحسن فيه والإبانة عنه، وقد جعلت بين يديك نصّ بيانه في هذا من قبل (1) - والأثر الأخر النفسيّ الانطباعيّ ندركه من خلال جرس البيان وإيقاعه (2)

_ (1) - ينظر دلائل الإعجاز - تح شاكر ص 41 (2) - الجرسُ والإيقاع من المفردات العربية التي لم يغفلها أهل العلم، وقد سمّى الخليل بن أحمد أحد كتبه (الإيقاع) ، وهو مصطلح يشيع في مؤلفات النغم عند علماء العربية. انظر كتاب: كمال أدب الغناء للحسن بن أحمد الكاتب ص 92 وكثير من مصطلحات البلاغيين وعلماء تأويل البيان القرآنيّ منسولة من معنى الجرس والإيقاع، وإن يكن مصطلح الإيقاع غير شائع في استخدامهم. ويتورع بعض أهل العلم من استعمال تلك الكلمات في تدبّر البيان القرآني كمثل تورعهم من استخدام كلمة (السجع) ، والحق أنَّ غير قليل من مصطلحاتنا البلاغية إنما نستعملها لا لأنَّها الكاشفة ع حقيقة ما في البيان القرآني، بل لأنَّها أقرب المصطلحات إلى قدرتنا على الإبانة عما تدركه قلوبنا، ولا نجد له من أنفسنا أسماء أو مصطلحات تناسب جلال البيان القرآنيّ، والله عزّ وجل قد خاطبنا بأسماء لأفعال منه بنفس أسماء أفعالنا، لا لأنهما سواء بل لأنًَّ هذا= = ما يمكن أن نفقهه. ألا ترى أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد سمى حسن الترتيل وتجويده تغنيًّا، وهي كلمة من جنس قولنا: إيقاع ونغم وجرس. نحن نستخدم هذه الكلمات عجزًا، ونحن نؤمن أن القرآن كلام الله عز وجل، ليس بمخلوق ولا حادث، و {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42) وأنَّ فضله على كلّ بيان كمثل فضل الله - سبحانه وتعالى - على كلِّ خلقه.،وقد قال الله - عز وجل - عن نفسه: { ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)

، وهو لايقل أهمية عن الأثر الآخر في تحقيق مقصد القرآن الأعظم وتقريره في النفوس، لتنبعث إلى ما يراد منها ولها. بغير هذا الأثر قد لا يتسارع إلى النفس توغل الأثر الموضوعيّ القائم برسالة الإعلام بما يريده الله - سبحانه وتعالى - – مِنَّا ولنا. وهذا الأثرُ قد يكونُ أظهرَ وأسرعَ إدراكا من الأثر الموضوعيّ المتعقَّل، كما نراه في موقف غير قليل من أصحاب الفطر والحس المتيقظ ممن لا يفقهون أصول البيان بالعربية، وهم يستمعون ترتيل القرآن الكريم، فيتأثرون بما يسمعون، ولا يفقهون أثره الموضوعيّ المتعقَّل. يقول " جان جاك روسّو " (1712-1778 م) في كتابه (محاولة في أصل اللغات) : « ... إنّك لترى الذي له بعض معرفة باللغة العربية يبتسم إذ يتصفح القرآن، ولعمري، إنّه لو أنْصَتَ إلى محمد يقرأه بنفسه في تلك اللغة البليغة الموقَّعة، وبذلك الصوت الجهوريّ المقنع الذي كان يستهوِي الأذن قبل أن يستهوِي القلب، ولو أنصت إليه إذ لاينفكُّ ينفثُ فِي حكمِه نبرةً وحماسًا لسجد على الأرضِ من الرهبة، ثُمَّ لناداه: ألا، أيها النبي الأعظم، ألا، يارسول الله خذنا إلي المجد والشهادة: نريد أن نغلب أو نموت في سبيلك» (1) هذا الذي يحدثك عنه " روسو" أثر انطباعيّ " قائم في البيان القرآنيّ يزيدك إدراكا له، ويسارع به إلى قلبك ترتيلُ القاري وتغنِّيه مما يبعث فيضًا من الاستحسان للبيان القرآنيّ إلى قلبك، وكأنَّك قد فقهت بما قاله " روسو" شيئًا مما جاء عن النبيّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا – مرفُوعًا من الأمر بتزيين القرآن الكريم بأصواتنا. عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"زينوا القرآن بأصواتكم. (البخاري تعليقا- كتاب: التوحيد)

_ (1) - محاولة في أصل اللغات – تعريب محمد محجوب ص71 –دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1986

وقد حث الحق - سبحانه وتعالى - نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - على ترتيله ( ... وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:4) وحثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمته على حسن التغنى به: روى الشيخان بسنديهما أن رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . (البخاري: حديث: 5023، ومسلم: صلاة المسافرين - حديث: 1881 وعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للهُ أشدُّ أذنا إلى الرجل حسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته» . (سنن ابن ماجة: إقامة الصلاة – إمامة) وعن سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ هذا القُرآنَ نزل بحُزن، فاذا قرأتموه، فابكوا، فان لم تبكوا، فتباكوا، وتغنوا، فمن لم يتغن به، فليس منا» (ابن ماجة: إقامة) وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعلموا كتاب الله، وتعاهدوه، وتغنُّوا به» (مسند أحمد: 4/136) فهذه الأحاديث وكثير غيرها تهدى إلى سنة أداء القرآن الكريم أداء حسناً، فانَّ فيه تزينَه فى قلوب سامعيه، فيقبلون عليه يتعلمونه، ويتدبرونه، ويلتزمون بهداه، فإنَّ حسن تلاوته وترتيله هو أول الطريق الرئيسي إلى فقه معناه المؤدِّي إلى حسن التزام هديه أمرا ونهياً، ولن يتحقق لبيان أن يرتّل وأن يتغنى به إلا إذا كان نسقه ونظمه وجرس كلماته وموقع معانيه غنيًا بمقومات الإيقاع وأنواعه وألوانه المتعدِّدة وهذا ما تحقق للقرآن الكريم،فلا يشاركه فيه بيان آخر.

الجرس والإيقاع فيه عنصر رئيس من عناصر البيان المنتج المعنى القرآني فى قلب المتلقي لا يقل عن أىّ عنصرٍ آخر أثراً وقيمة، بل هو أظهر عناصر ذلك البيان وأقربها إلى الادراك إجمالا، وأن يكن إدراكه على التفصيل والتحليل والتفسير غير قريب، ولا يسيرٍ فى كثير من صوره ممَّا يجعل المرء يحتاج في إدراكِهِ إلى لقانية وحسٍّ مرهف وأذن واعية. عناية القرآن في العهد المكيّ بالقيم الصوتيّة. تنزّل القرآن الكريم في ثلاثٍ وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة يقرر أصول العقيدة بالقصد الأول، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ومنها عشر سنوات في المدينة النبوية يقيم فيها أصول التشريع وما يضبط حركة الحياة المسلمة، وما يحقق للأمة عزَّها وسلطانها. اتسم البيان القرآنيّ النازل في العهد المكيّ بظهور القيم الصوتية من الجرس والإيقاع في تكوين وتشكيل صورة المعنى؛ لما يملكه الجرس والإيقاع من قدرة على النفوذ في حنايا القلوب، وذلك مرده إلى الميل الفطري للإنسان للإيقاع، فقد جبلت النفوس الناطقة على إدراكه،والارتياح والطرب بإدراكه (1) ، ففي ما تسمعه أذنه منغوما تجاوب مع حركته وحركة الحياة في داخله وخارجه، ذلك أنَّ هنالك تلازمًا بين الحياة والإيقاع، فليست هناك حياة لا إيقاع فيها. وهذا أمر لايكادُ يغيمُ على كلِّ من ألقى السمع لما نزل من آيات الذكر الحكيم في العهد المكيّ. وليس معنى ذلك افتقار ما نزل من الآيات في العهد المدني إلى الإيقاع بل هو قائم فيه، ولكن قد يكون لطيفًا , وأقلَّ ظهورًا ممَّا هو في نظيره من التنزّل في العهد المكيّ.

_ (1) - ينظر المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع - ابو محمد السجلماسيّ ص:502 - تح: علال الغازي – ط: مكتبة المعارف – المغرب: 1401

وهذه الحقيقة التي لايمكن التوقف في التسليم بها فضلا عن إنكارها وجحدها دليلٌ على ما للقيم الصوتية: جرسًا وإيقاعًا من أثر في إيصال المعنى إلى القلب وتقريره فيه ليبعث صاحبه إلى ما يراد منه، وهذا ما جعل المكذبين بالقرآن الكريم في مكة يتناصحون بألا يستمعوا إليه، وأن يحرصوا على أن يلغوا فيه لعلهم يغلبون. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26) {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (هود:5) ونحن نسمع الحق - عز وجل - يهدي عبده ونبيه سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يجير من يستجير به حتّى يسمع كلام الله - جل جلاله -: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) فإنَّ مجرد استماعه كلام الله - جل جلاله - فيه الحجة عليه (1)

_ (1) - يصحّ أن تؤوّل (حتّى) بـ (لام التعليل) أي من أجل أن يسمع كلام الله - جل جلاله - وهو في جوارك آمن لا يخشى على نفسه، فيكون له ما يعينه من قرار النفس وطمأنينة القلب ما يجعله يستشعر ما في القرآن بمجرد السمع. ويصح أن تؤول (حتّى) بـ (إلى) أي إلى أن يتمكن من أن يسمع كلام الله - عز وجل -، فذلك كاف في إقامة الحجة عليه، وهذا من إبلاغ الرسالة له، ومن بعد أن يسمع كلام الله أبلغه مامنه.

، وإن لم يفهم ما فيه إن كان أعجميًا، لأنَّ في الصورة الصوتية لبيانه ما يدلّ دلالة قطعية على أنّه ليس من كلام البشر، وأنّ ما فيه من تلك القيم الصوتية جرسًا وإيقاعًا، وما يتحقق فيه من التناغي والتناغم لا يمكن أن يأتي في كلام أحد من البشر، وإن كان نبيا رسولا على نحو ما سبق أن نقلته لك من كلام " جان جاك روسو" (1) القرآن الكريم في العهد المكيّ إذن طابق بين مكونات صورة المعنى ومقتضيات السياق والأغراض التي يساق لها الكلام، وطبيعة القوم النازل فيهم القرآن الكريم في ذلك العهد، فجعل للجرس والإيقاع مكانًا عليًّا في تكوين صورة المعنى وتشكليه فيما تنزل من القرآن في ذلك العهد المكيّ. (2) *** . بيان الجرس والإيقاع.

_ (1) - من الأدلة القوية القريبة الباهرة القاهرة على أنَّ للقرآن الكريم إيقاعه الذي لايمكن أن تجده في غيره من الكلام، وإن كان كلام نبيّ مرسل أن تعمد إلى أي بيان غير القرآن الكريم، وتطلب ممن تراه الإمام في أصول التغنيّ بالبيان القرآني أن يتغنى بذلك البيان غير القرآني على أصول التغني بالبيان القرآنيّ، وإن كان حديثًا نبويًا بل، وإن كان حديثًا قدسيًّا، فإنَّه لا محالة عاجز عن أن يفعل، وإن حمل على نفسه وقسرها على أن تتكلف بان عواره وشناره، وبدا منه ما يضحك. (2) - لعلّ هذا ممَّا يمكن أن يسترشد به في ترجيح القول بمكية آية أو مدنيتها حين يتفارب المنقول عن أهل العلم، فإذا ما غلب عنصر التصويت والتوقيع على صورة المعنى، مضافًا إلى طبيعة المضمون وعلاقته بما كان القصد الأعظم للتنزل في العهد المكيّ، فالأقرب القول بمكية التنزيل.

(الجرس) هو الأثر السمعى الناتج عن الذبذبات الفرعية المتوائمة مع الذبذبات الأصلية الناتجة من الأوتار الصوتية عند نطق الأصوات المجهورة (1) . " فاذا كانت الكلمة مكونة من حروف قوية الإسماع حسن جرسها وإلاَّ، فلا، أضف إلى ذلك أنَّ حسن الجرس يرتبط أيضاً بحسن التأليف" (2) وهذا الجرس يمكنك أن تلاحظه في بناء الكلمة – إذ تصغي إليها - ولهذا حرصت العرب في بناء كَلِمِ بيانها على أن توفر لها مزيدًا من التناغم والتناسب، وأجلَّت خفة الأداء، فأحدثت ضروبا من التغيير والتحول في أصوات الحروف، وكثيرًا من الاستغناء والحذف تحقيقًا للانسجام الصوتي للكلمات، وهذا ما يلحظه الناظر فيما قام له علم التصريف، وهو علم بأصول صناعة الكلمة في لسان العربية. (3)

_ (1) - الأصوات المجهورة هي التى يهتز معها الوتران الصَّوتيان لانقباض فتحة المزمار وضيق مجرى الهواء واقتراب الوترين اقتراباً يسمح للهواء بهز الوترين. وهي متفاوتة في الجهر أعلاها أصوات المد الثلاثة (الصائة الطويلة: حروف المد) ثُمَّ الحركات الثلاثة. (2) - قراءة جديدة لتراثنا النقدي: مقال" موقف النقد العربي التراثي من دلالات ما وراء الصياغة اللغوية لتمام حسان: المجلد الثاني ص 786 (3) - علم تصريف بناء الكلمات من العلم الجليل الدقيق الكاشف عن منهاج العربية في تأثير أصوات العربية وتأثرها في وجودها النظمي ليُبنَى من ذلك كلمة متسقة الأصوات تجرى على اللسان فتستقبلها الأذن وتنفذ في القلب. وقد ضاق طلاب العلم بما يكلفون به من النظر فيما جرى لبعض الكلمات من الإعلال والإبدال والتصورات الفرضية التي كانت عليها الكلمة، والمراحل التي تنقلت فيها حتّى بلغت ما بلغت. وكأني بعلماء تصريف بناء المفردات في العربية يشيرون بهذا إلى شبيه بما يجري في علم تصريف بناء الكلام من الكلم من تأثر وتأثير، وإن كان هذا في علم تصريف بناء المفردات أقرب وأيسر إدراكًا. وكأني لمنهاج بناء الأمة المسلمة من أفرادها نسب من منهاج بناء مفرداتها وجملها وفقرها تناسق وتناسب وتآخي وتناغى لتبنى أمة مسلمة، كل من فيها مؤثر في غيره ومتأثر به، فالأمة بيانًَا والأمة بناءً على نهج سواء، فمن فقه منهاج بناء بيانها، فقه منهاج بناء وجودها المسلم.فدراسة لسان الأمة هي دراسة للأمة نفسها.مبنى ومعنى.

وهي في منهاجها التصريفي قد لا حظت العلاقة بين طبيعة أثر الصورة الصوتية للكلمة، والمعنى الذي تقوم الكلمة بحمله في سياقها الذي تدرج عليه،فهى لغة موسيقية موزونة فى حروفها ومفرداتها وتراكيبها فحروفها موزعة المخارج الصَّوتيَّة توزيعاً موسيقيًّا وافياً، فليس هناك مخرجٌ صوتيٌّ واحدٌ ناقصٌ فى الحروف العربية التى قسمت على حسن موقعها من أجهزة النطق المستخدمة أحسن استخدام يهدى إليه الافتنان فى الإيقاع الموسيقيّ، فاذا هى لغة شاعرة فى حروفها قبل أن تتألف منها كلمات. والوزن والانسجام هما دعامة بناء الكلمة المفردة فى العربية، فاذا التوازن بين العناصر الصوتية للكلمة وافر باهر من جهة وهو يبيّن صورة المبنى ومافيه من المعنى كذلك، وكثيراً ما يسترشد بالمبنى فى نسقه الصوتيّ على فقه المعنى ولا نجد لغة كالعربية تناسقت منها أصوات كلماتها من جهة وتناسقت تلك الهيئة الصوتية المركبة فى كلمة مع معناها، فاذا الأحداث بادية فى الأصوات وإذا الأرواح تنِمُّ عنها الأجسادُ،أو يَشِي المظهر بالمخبر (1)

_ (1) - راجع في هذا ما قال " العقاد" في " اللغة الشاعرة " في فصول:" الحروف، والمفردات، والإعراب. وقد كتب من قبله " ابو فهر" ثلاث مقالات في مجلة " المقتطف" بعنوان: (علم معاني أصوات الحروف) في المجلد 96،97 - مارس،أبريل ومايو 1940، وأعيد نشر المقالات في كتاب (جمهرة مقالات الاستاذ محمود محمد شاكر) ج2 ص 708-735- جمع: د/ عادل سليمان جمال – مكتبة الخانجي سنة 1424 هـ يقول الشيخ أبو فهر – رحمه الله -:" أريد بقولي " معاني أصوات الحروف " ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف – لا الحرف نفسه – من المعاني النفسية التي يمكن أن تنهض بها موجة اندفاع من مخرجه ... وما يتصل بكلّ هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق. وليست المعاني النفسية – أو العواطف أو الإحساس – هي كلّ ما يستطيع أن يتحمله صوت الحرف بل هو يستطيع أن يحتمل – أيضًا – صورا عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أوأصواتها أو أضوائها أو غير ذلك...." (الجمهرة:2/708) وهذا المذهب الذي يغدو فيه أبو فهر مبعثه الإيمان بالعلاقة الوطيدة بين الصوت والمعنى، وأن أصوات الكلم ليست إشارات إلى معان زنيمة لا علاقة لها بها، وأنَّ تشكيل كلمة (ضرب) على هذا النحو له علاقة بالمعنى النفسي والعقلي للحدث، وأنّه لا يكون في طبيعة اللغة أن يدل على ذلك المعنى النفسي للحدث قولنا (ربض) أو (رضب) أو غيره من التقليبات الصوتية للحروف،أو أن يدل عليه كلمة من مادة أخرى. وكلام ابن جنّي في هذا الباب قائم بين يدي طلاب العلم حتّى غدا مما اشتهر من العلم، وهو باب لطيف طريف دال على حكمة العربية في وضعها الأول سواء قلنا إن مبدأها توقيف أو مواضعة توفيقية اصطلاحية.

