العروة الوثقى في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في كلمة التوحيد: العروة الوثقى، والكلمة الطيبة، وكلمة التقوى، وشهادة الحق، ودعوة الحق، ((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ((جمعتها لنفسي ولمن شاء الله تعالى من عباده، وأسأل الله الذي لا إله إلاّ هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن يجعلني وإياكم وجميع المسلمين من أهلها الصادقين المخلصين، الموقنين العاملين بما دلت عليه، وبما تقتضيه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. وقد قسمت البحث إلى أربعة فصول، وتحت كل فصل مباحث على النحو الآتي: • الفصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.

- المبحث الأول: مكانة ومنزلة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. - المبحث الثاني: معنى لا إله إلا الله. - المبحث الثالث: أركان لا إله إلا الله. - المبحث الرابع: فضل لا إله إلا الله. - المبحث الخامس: لا إله إلا الله تتضمن أنواع التوحيد. - المبحث السادس: لا إله إلا الله دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام. - المبحث السابع: شروط لا إله إلا الله. • الفصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - المبحث الأول: معناها ومقتضاها. - المبحث الثاني: وجوب معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. - المبحث الثالث: الحجج والبراهين على صدقه - صلى الله عليه وسلم -. - المبحث الرابع: حقوقه على أمته - صلى الله عليه وسلم -. - المبحث الخامس: عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -. - المبحث السادس: تحريم الغلو والإطراء فيه - صلى الله عليه وسلم -. • الفصل الثالث: نواقض ونواقص الشهادتين. - المبحث الأول: أقسام المخالفات. - المبحث الثاني: أخطر النواقض وأكثرها وقوعاً. - المبحث الثالث: تفصيل بعض النواقض وأنواع النفاق والبدع. - المبحث الرابع: أصول النواقض. • الفصل الرابع: دعوة المشركين إلى كلمة التوحيد. - المبحث الأول: البراهين العقلية لإثبات ألوهية الله تعالى. - المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله تعالى. - المبحث الثالث: ضرب الأمثال. - المبحث الرابع: الكمال المطلق لله وحده.

- المبحث الخامس: بيان الشفاعة المثبتة والمنفية. - المبحث السادس: الإله الحق سخر ما في الكون لعباده. وقد سلكت في هذا البحث منهج أهل السنة والجماعة، وأسأل الله أن يجعله مباركاً خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً لمؤلفه، وقارئه، وطابعه، وناشره من جنات النعيم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في يوم السبت الموافق 17/ 10/1415هـ‍ ‍

الفصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله:

الفصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله المبحث الأول: مكانة ومنزلة لا إله إلا الله لا إله إلا الله: كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسموات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (¬1)، [ومن أجلها خلقت الدنيا والآخرة]، وبها أرسل الله رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه؛ قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬2)؛ ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، [وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثواب والعقاب [وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، ويثقل الميزان أو يخف، وبها النجاة من النار بعد الورود، وبعدم التزامها البقاء في النار] وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، [وبها أخذ الله الميثاق] وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب [يوم التلاق]، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نُصِبتِ القِبلةُ، وعليها أُسِّسَتِ الملة؛ وهي حقُّ الله على جميع العباد، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( ... حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)) (¬3)، [وهي أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده المؤمنين إذ هداهم إليها]، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 56. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب اسم الفرس والحمار، رقم 2856، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، رقم 30.

دار السلام، وبها يُعصم الدم والمال، ومن أجلها جُرِّدت سيوف الجهاد، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) (¬1)، وهي أول ما يجب أن يُدعى إليه. قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: ((إنّك تَقْدَمُ على قومٍ أهلِ كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)) وفي رواية: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .. )) (¬2). [وهي أصل الدين وأساسه، ورأس أمره وساق شجرته، وعمود فسطاطه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) (¬3)، وهي العروة الوثقى، وهي كلمة الحق، وكلمة التقوى، وهي القول الثابت، والكلمة الطيبة، وأعظم الحسنات]، وشهادة الحق، وكلمة الإخلاص، ودعوة الحق، وأفضل الذكر، وأفضل ما قاله النبيون، وهي أفضل الأعمال، وتعدل عتق الرقاب، وتفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية، وهي الكلمة العظيمة التي عنها يُسأل الأولون والآخرون فلا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}، برقم 25، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم 22. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، رقم 1458، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم 19. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (دعاؤكم إيمانكم)، رقم 8، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم 16.

تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فجواب الأولى: بتحقيق ((لا إله إلا الله)): معرفةً، وإقراراً وعملاً، وجواب الثانية: ((أن محمداً رسول الله)): معرفةً، وإقراراً، وانقياداً، وطاعة (¬1)؛ لأنه عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، فهدى الله به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، [وفتح به أعيناً عُمياً، وقلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وافترض على العباد طاعته، ونصرته وإعانته، وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسدَّ الله دون جنته الطرق فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذِّلّةَ والصَّغار على من خالف أمره، وبحسب متابعته - صلى الله عليه وسلم - تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه: الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه: الذِّلةُ والصَّغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد، 1/ 34، ومعارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، 2/ 410 - 413، وكلمة الإخلاص وتحقيق معناها للحافظ ابن رجب الحنبلي، ص49 - 51. (¬2) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 34 - 36 بتصرف. وانظر: الشفاء في حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 3.

المبحث الثاني: معنى لا إله إلا الله

المبحث الثاني: معنى لا إله إلا الله معنى ((لا إله إلا الله)): لا معبود بحق إلا الله (¬1) فالحق أن معنى كلمة التوحيد: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} (¬2)، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬3)، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬4)، {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬5)، {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬6)، {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} (¬7)، {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬8)، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ ¬

_ (¬1) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص73، وفتح المجيد، ص47، ومعارج القبول، 2/ 416، وتحفة الإخوان لابن باز، ص23، والأصول الثلاثة وحاشيتها لابن القاسم، ص50، والأصول الثلاثة وحاشيتها لابن عثيمين. انظر فتاوى ابن عثيمين، 6/ 66. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 18. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬4) سورة النحل، الآية: 36. (¬5) سورة الزخرف، الآية: 45. (¬6) سورة الحج، الآية: 62. (¬7) سورة المؤمنون، الآية: 91. (¬8) سورة الأنبياء، الآيتان: 21 - 22.

هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬1)، {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً *سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (¬2)، {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3)، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬4)، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬5)، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّموَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاّ غُرُورًا} (¬6)، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّموَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬7)، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 163. (¬2) سورة الإسراء، الآيتان: 42 - 43. (¬3) سورة المائدة، الآية: 73. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬5) سورة الزمر، الآية: 38. (¬6) سورة فاطر، الآية: 40. (¬7) سورة الأحقاف، الآية: 4.

دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬1)، {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (¬2)، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3). وهذه الآيات السابقة وغيرها من الآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى تبيّن أن الله هو المعبود بحق وحده لا شريك له ولا رب سواه، فاتضح أن معنى ((الإله)) (¬4) هو المعبود؛ ولهذا قال قوم هود: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (¬5)، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكفار قريش: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) (¬6)، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (¬7)؛لأنهم قد اعتادوا عبادة الأصنام، والأوثان، والأولياء، والأشجار، والقبور، والذبح لهم، والنذر لهم وطلب ¬

_ (¬1) سورة الرعد، الآية: 16. (¬2) سورة ص، الآيتان: 65 - 66. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 62. (¬4) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص73. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 70. (¬6) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، برقم 964، والطبراني في معجمه الكبير، برقم 4582، وأحمدفي المسند، 3/ 492، 4/ 341، والحاكم في المستدرك، 1/ 15، وابن حبان كما في الموارد، (5/ 293 - 294، برقم 1683). (¬7) سورة ص، الآية: 5.

قضاء الحاجات وتفريج الكروب فاستنكروا هذه الكلمة؛ لأنها تبطل آلهتهم ومعبوداتهم من دون الله تعالى (¬1). {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} (¬2). فتضمنت كلمة لا إله إلا الله أن ما سوى الله تعالى ليس بإله وأن إلهية ما سواه من أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت هذه الكلمة نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهاً واحداً والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً ... وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تألّه القلب لله: بالحب والخضوع، والانقياد له وحده لا شريك له (¬3)؛ لأنه الإله الحق الذي تألهه القلوب: محبةً وإجلالاً، وإنابةً، وإكراماً، وتعظيماً، وذلاً، وخضوعاً، وخوفاً، ورجاءً، وتوكلاً (¬4). فيجب إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة: كالدعاء، والخوف، والمحبة، والتوكل، والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، والطواف، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، وجميع أنواع العبادة، وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 4/ 5. (¬2) سورة الصافات، الآيتان: 35 - 36. (¬3) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص73. (¬4) انظر: فتح المجيد، ص46.

الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة (¬1). فيجب صرف ذلك كله لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئاً مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله تعالى فهو مشرك ولو نطق بـ ((لا إله إلا الله)) إذا لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الأصول الثلاثة لمحمد بن عبد الوهاب وحاشيتها لابن القاسم، ص34. (¬2) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص74.

المبحث الثالث: أركان لا إله إلا الله

المبحث الثالث: أركان لا إله إلا الله الركن الأول: النفي: وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى من جميع المخلوقات كائناً من كان. الركن الثاني: الإثبات: وهو إثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه فهو الإله الحق وما سواه من الآلهة باطل (¬1)، {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬2). وقد أعرب العلماء كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) فقالوا: ((لا)) نافية للجنس، و ((إله)) اسمها مبني على الفتح، وخبرها محذوف تقديره، ((حق)) أي: لا إله حق. إلا الله: استثناء من الخبر المرفوع (¬3) فـ ((لا إله إلا الله)) نافياً لجميع ما يعبد من دون الله، فلا يستحق أن يعبد. ((إلا الله)) مثبتاً العبادة لله وحده فهو الإله المستحق للعبادة، فتقدير خبر ((لا)) بحق هو الذي جاءت به النصوص من الكتاب والسنة. أما تقديره بـ ((موجود)) أو ((معبود)) فقط فهو غلط خلاف الصواب، لكن لو نعت اسم ((لا)) بحق فلا بأس: ويكون التقدير ((لا إله حقاً موجود إلا الله)) (¬4)؛ لأنه يوجد معبودات كثيرة من الأصنام والأضرحة، ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص47،وتيسير العزيز الحميد، ص77، ومعنى لا إله إلا الله للعلامة صالح بن فوزان، ص16. (¬2) سورة لقمان، الآية: 30. (¬3) انظر: معنى لا إله إلا الله للعلامة صالح الفوزان، ص16، وحاشية ثلاثة الأصول للعلامة ابن عثيمين ضمن فتاواه، 6/ 66. (¬4) انظر: معارج القبول، 2/ 416.

والقبور وغيرها، ولكن المعبود بحق هو الله وحده، وما سواه فمعبود بالباطل وعبادته باطلة، وهذا مقتضى ركني لا إله إلا الله (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: معنى لا إله إلا الله للعلامة صالح الفوزان، ص16، وفتاوى ابن عثيمين، 6/ 66.

المبحث الرابع: فضل لا إله إلا الله

المبحث الرابع: فضل لا إله إلا الله كلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن حصرها، من قالها صادقاً من قلبه وعمل بما دلت عليه كانت له السعادة في الدنيا والآخرة، ومن قالها كاذباً حقنت دمه وحفظت عليه ماله في الدنيا وحسابه على الله - عز وجل -. ومن فضائلها وعظمتها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - عن معاذ - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬1). 2 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار. فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((على الفطرة)) ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خرجت من النار)) فنظروا فإذا هو راعي مِعْزى (¬2). 3 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله! أوصني. قال: ((إذا عملت سيئةً فأتبعها حسنة تمحها)). قال قلت: يا رسول الله! أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: ((هي أفضل الحسنات)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب التلقين، برقم 3116، وأحمد في المسند، 5/ 233، 247، والحاكم في المستدرك، 1/ 351، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6479. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، برقم 382. (¬3) أخرجه أحمد في المسند،5/ 169،وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم1373.

4 - وعن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ نوحاً قال لابنه عند موته: ((آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع، لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفّة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كُنّ حلقة مُبهمة قصمتهن لا إله إلا الله)) (¬1). 5 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال موسى - عليه السلام - يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقول هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع [وعامِرَهن غيري] والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)) (¬2). 6 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله سيخلِّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ كلُّ سجلٍ مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند 2/ 170، و225، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 548، والبزار، برقم 2998، و3069، وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند، برقم 6583، والحاكم ووافقه الذهبي 1/ 48،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 5/ 133، 142: ((رواه البزار، وأحمد في حديث طويل، تقدم في وصية نوح - عليه السلام - في الوصايا، ورجال أحمد ثقات)). (¬2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، 8/ 327 - 328،والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 834، و1141، وأبو يعلى في مسنده، برقم 1393، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 528، وابن حبان، برقم 2324 (موارد)، والبغوي في شرح السنة، 5/ 54، و 55، برقم 1273.

بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلاّت في كفة والبطاقة في كفَّةٍ فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)) (¬1). 7 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما قال عبدٌ لا إله إلا الله قَطّ مخلصاً إلا فُتحت له أبوابُ السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر)) (¬2). 8 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من أفضل الدعاء الحمد لله، وأفضل الذكر لا إله إلا الله)) (¬3). 9 - وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله والله أكبر، لا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، برقم 2639، وابن ماجه، في كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة برقم 4300، وأحمد، 2/ 213، وابن حبان كما في الموارد، برقم 2524، والحاكم في المستدرك، 1/ 6، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، وفي 1/ 529، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)). وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 53: ((صحيح)). (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب دعاء أم سلمة، برقم 3590، وقال: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 5648. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، برقم 3383، وابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل الحامدين، برقم 3800، والحاكم في المستدرك، 1/ 503، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وقال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب))، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1104، وفي لصحيحة، برقم 1497.

إله إلا الله وحده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. من قالها في مرضه، ثم مات لم تطعمه النار)) (¬1). 10 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) (¬2). 11 - وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كَتَبَ الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورَفع له ألف ألف درجة)) (¬3). 12 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول العبد إذا مرض، برقم 3430، وابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل لا إله إلا الله، برقم 3794، وأبو يعلى في مسنده، برقم 6153، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 713، والصحيحة، برقم 1390. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة، برقم 3585، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3274، والصحيحة، برقم 1503. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا دخل السوق، برقم 3428، والحاكم، 1/ 538، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 411، ورواه ابن ماجه، برقم 2235.

