العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي

مدحت آل فراج

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قيوم السموات والأرضين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن ربنا سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بتوحيده وطاعته وأنزل بذلك الكتب وأرسل الرسل وأوضح السبل لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وقد كلف جميع العباد بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ووعد من وحده بالثواب وتوعد من أشرك به بالعذاب وقد حكى عن رسله أنهم دعوا الأمم إلى معرفة ربهم وطاعته فأنجى من اتبعهم وأهلك من خالفهم وأخبر عن الهالكين أن منهم الاتباع والرؤساء وكلهم في العذاب يتلاومون (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا) وحكى أن الاتباع يحتجون على ربهم بقولهم: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ولم يعذرهم بذلك وقد حاول بعض الخلف أن يعذر أهل الفترات وأهل الجهل مع وجود النصوص الدالة على تكليف الجميع وقد كتب الأخ في الله/ أبو يوسف مدحت بن الحسن ال فراج هذه الرسالة وسماها العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي وقد استوفى الأدلة والنقول عن العلماء والأئمة وأوضح الأدلة وناقش الشبهات التي يتشبث بها المخالفون وبذلك يعلم أن كل فرد في أقطار البلاد قد من الله عليه بالعقل والإدراك والسمع والبصر يتمكن من البحث والسؤال ومعرفة الحق والواجب وإذا أهمل وفرط مع القدرة فليس بمعذور وبذلك تكون هذه الرسالة أوفى ما كتب في هذا الباب فجزى الله الكاتب الباحث خير الجزاء ونفع بهذه الرسالة وأمثاله وبارك في جهوده والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً). أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد كثر في وقتنا هذا الكثير من التخبّط في أحكام التكفير والتبديع والتفسيق بين إفراط وتفريط، ولا يكون هذا إلا بسبب عدم ضبط قضية الإيمان إذ هي ميزان الأحكام الذي يجب أن توزن بها لا بغيرها. وقد تسيّد فكر الإرجاء الساحة الإسلامية، وغلب على كثير من عقول الشيوخ والدعاة وطلاب العلم، وتستّر وتترّس الكفر والطغيان ودعاة العلمانية به حتى علت ورفرفت راياتهم وأعلامهم على ديار المسلمين، وأصبح في كل بيت من بيوتهم لهم فيه ذكر، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، واشتدت غربة الإسلام وظلمة الفتن، وأصبح الرجل يُكفَّر بإخلاص التوحيد، ويبدع باتباع السنة، وأصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ولبست الطواغيت ثياب أمراء المؤمنين، وارتدى الزنادقة ثياب المصلحين الزهاد، وظهر أهل البدع بثياب أهل السنة وبدا الفساق والمجرمون بثياب أهل العدل والتقى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ

وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). إلا أنه لا تزال طائفة من أمتنا على الحق قائمين ولأهل الزيغ والضلال مجاهدين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك: "نسأل الله أن نكون منهم". وغدونا نسمع: شتى أنواع الكفر البواح والإلحاد. والحركة الإسلامية مكتوفة الأيدي لا تستطيع أن توقف هذا التيار الإلحادي الخبيث لأن دعاته من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهذا لظنهم الخاطئ أن الكتب ما أنزلت، والرسل ما أرسلت، والسيوف التي جردت، والأعناق التي ضربت، ولهيب الحرب الذي لم يطفأ بعد بين المسلمين والكافرين ما كان هذا كله إلا للتلفظ بقول: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقط دون الانخلاع من الشرك والكفر بالطواغيت، وإفراد الله -جل ثناؤه- بالتلقي والتوجه والطاعة له وحده لا شريك له. وأصبح المسلم في حسهم هو الذي ينطق بالشهادتين وإن لم يعلم معناها ويعمل بمقتضاها وينخلع من الشرك ويبرأ منه، ونتج عن هذا الفكر العقيم أن ضجت الأرض من كثرة الشرك والمشركين وانتشر الجهل وكاد أن يتنسّخ العلم -خاصة علم التوحيد- الذي هو أصل الأصول، ويلزم من هذا الاعتقاد الخاطئ أن الجهل خير من العلم، لأن العبد الذي يتلفظ بالشهادتين وهو منذ أن قالها وهو مكذب لها بفعله وعمله، يطوف بالقبور، ويستغيث بالأموات في الرخاء والشدة، ويحبهم كحب الله، ويفضّل حكم الطواغيت على حكم الله الواحد القهار، غير مؤاخذ بهذا كله لأنه جاهل ومعذور بجهله، وإن مات على ما هو عليه من الشرك والجهل فهو مسلم من أهل الجنة إن عاجلاً أو آجلاً. وأما إن أقيمت عليه الحجة، وأتاه العلم، وارتفع الجهل فإن لم ينقد لها فهو من الكافرين، وإن مات على هذا حرّم عليه دخول الجنة، ومن المعلوم أن أكثر الناس لا ينقادون ولا يستجيبون فأصبح على هذا الزعم الخاطئ أن الجهل يسوق أصحابه إلى الجنة بيقين، والعلم قد يسوق إلى النيران والخلود فيها. ونتج عن هذا: أن عطل كثير من الدعاة الدعوة إلى التوحيد حتى لا يقيمون الحجة على الناس فيوردوهم المهالك، وإن لم يكن في هذا الفكر الخاطئ إلا هذا، لكفى بيان خطئه وتجنبه الصراط المستقيم- لذلك كتبت -بعون الله وفضله وحده لا شريك له- هذا البحث في هذه المسألة،

وهي هل يعذر المشرك بجهله أم لا؟ وقد قسمته إلى أربعة أبواب: الباب الأول: بينت فيه: أن وصف الشرك وحكمه ثابت قبل قيام الحجة وبلوغ الرسالة، وأن الحجة عليه: الميثاق والعقل والفطرة، وأن العذاب في الدارين لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة وقيام الحجة. الباب الثاني: تحدثت فيه عن الإسلام الذي يجب على كل عبد أن يحققه حتى ينتقل من ملل الكفر والشرك إلى الإسلام في الظاهر، والله يتولى السرائر، وختمته بذكر قضية الإيمان وضوابطها وتحديد العلاقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام. الباب الثالث: ذكرت فيه حكم من دان واستقام على الإسلام في الظاهر ثم وقع في ردة أو ابتداع بسبب الجهل والتأويل الفاسد والخطأ. الباب الرابع: وفيه الرد على الشبهات في هذه القضية، وبيان موقف الأئمة: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- من تلك القضية. وأريد أن أنبّه على أمر جلل جد خطير، وهو أن كثيراً من الرسائل التي كتبت في هذه القضية كان أكبر همّ أصحابها إثبات أن العالم الفلاني هذا أو ذاك يعذر أم لا يعذر؟ ثم يأتي بالنصوص من الكتاب والسنة محتجاً ومقرراً بها قول العالم، وأصبحت النصوص محكومة لا حاكمة يستدل لها لا بها-. لذلك حرصت في هذا البحث من أوله إلى آخره أن تكون دلائل مسائله وأحكامه من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها، وأن تكون النصوص حاكمة لا محكومة يستدل بها لا لها بتفسير السلف والأئمة المجمع على إمامتهم، فلم أنقل في هذا البحث عن أحد منهم ببدعة أو من الفرق الضالة وحرصت أشد الحرص أن تكون غالب أحاديث البحث من الصحيحين حتى تصح وتستقيم المسائل والدلائل بمشيئة الله وعونه. وأنا لا أدّعي العصمة في كل ما كتبت فهي ليست لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- فكل ما فيه من حق فمن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وما فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله صلى الله عليه وسلم منه بريئان. وهنيئاً لك أخي القارئ ما فيه من صفو، وما فيه من كدر فراجع على كاتبه لا عليك، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفره لي وحسبي أني قد بذلت وسعي قدر طاقتي أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبله مني ويجعله ابتغاء مرضاته خالصاً لوجهه

ليس لأحد فيه من دونه من شيء، وصلي الله على محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين. المؤلف

الباب الأول إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية

الباب الأول إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية وفيه فصلان: الفصل الأول: الأدلة على إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية. الفصل الثاني: علة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة.

الفصل الأول الأدلة على إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية

الفصل الأول الأدلة على إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية وفيه مبحثان: المبحث الأول: فتور الرسالات قبل البعثة. المبحث الثاني: اقتران وصفي الشرك والجهل.

الفصل الأول إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية الدليل الأول: قوله -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ). [التوبة: 6]. قال الإمام الطبري: يقول -تعالى ذكره- لنبيه وإن استأمنك يا محمد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم أحد ليسمع كلام الله منك وهو القرآن الذي أنزله الله عليه "فأجره": يقول: فأمّنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه ثم أبلغه مأمنه، يقول: ثم رده بعد سماع كلام الله إن هو أبى أن يسلم ولم يتعظ بما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن إلى مأمنه .... (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ). يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان ليسمعوا القرآن وردك آياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم من أجل أنهم: قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم لتركهم الإيمان بالله اهـ. وقال الإمام البغوي: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ). فيما له وعليه من الثواب والعقاب ... (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ). أي: لا يعلمون دين الله وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله. قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى قيام الساعة اهـ. وقال الإمام الشوكاني في تفسيره: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)، أي: بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل اهـ. قلت: فهذا النص القرآني المحكم في دلالته يثبت في وضوح حكم الشرك مع الجهل الشديد المطبق في وقت اندرست فيه الشرائع، وطمست فيه السبل، واشتدت الفتن حتى إذا أخرج العبد يده فيها لم يكد يراها من شدة الظلمات لذلك سميت بالجاهلية لكثرة الجهالات. قال الإمام النووي تعليقاً على حديث ابن جدعان: وأما الجهالية فما كان قبل النبوة سمّوا بذلك لكثرة جهالتهم (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم جـ: 3 ص: 87.

وقال ابن تيمية موصّفاً إياها اعلم أن الله أرسل محمداً إلى الخلق وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا -أو أكثرهم- قبل مبعثه، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب -إما مبدّل، وإما منسوخ- وإما بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك، وإما أُمّي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غيره ذلك. والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علماً وهي جهل. وأعمال يحسبونها صلاحاً وهي فساد وغاية البارع منهم علماً وعملاً أن يُحصّل قليلاُ من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوب بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليه حقه بباطله، أو يشتغل بعلم القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يُؤثّر في صلاحه إلا قليلاً وأن يكدح بنظره نظر المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا ولا يغني من العلم الإلهي شيئاً، باطله أضعاف حقه -إن حصل- وأنّى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب (¬1) اهـ. الدليل الثاني: قوله -تعالى-: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). [البينة: 1]. قال ابن تيمية: وممن ذكر هذا أبو الفرج بن الجوزي. قال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ). اليهود والنصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) وهم عبدة الأوثان (مُنفَكِّينَ) أي منفصلين وزائلين ... والمعنى لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى أتتهم البينة. لفظه لفظ المستقبل ومعناه: الماضي والبينة الرسول وهو محمد، صلى الله عليه وسلم، بيّن لهم ضلالهم وجهلهم ... ولفظ البغوي نحو هذا قال: لم يكونوا منتهين عن كفرهم وشركهم .. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). لفظه مستقبل ومعناه: الماضي أي حتى أتتهم البينة -الحجة الواضحة- بعني محمداً أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان، فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة (¬2) اهـ. ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم ص: 2. (¬2) جـ: 16 ص: 483، 486 لمجموع الفتاوى.

المبحث الأول: فتور الرسالات قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-

وقال الشوكاني: قال الواحدي: ومعنى الآية إخبار الله -تعالى- عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد، صلى الله عليه وسلم، بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلال اهـ. قلت: وهذه الآية تنص بوضوح على إثبات وصف الشرك والكفر قبل البعثة المحمدية والحجة القرآنية، ويلاحظ اقتران وصفي الجهل والشرك في عبارات السلف وهذا مع وصف القرآن لهم بالجهل والغفلة في الكثير الكثير من الآيات على سبيل المثال لا الحصر قوله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). [الجمعة: 2]. قال الطبري: .... يقول -تعالى ذكره-: وقد كان هؤلاء الأميون من قبل أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم في جور عن قصد السبيل، وأخذ على غير هدي مبين، يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال وجور عن الحق وطريق الرشد اهـ. وقال ابن كثير: ... فبعثه الله -سبحانه وتعالى- وله الحمد والمنة على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، أي نذراً يسيراً مما بعث الله به عيسى بن مريم اهـ. قلت: وقد يقول قائل: إن حكم الشرك ثابت لأصحابه قبل بعثة النبي، صلى الله عليه وسلم، بسبب أن الحجة الرسالية كانت قائمة عليهم، والجهل والغفلة التي كانوا فيها بسبب إعراضهم عن الحجة وليس بسبب فقدها. أقول وبالله تعالى التوفيق: إن كلام السلف السالف ذكره يرد هذا الظن لنصهم على توصيف هذا الوقت بأنه كان وقت فترة من الرسل، وطموس من السبل، ومع هذا أسوق آيتين من كتاب الله يدلان على فقد الحجة الرسالية قبل بعثته، صلى الله عليه وسلم، للعرب والعجم. المبحث الأول: فتور الرسالات قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآية الأولى قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [المائدة: 19].

قال القرطبي: (يُبَيِّنُ لَكُمْ). انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا: غداً ما جاءنا رسول (عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) أي سكون يقال: فتر الشيء: سكن، وقيل "عَلَى فَتْرَةٍ" على انقطاع ما بين النبيين عن أبي عليّ وجماعة أهل العلم وحكاه: الرماني اهـ. وقال ابن كثير: ... والمقصود أن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان فكانت النعمة به أتم النعمة والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد قد عم جميع البلاد والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء ... " ... ثم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل ... ". ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه ... فكان الذين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء، ولهذا قال -تعالى-: (أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ). أي: لئلا تحتجوا وتقولوا يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمداً، صلى الله عليه وسلم، اهـ. وقال الطبري: على فترة من الرسل يقول: على انقطاع من الرسل، والفترة في هذا الموضع الإنقطاع يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى على انقطاع من الرسل ... (أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ) ... فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير يعلمهم -عزّ ذكره- أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة اهـ. وقال الشوكاني: (أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ). تعليل: لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة: أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم "أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير وهو محمد، صلى الله عليه وسلم اهـ. الآية الثانية: قوله -تعالى-: (وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). [القصص: 47]. قال الطبري يقول -تعالى ذكره-: ولولا أن يقول هؤلاء الذين: أرسلتك يا محمد، صلى الله عليه وسلم، إليهم لو حلّ بهم بأسنا أو أتاهم عذابنا من قبل أن نرسلك إليهم على كفرهم بربهم

واكتسابهم الآثام واجترامهم المعاصي: ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً من قبل أن يحل بنا سخطك وينزل بنا عذابك فنتبع أدلتك وآي كتابك الذي تنزلُه على رسولك وتكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين رسولك فيما أمرتنا ونهيتنا. لعاجلناهم العقوبة على شركهم من قبل ما أرسلناك إليهم، ولكنا بعثناك إليهم نذيراً بأسنا على كفرهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل اهـ. قال الشوكاني: ... قال الزجاج: وتقدير ما أرسلنا إليهم رسلاً: يعني أن الحامل على إرسال الرسل هو إزاحة عللهم فهو كقوله -سبحانه-: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ... ومعنى الآية: أنا لو عذبناهم لقالوا: طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولاً ويظنون أن ذلك عذر لهم ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتمننا البيان بإرسالك يا محمد إليهم اهـ. وقال القرطبي: (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا). أي هلاّ: (أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً). لما بعثنا الرسل وقيل: لعاجلناهم بالعقوبة. وبعث الرسل أزاحة لعذر الكفار .... فال القشيري: والصحيح أن المحذوف لولا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل أي: هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد، ولكن تطاول العهد فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم: طال العهد بالرسل ويظن أن ذلك عذر، ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل، ولكن أكملنا إزاحة العذر وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد، صلى الله عليه وسلم، إليهم وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبداً إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل اهـ. وقال ابن كثير: أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ولينقطع عذرهم إذا جاءهم

عذاب من الله بكفرهم فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير اهـ. وقال البغوي: (وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم). عقوبة ونقمة (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). من الكفر والمعصية. (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وجواب لولا محذوف أي: تعاجلناهم بالعقوبة. يعني: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم، وقيل: معناه لما بعثناك إليهم رسولاً ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل اهـ. قلت: فمن هذين النصين يعلم أن القوم قبل بعثة النبي، صلى الله عليه وسلم، لو عاجلهم المولى -سبحانه- العقوبة على شركهم واكتسابهم الآثام، لاحتج القوم بأنهم في زمن فترة من الرسل وأنهم ما جاءهم من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليقطع عذرهم في العذاب، ومع هذا فقد اتفق السلف على أنهم مشركون كافرون غير مسلمين إلا أنهم لا يعذبون إلا بعد الحجة الرسالية على خلاف بينهم في هذا الأخير. فهؤلاء القوم كانوا في زمن فترة من الرسل. وفي جهل شديد ومع هذا كانوا مشركين. الدليل الثالث: شرك قوم نوح، صلى الله عليه وسلم، وهو أول شرك وقع على وجه الأرض، ومن المعلوم بيقين أن آدم، عليه السلام، قد ترك ذريته على التوحيد الخالص. ثم بدأ يدب الشرك في ذريته بسنن شيطانية التي تحدث عنها حبر الأمة ابن عباس -رضي الله عنهما- فأصبحوا مشركين فبعث الله نوحاً وهو أول رسول إلى أهل الأرض بنص حديث الشفاعة الصحيح. ومن المعلوم أيضاً أن نوحاً عليه السلام كان يخاطب قومه على أنهم: مشركون لا مسلمون. فأين الرسول الذي أقام الحجة عليهم قبله حتى يثبت لهم وصف الشرك وحكمه؟ قال الله -تعالى-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ). [البقرة: 213]. قال ابن كثير: قال ابن جرير ... عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي قراءة عبد الله ... الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً، عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض اهـ. وقال ابن تيمية: وذلك أن الناس كانوا بعد آدم، عليه السلام، وقبل نوح، عليه السلام، على التوحيد والإخلاص كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر، عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان -بدعة من تلقاء أنفسهم- لم ينزّل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً. بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة. قوم منهم

زعموا: أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين وقوم على مذاهب أخر. وأكثرهم لرؤسائهم مقلدون وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحاً، عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليتقربوا بهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء (¬1). اهـ. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب ... أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عبدت (¬2) اهـ. قلت: انظر رحمني الله وإياك قول ابن عباس -رضي الله عنهما -أنها- أي الأصنام- لم تعبد في بادئ الأمر، وأن العلة في عبادتها: تنسخ العلم وانتشار الجهل. وذلك لأن المشرك أينما كان يظن أن ما هو عليه من الديانة تقربه إلى الله زلفى فكيف يتقرب العبد إلى الله بأمر يعتقد بطلانه؟ وذلك لأن الشرك منبعه ومبعثه: الاعتقاد، بخلاف المعصية فإن منبعها ومبعثها: الشهوة المحضة. فالزاني والسارق وشارب الخمر يعلم قبح وحرمة معصيته ولكن يحمله على اقترافها الشهوة العارمة بخلاف الذبح والنذر والدعاء والاستغاثة فهذه الحامل على فعلها: الاعتقاد لا الشهوة. لذلك لن تجد عبداً يعلم قبح وحرمة الشرك وأنه يسوق صاحبه إلى الخلود في النيران ويحرم عليه دخول الجنة ويحبط عمله بالكلية ثم يفعله بعد هذا قربة إلى الله؟. ¬

(¬1) جـ: 28 ص: 603، 604 لمجموع الفتاوى. (¬2) راجع فتح الباري جـ: 8 ص: 535.

المبحث الثاني: اقتران وصفي الشرك والجهل

المبحث الثاني: اقتران وصفي الشرك والجهل: لذلك اعلم أن الشرك قرين الجهل. والتوحيد قرين العلم لا ينفكان. يقول الله -جل ثناؤه-: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). [يوسف: 40]. قال ابن كثير: أي فلهذا كان أكثرهم مشركين اهـ. وهذا المعنى -وهو جهالة أكثر الناس- مستقر في كثير من الآيات كقوله -تعالى-: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). [لقمان: 25]. وقوله -تعالى-: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الدخان: 39]. وقوله -تعالى: - (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأنفال: 34]. وهذا في الكثير الكثير من الآيات وصف أكثر الناس بالجهل وعدم العلم، وكذلك أيضاً وصف القرآن في العديد من الآيات أن أكثر الناس مشركون ضالون عن سواء السبيل كقوله -تعالى-: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: 106]. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام: 116]. فعلم بنصوص القرآن المستقرأة البينة الواضحة الدلالة: أن أكثر الناس يجمعون بين الشرك والجهل. فعندما يقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48]. ثم نقصره على العالم والمعاند فقط فهذا لا يكون إلا للنادر القليل ومن المعلوم أن النصوص نزلت لأجل المشاع الغالب ذكره وليس للنادر القليل الذكر. يقول الإمام أبو بطين (بعد نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من فعل الشرك فهو مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل). قال: فقد جزم -رحمه الله- في مواضع كثيرة تكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك وحكى إجماع المسلمين على ذلك ولم يستثن الجاهل ونحوه وقال -تعالى-: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). وقال عن المسيح أنه قال: (مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ). فمن خص ذلك الوعيد بالمعاند فقط وأخرج الجاهل والمتأوّل والمقلد فقد شاق الله ورسوله، وخرج عن سبيل المؤمنين. والفقهاء: يصدرون باب حكم المرتد بمن أشرك بالله

ولم يقيدوا ذلك بالمعاند وهذا أمر واضح ولله الحمد (¬1) اهـ. وبهذا يعلم فقه ابن عباس -رضي الله عنهما- عندما علّل ووقت اقتراف الشرك في قوم نوح بتنسخ العلم، فقال: فلم تعبد (أي الأصنام) حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت. فهؤلاء القوم كانوا بداية على التوحيد ومن نسل موحد ثم دب فيهم الشرك بنوع من الجهل والتأويل وتخرصاً وحسباناً أنه يقربهم إلى الله زلفى بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزّل الله بها من سلطان، فأصبحوا مشركين، فعند هذا بعث الله إليهم نوحاً، عليه السلام، بشيراً ونذيراً ليقيم الحجة الموجبة للعذاب في الدارين لمن خالفها. قال -تعالى- في سورة هود: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)). قال ابن كثير: يخبر -تعالى- عن نوح، عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ). أي: ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ... وقوله: (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ). أي: إن استمررتم على ما أنتم عليه عذّبكم الله عذاباً إليماً موجعاً شاقاً في الدار الآخرة اهـ. قلت: وما يقال في قوم نوح، عليه السلام، يقال في كل أمة بين رسولين لأن الرسل ترسل لأقوامهم -المشركين الجاهلين- بالإسلام العام فيكفر أكثر أقوامهم ويؤمن لهم من وفقه الله للهداية ثم يفصل الله بينهم وبين أقوامهم، ويبقى الموحدون -بعد هلاك الكفار بالرسالات- ثم يمكثوا ما شاء الله لهم على التوحيد. حتى إذا تنسخ العلم لديهم دب فيهم الشرك وأتُوا من قبل جهلهم وتخرصهم على ربهم بغير سلطان لديهم من الله -جل ثناؤه- فعند هذا يبعث الله رسولاً ليخرجهم: من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم ويتوعدهم بالعذاب في الدارين إن استمروا على شركهم وكفرهم بعد الحجة الرسالية. وهذا لقوله -تعالى-: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]. ¬

(¬1) الانتصار لحزب الله الموحدين.

ومن هذا يعلم: أن اسم المشرك ثابت قبل بلوغ الرسالة، والعذاب في الدارين لا يكون إلا بعدها. قال ابن تيمية نقلاً عن محمد بن نصر المروزي: قالوا: ولما كان العلم بالله إيماناً والجهل به كفراً، وكان العمل بالفرائض إيماناً والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر، لأن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، إليهم ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك، فلم يكن جهلهم بذلك كفراً. ثم أنزل الله عليهم الفرائض فكان إقرارهم والقيام بها إيماناً وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله. ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافراً وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافراً والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر (¬1) اهـ. وقال صاحب بدائع الصنائع فإن أبا يوسف روى عن أبي حنيفة -رحمه الله- هذه العبارة فقال: كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: لا عذر لأحد من الخلق في جهله معرفة خالقه لأن الواجب على جميع الخلق معرفة الرب -سبحانه وتعالى- وتوحيده لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر ما خلق الله -سبحانه وتعالى- فأما الفرائض فمن لم يعلمها ولم تبلغه فإن هذا لم تقم عليه حجة حكمية بلفظه (¬2) اهـ. وقال ابن تيمية في وكذاك أخبر عن هود أنه قال لقومه: (... إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ). فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه لكونهم جعلوا مع الله إلهاً آخر. فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسالة، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال جاهلية وجاهلاً قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا، والتولي عن الطاعة كقوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى). فهذا لا يكون إلا بعد الرسول (¬3) اهـ. الدليل الرابع: قوله -تعالى-: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) [الأنعام: 131]. ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 325 مجموع الفتاوى. (¬2) بدائع الصنائع جـ: 7 ص: 132 - دار الكتب العلمية. (¬3) جـ: 2 ص: 37 لمجموع الفتاوى.

قال القرطبي: ... أي إنما فعلنا ذلك بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم أي: بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم فهو مثل: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ذلك اهـ. وقال البغوي: أي: الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وعذاب من كذبهم لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم أي: لم يكن مهلكهم بظلم أي: يشرك من أشرك: (وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ). لم ينذروا حتى نبعث إليهم رسلاً ينذرونهم اهـ. وقال الشوكاني: (يظُلْمٍ)) (¬1) (-سببيه: أي: لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم والحال أن أهلها غافلون. لم يرسل الله إليهم رسولاً. والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى. والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب اهـ. قلت: فهذا النص بفهم السلف يثبت وصف الشرك قبل البعثة والناس في غفلة إلا أن العذاب لا يكون إلا بعد الرسالة-. والآن بمشيئة الله وعونه أسوق آية من كتاب الله هي الفصل في هذه المسألة ومنها يعلم علة هذا الحكم وهو ثبوت وصف الشرك بمجرد التلبس به دون إقامة حجة وبلوغ رسالة وهذا الحكم عام مطرد بين جميع الخلق وكافة الأمم ألا وهي آية الميثاق، وقبل الحديث عنها أنبه على أن العلماء قد اتفقوا على أن هذه الآية حجة مستقلة في الإشراك واختلفوا هل هي حجة مستقلة في العذاب أم لا؟ على قولين. واختلفوا هل الإشهاد أخذ حقيقة بلسان المقال أم مجازاً وهو بلسان الحال؟ على قولين: فهذا ما اتفقوا عليه وهذا ما اختلفوا فيه حتى لا تختلط المفاهيم وتنضبط الأحكام. * * * ¬

(¬1) (بظلم) - إشارة إلى قوله تعالى (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم -، سببيه بتشديد الياء

الفصل الثاني علة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة

الفصل الثاني علة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: حجية الميثاق. المبحث الثاني: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية وهو الحجة عليه. المبحث الثالث: الميثاق حجة في بطلان الشرك والعذاب عليه بعد الحجة الرسالية. المبحث الرابع: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع.

المبحث الأول: حجية الميثاق

الفصل الثاني علة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة المبحث الأول: حجية الميثاق: يقول -تعالى- في سورة الأعراف: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174). قال الشوكاني: ... أي: فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، و (أو) لمنع الخلو دون الجمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين (من قبل) أي: من قبل زماننا (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ). لا نهتدي إلى الحق ولا نعرف الصواب. (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثار سلفنا: بين الله -سبحانه- في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة اهـ. وقال القرطبي: قال الطرطوشي: إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه ... وقال ابن عباس وأبي بن كعب. قوله: شهدنا هو من قول بني آدم، والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا ... (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). بمعنى: لست تفعل هذا ولا عذر للمقلد في التوحيد اهـ. وقال الطبري: (أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ). يقول -تعالى ذكره-: "شهدنا" عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين: إنا كنا لا نعلم ذلك وكنا في غفلة منه أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم .... اتبعنا مناهجهم على جهل منا بالحق اهـ.