ولمَّا كانت المعاني متنوعة وجدنا في العربية كلمات ما تزال تحمل في بنائها الصوتيّ آثارَ الحزونة والصعوبة التنغيمية بغية إعانتها على الوفاء بحق تصوير معناها بصوتها، فيكون منها عونٌ للمتلقى على أن يدرك المعنى الذي قد يجد من نفرة النفس عنه ما يعيقه بعض الشيء عن إدراكه وتعقله، فيبقى الأثر الصوتي معينا على إدراك المعنى الغريب الذي لاتأنس النفس بوقوعه وصحبته، كمثل ما تراه في اصطفاء الله - سبحانه وتعالى - كلمة: (ضِيزَى) في قوله- عز وجل -: (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) (النجم:22) وكلمة: (طغواها) في قوله - جل جلاله -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) (الشمس:11) المهم أنَّ جرس الكلمة رافد رئيسيّ من روافد الدلالة على معناها. ونحن بحاجة إلى ملاحظة انتشار الأصوات الجهرية التى هي معدن جرس البيان القرآنيّ وتوزيعها؛ لتتبين لنا سنة القرآن الكريم فى التنسيق الصوتيّ بين الجهر والهمس الذى هما رافد الايقاع. (1)

_ (1) - إذا ما نظرت في سورة (أم الكتاب) وجدت الحروف المجهوره هي الغالب عليها، وقد اشتملت على الحروف المجهورة كلها خلا ثلاثة أحرف (ج – ز – ظ) وقد كثر فيها أقوى الحروف جهرًا وهي ما يسمى بالحروف المتوسطة (ر.- ل – م – ن) . وقد غلب تكرارها على غيرها من الحروف المجهورة. وليس فيها من المهموس إلا ثلثا الحروف المهموسة: ستة أحرف: (ت- ح.- س.- ص –ك –هـ) ، ولم يأت فيها (ث – ش – ف) وما جاء تكرر كل حرف منها ثلاث مرات إلا (الحاء) و (الهاء) خمس مرات لكلّ، وهذا إذا ما عددنا (البسملة) آية من السورة. وقد شاع في السورة الأصوات الصائتة الطويلة: " حروف المدّ ". فقد تكررت إحدى وعشرين مرة: (الله – الرحمن – الرحيم - لله – العالمين – الرحمن – الرحيم - مالك – الدين - إياك – إياك – نستعين - إهدنا – الصراط – المستقيم - صراط – الذين – المغضوب – لا - الضالين) وكانت الغلبة لتكرر الألف، وهي أمدّها ثلاث عشرة مرة: (الله – الرحمن – لله – العالمين – الرحمن – مالك – إياك – إياك – إهدنا – الصراط – صراط –لا - الضالين) ثُم للياء: ثماني مرات: (الرحيم - العالمين –– الرحيم - الدين -نستعين - المستقيم - الذين –الضالين) ولم تأت واو المد إلا مرة واحدة في (المغضوب) وكان أكثر حروفها متحركًا، وهذا يجعل السورة ذات جرس صوتي ورنين يملأ الأذن. وأضاف إلى جرسها مزيدًا من الحسن تباعد مخارج الحروف المجهورة في بناء الكلمات، فمن البيّن أنَّ قوة الإسماع للحروف مع تباعد مخارجها وتنوع صفاتها يزيدها حسنا واتساقًا. ? وهذا يُعين على حسن التغني والترتيل، فتقبل النفس على الاستماع إليها، وعلى ترتيلها، ولا سيّما حين تمتلئ النفس بالمشاعر، فتجد في رنينها وجرسها ما يلائم ما يعتمل في تلك النفس، فتستريح بالاستماع أو التلاوة وكان من فيض الرحمانية العليّة المقدسة أن فرضت قراءتها على كل مصلٍّ في كلّ ركعة يركعها، ليملأ نفسه بمغانيها ومعانيها، فكانت بحق سيدة وأعظم سورة في القرآن الكريم

*** (الايقاع) هو التواتر والتتابع بين كل متقابلين فى عالم المحسوسات، بل وفى عالم المعنويات. وهو فى عالم اللغة توالى الصّوائت والصّوامت وانتظامها وأطّرادها على نسق خاص، فأساسه كما يقول أهل العلم رجوع الظاهرة الصوتية على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة (1) والعربى بفطرته يعشق الإيقاع،ونشأته فى الصحارى الفسيحة جعلته معتمداً على أدراكه السمعيّ، فأصوات الرياح حين تهبُّ إيقاع تتلقفه أذنه الرهيفة، وحين يسكن الكون من حوله، يسمع خفق القلوب ووجيبها، ويسمع وقع الأقدام على الأرض وتوقيعها وهى على أميال عديدة، فهو ذو أذن واعية خفايا الهمس، فكان منطوق ألسنتهم متناغياً مع ما فطرت عليه آذانهم التى عشقت توقيع الأصوات، فاذا العربية لغة موزونة فى حروفها ومفرداتها وتراكيبها الفنية والموسيقية «فهى فى جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات لا تنفصل من الشعر فى كلام تألفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء.

_ (1) - ينظر: في الميزان الجديد لمندور: 223، كثرت عبارات أهل العلم وتنوعت في بيان مفهوم الإيقاع، وما يميزه عن الوزن الشعري من ذلك قولهم: هو " توظيف خاصّ للمادة الصوتية في الكلام يظهر في تردد وحدات صوتية في السياق على مسافات متقايسة بالتساوي أو بالتناسب لإحداث الانسجام، وعلى مسافات غير متقايسة لتجنب الرتابة ... " (في مفهوم الإيقاع – محمد الهادي الطرابلسي ص 12 حولية الجامعة التونسية - العدد -:32 – سنة 1991) نقلا عن 0 شعر غازي القصيبي: دراسة فنية – لمحمد الصفراني: 370-371- كتتاب الرياض العدد 107 «ويتسع مفهوم الإيقاع ليشمل كلا الأمرين: التناوب الصحيح المنضبط لعناصر متشابهة، أو التكرار الدقيق لنفس العناصر ... ) (ص 116 – الروافد المستطرقة بين جدليات الإبداع والتلقي لمحمد فتوح أحمد – مطبوعات جامعة الكويت1998

وهذه الخاصَّة فى اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعرضها وتفعيلاتها فى بنية القصيد» . (1) فالعربى ذو نفس طروب فى جوهرها تتجلى مطامحها وإنفعالاتها وإندفاعاتها فى تعبير موسيقى موزون (2) فإذا ما كانت العربية لغة موسيقية موزونة فى حروفها ومفرداتها فحروفها موزعة المخارج الصوتية توزيعاً موسيقياً وافياً فإنها فى نظم كلمات جملها أكثر اعتناء بالوزن والإيقاع، لأنهما دعامة البناء التركيبى للجملة فاذا التوازن بين العناصر الصوتية للجملة وافر باهر أيضًا على نحو لا تغفل عنه أذن واعية وقلب معافَى.. فالعربية فى أى أفق من آفاق البيان بها هى لغة الايقاع الحى المتجدد. *** قوانين الايقاع. يذهب أهل العلم بذلك إلى أن الايقاع تحكمه سبعة قوانين هى: النظام التغير التساوى التوازي التوازن التلازم التكرار. (3) هذه القوانين السبعة تعمل مجتمعة متلازمة لا متعاقبة فى انتاج الايقاع سواء كان صوتياً أو معنوياً، وهى قوانين تجتمع فى باب الانتظام والانسجام، فلن يكون هناك إيقاع لشىء إلاَّ إذا تكوَّن من أشياء عديدة منظمة منسجمة سواء كان هذا الانتظام تقابليا أو توافقيا، فإنَّ الانسجام والانتظام ينبثقان من بين المختلفات مثلما ينبثقان من بين المتفقات

_ (1) - العقاد اللغة الشاعرة للعقاد: 9 (2) - مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية- ص: 183- ترجمة: عبد الصبور شاهين –ط:1405- دمشق – دار الفكر. (3) - الأسس الجمالية في النقد العربي: عز الدين إسماعيل ص 122 – ط: (3) سنة 1974- دار الفكر العربي. بالقاهرة

وهذه القوانين السبعة مجملة فى بابين: (الانتظام والانسجام: تقابلا وتوافقًا) . الأشياء لا تكون منسجمةً الا اذا كانت منتظمة أما الاضطراب والتهوش، فهو جرثومة القبح فى كل شىء، وحين يكون الانتظام بين وحدات متكررة بينهما وجوه تناظر عديدة وبعض وجوه التغاير يتحقق الانسجام، فالتكرار المطرد المتلازم بين الأشياء المتنوّعةالمتلاقية من وجوه عديدة متساوية متوازية متوازنة يخلق فيها الانسجام والتناسب الذى هو معدن الجمال فى الأشياء. فكلُّ جميل إنما جماله من انسجام عناصره (مبنى ومعنى) فيما بينها ومن انسجامه هو مع وظيفته ومن ثم لا ترى شيئاً جميلاً فى كل مقام وحال وسياق. (1) . مجال الايقاع اللغوي. البناء اللغوي القائم في سياقه الممتد يرتكز على أساس من علاقة التناظر والتقابل بين عناصره الجزئية ووحداته الكلية، وهذا الأساس هو روح (الإيقاع) لأنه كما تبين نظام يعتمد التناوب بين العناصر والوحدات المتناسبة والمتشابهة مما يحقق لها خاصية التردد المتطهر من عوامل الملل. وهنالك نوعان كليَّان للإيقاع: إيقاع صوتي، وإيقاع معنوي. الإيقاع الصوتيّ ينشأ من أصوات الحروف والحركات فى الكلمة، ومن اختيار الكلمات ومن تنضييد الجملة من كلماتٍ، وما فيها من حركاتٍ ومدَّات منسُوقة، ومن منهج التَّركيب، ومواقع الكلمات، ومن طول الكلمات والجمل وقصرها، ومن مقاطع الجمل وفواصلها كلُّ ذلك روافد رئيسية يستجمع منها الإيقاع الصوتيّ. . وقد هدى " عبد القاهر" إلى أثر اختيار مواقع الكلمات فى عزف إيقاعات البيان وهو بصدد التقديم لباب "التقديم والتأخير" يقول:

_ (1) - تظاهرت أقوال كثير من أهل النظر والذوق على أن التناسب بين الأشياء هو اساس حسنها وجمالها، وذلك في الثقافات المختلفة:

«هو باب كثير الفوائد جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية لا يزال يفترُّ لك عن بديعة ويقضى بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر، فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدّم فيه شىء وحول اللفظ عن مكانه إلى مكان." (1) فى قوله: «يروقك مسمعُه» آية على أن التقديم والتأخير رافد من روافد الايقاع الصوتى للعبارة. وأبين من هذا ما تراه من تحليله لقول ابن المعتز: وَإِنّي عَلَى إِشْفَاقِ عيْنِي مٍِنَ العِدَا ... لتَجْمَحُ مِنّي نَظْرَةٌ تُمَّ أَطْرِفُ وقول سبيع بن الحطيم: سَالَتْ عَلَيْهِ شِعابُ الحَيِّ حِينَ دَعَا أنْصارَهُ بِوُجُوهٍ كالدَّنَانِيرِ فأبان أن ما تراه من الطلاوة والظرف والحسن والحلاوة والأريحية والنشوة إنما يأتيك من مواقع الألفاظ واختيارها واختيار هيأتها وما الطلاوة والحلاوة إلاَّ من حسن إيقاع الكلام. (2)

_ (1) - دلائل الإعجاز: 106- ط: شاكر (2) - السابق: 99 يمكنك أن تصغي إلى أصوات الغنة في البيت الأول (النون والميم) وتوزيع صوت العين في الشطر الأول منه، مضافًا إلى ذلك أصوات المد في هذا الشطر مما يحدث رنينا وتصويتًا عليّا في الأذن، يتلاءم مع ما يموج في صدر الشاعر وفي البيت الآخر تصغي إلى أصوات الحاء والعين والمد، مما يبعث جهارة الرنين، وقد وزعت الأصوات توزيعًا متساوقًا، فاستمع إلى المد وموقعه في (سالت، شعاب، حين، دعا، انصاره، بوجوه، كالدنير، وهذا المد يمنح نفس المترنم امتدادًا كامتداد سيلان أنصاره = = المُشْرِق في النَّفس بهجةً، وهذه العين الموغلة بجهارتها في الحلق والأذن أيضًا تمكن النغم في نفس المتلقي، وقد وزعت على مساحة الترنّم في الشطر الأول، فالسكون الذي في (تاء) سالت، وما فيها من همس يمهد لانطلاق العين في (عليه) ، ثُمّ الكسرة بما فيها من جهارة وخفض تستريح النفس معه تمهد لصوت العين المردف بالامتداد، وكأنّه يصور لك امتداد هذه الشعاب، وتأتى كذلك الفتحة من قبل العين المردوفة بما هو من جنس ما قبلها (الفتحة والألف) في (دعا) كل ذلك حين تصغي إليه يقيم في قلبك تناغما مبهجًا يصور لك بهجة إقبال أنصاره عليه بوجوه كالدنانير، وقد ساعد على ذلك نظم البيت، فانظر كيف قدم قوله (عليه) ، وقدم الظرف (حين) وأخر المتعلق بسال (بوجوه..) ، وكيف أنه أسند الفعل (سال) إلى الشعاب، وكيف أنَّه أضاف الشعاب إلى الحيّ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من فيض الحركة المتساوقة مع الحركة في سالت، وهي حركة حياة اشتق منها قوله: (الحيّ) وغير هذا لا يخفى عليك في البيت.

فاذا أنت نسجت كلمات البيت نسجاً آخر لا يخرج على قواعد النحو من نحو (سالت شعاب الحى عليه بوجوه كالدنانير حين دعا أنصاره) كما يقتضى ظاهر البناء اللغوي، فقد ذهب الذى كنتَ تجد من حسن وحلاوة وأريحية ونشوة، وفى هذا دلالة على أنَّ النَّظم وإن كان عمود بلاغة الكلام، فإنَّه أيضاً معه إيقاعٌ جالبٌ حسناً وحلاوة ونشوة واريحية. وأنت تجد مثل هذا ظاهرًا في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ* حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) (القمر:4-7) تدبَّر هذا النسق الصوتي البادي في فواصل الآيات، وكيف أن فواصل الآيات معتلقة تركيبيًّا بما قبلها وما بعدها،ولو أنك أردت في غير القرآن أن تنسقها كما يقضي ظاهر النظم لقلت: (يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) وستجد أن فيضًا من المعاني النفسية قد ضاع، وفقد البيان رونقه وبهاءه، وأنت لم تفعل غير أنك أقمت الكلمات والجمل مقاماتها التي يقتضيها ظاهر أصل النظم، فحقَّ أنَّك وجدت سبب أن راقك ما في النظم القرآنيّ ولطف عندك أن قدّم فيه شىء وحول اللفظ عن مكانه إلى مكان، كما يقول الإمام.