يأت أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) (¬1). 13 - وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل)) (¬2). 14 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير .. عشر مرات حين يصبح كتب الله له بها مائة حسنة، ومحا عنه بها مائة سيئة، وكانت له عدل رقبة، وحُفِظ بها يومئذٍ حتى يمسي ومن قالها مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك)) (¬3). 15 - وعن عُمارة بن شبيب أن رجلاً من الأنصار حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال بعد المغرب أو الصبح [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويُميتُ، وهو على كل شيء قدير] عشر مرات بعث الله له مَسْلَحَة (¬4) يحرسونه [من الشيطان] حتى يصبح، ومن حين يصبح حتى يمسي [وكتب له بها عشر حسنات موجبات، ومحي عنه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3293، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم 2691. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، برقم 6404، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم 2693. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده، 2/ 360، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 26، وحسن إسناده سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله كما في تحفة الأخيار، ص 44. (¬4) أي: الحرس.

عشر سيئات موبقات، وكانت له كعدل عشر رقاب مؤمنات])) (¬1). 16 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار)) (¬2). ومن فضل الله تعالى أنه لم يحرم عباده الخير والفضل فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من قالها إذا أصبح مرة واحدة كان له الفضل الآتي: 17 - عن أبي عياش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كانت له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحُطّ عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 577، و578، واللفظ من الروايتين، وهو صحيح الإسناد، وجهالة الصحابي لا تضر. انظر: صحيح كتاب الأذكار للنووي، 1/ 253، برقم 2 44/ 182، وعمل اليوم والليلة للنسائي بتحقيق د. فاروق حمادة، ص385. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5069، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 1201، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 9، ص70، وقال: ((أعتقه الله ذلك اليوم من النار))، وابن السني، برقم 70، وحسن إسناد أبي داود والنسائي سماحة الشيخ ابن باز في تحفة الأخيار، ص23.

يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح)) (¬1). 18 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)) (¬2). 19 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله. قال أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله. قال أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال حي على الصلاة. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال حي على الفلاح. قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر. قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)) (¬3). 20 - وعن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( .. فإن الله حرم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5077،وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، برقم 3867،وأحمد،4/ 60،وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،1/ 270،وصحيح أبي داود،3/ 957،وصحيح ابن ماجه، 2/ 331. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا توضأ، برقم 169، 170، والترمذي في الطهارة، باب ما بعد الوضوء، برقم 55. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 385،وأبو داود في الصلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذن، برقم 527،والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 40.

على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬1). 21 - وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه)) (¬2). 22 - وعن عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبيه قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو وهو يقول: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد))، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطى)) (¬3). 23 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع (¬4) وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قولُ لا إله إلا الله، وأدناها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، برقم 425، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر، برقم 33/ 263. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 386. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1493، والترمذي في كتاب الدعوات، باب جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3475، وابن ماجه في الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3857، وأحمد في المسند، 5/ 360، وابن حبان كما في الموارد، برقم 2383، والحاكم في المستدرك، 1/ 504، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 432، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 410. (¬4) بضع: عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع. فتح الباري لابن حجر، 1/ 51.

إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة (¬1) من الإيمان)) (¬2). 24 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) (¬3). 25 - وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) وفي رواية: ((أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)) (¬4). 26 - قتل أسامة - رضي الله عنه - رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أسامة، قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله))؟ قال: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم ¬

_ (¬1) شعبة: خصلة. فتح الباري، لابن حجر، 1/ 52. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الدين، برقم 9، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، برقم 35. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الثياب البيض، برقم 5827، ومسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار، برقم 94/ 154. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ}، برقم 3435، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 28.

القيامة)) فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟ قال أسامة - رضي الله عنه -: فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (¬1). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، وقد ذكرت منها ستة أحاديث غير هذا في شروط لا إله إلا الله في هذا الكتاب (¬2). وهذه الأحاديث دلّت على أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، ولكن لابد من استكمال شروطها، وأركانها، ومقتضاها، والابتعاد عن نواقضها، فمن أتى بهذه الكلمة وقد سلم من أنواع الظلم الثلاثة: ظلم الشرك، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه بالمعاصي فيما دون الشرك فله الأمن التام والهداية التامة، ويدخل الجنة برحمة الله وفضله بغير حساب، ومن جاء بهذه الكلمة وقد نقصها بالذنوب التي لم يتب منها؛ فإن كانت صغائر كُفِّرت باجتناب الكبائر كما في قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (¬3)، وإن كانت كبائر فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة (¬4). وأحسن ما قيل في هذه الأحاديث ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، برقم 96، وانظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، للمؤلف، ص73. (¬2) حديث عثمان في الشرط الأول، وحديث أبي هريرة في الثاني، وحديث معاذ في الخامس، وحديث أبي هريرة في السادس، وحديث أبي مالك في الثامن. (¬3) سورة النساء، الآية: 31. (¬4) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص70، و 71.

وغيره: ((إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة، وقالها خالصاً من قلبه مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين؛ فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب [كلها] توبة نصوحاً فإذا مات على تلك الحال نال ذلك؛ فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيراً ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: ((سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته))، وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (¬1) وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث فإذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 23.

الحال مصراً على ذنب أصلاً؛ فإنَّ كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهية لما أمر الله به، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإنَّ هذا الإيمان وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا يتركون له ذنباً إلا يُمحى كما يُمحى الليل بالنهار (¬1). فتبين بذلك أن لا إله إلا الله لابد من استكمال جميع شروطها، وأركانها، ومقتضاها، والابتعاد عن نواقضها، ونواقصها من المعاصي؛ ولهذا قال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؛ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلاَّ وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح وإلا لم يفتح (¬2). ¬

_ (¬1) تيسير العزيز الحميد، ص87، 88 بتصرف يسير. (¬2) أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، بابٌ في الجنائز ومن كان آخر كلامه ((لا إله إلا الله))، 3/ 109 ((فتح الباري))، انظر: كلمة الإخلاص لابن رجب، ص11.

المبحث الخامس: لا إله إلا الله تتضمن جميع أنواع التوحيد

المبحث الخامس: لا إله إلا الله تتضمن جميع أنواع التوحيد الله - سبحانه وتعالى -: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، فإفراده تعالى وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين كله لله هذا هو توحيد الألوهية: وهو معنى (لا إله إلا الله) وهذا التوحيد يتضمن جميع أنواع التوحيد (¬1) ويستلزمها؛ فإن التوحيد نوعان: 1 - التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي: وهو توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمته، وتنزيهه عما لا يليق به. 2 - التوحيد الطلبي القصدي الإرادي: وهو توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الإلهية أو العبادة (¬2). وتكون أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع كالآتي: النوع الأول: توحيد الربوبية وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو الرب المتفرد بالخلق، والملك، والرزق، والتدبير، الذي ربّى جميع خلقه بالنعم، وربى خواص خلقه - وهم الأنبياء وأتباعهم المخلصون - بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وهذه التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص74، والقول السديد للسعدي، ص17، وبيان حقيقة التوحيد للعلامة الفوزان، ص20. (¬2) انظر: معارج القبول، 1/ 98، وفتح المجيد، 17.

النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات

النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله هو المنفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف. ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص والعيوب، وعن كل ما ينافي كماله. وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات قد وضحه الله في كتابه كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك (¬1). النوع الثالث: توحيد الإلهية، ويقال له: توحيد العبادة، وهو الاعتقاد الجازم - مع العلم والعمل والاعتراف - بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين كله لله، وهو يستلزم توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ويتضمنهما؛ لأن الألوهية التي هي صفة تعمّ أوصاف الكمال، وجميع أوصاف الربوبية والعظمة؛ فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال، ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والإفضال، فتوحده سبحانه بصفات الكمال، وتفرده بالربوبية، يلزم منه أن لا يستحق العبادة أحد سواه. ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص17، والقول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن السعدي، ص14 - 17، ومعارج القبول، 1/ 99.

وتوحيد الألوهية هو مقصود دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. وهذا النوع قد تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1)، وأول سورة السجدة وآخرها، وأول سورة غافر ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وغالب سور القرآن. وكل سور القرآن قد تضمنت أنواع التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله: إما خبر عن الله وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: ((توحيد الربوبية والأسماء والصفات)). وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي - ((توحيد الألوهية)) -. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في الآخرة من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم (¬2). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬2) انظر: فتح المجيد، ص17 - 18،والقول السديد، ص16،ومعارج القبول،1/ 98.

المبحث السادس: لا إله إلا الله دعوة الرسل عليهم السلام

المبحث السادس: لا إله إلا الله دعوة الرسل عليهم السلام يجب أن يُبلّغ كل من أشرك بالله تعالى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده دون ما سواه، وأن الحجة قد قامت على جميع الأمم، وما من أمة إلا بعث الله فيهم رسولاً، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له (¬1)؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬2)، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬3)، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬4). فبيّن سبحانه في هذه الآيات عن طريق العموم أن جميع الرسل دعوا إلى ((لا إله إلا الله))، وخلع جميع المعبودات من دون الله (¬5)، وفَصَّل ذلك في مواضع أخرى من كتابه، كقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... } (¬6)، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 9/ 344،وتفسير ابن كثير،2/ 567، والسعدي، 4/ 202، وأضواء البيان للشنقيطي، 3/ 268. (¬2) سورة النحل، الآية: 36. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 45. (¬5) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 3/ 268. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 59.

هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬1)، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬2)، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬3)، {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬4). وهذا بلاغ مبين من الله لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 65. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 73. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 85. (¬4) سورة المائدة، الآية: 72.

المبحث السابع: شروط لا إله إلا الله

المبحث السابع: شروط لا إله إلا الله وكلمة التوحيد لا تنفع قائلها إلا إذا عُمِلَ بشروطها، فقد كان المنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لم يؤمنوا بها ولم يعملوا بشروطها، وكذلك اليهود تقولها وهم من أكفر الناس لعدم إيمانهم بها، وهكذا عُبّاد القبور والأولياء من هذه الأمة يقولونها بألسنتهم وهم يخالفونها بأقوالهم، وأفعالهم، وعقيدتهم، فلا تنفعهم ولا يكونون بقولها مسلمين؛ لأنهم ناقضوها بأقوالهم، وأعمالهم، وعقائدهم؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم لها سبعة شروط (¬1) ونظمها بعضهم بقوله: العلم، واليقين، والقبول ... والانقياد فادرِ ما أقول والصدق، والإخلاص، والمحبه ... وَفَّقكَ الله لما أحبه (¬2) وقد زاد بعضهم شرطاً ثامناً فقال: علم، يقين، وإخلاص، وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من الأنداد قد أُلِها (¬3) وهذان البيتان قد استوفيا جميع شروطها: الشرط الأول: العلم بمعناها المنافي للجهل وتقدم أن معناها: لا معبود بحق إلا الله تعالى. فجميع الآلهة التي يعبدها الناس سوى الله تعالى كلها ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص91. (¬2) معارج القبول للحافظ الحكمي، 2/ 418. (¬3) تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام، للإمام ابن باز، ص24، والشهادتان للعلامة عبد الله الجبرين، ص77.

الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك

باطلة. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الله} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬2). الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك، فلابد في حق قائلها أن يكون على يقين بأن الله تعالى هو المعبود بحق؛ فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن أو التوقف والتردد فكيف إذا دخله الشك، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( .. أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة)) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل لأبي هريرة - رضي الله عنه -: (( ... اذهب بنعليَّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبُهُ فبشره بالجنة .. )) (¬5). فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاكٍّ فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط (¬6)، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - ((اليقين الإيمان كله والصبر نصف الإيمان)) (¬7). ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 26. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 15. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 27. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 31. (¬6) انظر: معارج القبول، 2/ 420. (¬7) أخرج البخاري الجزء الأول منه من قول ابن مسعود في كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس))، ص 25، ط بيت الأفكار الدولية، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 48: ((وصله الطبراني بسند صحيح)).

الشرط الثالث: القبول المنافي للرد

ولا شك أن من كان موقناً بمعنى لا إله إلا الله فإن جوارحه تنبعث لعبادة الرب وحده لا شريك له، ولطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: ((اللهم زدنا إيماناً، ويقيناً وفقهاً)) (¬1)، وذُكِرَ عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: ((لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطار اشتياقاً إلى الجنة وهرباً من النار)) (¬2). الشرط الثالث: القبول المنافي للرد، وذلك أن يقبل ما دلت عليه هذه الكلمة بقلبه ولسانه ويرضى بذلك؛ ولهذا كان المشركون يعرفون معنى لا إله إلا الله ولكنهم لم يقبلوها فذمهم الله تعالى وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} (¬3)، وقال: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، وعزاه لأحمد في الإيمان بإسناد صحيح. انظر: فتح الباري،1/ 48. (¬2) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 1/ 48. (¬3) سورة الصافات، الآية: 35. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 33.

الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك

هدى الله الذي أرسلتُ به)) (¬1). الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك، فينقاد لما دلت عليه، ويعبد الله وحده، ويعمل بشريعته، ويؤمن بها ويعتقد أنها الحق، ولعل الفرق بينه وبين القبول: أن الانقياد هو الاتباع بالأفعال والقبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول ويلزم منهما جميعاً الاتباع ولكن الانقياد هو الاستسلام والإذعان وعدم الترك لشيء (¬2) من شروط لا إله إلا الله. قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (¬3)، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬4)، {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الأُمُور} (¬5)، وهذا معنى حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) (¬6)، وهذا هو تمام الانقياد وغايته (¬7). الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب وهو أن يقولها وهو صادق في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، برقم 79، ومسلم في كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم، برقم 2282. (¬2) انظر: (الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما) للعلامة الدكتور عبد الله بن جبرين، ص81، وتحفة الإخوان للإمام العلامة ابن باز، ص26. (¬3) سورة الزمر، الآية: 54. (¬4) سورة النساء، الآية: 125. (¬5) سورة لقمان، الآية: 22. (¬6) ذكره النووي في الأربعين النووية، وعزاه إلى كتاب الحجة، وصحح إسناده، وانظر: الكلام على الحديث في جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص33 8، الحديث الحادي والأربعون. (¬7) انظر: معارج القبول، 2/ 422.

الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك

ذلك صدقاً من قلبه يطابق قلبه لسانه ولسانه قلبه؛ فإن قالها باللسان فقط وقلبه لم يؤمن بمعناها فيكون من جملة المنافقين كما قال سبحانه عنهم أنهم قالوا {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} (¬1)، فكذبهم الله وقال تعالى: {وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}. وقد ثبت اشتراط الصدق في الشهادة في الحديث الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) (¬2). الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك فيخلص العبد لربه في جميع العبادات، وإذا صرف شيئاً منها لغير الله: من نبي أو ولي، أو ملَكٍ، أو صنم، أو جني أو غير ذلك فقد أشرك بالله ونقض هذا الشرط وهو شرط الإخلاص. قال تعالى: {فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬3)، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، الآية: 1. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم 128، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 32. (¬3) سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3. (¬4) سورة البينة، الآية: 5. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، برقم 99.

الشرط السابع: المحبة المنافية للبغض

الشرط السابع: المحبة المنافية للبغض، فيجب على العبد أن يحب الله - عز وجل -، فيحب كلمة التوحيد، ويحب ما اقتضته ودلّت عليه، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله} (¬1)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} (¬2)، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) (¬4)، وإذا أحب العبد الله - عز وجل - فإنه يحب من يحب الله ورسوله؛ لأن من أحب أحداً أحب من يحبه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) (¬5)؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته (¬6): ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 165. (¬2) سورة المائدة، الآية: 54. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم في كتاب الإيمان، باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 4681 من حديث أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان، وله شاهد من حديث معاذ بن أنس الجهني أخرجه أحمد، 3/ 438، و 440، والترمذي في كتاب صفة القيامة، باب رقم 60، برقم 2521، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن))، وصححه الألباني في سلسلته، برقم 380. (¬6) انظر: شرح القصيدة النونية لابن القيم للدكتور محمد خليل الهراس، 2/ 134.

الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله

شَرْطُ المحبَّةِ أن توافِقَ مَنْ ... تُحِبُّ على محبَّتِهِ بلا عِصيان فإذا ادعيتَ له المحبَّةَ مع خلا ... فِكَ ما يُحِبُّ فأنت ذو بهتان أتُحِبُّ أعداء الحبيبِ وتدّعي ... حباً له ما ذَاك في إمكان وكذا تُعادي جاهداً أحبابَهُ ... أين المحبةُ يا أخا الشيطان اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك. الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله، وهو أن يتبرَّأ من عبادة غير الله، ويعتقد أنها باطلة كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬2). قال الإمام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى: ((فأما صفة الكفر بالطاغوت فهو أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتكفِّر أهلها وتعاديهم .. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع أو مطاع، والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبِدَ وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 256. (¬2) سورة النحل، الآية: 36.

ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله (¬1). وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبدُ من دون الله، حَرُمَ مالُهُ ودمه وحسابه على الله)) (¬2). وأما من كان لا يرضى بعبادة المخلوقين له من دون الله: كالأنبياء، والصالحين، والملائكة، فإنهم ليسوا بطواغيت وإنما الطاغوت هو الشيطان الذي دعا الناس إلى عبادتهم وزينها للناس. ومن أعظم الأدلة على وجوب الكفر بالطاغوت وجميع ما يعبد من دون الله قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام للكفَّار {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (¬3)، فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر الله سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬4)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله)) وهذا من أعظم ما يُبَيِّنُ معنى لا إله إلاَّ الله؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع ¬

_ (¬1) الأصول الثلاثة مع حاشيتها لابن قاسم، ص98،وحاشيتها لابن عثيمين ضمن فتاواه،6/ 156. وانظر: مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهّاب، طبع جامعة الإمام محمد، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص376، وقد ذكر لك لكل رأسٍ دليلاً. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 32. (¬3) سورة الزخرف، الآيتان: 26 - 27. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 28.

لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلّها، ويا لَهُ من بيانٍ ما أوضحه، وحجةٍ ما أقطعها للمنازع (¬1). نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة من كل سوء ومكروه (¬2). ¬

_ (¬1) فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، ص123. (¬2) وانظر: تحفة الإخوان للعلامة ابن باز، ص27،وفتح المجيد، ص91، ومعارج القبول، 2/ 418، و ((الشهادتان)) للعلامة ابن جبرين، ص77.

الفصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

الفصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبحث الأول: معناها ومقتضاها 1 - معنى ((شهادة أن محمداً رسول الله)) هو الإقرار باللسان، والاعتقاد الجازم بالقلب بأن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي عبد الله ورسوله أرسله إلى جميع الخلق كافة: من الجن والإنس (¬1). 2 - ومقتضى هذه الشهادة: طاعته فيما أمر، وتصديقُهُ فيما أخبر، واجتنابُ ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع (¬2). فيجب الإيمان بشريعته - صلى الله عليه وسلم -، والانقياد لها: قولاً، وعملاً، واعتقاداً: من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والقيام الكامل بأركان الإسلام: من شهادة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وغير ذلك مما شرع الله على يده - صلى الله عليه وسلم - كالإحسان بأنواعه (¬3). ¬

_ (¬1) الأصول الثلاثة وحاشيتها للعلامة محمد العثيمين ضمن فتاواه، 6/ 71. (¬2) الأصول الثلاثة مع حاشيتها لابن القاسم، ص57. (¬3) انظر: مجموع فتاوى العلامة ابن باز، 4/ 12، و 14.

المبحث الثاني: وجوب معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم -

المبحث الثاني: وجوب معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الأصل الثالث من الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم معرفتها وهي: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبئ بـ (اقرأ) وأرسل بالمدثر، وبلده مكة وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرِجَ به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمِرَ بالهجرة إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة أُمِرَ ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصلاة، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه، ودينه باق وهذا دينه، لا خير إلا دلّ أمته عليه، ولا شر إلا حذرها منه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده، وقد بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على الجن والإنس، فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار (¬2). وتحصل معرفته - صلى الله عليه وسلم - بدراسة حياته، وما كان عليه من العبادة، ¬

_ (¬1) الأصول الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب. (¬2) الأصول الثلاثة، لمحمد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى، ص75، و76.

والأخلاق الجميلة، والدعوة إلى الله - عز وجل -، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك من جوانب حياته - صلى الله عليه وسلم -، فينبغي لكل مسلم يريد أن يزداد معرفة بنبيه وإيماناً به أن يطالع من سيرته ما تيسر: في حربه وسلمه، وشدته ورخائه، وسفره وإقامته، وجميع أحواله نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من المتبعين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً، وأن يثبتنا على ذلك حتى نلقاه وهو راضٍ عنا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى العلامة محمد بن صالح العثيمين، 6/ 39.

المبحث الثالث: الحجج والبراهين على صدقه - صلى الله عليه وسلم -

المبحث الثالث: الحُجَجُ والبراهين على صدقه - صلى الله عليه وسلم - تمهيد: ظهر على يده - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والمعجزات الخارقة للعادات عند التحدي أكثر من سائر الأنبياء، والعهد بهذه المعجزات قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرّهم، ونَقْلُها ثابت بالتَّواتُر قرناً بعد قرن، وأعظمها مُعجزة: القرآن، لم يتغير ولم يتبدّل منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به، كأنه يُشاهدُه عياناً، وقد عجز الأوّلون والآخرون عن الإتيان بمثله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬1). ولا يمكن ليهودي أن يؤمن بنبوة موسى - صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمكن لنصراني أن يُقِرّ بنبوة المسيح - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد إقراره بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن من كفر بنبوة نبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه ببعضهم دون بعض، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬2). ولا ينفع أهل الكتاب شهادة المسلمين بنبوة موسى وعيسى عليهما ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬2) سورة النساء، الآيات: 150 - 152.

الصلاة والسلام؛ لأن المسلمين آمنوا بهما على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوّتهما، ولا سيما وليس بأيدي أهل الكتاب عن أنبيائهم ما يُوجب الإيمان بهم؛ فلولا القرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ما عرفنا شيئاً من آيات الأنبياء المتقدمين، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه هو الذي قرّر نبوّة موسى وعيسى، لا اليهود والنصارى، بل نفس ظهوره، ومجيئه تصديقاً لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا بظهوره، وبشّرا بظهوره: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬1)، فلما بُعث كان بعثه تصديقاً لهما، قال تعالى عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (¬2). فمجيئه تصديق لهما من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به وشهادته بنبوتهم، ولو كان كاذباً لم يصدق من قبله، كما يفعل أعداء الأنبياء (¬3). ومن أعظم الأدلة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لليهود لما بهتوه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬4)، ولم يجسر أحد منهم على ذلك - مع اجتماعهم على تكذيبه وعداوته - لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم به ¬

_ (¬1) سورة الصف، الآية: 6. (¬2) سورة الصافات، الآية: 37. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل، 5/ 78 - 83، ودقائق التفسير لابن تيمية، 4/ 34، وإغاثة اللهفان لابن القيم، 2/ 350، 351، وهداية الحيارى، ص635. (¬4) سورة البقرة، الآية: 94.

لسألوا الله الموت لأي الفريقين أكذب، منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة (¬1)، ونظير ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (¬2). وغير ذلك من دلائل نبوته وصدقه (¬3) - صلى الله عليه وسلم - التي سأذكرها -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 7/ 99، وتفسير ابن كثير، 1/ 128، 129، وتفسير السعدي، 1/ 114. (¬2) سورة الجمعة، الآيتان: 6 - 7. (¬3) ومن دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - في هذا الزمن ما نُشر في صحيفة البلاد السعودية، في عددها رقم 9422، في 15/ 8/1410هـ‍، الموافق 12 مارس 1990م، ودخل في الإسلام بسبب ذلك أربع قُرى نيجيرية، وهذا نص المنشور: لقي أحد الضالين والمستهزئين بالإسلام حتفه أثر تشكيكه في الإسلام والقرآن وإعلانه أمام جمع من الناس قائلاً: إن كان القرآن والإسلام حقاً فإني أسأل الله ألا أرجع إلى بيتي حياً. ويشاء الله أن يلقى هذا الكافر حتفه قبل أن يعود إلى منزله فعلاً!. هذا وقد وقعت هذه الحادثة في (بوب) في ولاية غونفولي بشمال نيجيريا وأسلم على أثرها أهل القرية وثلاث قرى مجاورة. ويقول شهود عيان رأوا الحادثة: إن المكذِّب ويُدعى عمر غيمو وهو قس في كنيسة باتيسي بقرية بوب وقف خطيباً في الكنيسة وبدأ في التطاول على الإسلام والقرآن الكريم وردد العديد من الأكاذيب والأباطيل والافتراءات على الإسلام والقرآن الكريم. ثم قال في نهاية خطبته: ((إن كان القرآن والدين الإسلامي حقاً فأسأل الرب ألا يرجعني إلى بيتي حياً)). وخرج القس من الكنيسة وهو على ثقة تامة بأنه لن يصيبه شيء وسيصل إلى منزله في صحة وعافية ليتخذ ذلك فيما بعد دليلاً يؤكد به للناس افتراءه وأكاذيبه. ويشاء الله - عز وجل - وعلى الرغم من أن الطريق إلى منزله لا توجد به أي أخطار تهدد حياة الإنسان، يشاء الله أن تعثر قدماه وهو يعبر جدول ماء صغير وسقط فيه حتى مات وسارع إليه جماعة من المسيحيين في دهشة وذهول ونقلوه إلى المستشفى والتي رفضت استلامه لوفاته، فذهبوا به إلى مستشفى آخر وثالث وكان التأكيد أنه قد لاقى حتفه ليسقط في أيديهم لحدوث الوفاة بهذه البساطة ودون حدوث أي إصابة أو جرح. والأعجب من ذلك أن أحد المارة كان قد حاول في البداية إنقاذ هذا المستهزئ عند تعثره فلقي مصرعه. تجدر الإشارة إلى أن هذا القس كان مسيحياً، ثم أسلم، وعاش فترة بين المسلمين يتعامل معهم ويتعاملون معه إلا أنه نكص على عقبه وارتد عن الإسلام وأصبح حرباً على دين الله إلى أن لقي مصيره المحتوم.

المطلب الأول: معجزات القرآن العظيم:

ولا شكَّ أن الآيات والبيّنات الدالّة على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وعموم رسالته كثيرة متنوعة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، وجميع الأنواع تنحصر في نوعين: أ - منها: ما مضى وصار معلوماً بالخبر الصّادق كمعجزات موسى وعيسى. ب - ومنها: ما هو باق إلى اليوم كالقرآن، والعلم والإيمان اللذين في أتباعه، فإن ذلك من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها، والآيات التي يظهرها الله وقتاً بعد وقتٍ من كرامات الصّالحين من أمته، وظهور دينه بالحجّة والبرهان، وصفاته الموجودة في كتب الأنبياء قبله وغير ذلك (¬1)، وهذا باب واسع لا أستطيع حصره؛ ولكن سأقتصر في إثبات نبوته - صلى الله عليه وسلم - على مطلبين على النحو التالي: المطلب الأول: معجزات القرآن العظيم: المعجزة لغة: ما أُعجِزَ به الخصم عند التحدي (¬2). وهي أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 4/ 67 - 71. (¬2) انظر: القاموس المحيط، باب الزاي، فصل العين، ص663.

بمثله، يجعله الله على يد من يختاره لنبوّته؛ ليدلّ على صدقه وصحّة رسالته (¬1). والقرآن الكريم كلام الله المنزّل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المعجزة العظمى، الباقية على مرور الدّهور والأزمان، المعجز للأولين والآخرين إلى قيام الساعة (¬2)، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الأنبياء نبيّ إلا أُعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) (¬3). وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، ولا أنه لم يؤت من المعجزات الحسّيّة كمن تقدّمه، بل المراد أن القرآن المعجزة ¬

_ (¬1) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني،1/ 66، والمعجم الوسيط، مادة: عجز، 2/ 585، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للدكتور صالح الفوزان، 2/ 157. والفرق بين المعجزة والكرامة: هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بدعوة النبوَّة والتحدي للعباد. أما الكرامة: فهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا التحدي، ولا تكون الكرامة إلا لعبد ظاهره الصلاح، مصحوباً بصحة الاعتقاد والعمل الصالح. أما إذا ظهر الأمر الخارق على أيدي المنحرفين فهو من الأحوال الشيطانية. وإذا ظهر الأمر الخارق على يد إنسان مجهول الحال؛ فإن حاله يعرض على الكتاب والسنة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: ((إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة)). انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص510، وسير أعلام النبلاء، 10/ 23، والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للسلمان، ص311. (¬2) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري، ص393. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، برقم 4981، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، برقم 152.