وقال ابن كثير: يخبر -تعالى- أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم: شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه -تعالى- فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ... ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ... (وأخذ بدلل على رجحان هذا القول). قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا (¬1) (هذا) (¬2)، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك. فلو كان قد وقع هذا (¬3) كما قاله من قال لكان لكل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده. فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءت به الرسل من هذا وغيره وهذا (¬4) جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه: الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد. ولهذا فال: (أَن تَقُولُواْ). أي: لئلا تقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا). أي: التوحيد غافلين (أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا). الآية اهـ. وقال البغوي: ... فإن قيل: كيف تلزم الحجة على أحد لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة. قوله -تعالى-: (أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ). يقول: إنما أخذ الميثاق عليك لئلا تقولوا أيها المشركون: إنا أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم، أي: كنا أتباعاً لهم فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عذراً لأنفسكم وتقولوا: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين، فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله -تعالى- بأخذ الميثاق على التوحيد (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ)، أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من الكفر إلى التوحيد اهـ. وقال ابن القيم (¬5): (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ). وهذا يقتضي إقرارهم ¬

(¬1) أي الإشهاد. (¬2) أي فطرهم على التوحيد. (¬3) أي الإشهاد الحقيقي والخروج من صلب آدم عليه السلام حقيقة لأخذ العهد والميثاق. (¬4) أي العهد والميثاق. (¬5) أحكام أهل الذمة جـ: 2 ص: 527.

بربوبيته إقراراً تقوم عليهم به الحجة وهذا إنما هو الإقرار الذي احتج به عليهم على ألسنة رسله كقوله -تعالى-: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ) ... (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ). ونظائر ذلك كثيرة يحتج عليهم بما فطروا عليه من الإقرار بربهم وفاطرهم ويدعوهم بهذا الإقرار إلى عبادته وحده وألا يشركوا به شيئاً هذه طريقة القرآن ومن ذلك هذه الآية التي في "الأعراف" وهي قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ..) ولهذا قال في آخرها: (أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ...). فاحتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته على بطلان شركهم وعبادة غيره، وألا يعتذروا، إما بالغفلة عن الحق، وإما بالتقليد في الباطل فإن الضلال له سببان: إما غفلة عن الحق، وإما تقليد أهل الضلال ... وقال في ص: 562 فهو سبحانه يقول: أذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فهذا الإقرار حجة عليهم يوم القيامة .. (أَن تَقُولُواْ) أي: كراهية أن تقولوا أو لئلا تقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). أي: عن هذا الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية ... (أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ...). فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد: إحداهما أن يقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل. والثاني أن يقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وهم آباؤنا المشركون: أي أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون وآباؤنا الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين

بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها؛ وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا، وهذا لا يناقض قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). فإن الرسول يدعو إلى التوحيد ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع [] (¬1) لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن بأن الله ربهم، ومعرفتهم أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله في تصديق رسله فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب ثم إن الله -سبحانه- لكمال رحمته وإحسانه- لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه وإن كان فاعلاً لما يستحق به الذم والعقاب فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما: ما فطره وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم. والثاني: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة ويقر على نفسه بأنه كان كافراً كما قال -تعالى-: (وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) [الأنعام: 130]، فلم ينفذ عليه الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين وهذا غاية العدل (¬2) اهـ. "فطر العباد على الاستسلام لله وحده": وقال ابن تيمية الحمد لله أما قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". فالصواب أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى). وهي: السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة. فإن حقيقة "الإسلام": أن يستسلم لله لا لغيره وهو معنى لا إله إلا الله وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: "كما تنتج البهيمة ¬

(¬1) بياض في الأصل، والسياق يقتضي وضع "وإلا". (¬2) أحكام أهل الذمة جـ: 2 ص: 527، 570.

بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ "، بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن وأن العيب حادث طارئ. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فيما يروي عن الله: "إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا". ولهذا ذهب الإمام أحمد -رضي الله عنه- في المشهور عنه: إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم بإسلامه لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة وقد روى عنه وعن ابن المبارك وعنهما أنهم قالوا: "يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة" وهذا القول لا ينافي الأول فإن الطفل يولد سليماً وقد علم الله أنه سيكفر فلا بد أن يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب كما تولد البهيمة جمعاء وقد علم الله أنها ستجدع ... " إلى أن قال "ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق: الذي هو الإسلام بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلماً. وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع: هي فطرة الله التي فطر الناس عليها (¬1) اهـ. قلت: انظر رحمك الله إلى قول شيخ الإسلام أن العهد هو الفطرة التي فطر الله جل ثناؤه الناس عليها، وأن الله فطر كل نفس على قبول الحق والسلامة من الاعتقادات الباطلة، وأن هذه الفطرة لو تركت بلا مغير لما كان صاحبها إلا مسلما، وبهذا يعلم أن: المشرك قد نقض العهد والميثاق المأخوذ عليه. وبعد هذه النُقول في هذه الآية أقول: هل بعد هذا النص القاطع المحكم في دلالته من نص، وهل بعد برهانه من برهان، وهل بعد بيانه من بيان، وقد اتفق المفسرون السالف ذكرهم على أن هذه الآية حجة مستقلة في الإشراك، فقال القرطبي: لا عذر لمقلد في التوحيد، والطبري أبطل احتجاج المشركين بالغفلة والاتباع المحض بحجية الميثاق، وكذلك البغوي والشوكاني، وقال ابن كثير: جعل هذا الإشهاد حجة مستقلة عليهم في الإشراك، وقال ابن القيم: إن إقرارهم بالربوبية تقوم به الحجة وهو الذي احتج المولى به ¬

(¬1) جـ: 4 ص: 245 لمجموع الفتاوى.

عليهم على ألسن رسله يحتج عليهم به ويدعوهم به إلى الإقرار بالإلهية، وقال: إن هذه طريقة القرآن، وأبطل احتجاجهم بالغفلة والجهل وتقليد الآباء بحجج بينة لا ترد، وقال: إن العقل الذي يعرفون به التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، وأنه قام بهم ما يستحق به العذاب، غير أنه لكمال رحمة الله التي وسعت كل شيء فقد وقف العذاب على قيام الحجة الرسالية. فهذه الآية قد قطعت شتى أنواع الأعذار التي يحتج بها بنو آدم في عبادة غير الله تعالى. إن الله -جل ثناؤه- خلق الكون من أجل عبادته وحده لا شريك له، تلك القضية التي لها أنزلت الكتب، وبها أرسلت الرسل، ومن أجلها قام سوق الآخرة وأعد الله -سبحانه- الجنة والنار جزاء من وفّى بها أو نقضها. وقبل أن أختم الحديث في هذه الآية أعرض لشبهة عرضت لبعض الإخوة غفر الله لي ولهم. وهي أن الإشهاد كان في الربوبية دون الإلهية وبالتالي فهي حجة في شرك الربوبية دون الإلهية. أقول وبالله التوفيق: أولاً قول: جماهير من السلف والخلف -وعلى رأسهم ابن تيمية وابن القيم وابن كثير-، أن الإشهاد مجازي وهو: الفطرة التي فطر الله الناس عليها يردّ على هذا الزعم. لأن الفطرة هي: الإسلام كما نقلت عن ابن تيمية وكما نقل ابن القيم عن ابن عبد البر في المصدر السابق (¬1) أثناء الحديث عن آية الميثاق أنهم أجمعوا -أي أهل التفاسير- على أن الفطرة هي الإسلام، والأحاديث الصحيحة الصريحة على هذا. منها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". ولم يقل أو يمسلمانه وكذلك الرواية التي في صحيح مسلم القاطعة في الاحتجاج (على هذه الملة) وغيرها من الأحاديث، وكذلك تفسير أبي هريرة -رضي الله عنه- الآية: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). بأنها الإسلام ولا أريد أن أستفيض في هذه المسألة لشهرتها وكثرة أدلتها فهي في غنى عن التدليل عليها. ¬

(¬1) أي أحكام أهل الذمة قبل الحديث عن آية الميثاق.

المبحث الثاني: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية وهو الحجة عليه

ثانياً: وعلى القول الآخر وهو أيضاً قول جماهير من السلف والخلف: إن الإشهاد حصل حقيقة. المبحث الثاني: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية وهو الحجة عليه: أقول فما من عبد ذاق طعم القرآن إلا ويعلم أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية وأن القرآن كان يدعوهم (أي المشركين) ويقيم عليهم الحجة بالربوبية، للإلهية. قال الإمام الشنقيطي في أضواء البيان عند قوله -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته -جل وعلا- على وجوب توحيده في عبادته ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده ومن أمثلة ذلك قوله -تعالى-: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ). إلى قوله: (فَسَيَقُولُونَ اللهُ). فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: (فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ). ومنها قوله -تعالى-: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ). فلما اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: (قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). ثم قال: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ). فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ). ثم قال: (قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) .. فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ). ومنها قوله -تعالى-: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ). فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً). وقوله -تعالى-: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). فلما صح اعترافهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). وقوله -تعالى-: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) .. وقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). فلما صح اعترافهم وبخهم منكراً بقوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وقوله -تعالى-: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا). ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره هو: أن القادر على خلق السموات والأرض وما ذكره معهما خير من جماد لا يقدر على شيء فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ... والآيات بنحو هذا كثيرة جداً. ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة نحو قوله -تعالى-: (أَفِي اللهِ شَكٌّ). وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً). اهـ. وقال الطبري في قوله -تعالى-: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف: 4] يقول -تعالى ذكره- قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء المشركين بالله من قومك أرأيتم أيها القوم الآلهة والأوثان التي تعبدون من دون الله أروني أي شيء خلقوا من الأرض -فإن ربي خلق الأرض كلها- فدعوتموها- من أجل خلقها ما خلقت من ذلك- آلهة وأرباباً فيكون لكم بذلك في عبادتكم إياها حجة فإن من حجتي على عبادتي إلهي وإفرادي له الألوهة أنه خلق الأرض فابتدعها من غير أصل. وقوله: (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) يقول -تعالى ذكره-: أم لآلهتكم التي تعبدونها أيها الناس شرك مع الله في السموات السبع فيكون لكم أيضاً بذلك حجة في عبادتكموها فإن من حجتي على إفرادي العبادة لربي لا شريك له في خلقها وأنه المتفرد بخلقها دون كل ما سواه وقوله: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا). يقول -تعالى ذكره-: بكتاب ما جاء من عند الله من قبل هذا القرآن الذي أنزل علي بأن ما تعبدون من الآلهة والأوثان خلقوا من الأرض شيئاً أو أن لهم مع الله شركاً في السموات فيكون ذلك حجة لكم على عبادتكم إياها لأنها إذا صح لها ذلك صحّت لها الشركة في النعم التي أنتم فيها ووجب لها عليكم الشكر واستحقت منكم الخدمة لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه إلا إلهة اهـ.

وقال ابن كثير في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ). إلى قوله: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] ... ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره اهـ. وقال البغوي فيها: (اعْبُدُواْ). وحدوا: قال ابن عباس كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها: التوحيد ... (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً). أي: أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله .. (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ). أنه واحد خالق هذه الأشياء اهـ. وقال ابن تيمية: وهذا التوحيد (أي توحيد الألوهية) هو الفارق بين الموحدين والمشركين وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة. فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين. فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. أما توحيد الربوبية: فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيره ويحبونهم كما يحبونه فكان ذلك التوحيد الذي هو توحيد الربوبية حجة عليهم فإذا كان الله هو رب كل شيء ومليكه ولا خالق ولا رازق إلا هو فلماذا يعبدون غيره معه وليس له عليهم خلق ولا رزق ولا بيده لهم منع ولا عطاء بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟ (¬1) اهـ. وقال ابن القيم والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها: هي العبادة والتأله. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فاحتج الله عليهم به فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية (¬2) اهـ. وقال محمد بن عبد الوهاب وقد استدل عليهم -سبحانه- بإقرارهم بتوحيد الربوبية على بطلان مذهبهم لأنه إذا كان هو المدبر وحده وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة فكيف يدعونه ويدعون معه غيره مع إقرارهم بهذا؟ (¬3) اهـ. قلت: فهذه نقول العلماء تنص على أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، وأن القرآن قد أقام الحجة على المشركين به. فكما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقرارهم فكذلك إلهية ما سواه. ¬

(¬1) جـ: 14 ص: 380 لمجموع الفتاوى. (¬2) إغاثة اللهفان جـ: 2 ص: 135 - دار المعرفة- بيروت- لبنان. (¬3) كتاب الرسائل الشخصية من تاريخ نجد ص: 432.

ومن المعلوم أن الإقرار بالربوبية يتضمن: أننا عبيد. والرب مشتق من التربية، والتربية تستلزم التشريع أي: الأوامر والنواهي والحلال والحرام، والتشريع يستلزم البلاغ أي: الإيمان بالرسل، والربوبية تستلزم أيضاً الطاعة وإفراد هذا الرب بالتلقي والتوجه والتأله له وحده لا شريك له، فهذا كله المقصود بقوله -تعالى-: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ). وهنا نكتة قد نبه عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذا المقام فقال فاعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ). وكما يقال: رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل من ربك ... إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها وكذلك قوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) [الحج: 40]. وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً) [الأنعام: 164]. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30]. فالربوبية في هذا هي الألوهية وليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة (¬1) اهـ. قلت: فهذا كلام عالم خبير بمقاصد القرآن وعليه أيضاً يتنزل قوله -تعالى-: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ). أي ألست بإلهكم ويدل على هذا المعنى وينص عليه في بيان ووضوح الحديث الذي في الصحيحين في الرجل من أهل النار الذي يقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقول له المولى: "أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك بي". قال الحافظ قال عياض: يشير بذلك إلى قوله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية. فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفّى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن (¬2) ومن لم يوف به فهو الكافر فمراد الحديث أردت ¬

(¬1) تاريخ نجد ص: 259. (¬2) ومن المعلوم أن المقر لله بتوحيد الربوبية فقط لا يكون مؤمن ومن هذا نعلم قول الحافظ فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن أن العهد أخذ في توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد الإلهية.

المبحث الثالث: الميثاق حجة في بطلان الشرك والعذاب عليه بعد الحجة الرسالية

منك حين أخذت الميثاق فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك (¬1) اهـ. فهذا بنص الحديث أن العهد أخذ على بني آدم في التوحيد وترك الشرك بالله في الألوهية والربوبية لعموم قوله: -أن لا تشرك بي- وفي هذا القدر الكفاية لدحض هذه الشبهة التي من استقرأ القرآن صدع له من أول وهلة بطلانها وزيفها. وقبل أن أختم الحديث عن هذه الآية الكريمة أذكر وجه الجمع بينها وبين قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). لأن كثيراً من الإخوة الكرام قد يظن أن ثمّ تعارض بينهما. المبحث الثالث: الميثاق حجة في بطلان الشرك والعذاب عليه بعد الحجة الرسالية: أقول وبالله تعالى التوفيق: أن الإشهاد الوارد في آية الميثاق هو حجة مستقلة على الناس في الشرك إلا أن المشرك لا يعذب في الدارين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية. فالآية قالت: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ). ولم تقل: وما كنا حاكمين بالشرك حتى نبعث رسولاً، بل إن السلف قد أجمعوا على أن من وقع في الشرك فهو مشرك (¬2) في وجود الحجة الرسالية أو في غيبتها والخلاف بينهم هل يستحق المشرك بهذا العذاب وإن لم تقم حجة البلاغ؟ أم لا بد من قيام الحجة؟. وأكبر دليل على ما سلف فهم السلف لهذه الآية التي بين أيدينا. يقول الإمام الشنقيطي في قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ظاهر هذه الآية: أن الله لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره فيعصي ذلك الرسول ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار وقد أوضح -جل وعلا- هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). (وأخذ يسرد الآيات في هذا المعنى) وهذه ¬

(¬1) جـ: 11 ص: 411 كتاب الرفاق من فتح الباري. (¬2) قال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم. اهـ. حكم تكفير المعين -الرسالة السادسة- من كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين ص: 151.

الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة -بأنهم لم يأتهم نذير- ولو ماتوا على الكفر. وبهذا قال: جماعة من أهل العلم. وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم: إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله وبأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن الآيات التي استدلوا بها قوله -تعالى: (وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) [النساء: 18]. (وأخذ يذكر الآيات في هذا المقام والأحاديث مثل: إن أبي وأباك في النار) ... إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول: هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم أو معذورون بالفترة؟ وعقده في مراقي السعود بقوله: ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع. وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار: النووي في شرح مسلم وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع كما نقله عنه صاحب "نشر البنود" ... ونسب هذا القول: القرطبي وأبو حيان والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور ... قال مفيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ومن امتنع دخل النار وعذب فيها وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل اهـ. قلت: انظر رحمك الله إلى اتفاق العلماء على: أن من وقع في الشرك فهو مشرك ولو لم تأته رسالة ولم تقم عليه حجة واختلفوا هل يعذب على هذا في الآخرة أم لا؟: على قولين والراجح: أنه لا يعذب في الدارين إلا بعد قيام الحجة الرسالية. وفي هذا الموضع ضل فيه كثير من العقول والأفهام لظنها أن قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). حجة في إعذار من يقع في الشرك بالله، وأنه ما زال مسلماً موحداً مع انغماسه في الشرك وقطعوا بنجاته في الدارين إلا أن تقام عليه الحجة الرسالية. ويرد على هذا الزعم الباطل هذا البحث الذي بين أيدينا الذي اتفق فيه العلماء: على أن من وقع في الشرك من أهل الفترات الذين هم في غياب عن الشرائع، وفي طموس من

السبل فهو مشرك لنقضه حجية الميثاق والفطرة وأن العقل حجة على هذا، بيد أنهم اختلفوا -على قولين- هل يعذب على هذا أم لا في الدارين؟ وقد اتفق العلماء بلا خلاف بينهم على أنهم لا ينعمون في الآخرة بالجنة لقوله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ) وقوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وهؤلاء ليسوا بمسلمين، والجنة لا تدخلها إلا نفس مسلمة مؤمنة كما ثبت في الحديث الصحيح، والمشرك فقد حرم الله عليه دخول الجنة لقوله -تعالى-: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ). قال ابن تيمية: فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصاً له الدين. ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالاً من المشرك. فلا بد من عبادة الله وحده وهو واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله ديناً غيره. ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولاً، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه. فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار ولا يعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولاً فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه: كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار (¬1) اهـ. قلت: فهذه نصوص العلماء في أهل الفترات الذين لم تقم عليهم حجة البلاغ، وفي وقت فترت فيه الرسالات، وطمست فيه السبل، وانتشر الجهل، وتنسّخ العلم، ولم يكن ثمّ كتاب سماوي يرجعون إليه، أو منتصب للتوحيد يعلمونه منه. ومع هذا اتفق العلماء عن بكرة أبيهم: على أنهم مشركون، واختلفوا في عذابهم -على قولين-. فلو لم تكن آية الميثاق حجة مستقلة في الإشراك فبأي حجة، حكم العلماء بها عليهم بالشرك؟. وما الحال إذاً فيمن وقع في الشرك بعد بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكل تراثه محفوظ، وآيات ¬

(¬1) جـ: 14 ص: 477 لمجموع الفتاوى.

المبحث الرابع: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع

الله وأحاديث نبيه -صلى الله عليه وسلم- تتلى عليه ليل نهار، والموحدون في كل بيت من بيوتهم؟. نخلص مما سبق بما يلي: 1 - أن الإشهاد أخذ على بني آدم جميعاً في توحيد الربوبية المستلزم للإلهية وهو الحجة عليه. 2 - أن آية الميثاق حجة مستقلة في الإشراك وليست بحجة مستقلة في العذاب. 3 - أن حكم الشرك ثابت قبل الرسالة وهو قبيح مذموم متوعد عليه بعد الحجة الرسالية إن أصر أصحابه عليه بالعذاب في الدارين. 4 - اتفق العلماء على أن أهل الفترات (¬1) الذين عبدوا غير الله أنهم مشركون وليسوا بمسلمين لأن الإسلام هو إفراد الله بالعبادة والتأله وخلع عبادة ما سواه كائناً من كان. وأنهم إن ماتوا على ذلك لا يدخلون الجنة لأنه مقصور دخولها على المسلمين المؤمنين (نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن نكون منهم جميعاً). 5 - ليس هناك ارتباط بين نفي العذاب وحكم الشرك، فكل معذب في الدارين فهو مشرك كافر، وليس كل مشرك معذب إلا بعد قيام الحجة. فبينهما عموم وخصوص مطلق فانتبه لهذا الأمر جيداً وبالله التوفيق. المبحث الرابع: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع: وقبل أن أختم الحديث عن علة ثبوت وصف الشرك قبل بلوغ الحجة أعرض لقضية هي قوية الصلة وشديدة الارتباط بها ليكمل البيان: وهي قضية التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع وهناك ثلاث مذاهب في هذه المسألة -طرفان وواسطة-. المذهب الأول: أن الأفعال يثبت لها وصف القبح والحسن ويترتب عليها العقاب قبل الرسالة. المذهب الثاني: أن الأفعال لا توصف بحسن ولا قبح ولا يترتب عليها عقاب قبل الشرائع. ¬

(¬1) هذا حكم أهل الفترات في الدنيا أنهم لا يعاقبون وكذلك في الآخرة لا يعذبون ولا ينعمون حتى يمتحنوا فيظهر علم الله -جل ثناؤه- فيهم، فمن أطاع دخل الجنة، ومن أبى دخل النار كما جاءت بذلك الآثار.

المذهب الثالث: وهو -قول جماهير أهل السنة- أن الأفعال توصف بقبح. وبحسن قبل الشرائع والعقاب لا يكون إلا بعد إقامة الحجة. قال ابن تيمية وأيضاً: فالاستغفار والتوبة مما فعله وتركه في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة، فإنه -سبحانه- قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وقد قال طائفة من أهل الكلام والرأي: إن هذا في الواجبات الشرعية غير العقلية، كما يقوله من يقول من المعتزلة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم مثل أبي الخطاب وغيره. على أن الآية عامة لا يعذب الله أحداً إلا بعد رسول. وفيها دليل على أنه لا يعذب إلا بذنب خلافاً لما يقوله المجبرة أتباع جهم: أنه -تعالى- يعذب بلا ذنب، وقد تبعه طائفة تنتسب إلى السنة كالأشعري وغيره وهو قول القاضي أبي يعلى وغيره ... وقوله (¬1): (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ...). وما فعلوه قبل مجيء الرسل كان سيئاً وقبيحاً وشراً لكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول. هذا قول الجمهور. وقيل: إنه لا يكون قبيحاً إلا بالنهي وهو قول من لا يثبت حسناً ولا قبيحاً إلا بالأمر والنهي، كقول: جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة وأصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالقاضي أبي يعلى وأبي الوليد الباجي وأبي المعالي الجويني وغيرهم. والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل مجيء الرسول من الشرك والجاهلية كان شيئاً قبيحاً وكان شراً، لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجيء الرسول، ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال: قيل: إن قبحها معلوم بالعقل وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة وإن لم يأتهم رسول كما يقوله: المعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وحكوه، عن أبي حنيفة نفسه، وهو قول أبي الخطاب وغيره. وقيل لا قبح ولا حسن ولا شر فيهما قبل الخطاب وإنما القبيح ما قيل فيه: لا تفعل والحسن ما قيل فيه: افعل، أو ما أذن في فعله كما تقوله الأشعرية ومن وافقهم من الطوائف الثلاث. وقيل: إن ذلك سيء وشر وقبيح قبل مجيء الرسول لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول وعلى هذا عامة السلف وأكثر المسلمين وعليه يدل الكتاب والسنة فإن فيهما بيان أن ما عليه ¬

(¬1) الملك: 8.

الكفّار هو شر وقبيح وسيء قبل الرسل وإن كانوا لا يستحقون العقوبة إلا بالرسول. وفي الصحيح أن حذيفة قال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها". وقد أخبر الله تعالى: عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتهم الرسول كقوله لموسى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) .... وقال: (... إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ...) إلى قوله: (... إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى وحين كان صغيراً قبل أن يأتيه برسالة أنه كان طاغياً مُفسداً قال -تعالى-: (... يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ). وهو فرعون فهو إذا ذاك عدو الله ولم يكن جاءته الرسالة بعد. وأيضاً أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه فلو كان: كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة. فعلم أنه كان من السيئات القبيحة لكن الله لا يعاقب إلا بعد قيام الحجة وهذا كقوله -تعالى-: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ...). وقوله -تعالى-: (... أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ). وقال: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ). -إلى قوله-: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ ...). فدل: على أنها كانت ذنوباً قبل إنذاره إياهم. وقال عن هود: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ). -إلى قوله-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ). فأخبر: في أول خطابه أنهم مفترون بأكثر الذين كانوا عليه كما قال لهم في الآية الأخرى: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم) ... وكذلك قال لوط لقومه: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ). فدل: على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف من يقول: ما كانت فاحشة ولا قبيحة ولا سيئة حتى نهاهم عنها ... وهكذا إبراهيم الخليل قال: (... يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً). فهذا توبيخ على فعله قبل النهي وقال أيضاً: (... إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً). فأخبر: أنهم يخلقون إفكاً قبل النهي وكذلك قول الخليل لقومه: (مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ). فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي وقبل إنكاره عليهم ...

فلولا أن حسن التوحيد وعبادة الله -تعالى- وحده لا شريك له وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يذمون عليه بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم وإنما كان قبيحاً بالنهي، ومعنى قبحه: كونه منهياً عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله: المجبرة. وأيضاً ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية ويضرب لهم الأمثال ... وقد قال -تعالى-: (أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ...). وقال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ...). وقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ). فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون: إن كل عاص فهو جاهل كما قد بسط في موضع آخر فهو متناول لمن (¬1) يكون علم التحريم أيضاً فدل: على أنه يكون عاملاً سوءاً وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأن يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب وقيام الحجة. وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات وتكون مما لم يكن عُلم أنه ذنب نبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار فإن كثيراً من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها بالعلم العام أنها قبيحة: كالفاحشة والظلم الظاهر: فأما ما قد يتخذ ديناً فلا يعلم أنه ذنب إلا من علم أنه باطل كدين المشركين وأهل الكتاب المبدل فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه وأهله يحسبون أنهم على هدى وكذلك البدع كلها ... فهذا القسم الذي لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة وهو في غيرهم عام وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جداً ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والإيمان وما كان مأموراً بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة والتائب يتوب مما تركه، وضيعه، وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات. وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا وفعل هذا. وإلا فكونه فاعلاً للسيئات المذمومة وتاركاً للحسنات التي يذم تاركها كان تائباً قبل ذلك كما تقدم، وذكرنا "القولين" قول من نفى الذم والعقاب، وقول من أثبت الذم والعقاب. ¬

(¬1) هكذا في الأصل والسياق يقتضي "لمن يكون لم يعلم التحريم".