ومن ثَمَّ يَجْمُلُ بنا ألاَّ نقصرَ أثر نظم البيان العالي فضلا عن العَلِيِّ على الأثرِ الموضوعِيّ المتعقِّل الذي يمكن إدراكه وضبطه ووصفه والإبانة عنه، بل علينا – فريضة تدبّريّة تذوقيَّة – أن نجمع إليه الأثر الانطباعيّ الذي نشعر به وندركه، ولا نضبطه، ولا نتمكن من وصفه، والإبانة عنه كالأثر النفسيّ الذي ندركه من خلال جرس الكلام وإيقاعه، وهو لا يقلّ أهمية في تحقيق التثقيف النّفْسِي للمتلقي الأثرَ الموضوعيّ المتَعَقّل. وهذا ما يمكن أنْ تدركه من العدول الموقعيّ لبعض عناصر البنية اللغوية للخطاب كما سبق بيانُه، فليس بلازم حصر أثر ذلك العدول في الأثر الموضوعِيّ المتعقَّل من نحو توكيد أو تخصيص ... إلخ بل قد يصاحب هذا أثر نفسي انطباعي قد يكون أظهر وأسرع إدراكًا من الأثر الموضوعِيّ المتعقّل. وإذا ما كان علينا الأَّ نرغبَ عن القولِ به لأنّه حقيقة قائمة في البيان، فعلينا ألاَّ نجزم بأنّه أثرٌ أجرد، لايصاحبُ أثرًا موضوعًا متعقَّلا، لأنّ البيان الذي نحن بصدده بيانٌ وصفه المكتلم به بأنه كريم مجيد. وقد جاء عن "الزمخشري " فيما نُقِلَ عن كشافه القديم قوله: «لاتحسنُ المحافظة على الفواصل لمجردها إلاَّ مع بقاء المعاني على سردها، على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتآمه، فأمَّا أن تهمَل المعاني،ويهتمّ بتحسين اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مؤداه، فليس من قبيل البلاغة» (1)

_ (1) - الإتقان في علوم القرآن للجلال السيوطي – تح:محمد أبو الفضل إبراهيم ج3/ 313-314 – ط: المشهد الحسيني بالقاهرة

وهذا ليس تقليلا من شأن الأثر النفسي الذي يتولد من مراعاة الفواصل بل هو تعظيم لمكان البيان القرآني العَلِيّ، فالأعلى أن نشير إلى أنَّ إدراكنا للأثر النفسيّ للجرس والإيقاع أظهر وأقرب وآنس للنفس، وأنّه قد يكون لمتفرّسٍ نفوذٌ إلى ما لم ندرك من الأثر الموضوعيّ المتعقل المصاحب له في لطف. ومن هنا ندرك أيضًا وجها من مقال غير قليل من أهل العلم بالبيان بأنَّ الحذف لمراعاة الفاصلة، وأن التقديم لذلك على نحو ما جاء عن " الشمس بن الصائغ " في كتابه " إحكام الراي في أحكام الآي " من أنّ المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية، يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول (1)

_ (1) - السابق: 3/ 296 لست هنا بصدد دراسة بلاغة الفواصل القرآنية ختَّى أستوعب لك كثيرًا مما جاء عن أهل العلم في هذا ونقده: تفسيرًا وتقويما، وإنَّما قمت لأشير إلى بعض المعالم على الطريق لتبصر فتغدو، ولولا هذا لكان للقول متسعًا، وثَمّ دراسات غير قليلة في شأن الفواصل القرآنية والسجع، ولاسيما ما يتعلق بذلك من التنغيم والتوقيع من تلك الدراسات ما جاد به الأستاذ على الجندي في سفره الجامع النافع (صور البديع: فن الأسجاع) طبعة دار الفكر العربي، ولا سيما الجزء الثاني منه، ومقال الشيخ " عبد الرحمن تاج ": (السجع وتناسب الفواصل) في مجلة مجمع اللغة العربية العدد (36) 1395، وكذلك كتاب (الفاصلة في القرآن) لمحمد الحسناوي: ط: المكتب الإسلامي بيروت، فقد عقد فصلا لإيقاع الفاصلة القرآنية، وبسط القول في هذا، وكتاب (الفواصل القرآنية: دراسة بلاغية) للدكتور السيد خضر- نشر مكتبة الإيمان بالمنصورة

وقد جاء عن ابن الأثير أن التقديم في قول الله - عز وجل -: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5) لمكان نظم الكلام ولمراعاة حسن النظم السّجعي (1) الاقتصار على هذا الأثر النفسي للقيم الصوتية في البيان القرآني غير عَلِيّ القول به بل هنالك ما يصاحبه من الأثر الموضوعيّ المتعقل الذي لا يخحسن البتة الغفلة عن صحبته له، وغن كان لطيفًا في بعض المقامات. *** وأما النوع الثانى: إيقاع المعاني فإنَّ ذلك بادٍ فيما يكون بين معانى المفردات فى العبارة وبين أنماط التراكيب فى الجمل، وما بين الفصول والمعاقد من توازٍ وتقابلٌ، وترديدٌ، وذلك فى العربية ظاهرة شائع، وهو فى القرآن الكريم جد بديع، فقد وصفه الله - سبحانه وتعالى - بأنَّه كتاب متشابه مثانٍ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23) (2)

_ (1) - المثل السائر لابن الأثير - تح: محيي الدين عبد الحميد:2/36- المكتبة العصرية بيروت (2) - بنيت هذه الآية على نهج بديع رفيع: بني الخبر الجملة الفعلية (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) على اسم الجلالة فدلّ على تأكيد وقوع الخبر من المخبر به عنه، ودلّ على أن السياق للحديث عن المخبر عنه - جل جلاله -، وأنَّ من جليل ما يخبر عنه إنزال أحسن الحديث، فهذا الخبر مناط عناية منسولة من العناية بالإخبارعن الله = = ولو أنّه قيل: نزّل الله أحسن الحديث، لكانت العناية منوطة بغير ما هي منوطة به فيما جاء به البيان القرآني. ويأتي قوله (أحسن الحديث) مبرزًا وصف الإحسان الحامل إلى القلب معنى الأفضلية من جهة صيغته، ومعنى التفضّل من جهة مادته، كما سبق أن أشرت إلى معنى الحسن. ويهدي البيان بقوله (الحديث) إلى تلاحظ هذا النعت مع قوله (نزّل) ، وهذا ما يكشفه لك ويقربه إلى قلبك أو يودعه فيه قول الله - عز وجل -: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الاسراء:106) فانظر قوله (فرقناه) وقوله (على مكث) وقوله (نزلناه تنزيلا) سمَّاه (حديثًا) لا من أنَّه محدثٌ القول به، بل هو حديث إنزال من السماء الدنيا إلى الأرض كلمَّا نزل بالناس في عصر المبعث نازلة نزل فيها بيان الهدى من القرآن الكريم، فجاء قوله: (كتابًا) كانه احتراس مما قد تضل بعض القلوب، فتحسب أنّه لا يجمعه جامع يقيم آياته وسوره المنزلة على مكث، فإذا هوأمشاج وأخلاط، لا تنتسب، فقال (كتابًا) ، ونعت هذا الكتاب بالذي هو أحسن الحديث بنعوت مهمة جدًا تكشف عن حقيقة ونعت هذا الكتاب الذي هوأحسن الحديث: مُتَشَابِهاً - مَثَانِيَ - تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ - ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ هذه النعوت الأربعة الأول والثاني منها: (متشابها مثاني) كالسبب، والثالث والرابع: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) كالمسبب، كونه متشابها ومثاني يثمر اقشعرار قلوب الذين يخشون ربهم، ولين قلوبهم وجلودهم. التشابه يشير لى نعت التوازن والتوازي الحسي والمعنوي في البيان القرآني، وهذا ركن عظيم من أركان الإيقاع الحسي والمعنوي الذي نشعربه في ترتيلنا، وإن عجزنا أحيانا كثيرة عن عقل وضبط ما نشعر به، فيملأ قلوبنا بجلاله مما يفيض على جوارحنا وجلودنا، فتقشعر رهبة من جلاله الذي أثمرته الخشية (الخوف عن علم) فإذا ما قمنا في تلك المنزلة العلية من استشعار الجلال والرهبة أنشرحت الصدور، ففاض النور من ربنا، فتلذذت قلوبنا وجورحنا وجلودنا، فلانت من قسوتها التي كانت عليها من قبل. والتثنية المقرونة بالتشابه تشير إلى نعت التصريف المبني على التنوع المقيم حجازًا بين النفس والملل، فلا تشبع منه العلماء، فالتثنية التي لا تقوم على التكرار الأجرد ركنٌ عظيم من أركان الإيقاع الحسيّ والمعنوي الذي نستشعره في البيان القرآني. وممَّا يقوله أهل العلم في معنى (مثاني) أن التثنية أن «تثنّى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق ففي وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يمل من تكرار، وترداد قراءته وتأمله واعتباره مع أنَّ جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده: المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم والشقاء، والضلال والهدى، والسّراء والضّراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيءٍ من ذلك جزاء صريحًا إلاَّ ثُنّي بإفهام ما لضدّه تلويحًا، فكان مذكورًا مرتين، ومرغبًا فيه أو مرهبًا منه كرّتين ... » (نظم الدرر للبقاعي: 6 / 438) الآية زاخرة بالمعاني الإحسانية، ومما يزيدك اقترابًا من الشعور بها أن تنظر في الآية السابقة عليها (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر:22) وعلاقتها بها.

يمثل الترديد وتصريف المعاني مظهرًا من مظاهر إيقاع المعاني في القرآن الكريم،وهو يحدث في القلب نشوة وبهجة كالتي تحدث من سماع الإيقاع الصّوتِي، وأكثر ما ترى هذا في تصريف الدلالة على المعنى الواحد كما تراه في الدلالة عليه بالمنطوق حينًا وبالمفهوم والتلويح حينا والتصريح حينًا آخر، فيعرض عليك المعنى أكثر من مرة في أكثر من معرض ليتمكن في قلب المتلقى وهذا يكثر في المعاني الرئيسة في باب العقيدة والشريعة. (1)

_ (1) - عقد " أبو الحسن الحرَالّيّ " (ت:638) الباب الثاني من كتابه القيّم (مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب المنزل) لبيان منهج القرآن الكريم (في الجمع لنبأي الإفصاح والإفهام) مقررًا:" أنَّ الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن مثانيَ بين إجمال وتفصيلٍ، وبين إفصاح وإفهامٍ يفهم نبؤه عنه – تعالى – إفصاحًا نبأه عن عبده إفهامًا، لمقابلة ما بين العبد والربّ، ويفهم نبؤه عن عبده إفصاحًا نبأه عنه – تعالى – إفهامًا، وكذلك فيما بين دنيا العبد العاجلة، والأخرى الآجلة، وكذلك فيما بين هداه وإضلاله، وفتنته ورحمته، وكلّ متقابلين من خلقه وأمره، وكذلك فيما بين آيات الاعتبار من أمر الخلق، ومعتبراتها من أمر الحقّ، ولا يكاد هذا النحو من البيان يقع شيءٌ منه في بيان الخلق ولا بلاغتهم إلا نادرًا لمقصد اللحن به والإلغاز بإفهامه "

ومن إيقاع المعاني ماتراه فى ما بينها من تقابل وتناظر وتوازن وتكافؤ ورد عجز على صدر معنويّ وجمع وتفريق وتقسيم إلى آخر تنسيق المعاني ومراعاة النظائر ونسج المتقابلات في إطار الجملة والمعقد والسورة، بل إنَّ سورًا كاملة قامت على نهج التوقيع المعنويّ التقابليّ على نحو ما تراه فى سورة (محمد) وفى سورة (الحديد) أو منهج التوقيع المعنويّ التناظريّ كما تراه فى ما بين معاقد سورة (النحل) ، وما تراه من العموم الخصوص بين سورتي (النحل) و (الإسراء) فإنّ العلاقة بينهما كمثل العلاقة بين اسمية - جل جلاله -: (الرحمن، الرحيم) ، فالنحل منسولة من اسمه (الرحمن) و (الإسراء) منسولة من اسمه (الرحيم) التحليل البيانى لإيقاع السورة القرآنية يعمد إلى النظر فى نوعى الإيقاع الصوتي والمعنويّ على السواء فانَّ أحدهما ليس أضعف أثراً من الآخر فى إنتاج المعني القرآنيّ فى قلب المتلقي، وإن يكن إدراك أثر الإيقاع الصوتي فى ذلك أسرع من إدراك أثر الإيقاع المعنويّ فإنّه قد يكون ألطف حين يدق، فيحتاج المرء معه إلى مزيد إعتناء ولقانية وخبرة ودربة. . الجرس والايقاع في الأساليب البلاغية. الناظر فى أساليب البيان العربى يدرك فيها جليا قوانين الإيقاع المدرجة فى باب الانسجام، وأكثر ما تجد هذا فى ما يعرف بضروب البديع سواء ما كان منها معنوياً أو لفظياً. ترى ذلك فى أسلوب المطابقة بنوعيها: (الإفرادية: الطباق) و (والتركيبية: المقابلة) فهو أسلوب يعتمد على الإيقاع بين المعانى سواء بين المفردات أو الجمل أو الآيات أو المعاقد والفصول بل إنَّك لترى توقيعاً تقابلياً بين سور القرآن الكريم كما بين سورة (النساء) وسورة (المسد) .

وترى ذلك فى أسلوب مراعاة النظائر والتناسب وهو فى القرآن الكريم كثير لا تراه فى الكلمات، فحسب بل يمتد إلى الجمل والآيات فى السورة بل بين المعاقد فى السورة الواحدة، كماتراه بين المعقد الأول والثالث من سورة (النحل) (1) بل تراه بين السورتين كما تراه بين سورة (آل عمران) و (البقرة) من وجه وبين (آل عمران) (الاخلاص) من وجة آخر، وما تراه بين (الطواسيم) وبين سور (الحواميم)

_ (1) - الآيتان الأوليان هما مطلع التلاوة في سورة النحل، ليبدأ المعقد الأول من الآية الثالثة: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل:3) وينتهي بقوله - عز وجل -: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (النحل: من الآية22) ويبدأ المعقد الثالث بالآية الخامسة والستين: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (النحل:65) لينتهي بالآية التاسعة والثمانين: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89) فالايقاع المعنوي بين المعقدين قائم على التناظر والتشابه، والنظرة والعجلى تكاد تحسب أن آيات المعقد الثالث كأنَّها تكرار لما جاءت به آيات المعقد الأول، ولكنَّ التبصر يهدي إلى أنَّ ذلك من قبيل تصريف البيان، وليس من التكرار، وتصريف البيان هو من قبيل إيقاع المعاني، والتكرير من قبيل إيقاع الأصوات.

وتراه جلياً فى أساليب المزاوجة والجمع والتفريق واللف والنشر وفى التقسيم وفى المشاكلة وغير ذلك كثير من ضروب البديع فى المعانى فهى قائمة على دعائم الانتظام والتكرار والتماثل أو التغاير أو هما معاً من وجهين مختلفين..........الخ بل أنت لا ترى هذا الإيقاع المعنوى فى أساليب البديع المعنوية فحسب بل تراه أيضاً فى كثير من قضايا النظم وبناء المعنى: تراه كما سبقت الإشارة فى التقديم والتأخير وتراه فى الفصل والوصل ولا سيما تتابع الصفات أو الجمل والآيات، فهو فى صورته المعنوية واللفظية جد ظاهر، وتراه فى التكرار وفى تصريف الآيات. والايقاع الصوتى تراه جليا فى كثير من أساليب البديع اللفظى: تراه فى الجناس بجميع صوره، وما هى إلاَّ صور لتغاير إيقاع الكلمات سواء التام والمحرَّف والناقص واللاحق والمضارع والمزدوج والمقلوب وتراه فى السجع بجميع صوره التي لا تتناهى، وتراه جد ظاهر فى فواصل الآيات وفى رد المقاطع على المطالع. فريضة – إذن - على المتدبِّر البيان القرآني الساعي إلى فقه المعنى القرآني في سياق السورة أن يكون مَهْمُومًا بالنظر والتبصر والتدبر لمعالم الإيقاع المعنويّ والصوتيّ في كل تلك الأساليب. وجملة الأمر أن التحليل البيانيّ للايقاع يتناول كثيراً من أساليب البيان فى القرآن الكريم سواء ما أدرجه العلماء فى ما سمى بعلم المعانى أو البيان أو علم البديع. (1)

_ (1) - مما ينفع طالب العلم في هذا ما جاء نا به الدكتور: تمام حسّان في كتابه: (البيان في روائع القرآن: دراسة لغوية وأسلوبية للنصّ القرآنيّ) ط: عالم الكتب - 1413 – القاهرة،ولاسيماالفصل الأول: (القيم الصوتية في القرآن الكريم وأثرها في المعنى) من القسم الثاني من الكتاب: (دراسات أسلوبية) فقد نظر في الإيقاع والفاصبلة والحكاية والمناسبة الصوتية وحسن التأليف، وهو خبير بذلك، وذو حسن مرهف بإيقاع الأصوات وحركته في نسيج العبارة وكذلك مما ينفع طالب العلم ما جاءت به الدكتورة: ابتسام أحمد حمدان في كتابها (ألأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي) ط: دار القلم العربي سوريا 1418 وهي دراسة في إيقاع الشعر في كافة الأساليب، وقد جعلت كتابها من خمسة فصول: الإيقاع – الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي – إيقاع علم المعاني – إيقاع علم البيان – إيقاع علم البديع.