العظمى التي اختص بها دون غيره؛ لأن كل نبي أُعطِيَ معجزة خاصة به، تحدّى بها من أُرسِلَ إليهم، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه؛ ولهذا لما كان السحر فاشياً في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السّحرة، لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره. ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حيّر الأطباء، من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وكل ذلك من جنس عملهم، ولكن لم تصل إليه قدرتهم. ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله سبحانه معجزة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم الذي (¬1) {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬2). ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات؛ لأنه حجة مستمرّة، باقية على مرّ العصور، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السّامع من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يومَ القيامةِ)) (¬3). والقرآن الكريم آية بيّنة، معجزة من وجوه متعدّدة، من جهة اللفظ، ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري، 9/ 6، 7، وشرح النووي على مسلم، 2/ 188، وأعلام النبوة للماوردي، ص53، وإظهار الحق، 2/ 101. (¬2) سورة فصلت، الآية: 42. (¬3) انظر: البداية والنهاية، 6/ 69، وتقدم تخريج الحديث.

الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي:

ومن جهة النظم، والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكر كل عالم ما فتح الله عليه به منها (¬1)، وسأقتصر على أربعة وجوه من باب المثال لا الحصر بإيجاز كالآتي: الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي: من الإعجاز القرآني ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان، والتركيب المعجز، الذي تحدّى به الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬2)،وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (¬3). وبعد هذا التحدّي انقطعوا فلم يتقدّم أحد، فمدّ لهم في الحبل وتحدّاهم بعشر سور مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬4)،فعجزوا فأرخى لهم في الحبل فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الصحيح، 4/ 74، 75، وأعلام النبوة للماوردي، ص53 - 70، والبداية والنهاية، 6/ 54، 65،والبرهان في علوم القرآن للزركشي، 2/ 90 - 124، ومناهل العرفان للزرقاني، 2/ 277 - 308. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬3) سورة الطور، الآيتان: 33 - 34. (¬4) سورة يونس، الآية: 38.

وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)،ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬2). فقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، فثبت التحدّي وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله فيما يستقبل من الزمان، كما أخبر قبل ذلك، وأمر النبي وهو بمكة أن يقول: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬3). فعم بأمره له أن يخبر جميع الخلق معجزاً لهم، قاطعاً بأنهم إذا اجتمعوا لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوا، ولا أتوا بسورة مثله من حين بُعِثَ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم والأمر على ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 13. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 23 - 24. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬4) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 4/ 71 - 77، والبداية والنهاية، 6/ 95.

الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب:

والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف ومائتي آية، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع بذلك التحدي والإعجاز (¬1)؛ ولهذا كان القرآن الكريم يغني عن جميع المعجزات الحسّيّة والمعنوية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب: من وجوه الإعجاز القرآني أنه اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بها، ولا سبيل لبشر مثله أن يعلمها، وهذا مما يدلّ على أن القرآن كلام الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬2). والإخبار بالغيوب أنواع: النوع الأول: غيوب الماضي: وتتمثل في القصص، الرائعة وجميع ما أخبر الله به عن ماضي الأزمان. ¬

_ (¬1) انظر: استخراج الجدال من القرآن الكريم لابن نجم، ص100، وفتح الباري، 6/ 582، ومناهل العرفان للزرقاني، 1/ 336، 1/ 231، 232. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 59.

النوع الثاني: غيوب الحاضر:

النوع الثاني: غيوب الحاضر: أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغيوب حاضرة، ككشف أسرار المنافقين، والأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، أو غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأطلع عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثالث: غيوب المستقبل: أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأمور لم تقع، ثم وقعت كما أخبر، فدلّ ذلك على أن القرآن كلام الله، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله (¬1). الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي: القرآن العظيم جاء بهدايات كاملة تامّة، تفي بحاجات جميع البشر في كل زمان ومكان؛ لأن الذي أنزله هو العليم بكل شيءٍ، خالق البشرية والخبير بما يُصلحها ويُفسدها، وما ينفعها ويضرّها، فإذا شرع أمراً جاء في أعلى درجات الحكمة والخبرة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬2). ويزداد الوضوح عند التأمل في أحوال الأنظمة والقوانين البشرية التي يظهر عجزها عن معالجة المشكلات البشرية ومسايرة الأوضاع والأزمنة والأحوال، مما يضطر أصحابها إلى الاستمرار في التعديل والزيادة والنقص، فَيُلْغُونَ غداً ما وضعوه اليوم؛ لأن الإنسان محلّ النقص ¬

_ (¬1) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري، ص424 - 428، وإظهار الحق، 65 - 107، ومناهل العرفان، 2/ 263، ومعالم الدعوة للديلمي، 1/ 463. وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأمور غيبية كثيرة جدّاً. انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 311 - 331. (¬2) سورة الملك، الآية: 14.

والخطأ، والجهل لأعماق النفس البشرية، والجهل بما يحدث غداً في أوضاع الإنسان وأحواله وفيما يصلح البشرية في كل عصر ومصر. وهذا دليل حسّي مُشاهد على عجز جميع البشر عن الإتيان بأنظمة تُصْلِحُ الخلق وتقوّمُ أخلاقهم، وعلى أن القرآن كلام الله سليم من كل عيب، كفيل برعاية مصالح العباد، وهدايتهم إلى كلِّ ما يُصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة إذا تمسكوا به واهتدوا بهديه (¬1)، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (¬2). وبالجملة فإن الشريعة التي جاء بها كتاب الله تعالى مدارها على ثلاث مصالح: المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء (¬3):حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنّسب، والعرض، والمال. المصلحة الثانية: جلب المصالح (¬4): فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسدّ كل ذريعة تؤدي إلى الضرر. ¬

_ (¬1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني، 2/ 247، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع الإسلامي، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ص117، ومعالم الدعوة للديلمي، 1/ 426. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 9. (¬3) درء المفاسد هو المعروف عند أهل الأصول بالضروريات. انظر: أضواء البيان، 3/ 448. (¬4) جلب المصالح يعرف عند أهل الأصول بالحاجيات. انظر: أضواء البيان،3/ 448.

الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث:

المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن الكريم حلَّ جميع المشكلات العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها (¬1). الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث: يتصل بما ذكر من إعجاز القرآن في إخباره عن الأمور الغيبية المستقبلة نوع جديد كشف عنه العلم في العصر الحديث، مصداقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬2). لقد تحقّق هذا الوعد من ربنا في الأزمنة المتأخرة، فرأى الناس آيات الله في آفاق المخلوقات بأدقّ الأجهزة والوسائل: كالطائرات، والغواصات، وغير ذلك من أدقِّ الأجهزة الحديثة التي لم يمتلكها الإنسان إلا في العصر الحديث ... فمن أخبر محمداً - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأمور الغيبية قبل ألف وأربعمائة وخمس عشرة سنة؟ إن هذا يدلّ على أن القرآن كلام الله وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقّاً. وقد اكتُشِفَ هذا الإعجاز العلمي: في الأرض وفي السماء، وفي البحار والقفار، وفي الإنسان والحيوان، والنبات، والأشجار، والحشرات، وغير ¬

_ (¬1) انظر: أضواء البيان، 3/ 409 - 457، فقد أوضح هذا الجانب بالأدلة العقلية والنقلية جزاه الله خيراً وغفر له. (¬2) سورة فصلت، الآية: 53.

المطلب الثاني: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسية:

ذلك، ولا يتّسع المقام لذكر الأمثلة العديدة على ذلك (¬1). المطلب الثاني: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسية: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسّيّة الخارقة للعادة كثيرة جدّاً (¬2)،لا أستطيع حصرها، وسأقتصر بإيجاز على ذكر تسعة أنواع منها على سبيل المثال، كالآتي: النوع الأول: المعجزات العلوية: 1 - من هذه المعجزات انشقاق القمر: وهذه من أمهات معجزاته - صلى الله عليه وسلم - الدّالّة على صدقه، فقد سأل أهل مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا جبل حِرَاء بينهما (¬3)، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ... } الآيات (¬4). 2 - صعوده - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء والمعراج إلى ما فوق السموات: وهذا ما أخبر به القرآن الكريم، وتواترت به الأحاديث، قال تعالى: {سُبْحَانَ ¬

_ (¬1) انظر: أمثلة كثيرة في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني، 2/ 278 - 284، وكتاب الإيمان، لعبد المجيد الزنداني، ص55 - 59، وكتاب التوحيد للزنداني أيضاً، 1/ 74 - 77. (¬2) قال ابن تيمية رحمه الله: ((قد جمعت نحو ألف معجزة)). انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، ص158. ومعجزاته - صلى الله عليه وسلم - تزيد على ألف ومائتين، وقيل: ثلاثة آلاف معجزة. انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6/ 583. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر، برقم 3868، ومسلم، صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، برقم2802. (¬4) سورة القمر، الآيات: 1 - 2.

النوع الثاني: آيات الجو:

الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} (¬1). وهذه الآية من أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه أُسرِيَ به إلى بيت المقدس، وقطع المسافة في زمن قصير، ثم عُرِجَ به إلى السموات، ثم صعد إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ورأى الجنة، وفرضت عليه الصلوات، ورجع إلى مكة قبل أن يُصبح، فكذَّبته قريش، وطلبوا منه علامات تدلّ على صدقه، ومن ذلك علامات بيت المقدس؛ لعلمهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ بيت المقدس قبل ذلك، فجلَّى الله له بيت المقدس ينظر إليه ويخبرهم بعلاماته وما سألوا عنه (¬2). وغير ذلك من الآيات العلوية، كحراسة السماء بالشّهب عند بعثته - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثاني: آيات الجوّ: 1 - من هذه المعجزات طاعةُ السَّحاب له - صلى الله عليه وسلم -، بإذن الله تعالى في حصوله ونزول المطر وذهابه بدعائه - صلى الله عليه وسلم - (¬3). 2 - ومن هذا النوع نصر الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرِّيح التي قال تعالى عنها: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} (¬4)، وهذه ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 1. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء، برقم 3886، ومسلم في كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، برقم 170. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، برقم 933، ومسلم في كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 897. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 9.

النوع الثالث: تصرفه في الإنس والجن والبهائم:

الرِّيحُ هي ريح الصَّبا، أرسلها على الأحزاب، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نُصِرْتُ بالصّبَا، وأُهْلِكَت عادٌ بالدَّبُور)) (¬1)، وغير ذلك. النوع الثالث: تصرّفه في الإنس والجن والبهائم: وهذا باب واسع، منه على سبيل المثال: أ - تصرفه في الإنس: 1 - كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يشتكي عينيه من وجع بهما، فبصَقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما ودعا له فبرأ، كأن لم يكن به وجع (¬2). 2 - انكسرت ساق عبد الله بن عتيك - رضي الله عنه - فمسحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكأنها لم تنكسر قطُّ (¬3). 3 - أُصِيبَ سلمة بن الأكوع بضربة في ساقه يوم خيبر، فنفث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث نفثات، فما اشتكاها سلمة بعد ذلك (¬4). ب - تصرفه في الجنّ والشياطين: 1 - كان - صلى الله عليه وسلم - يُخرِج الجنّ من الإنس بمجرد المخاطبة. فيقول: ((اخرج عدوّ الله أنا رسول الله)) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم 900. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم على يديه رجل، برقم 3009، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي - رضي الله عنه -، برقم 2406. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، برقم 4039. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم 4206. (¬5) أخرجه أحمد، 4/ 170 - 172، ووكيع في الزهد، برقم 508،وهناد في الزهد، برقم 1338، والبيهقي في الدلائل،6/ 21 - 22، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 6: ((رجال أحمد رجال الصحيح)).

جـ - تصرفه في البهائم:

2 - أخرج الشيطانَ من صدر عثمان بن أبي العاص، عندما ضرب صدر عثمان بيده ثلاث مرات وتفل في فمه وقال: ((اخرج عدوّ الله)) فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يُخالط عثمانَ الشيطانُ بعد ذلك (¬1). جـ - تصرّفه في البهائم: وقد حصل له مراراً، ومن ذلك أنه جاء بعير فسجد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أصحابه: يا رسول الله! تسجد لك البهائم، والشّجر، فنحن أحقّ أن نسجد لك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اعبُدُوا ربَّكمُ، وأكرِمُوا أخَاكُم، ولو كنتُ آمراً أحداً أن يَسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لِزَوجِها .. )) (¬2). النوع الرابع: تأثيره في الأشجار والثمار والخشب أ - تأثيره في الأشجار: 1 - جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر. فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فقال الأعرابي: ومن يشهد لك على ما تقول؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذه السَّلَمَة)) (¬3)، فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ (¬4) الأرض خَدّاً حتى قامَتْ بين يديه، فأشهدها ثلاثاً، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الطب، باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه، بسند حسن، برقم 3548، وانظر: صحيح ابن ماجه، للألباني، 2/ 273. (¬2) أخرجه أحمد، 6/ 76، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 9: ((إسناده جيد))، وانظر معجزات من هذا النوع: مسند الإمام أحمد، 4/ 170 - 172، ومجمع الزوائد للهيثمي، 9/ 3 - 12. (¬3) السلمة: شجرة من شجر البادية، انظر: المصباح المنير، مادة ((سلم))، 1/ 286، ومختار الصّحاح، مادة ((سلم))، ص131. (¬4) تخدّ الأرض: أي تشقها أخدوداً. وانظر: المصباح المنير، مادة (خدّ)، 1/ 165، ومختار الصّحاح، مادة (خدّ)، ص72.

ب - تأثيره في الثمار:

فشهدت ثلاثاً أنه كما قال، ثم رجعَتْ إلى مَنْبَتِهَا (¬1). 2 - أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي حاجته وهو في سفر، فلم يجد ما يستتر به، فأخذ بغصن شجرة وقال: ((انقادي عليَّ بإذنِ الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوم (¬2) حتى أتى الشجرةَ الأخرى ففعل وقال كذلك، ثم أمرهما أن تلتئما عليه فالتأمتا، ثم بعد قضاء الحاجة رجعت كل شجرة، وقامت كل واحدة منهما على ساق (¬3). ب - تأثيره في الثّمار: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد أنّي رسول الله))؟ فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((ارجع))، فعاد، فأسلم الأعرابي (¬4). جـ - تأثيره في الخشب: كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب في المدينة يوم الجمعة على جذع نخل، فلما صُنع له المنبر ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي، في المقدمة، باب ما أكرم الله نبيه من إيمان الشجر به والبهائم والجن، برقم 16، وإسناده صحيح، وانظر: مشكاة المصابيح، برقم 5925، 3/ 1666. (¬2) البعير المختوم: الذي جُعل في أنفه عود، ويشد فيه حبل ليذلّ وينقاد إذا كان صعباً. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 146. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم 3012. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب حدثنا عباد، برقم 3628، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن غريب صحيح))، وأحمد، 1/ 123، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 2/ 620، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 490: ((صحيح دون قوله: فأسلم الأعرابي))، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة له، رقم 3315.

النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له:

ورَقِيَ عليه صاحَ الجذعُ صياحَ الصَّبي، [وخارَ كما تَخُورُ البقرة، جزعاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضمَّه إليه - وهو يئنّ - ومسحه حتى سكن] (¬1). النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له: أ - تأثيره في الجبال: صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أُحداً، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه - صلى الله عليه وسلم - برجله، وقال: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي، وصِدّيق، وشهيدان)) (¬2). ب - تأثيره في الحجارة: وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلِّم عليّ قبل أن أُبعثَ، إنِّي لأعرفه الآن)) (¬3). جـ - تأثيره في تراب الأرض: عندما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معركة حنين، واشتدّ القتال، نزل عن بغلته وقبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوه القوم، فقال: ((شَاهَتِ الوجوهُ))، فما خلق الله إنساناً منهم إلا ملأ عينيه من تلك القبضة، فهزمهم الله وقسم غنائمهم بين المسلمين (¬4). النوع السادس: تفجير الماء، وزيادة الطعام والشراب والثمار: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3584، وما بين المعقوفين عند أحمد في المسند، 2/ 109. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت متخذاً خليلاً ... )،برقم 3675. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم 2277. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، برقم 1777. وحصل له مثل ذلك في معركة بدر.

أ - نبع الماء وزيادة الشراب:

أ - نبع الماء وزيادة الشراب: هذا النوع حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراتٍ كثيرة جدّاً (¬1)، ومن ذلك: 1 - عَطشَ الناسُ في الحديبية، فوضع يده - صلى الله عليه وسلم - في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كالعيون، فشربُوا وتوضّؤوا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة (¬2). 2 - قدم - صلى الله عليه وسلم - تبوك، فوجد عينها كشراك النّعل، فَغُرِفَ له منها قليلاً قليلاً، حتى اجتمع له شيء قليل، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر، وبقيت العين إلى الآن (¬3). 3 - قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - وقدح اللّبن، وزيادة القدح حتى شرب منه أضياف الإسلام (¬4). ب - زيادة الطعام وتكثيره لما جعل الله فيه - صلى الله عليه وسلم - من البركة: 1 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ألف وأربعمائة من أصحابه في غزوة، فأصابهم مشقة، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أن يجمعوا ما معهم من طعام وبسطوا سفرة، وكان الطعام ¬

_ (¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3571 - 3577، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم 681 - 682، وجامع الأصول لابن الأثير، 11/ 334 - 351. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامة النبوة، برقم 3576، ومسلم في كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، برقم 1856/ 73. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 706. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6452.

جـ - زيادة الثمار والحبوب:

شيئاً يسيراً فبارك فيه، وأكلوا، وحَشوا أوعيتهم من ذلك الطعام (¬1). 2 - بقي الصّحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً، فذبح جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عناقاً، وطحنت زوجته صاعاً من شعير، ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم -،فصاح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل الخندق يدعوهم على هذا الطعام اليسير، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصقَ في العجين وبارك، وبصقَ في البرمة وبارك، قال جابر رضي الله عنهما: وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغطّ كما هي (¬2)،وإن عجيننا ليخبز كما هو (¬3).وهذا باب واسع لا يمكن حصره. جـ - زيادة الثمار والحبوب: 1 - جاء رجل يستطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطعمه شطْرَ وَسْقِ شعيرٍ، فما زال الرجل يأكل منه وأهله حتى كاله، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم)) (¬4). 2 - كان على والد جابر دين، وما في نخله لا يقضي ما عليه سنين، فجاء جابر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحضر الكيل، فحضر، ومشى حول الجرن، ثم أمر جابراً أن يكيل فكال لهم حتى أوفاهم، قال جابر - رضي الله عنه -: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب حمل الزاد في الغزو، برقم 2982،ومسلم في كتاب اللقطة، باب استحباب خلط الأزواد إذا قلّت، والمواساة فيها، برقم 1729. (¬2) تغط: أي تغلي ويسمع غليانها. انظر: الفتح، 7/ 399. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، برقم 4102، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباع غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، برقم 2039. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2281.

النوع السابع: تأييد الله له بالملائكة:

((وبقي تمري وكأنه لم ينقص منه شيء)) (¬1). النوع السابع: تأييد الله له بالملائكة: أَيَّد الله رسوله بالملائكة في عدة مواضع، نُصرةً له ولدينه، منها على سبيل المثال: 1 - في الهجرة، قال المولى جل وعلا: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا} (¬2). 2 - في بدر، قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬3). 3 - في أُحدٍ، قاتل جبريل وميكائيل عليهما السلام عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ويساره (¬4). 4 - في الخندق قال الله - عز وجل -: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} (¬5). 5 - في غزوة بني قُرَيْظَةَ: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وضع السلاح من غزوة الخندق واغتسل، فقال له جبريل: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه فاخرج إليهم، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلى أين))؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي، برقم 2127. (¬2) سورة التوبة، الآية: 40. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 9. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: إذ همت طائفتان، برقم 4045، ومسلم في كتاب الفضائل، باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، برقم 2306. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 9.

النوع الثامن: كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس:

فأشار إلى بني قريظة، فخرج - صلى الله عليه وسلم -، ونصره الله عليهم (¬1). 6 - في حنين، قال الله - سبحانه وتعالى -: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (¬2). النوع الثامن: كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس: هذا النوع من أعظم الآيات الدالّة على صدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -،ومن ذلك: 1 - كفاه الله تعالى المشركين والمستهزئين، فلم يصلوا إليه بسوء، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (¬3). 2 - كفاه الله تعالى أهل الكتاب، قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬4). 3 - وعصمه تعالى من جميع الناس بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬5). وهذا خبر عام بأن الله يعصمه من جميع الناس، فكلُّ من هذه الأخبار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، 4117، ومسلم في كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، برقم 1769. (¬2) سورة التوبة، الآية: 26. (¬3) سورة الحجر، الآيتان: 94 - 95. (¬4) سورة البقرة، الآية: 137. (¬5) سورة المائدة، الآية: 67.

النوع التاسع: إجابة دعواته - صلى الله عليه وسلم -:

الثلاثة قد وقعت كما أخبر الله تعالى، فقد كفاه أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة، ونصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم، وانتقم ممن عاداه. ومن ذلك أن رجلاً نصرانيّاً أسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتدّ وعاد نصرانيّاً، فكان يقول: ما يَدْرِي محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنه قومه، فأصبح وقد أخرجته الأرض من بطنها، فأعادوا دفنه، وأعمقوا قبره، فأصبح وقد أخرجته الأرض منبوذاً على ظهرها فأعادوا دفنه وأعمقوا له فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أن هذا ليس من الناس فتركوه منبوذاً (¬1). النوع التاسع: إجابة دعواته - صلى الله عليه وسلم -: الأدعية التي دعا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وشُوهدت إجابتها كالشمس في رابعة النهار كثيرة جدّاً، لا تُحصر ولا يتّسع المقام لذكر أكثرها، ولكن منها على سبيل المثال: 1 - قال - صلى الله عليه وسلم - لأنس - رضي الله عنه -: ((اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته)) (¬2)، [وأطل حياته، واغفر له] (¬3)، قال أنس: فوالله إنّ مالي لكثير، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة، برقم 3617، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، برقم 2781. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، برقم 1982، ومسلم، في فضائل الصحابة، باب فضل أنس برقم 2480. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم 653، وانظر: فتح الباري، 11/ 145، وسير أعلام النبلاء، 2/ 219.

وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم (¬1)، [وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفِنَ لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة] (¬2). وكان له - رضي الله عنه - بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك (¬3). 2 - ودعا - صلى الله عليه وسلم - لأم أبي هريرة بالهداية فهداها الله فوراً، وأسلمت (¬4). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن أبي الجعد البارقي: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه))، فكان يقف في الكوفة ويربح أربعين ألفاً قبل أن يرجع إلى أهله (¬5)، [وكان لو اشترى التراب لربح فيه] (¬6). 4 - ودعاؤه - صلى الله عليه وسلم - على بعض أعدائه، فلم تتخلّف الإجابة، كأبي جهل، وأميّة، وعقبة، وعتبة (¬7). 5 – ودعاؤه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، ويوم حنين، وعلى سراقة بن مالك - رضي الله عنه -، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضل أنس، برقم 2481/ 143. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، برقم 1982. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أنس، برقم 3833، وانظر: صحيح سنن الترمذي، للألباني، 3/ 334. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي هريرة، برقم 2491. (¬5) أخرجه أحمد في المسند، 4/ 376. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى، برقم 3642. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة، برقم 240، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، برقم 1794.

وغير ذلك كثير (¬1). والحقيقة أن العاقل المنصف يقف أمام هذه الدلائل والبينات مذعوراً، ولا يسعه إلا أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: دعاء يوم بدر في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، برقم 1763، ويوم حنين في مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، برقم 1775، وقصة سراقة في البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، برقم 3908.

المبحث الرابع: حقوقه على أمته - صلى الله عليه وسلم -

المبحث الرابع: حقوقه على أمته - صلى الله عليه وسلم - 1 - الإيمان الصادق به - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: {فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1)، {فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} (¬4)،وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)) (¬5). والإيمان به - صلى الله عليه وسلم - هو تصديق نبوته، وأن الله أرسله للجن والإنس، وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان، بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك بالعمل بما جاء به تمَّ الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - (¬6). 2 - وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - والحذر من معصيته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به، قال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة التغابن، الآية: 8. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬3) سورة الحديد، الآية: 28. (¬4) سورة الفتح، الآية: 13. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، برقم 20/ 34. (¬6) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض، 2/ 539.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} (¬1)، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬2)، {قُلْ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬3)، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬4)، {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬5)، {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} (¬6)، {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬7). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله)) (¬8)، وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل الناس يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله! ومن يأبى؟ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 20. (¬2) سورة الحشر، الآية: 7. (¬3) سورة النور، الآية: 54. (¬4) سورة النور، الآية: 63. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 71. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬7) سورة النساء، الآيتان: 13 - 14. (¬8) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}، برقم 7137، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم 1835.

3 - اتباعه - صلى الله عليه وسلم - واتخاذه قدوة

قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) (¬1). وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رِزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعِلَ الذِّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)) (¬2). 3 - اتباعه - صلى الله عليه وسلم - واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬4)،وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬5) فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (¬6). 4 - محبته - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، قال الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،برقم 7280. (¬2) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 50، وأخرج بعضه البخاري معلقاً في كتاب الجهاد، باب ما قيل في الرماح، ص 560، ط بيت الأفكار الدولية، وأخرج الجزء الأخير منه أبو داود في كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، برقم 4031، وحسنه العلامة ابن باز رحمه الله. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، برقم 5063،ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، برقم 1401.

تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1)،وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (¬2). وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال: ((ما أعددت لها))؟ قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: ((فأنت مع من أحببت)) (¬3).قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنك مع من أحببت))،فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر، وعمر. فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم (¬4). ولما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الآن يا عمر)) (¬5)، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 24. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، برقم 15، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين، برقم 44. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم 3688، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، برقم 2639. (¬4) مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، برقم 2639/ 163. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 6632.

جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المرء مع من أحب)) (¬1). وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) (¬3). ولا شك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته، فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاق في رضى الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه رضي به رسولاً، وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال القائل: تعصي الإله وأنت تُُظهر حُبَّهُ ... هذا لعمري في القياسِ بديعُ لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته ... إن المحُبَّ لمن يُحبُّ مُطيعُ (¬4) وعلامات محبته - صلى الله عليه وسلم - تظهر في الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، واتباع سنته، وامتثال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم 3688،ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، برقم 2639. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبائر، برقم 34. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43. (¬4) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 549، و 2/ 563.

5 - احترامه وتوقيره ونصرته

أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، في الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، ولا شك أن من أحب شيئاً آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً (¬1). ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة)) قلنا لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬2)، والنصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: التصديق بنبوته، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ومُؤازرته، ونصرته وحمايته حياً وميتاً، وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها، وتعليمها والذب عنها، ونشرها، والتخلق بأخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة (¬3). 5 - احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (¬4)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬5)، {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} (¬6). وحرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها، ¬

_ (¬1) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 571 - 582. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55. (¬3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض، 2/ 582 - 584. (¬4) سورة الفتح، الآية: 9. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 1. (¬6) سورة النور، الآية: 63.

6 - الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -

ونصرتها (¬1). 6 - الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( .. من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ)) (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) (¬6)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) (¬7)، وقال جبريل ¬

_ (¬1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 595، و 612. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 384. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042،وأحمد في المسند،2/ 367، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم 8026،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 571. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رغم أنف رجل، برقم 3546، وأحمد، 1/ 201، والحاكم، 1/ 549، وأبو يعلى، برقم 6776، وابن حبان كما في الموارد، برقم 2388. وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن صحيح غريب))، وقال الحاكم: ((صحيح))، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2878. (¬6) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في القوم يجلسون ولا يذكرون الله، برقم 3380، وأحمد بن حنبل في المسند، 2/ 446، 453، 481، 484، 495، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 74. (¬7) أخرجه أحمد في المسند، 1/ 441، والنسائي في كتاب السهو، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1280، وابن حبان في صحيحه، برقم 914، والحاكم في المستدرك، 2/ 421، وقال: ((صحيح ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2174.

- عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رغم أنف عبد - أو بَعُد - ذُكِرتَ عنده فلم يصلّ عليك)) فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((آمين)) (¬1)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام)) (¬2). * وللصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى واحداً وأربعين موطناً، منها على سبيل المثال: الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة، وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم، وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة، وعند كتابة اسمه، وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات، وآخر دعاء القنوت، وعلى الصفا والمروة، وعند الوقوف على قبره، وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه، وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم 646، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 1888، وأحمد، 2/ 254، والترمذي في كتاب الدعوات، باب قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رغم أنف رجل))،برقم 3545، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3510. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2041، وأحمد، 2/ 527، والبيهقي في سننه الكبرى، 5/ 245، والطبراني في الأوسط، برقم 3116، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 2266. (¬3) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

7 - وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه - صلى الله عليه وسلم -

ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حديث أنس - رضي الله عنه - لكفى ((من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه عشر صلوات (¬1)، [كتب الله له بها عشر حسنات] (¬2) وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات)) (¬3). 7 - وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬4)، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (¬5) ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده - صلى الله عليه وسلم -. 8 - إنزاله مكانته - صلى الله عليه وسلم - بلا غلو ولا تقصير، فهو عبد الله ورسوله، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وهو سيد الأولين والآخرين، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود، ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (¬6)، وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا ¬

_ (¬1) السياق يقتضي ((و)). (¬2) هذه الزيادة من حديث طلحة في مسند أحمد، 4/ 29. (¬3) أخرجه أحمد، 3/ 261، وابن حبان، برقم 2390 (موارد)، والحاكم، 1/ 551، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه لجلاء الأفهام، ص65. (¬4) سورة النساء، الآية: 59. (¬5) سورة النساء، الآية: 65. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 50.

شَاءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1)، {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (¬2)، وقد مات - صلى الله عليه وسلم - كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيامة {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (¬3)، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬4)، وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 188. (¬2) سورة الجن، الآيتان: 21 - 22. (¬3) سورة الزمر، الآية: 30. (¬4) سورة الأنبياء، الآيتان: 34 - 35. (¬5) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163.

المبحث الخامس: عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - وختمها لجميع النبوات

المبحث الخامس: عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - وختمها لجميع النبوات إنّ أصل الأصول هو تحقيق الإيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه رسول الله إلى جميع الخلق: إنسهم وجنّهم، عربهم وعجمهم، كتابيِّهم ومجوسيِّهم، رئيسهم ومرؤوسهم، وأنه لا طريق إلى الله - عز وجل - لأحد من الخلق إلا بمتابعته - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً، حتى لو أدركه موسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه)) (¬2)؛ ولهذا جاء في الحديث: ((لو كان موسى حيّاً بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني)) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 81 - 82. (¬2) انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، ص77، 191 - 200، وفتاوى ابن تيمية، 19/ 9 - 65، بعنوان: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 1/ 31 - 176، وتفسير ابن كثير، 1/ 378، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 2/ 334، ومعالم الدعوة للديلمي، 1/ 454 - 456، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية، ص303 - 309. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 3/ 338، وله شواهد وطرق كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 173 - 174، وانظر: مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، 1/ 63، 68.

ومن خالف عموم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو من أحد أمرين: 1 - إما أن يكون المخالِفُ مؤمناً بأنه مرسل من عند الله؛ ولكنه يقول رسالته خاصة بالعرب. 2 - وإما أن يكون المخالف منكراً للرسالة جملةً وتفصيلاً. فأما المعترف له بالرسالة؛ ولكنه يجعلها خاصة بالعرب فإنه يلزمه أن يصدقه في كل ما جاء به عن الله تعالى، ومن ذلك عموم رسالته، ونسخها للشرائع قبلها، فقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - أنه رسول الله إلى الناس أجمعين، وأرسل رسله، وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وسائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، ثم قاتل من لم يدخل في الإسلام من المشركين، وقاتل أهل الكتاب، وسبى ذراريهم، وضرب الجزية عليهم، وذلك كلّه بعد امتناعهم عن الدخول في الإسلام، أما كونه يؤمن برسول ولا يصدّقه في جميع ما جاء به فهذا تناقض ومكابرة. * وأما المنكر لرسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، فقد قام البرهان القاطع على صدق صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم -، ولا تزال معجزات القرآن تتحدى الإنس والجنّ، فإمَّا أن يأتي بما يُناقض المعجزة القائمة وإلا لزمه الاعتراف بمدلولها، فإن اعترف بالرسالة لزمه التّصديق بكل ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن ذهب يُكابر ويُعاند ليأتي بقرآن مثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقع في العجز وفضح نفسه لا محالة؛ لأن أصحاب الفصاحة والبلاغة قد عجزوا عن ذلك، ولا شك أن غيرهم أعجز عن هذا؛ لأن القرآن

معجزة قائمة مستمرة خالدة (¬1). وحينئذ يلزم جميع الخلق العمل بما فيه، والتحاكم إليه. وقد صرح القرآن الكريم بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى جميع الناس، وخاتم النبيين، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (¬3)، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (¬4). وهذا تصريح بعموم رسالته لكل من بلغه القرآن. وصرح تعالى بشمول رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكتاب، فقال: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬5)، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬6)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 1/ 144، 166، ومناهج الجدل في القرآن الكريم، ص303، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور/ صالح بن فوزان، 2/ 182. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 1. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 19. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 20. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 40.

لِّلْعَالَمِينَ} (¬1)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬2). وبلغ - صلى الله عليه وسلم - الناس جميعاً أنه خاتم الأنبياء، وأن رسالته عامّة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطيت خمساً لم يُعطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي))، وذكر منها: ((وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصّة، وبُعثت إلى الناس كافّةً)) ... الحديث (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضِعت هذه اللبنة))؟ قال: ((فأنا اللّبِنةُ، وأنا خاتم النبيين)) (¬4). وعموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - لجميع الإنس والجنّ في كل زمان ومكان من بعثته إلى يوم القيامة، وكونها خاتمة الرسالات، يقضي ويدلّ دلالة قاطعة على أن النبوة قد انقطعت بانقطاع الوحي بعده، وأنه لا مصدر للتشريع والتعبد إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -،وهذا يقتضي وجوب الإيمان بعموم رسالته، واتباع ما جاء به، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) (¬5).وبهذا تقوم الحجة وتثبت ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬2) سورة سبأ، الآية: 28. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، برقم 438، ومسلم، كتاب المساجد، برقم 521. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب خاتم النبيين، برقم 3535، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، برقم 2286. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، برقم 153.

رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمومها وشمولها لجميع الثقلين: الإنس والجنّ، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة: {قَدْ جَاءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (¬1)، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... } (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 104. (¬2) سورة الكهف، الآية: 29.

المبحث السادس: تحريم الغلو فيه - صلى الله عليه وسلم -

المبحث السادس: تحريم الغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - 1 - الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)) (¬1). وبعد ذلك تعلَّق الناس بالصالحين، ودبَّ الشرك في الأرض، فبعث الله نوحاً - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى عبادة الله وحده، وينهى عن عبادة ما سواه (¬2)، وردّ عليه قومه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (¬3). وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت)) (¬4). وهذا سببه الغلو في الصالحين؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، 2/ 546، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/ 101، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري، 6/ 372. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 1/ 106. (¬3) سورة نوح، الآية: 23. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة نوح، برقم 4920.

2 - وحذر - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور

وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تُعلّق عليه الستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون (¬1). ولهذا حذّر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (¬2)؛ ولهذا حذّر رسول الله عن الإطراء فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (¬3)، وقال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) (¬4). 2 - وحذَّر - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم؛ ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري، 29/ 62، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص246. (¬2) سورة النساء، الآية: 171. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ .. }، برقم 3445. (¬4) أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، برقم 3055، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، برقم 3028، وأحمد، 1/ 347، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 356.

3 - وحذر - صلى الله عليه وسلم - أمته عن اتخاذ قبره وثنا يعبد من دون الله

عنهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬1). ومن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: ((لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا (¬2). وقال قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬3). 3 - وحذّر - صلى الله عليه وسلم - أمته عن اتخاذ قبره وثناً يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة، برقم 3873،ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، برقم 528. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان، برقم 435،و436،ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، برقم 531. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، برقم 532. (¬4) الموطأ للإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، 1/ 172، وهو عنده مرسل، ولفظ أحمد، 2/ 246: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، ولعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وأبو نعيم في الحلية 7/ 317، وانظر: فتح المجيد، ص150، ولفظ الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، 12/ 314، برقم 7358: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وقال محققو المسند، 12/ 314: ((إسناده قوي)). .

ولعن - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ المساجد على القبور؛ لينفِّر عن هذا الفعل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) (¬1). ولم يترك - صلى الله عليه وسلم - باباً من أبواب الشرك التي تُوصل إليه إلا سدّه (¬2)،قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) (¬3). وقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته سواء كان بعيداً عن قبره أو قريباً، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيداً: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أمتي السلام)) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، برقم 2041، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، برقم 3236، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً، برقم 320،وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء للقبور، برقم 1575،وأحمد، 1/ 229، 287، 324، و2/ 337، و3/ 442، 443، والحاكم، 1/ 374، وانظر ما نقله صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية، ص276. (¬2) انظر: فتح المجيد، ص281. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم 972. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042بإسناد حسن، وأحمد، 2/ 357، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 1/ 383. (¬5) أخرجه النسائي في السهو، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1280، وأحمد، 1/ 452، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 21، ص24، وسنده صحيح، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 410.

4 - وكما سد - صلى الله عليه وسلم - كل باب يوصل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه

وإذا كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فغيره أولى بالنهي كائناً من كان (¬1). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يطهر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (¬2). 4 - وكما سد - صلى الله عليه وسلم - كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) (¬3). فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا عندما ذهب أبو هريرة - رضي الله عنه - إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ... )) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، الأمر بتسوية القبر، برقم 969. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم 1189، ومسلم بلفظه، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، برقم 827. (¬4) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، 3/ 114، برقم 1428، ومالك في الموطأ، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، 1/ 109، وأحمد في المسند، 6/ 7، 397، وانظر: فتح المجيد، ص289، وصحيح النسائي، للألباني، 1/ 309.

5 - أنواع زيارة القبور

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك)) (¬1). 5 - أنواع زيارة القبور: زيارة القبور نوعان: النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة، ولتذكر الموت - بشرط عدم شدِّ الرِّحال - ولاتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية (¬2)، وهذا النوع ثلاثة أنواع: 1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام. 2 - من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرِجُ عن الإسلام كما يُخرِج الأول. 3 - من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 234. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 233، والبداية والنهاية، 14/ 123. (¬3) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 6/ 165 - 174.

الفصل الثالث: نواقض ونواقص الشهادتين

الفصل الثالث: نواقض ونواقص الشهادتين المبحث الأول: أقسام المخالفات كل من أتى بناقض من نواقض الإسلام فقد أبطل كلمة التوحيد في حقه وصار مرتداً كافراً، ولا شك أن المخالفات لأمر الله تعالى قسمان: القسم الأول: يوجب الردة، ويبطل الإسلام بالكلية، ويكون صاحبه كافراً كفراً أكبر، وهو من أتى بناقض من نواقض الإسلام. القسم الثاني: لا يبطل الإسلام ولكن ينقصه ويضعفه ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله تعالى وعقابه إذا لم يتب وهو جنس المعاصي التي يعرف صاحبها أنها معاصي كالزنا ولكن لا يستحلها فهذا تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة بإيمانه وعمله الصالح وإن شاء غفر له (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى سماحة العلامة ابن باز، 4/ 20، و 45.

المبحث الثاني: أخطر النواقض وأكثرها وقوعا.

المبحث الثاني: أخطر النواقض وأكثرها وقوعاً. أما نواقض الإسلام فهي كثيرة وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتد: أن المسلم قد يرتد عن دينه بأمور وأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله ويكون بها خارجاً من الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض (¬1): الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬2)، وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬3)، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو لقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعاً. الثالث: من لم يكفِّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر. الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه ¬

_ (¬1) ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأنا أذكرها بنصها، ثم أذكر بعدها بعض التوضيحات لأهل العلم. انظر هذه النواقض في مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، ومجموعة التوحيد لشيخي الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحمد بن تيمية، ص27، 28. (¬2) سورة النساء، الآية: 116. (¬3) سورة المائدة، الآية: 72.

الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -

فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به كفر إجماعاً {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬1). السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ثوابه، أو عقابه، كفر. والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬2). السابع: السحر ومنه الصرف (¬3)، والعطف (¬4)، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (¬5). الثامن: مظاهرة (¬6) المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬7). التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى - عليه السلام - فهو كافر. ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 9. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66. (¬3) الصرف: عمل سحري يقصد منه تغيير الإنسان وصرفه عما يهواه، كصرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها. (¬4) العطف: عمل سحري يقصد منه ترغيب الإنسان فيما لا يهواه، فيحبه بطرق شيطانية. (¬5) سورة البقرة، الآية: 102. (¬6) المظاهرة: المناصرة والتعاون معهم على المسلمين. (¬7) سورة المائدة، الآية: 51.

العاشر: الأعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به

العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (¬1)، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره، وكلها أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬2). ¬

_ (¬1) سورة السجدة، الآية: 22. (¬2) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام: محمد بن عبد الوهاب والشيخ أحمد بن تيمية رحمهما الله، ص27، 28، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، 387، ومجموعة فتاوى ابن باز، 1/ 135.

المبحث الثالث: تفصيل الناقض الأول والرابع وأنواع النفاق والبدع.

المبحث الثالث: تفصيل الناقض الأول والرابع وأنواع النفاق والبدع. 1 - تفصيل الناقض الأول من هذه النواقض: ((الشرك)): قيل: أشرك بالله: جعل له شريكاً: في ملكه، أو عبادته، فالشرك أن تجعل لله نداً وهو خلقك، وهو أكبر الكبائر، والماحق للأعمال، والمبطل لها، والحارم المانع من ثوابها: فكل من عدل بالله غيره: بالحب، أو العبادة، أو التعظيم، أو اتبع خطواته ومبادئه المخالفة لملة إبراهيم فهو مشرك (¬1). والشرك ثلاثة أنواع: النوع الأول: شرك أكبر يخرج من الملة [وهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى]؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬2)، وهو أربعة أنواع: 1 - شرك الدعوة: لقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬3). 2 - شرك النية والإرادة والقصد: لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: قضية التكفير للمؤلف، ص9. (¬2) سورة النساء، الآية: 116. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 65. (¬4) سورة هود، الآيتان: 15 - 16.

3 - شرك الطاعة

3 - شرك الطاعة: وهي طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم في معصية الله تعالى قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). 4 - شرك المحبة: لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} (¬2). النوع الثاني من أنواع الشرك: شرك أصغر لا يخرج من الملة [وهو: كل وسيلة: قولية، أو فعلية، أو إرادية توصل إلى الشرك الأكبر، ما لم تبلغ رتبة العبادة]، أو [هو: كل ما جاء في النصوص بتسميته شركاً ولم يصل إلى حدِّ الشرك الأكبر]. ومنه يسير الرياء قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬3)، ومنه الحلف بغير الله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬4)، ومنه قول الرجل: لولا الله وأنت، أو ما شاء الله؛ وشئت، [أو هذا من الله ومنك، أو أنا بالله وبك، أو توكلت على الله وعليك]. النوع الثالث من أنواع الشرك: شرك خفي: ((الشرك في هذه الأمة أخفى ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 31. (¬2) سورة البقرة، الآية: 165. (¬3) سورة الكهف، الآية: 110. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1535، وأحمد، 2/ 125، والحاكم، 1/ 18، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6204.