فإن قيل: إذا لم يكن معاقباً عليها فلا معنى لقبحها، قيل: بل فيه معنيان (أحدهما): أنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط وهو الحجة: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا). فلولا إنقاذه لسقطوا ومن كان واقفاً على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه بخلاف ما إذا بان وبعد عن ذلك فقد بعد عن الهلاك. فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب. (الثاني): أنهم مذمومون منقوصون معيبون، فدرجتهم منخفضة بذلك، ولا بد ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم من ذلك من كرامته أيضاً وثوابه، فهذه عقوبة بحرمان خير، وهي أحد نوعي العقوبة -إلى أن قال في ص: 690 - : وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع كقوله -سبحانه-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الإسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد كما تقدم (¬1) اهـ. وقال أيضاً رحمه الله: وقد فرق الله بين ما قبل الرسالة وما بعدها في أسماء وأحكام، وجمع بينهما في أسماء وأحكام، وذلك حجة على: الطائفتين على من قال: إن الأفعال ليس فيها حسن ولا قبح، ومن قال: أنهم يستحقون العذاب على القولين. أما الأول فإنه سماهم ظالمين وطاغين ومفسدين، لقوله: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى). وقوله: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ...)، وقوله: (... إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). فأخبر: أنه ظالم، وطاغ، ومفسد هو وقومه، وهذه أسماء ذم الأفعال، والذم إنما يكون في الأفعال السيئة القبيحة، فدل ذلك على أن الأفعال تكون قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم، لا يستحقون العذاب إلا بعد إتيان الرسول إليهم، لقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه: (... إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ). فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلهاً آخر. فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية، يقال: جاهلية وجاهلاً قبل مجيء الرسول، وأما التعذيب فلا، والتولي عن الطاعة ¬

(¬1) جـ: 11 ص: 675 و 690 لمجموع الفتاوى.

كقوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى). فهذا لا يكون إلا بعد الرسول، مثل قوله عن فرعون (فَكَذَّبَ وَعَصَى) كان هذا بعد مجيء الرسول إليه كما قال -تعالى-: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى، فَكَذَّبَ وَعَصَى). وقال: (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (¬1). اهـ. وقال ابن القيم (¬2): إذ ههنا أمران متغايران أن لا تلازم بينهما أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه بحيث ينشأ الحسن والقبح منه، فيكون منشأ لهما أم لا؟. والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل، والعقاب المترتب على قبحه ثابت، بل واقع بالعقل، أم لا يقع إلا بالشرع؟ .... والحق الذي لا يجد التناقض إليه السيل: أنه لا تلازم بينهما، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة ... لكن لا يترتب عليهما ثواب ولا عقاب، إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحاً موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فالسجود للشيطان والأوثان والكذب والزنا والظلم، والفواحش كلها قبيحة في ذاتها، والعقاب عليها مشروط بالشرع. فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة، وقبحها والعقاب عليها، إنما ينشأ بالشرع. والمعتزلة تقول: قبحها، والعقاب عليها ثابتان بالعقل. وكثير من الفقهاء، والطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع. وهذا الذي ذكره: سعد بن علي الزنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنبلية، وحكوه عن أبي حنيفة نصاً، لكن المعتزلة منهم يصرحون: بأن العقاب ثابت بالعقل. وقد دل القرآن على أنه لا تلازم من الأمرين، وأنه لا يعاقب إلا بإرساله الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح، ونحن نبين دلالته على الأمرين. ¬

(¬1) جـ: 20 ص: 37: 38 لمجموع الفتوى. (¬2) مدارج السالكين جـ: 1 ص: 246: 256 - دار الكتاب العربي.

أما الأول: ففي قوله تعالى: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (¬1) ... (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) (¬2). وعلى أحد القولين، وهو أن يكون المعنى: لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل، فتكون الآية دالة على الأصلين: أن أفعالهم وشركهم ظلم قبيح قبل البعثة، وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد إرسال الرسل، وتكون هذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير الآية التي في القصص: (وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (¬3). فهذا يدل: على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم، ولولا قبحه لم يكن سبباً، لكن امتنع إصابة المصيبة لانتفاء شرطها، وهو عدم مجيء الرسول إليهم، فمذ جاء الرسول انعقد السبب ووجد الشرط، فأصابهم سيئات ما عملوا وعوقبوا بالأول والآخر. وأما الأصل الثاني: وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح، فكثيرة جداً ... فكون ذلك فاحشة وإثماً وبغياً بمنزلة: كون الشرك شركاً، فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده. فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي. فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركاً بعد النهي وليس شركاً قبل ذلك. [إلى أن قال في ص: 253]: وكذلك إنكاره سبحانه قبح الشرك به في إلهيته، وعبادة غيره معه بما ضر به لهم من الأمثال، وأقام على بطلانه من الأدلة العقلية، ولو كان إنما قبح بالشرع لم يكن لتلك الأدلة والأمثال معنى، وعند نفاة التحسين والتقبيح يجوز في العقل أن يأمر بالإشراك وبعبادة غيره، وإنما علم قبحه بمجرد النهي عنه، فيا عجباً! أي فائدة تبقى في تلك الأمثال والحجج والبراهين الدالة على قبحه في صريح العقل والفطرة! وأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم؟ وأي شيء يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي، وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضرورة العقل، وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه ... ¬

(¬1) الإسراء: 15. (¬2) الأنعام: 131. (¬3) القصص: 47.

والقرآن مملوء بهذا (أي الاحتجاج بالأمثلة العقلية على بطلان الشرك والفواحش) لمن تدبره كقوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم: 28]. يحتج سبحانه عليهم بما في عقولهم من قبح: كون مملوك أحدهم شريكاً له. فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه ولا يرضى بذلك. فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي؟ وهذا يبين أن أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر. والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك. وكذلك قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 29]. احتج سبحانه: على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين: حال مملوك يملكه أرباب متعاصرون سيئوا الملكة، وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له. فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟ فكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته لإلهه الحق لا يستويان (¬1) اهـ. وقال أيضاً -رحمه الله- في نفس المسألة: (وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ...). فأخبر -تعالى- أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه -سبحانه- لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة، ولكنه -سبحانه- لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل، وهذا هو فصل الخطاب -إلى أن قال في ص: 11 - في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ) أي: لو كان في السموات والأرض آلهة تعبد غير الله لفسدتا وبطلتا، ولم يقل: أرباب بل قال: آلهة. ¬

(¬1) مدارج السالكين جـ: 1 ص: 246: 256.

والإله: هو المعبود المألوه، وهذا يدل: على أنه من الممتنع المستحيل عقلاً أن يشرع الله عبادة غيره أبداً، وأنه لو كان معه معبود سواه لفسدت السموات والأرض. فقبح عبادة غيره قد استقر في النظر والعقول وإن لم يرد النبي عنه شرع، بل العقل يدل على أنه: أقبح القبيح على الإطلاق وأنه من المحال أن يشرعه الله قط. فصلاح العالم في أن يكون: الله وحده هو المعبود، وفساده وهلاكه في أن: يعبد مع غيره، ومحال أن يشرع لعباده ما فيه فساد العالم وهلاكه بل هو المنزه عن ذلك. [إلى أن قال في ص: 12] وقوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) فنزه نفسه سبحانه وباعدها عن هذا الحسبان وأنه يتعالى عنه ولا يليق به لقبحه ولمنافاته لحكمته وملكه وإلهيته. أفلا ترى: كيف ظهر في العقل الشهادة بدينه وشرعه وبثوابه وعقابه، وهذا يدل: على إثبات المعاد بالعقل كما يدل: على إثباته بالسمع وكذلك دينه وأمره وما بعث به رسله هو ثابت في العقول جملة ثم علم بالوحي فقد تطابقت شهادة العقل والوحي على توحيده وشرعه والتصديق بوعده ووعيده، وأنه سبحانه دعا عباده على ألسنة رسله إلى ما وضع في العقول حسنه والتصديق به جملة فجاء الوحي مفصلاً مبيناً ومقرراً ومذكراً لما هو مركوز في الفطر والعقول إلى أن قال: في ص: 39. والتحقيق في هذا أن سبب العقاب قائم قبل البعثة ولكن لا يلزم من وجود سبب العذاب حصوله، لأن هذا السبب قد نصب الله -تعالى- له شرطاً وهو بعثة الرسل، وانتفاء التعذيب قبل البعثة، هو لانتفاء شرطه لا لعدم سببه، ومقتضيه وهذا هو فصل الخطاب في هذا المقام (¬1) اهـ. قلت: فمن آية الميثاق وما ترتب عليها من أحكام ومن هذا البحث في قضية تحسين وتقبيح الأفعال قبل الرسالة نخرج بما يلي: أن حكم واسم الشرك ثابت قبل الرسالة والعلم والبيان، وأن الحجة عليه: العقل وآية الميثاق والآيات الكونية التي تدل على الوحدانية والفطرة التي فطر الله -جل ثناؤه- العباد عليها. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة جـ: 2 ص: 7: 39 - مكتبة الرياض الحديثة.

وأن الشرك قبل الرسالة: مذموم معيب منقوص أصحابه، وأنهم على خطر عظيم وعلى شفا حفرة من النيران لأنه ظلم عظيم وسبب للعذاب، غير أنه موقوف على شرط آخر وهو: الحجة الرسالية -وهذا من فضل الله ورحمته بعباده-. أي: أن القوم قبل البعثة وإقامة الحجة، معذورون في أحكام، وغير معذورين في أحكام أخرى. معذورون في أنهم لا يعذبون في الدنيا والآخرة، حتى تقام عليهم الحجة الرسالية -وهذا من رحمة الله وفضله-. وغير معذورين في اقترافهم الشرك وما ينبني عليه من أحكام مثل: عدم دفنهم في مقابر المسلمين، ولا الصلاة عليهم، وعدم القيام على قبورهم والاستغفار لهم، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا يدخلون الجنة، وهو أعظمها من الأحكام. قال ابن تيمية: والتذكير العام المطلق ينفع فإن من الناس من يتذكر فينتفع به، والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك، فيكون عبرة لغيره فيحصل بتذكيره نفع أيضاً، لأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة، فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره، فتحصل بالذكرى منفعة فكل تذكير ذكر به النبي، صلى الله عليه وسلم، المشركين، حصل به نفع في الجملة وإن كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة (¬1) اهـ. أي أن القتال والجهاد للمشركين لا يكون إلا بعد إقامة الحجة وهم قبلها مشركون. وقال أيضاً: فإنه إذا ذكّر قامت الحجة على الجميع. والأشقى الذي تجنبها حصل بتذكيره قيام الحجة عليه واستحقاقه لعذاب الدنيا والآخرة (¬2) اهـ. وقال: والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك ينقص النعمة ولا يزيد (¬3) اهـ. قلت: هذا نص في إثبات الكفر قبل الحجة، لكنه غير موجب للعذاب. ¬

(¬1) جـ: 16 ص: 162 لمحموع الفتاوى. (¬2) جـ: 16 ص: 169 لمجموع الفتاوى. (¬3) جـ: 16 ص: 254 لمجموع الفتاوى.

وقال رحمه الله: "فلا ينجون من عذاب الله، إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصاً له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده، فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره، كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالاً من المشرك، فلا بد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولاً، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه. فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولاً، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه، كالصغير، والمجنون، والميت، في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار (¬1) اهـ. قلت: من هذا النقل أن المشرك لا يدخل الجنة وإن كان جاهلاً، ولم تأته رسالة. لأن الجنة لا تدخلها إلا نفس مسلمة مؤمنة، والإسلام: هو إخلاص الدين لله. والمشرك لم يخلص دينه لله. وهذه الأحكام عامة في كل بني آدم، لم يخصص منها قوم دون قوم، لأن الميثاق أخذ عليهم جميعاً، فأي: قوم وإن كانوا ينتسبون إلى دين ورسالة وكتاب، غير أنهم واقعون في الشرك مع الجهل والتأويل، فإنهم تجرى عليهم هذه الأحكام وإن كانوا من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، أو من أهل الكتاب. قال ابن تيمية نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها. ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلاّ وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله الله شفاءاً لما في الصدور، وبياناً للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما أن لا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة ومن ههنا يقع: الشرك وتفريق الدين شيعاً، كالفتن التي تحدث السيف، فالفتن القولية والعملية هي من الجاهلية بسبب خفاء نور ¬

(¬1) جـ: 14 ص: 477 لمجموع الفتاوى.

النبوة عنهم كما قال مالك بن أنس: "إذا قلّ العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء" ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم، ولهذا قال أحمد في خطبته: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم. فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة كما قال -تعالى-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]. فأهل الهدي والفلاح: هم المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون في كل زمان ومكان. وأهل العذاب والضلال: هم المكذبون للأنبياء. يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء. فهؤلاء في ضلال وجهل وشر وشرك لكن الله يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وقال: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). وقال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ...). فهؤلاء لا يهلكهم الله ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولاً وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة (¬1) اهـ. قلت: وهذا نص منه -رحمه الله- في الأمة المحمدية. وقال في أهل الكتاب والنصارى فذمهم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه، وعلى تكذيب الرسول، والرهبانية التي ابتدعوها ولا نحمدهم عليها، إذ كانوا قد ابتدعوها، وكل بدعة ضلالة، لكن إذا كان صاحبها قاصداً للحق فقد يعفى عنه فيبقى عمله ضائعاً لا فائدة فيه، وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه فلا يعاقب ولا يثاب ... فاليهود أقوى كفراً من النصارى وإن كان النصارى أجهل وأضل، لكن أولئك: يعاقبون على عملهم إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عناداً، فكانوا مغضوباً عليهم، وهؤلاء: بالضلال حرموا أجر المجتهدين ولعنوا، وطردوا عما يستحقه المهتدون، ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب إذ كان اسم الضلال عاماً (¬2) اهـ. فهذا النص في أهل الكتاب فالنصارى مشركون، وهذا مما لا ريب فيه، بل هو من ¬

(¬1) جـ: 17 ص: 307: 308 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 19 ص: 190: 191.

المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لكن عذابهم أيضاً موقوف على إقامة الحجة الرسالية وقد قامت ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فهذه النصوص منه -رحمه الله- وغيرها في كتبه كثيرة تبين عموم هذه الأحكام في جميع الأمم، ولا يستثنى منها أمة دون أمة، أو مكان دون مكان، أو زمان دون زمان، بل هي أحكام عامة: إن الشرك ثابت قبل الرسالة، والعذاب متوقف عليها، وأصحابه ليسوا بمسلمين لأنهم نقضوه ولم يخلصوا دينهم لله، لقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) [البينة: 5]. ولنقضهم الميثاق والفطرة التي فطروا عليها والعقل حجة مستقلة على وحدانية الله -تعالى- وهم جميعاً قد أخذ عليهم الميثاق، وحجته عليهم كافة، وفطرهم الله -جل ثناؤه- كلهم على الإسلام والتوحيد الخالص قال تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [الروم: 30]. ولم تستثن آية الميثاق قوماً دون قوم ولكن جاءت بألفاظ العموم والإطلاق، وكذلك لم يأت في ذكر كلام السلف الاستثناء لأحد فدلّ هذا على: عمومية هذه الأحكام .. وأظن أنه فيما مضى الكفاية بفضل الله وعونه ورحمته في إثبات وصف الشرك وحكمه مع الجهل والتأويل وعدم قيام الحجة، وفي جاهلية جهلاء، وغياب واندراس للشرائع وطموس للسبل وخفاء شمس النبوة غير أن أهلها لا يعذبون -بفضل الله ورحمته- إلا بعد قيام الحجة وبلوغ الرسالة. * * *

الباب الثاني كيفية انتقال العبد من الشرك إلى الإسلام

الباب الثاني كيفية انتقال العبد من الشرك إلى الإسلام وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الأدلة من القرآن الكريم على فهم حقيقة الإسلام. الفصل الثاني: الأدلة من السنة المطهرة على فهم حقيقة الإسلام. الفصل الثالث: توصيف العلماء لحقيقة الإسلام. الفصل الرابع: أركان الإيمان وحدوده.

الفصل الأول الأدلة من القرآن الكريم على فهم حقيقة الإسلام

الفصل الأول الأدلة من القرآن الكريم على فهم حقيقة الإسلام وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الانخلاع من الشرك شرط في تحقيق الإسلام. المبحث الثاني: الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله وحده. المبحث الثالث: إفراد الله بالحكم شرط في تحقيق الإسلام.

المبحث الأول: الانخلاع من الشرك شرط في تحقيق الإسلام

الفصل الأول الأدلة منا لقرآن الكريم على فهم حقيقة الإسلام المبحث الأول: الانخلاع من الشرك شرط في تحقيق الإسلام: الآية الأولى: قال الله -تعالى- في سورة التوبة آية [5]: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ). قال القرطبي: (فَإِن تَابُواْ). أي: من الشرك، (وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ). هذه الآية فيها تأمُّل وذلك أن الله -تعالى- علق القتل على الشرك، ثم قال: (فَإِن تَابُواْ) والأصل أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة وهذا بيّن في هذا المعنى. غير أن الله -تعالى- ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين فلا سبيل إلى إلغائهما نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" ... وقال ابن العربي فانتظم القرآن والسنة واطردا. اهـ. انظر -رحمني الله وإياك- إلى كلام الإمام القرطبي: أن التوبة تكون: من الشرك. وأن القتل لا يسقط إلا بالانتهاء عنه، وقول الإمام ابن العربي: أن الآية والحديث قد انتظم واتحد معناهما. فينص القرآن أن الانتهاء عن القتل والأسر وتخلية سبيل المشركين شرطه: التوبة من الشرك، وأن الآية والحديث: "أمرت أن أقاتل الناس". معناهما واحد. وقال الإمام البغوي فيها: (فَإِن تَابُواْ). من الشرك، (وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ). يقول: دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا مكة اهـ. وقال ابن كثير: (وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ). أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل، أو الإسلام. ولهذا قال: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ). ولهذا اعتمد الصديق -رضي الله عنه- في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة، وأمثالها حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي: الدخول في

الإسلام والقيام بأداء واجباته ونبه بأعلاها على أدناها ... ولهذا كثيراً ما يقرن بين الصلاة والزكاة وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". الحديث. وقال أبو إسحاق عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: أمرت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه ... وقال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري .. عن الربيع بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئاً فارقها والله عنه راض". قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله -تعالى-: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ). قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ثم قال في آية أخرى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ). ورواه ابن مردويه ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة اهـ. وقال الإمام الطبري: "فإن تابوا" يقول فإن رجعوا عما هم عليه من الشرك بالله، وجحود نبوة نبيه محمد إلى: توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، اهـ. قلت: وكذلك أيضاً قوله -تعالى-: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (¬1). قال القرطبي قوله تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ). أي عن الشرك والتزام أحكام الإسلام (فَإِخْوَانُكُمْ) أي: فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) قال ابن عباس: حرمت هذه (الآية) دماء أهل القبلة. اهـ. وقال الإمام البغوي: (فَإِن تَابُواْ). من الشرك (.. فَإِخْوَانُكُمْ) فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم اهـ. قلت: فهذه الآية نص في أن القتال لا يرتفع عن المشركين كافة إلا بالتوبة وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، واتفق السلف على أن المراد بالتوبة: البراءة من الشرك، وخلع ¬

(¬1) التوبة: 11.

عبادة الأوثان والأنداد والطواغيت، وكل ما يعبد من دون الله مع التزام أحكام الإسلام. وأن هذه الآية مع الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". قد اتحد معناهما وانتظما واتفقا المفسرين عند تفسير هذه الآية بإتيان هذا الحديث وأمثاله لهو أدل الدليل على أن الحديث أيضاً يثبت نفس المعنى، وهو أن القتال لا يرفع إلا بالانتهاء عن الشرك والتزام أحكام الإسلام، وهو مراد قوله -صلى الله عليه وسلم- إلا بحقها. ويؤكّد هذا أيضاً الحديث الصحيح الصريح: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". ولهذا قال ابن العربي في كتابه أحكام القرآن فانتظم القرآن والسنة واطردا ولذلك بوّب إمام المحدثين البخاري باباً في صحيحه: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ). ثم ساق بسنده عن ابن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". قال الحافظ: .... "وإنما جعل الحديث تفسيراً للآية لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع عن الكفر إلى التوحيد ففسره قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله". وبين الآية والحديث مناسبة أخرى لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحدة" (¬1) اهـ. قلت: فمن هذا يعلم أن عصمة الدم والمال تكون: بالتلفظ بالشهادتين والعمل بمقتضاهما وهو إفراد الله بالتأله، والبراءة من عبادة الآلهة التي تعبد من دون الله، وإلا لو قالها العبد: ولم يعمل بها لم يعصم دمه وماله إذا كان متلبساً بالشرك ساعة نطقه بالشهادتين. وأما إذا قالها العبد متشهداً بها شهادة الإسلام فالواجب حمله على الإسلام عملاً بما أقر به لسانه مع افتراض أنه عالم بمعناها عامل بمقتضاها، فإذا ظهر منه خلاف هذا حكم ردته. قال الإمام الشوكاني: وليس مجرد قول: لا إله إلا الله، من دون عمل بمعناها مثبتاً ¬

(¬1) فتح الباري جـ: 1 ص: 94: 95 - كتاب الإيمان.

للإسلام، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلاماً (¬1) اهـ. وقال أيضاً لا شك أن من قال: لا إله إلا الله، ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد، فهو مسلم محقون الدم والمال إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس ... ". وهكذا من قال: لا إله إلا الله متشهداً بها شهادة الإسلام ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام، فالواجب حمله على الإسلام عملاً بما أقر به لسانه وأخبر به من أراد قتاله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: لأسامة بن زيد ما قال، وأما من تكلم بكلمة التوحيد وفعل أفعالاً تخالف التوحيد، كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتوحيد، ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجباً للدخول في الإسلام والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو ما يخالفه، لكانت نافعة لليهود مع أنهم يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى مع أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين، ويقولون: بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذه الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد (¬2) اهـ. وقال أيضاً -رحمه الله منكراً على من اعتبر التلفظ بالشهادتين دون العمل بمعناهما، قال: وبالجملة فالسيد المذكور -رحمه الله- قد جرد النظر في بحثه السابق إلى الإقرار بالتوحيد الظاهري، واعتبر مجرد التكلم بكلمة التوحيد فقط من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلم بكلمة التوحيد، ويخالفه من اعتقاده الذي صدرت عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات، وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه ولا الاشتغال به، فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ، وإلا لما كان فرّق بين المؤمن والمنافق (¬3) اهـ. ¬

(¬1) الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص: 40. (¬2) ص: 42 المصدر السابق. (¬3) ص: 67: 68 المصدر السابق.

قلت: فهذا المعنى -بفضل الله- مستفيض ذكره في القرآن والسنة وكلام السلف الصالح، أن الانخلاع من الشرك والكفر بما يُعبد من دون الله شرط في تخلية السبيل، وعصمة الدم والمال، وإجراء أحكام الإسلام وأن هذا هو غاية القتال يرتفع بوجوده ويرجع بنقضه. قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي: "ولهما عن ابن عمر" -رضي الله عنهما- مرفوعاً أي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس". أي: المشركين منهم "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله". والمراد: العلم بمعناها والعمل بمقتضاها .. "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". فهما ركنان لا يستقيم إسلام العبد إلا بهما. "فإذا فعلوا ذلك". أي: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، "عصموا مني دماءهم وأموالهم". فلا يحل قتالهم حتى يأتوا بمناف للشهادتين، "إلا بحق الإسلام". وهو التزام شرائعه. قال أبو بكر لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على ذلك (¬1) اهـ. الآية الثانية: قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). في سورتي [البقرة: 193]، و [الأنفال: 39]. قال ابن كثير في آية الأنفال: .... وقال: الضحاك عن ابن عباس: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ). يعني: لا يكون شرك. وكذا قال: أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، وقال محمد بن إسحاق بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا: حتى لا تكون فتنة حتى لا يفتتن مسلم عن دينه. وقوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). قال: الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يخلص التوحيد لله، وقال: الحسن وقتادة وابن جريج: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). أن يقال: لا إله إلا الله، وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيد خالصاً لله ليس فيه شرك، ويُخلع ما دون من الأنداد. وقال: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). لا يكون مع دينكم كفر: ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... ". اهـ. وقال البغوي في آية البقرة: (وَقَاتِلُوهُمْ). يعني: المشركين (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ). أي: شرك. يعني: قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام، فإن أبى قتل ¬

(¬1) الإحكام شرح أصول الأحكام جـ: 4 ص: 400.

(وَيَكُونَ الدِّينُ). أي: الطاعة والعبادة (لِلّه) وحده فلا يعبد شيء دونه ... (فَإِنِ انتَهَوْاْ) عن الكفر وأسلموا (فَلاَ عُدْوَانَ). فلا سبيل (إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ). قاله: ابن عباس اهـ. وقال أيضاً في (آية الأنفال): (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ). أي: شرك، قال الربيع: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). أي: ويكون الدين خالصاً لله لا شرك فيه (فَإِنِ انتَهَوْاْ). عن الكفر. (فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). اهـ. وقال القرطبي في آية البقرة: فيه مسألتان: الأولى: قوله -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ). أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على من رآها ناسخة. ومن رآها غير ناسخة. قال: المعنى: قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: (فَإِن قَاتَلُوكُمْ). والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار. دليل ذلك قوله -تعالى-: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). وقال عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر؛ لأنه قال: (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ). أي كفر. فجعل الغاية عدم الكفر وهذا ظاهر. قال: ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم. الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين ... الثانية: (فَإِنِ انتَهَوْاْ). أي عن الكفر إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب اهـ. قلت: فهل بعد هذا البيان من بيان؟ وهل بعد هذا البرهان من برهان؟ أن القرآن ينص على أن: القتال لا يرفع عن رؤوس المشركين إلا بانتهائهم وإقلاعهم وتبرئهم من كل ما يعبد من دون الله مع إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وأن الآية والحديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". بنص السلف الصالح يدلان: على هذا المعنى لا كما فهم كثير من المتأخرين أن المقصد والغاية هو مجرد التلفظ بالشهادتين وإن لم تخرجهم من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى: الإيمان بالله وحده فيا لها من حجة ما أقطعها للمنازع. العلم بقبح وحرمة الشرك شرط في التوبة منه: ومن المعلوم بيقين أن الانخلاع من الشرك الذي نصت عليه الآيات أنه شرط في تخلية السبيل يسبقه العلم به وبقبحه حتى يتم البراءة منه. قال ابن القيم: وعلى هذا الأمر العظيم (محبة الله) أسست الملة، ونصبت القبلة، وهو

المبحث الثاني: الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله وحده

قطب رحى الخلق، والأمر الذي مدارهما عليه. ولا سبيل إلى الدخول إلى ذلك إلا من باب العلم فإن محبة الشيء فرع عن الشعور به .. ولا بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا بالعلم ولا عُبد الله وحده وأُثنى عليه ومجد إلا بالعلم، ولا عرف الحلال من الحرام إلا بالعلم، ولا عرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم (¬1) اهـ. وقال أيضاً: ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية". وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف: أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منهم أو دونه. فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه. ويعود المعروف: منكراً، والمنكر: معروفاً، والبدعة: سنة، والسنة: بدعة، ويكفّر الرجل: بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع: بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع (¬2) اهـ. قلت: هذا كلام -بفضل الله- خبير بالشريعة ومقاصدها فكيف يتوب من الشرك من لا يعرفه ولا يعلم قبحه؟! وكيف يعبد الله من لا يعرف حد العبادة والتوحيد والطاعة له وحده لا شريك له؟! وهذا كما قال الشيخ -رحمه الله تعالى-: وما عبد الله وحده وأثنى عليه ومجد إلا بالعلم. نخلص من هاتين الآيتين السابقتين: أن القتل والقتال يرفع عن رؤوس المشركين ويخلي سبيلهم ساعة توبتهم وبراءتهم وانخلاعهم من الشرك والتزام التوحيد. المبحث الثاني: الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله وحده: الآية الثالثة: قوله -تعالى-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256]. قال القرطبي: يقول -تعالى-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ). جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثه من طغى يطغى -وحكى الطبري- يطغو إذا جاوز الحد بزيادة عليه .. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ). جواب الشرط .. فقال ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة جـ: 1 ص: 87. (¬2) مدارج السالكين جـ: 1 ص: 351: 352.