فكما أنَّ التَّحليل يتناولُ قيمة هذه الأساليب فى بناء المعنى وتصويره، فإنَّه يتناولها فى تحبيرها بما فيها من توقيع صوتى أو معنوى يتناغى مع توقيع خفقات القلوب والأنفاس ودفقات الدماء فى العروق. . التفكير البلاغيّ والصورة الصوتية للمعنى. (1) يحسن أن نستهل ذلك بكلمة عَلِيَّةٍ قالها " أبو زكريا: يحيي بن زياد الفراء" (ت: 207) عند نظره في قول الله - عز وجل -: في سورة " النازعات " {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) . جاء قوله - جل جلاله -: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} متفردًا في قراءة أهل المدينة والحجاز والبصرة بزنة (فَعِلة) ، وجاءت قراءة عامة قراء الكوفة على زنة: (فاعِلة: ناخِرة) مشاكلة للفواصل قبلها.

_ (1) - أريد بالتفكير البلاغيّ هنا منهج التدبرالبلاغيّ، وليس بلازم أن يكون صاحبه من البلاغيين المختصين بذلك العلم كعبد القاهر والسكاكي وتلاميذه. منهج التدبر البلاغي المعنى بالبحث عن المعنى في صورته ومنهاج تركيب مبانيها ومغانيها وسياقاتها القولية والمقامية تجده – أيضًا - في غير أسفار البلاغة كمثل ما تراه في كتب التفسير وعلوم القرآن الكريم.

يبين "الفراء" أنَّ "عمر بن الخطاب " - رضي الله عنه - قرأ (ناخرة) ، وأنّ بن عباس - رضي الله عنه - قرأ (نَخِرَة) و (ناخِرة) ثُمَّ يقول عن (ناخرة) إنَّها" أجود الوجهين في القراءة؛ لأنّ الآيات بالألف. ألا ترى أنَّ (ناخرة) مع (الحافرة) و (السَّاهرة) أشبه بمجيء التنزيل، و (الناخرة) و (النخرة) سواء في المعنى بمنزلة "الطَّامع" و" الطمع" و"الباخل" و"البخل" وقد فرَّق بعض المفسرين بينهما، فقال: (النخرة) : البالية، و (الناخرة) : العظم المجوف الذي تمرّ فيه الريح، فينخر " (1) لتنظر في قوله: «أجود الوجهين في القراءة؛ لأنَّ الآيات بالألف ... » فهذا منه إعلاء لعطاء التوافق في إيقاع النغم في الصورة الصوتية للآيات وقد يحسب ناظر أنَّ هذا من ردّ القراءات أو المفاضلة بينهما والقول بالتفاوت في بلاغة القرآن الكريم. لو نظرت في مقال " الفراء" لرأيت أنّه يقول: «أجود الوجهين» فهو لم يحكم بصحة أحدهما هنا دون الأخر بل قرر أن قراءة (ناخرة) أجود بفيوض المعنى على القلب من قراءة (نخرة) أي أن الصورة الصوتية لقراءة (ناخرة) يتوافد منها على القلب من المعاني أجودها بما حملته من الانسجام في الجرس والإيقاع. وهذا ما لا يمكن أن تدفعه، ولا سيّما أنّه يذهب إلى أن المعنى المتعقّل من (ناخرة) و (نخرة) سواء، فلم يبق إلا ما يتوافد عليك من الأثر الانطباعي من الصورة الصوتية المتناغية مع ما سبقها وما تلاها. *** والتفكير البلاغيّ قد ظهر تدوينه المصنّف على يدي " ابن المعتز ".

_ (1) - الفراء: معاني القرآن: تح عبد الفتاح إسماعيل شلبي ج 3 ص231 – 232 – ط: دار السرور. وانظر معه تفسير الطبري (جامع البيان) ج 12 ص 461- دار الغد العربي.

وكان مبعثه إلى ذلك ما شاع في عصره من العناية بالقيم الصوتية: جرسًا وإيقاعًا، حسبان بعض طلاب العلم أنَّ ذلك مستحدث لم يكن لأهل البيان من قبل عناية به أو عرفان، فخشي "ابن المعتز" من قيام ذلك الحسبان أن ينصرفوا عنه تذوقًا وعرفانًا فأقام كتابه (البديع) وهي تسمية عالية ذات دلالة على مضمون الكتاب وغايته، صدره بالنظر في خمسة فنون بديعية: اثنان هما أصل عظيم من أصول التصوير الصوتي للمعاني عن طريق الجرس والإيقاع: الجناس ورد الأعجاز، ولو أنّ كتابه في الشعر والنثر معا لجعل السجع ضميم الجناس ومن قبله الجاحظ كانت عنايته بالتصوير الصوتي، وأثر الجرس والإيقاع في الإبانة العلية عن المعاني ظاهرة في تفكيره البلاغي والنقديّ: تسمعه في شأن اللفظ وما به يتحقق له قدره في بناء البيان العالي: «متى كان اللفظ كريمًا في نفسه متخيرًا من جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد حُبِّبَ إلى النّفوسِ واتصل بالأذهان والتحم بالعقول، وهشّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفَّ على ألسن الرّواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره ... » (1) وإذا ما جاء " الرمانيّ " فإنّه يجعل من الأقسام العشرة للبلاغة عنده ثلاثة من التصوير الصوتي: التلاؤم والفواصل والتجانس. والتلاؤم عنده " تعديل الحروف في التأليف " «والمتلائم في الطبقة العليا القرآنُ كلُّه، وذلك بيّن لمن تأمّله ... والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع وسهولته في اللفظ، وتقبل المعنى له في النفس لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة» (2)

_ (1) - الجاحظ: البيان والتبيين– تح: هارون: 2 / 8 (2) - الرماني: النكت في إعجاز القرآن ص94-96 (ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) تح: خلف الله وزغلول سلام – ط: دار المعارف 1387

وهذا يزداد قدره عندك باستحضارك معنى البلاغة عنده:" إنَّما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ " (1) وهو يوجوب مشاكلة الحروف في مقاطع الكلام ليتحقق حسن إفهام المعاني، فتكون المشاكلة حينئذٍ بلاغةً، وإلاَّ كانت عيبًا، ولذلك يقرر أنَّ تشاكل الحروف في مقاطع الكلام في القرآن الكريم كلَّّه بلاغة وحكمة؛ لأنَّ هذه المشاكلة طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدلّ بها عليها (2) وهذا الذي نصّ عليه " الرماني " أصلٌ في القيم الصوتية لأيِّ بيان عالٍ بله البيان العَلِيّ المعجز. وقد يترامى إلى غير متفرس أنَّ " عبد القاهر" مُعْرِضٌ نافرٌ من النظر في هذا الأثر، أو أنّه مُسْتَخِفٌ به،ولكن الأمر على غير هذا يقول شيخنا: " عبد القاهر لم يَنْفِِ أن يكون السّجع والجناس من القيم البلاغية مع أنهما مؤسَّسان على الأصوات، والأنغام، وإنَّما أكَّد ضرورة أن تكون الأصوات والأنغام هي أصوات وأنغام المعاني ساقت إلى الجناس والسجع، وحينئذٍ تكون القيم الصوتية داخلةً في صُلب الصياغة والدلالة، وأنّه لاسبيل إلى الإبانة عن المعنى إلا بهذا السجع أو هذا الجناس ... ولا أتصور أن يكون عبد القاهر وهو من هو في الحسّ باللمحة الدَّالّةِ قد أنكر هذه القيم الصوتية في بيان العربية؛ لأنَّها جزء من جوهر بلاغة هذا اللسان، ليس في الشعر فحسب، وإنَّما في النثر أيضًا ... وأهم من كل هذا القرآنُ الكريم الذي ذكر "الرّمَّاني" أنَّ التلاؤم فيه وهو النّسق الصوتي لا غير وجْهٌ من وجوه إعجازه» (3)

_ (1) - السابق: 75 (2) - السابق: 97-98 (3) - شيخنا: مدخل إلى كتابي عبد القاهر: 70 - 71 - ط: ثانية – مكتبة وهبة.

وقد يستحضر وَعْيُك قولَ " عبد القاهر" في تعيين مناط مزية البيان البليغ: «إنّها ليست له حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك وتُعمل رويَّتك، وتراجع عقلك، وتستنتجد في الجملة فهمك» (1) فيقوم فيه أنَّ الإمام ينفى أن تكون القيم الصوتية في بناء البيان مناطا لمزيته. يعصمك من ذلك الحسبان أن تعيد النظر في مقال عبد القاهر: هو يقول «إنّها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك» يبيّن لك أن وسيلة إدراك المزية ليس الأذن فمن سمع فقه، فيتساوى السامعون في إدراك المزية متى تساووا في السمع، وإن تفاوتوا في الطبع والثقافة، كلاَّ. لايكون. هو يبين لك أن المزية تظهر لك حيث تنظر بقلبك، وهذا لايتساوى الناس فيه والقلب إذ ينظر لا ينظر إلا في المعاني وفي صورها وما تشكلت منه تلك الصور،ومنها القيم الصوتية على تنوعها، وفي مناهج دلالة الصُّوَرِ على معانيها، وليس حسنا التغافل حينئذٍ عن ما قرَّرَه في (إسرار البلاغة) من العلاقة بين السجع والجناس في تشكيل صورة المعنى، واقتضاء المقام والغرض المنصوب له الكلام لهما، فإذا لم ينزل البيان على ما اقتضاه المقام والغرض كان ذلك من عقوق المعنى. فعبد القاهر كما يقول " شيخنا ": «لمَّا ذكر "الجناس" اجتهد في أن يستخرج له سريرة معنوية يرجع إليها حسنه، ولم أعرف أحدًا قبل " عبد القاهر" حاول أن يجد تفسيرًا معنويًا لهذا الفنِّ الذي هو صوتٌ وجرسُ، ولكنّ " عبد القاهر" بتغلغله وإيغاله حاول أن يلتقط أطياف معاني هذا الرنين، ولم يذكر ذلك أحد بعده إلاَّ من شاموا كلامه، وراموا روْمه» (2)

_ (1) - دلائل الإعجاز: 64 (2) مدخل إلى كتابي عبد القاهر: 116

إنك إذا ما استرجعت تبيان عبد القاهر مقومات تمام بلاغة الخطاب، وتقريره أنها حسن دلالة الكلام على معناه وتمام هذه الدلالة وتبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحقّ بأن تستولي على هوى النفس وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد وتطيل رَغْمَ الحاسد" فإنَّه لا يبقى لديك شكٌ في إعلاء " عبد القاهر" القيم الصَّوتيَّة في تشكيل الصورة الدّالة على المعنى دلالة حسنة تامّه، ولهذا تراه يُعْنَى كثيرًا بأمر اللفظ الذي هو لبنة بناء الصورة الدّالة على المعنى دلالة حسنة تامة، فيوجب أن تختار اللفظ الذي هو أخصّ بالمعنى، وأكشف عنه، وأتمّ له، وأحرى بأن يكسبه نبلاً، ويظهر فيه مزية. (1) وأنت إذ تنظر في معجم المصطلحات البلاغية التي نشأت في التفكير البلاغيّ المتقدم فضلا عن المتأخر تجد أن غير قليل منها منسول من منهاج العلاقات الصوتية بين مكونات مباني المعاني، فلم يكن أولئك العلماء قديمًا وحديثًا يكتفون بأن تكون مباني المعاني جرداء بل يعلون استحالة المباني إلى مغانٍ حسنة الدلالة على المعاني وحسن دلالتها ذو روافد عديدة منها حسن نسقها الصوتي، ولست أحسب أني مفتقر إلى أن أُعَدِّدَ هنا شيئًا من تلك المصطلحات وما يندرج من تحتها من البيان العألي البديع شعرًا ونثرًا والبيان العَلِيّ المبلس والمعجز: قرآنًا وسنة، فالأمر أجلى ظهورًا من الشمس المشرقة. مجمل القول: إنَّ التفكير البلاغيّ قديمًا وحديثًا قد كانت له عناية كريمة بالقيم الصوتية المكونة من الجرس والإيقاع على اختلاف مساحتهما ومنهاجهما، وكانت عنايتهم به مَنْسُولَةً من عنايتهم بالمعاني وصورها ومناهج الدلالة عليها ومسالكها إلى النفوس حاملة إليها تلك المعاني، ولعلَّ تبيان "الرمّاني" جوهر البلاغة بقوله:" إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" يسلك تلك الحقيقة في قلبك ويقررها فيه.

_ (1) ينظر دلائل الإعجاز:42

*** ومن أشياخ عصرنا من غير البلاغيين الذين عنوا بتقرير أهمية التناسق النغمي وأثره في بلاغة القرآن الكريم وإعجازه " مصطفى صادق الرافعي" فيما بثه في سفره القيم (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) : وهو في تدبره وتأويله ينزع من حقيقة أنَّ القرآن الكريم " وجود لغويّ ركّب كلّ ما فيه على أن يبقى خالدًا مع الإنسانية، فهو يدفع عن هذه اللغة العربية النسيان الذي لا يدفع عن شيءٍ، وهذا وحده إعجاز، ثُمَّ هو لن يكون كفاءَ ذلك،ولن يقومَ بهِ إلاَّ إذَا كانَ معجِزًا أهلَ اللغةِ جميعًا، فتذكرُ به اللغةُ، ولا يُذكرُ هو بها، وبذلك يحفظها؛ إذ يكون في إعجازه مشغلةَ العقل البيانيّ العربيّ في كلّ الأزمنةِ، يأتي الجيلُ من النّاسِ،ويمضي،وهو باقٍ بحقائقه ينتظر الجيل الذي يخلفه ... " (1) وهذه الحقيقة الكبري توجب على العقل البياني في كل جيل أن يمنح أوًل ما تركب منه البيان القرآني إدراكًا (جرس وإيقاع كلماته في إفرادها ونظمها) بعضًا من عنايته تدبرًا وتذوقا. وهذا ما قام بشيءٍ منه الرافعيّ فعقد بابًا لنظم القرآن بأبعاده الثلاثة: نظم الحروف،ونظم الكلم، ونظم الجمل فإنَّ " سرّ الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها بحيثُ خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به، فليس لنا بدّ في صفته من الكلام في ثلاثتها جميعًا " (2) يعمد إلى الحروف وأصواتها،وهو يبيّن أن العرب حين سمعت القرآن الكريم لفتها أوَّل ما لفتها إليه جرسُ حروف كَلِمِه وإيقاعها «رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانا لغوية رائعة، كأنَّها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة قراءتها هي توقيعها " (3)

_ (1) - الرافعي:إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: 12 ط: 1389- المكتبة التجارية الكبري بالقاهرة (2) - السابق:238 (3) السابق: 243

فالجرس والإيقاع هو أول ما يسترعي انتباه المستمع، وإن لم يستطع لظلمة جهالة أو عجمة أن يدرك شيئًا من المعنى المتعقّل، ولها تجد العامة ممن لا يعرفون من علم العربية شيئًا يرغبون في الإصغاء إلى الترتيل الحسن، وقد ينفعلون لتوقيعه انفعالا قد لا يتجاوب مع ما يحمل هذا الإيقاع من المعنى المتعقل، فتراه يهتف بكلمة الإعجاب في مقام ترهيب وإنذار تنخلع له قلوب العارفين،وما هو بالذي هتف إعجابا لما تضمنه من ترهيب وإنذار، فهو به جهول، وإنما هتف لجرسه وإيقاعه، وذلك ما يدركه حسه الفطريّ. فهذا من وجوه الحسن في النظم القرآنيّ لأصوات حروفه وكلمه، وفوق هذا يدرك من يملك نصيبًا من العرفان بأسرار البيان أنَّ القرآن الكريم قد: تألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو بدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللا بيّنًا أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن وجرس النغمة،وفي حسّ السمعِ وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة، وبراعة المخرج،وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة في السمع كالذي تنكره من كلّ مرئيّ لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق علىطبقاتها، وخرج بعضها طولا، وبعضها عرضًا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة» (1) يترامي إلى قلبك أنَّها منسول من عبارة " الخطابي" في " بيان إعجاز القرآن " إذا ما اتسعت قراءتها: قضى بأن وضع الكلمة في غير موضعها قد ينتج منه تبدل المعنى المتعقل الذي يكون منه فساد الكلام، وقد ينتج ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة (2)

_ (1) - السابق: 247 (2) - الخطابي: بيان إعجاز القرآن: 29 – (ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)

رونق الكلام - كما لايخفى عليك – صفاؤه، وصفاء الكلام يبدو في ما يلقاك من جرسه وإيقاعه في نظم حروف كلمه ونظم كلم جمله (1) فذهاب صفاء الصورة الصوتية: جرسًا وإيقاعا من تبدل حرف أو كلمة قد ينتج منه سقوط بلاغة الكلام، وهذا ما يتبين لك منه أنَّ " الحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه؛ لأنّه يمسك الكلمة التي هو فيها ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة. وهذا هو السرّ في إعجاز جملته إعجازًا أبديًا، فهو فوق الطبيعة الإنسانية، وفوق ما ينتسب إليه الإنسان ... " (2) وهو إذ يبين لك نسق أجراس الكلم وإيقاعها في نظم الجملة يرشد إلى أنَّ المعنى في بيان البشر يقوم في النفس، فيصطفي الطبع لها من الكلم ما هو من جنس المعنى، فيتسحيل الكلم الجاري على لسان المبين والساري في أذن المستمع صوت نفس المتكلم يحمل معناه إلى قلب المتلقى. ويبين لما أن نسق الكلام البليغ من ثلاثة أصوات أولها ما أسماه «صوت النفس» وهو الصوت الموسيقيّ الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها وحركاتها،ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة،وعلى نضد متساوٍ بحيثُ تكون الكلمة كأنَّها خطوة للمعنَى في سبيله إلى النفس إن وَقف عندها هذا المعنَى قُُطعَ عنها. والصوت الثاني: «صوت العقل» وهو الصوت المعنويّ الذي يكون من لطائف التركيب من جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداور بها المعنى، لايخطئ طريق النفس من أي الجهات انتحى إليها.