من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل)) (¬1)، وكفارته هي أن يقول العبد: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم)) (¬2). قال ابن كثير في تفسيره: قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬3)، قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلب هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت وقول الرجل: لولا الله وفلان (¬4). أما الحديث الذي تقدم ذكره في الاستدلال للنوع الثاني من أنواع الشرك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬5)، قال الترمذي رحمه الله: ((فُسِّرَ هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: فقد كفر أو أشرك على التغليظ والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، 4/ 403،وأبو يعلى، برقم 58، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3730. (¬2) انظر: تخريج الحديث السابق، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3731، ومجموعة التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، وابن تيمية، ص6. (¬3) سورة البقرة، الآية: 22. (¬4) تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير، 1/ 32. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1535، وأحمد، 2/ 125، والحاكم، 1/ 18، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6204، وفي صحيح سنن الترمذي، 2/ 175.

2 - تفصيل الناقض الرابع

بآبائكم)) (¬1). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال في حلفه: واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله)) (¬2). ولعل الشرك الخفي يدخل في الشرك الأصغر فيكون الشرك شركين: شرك أكبر، وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله (¬3). 2 - تفصيل الناقض الرابع: ويدخل في القسم الرابع من نواقض الإسلام: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى، ويدخل فيه أيضاً من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضاً كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة: كالزنا، والخمر، والربا، والحكم بغير شريعة الله فهو كافر ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1534، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 175. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1535، وانظر: صحيح سنن الترمذي للألباني، 2/ 175. (¬3) انظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص233.

بإجماع المسلمين. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬1). والخلاصة أن الحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل وإليك الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3)، وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4)، قال طاووس وعطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق (¬5) والصواب أن من حكم بغير ما أنزل الله قد يكون مرتداً، وقد يكون مسلماً عاصياً مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب؛ فلهذا نجد أن أهل العلم قد قسموا الكلمات الآتية إلى قسمين، وهي كلمة: كافر، وفاسق، وظالم، ومنافق، ومشرك. فكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك. فالأكبر يخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية. والأصغر ينقص الإيمان وينافي كماله، ولا يخرج صاحبه من الملة؛ ولهذا فصَّل العلماءُ القول في حكم من حكم بغير ما أنزل الله. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للعلامة ابن باز، 1/ 137. (¬2) سورة المائدة، الآية: 44. (¬3) سورة المائدة، الآية: 45. (¬4) سورة المائدة، الآية: 47. (¬5) تفسير العلي القدير لاختصار ابن كثير، 2/ 55.

وسمعت شيخنا سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى يقول: من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أنواع: 1 - من قال أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفراً أكبر. 2 - ومن قال أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفراً أكبر. 3 - ومن قال أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز. فهو كافر كفراً أكبر. 4 - ومن قال أنا أحكم بهذا وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز ويقول الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل ولا يجوز الحكم بغيرها ولكنه متساهل أو يفعل هذا لأمرٍ صادر من حُكَّامه فهو كافر كفراً أصغر لا يخرج من الملة ويعتبر من أكبر الكبائر (¬1). ولا منافاة بين تسمية العمل فسقاً، أو عامله فاسقاً، وبين تسميته مسلماً وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفراً، ولا كل ما يسمى كفراً، وظلماً، يكون مخرجاً من الملة حتى ينظر إلى لوازمه وملزوماته وذلك؛ لأنَّ كلاًّ من الكفر، والظلم، والفسوق، والنفاق جاءت في النصوص على قسمين: ¬

_ (¬1) حدثنا بهذا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وهو مسجل في شريط في مكتبتي الخاصة، وانظر: فتاوى سماحته، 1/ 137.

3 - أنواع النفاق

أ - أكبر يُخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية. ب - أصغر يُنقص الإيمان ويُنافي كماله، ولا يُخرج صاحبه منه. فكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق. والفاسق بالمعاصي التي لا توجب الكفر لا يخلد في النار، بل أمره مردود إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله، وإن شاء عاقبه بقدر الذنب الذي مات مصراً عليه ولا يخلده في النار، بل يُخرجه برحمته ثم بشفاعة الشافعين إن كان مات على الإيمان (¬1). 3 - أنواع النفاق: ويدخل في نواقض لا إله إلا الله جميع أنواع النفاق الاعتقادي؛ فإن النفاق نوعان: (أ) نفاق اعتقادي يُخرج من الملَّة، وهو ستة أنواع: 1 - تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 3 - أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 4 - أو بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 5 - أو المسرة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 6 - أو الكراهية لانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار. (ب) النوع الثاني النفاق العملي لا يخرج من الملَّة، وهو خمسة أنواع: 1 - إذا حدَّث كذب. ¬

_ (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم أصول التوحيد، لحافظ الحكمي، 2/ 423.

4 - الأمور المبتدعة عند القبور أنواع:

2 - وإذا وعد أخلف. 3 - وإذا ائتُمن خان. 4 - وإذا خاصم فجر. 5 - وإذا عاهد غدر (¬1). وهذا النفاق لا يخرج من الملة فهو (نفاق دون نفاق)؛لحديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع مَن كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان)) (¬3). 4 - الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: النوع الأول: من يسأل الميت حاجته. وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (¬4) الآية: فكل من دعا نبياً، أو ولياً، أو صالحاً وجعل فيه ¬

_ (¬1) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهّاب، ص7. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 34، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 58. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 33، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 59. (¬4) سورة الإسراء، الآيتان: 56 - 57.

النوع الثاني

نوعاً من الإلهية فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً، أو غائباً من الأنبياء، والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من العبادة مثل: أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أعني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليُعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت. وهو من البدع المحدثة في الإسلام وهذا ليس كالذي قبله؛ فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر، والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، وهذه الأمور من البدع المحدثة المنكرة والذي جاءت به السنة هو التوسل والتوجه بأسمائه، وصفاته، وبالأعمال الصالحة كما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة (أصحاب الغار)، وبدعاء المسلم الحي الحاضر له. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك؛ فإن هذا من المنكرات إجماعاً

ولم نعلم في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين ... وهذا أمر لم يشرعه الله، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ... وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب ولم يجيئوا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل خرج عمر بالعباس فاستسقى بدعائه وقد كان السلف ينهون عن الدعاء عند القبور فقد رأى علي بن الحسين رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيدعو فيها فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا عليَّ وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) (¬1) ووجه الدلالة أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان (¬2) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص34، وصححه الألباني في المرجع نفسه، وله طرق وروايات ذكرها في كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص140. (¬2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042، وأحمد، 2/ 367، وحسنه الشيخ الألباني في كتابه تحذير الساجد، ص142.

المبحث الرابع: أصول نواقض الشهادتين

المبحث الرابع: أصول نواقض الشهادتين جميع نواقض الإسلام تدخل تحت نواقض أربعة: بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو الشك والتوقف. وإلى التفصيل بإيجاز واختصار: قال سماحة العلامة إمام علماء عصره عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله ورفع درجاته: العقيدة الإسلامية لها قوادح وهذه القوادح قسمان: قسم ينقض هذه العقيدة ويبطلها ويكون صاحبه كافراً نعوذ بالله [من ذلك]، وقسم ينقص هذه العقيدة ويضعفها: فالقسم الأول: يُسمَّى ناقضاً ونواقض الإسلام هي الموجبة للردة، والناقض يكون: قولاً، ويكون عملاً، ويكون اعتقاداً، ويكون شكاً. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدل دينه فاقتلوه)) أخرجه البخاري في الصحيح (¬1)، فدلّ ذلك على أن المرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ويُعجَّل به إلى النار [وهذه النواقض على النحو الآتي]: 1 - الردة القولية: والقول من هذه النواقض مثل سبّ الله، وسبّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ينسب العيب إلى الله كأن يقول: إن الله فقير، أو إنّ الله ظالم، أو يقول: إنّ الله بخيل، أو يقول: إنّ الله لا يعلم بعض الأمور، أو يقول: إنّ الله لم يوجب علينا الصلاة فهذه ردة يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل. 2 - الردة الفعلية: مثل ترك الصلاة فمن ترك الصلاة ولم يصلِّ فقد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، برقم 3017.

3 - الردة العقدية

كفر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬2) ومن ذلك لو استهان بالمصحف، أو داسه، ومن ذلك من طاف بالقبور، وعبادة أهلها، فهذه ردة فعلية إلا إذا قصد بذلك عبادة الله فهذه بدعة قادحة في الدين ولا تكون ردة عن الإسلام بل تكون من النوع الثاني (كفر دون كفر) وكذلك الذبح لغير الله من الردة الفعلية. 3 - الردة العقدية: من اعتقد بقلبه أن الله فقير، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم فقد كفر ولو لم يتكلم ... أو اعتقد بقلبه أن محمداً كاذب، أو أحد الأنبياء، أو اعتقد بقلبه أنه لا بأس أن يعبد مع الله غيره، فهذه كلها ردة عن الإسلام؛ لأن الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (¬3)، ويقول سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬4)، ويقول سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬5)، فمن زعم أنه يجوز أن يعبد مع الله غيره، ونطق بذلك صار كافراً بالقول والعقيدة جميعاً، وإن فعل ذلك صار كافراً: بالقول، والعمل، والعقيدة ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم 2621، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم 1079، وأحمد، 5/ 346، والحاكم، 1/ 6، وقال: ((صحيح))، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 4143. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم 82. (¬3) سورة الحج، الآية: 62. (¬4) سورة البقرة، الآية: 163. (¬5) سورة الفاتحة، الآية: 5.

4 - الردة بالشك

جميعاً. ومن القوادح القولية، والفعلية، والعقدية، ما يفعله بعض الناس اليوم عند قبور الصالحين من دعائهم، والاستغاثة بهم ... فمن فعل شيئاً من ذلك يستتاب فإذا رجع إلى الحق خلي سبيله وإن لم يتب فإنه يُقتل ويكون مرتداً. 4 - الردة بالشك: مثل من يقول: أنا لا أدري هل الله حق أو ليس بحق، أو يقول: أنا لا أدري هل محمد صادق، أو كاذب؟ فهذا كافر أو قال: أنا لا أدري هل البعث حق؟ أو غير حق ... فهذا يكون كافراً يستتاب فإن تاب، وإلا قتل ... أما إذا كان بعيداً عن المسلمين بحيث كان في غابات بعيدة عن المسلمين؛ فإنه يبين له فإذا بُيِّن له وأصر فإنه يقتل. وكذلك من شك في شيء من أركان الإسلام ... فما تقدم من القسم الأول يسمى نواقض ويكون صاحبها مرتداً يستتاب فإن تاب وإلا قتل. أما الوسوسة العارضة والخطرات، فإنها لا تضر إذا دفعها المؤمن ولم يسكن إليها ولم تستقر في قلبه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)) (¬1). وعليه أن يعمل الآتي: 1 - يستعيذ بالله من الشيطان (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، برقم 5269، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، برقم 127. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3276، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 214 - (134).

القسم الثاني من القوادح:

2 - ينتهي عما يدور في نفسه (¬1). 3 - يقول آمنت بالله ورسله (¬2). والقسم الثاني من القوادح: قوادح دون كفر تضعف الإيمان مثل: أكل الربا، وارتكاب المحرمات: كالزنا، والبدع، وغير ذلك مثل: الاحتفال بالمولد وهو ما أحدثه الناس في القرن الرابع وما بعده من الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك إضعافاً للعقيدة، إلا إذا كان هناك في المولد استغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن هذه البدعة تكون من النوع الأول المخرج عن الإسلام. ومن النوع الثاني كذلك التّطيّر كما يفعل أهل الجاهلية وقد ردَّ الله عليهم {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (¬3). فالطيرة شرك دون كفر .. وكذلك الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬4). (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: ما قبله. (¬2) انظر: صحيح مسلم، رقم 134. (¬3) سورة النمل، الآية: 47. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697، ومسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم 1718. (¬5) القوادح في العقيدة للعلامة ابن باز وهي محاضرة ألقاها في الجامع الكبير في شهر صفر عام 1403هـ وهي مسجلة عندي بمكتبتي الخاصة، وقد طبعت ونشرت ضمن مؤلفات الشيخ.

الفصل الرابع: دعوة المشركين والوثنيين إلى كلمة التوحيد:

الفصل الرابع: دعوة المشركين والوثنيين إلى كلمة التوحيد تمهيد: الوثني: من يتدين بعبادة الوثن (¬1)، يقال: رجل وَثَنِيٌّ، وقوم وثنيُّون، وامرأة وثنيّة، ونساء وثنيّات (¬2)، واسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله. سواء كان ذلك المعبود قبراً، أو مشهداً، أو صورة، أو غير ذلك (¬3). وكل من دعا نبيّاً، أو وليّاً، أو ملكاً، أو جنّيّاً، أو صرف له شيئاً من ¬

_ (¬1) الوثن: الصنم، والجمع وُثُنٌ وأوثان: وهو التمثال يُعبد، سواء كان من خشب، أو حجر، أو نحاس، أو فضة، أو غير ذلك. وقد كان الوثنيون يزعمون أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى، كما بيّن سبحانه ذلك عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3]. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الواو، ص1597، وباب الميم، فصل الصاد، ص1460، والمعجم الوسيط، مادة (وثن)، 2/ 1012، ومادة (صنم)، 1/ 526، والمصباح المنير، مادة (وثن)، ص647، 648، ومادة (صنم)، ص349، ومختار الصحاح، مادة (وثن)، ص295، ومادة (صنم)، ص156. (¬2) انظر: المعجم الوسيط، مادة (وثن)، 2/ 1012، والمصباح المنير، مادة (وثن)، ص648.قال ابن الأثير: الفرق بين الوثن والصنم: أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من خشب، أو من حجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد. والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين. انظر: النهاية في غريب الحديث، 5/ 151، 4/ 56. ثم قال: وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ((يا عدي اطرح عنك هذا الوثن)). أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب سورة التوبة،5/ 278،برقم 3095،وانظر: صحيح الترمذي للألباني، 3/ 56. (¬3) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهّاب، ص244.