مجاهد: العروة: الإيمان، وقال السدي: الإسلام، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك: لا إله إلا الله. وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد اهـ. وقال البغوي: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ). يعني: الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله -تعالى- فهو طاغوت ... (وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ). أي: تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين ... (لاَ انفِصَامَ لَهَا). لا انقطاع لها اهـ. وقال الشنقيطي في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (¬1) ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه كما بينه -تعالى- بقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ). وقوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ). إلى غير ذلك من الآيات اهـ. وقال ابن كثير: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ ....) أي: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد: أن لا إله إلا هو. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ). أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم ... ومعنى قوله: (أي الفاروق) في الطاغوت: أنه الشيطان قوي جداً، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها ... قال مجاهد: "فقد استمسك بالعروة الوثقى" يعني: الإيمان. وقال السدي: هو الإسلام، وقال سعيد ابن جبير والضحاك: لا إله إلا الله ... وهذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها اهـ. وقال الإمام الطبري: والصواب من القول عندي في الطاغوت: أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة ممن عبده له. إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء ... فتأويل الكلام إذاً فمن يجحد: ربوبية كل معبود من دون الله فيكفر به "ويؤمن بالله" يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده "فقد استمسك بالعروة الوثقى". يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه ... (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). يعني: -تعالى ذكره- والله سميع إيمان ¬

(¬1) النحل: 36.

المؤمن بالله وحده الكافر بالطاغوت عند إقراره بوحدانية الله وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد من دون الله. (عَلِيمٌ) بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه وما انطوى عليه -من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت- ضميره، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلفه لا ينكتم عنه سر ولا يخفى عليه أمر، حتى يجازى كلاً يوم القيامة بما نطق به لسانه وأضمرته نفسه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً اهـ. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت والدليل قوله -تعالى-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ). الرشد: دين محمد، صلى الله عليه وسلم، والغي: دين أبي جهل. والعروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة للنفي والإثبات تنفي جميع أنواع العبادة من غير الله وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له (¬1) اهـ. قلت: انظر رحمك الله -تعالى- إلى هذه الآية ما أحكم معناها، وقوة بيانها. إذ أنها توقف الاستمساك بالعروة الوثقى التي هي الإسلام باتفاق المفسرين على شرط -كما قاله: القرطبي والشنقيطي ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم- وهو: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وحده ومن المعلوم أن فقدان الشرط ينفي مشروطه. فالإسلام لا بد فيه من: الكفر والبراءة والجحد وخلع كل ما يعبد من دون الله وإفراد الله بالتأله وحده لا شريك له، وإلا انفصمت العروة الوثقى في يد مدعيها. لأن الإيمان بالله، والإيمان بالطاغوت متضادان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فلا يجتمع في قلب عبد الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت، لأنه أيما حل واحد منهما في قلب امرئ طرد الآخر. فإما إيمان بالله وحده. وإما إيمان بالطاغوت أياً كان نوعه. فمن المحال أن يقال: فلان هذا من شيعة الرحمن ومن شيعة الطاغوت، أو فلان هذا موحد مشرك أو مسلم كافر. فهذا هو الإسلام الذي أمّرنا أن نبلغه للناس وأن لا نرفع السيف عنهم حتى يقروا ويدينوا به، فمن شك أو توقف لم يحرم دمه وماله. ويبقى سؤال أريد من أخي القارئ الإجابة عليه وهو من لم يخلع الأنداد أو الأوثان أو عبادة الطواغيت أو ارتضى طاغوتاً يسوس العباد ويحكم فيها بما شاء من تشريعات وأحكام ¬

(¬1) كتاب مجموعة التوحيد ص: 15 - دار الفكر.

المبحث الثالث: إفراد الله بالحكم شرط في تحقيق الإسلام

دون الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهذا هذا كفر بالطاغوت أم آمن به؟ ثم بعد هذا هل هو مستمسك بالعروة الوثقى أم انفصمت من بين يديه؟ المبحث الثالث: إفراد الله بالحكم شرط في تحقيق الإسلام: الآية الرابعة: قوله -تعالى-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). [آل عمران: 64]. قال القرطبي: الأول: الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي: لأهل نجران. وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما: ليهود المدينة. خوطبوا بذلك لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب. وقيل: هو لليهود والنصارى جميعاً وفي كتاب النبي إلى هرقل: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى: "أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام". اسلم تسلم [وأسلم] يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء (....). لفظ مسلم ... الثانية: قوله -تعالى-: (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ). أي: لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله -تعالى- وهو نظير قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ). معناه: أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله ... الثالثة: (فَإِن تَوَلَّوْاْ) أي: أعرضوا عما دعوا إليه: (فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). أي: متصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام غير متخذين أحداً ربا لا عيسى ولا عزيراً ولا الملائكة لأنهم بشر مثلنا محدث كحدوثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئاً بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا فنكون قد اتخذناهم أرباباً وقال عكرمة: معنى (يتخذ) يسجد وقد تقدم أن السجود كان إلى زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم نهى النبي معاذاّ لما أراد أن يسجد كما مضى في البقرة بيانه اهـ. وقال ابن كثير: هذا الخطاب يعم: أهل الكتاب ومن جرى مجراهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ). والكلمة تطلق: على الجملة المفيدة كما قال ههنا ثم وصفها بقوله:

(سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ). أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها ثم فسرها بقوله: (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ ...). لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيء، بل تفرد العبادة لله وحده لا شريك له هذه دعوة جميع الرسل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ). ثم قال -تعالى-: (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ). وقال ابن جريج يعني: نطيع بعضنا بعضاً في معصية الله. وقال: عكرمة يسجد بعضنا لبعض: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). أي: إن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم، (ثم أخذ يذكر حديث هرقل) اهـ. وقال الإمام الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه قل يا محمد لأهل الكتاب وهم أهل التوراة والإنجيل "تعالوا" هلموا إلى "كلمة سواء" يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل هي: أن نوحد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئاً، وقوله: (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً) يقول: ولا يدين بعضنا لبعض في الطاعة فيما أمر به من معاصي الله ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه "فإن تولوا" يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها فلم يجيبوك إليها فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلمون ... وأما قوله: (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً). فإن اتخاذ بعضهم بعضاً هو: ما كان بطاعة الاتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله كما قال جل ثناؤه: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً). (ثم ساق بسنده) عن ابن جريج قال: "وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً" يقول: لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس: سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لن يصلوا لهم .. وأما قوله: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). فإنه يعني: فإن تولى الذين تدعوهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا فقولوا أنتم أيها المؤمنون لهم: اشهدوا علينا بأنا بم توليتهم عنه من توحيد الله وإخلاص العبودية له وأنه الإله الذي لا شريك له مسلمون يعني: خاضعون لله به متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا اهـ. وقال الشوكاني: (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً) تبكيت: لمن اعتقد ربوبية المسيح

وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعضهم، منهم وازدراء على من: قلّد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه له وحرم ما حرموه عليه فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده رباً ومنه: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ). (ثم ذكر حديث هرقل) اهـ. قلت: فهذه الآية الكريمة تتحدث وتفصل القدر المطلوب من العباد تحقيقه حتى يأمنوا على دمائهم وأموالهم وتجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر والله يتولى السرائر وهو عبادة الله وحده لا شريك له وخلع عبادة الآلهة والطواغيت والأرباب، وأن نكون جميعاً عبيداً لله الواحد القهار وأن لا نُنزل أحداً من البشر منزلة الإله والرب في الطاعة والتلقي والاتباع. وإتيان المفسرين بحديث هرقل عند تفسير هذه الآية والاستشهاد به لأكبر دليل على أن هذا: هو الإسلام الذي تجري به الأحكام في الدنيا وأن هذه المعاني كلها تشملها الكلمة العاصمة للدم والمال وعندما يطالب الشرع قوماً في موضع بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء)، وفي موضع آخر يطالب قوماً بقوله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .... ولم يختلف المطلوب من كليهما علم بيقين مطابقة الحديث للآية، والآية للحديث وثبت من هذا أن الإسلام الذي تجري به الأحكام في الظاهر -والله يتولى السرائر- هو: التزام التوحيد وترك الشرك قولاً وعملاً. ومن المعلوم أن التزام التوحيد والبراءة من الشرك يسقه العلم بحسن التوحيد وماهيته، وقبح الشرك وحده. وهنا سؤال للقارئ الفاضل. لو أن يهودياً أو نصرانياً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- سأقر والتزم بكل ما جئت به وأفرد الله بالعبادة والتأله، وأبرأ من عبادة المخلوقين إلا عيسى وعزير، أو قال له أسلمت وآمنت بما جئت به ثم وجده يدعو من دون الله أحداً ويتخذ أرباباً من دون الله يحللون ويحرمون ويرسمون له كيفية حياته وحدودها بمعزل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فما حكمه؟ وأترك الإمام البغوي يجيب عن هذا السؤال قال في الآية 20) من سورة آل عمران، (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ...). قوله -تعالى-: (فَإنْ حَآجُّوكَ). أي: خاصموك يا محمد في الدين وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب. والدين: هو الإسلام ونحن عليه. فقال الله -تعالى-: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ). أي: انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي ... (فَإِنْ أَسْلَمُواْ

فَقَدِ اهْتَدَواْ). فقرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذه الآية فقال أهل الكتاب: أسلمنا. فقال لليهود أتشهدون أن عزيراً عبده ورسوله؟ فقالوا: معاذ الله أن يكون عزير عليه السلام عبداً. وقال للنصارى: أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟ قالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً فقال الله -عز وجل-: (وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ). أي: تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية اهـ. قلت: نخلص -بفضل الله وعونه وكرمه- من هذه الآية أن الانتهاء عن الشرك والتزام التوحيد هو القدر الذي لا يُرفع السيف عن رؤوس المشركين حتى يقروا ويلتزموا به. وأكتفي بذكر هذه الآيات العظيمة عن نظيرها في القرآن الكريم إذ أنه يوجد الكثير الكثير من الآيات التي تحوي هذا المعنى الجلي الواضح كقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]. وقوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]. وقوله -تعالى-: (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). على لسان كل رسول إلى قومه، وقوله: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل: 31]. وقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ...). وغيرها الكثير من الآيات التي تتحدث عن القدر الذي بلغته الرسل إلى أقوامها وهو يدور على إفراد الله بالتأله ورفض عبادة ما سواه وأن الإقرار بهذا هو الذي يدخل صاحبه في الإسلام والله يتولى السرائر ويكون من المؤمنين بالرسل لا من الكافرين بهم الإيمان الذي تجري عليه به أحكام الإسلام في الظاهر هذا بخلاف الإيمان الذي يحرم صاحبه على الخلود في النيران -أعاذنا الله جميعاً منها برحمته وكرمه وعفوه-. وهذا الإيمان الذي تجري به الأحكام هو المعني: بقول المعصوم، صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". أخرجه مسلم. * * *

الفصل الثاني الأدلة من السنة المطهرة على فهم حقيقة الإسلام

الفصل الثاني الأدلة من السنة المطهرة على فهم حقيقة الإسلام وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: العلم بمعنى الشهادتين شرط في عصمة الدم والمال. المبحث الثاني: اليقين والعلم بمقتضى الشهادة شرط في صحتها. المبحث الثالث: الكفر بما يعبد من دون الله شرط في عصمة الدم والمال. المبحث الرابع: كلمة التوحيد تعصم قائلها بشرط البراءة من الشرك. المبحث الخامس: لب التوحيد معرفة الله. المبحث السادس: استحالة عبادة الله بالشرك. المبحث السابع: العلم قبل القول والعمل.

المبحث الأول: العلم بمعنى الشهادتين شرط في عصمة الدم والمال

الفصل الثاني الأدلة من السنة المطهرة على فهم حقيقة الإسلام المبحث الأول: العلم بمعنى الشهادتين شرط في عصمة الدم والمال: الحديث الأول: أخرج مسلم في صحيحه: أن أبا هريرة أخبره -أي سعيد بن المسيب- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله". . . . عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". . . . وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". وعن أبي مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". وفي رواية أنه سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: "من وحد الله ثم ذكر مثله" (¬1). اهـ. قلت: هذه الروايات تنص على أن القتال مشروع إلى أن "يقولوا"، وفي رواية "يشهدوا"، وفي رواية "من وحد الله"، وفي رواية " وكفر بما يعبد من دون الله"، وفي رواية أضاف "ويؤمنوا بما جئت به"، وهذه الروايات كلها تدل -بفضل الله- على أن: العلم بمعنى الشهادتين شرط في عصمة الدم والمال. ¬

(¬1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 210: 212.

القول دليل على الاعتقاد: أولاً معنى القول: قال صاحب لسان العرب معنى كلمة قول-: فأما تجوزهم في تسمية الاعتقادات والآراء قولاً فلأن الاعتقاد يخفى فلا يعرف إلا بالقول، أو بما يقوم مقام القول من شاهد الحال فلما كانت لا تظهر إلا في القول سميت قولاً، إذ كانت سبباً له، وكان القول دليلاً عليها، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان ملابساً له وكان القول دليلاً عليه ... قال شمر: تقول قوّلني فلان حتى قلت: أي: علمني وأمرني أن أقول قال: قوَّلْتني وأقْولْتني أي: علمتني ما أقول وأنطقتني، وحملتني على القول. وفي حديث سعيد بن المسيب حين قيل له: ما تقول في عثمان وعلي، فقال: أقول فيهما: ما قولّني الله -تعالى- ثم قرأ: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) [الحشر: 10] اهـ. قلت: فهذا القول لا بد فيه من العلم. ومن هذا يعلم: أن المقصود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" أي: حتى ينطقوا ويعلموا: لا إله إلا الله. العلم شرط في صحة الشهادة: وأما الشهادة: فقال أيضاً في نفس المرجع قال: ابن سيده: الشاهد: العالم الذي يبين ما علمه ... وقال أبو بكر بن الأنباري: في قول المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله: اعلم أن لا إله إلا الله، وأبين أن لا إله إلا الله، قال: وقوله أشهد أن محمداً رسول الله، أعلم وأبين أن محمداً رسول الله: وقوله -عز وجل-: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ). قال أبو عبيدة: معنى شهد الله: قضى الله أنه لا إله إلا هو وحقيقته: علم الله وبين الله، لأن الشاهد: هو العالم الذي يبين ما علمه ... وشهد الشاهد عند الحاكم: أي بين ما علمه وأظهر ... وسأل المنذري أحمد بن يحيى عن قول الله -عز وجل-: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ). فقال: كل ما كان "شهد الله" فإنه بمعنى: علم الله، قال وقال ابن الأعرابي: معناه: قال الله ويكون معناه: علم الله ويكون معناه: كتب الله، وقال ابن الأنباري: معناه: بيّن الله أن لا إله إلا هو (¬1) اهـ. ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور.

وقال القرطبي في قوله -تعالى-: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ... والمعنى: ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة قاله: سعيد بن جبير وغيره. قال وشهادة الحق لا إله إلا الله .. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ). حقيقة ما شهدوا به ... الثانية قوله -تعالى-: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). يدل على معنيين. أحدهما: أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني: أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها ونحوه ما روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فادع". اهـ. وقال ابن كثير: ... هذا استثناء منقطع أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له اهـ. وقال الإمام الطبري: فقال بعضهم معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعزير والملائكة الذين يعبدوهم هؤلاء المشركون بالساعة الشفاعة عند الله لأحد إلا من شهد بالحق فوحد الله وأطاعه بتوحيد علم منه وصحة بما جاءت به رسله قوله: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ) قال: كلمة الإخلاص وهم يعلمون: أن الله حق وعيسى وعزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعزير والملائكة إلا من شهد بالحق وهو يعلم الحق اهـ. وقال ابن تيمية والشهادة: لا بد فيها من علم الشاهد وصدقه وبيانه لا يحصل مقصود الشهادة إلا بهذه الأمور (¬1). وقال أيضاً رحمه الله (¬2) قال أبو الفرج في معنى الآية قولان: أحدهما: أنه أراد بـ"الذين يدعون من دونه" آلهتهم ثم استثنى عيسى وعزيراً والملائكة. فقال: إلا "من شهد بالحق" وهو شهادة: أن لا إله إلا الله "وهم يعلمون" بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم قال: وهذا مذهب الأكثرين. منهم: قتادة، والثاني: أن المراد بـ"الذين يدعون" عيسى وعزيراً والملائكة الذين عبدهم المشركون. لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد "إلا من شهد بالحق" وهي: كلمة ¬

(¬1) جـ: 14 ص: 187 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 14 ص: 400: 411.

الإخلاص "وهم يعلمون" أن الله خلق عيسى وعزيراً والملائكة. وهذا مذهب قوم. منهم: مجاهد -إلى أن قال في ص: 409: 411 - وهذا يتناول: الشافع والمشفوع له، فلا يشفع إلا من شهد بالحق وهم يعلمون. فالملائكة والأنبياء والصالحون -وإن كانوا لا يملكون الشفاعة- لكن إذا أذن لهم الرب شفعوا. وهم لا يؤذن لهم إلا في الشفاعة للمؤمنين الذين يشهدون: أن لا إله إلا الله فيشهدون بالحق وهم يعلمون، لا يشفعون لمن قال: هذه الكلمة تقليداً للآباء والشيوخ كما جاء في الحديث الصحيح: "إن الرجل يُسأل في قبره ما تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته". فلهذا قال: "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون" وقد تقدم قول ابن عباس: يعني من قال لا إله إلا الله. يعني: خالصاً من قلبه. والأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة كلها تبين: أن الشفاعة إنما تكون في أهل "لا إله إلا الله" اهـ. وقال القرطبي: قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، أي: أنطق بما أعلمه وأتحققه: وأصل الشهادة للإخبار عما شاهد المخبر بحسه ثم قد يقال: على ما يحققه الإنسان ويتقنه وإن لم يكن شاهداً للحس لأن المحقق علماً كالمدرك حساً ومشاهدة (¬1). اهـ. وقال النووي تعليقاً على هذه الروايات: وفيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما، واعتقاد جميع ما أتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد جمع ذلك -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" (¬2). اهـ. قلت: ومن المعلوم أن اعتقاد الشهادتين يسبقه العلم بمدلولهما -لأن الاعتقاد والتصور فرع العلم- إذ كيف يعتقد العبد اعتقاداً صحيحاً لشيء وهو جاهل بحقيقته؟!. * * * ¬

(¬1) المفهم شرح صحيح مسلم جـ: 1، أثناء شرح خطبة الحاجة للإمام مسلم. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 212.

المبحث الثاني: اليقين والعمل بمقتضى الشهادة شرط في صحتها

المبحث الثاني: اليقين والعمل بمقتضى الشهادة شرط في صحتها: وقال صاحب فتح المجيد شارحاً معنى الشهادة: قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله". أي: من تكلم بها عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً. فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها كما قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ). وقوله: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فغير نافع بالإجماع. قال القرطبي في الفهم على صحيح مسلم: "باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين": بل لا بد من استيقان القلب -هذه الترجمة تدل على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين: بأن التلفظ بالشهادتين في الإيمان كاف لمن وقف عليها وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعا. وفي هذا الحديث ما يدل على هذا وهو قول: "من شهد" فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق ... وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: (شهادة أن لا إله إلا الله) يقتضي أن يكون: الشاهد عالماً بأنه: (لا إله إلا الله) كما قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ). قال: واسم الله مرتفع بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية فلا يستحقها غيره -سبحانه-. قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله -سبحانه- كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله ... وقال ابن رجب: "الإله" هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبة وخوفاً ... فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول: (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وقال البقاعي: "لا إله إلا الله" أي انتفى انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه وإلا فهو جهل

المبحث الثالث: الكفر بما يعبد من دون الله شرط في عصمة الدم والمال

صرف ... "فلا إله إلا الله" لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً واعتقد ذلك وقبله وعمل به. وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف فهي حجة عليه بلا ريب (¬1) اهـ. وقال صاحب تيسير العزيز الحميد: قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله". أي من تكلم بهذه الكلمة عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً كما دل عليه قوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 20]. وقوله: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 87]. أما النطق: بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها فإن ذلك غير نافع بالإجماع. وفي الحديث ما يدل على ذلك وهو قوله: "من شهد". إذ كيف يشهد وهو لا يعلم ومجرد النطق بشيء لا يسمى شهادة به (¬2) اهـ. قلت: فهذه الأدلة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها تدل بيقين على أن الشهادة لا تكون إلا بالنطق مع العلم والتصديق بالمعلوم على ما هو عليه. وأما النطق بلا علم فلا يسمى شهادة البتة. فقول النبي، صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله". دل بيقين على اشتراط العلم بمدلول الشهادتين لعصمة الدم والمال والحكم بالإسلام وحتى لا يظن ظان من هذا الحديث أن العصمة موقوفة على التلفظ والعلم دون العمل بمقتضى الشهادتين تأتي الرواية الثالثة: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". المبحث الثالث: الكفر بما يعبد من دون الله شرط في عصمة الدم والمال: قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب تعليقاً على حديث الباب: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". وهذا من أعظم ما يبين معنى "لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل: التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله ¬

(¬1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص: 35: 39. (¬2) تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص: 53.

وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع. قال الشارح (¬1) قوله: من قال: "لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله". اعلم أن النبي علّق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول قول: "لا إله إلا الله". عن علم ويقين كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى بل لا بد من قولها والعمل بها. قلت (¬2): وفيه معنى: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ". (ثم أتى بقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شرح الحديث المذكور آنفاً ثم قال). قلت (¬3): وهذا هو الشرط المصحح لقوله: "لا إله إلا الله" فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكرها المصنف -رحمه الله- أصلاً، قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). وقال: (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ... فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ). أمر بقتالهم حتى: يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله -تعالى- ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعاً. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به ... ". وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... ". وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة. وقد أجمع العلماء على أن من قال: "لا إله إلا الله". ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها: أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات. قال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله- في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: "لا إله إلا الله" ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس: "بمن قال لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بذلك مشركوا العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله: "لا إله إلا ¬

(¬1) أي: صاحب فتح المجيد. (¬2) أي: صاحب فتح المجيد. (¬3) أي: صاحب فتح المجيد.

الله" إذ كان يقولها في كفره. انتهى ملخصاً: ... "قوله وحسابه على الله" أي: الله -تبارك وتعالى- وهو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقاً عذّبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهراً والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه. قلت (¬1): وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: "لا إله إلا الله" ولا يكفر بما يعبد من دون الله، فلم يأت بما بعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث (¬2) اهـ. قلت: فهذا التفصيل والبيان لمعنى هذه الأحاديث التي جاءت في عصمة الدم والمال وبيان أن العلم بالشهادتين والتزام التوحيد والبراءة من الشرك شروط في إجراء الأحكام والانتفاع بها في الدارين بإجماع العلماء. ونقل الشارح: كلام الإمامين أبي سليمان الخطابي، والقاضي عياض خير بيان لمناط (وكفر بما يعبد من دون الله) أي: من نطق بالشهادتين مع تلبسه بالشرك ساعة نطقه فلم يأت بالشرط الآخر وهو (وكفر بما يعبد من دون الله) فلا عصمة لدمه وماله والحال هكذا، وأما من أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه وقبل شرائع الإسلام فقد أتى بما يعصم دمه وماله ويحكم له بالإسلام في الظاهر وحسابه على الله. قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر عن الحسن -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... ". قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل عبدة الأوثان وهم قوم لا يوحدون الله، فمن قال منهم: لا إله إلا الله كان ذلك دليلاً على إسلامه. والحاصل أنه يحكم بإسلامه إذا أقرّ: بخلاف ما كان معلوماً من اعتقاده لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا فنستدل بما نسمع من إقراره على اعتقاده. فإذا أقرّ: بخلاف ¬

(¬1) أي: صاحب فتح المجيد. (¬2) فتح المجيد ص: 111: 115.

المبحث الرابع: كلمة التوحيد تعصم قائلها بشرط البراءة من الشرك

ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على أنه بدل اعتقاده. وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله -تعالى- قال الله -تعالى-: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [الزخرف: 87]. ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية قال الله -تعالى-: (إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات: 35]. وقال فيما أخبر عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص:: 5]. فمن قال منهم: لا إله إلا الله فقد أخبر بما هو مخالف لاعتقاده فلهذا جُعل ذلك دليل إيمانه فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (¬1). اهـ. المبحث الرابع: كلمة التوحيد تعصم قائلها بشرط البراءة من الشرك: وقال أبو بطين: وأيضاً فالمقصود من لا إله إلا الله: البراءة من الشرك وعبادة غير الله -تعالى- ومشركوا العرب يعرفون المراد منها لأنهم أهل لسان فإذا قال أحدهم: (لا إله إلا الله) فقد تبرأ من الشرك وعبادة غير الله -تعالى-. فلو قال: "لا إله إلا الله" وهو مصر على عبادة غير الله لم تعصمه هذه الكلمة لقوله -سبحانه وتعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ -أي شرك- وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه). وقوله: (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ -إلى قوله- فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له". وهذا معنى قوله -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ -أي الطاعة- كُلُّهُ لِلّه). وهذا معنى لا إله إلا الله (¬2) اهـ. وقال صاحب تيسير العزيز الحميد (¬3): فمن صرف شيئاً مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك ولو نطق: بلا إله إلا الله إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص. وقال في ص: 58 وقد بين النبي بقوله: "وحده لا شريك له". تنبيهاً على أن الإنسان قد يقولها وهو مشرك: كاليهود والمنافقين وعباد القبور لما رأوا ان النبي دعا قومه إلى قول لا إله إلا الله ظنوا أنه إنما دعاهم إلى النطق بها فقط. وهذا جهل عظيم وهو -عليه السلام- إنما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها ويتركوا عبادة غير الله. ولهذا قالوا: (أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) [الصافات: 36]. وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً) [ص:: 5]. فلهذا: أبوا ¬

(¬1) كتاب شرح السير الكبير جـ: 1 ص: 150. (¬2) مجموعة الرسائل والمسائل جـ: 5 ص: 495. (¬3) تيسير العزيز الحميد ص: 54: 60.

عن النطق بها. وإلا فلو قالوها وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين ولقاتلهم -عليه السلام- حتى يخلعوا الأنداد ويتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده لا شريك له وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والإجماع. وقال في ص: 60 ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضاً بشهادة أن محمداً رسول الله ولم يعرف معنى الإله ومعنى الرسول وصلى وصام وحج ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئاً من الشرك فإنه لا يشك أحد في عدم إسلامه وقد أفتى بذلك فقهاء الغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب "الدر الثمين في شرح المرشد المعين" من المالكية ثم قال شارحه: وهذا الذي أفتوا به جلي في غاية الجلاء لا يمكن أن يختلف فيه اثنان. انتهى. ولا ريب أن عُبّاد القبور أشد من هذا لأنهم اعتقدوا الإلهية في أرباب متفرقين اهـ. قلت: قوله رحمه الله -تعالى-: "لا يشك أحد في إسلامه" أي: الإسلام المنجي في الآخرة وإن كان معه الإسلام -الذي تجري به الأحكام ويعصم الدم والمال -في الدنيا- لبراءته: من الشرك وانقياده للشرع في الظاهر- وهذا هو الذي يسميه الفقهاء: بالإسلام الحكمي. قال ابن تيمية: لكن لما كان غالب المسلمين يولد بين أبوين مسلمين يصيرون مسلمين إسلاماً حكمياً من غير أن يوجد منهم إيمان بالفعل. ثم إذا بلغوا فمنهم من يرزق الإيمان الفعلي فيؤدي الفرائض، ومنهم من يفعل ما يفعله بحكم العادة المحضة والمتابعة لأقاربه وأهل بلده ونحو ذلك: مثل أن يؤدي الزكاة لأن العادة أن السلطان يأخذ الكلف، ولم يستشعر وجوبها عليه لا جملة ولا تفصيلاً فلا فرق عنده بين الكلف المبتدعة، وبين الزكاة المشروعة، أو من يخرج من أهل مكة [كل] سنة إلى عرفات: لأن العادة جارية بذلك من غير استشعار أن هذه عبادة لله لا جملة ولا تفصيلاً أو يقاتل الكفار لأن قومه قاتلوهم فقاتل تبعاً لقومه ونحو ذلك، فهؤلاء لا تصح عبادتهم بلا تردد بل نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة قاضية بأن هذه الأعمال لا تسقط الفرض .. وأيضاً فغالب الناس إسلامهم حكمي، وإنما يدخل في قلوبهم في أثناء الأمر إن دخل. فإن لم توجب عليهم هذه النية لم يقصدوها فتخلوا قلوبهم منها فيصيرون منافقين إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة كما هو واقع كثير من الناس (¬1) اهـ. ¬

(¬1) جـ: 26 ص: 30: 32 لمجموع الفتاوى.