_ (1) - الرزنق: ماء السيق وصفاؤه وحسن صقاله نورونق السباب: أوله وماؤه نورونق الضحى: أوله،وهي أولية تمثل كمال الشيء في صفته الرئيسة، فرونق الكلام صفاء صفحته وصقاله، وفلا تحس فيه بشائبة، وهذا لا يظهر لك إلى من جرسه وإيقاع ونظم حروف كلمه وكام جمله. (2) - الرافعي: إعجاز القرآن: 240

وهذان النوعان تراهما في كلماء البلغاء لا يستعصي عليهم التبريز فيهما، وكلام " الرافعي" فيهما مجمل، والصوت الثالث: «صوت الحس» وهو لا يكون إلا من دقة التصوير المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائها على محض بما يورد عليها من وجوه البيان أو يسوق إليها من طرائف المعاني. وهذ الصوت أبلغ الأصوات شأنا وعلى مقدارما يكون في الكلام البليغ منه يكون فيه من روح البلاغة. وهذا الصوت قد خلت لغة العرب في لسانهم من صريحه وانفرد به القرآن الكريم. وهذا ما يجعلك، وانت تقرأ القرآن الكريم «تحس من حروفه وأصواتها وحركاتها ومواقع كلماتها وطريقة نظمها ومداورتها للمعنى بأنّه كلام يخرج من نفسك وبأن هذه النفس قد ذهبت مع التلاوة أصواتًا واستحال كلّ ما فيها من قوة الفكر والحسّ إليها،وجرى فيها مجرى البيان، فصرت كأنّك على الحقيقة مطويٌّ في لسانك (1) ،

_ (1) - ينظر: إعجاز القرآن: 249-252 وقوله (كلام يخرج من نفسك) وما بعده فيه من الإبهام كان يجمل بالرافعي أن يزيله، وقد تشغل النفس بغرابة منطق الرافعي ونسق بيانه، فلا تلتفت إلى ما ينبغي أن يحمله القلب من هذا الكلام، وهو إذا ما انعتق من ألق كلامه، وقتش عمَا حمله القلب من المعنى عاد إليه يفتش، فيقع في الحيرة. وكأنِّي بالذي يحدثنا عنه الرافعيّ من (صوت الحسّ) أمر غائم في نفسه هو لم يتبيّن له تبيّنا يعينه على أن يبيّنه لنا بيانا يقينا ظلمة التحيّر. وراجعت غير قليل ممن كتبوا في هذه المسألة عند الرافعي لعلى أجد في كلامهم ما يفتح الطريق إلى فقه ما يريده الرافعي من كلامه هذا، فلم أوفق إلى شيءٍ، وما يزال القلب في ظلمة التحير من مراده بهذا الكلام. أقول هذا غير متهيب من أن أنعت بالعجز عن الفهم، فإعلان الحق أجل من التظاهر بالفهم الكاذب.

وكلامه في أنواع أصوات البيان، واختصاص البيان القرآني بصوت الحسّ هو المفتقر إلى مزيد تبيين افتقارنا نحن إلى ذلك التبيين، وما أشار إليه من أنّ صوت الحس يتبين لك فيما تلحظه من نفسك مع القرآن الكريم من أنّضها لا تضيق به ولا تنفر منه، ولا يتخونها الملال ... " لأنّ طريقة نظمه قد جعلت في تلاوته قوة الانبعاث للنفس المكدودة ... " إنما هو وصف للشيء بما يحسّ من أثره، فلا يكشف عن حقيقته، ولا عن منبعه وروافده. المهم أنه ينتهي إلى تقرير أنك «لو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيئ بعضها لبعضٍ ويساند بعضًا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقيّ حتّى إنَّ الحركة ربّما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب، ولا تساغُ، وربما كانت أوْكَسَ النّصِبَيْنِ فِي حظِّ الكلامِ من الحرف والحركة ِ، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنًا عجيبًا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امْتَهَدَتْ لها طريقًا في اللسان، واكتنفتها بضروبٍ من النّغم الموسيقيّ حتّى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيءٍ، وأرفه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة» (1)

_ (1) - راجع إعجاز القرآن: 247-258

وهذا منه يهدي إلى أن الكلمات لا تتسم في وجدها الانفرادي بقبح أو حسن أو ثقل أو خفة، فتلك صفات تكتسبها من وجودها الاجتماعي، فهي أشبه بنعت التقوى في الإنسان، لاسبيل إلى نعته به مفردًا عن قومه محجوزًا عن الترابط بأمور حياتهم، فإقامة الكلمة مقامها الآنس بها يحجز النفس عن أن ترى فيها ثقلا أو نفرة بل ترى ما فيها من حزونة مبعث أنس بها، وهذا لا يكون من الكلمة نفسها وإنّما مما يصنعه المتكلم بها إذ يقيم من قبلها ما يوطّئُ لها السبيل إلى مقامها الشريف، فتتناغى أصوات مبناها مع ما قبلها وما بعدها مثلما يتآخى معناها مع معنى جاراتها وأخواتها. كلامه هنا بسط لأبعاد نظرية النظم عند "عبد القاهر"، ومَدُّ لها، وإحاطة لما منه يكون البيان مبنى ومعنى. وأنت تراه يصحبك في تدبره وتذوقه البيان بكلمة (النُّذُر) في قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (القمر:36) وأشارإلى ما تحسه من ثقل الضمة لتواليها على " النون" و" الذال " معا، مضافا إلى ذلك جسأة حرف " الذال " وصلابته وخشونته ونبوه في اللسان وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكلُّ ذلك مما يكشف عنه، ويفصح عن موضعه الثقل فيه، ولكنَّه جاء في في هذه الآية على العكس من ذلك. تأمل موقع القلقة في "دال" "لقد" وفي "الطاء" من " بطشتنا"،وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء " الطاء" إلى "واو" " تماروا" مع الفصل بالمدّ، كأنّها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمة عليها مستخفًا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثُمَّ ردّد نظرك في " الراء" من " تماروا" فإنَّها ما جاءت إلا مساندة لـ" راء " " النذر" حتَّى إذا انتهى إليها مثلها، فلا تجْفُ عليه ولا تغلظ، ولا تنبو فيه.

ثُمّ اعجب لهذه الغنّة التي سبقت " الطاء " في " نون " " انذرهم " وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت " الذال " في " النذر " (1) ويتبر معك بعضًا آخر من الكلمات هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع ممَّا قد يَسِمُها بالاستثقال طبيعةَ وضعٍ أو تركيبٍ، ولكنَّها في نظمها القرآني خرجت مخرجًا سريًّا من نحو قول الله - عز وجل -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) فقوله {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} كلمة واحدة [إملائيًا لا نحويًا] من عشر ة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنَّها بذلك صارت في النطق كأنَّها أربع كلمات إذ تنطق على أربعة مقاطع» (2) ويجرى القول منه في ذلك، فينتهى بنا إلى أن «طريقة نظم القرآن تجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها،وفي التمكين بحسّ الكلمة وصفتها، ثُم الافتنان فيه بوضعها من الكلام،وباستقصاء أجزاء البيان،وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات لا يتفاوت ذلك ولا يختل» (3) *** وممن عنى بذلك – أيضًا - "العلامة: محمد عبد الله دراز" في كتابه القيم الذي أخرجه لطلاب العلم سنة (1933) فسبق كثيرًا. وذلك ما تراه من نظره في خصائص الأسلوب القرآنيّ، جاعلاً الخاصية الأولى " خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره، (4)

_ (1) - السّابق: 258 (2) - السابق: 260 (3) - السابق: 275 (4) - دراز:النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: ص 103- ط: دار القلم الكويت - 1397

ويأتي قرينه الشيخ " محمد عبد العظيم الزرقاني " ليزيد الأمر بيانًا في سفره القيم " مناهل العرفان في علوم القرآن"، جاعلا الخاصّة الأولى من خصائص أسلوب القرآن الكريم تبعا للشيخ " دراز " خاصة " مسحة القرآن اللفظية" (1) وقد بيّن أنَّ جمال البيان القرآنيّ أول ما يتجلى لك حين تصغي إليه يتجلّى في" تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم. وبيان ذلك: أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفّر، وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد، ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم، وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة، وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة. ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه.

_ (1) - ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني: 2/ 205- الطبعة الثانية:1373-عيسى الحلبي – القاهرة

ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي، وذاك النظام الصوتي أنَّهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى،وذلك أنَّ مِنْ شأنِ الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع، ويثير الانتباه، ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم،وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق، وفي آذانهم، ويعرف بذاته ومزاياه بينهم، فلا يجرؤ أحد على تغييره، وتبديله مصداقا لقوله سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} » (1) ***

_ (1) - الزرقاني: مناهل العرفان: 208-209

وممن كانت عنايتة بتدبر وتذوق القيم الصوتية: جرسا وإيقاعًا في البيان القرآني على نحوٍ متميز " سيد قطب" ولا سيّما في كتابه " التصوير الفني في القرآن " (1) وتفسيره " في ظلال القرآن " وهو يقرر أن " التصويرَ هو الأداة المفضَّلة في أسلوب القرآن "، وأنَّ هذا يستوجب أن ندرك حقيقة التصوير ومجالاته، وأن نتوسع في معناه " حتّى ندرك آفاق التصوير الفنّي في القرآن، فهو تصوير باللون، وتصويرٌ بالحركةِ، وتصوير بالتّخييل (2) ، كما أنَّه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرًا ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق،

_ (1) - حرص " سيد قطب" في خاتمة كتابه أن يبين مراده بنعت التصوير القرآني بأنه " فنيّ" فقرر أنّه حين فعل ذلك لم تكن كلمة " فنّ" قد ساء استخدامها وحملت من المدلول الاجتماعيّ ما لا يليق،، فهو لم يكن يعلم من الكلمة إلا (جمال العرض وتنسيق الأداء وبراعة الإخراج) ولم يكن يرمي إلى معنى التلفيق والاختراع والتخيُّل لما ليس له حقيقة، ولما لا يسنده الواقع، وانتهى إلى أنّ (الفنّ في القرآن إبداعٌ في العرض [أي إتيان بما لم يسبق إليه] وجمال في التنسيق، وقوة في الأداء) ومن ثَمَّ لا يقوم ما جابهه به بعض النقاد واعترضوا به على كلمة (التصوير الفنيّ) (2) - التخييل هو إقامة المتلقي مقاما يستحضر في بصيرته ما يصوره البيان له، فتسمع أذنه صورة المعنى ويستحضر قلبه واقع المعنى كأنّه يبصره، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصور للصحابة ما غاب عن إدراكهم تصويرًا كأنهم يرونه رأي عين كما جاء في صحيح السنة، فذلك من تخييل الحقيقة للسامع وتقريبها إليه أو تقريبه منها، أمَّا البيان فليس مصورًا ما ليس بواقع بل هو واقع وإن كان غير منظور بعين الرأس. وعلى هذا فالتصوير القرآني لايقوم من التخيّل لما ليس بواقع، بل يقوم بتخييل الحقيقة وتقريبها للمتلقين.

في إبرازِ صورة من الصور، تتملاها العينُ، والأذنُ، والحسّ، والخيالُ، والفكر والوجدان " (1) فالجرس والنغم والموسيقى رافِدٌ من روافد تكوين الصورة، ومن ثَمَّ كانت العناية بهذا الرَّافد من العناية بفقه الصورة الحاملة معاني الهدى إلى الصراط المستقيم، والتقصير في فقهها تقصير فيما يحقِّق ضربًا من ضروب الهدى. ... ولهذا تكاثرت وتوافرت عناية " سيد قطب " بهذا الرافد وأثره في التصوير القرآني، سواء كان هذا الرافد قائمًا في الصورة الصوتية لكلمة أو جملة أو معقد أو سورة. تراه يعقد فصلا للتناسق الفني في القرآن، ويبيّن أنَّ هذا التناسق ألوانٌ ودرجاتٌ، ومن" ذلك الإيقاع الموسقيّ الناشئ من تخير الألفاظ ونظمها في نسق خاصّ " (2) تأتي كلمة في بناء تعبيريّ ممتد فيكون لجرسها من الأثر ما يغني عن عديد من الكلمات كما تراه في قول الله - سبحانه وتعالى - في سورة (آل عمران:117) : {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} جاءت كلمة (صِرَّ) في هذا السياق المصوِّر نفقة الذين كفروا، وما يحيط به من هلاك لا يبقى ولا يذر، فرتسم كلمة (صِرّ) بجرسها هول ما يحيط بالحرث من الريح المهلكة، ولو استبدلت بها كلمة أخرى بل كلمات لما استطاعت بدلالتها المباشرة الصريحة أن تقوم بما قام به هذا الجرس المالئ سمعك وقلبك بصوت الريح المهلكة المفزعة التي تخلع القلوب قبل أن تخلع الحرث وتهلكه (3) وتسمع قول الله - عز وجل -:

_ (1) - التصوير الفنّي في القرآن لسيد قطب:ص37- ط:1987 – دار الشروق – القاهرة (2) - السابق:87 (3) - ينظر: التصوير الفني: 41، وفي ظلال القرآن: 445

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ} (التوبة:38) (1) فيملأ سمعك وقلبك بهذا السؤال الاستنكاري التوبيخي الكاشف عن ضلال الحركة النفسية المضطربة في داخلهم، وقد نودوا إلى الجنة أن ادخلوا فتثقالوا. روى البخاري في صحيحه من كتاب (الاعتصام بالكتاب) بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى» . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ «مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى» . (حديث: 7280) ينادي عليهم: انفروا في سبيل الله إلى مرضاته وجناته، فيتثاقلون. «تسمع الأذن كلمة (اثَّاقلتم) ... فيتصور الخيال [أي يبصر القلب الحقيقة النفسية] ذلك الجسم المتثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل.

_ (1) - في التأويل البياني لهذه الآية راجع كتابي: (شذرات الذهب - ص 71-86)

إنَّ في هذه الكلمة "طنًا" على الأقلّ من الأثقال، ولو أنَّك قلت:" تثاقلتم" (1) لخفَّ الجرسُ، ولضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ واستقلّ برسمها» (2) أن الإصغاء إلى جرس هذه الكلمة في صحبة استحضار معنى النداء عليهم بهذه الصفة (آمنوا) وهذا السؤال المرعب كلَّ قلبٍ ذاق طعم الإيمان، وهذا الحذف للمراد النفرة إليه (انفروا في سبيل الله) وكأنه قيل: انفروا في سبيل إلله إلى رضوانه وجناته حيث ما لاعين رأت ولا أذن سمعت، إلى لقائه والنظر إليه ... واستحضار ما يفيض من السؤال المفعم بالتنبيه على الضلالة (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أيفعلها من ذاق قلبه طعم الإيمان؟!! فالرضا لا يكون إلا عن علم واطمئنان قلب إلى ما رضي به. كلّ ذاك في صحبة جرس هذه الكلمة الذي يملأ القلب المعافى من الغفلة فزعًا، فلا يرضى إلا بأن ينفر في سبيل الله - سبحانه وتعالى - إلى حيث يرضى ويتجلى بأنواره ومحبته.