العبادة فقد اتخذه إلهاً من دون الله (¬1)، وهذا هو حقيقة الشّرك الأكبر الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬2). والمشركون يُدعَون إلى الله تعالى بالحكمة القولية على حسب عقولهم وأفهامهم، ويوضح ذلك ويبينه المباحث الآتية: ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، ص242. (¬2) سورة النساء، الآية: 48.

المبحث الأول: الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية الله تعالى

المبحث الأول: الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية الله تعالى من البراهين القطعية التي ينبغي تبيينها وتوضيحها لمن اتّخذ من دون الله آلهة أخرى، قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬1). فقد أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت أحجاراً، أو خشباً، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون الله! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ والجواب: كلا، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولو كان في السموات والأرض آلهة تستحق العبادة غير الله لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؛ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فُرِضَ وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئاً والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة! وذلك: * لأنه يستحيل وجود مرادهما معاً، وهو من أبطل الباطل؛ فإنه لو وجد مرادهما جميعاً للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حيّاً ميتاً، متحركاً ساكناً. * وإذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآيات: 21 - 23.

* النافذ مراده هو الإله القادر والآخر عاجز

* وإن وُجِدَ مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر والآخر عاجز ضعيف مخذول. * واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن. وحينئذ يتعين أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده غير ممُانع، ولا مُدافع، ولا مُنازع، ولا مُخالف، ولا شريك، وهو الله الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا ذكر سبحانه دليل التمانع في قوله - عز وجل -: {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباطه بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (¬2). وكل ذلك مسخر، ومدبر بالحكمة لمصالح الخلق كلهم يدل على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد، لا معبود بحقٍّ غيره، ولا خالق سواه (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 91 - 92. (¬2) سورة الملك، الآية: 3. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 9/ 352، 354، 337 - 382، 1/ 35 - 37، وتفسير البغوي، 3/ 241، 316، وابن كثير، 3/ 255، 176، وفتح القدير للشوكاني، 3/ 402، 496، وتفسير عبد الرحمن السعدي، 5/ 220، 374، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري، 3/ 99، ومناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، ص158 - 161.

المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله من كل الوجوه

المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله من كل الوجوه من المعلوم عند جميع العقلاء: أن كل ما عُبِدَ من دون الله من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عزّ أو ذلّ، وأنها لا تتصف بأي صفة من الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يعبد من هذه حاله؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسأل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً (¬1). وقد بيّن الله - عز وجل - ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَالله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2)، {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ *إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 83، 219، 277، 417، 3/ 47، 211، 310، وتفسير السعدي، 2/ 327، 420، 3/ 290، 451، 5/ 279، 457، 6/ 153، وأضواء البيان للشنقيطي، 2/ 482، 3/ 101، 322، 598، 5/ 44، 6/ 268. (¬2) سورة المائدة، الآية: 76.

مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ*وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (¬1)، {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} (¬2). وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (¬3). ومن المعلوم يقيناً أن ما يعبده المشركون من دون الله من: الأنبياء، أو الصالحين، أو الملائكة، أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله بالعمل الصالح، والتنافس في القُرْبِ من ربهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، فكيف يُعبَدُ من هذا حاله (¬4)؟ قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬5). وقد أوضح وبيَّن سبحانه: أن ما عُبِدَ من دونه قد توافرت فيهم جميع أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآيات: 191 - 198. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 3. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 56. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 48، وتفسير السعدي، 4/ 291. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 57.

ذرة في السموات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس لله من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (¬1)، قال - عز وجل -: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 37، وتفسير السعدي، 6/ 274. (¬2) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23. (¬3) سورة فاطر، الآيتان: 13 - 14.

المبحث الثالث: ضرب الأمثال

المبحث الثالث: ضرب الأمثال ضَرْبُ الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم سأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود على النحو الآتي: 1 - قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1). حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟! وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآيتان: 73 - 74. (¬2) انظر: أمثال القرآن لابن القيم، ص47، والتفسير القيم لابن القيم، ص368، وتفسير البغوي، 3/ 298،وابن كثير، 3/ 236،وفتح القدير للشوكاني، 3/ 470، وتفسير السعدي، 5/ 326.

2 - ومن أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك

2 - ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ} (¬1). فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي والنفع، فبين سبحانه أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتاً وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفاً، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء؛ فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفاً إلى ضعفهم (¬2). 3 - ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيّنه تعالى بقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬3). فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآيات: 41 - 43. (¬2) انظر: تفسير البغوي،3/ 468،وأمثال القرآن لابن القيم، ص21،وفتح القدير للشوكاني،4/ 204. (¬3) سورة الزمر، الآية: 29.

يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. والموحد لما كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبدٍ لرجلٍ واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتولِّيه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلاً، لا يستويان أبداً (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي، 4/ 78، وابن كثير، 4/ 52، والتفسير القيم، ص423، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 462، وتفسير السعدي، 6/ 468، وتفسير الجزائري، 4/ 43.

المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده

المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده بعد أن عرفنا صفات الآلهة الباطلة، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها ضراً ولا نفعاً، فهي لا تستحق العبادة، وإنما الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيءٍ، والإحاطة بكل شيءٍ، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل شيء، والعلم بكل شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه، فإنه حقيق بأن يُذَكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى ولا يُشرك معه غيره (¬1). وصفات الكمال المطلق لله تعالى، لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال: 1 - المتفرد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا الله وحده، الحي الذي لا يموت أبداً، القيُّوم الذي قام بنفسه وقام به غيره، واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيُّوميّته: أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السموات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي،1/ 237،3/ 71،2/ 88، 372،وابن كثير،1/ 309، 2/ 572، 3/ 42، 2/ 127، 435، 570، 1/ 344، 2/ 138،وتفسير السعدي، 1/ 313، 7/ 686، 2/ 381، 3/ 397، 4/ 206، 6/ 364، 1/ 356، 2/ 372، وأضواء البيان، 2/ 187، 3/ 271. (¬2) سورة مريم، الآيتان: 93 - 94.

2 - هو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه

ومن تمام ملكه، وعظمته، وكبريائه: أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يُقْدِمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كرسيه وسع السَّموات والأرض، وأنه قد حفظهما وما فيهما من مخلوقات، ولا يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العليُّ بذاته على جميع مخلوقاته، والعليُّ بعظمته وصفاته، العليُّ الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دلّ على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ... } الآية (¬1). 2 - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها، وإنسها وجنّها وملائكتها: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (¬2). 3 - وهو الإله الذي بيده النفع والضر، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقاً لم ينفعوه إلا بما كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إذا لم يرد الله ذلك: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 83.

4 - هو القادر على كل شيء

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). 4 - وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2). 5 - إحاطة علمه بكل شي، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون (¬3): {إِنَّ الله لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} (¬4)، {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬5)، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬6)، {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬7). ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال والعظمة، فإنه سيعبد الله وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة. ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 107. (¬2) سورة يس، الآية: 82. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 344، 2/ 138، والسعدي، 2/ 356، 2/ 372. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 5. (¬5) سورة يونس، الآية: 61. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 59. (¬7) سورة الأنفال، الآية: 75.

المبحث الخامس: بيان الشفاعة المثبتة والمنفية

المبحث الخامس: بيان الشفاعة المثبتة والمنفيّة الشفاعة لغة: يُقال شفع الشيء: ضمَّ مثله إليه، فجعل الوتر شفعاً (¬1). واصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرَّةٍ (¬2). من الحكمة القولية في دعوة من يتعلّق بغير الله تعالى ويطلب الشفاعة منه أن يبين له أن الشفاعة ملك لله وحده: {قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3). ويمكن أن يرد على من طلب الشفاعة من غير الله تعالى بالأقوال الحكيمة الآتية: أولاً: ليس المخلوق كالخالق، فكل من قال: إن الأنبياء والصالحين والملائكة أو غيرهم من المخلوقين لهم عند الله جاهٌ عظيمٌ ومقاماتٌ عاليةٌ فهم يشفعون لنا عنده كما يتقرّب إلى الوجهاء والوزراء عند الملوك والسّلاطين؛ ليجعلوهم وسائطَ لقضاء حاجاتهم، فهذا القول من أبطل الباطل؛ لأنه شبَّه الله العظيم ملك الملوك بالملوك الفقراء المحتاجين للوزراء والوجهاء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم؛ فإن الوسائط بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة: 1 - إما لإخبارهم عن أحوال الناس بما لا يعرفونه. ¬

_ (¬1) انظر: القاموس المحيط، باب العين، فصل الشين، ص947، والنهاية في غريب الحديث، 2/ 485، والمعجم الوسيط، 1/ 487. (¬2) انظر: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد صالح العثيمين، ص80. (¬3) سورة الزمر، الآية: 44.

2 - أو يكون الملِكُ عاجزاً عن تدبير رعيته فلابدّ له من أعوان؛ لذُلِّهِ وعجزه. 3 - أو يكون الملك لا يريد نفع رعيته والإحسان إليهم، فإذا خاطبه من ينصحه ويعظه تحركت إرادته وهمّته في قضاء حوائج رعيته. والله - عز وجل - ليس كخلقه الضعفاء، فهو تعالى لا تخفى عليه خافية، وغنيٌّ عن كل ما سواه، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومعلوم أن الشافع عند ملوك الدنيا قد يكون له ملك مستقل، وقد يكون شريكاً لهم، وقد يكون معاوناً لهم، فالملوك يقبلون شفاعته لأحد ثلاثة أمور: أ - تارة لحاجتهم إليه. ب - وتارة لخوفهم منه. ج‍وتارة لجزاء إحسانه إليهم. وشفاعة العباد بعضهم عند بعض من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة، والله - عز وجل - لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إليه (¬1)؛ ولهذا قطع الله جميع أنواع التعلّقات بغيره، وبيّن بطلانها، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (¬2). فقد سدّت هذه الآية على المشركين جميع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك أبلغ سد وأحكمه؛ فإن العابد إنما يتعلّق بالمعبود لما يرجو من ¬

_ (¬1) انظر فتاوى ابن تيمية، 1/ 126 - 129. (¬2) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23.

ثانيا: الشفاعة شفاعتان: مثبتة ومنفية:

نفعه، وحينئذ فلابد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو يكون شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده (¬1). ثانياً: الشفاعة شفاعتان: مثبتة ومنفية: 1 - الشفاعة المثبتة: وهي التي تُطلب من الله، ولها شرطان: الشرط الأول: إذن الله للشّافع أن يشفع؛ لقوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (¬2). الشرط الثاني: رضا الله عن الشّافع والمشفوع له؛ لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} (¬3)؛ ولقوله جلَّ وعلا: {يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً} (¬4). 2 - الشفاعة المنفية: وهي التي تُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والشفاعة بغير إذنه ورضاه، والشفاعة للكفار: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (¬5)،ويُستثنى شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف عذاب أبي طالب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: التفسير القيم، لابن القيم، ص408. (¬2) سورة البقرة، الآية: 255. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 28. (¬4) سورة طه، الآية: 109. (¬5) سورة المدثر، الآية: 48. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، برقم 3883، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذاباً، برقم 209، 210.

ثالثا: الاحتجاج على من طلب الشفاعة

ثالثاً: الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير الله: بالنص والإجماع، فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الأنبياء من قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، ولا يطلبوا منهم الشفاعة، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يستَحِبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع، فالحمد لله رب العالمين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية،1/ 112، 158، 14/ 399 - 414، 1/ 108 - 165، 14/ 380، 409، 1/ 160 - 166، 195، 228، 229، 241، ودرء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، 5/ 147، وأضواء البيان، للشنقيطي، 1/ 137.

المبحث السادس: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده

المبحث السادس: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده من الحكمة في دعوة المشركين إلى الله تعالى لفت أنظارهم وقلوبهم إلى نعم الله العظيمة: الظاهرة، والباطنة، والدينية، والدنيوية. فقد أسبغ على عباده جميع النعم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} (¬1)، وسخَّر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان. وقد بيّن سبحانه هذه النعم، وامتنَّ بها على عباده، وأنه المستحق للعبادة وحده، ومما امتنَّ به عليهم ما يأتي: أولاً: على وجه الإجمال: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ... } (¬2)، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} الآية (¬3). {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬4). فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم: الظاهرة والباطنة، الحسيّة والمعنوية، فجميع ما في السموات والأرض قد سُخّر لهذا الإنسان، وهو شامل لأجرام السموات والأرض، وما أودع فيهما من: الشمس، والقمر، والكواكب، والثوابت والسيارات، والجبال، والبحار، والأنهار، وأنواع الحيوانات، ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 53. (¬2) سورة البقرة، الآية: 29. (¬3) سورة لقمان، الآية: 20. (¬4) سورة الجاثية، الآية: 13.

ثانيا: على وجه التفصيل:

وأصناف الأشجار والثمار، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراتهم: للانتفاع، والاستمتاع، والاعتبار. وكل ذلك دالّ على أن الله وحده هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذلّ والمحبة إلا له، وهذه أدلة عقلية لا تقبل ريباً ولا شكَّاً على أن الله هو الحق، وأن ما يُدعى من دونه هو الباطل (¬1): {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬2). ثانياً: على وجه التفصيل: ومن ذلك قوله تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬3). وقال - عز وجل - بعد أن ذكر نعماً كثيرة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي، 1/ 59، 3/ 72، وابن كثير، 3/ 451، 4/ 149، والشوكاني، 1/ 60، 4/ 420، والسعدي، 1/ 69، 6/ 161، 7/ 21، وفي ظلال القرآن، 1/ 53، 5/ 2792، وأضواء البيان للشنقيطي، 3/ 225 - 253. (¬2) سورة الحج، الآية: 62، وانظر: سورة لقمان، الآية: 30. (¬3) سورة إبراهيم، الآيات: 32 - 34.

تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة كمن لا يخلق شيئاً منها؟ ومن المعلوم قطعاً أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه، فكيف بما عدا ذلك من النعم؟ في جميع ما خلقه في بدنه، وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها؟ (¬2). ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد الله الذي أسدى لعباده هذه النعم، ولا يشرك به شيئاً؛ لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه. قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬3). والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآيات: 14 - 18، وانظر: الآيات: 3 - 12 من السورة نفسها. (¬2) انظر: فتح القدير، 3/ 154، 3/ 110، وأضواء البيان، 3/ 253. (¬3) سورة قريش، الآيتان: 3 - 4.

§1/1