الإسلام الحكمي: قلت: وهذا العبد -والله أعلم- الذي يوصف بالإسلام الحكمي هو الذي ظاهره: التوحيد والانتهاء عن الشرك والتزام الفرائض. بيد أنه لا يرجو ثواباً لفعلها ولا يخشى عقاباً من تركها وإنما يفعل الإسلام من باب متابعة الآباء المتابعة المحضة يرجو ثوابهم ويخشى عقابهم، ولولا هذا ما فعل وترك وهذا هو التقليد المذموم وهو قبول قول الغير بغير حجة وبرهان. بخلاف من قلّد في الحق واستسلم لله وحده لا شريك له لأنه دين الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه ويعتقد وجوب متابعة نبيه، صلى الله عليه وسلم، فهو يسأل ويتحرى ويقلِّد من أجل الفوز برضوان الله في الدنيا والآخرة، وليس لمتابعة دين الآباء أياً كان هذا الدين، وإن لم يعلم أدلة المسائل التي قلدها فهذا لا ريب أنه مسلم بلا خلاف بين الأمة دون أهل الابتداع فلا يعتبر اختلافهم فيما هذا شأنه. فالأول يبحث عن دين الآباء ومتابعته لهم ولا يبالي هل أصاب دين الله أم لا. وهو مقلِّد. والثاني يبحث لكن عن دين الله ومتابعة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مقلِّد. ولكن هذا حقق الإسلام ظاهراً وباطناً والأول حقق الإسلام في الظاهر ما لم يتلبس بناقض ولم يحققه باطناً وينطبق عليه الحديث الذي في البخاري -والله -تعالى- أعلم. (أما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري؛ كنت أقول ما يقول الناس) قال الحافظ وفيه ذم التقليد في الاعتقادات لمعاقبة من قال: كنت أسمع الناس يقولون شيئاً فقلته (¬1) اهـ. وهذا الذي تحدث عنه ابن تيمية (من قبل) بقوله: لا يشفعون لمن قال هذه الكلمة تقليداً للآباء والشيوخ. ومن المعلوم بيقين أن المنافق سمع الناس يقولون أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالها إلا أنه قالها متابعة للناس ولتحسين وتقبيح الآباء ولو كانوا قالوا عن مسيلمة الكذّاب -عليه لعنة الله- أنه رسول الله لتبعهم أيضاً. ¬

(¬1) فتح الباري جـ: 3 ص: 284.

المبحث الخامس: لب التوحيد معرفة الله

وهناك فريق يقول: إنه رسول الله في الظاهر ويعتقد بطلان رسالته في الباطن وهذا ضرب آخر من المنافقين والحديث يعم جميع أنواع المنافقين والله أعلم. وموطن الاستدلال: أن هذا العبد الذي حقق الإسلام في الظاهر لكن بلا علم ويقين لم تتحقق له النجاة مع انتهائه عن الشرك والتزامه للشرع في الظاهر فكيف بمن لم يتحقق له العلم بمدلول الشهادتين والتبس بالشرك وفعله وحسّنه ودعا إليه ووالى أهله وقبّح التوحيد وتركه وصد الناس عنه وعادى أهله؟! المبحث الخامس: لب التوحيد معرفة الله: الحديث الثاني: أخرج الشيخان واللفظ للبخاري -رحمه الله- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ... " الحديث. قال الحافظ ففي رواية روح بن القاسم عنه: "فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله". وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: "إلى أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك". ويجمع بينهما بأن المراد بعبادة الله: توحيده. وبتوحيده: الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة. ووقعت البداءة بهما لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما. فمن كان منهم غير موحّد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين ومن كان موحداً فالمطالبة بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي: الإشراك أو يستلزمه كمن يقول: ببنوة عزير أو يعتقد التشبيه فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم. واستدل به من قال من العلماء: إنه لا يشترط التبري من كل دين يخالف دين الإسلام، خلافاً لمن قال: إن من كان كافراً بشيء وهو مؤمن بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بترك اعتقاد ما كفر به. والجواب: أن اعتقاد الشهادتين يستلزم ترك اعتقاد التشبيه ودعوى بنوة عزير وغيره فيكتفي بذلك. واستدل به على أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن: لا إله إلا الله حتى يضيف إليها الشهادة لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة وهو قول الجمهور، وقال بعضهم: يصير بالأولى

مسلماً، وبطالب بالثانية، وفائدة الخلاف تظهر بالحكم بالردة. قوله: (فإن هم أطاعوا لك بذلك) أي شهدوا وانقادوا وفي رواية ابن خزيمة: "فإن هم أجابوا لذلك" وفي رواية الفضل بن العلاء كما تقدم: "فإذا عرفوا ذلك" وعدى أطاع باللام وإن كان يتعدى بنفسه لتضمنه: معنى انقاد. واستدل به على أن أهل الكتاب: ليسوا بعارفين وإن كانوا يعبدون الله ويظهرون معرفته، لكن قال حذاق المتكلمين: ما عرف الله من شبهه بخلقه أو أضاف إليه اليد أو أضاف إليه الولد، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به (¬1) اهـ. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز تعليقاً على الجملة السابقة كلاماً مهماً يقرأ بعناية في الهامش من الكتاب: "لا شك أن من شبّه الله بخلقه أو أضاف إليه الولد جاهل به -سبحانه- ولم يقدره حق قدره لأنه -سبحانه- لا شبيه له ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً. وأما إضافة اليد إليه -سبحانه- فمحل تفصيل فمن أضافها إليه -سبحانه- على أنها من جنس أيدي المخلوقين فهو مشبه ضال، وأما من أضافها إليه على الوجه الذي يليق بجلاله من غير أن يشابه خلقه في ذلك فهذا حق وإثباتها لله على هذا الوجه واجب كما نطق به القرآن وصحّت به السنة وهو مذهب أهل السنة فتنبه والله الموفق. قلت: يلاحظ من هذا النقل السخي بالعبر والفوائد أن التوحيد والشهادة بالرسالة هما أصل الدين ويجب البداءة بهما لأنه لا يصح شيء دونهما إلا بهما. أن الله الواحد القهار له صفات لا تتصور الذات بدونها ومفهوم التأله قائم عليها فمن جهلها جهل الله وأشرك به وإن ادعى غير هذا ويكون معبوده الحقيقي ليس هو الله ونحن المسلمين نتبرأ من معبوده لقوله -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ). قال النووي تعليقاً على هذا الحديث نقلاً عن القاضي عياض قال القاضي عياض -رحمه الله- هذا يدل على أنهم ليسوا بعارفين الله -تعالى- وهو مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين الله -تعالى- وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته لدلالة السمع عندهم على هذا، وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله -تعالى- من كذب رسولاً، قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى- ما عرف الله -تعالى- من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز ¬

(¬1) فتح الباري جـ: 3 ص: 418، 420 كتاب الزكاة.

المبحث السادس: استحالة عبادة الله بالشرك

عليه البداء، أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى، أو وصفه مما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك والمعاند فيخلقه من المجوس والثنوية فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به إذ ليس موصوفاً بصفات الإله الواجبة له فإذا ما عرفوا الله -سبحانه- فتحقق هذه النكتة واعتمد عليها وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا وبها قطع الكلام أبو عمران الفارسي بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة. هذا آخر كلام القاضي-رحمه الله تعالى (¬1) - اهـ. المبحث السادس: استحالة عبادة الله بالشرك: قال ابن تيمية (¬2) في تفسير قوله -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فقوله: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). يتناول شركهم فإنه ليس بعبادة الله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له، وإن دعوه وصلوا له. وأيضاً فما عبدوا ما يعبده وهو الموصوف بأنه معبود على جهة الاختصاص، بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات، فمن كذّب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه. وأيضاً فالشرائع قد تتنوع في العبادات، فيكون المعبود واحداً، وإن لم تكن العبادة مثل العبادة، وهؤلاء لا يتبرأ منهم، فكل من عبد الله مخلصاً له الدين فهو مسلم في كل وقت، ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه .... -إلى أن قال في ص: 554 - وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم، وإن قد أشرك بالله قبل قراءتها فهو يتبرأ في الحاضر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان، وينفى جوار عبادته لمعبودهم، ويبينأن مثل هذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ فهو ينفي جوازه شرعاً (¬3) ووقوعاً .... وأما قوله عن الكفار: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). فهو خطاب لجنس الكفار وإن ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 199: 200. (¬2) جـ: 16 ص: 550: 600 لمجموع الفتاوى. (¬3) شرعاً: أي الحكم الشرعي -وقوعاً: أي براءته من الشرك.

أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفاراً فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك فإنهم حينئذ مؤمنون، لا كافرون. وإن كانوا منافقين في الباطن فيتناولهم الخطاب ... وما دام الكافر كافراً، فإنه لا يعبد الله، وإنما يعبد الشيطان سواء كان متظاهراً أو غير متظاهر به كاليهود، فإن اليهود لا يعبدون الله وإنما يعبدون الشيطان لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر، وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه، فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها، فليست عبادة، فكل كافر بمحمد لا يعبد ما يعبده محمداً ما دام كافراً ... -إلى أن قال في ص: 563 - . وإذا قال اليهود: نحن نقصد عبادة الله كانوا كاذبين سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا، كما يقول النصارى: إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين، وهم كاذبون، لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به وهو: الشرع لا بالمنسوخ المبدل. وأيضاً فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن لا أرسل المسيح ولا محمداً، بل هو عند بعضهم فقير، وعند بعضهم بخيل، وعند بعضهم عاجز، وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه، وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه، الذين يزعمون أنهم رسله، وليسوا رسله، بل هم كاذبون سحرة قد أيدهم ونصرهم ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين، لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس. فالرب الذي يعبدونه هو دائماً ينصر أعداءه. فهم يعبدون هذا الرب. والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود، فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها من جهة كونه معبوداً لهم. منزه عن هذه الإضافة فليس هو معبوداً لليهود، وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات وإنما هو الشيطان. فالرسل والمؤمنون لا يعبدون شيئاً تعبده اليهود ... -إلى أن قال في ص: 573 - فإن قيل: فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قول الخليل: (أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 75 - 77]. فقد استثناه مما يعبدون فدل على أنهم كانوا يعبدون الله وكذلك قوله: (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف: 26: 27]. واستثناه أيضاً وفي المسند وغيره حديث حصين الخزاعي لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حصين كم تعبد اليوم؟ ". قال: سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء. قيل: هذا قول المشركين كما تقول اليهود والنصارى نحن نعبد الله. فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا وأما

قول الخليل ففيه قولان: قالت طائفة: إنه استثناء منقطع وقال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يعبدون الله مع آلهتهم. وعلى هذا فهذا لفظ مقيد فإنه قال: (مَا تَعْبُدُونَ). فسماه عبادة إذا عرف المراد. لكن ليست هي العبادة التي عند الله عبادة فإنه كما قال -تعالى-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك ...) وهذا كقوله -تعالى-: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: 106]. سماه إيماناً مع التقييد وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلهاً آخر لا يدخل في مسمى الإيمان عند الإطلاق: وقد قال: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)، (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). فهذا مع التقييد ومع الإطلاق فالإيمان هو الإيمان بالله والبشارة بالخير .... - ومما يوضح هذا قوله- (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ -إلى قوله- إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 133] ... فالتقدير: نعبد إلهك نعبد إلهاً واحداً ونحن له مسلمون فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه وأنهم إنما يعبدون إلهاً واحداً فمن عبد إلهين لم يكن عابدا لإلهه وإله آبائه وإنما يعبد إلهه من عبد إلهاً واحداً. ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابداً له لكانت عبادته نوعين: عبادة إشراك، وعبادة إخلاص ... فمن عبد معه غيره فما عبده إلهاً واحداً، ومن أشرك به فما عبده وهو لا يكون إلا إلهاً واحداً فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له لم تكن له حال أخرى يعبده فيها فما عبده. فإن قيل: المشرك: يجعل معه آلهة أخرى فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد، قيل هذا غلط منشؤه: أن لفظ الإله يراد به المستحق للإلهية ويراد به ما اتخذه الناس إلهاً وإن لم يكن إلهاً في نفس الأمر بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم فتلك لبست في نفسها آلهة وإنما هي آلهة في أنفس العابدين فإلهيتها أمر قدره المشركون وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقاً للخارج. -إلى أن قال في ص: 578 - فقوله: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ -إلى قوله تعالى- إِلَهاً وَاحِداً). إذا قيل إنه منصوب على الحال فإما أن يكون حالاً من الفاعل العابد، أو من المفعول المعبود. فالأول: نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه. والثاني: نعبده في الحال اللازمة له وهو أنه إله واحد فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه فإن كان التقدير هذا الثاني امتنع أن: يكون المشرك عابداً له فإنه

لا يعبده في هذه الحال وهو -سبحانه- ليست له حال أخرى نعبده فيها: وإن كان التقدير الأول فقد يمكن أن نعيده في حال أخرى تُتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا. لكن قوله: (إِلَهاً وَاحِداً). دليل على أنها حال من المعبود بخلاف ما إذا قيل: نعبده مخلصين له الدين فإن هذه حال من الفاعل. ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيراً كقوله: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ). [الزمر: 2]. وقوله: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي) [الزمر: 14]. فهذا حال من الفاعل فإنه يكون تارة مخلصاً وتارة مشركاً، وأما الرب -تعالى- فإنه لا يكون إلا إلهاً واحداً ... كما قيل في الجملة: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). قيل: واو العطف وقيل واو الحال أي نعبده في هذه الحال ... والآية فيها: (إِلَهاً وَاحِداً). فهذه حال من المعبود بلا ريب فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلهاً واحداً وهذه لازمة له .... . . . و (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). لا سيما إذا جعلت حالاً. أي: نعبده إلهاً واحداً في حال إسلامنا له. وإسلامهم له يتضمن: إخلاص الدين له وخضوعهم واستسلامهم لأحكامه بخلاف غير المسلمين ... -إلى أن قال في ص: 600 - . وقوله: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). نفى عنهم عبادة معبوده فهم إذا عبدوا الله مشركين به لم يكونوا عابدين معبوده وكذلك هو إذا عبده مخلصاً له الدين لم يكن عابداً معبودهم. الوجه الخامس: أنهم لو عينوا الله بما ليس هو الله وقصدوا عبادة الله معتقدين أن هذا هو الله كالذين عبدوا العجل والذين عبدوا المسيح والذين يعبدون الدجال والذين يعبدون ما يعبدون من دنياهم وهواهم ومن عبد من هذه الآمة فهم عند نفوسهم إنما يعبدون الله لكن هذا المعبود الذي لهم ليس هو الله، فإذا قال: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ). كان متبرئاً من هؤلاء المعبودين وإن كان مقصود العابدين هو الله. الوجه السادس: أنهم إذا وصفوا الله بما هو بريء منه كالصاحبة والولد والشريك وأنه فقير أو بخيل أو غير ذلك وعبدوه وكذلك فهو بريء من المعبود الذي لهؤلاء فإن هذا ليس هو الله (¬1) اهـ. ¬

(¬1) جـ: 16 ص: 550: 600 لمجموع الفتاوى.

شروط العبادة: قلت: يتجلى ويتضح من هذه النقول أن الله لا يُعبد إلا بما شرع لا يعبد بالأهواء والظنون والعادات ولا بالمنسوخ وأن حقيقة العبادة لا تقع إلا في حال توجه العبد لله الواحد القهار وحده لا شريك له وأن يكون العبد مسلماً حال التوجه إليه -تعالى- وأن أي مشرك يدعي عبادة الله فهو لم يعرف الله ولم يعبده لأن الشرك تنقص بالإلهية وهضم لحق الربوبية شاء المشرك أم أبى. قال ابن القيم: فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه والتنقص له ضرورة، شاء المشرك أم أبى ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم ويجعله أشقى البرية. فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله -سبحانه- وإن زعم أنه يعظمه بذلك (¬1) اهـ. قلت: فالمشرك أساء الظن بربه واعتقد فيه ما ليس فيه -سبحانه- ونفى عنه ما هو من صميم ذاته وتألهه -سبحانه وتعالى- عما يصفون. قال ابن القيم: (أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 86، 87]. أي: فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟ أظننتم: أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم: أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك؟ أم ظننتم: أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاس فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القلة ويتعزز به من الذلة؟ أم يحتاج إلى الولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه؟ -تعالى- الله عن ذلك علواً كبيراً (¬2) اهـ. ¬

(¬1) إغاثة اللهفان جـ: 1 ص: 62، 63. (¬2) مدارج السالكين جـ: 3 ص: 325.

الشرك دليل على الجهل بالله: قلت: وهكذا لا تجد مشركاً قط إلا وقد ظن بربه ظن السوء وهذا الظن طعن مباشر في ألوهيته وربوبيته ونفى لهما فلذلك تجد معبوده ليس هو الله وإن ادّعى غير ذلك، وإنما معبوده هو الشيطان -عليه لعنة الله- ومن هنا نعلم أن أي مشرك لم يعرف الله وإن زعم غير هذا وهذا معنى قول المعصوم، صلى الله عليه وسلم، في أهل الكتاب -فإذا عرفوا الله-. وهذا يبطل قول من يزعم أن من أقر لله بالعبودية في الإجمال دون التفصيل -أي: أنه قد يدعو غير الله أو يذبح أو ينذر لغير الله مع إقراره أنه لا يعبد إلا الله -فهو مسلم في الدنيا وناج عند الله يوم القيامة فإن هذا باطل كل البطلان لأن الله لا يعبد إلا بالتوجه له وحده لا شريك له وأن يكن المتوجه مسلماً خالصاً لله الواحد القهار، فالشرك ينفي مفهوم العبادة لدى هذا العبد فلا يوصف بأنه عبد الله. والدليل الصحيح الصريح -بفضل الله وعونه وكرمه- على ما مضى كله الحديث الذي في الصحيح" ... كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ... " (¬1). قلت: ومن المعلوم أن من كان يعبد الطواغيت والقمر والشمس يظن أنه يعبد الله، ولكن هو في حقيقة الأمر يعبد الطواغيت لذلك عند التوجه في أرض المحشر تبعهم ولم يتبع رب العالمين، ولم يبق في أرض المحشر إلا من كان يعبد الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين بعد إقصاء أهل الكتاب والمنافقين كما جاء في الحديث. فعلم بهذا الحديث أن عبادة الله لا تكون إلا بالتوجه لله وحده لا شريك له في حال إسلام وإخلاص من المتوجه. وإذا كان ذلك كذلك لم يبق للمشرك أياً كان هذا المشرك نصيب من عبادة الله، وعلم بيقين أن أي مشرك فهو جاهل بربه مضرب عن عبادته شاء المشرك أم أبى وهذا في حقيقة الأمر. قال صاحب قرة عيون الموحدين تعليقاً على هذا الحديث قوله: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله". وكانوا يقولونها لكنهم جهلوا معناها الذي دلّت عليه من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه. فكان قولهم: لا إله إلا الله لا ينفعهم ¬

(¬1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 3 ص: 18.

لجهلهم بمعنى هذه الكلمة كحال: أكثر المتأخرين من هذه الأمة فإنهم كانوا يقولونها مع ما كانوا يفعلونه من الشرك بعبادة الأموات والغائبين والطواغيت والمشاهد فيأتون بما ينافيها فيثبتون ما نفته من الشرك باعتقادهم وقولهم وفعلهم وينفون ما أثبتته من الإخلاص كذلك ... وفيه دليل على أن توحيد العبادة هو: أول واجب لأنه أساس الملة وأصل دين الإسلام، وأما قول المتكلمين ومن تبعهم: إن أول واجب معرفة الله بالنظر والاستدلال فذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده، ولهذا كان مفتتح دعوة الرسل أممهم إلى توحيد العبادة. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). أي: لا تعبدوا إلا الله. قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). وقال -تعالى-: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [إبراهيم: 10]. قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: هذا يحتمل شيئين: أحدهما: أفي وجوده شك؟ فإن الفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، والمعنى الثاني: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له. فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى اهـ ... وقد تقدم أن لا إله إلا الله قد قيدت في الكتاب والسنة بقيود ثقال، منها: العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والقبول والانقياد والكفر بما يعبد من دون الله، فإذا اجتمعت هذه القيود لمن قالها نفعته هذه الكلمة، وإن لم تجتمع هذه لم تنفعه. والناس متفاوتون في العلم بها والعمل، فمنهم من ينفعه قولها، ومنهم من لا ينفعه كما لا يخفى (¬1) اهـ. قلت: فهل بعد بيان هذا الحديث من بيان؟ وهل بعد برهانه من برهان؟ وهل بعد دلالته من دلالة؟ من أن العلم بالله -تعالى- هو أول واجب على الخلق وأن التوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من العلم الصحيح لمعنى الشهادتين، وهو المقصود بقوله، صلى الله عليه وسلم: "فإذا عرفوا الله". وهذا المعنى بفضل الله وهو معرفة الله المعرفة التي تدفع صاحبها إلى إفراد الله بالتأله ¬

(¬1) قرة عيون الموحدين ص: 48.

المبحث السابع: العلم قبل القول والعمل

وخلع عبادة كل ما سواه هي: أول واجب بالإجماع وهي النافعة دون غيرها في الدارين ذكره متواتر في كتب العلماء. وهنا مسألة يجب التنبيه عليها وهي: أن اشتراط العلم المقصود به: العلم بصفات الله التي توجب تفرده بالألوهية والتبرأ من ألوهية ما سواه ولو علم ذلك من باب السؤال والتقليد فهذا نافعه بإتفاق الأمة إلا المعتزلة ومن نحى منحاهم في هذه المسألة فإنهم وقفوا الإيمان على قوانين محدثة مبتدعة بعضها حق وأكثرها باطل وفرضوا على كل عبد أن يستدل بنفسه على وفق قوانينهم، وأن يصل بعد الاجتهاد إلى أصول دينهم المخالفة لأصول دين المسلمين. وهذا القدر عندهم لا إعذار فيه وسموه أصول الدين، وما دونه من الفروع يدخله الإعذار وهي التي سماها ابن تيمية بدعة تقسيم الدين إلى أصول وفروع رداً على المعتزلة والمتكلمين وما أحدثوه من المسائل والدلائل المحدثة المبتدعة. فأهل السنة دائماً ينفون ما ابتدعه هؤلاء (وسيأتي بمشيئة الله وعونه مزيد بيان لهذه المسألة) (¬1) فانتبه للفرق بين المسألتين حتى لا يأتي الخلط والعياذ بالله من ذلك. المبحث السابع: العلم قبل القول والعمل: قال البخاري في صحيحه كتاب العلم باب العلم قبل القول والعمل لقوله -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19]. فبدأ بالعلم. قال الحافظ قوله: "العلم قبل القول والعمل" قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل ... -قال الحافظ-: وينتزع منها دليل على ما يقوله المتكلمون: من وجوب المعرفة، لكن النزاع كما قدمناه إنما هو في إيجاب تعلم الأدلة على القوانين المذكورة في كتب الكلام، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الإيمان (¬2) اهـ. قلت: فهذا النص من الحافظ -رحمه الله تعالى- في غاية البيان والوضوح في مسألة أن ¬

(¬1) انظر -باب الرد على الشبهات -مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع. (¬2) فتح الباري جـ: 1 ص: 192: 193.

اشتراط العلم لقبول القول والعمل لا نزاع فيها، وإنما النزاع مع المتكلمين هو في إيجاب تعلم الأدلة على القوانين المذكورة في كتبهم. قال النووي في شرح صحيح مسلم باب (الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً) هذا الباب فيه أحاديث كثيرة وتنتهي إلى حديث العباس ابن عبد المطلب -رضي الله عنه- ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال فإن كان سالماً من المعاصي كالصغير والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلاً فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلاً. لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود. والصحيح أن المراد به المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم -أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه- وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله- سبحانه وتعالى- فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولاً وجعله كالقسم الأول وإن شاء عذبه القدر الذي يريده -سبحانه وتعالى- ثم يدخله الجنة. فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره، فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع وسنذكر من تأويل بعضها ما يعرف به تأويل الباقي -إن شاء الله تعالى- والله أعلم ... -ثم نقل عن القاضي عياض- فقال: وأما معنى الحديث وما أسبهه: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". فقد جمع فيه القاضي عياض -رحمه الله- كلاماً حسناً جمع فيه نفائس، فأنا أنقل كلامه مختصراً ثم أضم بعده إليه ما حضرني من زيادة.

المعرفة والنطق شرطان في النجاة: قال القاضي عياض -رحمه الله-: اختلف الناس فيمن عصى الله -تعالى- من أهل الشهادتين فقالت المرجئة لا تضره المعصية مع الإيمان، وقالت الخوارج تضره ويكفر بها. وقالت المعتزلة يخلد في النار إذا كانت معصيته كبيرة ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر ولكن يوصف بأنه فاسق، وقالت الأشعرية بل هو مؤمن وإن لم يغفر له عُذب فلا بد من إخراجه من النار وإدخاله الجنة. قال وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة، وأما المرجئة فإن احتجت بظاهره قلنا محمول على أنه غفر له أو أخرج من النار بالشفاعة ثم أدخل الجنة فيكون معنى قوله، صلى الله عليه وسلم، دخل الجنة أي دخلها بعد مجازاته بالعذاب وهذا لا بد من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة، فلا بد من تأويل هذا لئلا تتناقض نصوص الشريعة وفي قوله، صلى الله عليه وسلم: وهو يعلم إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة إن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله، صلى الله عليه وسلم: "غير شاك فيهما" وهذا يؤكد ما قلناه. قال القاضي: وقد يحتج به أيضاً من يرى أن مجرد معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين لا تنفع إحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى إلا لمن لم يقدر على الشهادتين لآفة بلسانه أو لم تمهله المدة ليقولها بل اخترمته المنية ... فنقرر أولاً إن مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح وأهل الحديث والفقهاء والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين أن أهل الذنوب في مشيئة الله -تعالى- وأن كل من مات على الإيمان وتشهد مخلصاً من قلبه الشهادتين فإنه يدخل الجنة، فإن كان تائباً أو سليماً من المعاصي دخل الجنة برحمة ربه وحرّم على النار بالجملة ... ويمكن أن تستقل الأحاديث بنفسها ويجمع بينها فيكون المراد باستحقاق الجنة ما قدمناه من إجماع أهل السنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد إما معجلاً معافى وإما مؤخراً بعد عقابه، والمراد بتحريم النار تحريم الخلود خلافاً للخوارج والمعتزلة ... -قال النووي- هذا آخر كلام القاضي -رحمه الله- وهو في نهاية الحسن (¬1) اهـ. ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 217: 219.