_ (1) - الثقل: نقيض الخِفّة، وتثاقل: تكلّف الثقل أي تظاهر بأنّه ثقيل غير قادر على أن ينهض إلى ما يُدعَى إليه، وهو ثمرة انفعال نفسي كاره لما يدْعَى إليه، واثاقل أصلها تثاقل قلبت (التاء) (ثاءً) لقرب المخرج، وادغما، وجاءت همزة الوصل ليمكن إدغام المثلين، وهذا الإدغام هو الذي حقق لهذه الكلمة جرسًا صوتيا ويميزها عن (تثاقل) ولك أن تتأمل تعدية الفعل (اثاقلتم) بـ (إلى) وما تصوره لك من حركة التساقط السريع المديد إلى الأرض كأنّما يلقى بنفسه في عجلة فرارًا مما يدعى إليه: دخول الجنة ‍ (2) - التصوير الفني في القرآن:91- 92، في ظلال القران: 1655

ويعرض" سيد قطب" لفيض من الكلمات التي يرسم جرسهاصورة تملأ الأذن وتفعم القلب، بما تعجز جيوش من الكَلِمِ أن تقوم بما قام به جرسها. (1) ويبيّن لنا «أنَّ هناك نوعًا من الموسيقى الداخلية يلحظ، ولا يشرح ... وهو كامن في نسيج المفردة، وتركيب الجملة، وهو يدرك بحاسّة خفيّة وهبةٍ لدنيّة» (2) *** وهو لايتوقف تدبُّره أثر الجرس والإيقاع قائمين في الكلمة بل يتجاوز ذلك إلى ما فوقه، فيقرر حقيقةً أدركها من ترتيله وتدبّره القرآن الكريم قائلا: «حيثما تلا الإنسان القرآن أحسَّ بذلك الإيقاع الدَّاخليّ في سياقه يبرز بروزًا واضحًا في السور القصار والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة ... » (3) ينظر في بعض الصور الصوتية في بناء بعض السور القرآنية فيدرك ما في بناء آياتها على فواصل متحدة في حرف التقفية تماما مع تساوي كثير من الآيات فيها في الطول والقصر، وتساوى الفواصل في الوزن والقافية، وهذا ما أشار إلى تحققه جليًا في سورة (النجم:1-22)

_ (1) - يحسن بك التبصر فيما قاله في تصوير جرس الكلمات التالية: (ليبطئن) و (أنلزمكموها) ، و (يصطرخون) ، و (عتل) ، و (كبكبوا) ، و (الطامة) ... لفيض من المعاني مما يحقق للصورة القرآنية إعجازها في إيجازها. (2) - التصوير الفني في القرآن: 106 (3) - التصوير الفني في القرآن: 103

{بسم الله الرحمن الرحيم. وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى *} فيلحظ التالى والمستمع أن «الإيقاع الموسيقيّ هنا متوسط الزمن تبعًا لتوسط الجملة الموسيقية في الطول، متحد لتوحد الأسلوب الموسيقيّ، مسترسلُ الرويّ كجو الحديث الذي يشبه التسلسل القصصيّ،وهذا كلّه ملحوظ. وفي بعض الفواصل يبدو ذلك جليًا مثل: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} فلو أنّك قلت: " أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ " لاختلت القافية، ولتأثر الإيقاع، وكذلك في قوله: {أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} فلو قلت: أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ قِسْمَةٌ ضِيزَى، لاختلّ الإيقاع المستقيم بكلمة (إذن) »

ويحترس " سيد قطب " من أن تحسب أنّ كلمة " أخرى" و" إذن" تجردتا لتعديل النغم، وليس من وراء ذلك ما يسدي إلى المعنى المتعقل فائدة، فيقرر:" لايعني هذا أنَّ كلمة (الأخرى) وكلمة (إذن) زائدتان لمجرد القافية والوزن، فهما ضروريتان في السياق لنكت معنوية خاصّة، وتلك ميزة فنية أخرى: أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى السياق، وتؤدي تناسبًا في الإيقاع، دون أن يطغَى هذا على ذاك أو يخضع النظم للضرورات " (1) وهويقرر مثل هذا في مفتتح تدبُّره السورة قائلا: «هذه السورة في عمومها كأنَّها منظومة موسيقية علوية، منغّمة، يسري التنغيم في بنائها اللفظيّ كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة،ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة. ويبدو القصد فيه واضحًا في بعض الموضع، وقد زيدت لفظة، أو اختيرت قافية لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه – إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني – مثل ذلك قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} قلو قال:" ومناة الأخرى" ينكسر الوزن، ولو قال: " ومناة الثالثة " فقط يتعطّل إيقاع القافية، ولكلّ كلمة قيمتها في معنى العبارة، ولكنّ مراعة الوزن والقافية كذلك ملحوظة، ومثلها كلمة (إذن) في وزن الآيتين بعدها: {أََلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ضِيزَى} فكلمة (إذن) ضروريَّة للوزن، وإن كانت – مع هذا – تؤدي غرضًا فنيًا في العبارة " (2) ويؤكد هذا في تدبره قول الله - جل جلاله - في السورة نفسها: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} فينظر تقديم (الآخِرَة) على (الأُولَى) فيقرر أنّه تقديم يحمل عطاءين: المعنى المتعقّل، والإيقاع:

_ (1) - التصوير الفني في القرآن: 104 (2) - في ظلال القرآن: 3404

«ولا ننسَى أن نلحظ هنا تقديم (الآخرة) على (الأولى) لمراعاة قافية السورة وإيقاعها، إلى جانب النكتة المعنوية المقصودة بتقديم الآخرة على الأولى، كما هي طبيعة الأسلوب القرآنيّ في الجمع بين أداء المعنى وتنغيم الإيقاع دون إخلال بهذا على حساب ذاك ... » (1) وهو لم يصرح لنا بالنكتة المعنوية من إقامة هاتين الكلمتين: (الأخرى) و (إذن) في سياقهما، ولا النكتة المعنوية من تقديم الأخرى على الأولى، وكأنّه يراهما من الظهور، فلايفتقرأحد إلى التصريح له بهما. (2)

_ (1) - السابق: 3409 (2) - يذهب " ابن عطية الأندلسي " (ت:546) إلى أن مناة " كانت أعظم هذه الأوثان قدرًا وأكثرها عابدًا، وكانت الأوس والخزرج تهلُّ لها، ولذلك قال تعالى " الثالثة الأخرى" فأكدها بهاتين الصفتين كما تقول: رأيت فلانا وفلانًا، ثُمَّ تذكر ثالثًا أجلّ منهما، فتقول: وفلانًا الآخر الذي من أمره وشأنه " (المحرر الوجيز:15/266- ط: المغرب) و"الزمخشري " يرى في النعت بالأخرى معنًى غير ما عند " ابن عطية" يرى أنَّ المعنى على الذمِّ أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى:" ( ... قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لآُولاهُمْ) (الأعراف: من الآية38) أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لللات والعزَّى) (الكشاف:4/30) ويستحن " الطاهر بن عاشور " أن يكون قوله تعالى: (الثالثة الأخرى) جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد،وكان فيه من يظنّ أنّه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر، فيقولوا:" وفلان هو الآخر" ووجهه هنا أنَّ عُبَّادَ " مناة" كثيرون في قبائل العرب، فنبه على أنّ كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بفية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها، وكلّ ذلك جارٍ مجرى التهكم والتسفيه" (التحرير والتنوير: 27/ 105) وهو كما ترى ينزع مما نزع منه " ابن عطية" أمَّا مجيئ كلمة (إذن) فإنه مفيد ترتب الحكم على ما قبله: " أي يترتب على ما زعمتم أن َّ ذلك قسمة ضيزى" (التحرير والتنوير: 27/106) ولو نزعت كلمة (إذن) لم يتبيذن ما يفيد ترتب الحكم بجور القسمة على ما كان منهم. وتقديم (الأخرى على الأولى) فإنَّ "البقاعي" يذهب إلى أنه تقديم يفيد أنهم مربوبون لايملكون من أمرهم شيئًا بدليل أنَّ ما يتمنونه في دار ما يتمنى من النعيم لا يكون لهم من ذلك شيء لأأنه كله لله، وليس لهم منه شيء، فظهور كمال الملك في الآخرة أقوى، فإنَّه يومئذ لا يكون لأحدٍ أيُّ شيءٍ على أيّ وجه، فكان تقديم الآخرة أدل على افتقارهم وعجزهم (ينظر: نظم الدرر: 7/ 325 - بيروت) ويذهب الطاهر بن عاشور إلى أنَّه " إنّما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتنبيه إلى أنّها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها لأنَّ الخطاب في هذه الآية للنبي - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - والمسلمين مع ما في هذا التقديم من الرعاية للفاصلة. (التحرير والتنوير: 27/112)

*** و" سيد قطب " يلفت بصائرنا إلى أنَّ أسلوب الموسيقى وإيقاعها في السورة القرآنية يتنوع " بتنوع الأجواء التي تنطلق فيها ... في سورة (النازعات) اسلوبان موسيقيان، وإيقاعان ينسجمان مع جوين فيهما تمام الانسجام. أولهما يظهر في هذه المقطوعة السريعة الحركة القصيرة الموْجةِ القوية المبنَى تنسجم مع جوّ " مُكَهْرَبٍ " سريع النبض شديد الارتجاف على النحو التالي (النازعات: 1-15) : {بسم الله الرحمن الرحيم *وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} والثانِي يظهر في هذه المقطوعة الوانية الحركة الرخية الموجة المتوسطة الطول تنسجم مع الجو القصصي الذي يلي مباشرة في السورة حديث الكرة الخاسرة والزجرة الواحدة وحديث الساهرة على النحو التالي: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى *....إلخ (الآيات: 15- 19) أظنَّ أننا لسنا في حاجة إلى قواعد " موسيقية " ولا إلى اصطلاحات فنية، لندرك الفرق بين الأسلوبين والإيقاعين، فهو واضح لايخفى، وهو كذلك منسجم في كلّ حالة مع الجو الذي تطلق فيه الموسيقي. ولهذه الموسيقى وظيفة أساسية في مصاحبة المشهد المعروض في المرَّتين الأولى والأخرى " (1)

_ (1) - التصوير الفني في القرآن:110-112

وهذا يجلّي موقف " سيد قطب " من العلاقة بين الصورة الصوتية للبيان وما هو مكنون في هذا البيان من معاني الهدى، وما أقيم عليه النظم من السياق، فيتحقق لنظم السورة التناسب والتآخي بين معانيها المتعقّلة، والتناغم والتناغي بين القيم الصوتية المتمثلة في جرسها وإيقاعاتها. وكأنَّ هذا ناظرٌ إلى ما أخذ فيه بعض علماء نقد الكلمة الشاعرة من تبيّن العلاقة بين الأوزان والإيقاعات الشعرية والمعاني والأغراض، وهي مسألة نقدية اتسع القول فيها واشتجر. ولا أظنَّ أن ما قام من مجالات في ميدان نقد الكلمة الشاعرة يقوم مثله بين أهل العلم بالبيان القرآني، فإن القلوب المعافاة من داء الغفلة لتستشعر وثيق الاعتلاق بين القيم الصوتية في القرآن الكريم ومعانيه وأغراضه ومقاصده، ومن هنا أكدوا انَّ هذه القيم الصوتية – في غير البيان القرآني - إذا لم تكن منسولة من المعاني، واقتضاها المقام فإنه ليست من البلاغة في شيء، مثلما أن تركها حين يقتضيها المقام هو ضرب من عقوق المعنى،أمَّا هي في البيان القرآني فإنَّها لا تكون إلا منسولة من الغرض والمعنى المساق إليه الكلام، ومما اقتضاه المقام اقتضاءً مكينًا. مجمل الأمر أنَّه " تتكشف للناظر في القرآن – كما يقول سيد قطب – آفاقٌ وراء آفاقٍ من التناسق والاتساق: فمن نظمٍ فصيحٍ إلى سرد عذبٍ إلى معنى مترابط إلى نسق متسلسل إلى لفظ معبر إلى تعبير مصوّر إلى تصوير مشخص إلى تخييل مجسم إلى موسيقى منغمة إلى اتساق الأجزاء إلى تناسق في الإطار إلى توافق في الموسيقى إلى افتنان في الإخراج ... وبهذا كلّه يتم الإبداع ويتحقق الإعجاز " (1) ***

_ (1) السَّابق: 142

وممن كانت له عناية بارزة بتدبر الإيقاع في البيان القرآني،وأثره في تكوين وتشكيل صورة المعنى القرآني الدكتور " نعيم اليافي " فقد كان له في ذلك مقالات منها: قواعد تشكّل النغم في موسيقى القرآن" (1) ومقال: ثلاث قضايا حول الموسيقى في القرآن " ومقال:" عودة إلى موسيقى القرآن " يهمنا هنا تعريفه الإيقاع بأنه " حركة النّصّ الداخلية الحيوية المتنامية التي تمنح نسق الرموز المؤلفة للعبارة الدفق والثراء" (2) يبرز فيه طبيعة الإيقاع في استبطانه ولطفه وحيوته وتناميه، وأثره في العبارة بما يحقق لها ثراءها واندفاعها إلى قلب المتلقى بما لا يملك إعاقته أو التوقف في تلقيها. ويرى الإيقاع في البيان القرآني نابعا " من اندماج عنصرين: من نغمة خاصّة تناسب الفكرة،وتقوم القافية فيها بدور المفتاح. ومن لحن ينتظم النغمات جميعًا على اختلاف درجاتها، وفي شكل منسجم ومتناسب يخلف في روح المتلقي شعورًا ما. بالنغمات يوقع القرآن إيقاعات تشي على أوتار النفس، وباللحن المتساوق يترك وحدة الأثر ... " (3)

_ (1) - نشره في مجلة التراث العربي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق العدد (15) - نيسان:1984، ولمَّا يتيسر لي الاطلاع عليه. (2) - مقال: ثلاث قضايا حول الموسيقى في القرآن:ص 90- مجلة التراث العربي – العدد 17- السنة الخامسة – محرم: 1405المجلد: (3) - مقال: عودة إلى موسيقى القرآن لنعيم اليافي ص 64- مجلة التراث العربي العدد الخامس والعشرين السنة السابعة

وهو لا يرى حرجًا من استعمال مصطلح (الموسيقى) في تدبر البيان القرآنيّ (1) وهو في تدبره أثرالإيقاع في تصوير المعنى ودفقه في قلب المتلقي يتناول جملا وآيات كما في قول الله - سبحانه وتعالى -: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى*أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) (النجم:19-22) وقول الله تعالى في سورة (الشعراء) : {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) }

_ (1) - ومجمل ما يوجه به عدم تحرجه أن، فالقرآن الكريم وإن كان ينأى عن وزن الشعر ولو تلاحمت فيه بعض أشطره وأبياته، فإنه لاينأى عن "الإيقاع" بل يتوسل به في نسقه العالي الجميل حقيقة لا ادعاءً،واستعمال مصطلح (الموسيقى) قد دخل معجمنا ولغتنا – كما يقول – وأصبح جزءًا من فكرنا التراثيّ،ونحن في زمن يعنينا فيه أن نوضح خصوصية القرآن الكريم ومبلغ إعجازه ... فكان عنده من الخير أن نستعمل مصطلحا عالميا هو من خصائص التعبير السّامي الرفيع، فثبت أن أسلوب القرآن يتوسط به ويتوسل ويبدع في هذا التوسط والتوسل ... إنّ الكتاب الكريم في تعبيره وطريقة أدائه يسعى نحو الموسيقى ويتوخاها بدقة كبرى، ويتغياها عن فصد وهدف حتّى يكون في أسلوبه أوقع وأحكم،وفي تعبيره أكثر أناقة وأشد إشراقا وتأثيرًا. (ص: 58 مقال: عودة إلى موسيقى القرآن – نعيم اليافي – مجلة التراث العربي – العدد 25- السنة السابعة – 1407هـ

وقوله - سبحانه وتعالى -: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (القمر:6-8) فالذي يهمنا منه هنا عنايته بتدبر أثر الإيقاع في بناء السورة،كما نراه في تدبره إيقاع سورة (الزلزلة) و (النازعات) و (المسد) يقول في إيقاع سورة الزلزلة: {بسم الله الرحمن الرحيم *إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} " تبدأ حركة النّصّ عنيفة قويّة غنه يوم القيامة حيث ترجف الأرض وتزلزل، وتنفض ما في جوفها ... مشهد مروع ... ويقف الإنسان دهشًا ضائعًا مذعورًا ... هنا والإنسان مشدود يكاد لا يلتقط أنفاسه خائف يترقب في لمحة سريعة يعرض مشهد القيامة من البعث حتى الحساب ... إيقاع النصّ يساوق هذا المعنى، ويحمله، فهو مثله لاهثٌ سريعٌ يوجف، كالأرض وكالإنسان فرقًا واضطرابًا ... كلّ ما فيه متحرك بارز ماثل، الكلمات في جرسها في طباقها وتوافقها، فيما تنشره من أفياء وظلال..الزلزلة.. أثقال.. مثقال.. ذرة.. أشتاتا.. ليروا..يره تشي بالموقف وتعبر عنه ومع ذلك فهذه الكلمات وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ في وصف المشهد قدر ما يبلغه الخيال السمعيّ والبصريّ حين يتملى النّص، فالسورة هزة،وهزة عنيفة للقلوب الغافلة هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي....