قلت: انظر -رحمك الله- إلى قول القاضي أن مذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين لا تنفع إحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى وقول الإمام النووي في آخر حديثه معلقاً عليه أنه في نهاية الحسن. فهذا مذهب أهل السنة أن النطق مرتبط بالمعرفة لا تنفع إحداهما دون الأخرى، وأن النطق بلا معرفة كالمعرفة بدون نطق كلاهما لا ينفع ولا ينجي صاحبه. وقال الإمام النووي تعليقاً على حديث: "اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يتشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة" ... وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق ولا النطق دون الاعتقاد بل لا بد من الجمع بينهما وقد تقدم إيضاحه في أول الباب (¬1) اهـ. التوحيد شرط الشفاعة: قلت: وينص على هذا المعنى القطعي أنه لا ينجو من عذاب الخلود في النيران إلا من نطق بالشهادتين وانتهى عن الشرك والتزم التوحيد ظاهراً وباطناً الحديث الصحيح الصريح: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً". أخرجه مسلم. قال النووي: وأما قوله -صلى الله عليه وسلم: "فهي نائلة إن شاء الله -تعالى- من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" ففيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك بالله -تعالى- لم يخلّد في النار وإن كان مصراً على الكبائر وقد تقدمت دلائله. وبيانه في مواضع كثيرة (¬2) اهـ. قلت: وكذلك الحديث الصحيح الصريح في هذه المسألة أيضاً وهو في صحيح مسلم: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله -تعالى- أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود .... " (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 237. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 3 ص: 75. (¬3) راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 3 ص: 22.

قلت: فهل بعد تنصيص هذا الحديث على هذا المسألة من نص على أنه لا ينجو من الخلود في النار في الآخرة إلا من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن نطق بالشهادتين وأنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد مستيقناً به قلبه. لذلك جاء في الحديث الآخر في صحيح مسلم أيضاً: قال -أي رسول الله، صلى الله عليه وسلم- "فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود- قال ابن عبيد في روايته، قال قتادة أي وجب عليه الخلود-". قال النووي: قوله، صلى الله عليه وسلم: "ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن" أي وجب عليه الخلود. وبين مسلم رحمه الله -تعالى- أن قوله -أي: وجب عليه الخلود -هو تفسير قتادة الراوي وهذا التفسير صحيح ومعناه من أخبر القرآن أنه مخلد في النار وهم الكفار -كما قال الله -تعالى- (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)، وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق وما أجمع عليه السلف أنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد والله أعلم (¬1) اهـ. وكذلك الحديث الذي في صحيح مسلم: " ... وذاك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ... ". وفي رواية أخرى: "ألا لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة اللهم بلغت اللهم فاشهد". قال النووي: قوله، صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة". هذا نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلاً وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين (¬2) اهـ. قلت: فهذه القاعدة متواترة في نصوص الشريعة وفي نصوص العلماء وهي أن النطق مرتبط بالعلم وهو شرط في انتفاع العبد ونجاته وهو أول واجب عليه. قال ابن تيمية: وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الخليدي: في كتابه "شرح اعتقاد أهل السنة" لأبي علي الحسين بن أحمد الطبري وهذا لعله ممن أدرك أحمد وغيره، قال الخليدي في معرفة الله: وهي أول الفرض الذي لا يسع المسلم جهله ولا تنفعه الطاعة -وإن أتى بجميع طاعة أهل الدنيا- ما لم تكن معه معرفة وتقوى، فالمسلم إذا نظر في مخلوقات الله -تعالى- وما خلق من عجائبه مثل دوران الليل والنهار والشمس والقمر وتفكّر في نفسه وفي مبدئه ومنتهاه فتزيد معرفته بذلك. قال الله -تعالى-: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (¬3) [الذاريات: 21]. اهـ. ¬

(¬1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 3 ص: 58، 59. (¬2) راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 3 ص: 96. (¬3) جـ: 2 ص: 2 لمجموع الفتاوى في الهامش من الكتاب.

قلت: ومن هذه النصوص النبوية الصحيحة الصريحة وأقوال السلف فيها نخلص بما يلي: 1 - أن العلم بمدلول الشهادتين شرط في قبولهما لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "حتى يقولوا"، وقوله: "حتى يشهدوا"، وقوله: "وكفر بما يعبد من دون الله"، وقوله: "من وحد الله": وقوله: "فإذا عرفوا الله" في حديث معاذ -رضي الله عنه-. 2 - أن المشرك لا يعرف الله ولا يعبده. لأن الشرك ينفي صفة التأله لله وحده، وأن معبوده هو الشيطان وليس هو الله وإن ادّعى غير هذا. 3 - أن النطق بالشهادتين بدون الانخلاع من الشرك لا يغني عن صاحبه شيئاً. 4 - أن النطق مرتبط بالمعرفة لا ينفع إحداهما بدون الأخرى. 5 - أن غاية القتال وارتفاعه عن رؤوس المشركين حين يعبدوا الله وحده ويلتزموا بالتوحيد وبتلقي الأحكام من الله وحده لا شريك له. ومما يؤكد هذا -بفضل الله ورحمته- فضلاً عن دلالة النصوص السابقة من القرآن والسنة، فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- أن النصوص على ظاهرها في أن غاية قتال المشركين هي: إفراد الله بالعبادة. أخرج البخاري -عن جبير بن حية قال: "بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين ... فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو، وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة: سل عما شئت. قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمص الجلد والنوى من الجوع ونلبس الوبر والشعر ونعيد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين -تعالى ذكره- وجلت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسول ربنا -صلى الله عليه وسلم- أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ... " (¬1) اهـ. فهذا النص من الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة وهو في جموع المسلمين مع عدم الإنكار عليه وهذا الإجماع (السكوتي) من الجيل الأول رضوان الله عليهم لهو أدل دليل على ¬

(¬1) راجع فتح الباري جـ: 6 ص: 298 - كتاب الجزية والموادعة.

أن القتال غايته إفراد الله بالعبادة والتأله وحده لا شريك له وخلع عبادة كل ما سواه من الأنداد والأوثان والطواغيت والآلهة. وإليك أخي القارئ توصيف وفهم سلف الأمة وأئمتها للإسلام وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب باستقراء نصوصهم في ذلك لتعلم بيقين أن المشركين وعباد القبور خارجين عن مسمى المسلمين وأن معرفة التوحيد والالتزام به شرط في وجود الإسلام. * * *

الفصل الثالث توصيف العلماء لحقيقة الإسلام

الفصل الثالث توصيف العلماء لحقيقة الإسلام وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: التوحيد شرط في صحة إسلام العبد. المبحث الثاني: التزام أحكام الإسلام شرط في قبوله. المبحث الثالث: الحنيف: هو التارك للشرك عن قصد وعلم. المبحث الرابع: التوحيد بالقول والعمل شرط في تحقيق النجاة. المبحث الخامس: قبول الأحكام من غير الله شرك في الألوهية والربوبية.

المبحث الأول: التوحيد شرط صحة في إسلام العبد

الفصل الثالث توصيف العلماء لحقيقة الإسلام المبحث الأول: التوحيد شرط صحة في إسلام العبد: قال الشيخ ابن تيمية -رحمه الله-: وأيضاً فإن التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ثمن الجنة، ولا يصح إسلام أحد إلا به (¬1) اهـ. وقال أيضاً رحمه الله: ومنها: أن الذين استحبوا السفر إلى زيارة قبر نبينا مرادهم السفر إلى مسجده وهذا مشروع بالإجماع ... بخلاف غيره فإنه يصل إلى القبر إلا أن يكون متوغلاً في الجهل والضلال فيظن أن مسجده إنما شرع السفر إليه لأجل القبر وأنه لذلك كانت الصلاة فيه بألف صلاة وأنه لولا القبر لم يكن له فضيلة على غيره، أو يظن أن المسجد بني أو جعل تبعاً للقبر ... فمن ظن هذا في مسجد نبينا، صلى الله عليه وسلم، فهو من أضل الناس وأجهلهم بدين الإسلام وأجهلهم بأحوال الرسول وأصحابه وسيرته وأقواله وأفعاله، وهذا محتاج إلى أن يتعلم ما جهله من دين الإسلام حتى يدخل في الإسلام ولا يأخذ بعض الإسلام ويترك بعضه ... نعم هذا اعتقاد النصارى يعتقدون أن فضيلة بيت المقدس لأجل الكنيسة التي يقال: أنها بُنيت على قبر المصلوب ويفضلونها على بيت المقدس وهؤلاء من أضل الناس وأجهلهم، وهذا أيضاً يضاهي ما كان المشركون عليه في المسجد الحرام لما كانت فيه الأوثان وكانوا يقصدونه لأجل تلك الأوثان التي فيه .... والذين يحجون إلى القبور يدعون أهلها ويتضرعون لهم ويعبدونهم ويخشون غير الله ويرجون غير الله كالمشركين الذين يخشون آلهتهم ويرجونها (¬2) اهـ. وقال: ودين الإسلام مبني على أصلين وهما: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلهاً آخر فلا تحب مخلوقاً كما تحب الله ولا ترجوه كما ¬

(¬1) جـ: 24 ص: 235 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 27 ص: 254: 256 لمجموع الفتاوى.

ترجو الله ولا تخشاه كما تخشى الله، ومن سوّى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فقد عدل بالله، وهو من الذين بربهم يعدلون وقد جعل مع الله إلهاً آخر وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السموات والأرض .... والأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسن رسله لا نعبده إلا بواجب أو مستحب والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك والدعاء من جملة العبادات فمن دعا المخلوقين من الموتى والغائبين واستغاث بهم -مع أن هذا لم يأمر الله به ولا رسوله أمر إيجاب ولا استحباب- كان مبتدعاً في الدين مشركاً برب العالمين متبعاً غير سبيل المؤمنين (¬1) اهـ. وقال: فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر. والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت .... فمن بلغته رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلماً ولا مؤمناً بل يكون كافراً وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن (¬2) اهـ. وقال: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو: الإستسلام لله وحده فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً. والإسلام هو الاستسلام لله وحده وهو الخضوع له والعبودية له هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم. فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب والأصل فيه التصديق والعمل تابع له (¬3) اهـ. ¬

(¬1) جـ: 1 ص: 310 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 3 ص: 91: 93 لمجموع الفتاوى. (¬3) جـ: 7 ص: 263 لمجموع الفتاوى.

المبحث الثاني: التزام أحكام الإسلام شرط في قبوله

المبحث الثاني: التزام أحكام الإسلام شرط في قبوله وقال: ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي، ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك. هل كان يتوهم عاقل أن النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملوا الإيمان وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك (¬1) اهـ. وقال: وأيضاً فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد إنك لرسول الله ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي: نعلم ونجزم أنك رسول الله. قال: فلم لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من يهود. فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم، فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين فكانوا كفاراً في الباطن وهؤلاء قالوا غير ملتزمين ولا منقادين فكانوا كفاراً في الظاهر والباطن (¬2). اهـ. وقال ابن القيم في هذا الحديث وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله بأنه نبي لم يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته فإذا تمسك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين ... قالا نشهد إنك نبي. قال: فما يمنعكما من اتباعي، قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود. ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أُمر وراء ذلك. وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 287 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 7 ص: 561 لمجموع الفتاوى.

فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً (¬1) اهـ. وقال أيضاً رحمه الله: وعلى هذا فإنما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الإسلام، لأن مجرد الإقرار والإخبار بصحة رسالته لا يوجب الإسلام إلا أن يلتزم طاعته ومتابعته. وإلا فلو قال: أنا أعلم أنه نبي ولكن لا أتبعه ولا أدين بدينه كان من أكفر الكفار كحال هؤلاء المذكورين وغيرهم. وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة السنة أن الإيمان لا يكفي فيه قول اللسان بمجرده ولا معرفة القلب مع ذلك بل لا بد فيه من عمل القلب وهو حب الله ورسوله وانقياده لدينه والتزام طاعته ومتابعة رسوله وهذا خلاف من زعم أن الإيمان هو مجرد معرفة القلب وإقراره (¬2) اهـ. وقال الحافظ وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام (¬3) اهـ. وقال ابن تيمية وقد ذكرت فيما تقدم من القواعد أن الإسلام الذي هو دين الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو: أن يسلم العبد لله رب العالمين فيستسلم لله وحده لا شريك له ويكون سالماً بحيث يكون متألهاً له غير متأله لما سواه كما بينته أفضل الكلام ورأس الإسلام: وهو شهادة أن لا إله إلا الله. وله ضدان: الكبر، والشرك ولهذا روى أن نوحا، عليه السلام، أمر بنيه بلا إله إلا الله وسبحان الله ونهاهم عن الكبر والشرك في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع فإن المستكبر عن عبادة الله لا بعبده فلا يكون مستسلماً له والذي يعبده ويعبد غيره يكون مشركاً به فلا يكون سالماً له بل يكون له في شرك (¬4) اهـ. وقال: وهذا (أي: توحيد الإلهية) من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك، فإن كثيراً من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل. وإنما يعرف هذا من توجه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة فإن لم يكن معه نور الإيمان ¬

(¬1) زاد المعاد جـ: 3 ص: 42 "في أثناء التعليق على ما في قصة وفد نجران من الفقه. (¬2) مفتاح دار السعادة جـ: 1 ص: 94. (¬3) فتح الباري جـ: 7 ص: 697. (¬4) جـ: 7 ص: 623 لمجموع الفتاوى.

المبحث الثالث: الحنيف التارك للشرك عن قصد وعلم

والقرآن الذي يحصل به الفرقان حتى يشهد الإلهية التي تميِّز بين أهل التوحيد والشرك وبين ما يحبه الله وما يبغضه وبين ما أمر به الرسول وبين ما نهى عنه وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا، فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال الله فيهم: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ). وإنما يصير الرجل مسلماً حنيفاً موحداً إذا شهد: أن لا إله إلا الله. فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحداً في تألهه ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه وإسلامه له ودعائه له والتوكل عليه وموالاته فيه، ومعاداته فيه ومحبته ما يحب وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقاً لقول: لا إله إلا الله فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه ويثبت ويبقى في قلبه تأله الله وحده، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي الحديث الآخر: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة". وقال في الصحيح: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلماً (¬1) اهـ. قلت: انظر: رحمك الله إلى قول الشيخ: وإنما يصير الرجل مسلماً حنيفاً موحداً إذا شهد أن لا إله إلا الله فعبده وحده بحيث لا يشرك معه أحداً في تألهه وهذا التعريف الجامع لحقيقة الإسلام متواتر ذكره في كتبه منها ما ذكر من قبل ومنها ما سيأتي ذكره بمشيئة الله -تعالى-. وهذا من أدل الدلائل على عدم إعذار الشيخ بالجهل في أصل الأصول وهو التوحيد وترك الشرك لأن المشركين لا يدخلون عنده في مسمى المسلمين وأن الحنيف هو: الموحد التارك للشرك على عمد وبصيرة واستقام على الشريعة. وهذا المعنى متواتر في نصوص الشريعة ومعلوم بالإضطرار من نصوص المفسرين وإليك الأدلة والبراهين على ذلك. المبحث الثالث: الحنيف التارك للشرك عن قصد وعلم: قال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [آل عمران: 67]. قال الطبري: "ولكن كان حنيفا": يعني: متبعاً أمر الله وطاعته مستقيماً على محجة ¬

(¬1) جـ: 8 ص: 369 لمجموع الفتاوى.

الهدى التي أمر بلزومها، "مسلماً" يعني: خاشعاً لله بقلبه متذللاً له بجوارحه مذعناً لما فرض عليه وألزمه من أحكامه اهـ. وقال القرطبي: الحنيف: الذي يوحد ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة اهـ. وقال ابن كثير: أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان اهـ. وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً). [النساء: 125]. قال الطبري: حنيفاً: أي مستقيماً على منهاجه وسبيله. قال ابن كثير: الحنيف: هو المائل عن الشرك قصداً، أي: تاركاً له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد ولا يرده عنه راد. وقال -تعالى-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [الأنعام: 79]. قال الطبري: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" فقالوا: ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجه. فقال: لا. حنيفاً. قال: مخلصاً لا أشرك كما تشركون اهـ. قال القرطبي: حنيفاً: مائلاً إلى الحق. قال ابن كثير: حنيفاً: أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد. وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [النمل: 120]. قال الطبري: حنيفاً يقول مستقيماً على دين الإسلام اهـ. قال ابن كثير: الحنيف: هو المنحرف قصداً من الشرك إلى التوحيد ولهذا قال: "ولم يك من المشركين" اهـ. وقال -تعالى-: (حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ). [الحج: 31].

قال ابن جرير: يقول -تعالى ذكره-: اجتنبوا أيها الناس عبادة الأوثان وقول الشرك مستقيمين لله على إخلاص التوحيد له وإفراد الطاعة والعبادة له خالصاً دون الأوثان والأصنام ا. هـ. قال القرطبي: حنفاء لله أي: مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق، ولفظة حنفاء من الأضداد تقع على الاستقامة وعلى الميل، وحنفاء منصوب على الحال. وقيل: حنفاء: حجاجاً. وهذا تخصيص لا حجة معه اهـ. قال ابن كثير: حنفاء لله أي: مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصداً: إلى الحق ولهذا قال: "غير مشركين به" اهـ. عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً. وأنّى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم" (¬1). رواه البخاري. قلت: فمن آي القرآن والسنة وبيان المفسرين ثبت أن الحنيف: هو الذي ترك الشرك قصداً وعلى بصيرة ومقبل على الإخلاص وإفراد الله بالتأله دون ما سواه وهو الذي استقام حاله على الإسلام لربه وحده لا شريك له. فهل من ترك التوحيد وانغمس في الشرك وجعل لربه شريكاً في التأله وتنقص الإلهية ¬

(¬1) راجع فتح الباري جـ: 7 ص: 176.

وهضم حق الربوبية يكون متحنفاً أم مشركاً؟. قال ابن تيمية: والضالون مستخفون بتوحيد الله -تعالى- يعظمون دعاء غيره من الأموات وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به كما قال -تعالى-: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً). الآية. فاستهزءوا بالرسول، صلى الله عليه وسلم، لما نهاهم عن الشرك وما زال المشركون يسبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد لما في أنفسهم من عظيم الشرك. وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك لما عندهم من الشرك قال الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). فمن أحب مخلوقاً مثل ما يحب الله فهو مشرك، ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله. فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثاناً تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته ويعظمون ما اتخذوه ما دون الله شفعاء ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذباً. وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره أو غير قبره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عنده مضاهات لمشركي العرب الذين ذكرهم الله في قوله: (وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً). الآية. فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل الله، ويقولون: الله غني وآلهتنا فقيرة. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخشع ويتضرع ما لا يحصل له مثله في الجمعة والصلوات الخمس وقيام الليل، فهل هذا إلا من حال المشركين لا الموحدين. ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الآيات حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات بل يستثقلونها ويستهزئون بها وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (¬1). اهـ. ¬

(¬1) جـ: 15 ص: 48: 50 لمجموع الفتاوى.

المبحث الرابع: التوحيد بالقول والعمل شرط في تحقق النجاة

المبحث الرابع: التوحيد بالقول والعمل شرط في تحقق النجاة: وقال: وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحق الرب من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً بل ولا مؤمناً حتى يشهد: أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة (¬1) اهـ. وقال والحاصل: أن توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر أمور متلازمة مع العمل الصالح. فأهل هذا الإيمان والعمل الصالح: هم أهل السعادة من الأولين والآخرين والخارجون عن هذا الإيمان: مشركون أشقياء. فكل من كذّب الرسل فلن يكون إلا مشركاً، وكل مشرك مكذب للرسل. وكل مشرك وكافر بالرسل فهو كافر باليوم الآخر، وكل من كفر باليوم الآخر فهو كافر بالرسل (¬2) اهـ. وقال -رحمه الله- وهم (أي الفلاسفة) إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا شيء لا يعرفونه. والتوحيد الذي يدعونه: إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات، وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك. فلو كانوا موحدين بالقول والكلام: وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لا بد من أنه يعبد الله وحده ويتخذ إلهاً دون ما سواه وهو معنى قول "لا إله إلا الله" فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون لا موحدون ولا مخلصون؟ .... والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق، فهذا القدر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة: من الإيمان بالله وتوحيده وإخلاص عبادته والإيمان برسله واليوم الآخر والعمل الصالح ... وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملل والإمارة وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئاً إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له ويؤمن برسله وباليوم الآخر وهذه الأمور متلازمة فمن عبد الله وحده لزم أن يؤمن برسله ويؤمن ¬

(¬1) موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول بهامش منهاج السنة النبوية جـ: 1 ص: 133. (¬2) جـ: 9 ص: 32 لمجموع الفتاوى.

باليوم الآخر فيستحق الثواب، وإلا كان من أهل الوعيد يخلد في العذاب هذا إذا قامت عليه الحجة بالرسل (¬1) اهـ. قلت: انظر -رحمك الله- أن النجاة لا تتحقق إلا بالأصول الثلاث: إفراد الله بالعبادة. والتأله والإيمان بالرسل واليوم الآخر مع العمل الصالح وإلا كان من أهل الوعيد إلا أنه لا يخلد في الآخرة في النار إلا بعد قيام الحجة الرسالية وهذا ما سبق الحديث عنه كثيراً بفضل الله وحده أنه لن تدخل الجنة إلا نفس مسلمة، والإسلام هو: إفراد الله بالوحدانية والتأله والكفر بما يعبد من دونه فمن لم يأت بهذا القدر فهو من المشركين ولا عذر له بالجهل والتأويل إلا أنه لا يعذب في الدارين إلا بعد قيام الحجة الرسالية. قال ابن تيمية: فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقاً في كل حال، وفي كل شرع: فعلى العبد أن يعبد الله مخلصاً له الدين ويدعوه مخلصاً له لا يسقط هذا عنه بحال ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل "لا إله إلا الله"- فهذا حق الله على كل عبد من عباده كما في الصحيحين من حديث معاذ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال له: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً". الحديث. فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصاً له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالاً من المشرك فلا بد من عبادة الله وحده وهذا واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولاً وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار ولا يعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولاً فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار (¬2) اهـ. قلت: فهذا بفضل الله بيّن واضح في كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- أن النجاة في الآخرة ¬

(¬1) جـ: 9 ص: 35: 38 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 14 ص: 476: 477 لمجموع الفتاوى.

لمن حقق الأصول الثلاثة: توحيد الله، والإيمان بالرسل، واليوم الآخر، مع العمل الصالح لقول الله -تعالى-: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ولقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "لن تدخل الجنة إلا نفس مسلمة" فمن لم يأت بالتوحيد ووقع في الشرك فهو مشرك لا عذر له في إجراء الأحكام عليه في الدنيا لنقضه حجية الفطرة والميثاق والعقل إلا أنه لا يثبت له وصف الكفر المعذب عليه في الدنيا والآخرة إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية وإن كان فعل قبل الحجة ما يستوجب العذاب -وهذا من فضل الله ورحمته بعباده-. قال ابن تيمية والأنبياء إنما بعثوا بالدعوة إلى الله وحده وقد يذكرون المعاد مجملا ومفصلاً والقصص قد يذكر بعضهم بعضاً مجملاً. وأما الإلهيات فهي الأصل ولا بد من تفصيل الأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه فلا بد لكل نبي من الأصول الثلاثة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (¬1) اهـ. وقال -رحمه الله- "وهو يتحدث عن الفلاسفة وأهل الكلام والقوانين التي وضعوها من المسائل والدلائل التي لا يدخل العبد في الإسلام ولا يحقق أصل الدين إلا بها في زعمهم". قال: فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم وقد لا يحصل لكثير منهم. منها ما يستفيد به الإيمان الواجب فيكون كافراً زنديقاً منافقاً جاهلاً ضالاً مضلاً ظلوماً كفوراً ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقي الملة من الذين قال الله فيهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ). وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق ويكون مرتداً إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه إما ردة نفاق وإما ردة كفر، وهذا كثير غالب لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال. وإذا كان في المقالات الخفيّة فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين. بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- بعث بها وكفّر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى ¬

(¬1) جـ: 17 ص: 125: 126 لمجموع الفتاوى.

الله. من الملائكة والنبيين وغيرهم فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون كرؤوس القبائل مثل: الأقرع وعيينة ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه. ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب وفيهم من لم يكن كذلك. فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة وتارة يعود إليها (¬1) ولكن مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق والحكايات عنهم بذلك مشهورة ... وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتاب في عبادة الكواكب وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام وجميع ما يأمرون به من العلوم والأعمال والأخلاق لا يكفي في النجاة من عذاب الله فضلاً أن يكون موصلاً لنعيم الآخرة قال الله -تعالى-: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ). الآيتين وقال -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ). إلى آخر السورة فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف وأن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل لما رأوا بأس الله وحدوا الله وتركوا الشرك فلم ينفعهم ذلك وكذلك أخبر عن فرعون وهو كافر بالتوحيد والرسالة أنا لما أدركه الغرق: (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ). الآية. وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ). الآيتين. وهذا في القرآن في مواضع يبين أن الرسل أمروا بعبادة الله وحده لا شريك له ونهوا عن عبادة شيء من المخلوقات سواه وأن أهل السعادة هم أهل التوحيد وأن المشركين هم أهل الشقاوة، ويبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسل مشركون، فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان وكذلك الإيمان باليوم الآخر فالثلاثة متلازمة ولهذا يجمع بينهما في مثل قوله: (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ... فقد تبين أن أصل السعادة والنجاة من العذاب هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك ¬

(¬1) هكذا الأصل ولكن السياق يقتضي "إليه".

له والإيمان برسله واليوم الآخر والعمل الصالح وهذه الأمور ليست في حكمتهم ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة المخلوقات. بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد يرجه غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعاً. فتدبر هذا فإنه نافع جداً وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك. وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا شيء لا يعرفونه والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك (¬1) اهـ. قلت: فمن هذه النقول المستفيضة عن شيخ الإسلام نخرج بما يلي: 1 - أن التوحيد شرط في تحقيق الإسلام ولا يصح إسلام عبد إلا به. 2 - أن المشرك في حاجة أن يعلم التوحيد حتى يدخل في الإسلام. 3 - أن المشرك مبتدع في الدين مشرك برب العالمين متبع غير سبيل المؤمنين. 4 - الإسلام هو الاستسلام لله وحده فمن عبد الله وعبد غيره لم يكن مسلماً وكذلك المستكبر عن عبادته. 5 - الإقرار بلا التزام ليس بإسلام، إنما الإسلام الإقرار الإذعاني وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة السنة. 6 - أن توحيد الإلهية هو الذي يفرق بين أهل التوحيد وأهل الشرك وإنما يصير الرجل مسلماً حنيفاً موحداً إذا ترك الشرك عمداً وعلى بصيرة وأفرد الله وحده بالتأله دون ما سواه. 7 - لا نجاة من عذاب الله إلا بالتوحيد والإيمان بالرسالة واليوم الآخر والعمل الصالح ظاهراً وباطناً والمشرك لا يعذب في الدارين إلا بعد قيام الحجة وهو لا ينعم أيضاً لأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة مؤمنة. ¬

(¬1) جـ: 18 ص: 53: 58 لمجموع الفتاوى.

8 - أن الرسل جميعاً فصلوا الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له لأنه أصل الأصول. وقال ابن القيم والإسلام: هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فلما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل (¬1). ا. هـ. وقال محمد بن عبد الوهاب: فاعلم أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم إفراد الله بالعبادة كلها ليس فيها حق لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهم فمن ذلك لا يدعي إلا إياه كما قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18]. فمن عبد الله ليلاً ونهاراً ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله لأن الإله هو: المدعو. كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبد القادر أو غيرهم وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره. ومن ذبح لله ألف ضحية ثم ذبح لنبي أو غيره فقد جعل إلهين اثنين وكما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]. الآية والنسك: هو الذبح وعلى هذا فقس. فمن أخلص العبادات لله ولم يشرك فيها غيره فهو الذي شهد: أن لا إله إلا الله، ومن جعل فيها مع الله غيره فهو: المشرك الجاحد لقول لا إله إلا الله وهذا الشرك الذي أذكره اليوم قد طبق مشارق الأرض ومغاربها إلا الغرباء المذكورين في الحديث (وقليل ما هم) وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم من كل المذاهب (¬2). ا. هـ. وقال -رحمه الله-: اعلم -رحمك الله- أن هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام وهي كلمة التقوى وهي العروة الوثقى وهي التي جعلها إبراهيم (كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) وليس المراد: قولها باللسان مع الجهل بمعناها فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار مع كونهم يصلون ويتصدقون. ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض ما خالفها ومعاداته كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم،: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً" وفي رواية "خالصاً من قلبه". وفي رواية: "صادقاً من قلبه" وفي حديث آخر ¬

(¬1) طريق الهجرتين ص: 411. (¬2) الرسالة العشرون ص: 166: 167 من كتاب -الرسائل الشخصية-.

"من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله". إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة (¬1). ا. هـ. وقال البغوي في قوله الله -عز وجل-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ...) [البقرة: 128]. موحدين مطيعين خاضعين لك. ا. هـ. وقال ابن كثير: قال ابن جرير يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك ولا في العبادة غيرك. ا. هـ. وقال القرطبي في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ) [آل عمران: 19]. الدين في هذه الآية. الطاعة والملة والإسلام بمعنى: الإيمان والطاعات قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين. ا. هـ. وقال البغوي: ... والإسلام: هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة، يقال أسلم أي: دخل في السلم واستسلم قال قتادة في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ). قال: شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا يُجزى إلا به. ا. هـ. وقال ابن كثير: إخبار من الله بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل جين حتى ختموا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد، صلى الله عليه وسلم، فمن لقى الله بعد بعثة محمد، صلى الله عليه وسلم، بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85]. ا. هـ. قلت: فمن هذه الآيات القرآنية والنصوص النبوية مع فهم السلف الصالح لها يظهر -بفضل الله وكرمه ومنّه- أن الإسلام الذي أمرنا الله أن ندين به، وأن نقاتل الناس عليه حتى يدينوا به وأنه الدين المرضي عنده سبحانه دون ما سواه من الأديان وأن دخول الجنة والنجاة من الخلود في النيران مقصور على أهله هو إفراد الله بالتأله والطاعة والعبادة والكفر بكل ما يعبد من دونه مع الانقياد والإذعان له وحده لا شريك له ظاهراً وباطناً وليس هو مجرد النطق بالشهادتين دون الاعتقاد والإيمان بمدلولهما والانخلاع من الشرك إلى التوحيد والتحنف والتزام أحكام الإسلام أي: التزام القبول من الله دون ما سواه. ¬

(¬1) كتاب تاريخ نجد ص: 397.

المبحث الخامس: قبول الأحكام من غير الله شرك في الألوهية والربوبية

المبحث الخامس: قبول الأحكام من غير الله شرك في الألوهية والربوبية: ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). [الأنعام، آية: 121]. قال الطبري: وأما قوله "إنكم لمشركون" يعني إنكم: إذاً مثلهم، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالاً فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين اهـ. وقال القرطبي: فدلت الآية على أن من استحل شيئاً مما حرمه الله صار به مشركاً وقد حرم الله -سبحانه- الميتة نصاً. فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركاً: إذا أطاعه في الاعتقاد فإن أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص فافهموه. ا. هـ. وقال ابن كثير وقوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). أي: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقد متم عليه غيره فهذا هو الشرك كما قال تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ). ا. هـ. قلت: ومن المعلوم أن الشرك هو: اتخاذ إله مع الله وفي هذه الآية لما كان مصدر الاستحلال قبول حكم غير حكم الله أصبح الفاعل مشركاً وقبول حكم غير حكم الله في أية مسألة من المسائل شرك في ألوهية الله لأن الإله: هو الذي يطاع فلا يعصى فيجب أن يفرد المولى -سبحانه- بالطاعة والقبول والولاية. قال تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3]. قال البغوي: أي: لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله -تعالى-. ا. هـ. وقال القرطبي: الثانية- ... والمعنى: لا تعبدوا معه غيره ولا تتخذوا من عدل عن دين الله ولياً. وكل من رضي مذهباً فأهل ذلك المذهب أولياؤه. ا. هـ. وقال ابن كثير: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ). أي: اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل من رب كل شيء ومليكه (وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء). أي: لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره. ا. هـ. قلت: هذا هو المقصود بالانقياد وقبول الأحكام أي: يعتقد ويقبل بشمول حاكمية الله

والتشريع لكافة الخلق وأنه تعالى يحكم لا معقب لحكمه وهذا القبول للأحكام يفترض في كل من نطق بالشهادتين. التصديق والانقياد ركنا الإيمان: قال ابن تيمية: وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف: تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنهم تكذيب، أو صدر عنهم تكذيب باللسان لا بالقلب، وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون ولو أنهم هدوا لما هدى إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل أعني في الأصل قولاً في القلب وعملاً في القلب. فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته. وكلام الله ورسالته يتضمن إخباره وأوامره فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به. والتصديق هو نوع من العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين. فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإن كان مصدقاً. للكفر (¬1) أعم من التكذيب. يكون تكذيباً وجهلاً، ويكون استكباراً وظلماً، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب، ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل. ألا ترى أن نفراً من اليهود جاءوا إلى النبي وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد إنك نبي ولم يتبعوه وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق. ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبراً وأمراً فإنه يحتاج إلى مقام ثان وهو تصديق خبر الله وانقياده لأمر الله فإذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره (وأشهد أن محمداً رسول الله) تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهدتين يتم الإقرار. فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن الأصل الآخر لا بد منه وهو الانقياد. وإلا فقد يصدق الرسول ظاهراً وباطناً ثم يمتنع ¬

(¬1) هكذا في الأصل وإن كان السياق يقتضي وضع "والكفر".

من الانقياد للأمر إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله -سبحانه وتعالى- كإبليس. وهذا مما يبين لك: أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه وكلاهما كفر صريح. ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقاداً لأمره، فإن الانقياد: إجلال وإكرام والاستخفاف: إهانة وإذلال. وهذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر. فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد. عدم قبول الأحكام من الله كفر لا خلاف فيه: الوجه الثالث: أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر. فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند. ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى الله مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفره الخوارج. فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا: أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال: اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة: بعدم اعتقاد أن الله حرمها وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة. وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفراً ممن قبله وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه. ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الأمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس وحقيقته كفر وهذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه وأبغض هذا الحق

وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع بل عقوبته أشد وفي مثله قيل (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه) وهو إبليس ومن سلك سبيله. وبهذا يظهر الفرق بين (¬1) العاصي فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويجب أن يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة فقد أتى من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد وذلك قول وقول لكن لم يكمل العمل (¬2). ا. هـ. قلت: فهذا النقل المستفيض بفضل الله -تعالى- فيه كثير من العبر والفوائد الجمة ويستحق أن يقف القارئ وقفة طويلة مع كل لفظة فيه ليتحقق معانيه وفوائده. وفيه أن الإقرار بالشهادتين يتضمن التصديق والانقياد وهو المقصود بقبول الأحكام أو التصديق الإذعاني، ويلاحظ في كلام الشيخ: أن الزلل والخلط في الأحكام نتيجة عدم ضبط قضية الإيمان. إذ هي ميزان الأحكام وعدم ضبطها يأتي بالتخبط في الأحكام. لذلك رأيت أن أعرض بمشيئة الله على عجالة قبل أن أختم هذا الباب بعض الضوابط والأصول لهذه القضية وفهم أغوارها لأنها أكبر معين على فهم قضية الأحكام. ولأن العلماء نصوا على أنه لا إسلام لمن لا إيمان له ولا إيمان لمن لا إسلام له. ¬

(¬1) هكذا في الأصل وإن كان السياق يقتضي (بينه وبين العاصي). (¬2) الصارم المسلول ص: 458: 459.

الفصل الرابع أركان الإيمان وحدوده

الفصل الرابع أركان الإيمان وحدوده وفيه مبحثان: المبحث الأول: تلازم الإيمان والإسلام. المبحث الثاني: العلم والعمل ركنا الإيمان.

المبحث الأول: تلازم الإيمان والإسلام

الفصل الرابع أركان الإيمان وحدوده المبحث الأول: تلازم الإيمان والإسلام: قال ابن تيمية وقال ابن أبي شيبة: لا يكون إسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام (¬1) ا. هـ. وقال (نقلاً عن ابن عبد البر) فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية فهما شيئان في الأعيان. وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له ولا إسلام لمن لا إيمان له. إذا لا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه. من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان واشترط للإيمان الأعمال الصالحة فقال في تحقيق ذلك: (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ). وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى). فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد. ومن كان مؤمناً بالغيب مما أُخبرت به الرسل عن الله عاملاً بما أمر الله فهو مؤمن مسلم ولولا أنه كذلك لكان المؤمن يجوز أن لا يسمى مسلماً ولجاز أن المسلم لا يسمى مؤمناً بالله. وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن بالله وملائكته وكتبه (¬2). ا. هـ. وقال ابن رجب والتحقيق في الفرق بينهما: أن الإيمان: هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام: هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمى الله في كتابه الإسلام ديناً .... ثم إن الشهادتين من خصال الإسلام بغير ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 329 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 7 ص: 333 لمجموع الفتاوى.

نزاع، وليس المراد الإتيان بلفظهما دون التصديق بهما. فعلم أن التصديق بهما داخل في الإسلام، وقد فسر الإسلام المذكور في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ). بالتوحيد والتصديق طائفة من السلف منهم: محمد بن جعفر بن الزبير. وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام كالأعراب الذين أخبر الله عنهم فإنه ينتفي عنهم رسوخ الإيمان في القلب ونثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل. إذ لولا هذا القدر من الإيمان لم يكونوا مسلمين (¬1). ا. هـ. قلت: فهذه نصوص العلماء متضافرة في أن الإسلام لا بد له من إيمان في الباطن يصححه، وأن الإيمان لا يثبت بدون إسلام في الظاهر ببينه، وهذه المسألة في غاية الخطورة ومنها بعلم قول العلماء أن التلفظ بالشهادتين يحكم لصاحبه بالإسلام وهذا حق لا ريب فيه لكن لا بد لهذا التلفظ من شروط وهي وجود إيمان في الباطن يحقق هذا الإسلام الظاهري كما نص على ذلك العلماء ونحن لم نؤمر بشق بطون الناس والاطلاع على بواطنهم بل أمرنا بمعاملتهم بالظاهر ويفترض في قائلها توفير الإيمان لديه في الباطن وتغيير الاعتقاد. فإذا أظهر ناقضاً حكم الشرع بأنه يستلزم فساد وخلو الباطن من الإيمان وصحيح الاعتقاد قطعنا بفسادهما وتثبت عليه أحكام الردة. لأنه كما قال ابن تيمية لأن الظاهر إنما يكون دليلاً صحيحاً معتمداً إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه (¬2). ا. هـ. الإنخلاع من الشرك والتزام الأحكام حق لا إله إلا الله: قلت: وهذا حكم بالظاهر ومن هنا نعلم -بفضل الله وكرمه- دلالة النصوص المستفيضة وأقوال أهل العلم على أن غاية القتال: الانخلاع من الشرك والبراءة من الطواغيت وإفراد الله بالتأله والطاعة وحده لا شريك له وهو ما سلف ذكره من النصوص المستفيضة ونُقول أهل العلم في هذا المسألة العظيمة: فإن الله أنزل الكتب وأرسل الرسل وخلق الكون بأسره وأقام سوق الآخرة ليعبد جل ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم الطبعة الخامسة ص: 27: 29. (¬2) الصارم المسلول ص: 301.

جلاله -وحده بلا شريك ويدان له بالطاعة ويكفر بكل مطاع سواه ويكون ذلك كله بالقلب والجوارح وجعل علامة هذا الاعتقاد القلبي: التلفظ بالشهادتين في الظاهر. وعند هذا يرفع القتال "إلا بحقها"، ومن المعلوم بيقين أن إفراد الله بالعبادة هو حق "لا إله إلا الله" فإذا ظهر من العبد خلاف ما أقر به عاد القتال لتحقيق غايته. ولو كان المراد من الناس مجرد التلفظ بالشهادتين فقط -دون الانخلاع من الشرك والعبودية بشتى صورها لغير الله كاف فلم قال صلى الله عليه وسلم: "إلا بحقها"؟! إذ لو كان التلفظ هو وحده حقها لكان كل من تلفظ بالشهادتين قد أتى بحقها وكان ذكر هذه اللفظة "إلا بحقها" لغو لا حكم لها ولا حقيقة مترتبة عليها -والعياذ بالله-. ونحن نبرأ بكلام إمام المرسلين -صلى الله عليه وسلم- من ذلك الذي أوتى جوامع الكلم. ويلزم من قائل هذه المقالة تصحيح إسلام وإيمان المنافق لأنه نطق بالشهادتين وهذا هو وحده وحقها! وإن ظهر منه ما يدل على نفاقه مثل سب الله وكتابه ونبيه، صلى الله عليه وسلم، وموالاة الكفار والبراءة من المسلمين والتحاكم لغير الله ورفضه حاكمية الله والمسرة بهزيمة المسلمين والحزن بانخذال المشركين. من سوغ ترك الانقياد للشرع فقد كفر: قال ابن تيمية: ومن قال إن من تكلم بالشهادتين ولم يؤد الفرائض ولم يجتنب المحارم يدخل الجنة ولا يعذب أحد منهم بالنار فهو كافر مرتد يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل بل الذين يتكلمون بالشهادتين "أصناف" منهم منافقون في الدرك الأسفل من النار (¬1). ا. هـ. وقال: وقال حنبل حدثنا: الحميدي: قال وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). الآية. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به من عند الله (¬2). أ. هـ. ¬

(¬1) جـ: 35 ص: 106 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 7 ص: 209 لمجموع الفتاوى.

وقال: قال أحمد بن حنبل: حدثنا خلف بن حيان حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفوراً شديداً منهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك فإنه عاهد الله أن لا يؤويه وإياه سقف بيت إلا المسجد قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وهو يقرأ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ..) فقلت إن لنا حاجة فأخلنا، ففعل. فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين. قال: أو ليس الله -تعالى- يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). فالصلاة والزكاة من الدين، قال فقلت: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة. قال: أو ليس قد قال الله -تعالى- فيما أنزل: (لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ). هذا الإيمان، فقلت: إنهم انتحلوا. وبلغني أن ابن ذر دخل عليك في أصحاب له فعرضوا عليك قولهم فقبلته فقلت هذا الأمر. فقال: لا والله والذي لا إله إلا هو مرتين أو ثلاثاً ثم قال: قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت: يا أبا عبد الله إن لي إليك حاجة فقال سر: أم علانية؟ فقلت: لا بل سر، قال: رب سر لا خير فيه، فقلت: ليس من ذلك فلما صلينا العصر قام وأخذ بثوبي ثم خرج من الخوخة ولم ينتظر القاص فقال: ما حاجتك؟ قال فقلت: اخلني هذا فقال: تنح. قال: فذكرت له قولهم فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". قال: فقلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي وبأن الخمر حرام ونشربها وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح فنثر يده من يدي وقال من فعل هذا فهو كافر (¬1). أ. هـ. حقوق لا إله إلا الله: قلت: فهذا حق لا إله إلا الله: الكفر بما يعبد من دون الله والتزام شرائع الإسلام. وكما نص العلماء من قبل على أنه: لا إسلام لمن لا إيمان له. فإذا نطق العبد بالشهادتين يُفترض في قائلها أنه محقق لشروطها مع توفر الإيمان لديه في الباطن فإذا قام دليل في الظاهر على فساد الإيمان في الباطن قطعنا بفسادهما جميعاً وهذا حكم بالظاهر. ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 204: 205 لمجموع الفتاوى.

المبحث الثاني: العلم والعمل ركنا الإيمان.

المبحث الثاني: العلم والعمل ركنا الإيمان. من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم هو: الركن الأول من أركان الإيمان وهو أصل التصديق والاعتقاد واليقين ولا يتصور وجودهم إلا به فهو سابق عليهم ومصحح لهم جميعاً وأن الالتزام والانقياد وقبول الأحكام من الله وحده هو: ركن الإيمان الثاني وهو عمل القلب. قال القاضي أبو بكر بن العربي وأما من قال: إنه (أي الإيمان) الاعتقاد والقول والعمل فقد جمع الأقوال كلها، وركب تحت اللفظ مختلفات كثيرة ولم يبعد من طريق التحقيق في جهة الأصول ولا في جهة اللغة. أما في جهة اللغة فلأن الفعل يصدق القول أو يكذبه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" فإذا علم: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليتكلم بمقتضي علمه وإذا تكلم بما علم فليعمل بمقتضى علمه فيطرد الفعل والقول والعمل فيقع إيماناً لغوياً شرعياً (¬1). ا. هـ. وقال ابن القيم وها هنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل: والقول قسمان: قول القلب وهو: الاعتقاد، وقول اللسان وهو: التكلم بكلمة الإسلام والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراَ وجهراً ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به ... فإن يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق -كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة ¬

(¬1) أحكام القرآن جـ: 2 ص: 945 لأبي بكر بن العربي.

والانقياد (ثم أخذ الشيخ يتحدث عن الكفر الاعتقادي والعملي والكفر الأكبر والأصغر وكذلك الشرك والظلم والجهل والنفاق ثم قال في ص: 59). فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل: إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها (¬1). ا. هـ. قلت: انظر -رحمك الله- إلى قول الشيخ: إذ التصديق شرط في اعتقادهما وكونها نافعة -أي الشهادتين- ومن المعلوم أن التصديق فرع العلم لذلك قال بعد ذلك أن الجهل منه ما يخرج عن الملة ومنه ما لا يخرج. فإن لم يكن الجهل بقبح الشرك وحسن التوحيد الذي هو أصل الأصول هو الجهل المخرج عن الملة فما هو إذا؟! وأن التصديق لا ينفع إن لم يكن مستلزماً للطاعة والانقياد وأن طاعة القلب تستلزم طاعة الجوارح وعدم انقياد الجوارح يدل على خلو القلب من التصديق المستلزم للطاعة الذي هو حقيقة الإيمان. وأن أهل السنة مجمعون على زوال الإيمان إذا زال عمل القلب، وأن هذا هو موضع المعركة بين: أهل السنة والمرجئة. قال ابن تيمية: فقد علمنا من دينه ضرورة أنه يكفر الشخص مع ثبوت التصديق بنبوته في القلب إذا لم يعمل بهذا التصديق بحيث يحبه ويعظمه ويسلم لما جاء به (¬2). ا. هـ. شروط تحقيق الإيمان: وقال كانوا (أي السلف) يقولون: الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان (¬3) ا. هـ. وقال (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء) وقوله (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية فجعل الله هذه الأمور شرطاً في ثبوت حكم الإيمان فثبت أن الإيمان: المعرفة بشرائط لا يكون معتداً به دونها (¬4). أ. هـ. وقال: وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: قال مالك وشريك وأبو بكر ¬

(¬1) كتاب الصلاة ص: 54. (¬2) جـ: 7 ص: 131 لمجموع الفتاوى. (¬3) جـ: 7 ص: 144 لمجموع الفتاوى. (¬4) جـ: 7 ص: 150 لمجموع الفتاوى.

بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل (¬1). ا. هـ. وقال: قال أحمد: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار. فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء وإن جحد وقال لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء (¬2) ا. هـ. وقال: أمرنا الله أن نقول في الصلاة (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ). وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون". لأن اليهود يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ولا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته والنصارى لهم عبادة وفي قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، لكن بلا علم فهم ضلال. هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح، وهؤلاء لهم قصد في الخبر بلا معرفة له وينضم إلى ذلك الظن، واتباع الهوى فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة ولا قصد نافع بل يكون كما قال تعالى عن مشركي أهل الكتاب: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ). وقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ..). فالإيمان في القلب لا يكون إيماناً بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك كما أنه لا يكون إيماناً بمجرد ظن وهوى بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب وعمل القلب (¬3) ا. هـ. وقال ابن القيم: قالوا: والقلب عليه واجبان لا يصير مؤمناً إلا بهما جميعاً: واجب المعرفة والعلم، وواجب الحب والانقياد والاستسلام. فكما لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب الحب والانقياد والاستسلام بل إذا ترك هذا الواجب مع علمه ومعرفته به كان أعظم كفراً وأبعد عن الإيمان من الكافر جهلاً (¬4). ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 239 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 7 ص: 393 لمجموع الفتاوى. (¬3) جـ: 7 ص: 528: 529 لمجموع الفتاوى. (¬4) مفتاح دار السعادة جـ: 1 ص: 95.

وقال: فإن الإيمان فرض على كل واحد وهو: ماهية مركبة من علم وعمل فلا يتصور وجود الإيمان إلا بالعلم والعمل ... وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على العباد كلهم إلا بالعلم وهل ينال العلم إلا بطلبه (¬1). ا. هـ. قلت: فساعة إقرار العبد بالشهادتين تجري عليه أحكام الإسلام مع افتراض وجود الإيمان في الباطن الذي يصحح له إسلامه -ما لم يلتبس مع إقراره بشرك ظاهر أو دليل على عدم تغير الاعتقاد -فإن عبد غير الله بعد إقراره، أو والى المشركين ونصرهم وأحبهم، أو تحاكم إلى الطاغوت أو استهزأ بشيء من آيات الله، أو سوغ اتباع شريعة غير شريعة الله أو تولى عن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يلتزم طريقه ومنهاجه، أو سوغ طريقاً إلى الله غير طريقه. علمنا بهذا الظاهر فساد أصل الإيمان في الباطن. إما بسبب تخلف العلم الذي هو أحد ركني الإيمان وهو قول القلب أو تخلف الانقياد والمحبة وهو شقه وركنه الثاني وهو عمل القلب. وبفساد الإيمان الذي هو شرط كما نص العلماء لصحة الإسلام يفسد أيضاً الإسلام ويكون العبد بهذا كافراً في الظاهر والباطن وهذا لنقضه الشهادتين اللتين هما أصل الدين خاصة. قال ابن رجب: من أقر بالشهادتين صار مسلماً حكماً فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام، ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف معروف مشهور بين العلماء وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس (¬2). ا. هـ. وقبل أن أختم هذا الباب بمشيئة الله وعونه سأذكر رؤوس المسائل التي جاءت فيه: 1 - إن الانتقال من الشرك والكفر إلى الإسلام ورفع السيف عن رؤوس المشركين شرطه الانخلاع من الشرك وإفراد الله بالطاعة والتأله له وحده لا شريك له. 2 - العلم بالشهادتين شرط في الانتقال لأنه لا يتم الانخلاع من الشرك إلى التوحيد إلا به. 3 - التزام التوحيد والإسلام في الظاهر متابعة للآباء المتابعة المحضة دون اعتقاده في الباطن لا ينفع صاحبها في الآخرة. ¬

(¬1) المصدر السابق جـ: 1 ص: 156. (¬2) جامع العلوم والحكم ص: 23.

4 - المشرك جاهل بالله لا يعرفه ولا يعبده، بل هو عابد للشيطان وإن زعم غير هذا أياً كان هذا المشرك. 5 - العبادة لا تكون ولا تقع إلا بشرطين وهما: إفراد الله بالتأله وحده لا شريك له وأن يكون حال العبد الاستسلام لله وحده. 6 - هناك صفات لله من جهلها جهله ولم يعرفه. وأول واجب على جميع العباد العلم بهذه الصفات التي بها تعلم ألوهية الله، ويخرج العبد بها من عبادة الآلهة إلى عبادة الله الواحد القهار. 7 - لا نجاة لعبد في الآخرة إلا بالنطق بالشهادتين مع العلم بمدلولهما والتصديق واليقين مع التزامهما في الظاهر والباطن. 8 - الإسلام هو الاستسلام لله وحده وإفراده بالطاعة فمن عبده وعبد معه غيره لم يكن مسلماً ومن لم يعبده فهو مستكبر عن عبادته وكلاهما كافر بربه. 9 - الإقرار بالرسالة يلزم الانقياد لها وإلا كان فاسداً لا حقيقة له ولا تجري به الأحكام. 10 - الحنيف هو: التارك للشرك قصداً وعلى بصيرة للاستسلام لله وحده. 11 - الشرك هو: عبادة غير الله والحجة على بطلانه الميثاق والفطرة والعقل، وصاحبه لا يعذب في الدارين إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وكذلك لا ينعم في الآخرة وليس بمسلم في الدنيا حتى: يوحد الله الواحد القهار ويكفر بما يعبد من دونه. 12 - قبول الأحكام من غير الله ورسوله شرك وقبول للتأله من دون الله. 13 - من عصى الله مستكبراً كفر بالاتفاق، ومن عصاه مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة ولا يكفره إلا الخوارج. لأن العاصي المستكبر متمرد على حاكمية الله ومتعد حد العبودية التي خلق لها. 14 - الإسلام لا يقبل إلا بإيمان في الباطن يصححه والإيمان لا ينفع إلا بإسلام في الظاهر يبينه وإلا كان ادعاء، والإيمان هو: الإقرار والمعرفة والالتزام. 15 - النطق بالشهادتين يجري به الأحكام في الدنيا -ما لم يُلتبس بهما شرك أو دليل ظاهر على عدم تغير الاعتقاد- ويُفترض في قائلها توفر الإيمان في الباطن لديه الذي يصحح له إسلامه فإذا أتى بناقض علمنا به فساد الإيمان وبالتالي فساد الإسلام لديه.

16 - من حكم بأن كل من نطق بالشهادتين دون التزام أنه من أهل الجنة ولا يعذب بالنار فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه لأنه يلزم من هذا تسويغ النفاق. وقبل أن أختم هذا الفصل -أقدم عذري لك أخي القارئ على إطالة هذا الفصل ولكني أردت أن أثبت فيه أن هذه القضية التي نحن بصددها قد تضافرت عليها النصوص والدلائل من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها وأنها عقيدة موروثة من الكتب السماوية والرسالات لذلك عرضتها من أوجه كثيرة لأن الأمر إذا تكرر تقرر. فتارة عرضتها من خلال دلالات النصوص عليها بفهم سلف الأمة، وتارة من خلال أقوال السلف الصالح وتوصيفهم إياها، وتارة من خلال علاقتها وارتباطها بقضية الإيمان، وتارة من خلال فهم معنى التأله والعبادة وما هذا كله إلا لتحديد حقيقة الإسلام لنستقيم عليها، وندعو الناس لها لتحقيق النجاة لهم، وللقضاء على جرثومة الارجاء التي أسلمت الأمة فريسة سهلة لأعدائها وخرجت أجيالاً تعتقد أن الإسلام هو: مجرد التلفظ بالشهادتين دون البراءة من الشرك والمشركين. وأن مجرد التلفظ بها فقد دون الانخلاع من الشرك كاف في تحقيق النجاة في الدارين. ونتج عن هذا أن دخلت علينا جميع وشتى ألوان الشرك والإلحاد دون نكير من العلماء والعباد والدعاة -إلا من رحم الله "وقليل ما هم"- وإلى الله المشتكي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبهذا انتهى هذا الفصل -بفضل الله وعونه وكرمه-. * * *

الباب الثالث الردة وعدم تأثير عارض الجهل فيها

الباب الثالث الردة وعدم تأثير عارض الجهل فيها وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: الأدلة من القرآن الكريم على عدم تأثير عارض الجهل في الردة. الفصل الثاني: الأدلة من السنة المطهرة على عدم تأثير عارض الجهل في الردة. الفصل الثالث: باب الردة من كتب السلف.