هذه الموسقى في القرآن تأخذ مجراها،وتفعل فعلها تهز القلوب والنفوس والأرض والسماء، تصوّر، وتوحي، تؤثر، تميز، تحكم ... (1) كان حريصًا في تدبره على ملاحظة العلاقة بين القيم الصوتية للسورة: جرسًاوإيقاعاوالجوالعام الذي يلف السورة، والمعاني التي جاء البيان القرآني فيها مصورًا لها، والغرض المسوق له بيان السورة. *** وإذا ماكنَّا قد سمعنا " سيد قطب " يبيّن ما اشتملت عليه سورة (النازعات) من النغم المتنوع تنوع الجو الذي تطلق فيه معاقد السورة فاشتملت على أسلوبين موسيقيين،وإيقاعين ينسجمان مع جوين فيها تمام الانسجام، فإنّ" نعيم اليافي" يتابع ما جاء به " سيد قطب" في هذا فيقسم سورة (النازعات) ستة أقسام وفقًا لطبيعة الإيقاع في كلّ قسم، ويرى أن القسم الأول (ي: 1-5) والثاني (6 – 14) طابع الإيقاع فيهما واحدا: إيقاع سريع واجف والقسم الثالث (ي:150 26) يتغير الإيقاع فيهدأ وينساب،وتمتد العبارة،وتطول الجملة فالمجال مجال عرض قصصي. وفي القسم الرابع (ي: 27-33) يتحول الإيقاع إلى القوة والأسر حيث التحول من سرد التاريخ والعظة إلى تأمل الكون المفتوح ومشاهده الهائلة،ولم تبلغ القوة فيه ما بلغته في القسم الأول والثاني. وفي القسم الخامس (ي:34-41) تعود النغمة إلى حدتها وقوتها وعنفها لأن مجال المعنى كذلك لأنه مشهد الطامة الكبرى. وفي القسم الأخير (ي: 42-46) يأتي الإيقاع سريعًا رائعا فخمًا يُصوِّر هولَ السَّاعةِ وفخامَتَها.

_ (1) - مقال: عودة إلى موسيقىالقرآن لنعيم اليافي – ص: 63 - مجلة التراث العربي العدد الخامس والعشرين – السنة السابعة

وإيقاع السورة تشكل من أنغام القافية واللحن المتساوق مع الجو العام للسورة ولكل قسم من اقسامها. فقامت القافية في السورة" بدور المفتاح، فتلون النغمة وتمنحها درجتها،وتعددت القوافي بتعدد النغمات حتّى بدت كأنها النهايات الطبيعية التي كانت تصل إليها كلّ موجة متدفقة من موجات التعبير الزاخر بالحركة والجشيان. أمَّا لحن السورة مجموع النغمات بمفاتيحها وقوافيها في ارتفاعاتها وانخفاضاتها، فإنه يعتمد على لونيين من الإيقاع: هادئ بطيء هو اللون الثانوي ... وإيقاع شديد بارز هو نغمة القرار الرئيسية، ويبدو في حدى نقراته وشدة نبراته ... » (1) لا يخفى عليك تأثره بما جاء به " سيد قطب" وإن كنت تراه غير ماكِثٍ فيما ورث، بل أضاف إليه ما فصّله وأبرزه ونماه. *** وأنت إذ تنظرمعي في سورة (القمر) وقد جاءت جميع فواصلها على حرف واحد (حرف الراء) مسبوق بحرف متحرك تجد ان اتساقها على فاصلة ذات رويّ واحد إنّما مرده إلى أنَّها ذات موضوع واحد، فلم تتنوع معاني معاقدها. ليس يخفى أن معاني السورة إنْماءٌ لما جاء في آخر (النجم: 57- 58) من قول الله - سبحانه وتعالى -: {أَزِفَتِ الآزِفَة * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}

_ (1) - مقال: عودة إلى موسيقى القرآن لنعيم اليافي – ص: 65- 66

فهذا مما تنخلع له القلوب، ولا تكاد النفوس تقر وتأمن، فتأتي الآيات في سورة (القمر) وقد ألقت مبانيها الهول والفزع والعنف في القلوب المنكرة المكذبة بالنذر وما جاءت به، وقررت أنّه لم يبق ما يمكن لهم أن ينتفعوا به (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ومن ثمَّ كان البلاغ الرهيب: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (القمر:6-8) فقد حمّ الأمر. وتصورالسورة نماذج مما حل بمن سبقهم ممن كذبوا بالرسل (ي: 9-42) حكى لهم ما كان من قوم نوح - عليه السلام - ومن قوم هود - عليه السلام -،ومن قوم صالح - عليه السلام -،ومن لوط - عليه السلام - ومن فرعون وقومه وما كان لهؤلاء جميعًا من الهلاك والبوار. ثُمّ يلقى في وجوههم هذا السؤال المرعب: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (القمر:43) ويأتي القرار {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:51) بنيت الكلمات من أصوات: حروفا وحركات تقرع الآذان بصوت الرعب والهلع، وتملأ القلوب بالرهبة والوجل،وجاءت الكلمات في صيغ يندر استخدامها أو يقل في البيان القرآن ليتناغى صوتها مع ما تسوقه السورة إلى القلويب، ولتتآخى ندرتها مع فظاعة الموقف من المكذبين بالنذر. وقد ظهر في السورة حذف بعض حروف مباني الكلمات لغير ما وجه إعرابي أو صرفي من نحو (تغن) (يدع) (الداع) ليتناغى ما يحدثه حذف الحرف من إسراع في النغم مع ما يكون من إسراع في دعوة الداعي،ويتآخى مع الإشارة إلى انتفاء الإغناء في (فما تغن النذر)

وتجد العناية بالقيم الصوتية ظاهرة في في اختيار كلمات ذات جرس خاص يملأ الأذن مثلما لها قدرة على التصويرواستحضارالهيئة المرهبة من نحو قوله (مهطعين) و (منهمر) و (صرصر) و (منقعر) ،و (المحتظر) و (حاصبا) و (تماروا) و (طمسنا) لتنظر موقع كلمة (النُّذُر) بجرسها هذا تجد أنها جاءت في القرآن الكريم أربع عشرة مرة، كان لسورة (القمر) منها إحدى عشرة مرة، مما يجعل لهذه الكلمة مبنى ومعنى خصوصية في الدلالة على ما تساق السورة إليه وتقام لتصويره في القلوب. إذا نظرت في فواصل هذه السورة ألفيت أن جميع فواصلها قد بنيت على حرف الراء المسبوقة بحرف متحرك، وأن فواصلها مما لم يكثر ذكره في غيرها في مواقع الفاصلة أو موضع آخر،تجد فواصلها على النحو التالي: (القمر – مستمر – مستقر – مزدجر –النذر – نُكُر – منتشر – عسِر – ازدجر – انتصر- منهمر – قُدِر – دُسِر – كُفِر – مدّكر – مستمر – منقعر – سُعُر – أَشِر – اصطبر- محتضر – عقر – محتظر- سَحَر – شَكَر – مقتدر – الزُّبُر –منتصر – الدّبر – أَمَر- سَقَر – قَدَر – البصر – مستطر – نَهَر) كثير من هذه الكلمات لم يأت إلا في سورة القمر مثل: (مزدجر – نكر – منتشر – منهمر – دسر – مدكر – مستمر – منفعر – سعر – أشر – محتضر – المحتظر – منتصر – الدبر – مستطر – نهَر) وقد غلب على الفاصلة وزن: (مفتعل – فُعُل -منفعل) مما يمنح الفواصل مزيدًا من التوازي الذي يزيد إيقاع البيت تناسبًا وتماثلا. ترى العناية بالقيم الصوتية في نظم الكلمات وفي بناء الايات من نحو قوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (القمر:6-8)

فظاهر النظم أن يقال: يخرجون من الأجداث خشعا أبصارهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر. ولكنه قدم بعض الكلم على بعض ليحقق للكلام جرسه وإيقاعه المرهب، وليقيم في القلب تطلعًا إلى ما سيكون منهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر، فيأتي قوله (خشعا أبصارهم) ليملأ القلب فزعا، يزيده ذلك التشبيه (كأنَّهم جراد منتشر) فما أبشع هوانهم يومئذٍ، وهم الذين كانوا من قبل إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّوَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ. كلّ ما في السورة يصدح بالنذير، ومن ثمّ بسط البيان في خاتمتها لما سيكون للمجرمين يوم القيامة: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) وليجعل مقطع التلاوة هذا النغم الرقيق ينساب في قلوب المتقين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) فيرسم بهاتين الآيتين صورة للنعيم بطرفيه – كما يقول سيد قطب - ? " نعيم الحسّ والجوارح في تعبير جامع شامل (في جنات ونهر) يلقي ظلال النعماء واليسر حتّى في لفظه الناعم المنساب، وليس لمجرد إيقاع القافية تجيءُ كلمة (نَهَر) بفتح (الهاء) بل كذلك لإلقاؤ ظلّ اليسر،والنعومة في جرس اللفظ،وإيقاع التعبير. ? ونعيم القلب والروح. نعيم القرب والتكريم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} فهو مقعد ثابت مطمئن قريب كريم مأنوس بالقرب مطمئن بالتمكين ذاك أنهم المتقون...." (1)

_ (1) في ظلال القرآن: 3442

*** ولي أن أختم الإبحار في تدبّر وتذوق إيقاع البيان القرآني بسبحة في إيقاع سورة (الشرح) وهي سورة حبيبة إلى نفسي أسكن إليها حين تضيق النفس بما حولها أو مما حولها. {بسم الله الرحمن الرحيم * أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} سورة مكية يمتد فيها المعنى المنساب من سورة (الضحى) امتدادًا كالمفسّر للنعمة التي حَثَّ الله - عز وجل - نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على أن يتحدث بها، فما ذكر في سورة الشرح من أجل ما أفاض عليه من النّعم. والسورة شأنها شأن السور المكية تمنح القيم الصوتية فيها مكانة في تكوين صورة المعنى وتشكيلها، على تنوع هذه القيم الصوتية فيها،ومن أبرز تلك القيم ما تواطأت عليه رؤوس الآيات من التناغم المتنوع تنوعًا مرهونًا بالجو الذي يشيع في كلّ مقطع من مقاطعها على قصرها وقلة عدد آياتها.ممّا يدلّ على أنَّ تنوع الفواصل ليس معياره كثرة الآيات في السورة وامتداد سياقها بل مرده اقتضاء المعنى والغرض المنصوب له الخطاب. انتهت فواصل الآيات الأربع الأولى بالكاف المسبوقة بالراء المفتوحة: (صَدْرك – وِزْرك – ظَهْرك – ذِكْرك) ولو أنك أصغيت إلى وزن هذه الفواصل وجدت الفاصلة الأولى والثالثة (صدرك – ظهرك) على زنة (فًعْلَكَ) بفتح فسكون ففتح..والفاصلة الثانية والرابعة (وزرك – ذكرك) على زنة (فِعْلَكَ) بكسر الفاء وسكون العين. وهذا ضرب من التنسيق لطيف طريف. هذا التوازي والتوازن والتساوي أيضًا يتناغم مع المعنى الذي تضمنته الآيات كما سيتبين لك.

وإذا نظرت رأيت أن كلّ آية من هذه الأربع قد تعادلت في حركاتها وسكناتها، وقد غلب على حركاتها صوت الفتحة، ولم تأت الكسرة إلا في ثلاثة مواضع (وذرك – الذي- ذكرك) وهذا يبين لك أهمية الإتيان بقوله: (لك) في الآية الأولى، و (عنك) في الثانية، و (لك) في الرابعة، ولو رفعت هذه الكلمات، فقيل في غير القرآن الكريم: الم نشرح صدرك ووضعنا وزرك الذي انقض ظهرك ورفعنا ذكرك، لضاع التناسق النغمي، واختل نسق الإيقاع الذي بنيت عليه الآيات. وإذا نظرت ما بنيت عليه فواصل هذه الآيات الأربع رأيت (الراء) المفتوحة ذات توقيع صوتي متميز: تحمل من صوت التكرار الكثير، كما أنها صوت مجهور مفتوح، ثُمَّ ما تضيفه حركة الفتح، وهي نصف الألف من انطلاق، فالفتح كما لا يخفى يمنح الجرس الصوتيّ انطلاقًا يتلاءم مع حركة التكرير وتوقيعه في صوت (الراء) ليكون أكثر انطلاقًا لخفة الفتحة، وليتلاءم مع مخرج (الراء) فهو من طرف اللسان الأدنى إلى ظهره ومع ما فوق الثنايا حيث يتيح ذلك للنغم أن يتردد، ولكن هذا الانطلاق مقيد بصوت الكاف الساكنة. يأتي (الكاف) وهي إلى أقصى اللسان أقرب مع ما لها من الهمس والشدة، وما يعتريها من السكون بالوقف أحدث ضربًا من التوقيع البديع المتنوع، فتكون نغمات صوت (الراء) أشبه بنغمات الحركة، ونغمات صوت (الكاف) أشبه بالسكتة في التنغيم، فيكاد يكون الكاف أشبه بقرار التنغيمات التي تتردد من صوت (الراء) ساعد ذلك كلّه قصر الآيات. كلّ هذا وفوقه تناسبٌ دقيقٌ وثيقٌ بين عطاء صوت الكاف الساكن في الآيات الأربع الأولى وما تزخر به هذه الآيات من المعنى. ألا ترى العبْءَ المتثاقل في صوت (الكاف) والسكون متناسقًا متناغمًا مع مضمون هذه الآيات الأربع حيث الصدر المفعم بالكمد والوزر المتثاقل على الكاهل والظهر الذي كاد يتهاوَى تحت وطأته

الأيات الأربع تصورما كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الضيق والهمّ المتثاقل، وما تجلت عليه الرحيمية الجليلة بالشرح ووضع الوز ورفع الذكر تناسق بين صوت (الكاف) الساكن وقفًا والضيق الخانق والتوتر العارم المتردد في النفس من قبل الشرح كما يشير إليه صوت (الراء) من قبل (الكاف) فالسجع مصور لك ما كان في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل الشرح. ثُمَّ تأتي بعد هذا فاصلتان اعتمدتا على التكرار (يسرا) منتهيتان بصوت الراء المتلو بالألف لتقوم الألف بإطلاق حركة التردد والتكرار الذي كان محبوسًا بدرجة ما بصوت الكاف الساكن في الفواصل الأربع السابقة، وكأنَّ في مجيء (الألف) هنا من بعد (الراء) تفريغًا لما تبقى من شحنات التردد الصوتي الذي سيصاحب شحنات تردد داخلي لدى التالي إذا ما كان مؤديا حق الترتيل من انسجام جواني مع توقيعات الترتيل، فالألف في (يسرا) حين تأتي وتتكرر في فاصلة آيتين قصيرتين تعتمدان على تكرير صوتيّ جُمَلي تغييرًا وتنويعًا لتكرير صوتيّ حرفيّ، وتسعى الألف في آخر الآيتين إلى استفراغه حتّى تهيء المتلقى بهذا الاستفراغ إلى أن يستشرف عطاءات ما تبقى من السورة الإيقاع في الآيتين الخامسة والسادسة يصور ما كان من إطلاق للضيق الذي كان يملأ نفس النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما يوحي به إطلاق صوت الألف من بعد (الراء) وكأن هذا يتواءم مع طبيعة المرحلة الثانية: مرحلة التكبليف بالرسالة حيث الهدي والتعهد الربانيّ بالرضا المطلق، فيفرغ الصدر مما كان قد أفعه من الهم في مبدأ المبعث، وفي صوت (الألف) أيضًا إشارة إلى امتداد اليسر في حياة الأمة، وأنه لن ينقطع عنها، وهذا يتآخى معه تكرير الآية، فيقوم معناها ومغناها في القلب، فلا يغفل عن هذا الوعد الربانيّ الكريم.

كلّ هذا إنما هو تهيئة لما هو آتٍ في آخر السورة في الآية السابعة والثامنة: إذا فرغت من كلّ ما يعيقك من تخوف واضطراب من قبل الإرسال، فانصب وشمر عن ساعدك وانصب قامتك للدعوة واتعب في تحقيق ما تصبو إليه واسكن إلى ربك الذي إليه المنتهى والمستقرّ والقرار كلّ القرار هذه المعاني التي انتهت إليها السورة يتجاوب معها ويتناغى صوتُ (الباء) الساكن في فاصلةالآية السابعة والثامنة: انصبْ – ارغبْ (الباء) صوت شفوي هو آخر مراحل الرحلة الصوتية، وهذا السكون يتواءم مع صوت (الباء) القوي المجهور، فإنَّ في سكون الطمأنينة قوة، وفي بلوغ الغاية سكينة. هذا الّذي رأيت في تآخي وتناغي القيم الصوتية ممثلا في فواصل السورة مع المعنى والغرض المساق له الخطاب يزيده ما يأتيك إذا ما بسطت النظر، ومددت الإنصات إلى إيقاع مباني الكلمات ومعاني الآيات. كيف إذا ما تحسّست وقع إيقاع ذلك الاستفهامِ المُسْتَفْتَحِ به البيان، والحامل إلى قلب المخاطب فيْضًا من اليقين بتحقيق الأمل، ونشر النّور الشّارح للصدور. صوت الهمزة في (ألم) الداخل على حرف النّفي المُحْدِث في الفعل جزمًا إعرابيّا وفي القلب جزمًا إيمانيًّا بتحقيق الأمل المتآخي مع الوعد الإلهيّ في {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى:5) هذا التّفاعل الدّلاليّ بين مدلول (الهمزة) ومدلول (لم) يصوّره تناغٍ بين صوت (الهمزة) بكل ما يحمله من قوة وجهارة، وصوت الحسْم والغنّة في (لم) . وكيف إذا ما تحسّسْت وقع إيقاع صوت التّفشي في (شين) : (نشرح) مع صفيرالصاد في (صدرك) مع تكرار (الراء) في (نشرح – صدرك) .

كلّ هذا تجده في الجملة المستفتح بها البيانُ المستَفْتِح أبوابَ الأمل والفرج والطمأنينة والسكينة في قلب المخاطب، وقلب كلّ تالٍ لتلك السُّورةِ مصغيًا بقلبه إلى إيقاع مغانيها الروحيّة ومعانيهاالإيمانية لينتهي به سَبْحُهُ في فضاء السورة إلى الاستجابة إلى الحضّ الربانيّ للمخاطب بأن تكون رغبته إلى ربّه - عز وجل - وحده {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ، فيتصاعد في درجات العبودية لله ربّ العالمين لهذا فإنّي أفزع إلى هذه السورة وإلى سورة الضّحى في صلاتي حين تضيق النفس فأجد في ترتيلهما شيئًا ممَّا يعيد النفس إلى سكينتها وأنسها بخالقها ورازقها - عز وجل -. والله الهادي إلى الصراط المستقيم ... فاصلة القول ... لم تكن تلك الأوراق المنثورة بين يديك قائمة إلى أن تحقق نموذجًا من نماذج الإبحار في قاموس فقه المعنى القرآني. قامت لتضع بين يدك – طالبَ علمٍ في مفتتح سعيه إلى فقه المعنى القرآني – معالم الطريق إلى فقه المعنى القرآني الكريم والطريق إلى المعنى القرآني الكريم متعدّد المناهج وفقًا لتعدّد مجالات البحث عنه. المبحوث عنه هو المعنى القرآنيّ المكنوز فيه معالم الهداية إلى الصراط المستقيم: صراط المنعم عليهم ربهم - عز وجل -. والمبحوث فيه عن ذلك المعنى القرآني الكريم هو البيان المتلوّ المتعبد بترتيله وبالتغنّي به ممثلا في أصوات حروفه وحركاتها وفي أنماط تكوين وتشكيل كلمه وفي نظم جمله،وترتيب آياته ومعاقد سوره وسوره كلّها.

والمنهج المسلوك في البحث في البيان القرآني الكريم عن معاني الهدى إلى الصراط المستقيم يتنوع ويختلف اختلاف تكامل لا اختلاف تناقض، ومن تلك المناهج أعمّها واهمّها – عندي - وأولها قدرًا ومنزلا: المنهج البيانيّ المشكَّل من أصول النظر القائمة من تصوّر وتدبّر وتذوّق أسلافنا الأئمة العلماء وأشياخنا النبلاء: نبل قلب وسلوك. مجال النظر البيانيّ في بحثه عن المعنى القرآني في البيان القرآني متعدد أيضًا، فقد يكون مجال البحث أسلوبًا من أساليب البيان في سورة أو غرض، وقد يكون بحثًا عن أساليب عديده في سورة أو غرض.، أو غيرذلك. وقد قامت هذه الأوراق لترسم لك معالم الطريق إلى البحث البياني عن المعنى القرآني في سياق السورة. كذلك حَدَّدتُ لك المبحوث عنه (المعنى القرآني) ومجال البحث (سياق السورة) ومنهاجه (البحث البيانيّ) ناظرًا إلى أنّ هذا لا يعدو أن يكون تصورًا نظريًّا يفتقر إلى تجريب يتجاوز طور التطبيق؛ لأنّه لم يَرْقَ إلى أن يكون منهجًا محقققًا محررًا. لا أقول ذلك تواضعًا، فإنّما يتواضع الكبار، وإنما أقوله وصفًا لواقع مشهود مرصود. وهذا يفرض على من سلك السبيل أن يكون ذا عزم على ألا يكون " إمّعة " يُلبِّي ما يُغْرَى به دون مناقدة ومباحثه، فليس ذلك من شأن أهل العلم بكتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وطلبته. أدبهم أنّ كلَّ البشر يؤخذ منه خيرُه ويردّ عليه غيره خلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنّه لا يأتينا منه إلا الحقّ والخير. {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:4) ذلك موقف المسلم من عقل الآخر وفعله: لايرفضه كلَّه، ولا يأخذه كله.

منهج قائم على مثاقفة الآخر والوقوف على ما علمه وعمله، وعلى منهاجه في حركة حياته؛ ليستثمر ذلك فيما ينفعه هو أولا، وليقف على السبيل إلى قلبه، ليدعوه إلى الإسلام، فينفث فيه معاني الهدى إلى الصراط المستقيم. إنَّك إذا لم تعرف الآخر، فلن يكون لك سبيل إلى عقله وقلبه، كلّ مسلم مسؤول عن إبلاغ الدعوة الإسلامية كما جاء بها الكتاب والسنة بلسان حاله أولا ولسان مقاله آخرًا إلى الناس كافة في كلّ عصر ومصر، وبكل لسان ومنهاج كريم. {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:43-44) والبحث البياني عن المعنى القرآني ليس غاية في نفسه، وإلا كان علما غير نافع يستعاذ بالله - عز وجل - منه كما هدت السنة المطهرة إلى ذلك بل هو وسيلة إلى غاية جليلة هي فقه المعنى القرآني فقها يبعث القلب على الإقبال على ما يهدي إليه - عز وجل - أمرًا ونهيًا أقبال محبة وإجلال لينعم العبد بجنة معرفته ومحبته في الدنيا، ولينعم بجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فاحذر أن تنفق عمرك في طلب العلم وتغفل عن العمل بما علمت، فشأن المسلم أن يتعلم على قدر طاقته في العمل، فإذا عمل بما علم اتسعت طاقته لما هو أعظم وأكرم، فيقبل على العلم، ثُم يقبل على العمل بما أضافه من العلم، فإذا هو الحالّ المرتحل بين العلم النافع والعمل الصالح.

ولا تكن ممن أنفق عمره في تحقيق الوجوه الإعرابية في قول الله تعالى: {.فَنِعِمَّا هِيَ..} (البقرة: 271) مثلا، أو مذاهب العلماء في الاستعارة في قول الله - عز وجل - {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولا يخرج من تورك عقليّ إلا ليسقط في تورّك عقليّ أعتَى، وما عمّر ليلة بقيام، ولا نهارًا بصيام، ولا مريضًا بعود، ولا مستنصرًا بنصر. إنَّ علومنا الشريفة وسائل إلى غايات جليلة تمنح هذه العلوم شرفها، فهي شريفة من غاياتها لا من ذاتها ,. {بسم الله الرحمن الرحيم. وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيه ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأمته كما يحب ويرضى، والحمد لله ربّ العالمين.

بيان أهمّ المصادر والمراجع. الاتقان فى علوم القرآن للسيوطى - تحقيق محمد أبو الفضل طبعة 1387 - المشهد الحسينى بالقاهرة. أسرار البلاغة - عبد القاهر الجرجانى - تحقيق محمود شاكر دار المدنى بجدة. الإعجاز البلاغى لشيخنا: محمد أبو موسى - مكتبة وهبة بالقاهرة. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية - مصطفى الرافعي - ط سنة:1389- المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة. البرهان فى علوم القرآن لبدر الدين الزركشى- تحقيق محمد أبو الفضل بيروت. البرهان في ترتيب سور القرآن لأبي جعفر بن الزبير - تح:محمد شعباني - المغرب - وزارة الأوقاف 1410 البلاغة القرآنية فى تفسير الكشاف لشيخنا: محمد أبو موسى مكتبة وهبة - الطبعة الثانية. البيان في إعجاز القرآن لأبي سليمان الخطابي - ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - تحقيق: محمد خلف الله وزغلول سلام - دار المعارف بالقاهرة 1378التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور - الدار التونسية للنشر- تونس. التصوير البياني: شيخنا محمد أبو موسى - ط: مكتبة وهبة - القاهرة التصوير الفنى فى القرآن لسيد قطب - ط: التاسعة 1978 - دار الشروق. جامع البيان في تأويل القرآن لأبي جعفر الطبري: نشر دارالغد العربي بالقاهرة 1996 جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر - جمع وقراءة وتقديم د: عادل سليمان جمال - ط: الخانجي - 1424 هـ دراسة فى البلاغة والشعر لشيخنا: محمد أبو موسى - مكتبة وهبة -بالقاهرة. دلائل الاعجاز - عبد القاهر الجرجانى - تحقيق محمود شاكر دار المدنى بجدة. فى ظلال القرآن لسيد قطب - دار العلم للطباعة والنشر بجدة:ط سنة 1406 قراءة جديدة لتراثنا النقدي: بحث تمام حسان: موقف النقد العربي التراثي من دلالات ما وراء الصياغة اللغوية -النادي الأدبي الثقافي بجدة1410هـ الكشاف عن حقائل التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل - لأبي القاسم جار الله محمود بن عمرالزمخشرى - مطبعة الحلبى سنة 1392 هـ. اللغة الشاعرة: مزايا الفنّ والتعبير في اللغة العربية - عباس العقاد - مطبعة الاستقلال - مكتبة غريب - القاهرة (د ت) المثل السائرفي أدب الكاتب والشاعر: لضياء الدين ابن الأثير تح: محمد محيي الدين عبد الحميد- ط: المكتبة العصثرية - بيروت "1411 مدخل إلى كتابي عبد الفاهر الجرجاني:شيخنا محمد ابو موسى - ط:1418- مكتبة وهبة مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور لبرهان الدين البقاعي - تح: عبد السميع حسنين - الرياض 1408 من أسرار التعبير القرآنى:دراسة تحليلية لسورة الأحزاب - لشيخنا: محمد أبو موسى - ط: الثانية -1416 - مكتبة وهبة. مناهل العرفان فى علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقانى - ط: الثالثة - عيسى الحلبى - القاهرة. الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي - تحقيق:عبد الله دراز - دار الفكر العربي - القاهرة النبأ العظيم - محمد عبد الله دراز - دار القلم الكويت. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبرهان البقاعيّ ط: بيروت: دار الكتب العلمية. النكت في إعجاز القرآن للرماني - ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن تحقيق محمد خلف الله،وزغلول سلام - دار المعارف

المحتويات المقدمة المخل إلى المنهج الدعوة إلى التدبر مفهوم التدبر المبتغَى إليه بالتدبر مفهوم المعنى القرآني مجال التدبر والبحث عن المعنى القرآني مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني توطئة ***************** الفصل الأول فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآني تنزلات القرآن وجه تسمية الفاتحة أم الكتاب محور المعنى في أم الكتاب البقرة رأس التفصيل وسنامه أنواع المعنى القرآني في السورة علاقة ذلك بتبيان موقع السورة على السياق الكلي علاقة هذا بغرض عبد القراهر من كتابه (أسرار البلاغة) مذهب السيوطي في بيان موقع السورة على السياق القرآني تأويل مذهبه مذهب شيخنا أبي موسى في علاقة الطواسيم ببعضها وموقع كل على السياق القرآني عناية البقاعي بموقع السورة في السياق القرآني بيانه علاقة البقرة بالفاتحة علاقة آل عمران بالبقرة والفاتحة مذهبه في تناسل مقاصد السور مذهبه في تقسم القرآن الكريم إلى مراحل علاقة مفتتح ومختتم كل مرحلة بمفتتح ومختتم المراحل الأخرى علاقة السور المفتتحة بالحمد ومواقعها في السياق القرآني مذهب السعد التفتازاني تفصيل البقاعي مذهب السعد تأويل الفصل بين السور المستفتحة بالحمد علاقة هذه السور الفاصلة بما قبلها وما بعدها ************** الفصل الثاني فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم وجه تفصيل القرآن إلى سور دلالة التسمية بالسورة على وحدة المقصد من إعجاز القرآن عجز الخلائق عن إعادة نسق ترتيب آيات سوره فريضة العناية بالنظر في أول الكلام وآخره لمن تدبّر موقف الشاطبي من غاية الفقه وغاية البياني من تدبر القرآن الكريم أثر ذلك في تدبر وحدة مقصود السورة لكل سورة طابعها الروحي مذهب الشيخ دراز تحقيق المقصود سبيل إلى عرفان تناسب الآيات تشبيه السورة بالشجرة في تناسبها تشبيه السورة بالدائرة في بنائها تكرار القصص ووحدة مقصود السورة المقصد الكلّي هو الروح المهيمن روح التركيب عند الرافعي أثر روح التركيب في تمازج السياقين التشريعي والتكليفي في القرآن لا تفاوت بين بلاغة ضروب البيان التشريعي والتثقيفي روافد استصار المقصود الأعظم في السورة: اسم السورة منهج التسمية ووجه الدلالة فاتحة السورة خاتمةالسورة تدبر الفروق البيانية بين المعاني الكلية المصرفة في السورة تدبر المعاني الكلية الخاصة تدبر الفروق البيانية بين المعاني الجزئية المصرفة في السورة تكرار أو تصريف نمط تركيبي في سياق السورة المعجم اللغوي *********** الفصل الثالث تقسيم السورة إلى معاقد كلية اشتمال السور على معانٍ كلية مترابطة أساس تقسيم السور إلى معاقد كلية أثر هذا التقسيم تقسيم سورة البقرة إلى معاقد: المطلع والمقدمة - قلب السورة - خاتمتها تأصيل ذلك من السنّة والآثار الموقوفة والمرفوعة. مذهب الشيخ دراز في تقسيمها ما أذهب إليه في تقسيم سورة البقرة ووجه ذلك الاختيار علاقة معاقد سورة البقرة ببعضها ************ الفصل الرابع التحليل البياني لكلمات وجمل وآيات السورة بين يدي السفر في التأويل التحليل البياني هو القادر على إضاءة السورة من داخلها التحليل البياني قراءة تأويلية لبيان السورة منزلة الذاتية في التحليل البيلاني ما يقوم عليه المنهج اهمية العناية بالتصريف البياني عن المعنى القرآني في منهج التحليل البياني أهميبة العناية بتوجيه القراءات القرآنية في منهج التحليل البياني التحليل البياني بين التفكيك والتركيب مجال التحليل البياني للسورة التحليل البياني للمفردات التحليل البياني للتراكيب التحليل البياني للصورة البيانية التحليل البيان للجرس والإيقاع فاصلة القول

(212) بيان أهم المصادر والمراجع (216) للمؤلف دلالة الألفاظ عند الأصوليين: دراسة بيانية ناقدة (نفد) سبل الاستنباط من الكتاب والسنة: دراسة بيانية ناقدة (نفد) صورة الأمر والنهي في الذكر الحكيم إشكالية الجمع بين الحقيقة والمجاز في الْقُرْآن الكَريم مسالك العطف بين الإنشاء والخبر في الْقُرْآن الكَريم معالم التكليف والتثقيف في آيات الربا من سورة البقرة (نفد) إعجاز الْقُرْآن الكَريم بالصرفة - دراسة ناقدة (نفد) الإمام البقاعي: جهاده ومنهاج تأويله بلاغة الْقُرْآن الكَريم فقه تغيير المنكر- نشر في سلسلة كتاب الأمة العدد 41 (نفد) تغييب الإسلام الحق دراسة في نقض اعتداء ادعياء التنوير على الْقُرْآن الكَريم الإغريض في الفرق بين الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض لتقي الدين السبكي: تحقيق ودراسة (نفد) قراءة في المثل السائر لابن الأثير (نفد) فقه بيان النبوة: دراسة في البلاغة النبوية من ميراث النبوة: دراسة في البلاغة النبوية (نفد) قطرات الندى: معالم الطريق إلى فقه الشعر (نفد) *** هذه الكتب منشورة في مكتبة (وهبة) شارع الجمهورية رقم 14 - عابدين - القاهرة صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم

§1/1