الفصل الأول الأدلة من القرآن الكريم على عدم تأثير عارض الجهل في الردة

الفصل الأول الأدلة من القرآن الكريم على عدم تأثير عارض الجهل في الردة وفيه ثلاث مباحث: المبحث الأول: الجهل أساس النفاق وعلته. المبحث الثاني: حكم المستهزئ بآيات الله. المبحث الثالث: تنزيل آيات الكفار على من فعل فعلهم من المسلمين.

المبحث الأول: الجهل أساس النفاق وعلته

الفصل الأول الأدلة من القرآن الكريم على عدم تأثير عارض الجهل في الردة المبحث الأول: الجهل أساس النفاق وعلته: الدليل الأول: قوله تعالى في سورة البقرة: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ). قال الطبري: وفي هذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عناداً بعد علمه بوحدانيته وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذاباً أليماً بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه واعتقاد الكفر به وبما كانوا في زعمهم أنهم مؤمنون وهم على الكفر مصرون ا. هـ. وقال القرطبي الآية (وَمَا يَشْعُرُونَ). أي: يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نحوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا وفي الآخرة يقال لهم: (ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ). على ما يأتي ا. هـ. وقال الشوكاني في قوله تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) .. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص ظنوا أن ذلك يتفق على النبي -صلى الله عليه وسلم- وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحا لما استقر في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام .... وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إذا ركبوا معصية. فقيل: لهم

لا تفعلوا كذا قالوا: إنما نحن على الهدى. وأخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان أنه قرأ هذه الآية. فقال: لم يجيء أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. انتهى. ويحتمل أن سلمان يرى (هذا كلام الإمام الشوكاني) أن هذه الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة ... (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء) يقول: الجهال (وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) يقول: لا يعقلون ا. هـ. وقال البغوي: (وَمَا يَشْعُرُونَ) أي: لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم .. (وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) أي: لا يعلمون أنهم مفسدون لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح وقيل: لا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب ا. هـ. وقال ابن كثير وقوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا). أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك. وأن ذلك نافعهم عنده وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ...) ... (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ). إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ). يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه صلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً .. (وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمي والبعد عن الهدى .. (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ...). وهذا مثل آخر ضربه الله -تعالى- لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (كصيب). ا. هـ.

أنواع المنافقين وأحوالهم: وقال ابن تيمية: وقول من قال: (أو) هنا للتخيير -كقولهم: جالس الحسن أو ابن سرين- ليس بشيء لأن التخيير يكون في الأمر والطلب لا يكون في الخبر .. والمقصود تفهيم المؤمنين حالهم ويدل على ذلك أنه قال في "المثال الأول" (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وقال في "الثاني" (يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم ...) فبين في "المثل الثاني" أنهم: يسمعون ويبصرون ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، وفي "الأول" كانوا يبصرون ثم صاروا في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي وفي "الثاني" إذا اضاء لهم البرق مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا فلهم "حالان": حال ضياء وحال ظلام، والأولون بقوا في الظلمة. فالأول: حال من كان في ضوء فصار في ظلمة. والثاني: حال من لم يستقر لا في ضوء ولا في ظلمة بل تختلف عليه الأحوال التي توجب مقامه واسترابته. يبين هذا أنه سبحانه ضرب للكفار أيضاً مثلين بحرف "أو" فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) "فالأول" مثل الكفر الذي يحسب صاحبه أنه على حق وهو على باطل، كمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم، فلهذا مثل بسراب بقيعة و "الثاني" مثل الكفر الذي لا يعتقد صاحبه شيئاً بل هو في ظلمات يعضها فوق بعض من عظم جهله لم يكن معه اعتقاد أنه على حق، بل لم يزل جاهلاً ضالاً في ظلمات متراكمة. و"أيضاً" فقد يكون المنافق والكافر تارة متصفاً بهذا الوصف وتارة متصفاً بهذا الوصف، فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم .. فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطناً وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب: منها أمر القبلة لما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ...) لنمتحن بتحويلك عنها الناس فيتبين من يتبع الرسول

ممن ينقلب على عقبيه، فكان في شرعها هذه الحكمة، وكذلك أيضاً لما انهزم المسلمون يوم أحد، وشج وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكسرت رباعيته. ارتد طائفة نافقوا قال تعالى: (.. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) وقال تعالى: (.. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ..). فقوله: (وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ) ظاهر فيمن أحدث نفاقاً وهو يتناول من لم ينافق، قيل ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانياً. وقوله: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) يبين لهم أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا وإما أن يكونوا للإيمان أقرب. وكذلك كان، فإن ابن أبي لما انخذل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد انخذل معه ثلث الناس قيل: كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق. وفي الجملة: ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا، فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان. ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق أكثرهم أو كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً. وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين. وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً لكن إيماناً لا يثبت على المحنة (¬1) ا. هـ. قلت: ومن هذه الآيات بفهم السلف الصالح لها يعلم أن المنافقين أجناس كثيرة. منهم من كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويظن أنه على صلاح وأن أمره هذا سيروج على الله (والعياذ بالله من هذا) كما راج على النبي -صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا، وهذا لجهلهم بالله. ولم يعلموا أنه -جل ثناؤه- قد أحاط بكل شيء علما وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 276: 281 لمجموع الفتاوى.

ومنهم من يتردد بين الإيمان والنفاق لما يعتريه من الشكوك وليس لديه من العلم النافع ما يدفعها ويدحضها فتارة يكون مؤمناً إذا جاءه الوضوء، ثم إذا ذهب عنه وحل محله الظلام وقع في النفاق. ومنهم من يكون مؤمناً ظاهراً وباطناً إلا أن إيمانه ضعيف لا يثبت على المحنة والبلاء فإذا أحاط به البلاء ارتد على عقبيه كالذين ارتدوا ساعة تحول القبلة وساعة أسرى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك يوم أحد نافق كثير منهم لم يكونوا من قبل منافقين وقد جاء ذكر هذا الصنف في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) [الحج: 11]. ثبت في البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء. قال مجاهد: (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) أي: ارتد كافرا (¬1). فهذا الرجل الذي جاء مهاجراً ليدين بالإسلام ظاهراً وباطناً وجعل خير القدر علامة على صحة هذا الدين وشره علامة على بطلانه فارتد عن الإسلام بنوع من الجهل والتأويل. وقد أنزل العلماء هذه النصوص في أهل البدع بجامع: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ). كما قال الإمام الشنقيطي عند تفسير هذه الآيات: والآية التي نحن بصددها وإن كانت في المنافقين. فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب (¬2) ا. هـ. فكل من كان على عمل فاسد يظنه صلاحاً وأنه بهذا العمل من صفوة الله من خلقه وهو في حقيقة الأمر لا يزداد به من الله إلا بعداً ومقتاً تشمله هذه الآيات التي نحن بصددها سواء كان هذا العمل ابتداع أم إشراك بالله وهؤلاء الأجناس جميعاً يحسبون أنهم على شيء. ولهذا يقول جل ثناؤه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ). [المجادلة: 18]. قال القرطبي: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة .. وعن ابن عباس قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يناد مناد يوم القيامة ¬

(¬1) راجع تفسير ابن كثير. (¬2) أضواء البيان في قوله تعالى: (.. فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ..).

أين خصماء الله فتقوم القدرية مسودة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا وثناً ولا اتخذنا من دونك إلهاً" قال ابن عباس: صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ). هم والله القدرية ثلاثاً ا. هـ. وقال الطبري: وقوله (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) يقول: ويظنون أنهم في أيمانهم وحلفهم بالله كاذبين على شيء من الحق ا. هـ. وقال ابن كثير: أي: يحلفون بالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ويعتقدون: أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ولهذا قال: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ). أي: حلفهم ذلك لربهم عز وجل ا. هـ. وقال الشوكاني: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) أي: يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا ا. هـ. قلت: فهذه النصوص بأقوال أهل العلم شاهدة: بأن آفة جميع المنافقين الجهل والتأويل وظنهم أنهم على شيء يظنونه صلاحاً، وأنهم به أهل العقل دون غيرهم ممن ليس على معتقدهم وأنهم بهذا ناجون في الدنيا والآخرة. وهم بهذا لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون وأعيد في هذا المقام قول الإمام الطبري السابق ذكره: وفي هذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عناداً بعد علمه بوحدانيته وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك -وتعالى- عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون وأخبر تعالى ذكره: أن لهم عذاباً أليماً بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه واعتقاد الكفر به، وبما كانوا في زعمهم أنهم مؤمنون وهم على الكفر مصرون".

وقول الإمام الشنقيطي: "والآية التي نحن بصددها وإن كانت في المنافقين. فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب". ومن الأمثلة على هذا: حادثة ذي الخويصره التميمي أصل الخوارج عندما اعترض على قسمة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونسبه إلى الجور -والعياذ بالله- وقال له: اعدل يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال هذا القول لأنهم كانوا لا يعتقدون: عصمة الأنبياء -عليهم السلام- ثم رأى منكراً في ظنه فأنكره فظهر نفاقه وكفره بهذا الإنكار، وهو لا يشعر ولا يعلم بكفره ونزل قول الله -تبارك وتعالى-: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ). قال ابن تيمية في هذه الآية: واللمز: العيب والطعن قال مجاهد: يتهمك ويزريك. وقال عطاء: يغتابك وقال تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) [التوبة: 61]. الآية وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن (الذين) و (من) اسمان موصولان وهما من صيغ العموم. والآية وإن كانت نزلت بسبب لمز قوم أو إيذاء آخرين فحكمهما عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله .. وأيضاً فإن كونه منهم حكم متعلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده .. وذلك أن الإيمان والنفاق أصله في القلب وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليله عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي -صلى الله عليه وسلم- والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقاً سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول (¬1) ا. هـ. قلت: ويدخل في هذا أيضاً من يظن من أهل الكلام أنه لا يحتاج إلى علم الشريعة إلا في الأمور العملية دون العلمية الاعتقادية -أي: أنه ليس في حاجة في علم العقيدة للشريعة ولا يتقيد بحدودها. ¬

(¬1) الصارم المسول ص: 30.

المبحث الثاني: حكم المستهزئ بآيات الله

وكذلك أهل التصوف الذين يعتقدون أن الولي خير من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من يظن أن ثمّ طريق آخر إلى الله دون طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-. وكذلك من يعتقد أن علم الشريعة وحدودها للعوام دون الخواص، ومن يظن أن شيخه ليس مناطاً بالتكاليف الشرعية لأنه قد وصل إلى علم اليقين وهذه المرتبة عندها تسقط التكاليف محتجاً بقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). فهؤلاء جميعاً ومن على شاكلتهم ينطبق عليهم قول الله -جل ثناؤه-: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ). وهؤلاء كلهم قد ثبت بأقوالهم نفاقهم سواء كان صاحبه منافقاً قبل هذا القول أو حدث له النفاق به -والله أعلم-. المبحث الثاني: حكم المستهزئ بآيات الله: الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ...) [التوبة: 65، 66]. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جد أو هزلاً، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو الحق والعلم والهزل أخو الباطل والجهل (¬1) ا. هـ. وقال القرطبي: قوله تعالى: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). على جهة التوبيخ كأنه يقول: لا تفعلوا ما لا ينفع ثم حكم عليهم بالكفر وعدم والاعتذار من الذنب. ا. هـ. وقال البغوي: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) فإن قيل: كيف قال: كفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين؟ قبل: معناه أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتهم الإيمان. ا. هـ. وقال ابن كثير: قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرطبي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبنا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته فقال: ¬

(¬1) أحكام القرآن جـ: 2 ص: 976، 977.

يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنا كنا نخوض ونلعب فقال: (أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) إلى قوله: (مُجْرِمِينَ) ... وقوله: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: بهذا المقال الذي استهزأتم به. ا. هـ. وقال الطبري: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) يقول -تعالى ذكره - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. قل لهؤلاء الذي وصفت لك صفتهم لا تعتذروا بالباطل فتقولوا: كنا نخوض ونلعب "قَدْ كَفَرْتُم" يقول: قد جحدتم الحق بقولكم ما قلتم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به "بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" يقول: بعد تصديقكم به وإقراركم به ا. هـ. رسوخ النفاق بدون قصد وشعور: وقال ابن تيمية: (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ...). فقد أمره أن يقول لهم: قد كفرتم بعد إيمانكم وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: أنهم كفروا بعد إبمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا ... (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). فاعترفوا واعتذروا، ولهذا قيل: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ...) فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً وكان كفراً كفروا به فإنهم لم يعتقدوا جوازه، وهكذا قال غير واحد من السلف: في صفة المنافقين الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة أنهم أبصروا ثم عموا وعرفوا ثم أنكروا وآمنوا ثم كفروا. وكذلك قال قتادة ومجاهد: ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول وذهاب نورهم (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 271: 274 لمجموع الفتاوى.

وقال أيضاً: (.. وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ..) فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر. ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام ولو كان الإيمان في قلبه منعه من أن يتكلم بهذا الكلام (¬1). ا. هـ. قلت: انظر -رحمك الله- إلى هذا النص القرآني القطعي الدلالة على كفر هذه الطائفة ومن المعلوم بالاضطرار من النصوص أن هذا الحكم عام في كل من اقترف ما فعلوه أو ما هو من جنسه وليس بمقصور على هؤلاء. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذا باتفاق المفسرين، وإلا -والعياذ بالله من ذلك- انتفت حجية القرآن لأنه ما من آية من آي القرآن هذا في جله ومعظمه إلا ولها سب اقتضى نزولها فلو قصر حكمها على سببها لم تبق آيات يلزمنا حكمها. وقد اتفق المفسرون عند تأويل هذه الآية على أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا المقال الخبيث الذي قالوه، واختلفوا هل الإيمان السابق هو الإيمان باللسان دون القلب أم بالقلب واللسان جميعاً؟ وعلى الاحتمالين يتم الاستدلال -بفضل الله وحده-. فعلى القول الأول: أن القوم كانت تجري عليهم أحكام الإسلام بالنطق بالكلمة العاصمة مع افتراض وجود الإيمان في الباطن بهذه الكلمة من الانقياد والمحبة والتوقير لله ولدينه ولرسوله لأنه كما ذكرت سابقاً أنه لا إيمان لمن لا إسلام له ولا إسلام لمن لا إيمان له. وبهذا النطق جرت عليهم أحكام الإسلام حتى قالوا: هذه المقالة الخبيثة، فبها ولأجلها جرت عليهم أحكام الكفر، وانتقلوا من الإيمان في الظاهر إلى الكفر في الظاهر والباطن بيقين لأنهم قالوها اختياراً ولم يكرهوا عليها فعلم بهذا انشراح الصدر بها في الباطن لقوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً). الآية ولو كان الإيمان في قلوبهم لمنعهم من التكلم بهذا. ومن ظن أن هذا حكم خاص بأعيان المنافقين أي: قد علمنا نفاقهم بهذا السب ولم يكفروا به وبالتالي فهذه الدلالة ليست مؤثرة ولا مطردة في الكفر. ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 220 لمجموع الفتاوى.

فالجواب: (1) أن هذا يعني: أن المقالة لم تؤثر في الحكم بالكفر عليهم وهذا خلاف نص القرآن "لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ". (2) أن القرآن (والعياذ بالله من ذلك) ربط الحكم بغير مؤثر وغفل عن ذكر المؤثر الحقيقي. (3) من المعلوم بالاضطرار من الشريعة أن الوحي لا دخل له في إجراء الأحكام حتى لا يشوش على الخواطر، وإنما أساس هذا هو الظاهر من الأقوال والأعمال. (4) وقوله تعالى: (قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). فهذا الإيمان إما أن يكون الإيمان في الباطن وإما أن يكون الإيمان في الظاهر فقط. وعلى الاحتمالين يتم الاستدلال فإن القوم كانوا من قبل يعاملون معاملة المسلمين ثم كفروا بعد إيمانهم بهذا المقال الخبيث. فإن كان القوم كفاراً من قبل هذا فلم أخّر الشرع الحكم عليهم بالكفر إلى هذا الوقت؟ ولم رتب الحكم على وصف غير مؤثر فيه؟ ولم اعتذر القوم من هذا المقال وهم لم يكفروا بسببه؟ ولا خروج من هذا إلا بفهم السلف الصالح أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا المقال الخبيث ويكون هذا الحكم عاماً مطرداً في كل من اقترف فعلهم سواء أكان الإيمان المذكور في الآية هو الإيمان الظاهري مع خلو القلب منه، أو أنه الإيمان في الظاهر والباطن وهذا الذي يحمل لواءه الإمام ابن تيمية: أن القوم كان لديهم من قبل هذا إيمان ضعيف وقالوا هذا المقالة من غير اعتقاد لها، جاهلين بأنها تكفرهم، عالمين بحرمتها، ظانين أن الخوض واللعب لا يقع به الكفر ولا يكون إلا مع الجد من القول، وأن الخوض واللعب عارض يمنع وقوع الكفر كالإكراه. والشرع لم يكذبهم في ادعائهم الخوض واللعب كما كذب المنافقين في كل ادعاءاتهم الكاذبة فعلم صدق ادعائهم الخوض واللعب دون الجد والقصد. ولكن أخبرهم الشرع أنهم -بهذه الحالة من القول مع الخوض واللعب- كفروا به بعد إيمانهم ولم يعتبر جهلهم وعدم قصدهم الكفر فانتبه. وفي هذا الحذر كل الحذر الشديد للمسلم الجاد في دينه أن يقول الكلمة لا يلقى لها بالاً فتهوى به في جهنم والعياذ بالله من ذلك، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المبلغ الأمين الحريص على الأمة حينما حذرها في الحديث الصحيح "هل يكب الناس على وجوههم

في النار إلا حصائد ألسنتهم" (¬1). قال ابن تيمية، وأيضاً فهؤلاء القائلون: بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفراً في الباطن ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً. قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب في الباطن وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك. فيقال لهم: معنا أمران معلومان (أحدهما) معلوم بالاضطرار من الدين و (الثاني) معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل. من تكلم بالكفر طائعاً غير مكره فهو كافر في الظاهر والباطن: أما "الأول": فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعاً بغيره كره. بل من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً وأن من قال: أن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر في الظاهر فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين. وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقاً وقد تكون كذباً، بل كان ينبغي أن لا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة وهذا كقوله تعالى: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ) (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وأمثال ذلك. وأما الثاني: فالقلب إذا كان معتقداً صدق الرسول، وأنه رسول الله وكان محباً للرسول معظماً له. امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب (¬2). ا. هـ. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد والترمذي (باب الإيمان) وابن ماجة- باب كف اللسان في الفتنة وصححه الألباني راجع صحيح سنن ابن ماجه جـ: 2 ص: 359 - باب كف اللسان في الفتنة. (¬2) جـ: 7 ص: 557 لمجموع الفتاوى.

وقال ابن تيمية: قوله سبحانه: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ... وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ...). وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاداً أو هازلاً فقد كفر (¬1). ا. هـ. قلت: انظر -رحمك الله- إلى إنكار ابن تيمية على من يقول: بأن من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره أنه كافر في الظاهر دون الباطن أنه قال: قولاً معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام فكيف بمن يقول: ليس بكافر في الظاهر والباطن. قال ابن تيمية: أن من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله. هذا مذهب عليه عامة أهل العلم. قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- القتل، وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي قال: وحكي عن النعمان لا يقتل يعني الذي هم عليه من الشرك أعظم. وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل كما أن حد من سب غيره الجلد. وهذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين، أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب قتله إذا كان مسلماً- وكذلك قيده القاضي عياض فقال: أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره، وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو دفع شيئاً مما أنزل الله -عز وجل- أو قتل نبياً من أنبياء الله -عز وجل- أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله. قال الخطابي: لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمتنقص له كافر والوعيد جاء عليه بعذاب الله له وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر. وتحرير القول فيه: أن الساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب ¬

(¬1) الصارم المسلول ص: 28.

الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره (¬1) ا. هـ. وقال -رحمه الله أيضاً-: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل (¬2) ا. هـ. قلت: فهذا حكم من سب الله أو آياته أو رسوله -والعياذ بالله-. وقبل الانتقال من هذه النقطة أود الإشارة إلى أمر دقيق -حتى لا يأتي التناقض في هذه المسألة-. أن النطق: بكلمة الكفر كفر في الظاهر والباطن وإن لم يقصد صاحبها الكفر. لكن إن جهل معنى الكلمة وتلفظ بها فهذا لم يقصد المعني المقتضى للكفر فلا يكفر لأنه لم يقصد الكفر بمعنى لم يقصد المعنى الكفري للفظه كمثل رجل يقول: نحن نريد الديمقراطية ظناً من أنها تعني: الشورى. فهذا لا يكفر. بخلاف من يقولها وهو يعلم أن معناها هو: حكم الشعب نفسه بنفسه. فهذا يكفر وإن لم يقصد الكفر. وكمن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا بمعنى: إرعاء السمع فهذا لا يكفر. بخلاف من يقول له: راعنا من باب الدعاء والتنقص (والعياذ بالله) فهذا يكفر كفراً ظاهراً وباطناً وإن لم يعلم أن هذا كفر ولم يقصده. لذلك أحياناً يأتي في كلام العلماء أن من قال أو فعل الكفر يكفر وإن لم يقصده. قال ابن تيمية: وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله ا. هـ. وأحياناً يقولون: لا يكفر إلا إذا قصد الكفر فيكون مقصودهم المعنى المترتب الكفر عليه، لا الكفر ذاته. لأنه كما قال الشيخ: لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله (¬3). وسئل محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- عن مسائل: الأولى قوله في باب حكم المرتد أو استهزأ بالله وكتبه أو رسله كفر وما وصف هذا الاستهزاء المكفر؟ .... ¬

(¬1) الصارم المسلول ص: 5. (¬2) الصارم المسلول ص: 451. (¬3) الصارم المسلول ص: 154.

المبحث الثالث: تنزيل آيات الكفار على من فعل فعلهم من المسلمين

الرابعة: قوله أو نطق بكلمة كفر ولم يعلم معناها فلا يكفر ذلك. هل المعنى: نطق بها ولم يعرف شرحها أو نطق بها ولم يعلم أنه تكفره؟ فأجاب. فالمسألة الأولى: قد استدل العلماء عليها بقوله تعالى في حق بعض المسلمين المهاجرين في غزوة تبوك: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). وذكر السلف والخلف: أن معناها عام إلى يوم القيامة فيمن استهزأ بالله أو القرآن أو الرسول وصفة كلامهم أنهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء. يعنون بذلك: رسول الله والعلماء من أصحابه، فلما نقل الكلام عوف بن مالك أتى القائل يعتذر أنه قاله على وجه اللعب كما يفعل المسافرون. فنزل الوحي أن هذا كفر بعد الإيمان ولو كان على وجه المزح. والذي يعتذر يظن أن الكفر إذا قاله جداً لا لاعباً .. الرابعة: إذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه، وأما كونه أنه لا يعرف أنها تكفره فيكفي فيه قوله: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). فهم يعتذرون للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظانين أنها لا تكفرهم، والعجب ممن يحملها على هذا وهو يسمع قوله تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ). أيظن أن هؤلاء ليسوا كفاراً؟ لكن لا تستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل لأجل غربتها. (¬1) ا. هـ. المبحث الثالث: تنزيل آيات الكفار على من فعل فعلهم من المسلمين: قلت: انظر -رحمك الله- إلى تنزيل الشيخ محمد بن عبد الوهاب للآيات التي جاءت في ذكر الكفار الأصليين على من فعل فعلهم من المسلمين. لأنه عند الاحتجاج بمثل هذه الآيات يرد فريق من الناس: أن هذه الآيات في الكفار الأصليين لا في المسلمين مستدلين خطأ بأقوال السلف في ذمهم للخوارج على أنهم أخذوا آيات نزلت في الكفار وحملوها على المسلمين وهذا صحيح. والفرق بين المسألتين أن الآيات التي احتج بها الخوارج وهي آيات الحاكمية نزلت في أناس من أهل الكتاب امتدت يدهم الخبيثة إلى تبديل الحدود ¬

(¬1) المسألة (16) ص: 447: 452 من كتاب تاريخ نجد.

فجعلوا حداً للزنا مكان حد الله سبحانه فنصبوا أنفسهم شركاء لله بنص القرآن (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ). فحكم عليهم القرآن بكفرهم لفعلهم الخبيث، لا لأنهم أهل كتاب -لأن هذا الوصف لا يوصف بذم ولا يبني عليه أحكام بل كما أخبر القرآن أن منهم أمة مقتصدة في كثير من الآيات فلو حكم القرآن بكفرهم لأنهم أهل كتاب لكان التناقض (والعياذ بالله من ذلك). ولكن كان مناط كفرهم هو: فعلتهم الخبيثة، فجاءت الخوارج فأنزلت هذه النصوص على أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عندما حكما في دماء المسلمين بالقرآن من قبل علي ومعاوية رضي الله عنهما وقالوا: حكموا الرجال والله يقول: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). فحكموا بكفر علي ومعاوية رضي الله عنهما ومن والاهما فأنكر السلف عليهم هذا وقالوا: إنهم عمدوا لآيات نزلت في الكفار فأنزلوها على المسلمين، وحق لهم هذا الإنكار لأن الخوارج أنزلوا الآيات التي جاءت في ذكر الكفار على أفعال ليست هي من جنس أفعالهم. ولكن من أنزل الآيات التي جاءت في ذكر الكفار على من فعل فعلهم من المسلمين فأين هذا من هذا؟ بل هذا متواتر في كتب العلماء. قال ابن القيم في قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ: 22، 23]. والقرآن: مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنونه في نوع، وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً. وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله: إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم: كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية" (¬1). ا. هـ. ¬

(¬1) مدارج السالكين جـ: 1 ص: 351.

وقال ابن كثير في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف: 103 - 104] قال البخاري ... عن عمرو بن مصعب قال سألت أبي -يعني سعد بن أبي وقاص- عن قول الله: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً). أهم الحرورية؟ قال: لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية- الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين، وقال علي بن أبي طالب والضحاك وغير واحد. هم الحرورية. ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه: أن الآية تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء. بل هي أعم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية. وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود كما قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ، تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً) [الغاشية: 2 - 4]. وقال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) [الفرقان: 23]. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ...) [النور: 39]. وقال في هذه الآية الكريمة: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) أي: نخبركم (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) ثم فسرهم فقال: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي: يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون ا. هـ. وقال الطبري فيها: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله -عز وجل- عنى بقوله: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً). كل عامل عملاً يحسبه فيه مصيباً وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض وهو بفعله ذلك لله مسخط وعن طريق الإيمان به جائر: كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالهم وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة من أهل أي دين كانوا ... وقوله (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) يقول: هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة بل كان

على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به "وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون وفيما ندب عباده إليه مجتهدون. وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه: لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله -تعالى- ذكره- أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالاً وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال: الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه كانوا مثابين مأجورين عليها ولكن القول بخلاف ما قالوا. فأخبر -جل ثناؤه- عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة. ا. هـ. وقال القرطبي: الأولى -قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً). الآية. فيه دلالة على أن: من الناس من يعمل العمل وهو يظن أن محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي: إما فساد الاعتقاد أو المراءاة والمراد هنا الكفر. ا. هـ. قلت: فهذه نصوص العلماء في غاية الوضوح والبيان في تنزيل الآيات التي جاءت في الكفار الأصليين على من فعل فعلهم من المسلمين، ولولا خشية الإطالة لسردت منها الكثير وقبل الانتقال من هذه المسألة يجب الإشارة إلى مسألة تنقيح المناط والبحث عن العلة التي هي الوصف المناسب المؤثر في الحكم، لأن العلة تدور مع الحكم وجوداً وعدماً فكثير من الناس قد يستنبطون وصفاً يظنونه هو العلة ولا يكون مؤثراً في الحكم وهذا كما فعلت الخوارج والضابط في هذا الرجوع إلى أهل الاجتهاد الموثوق بهم من السلف الصالح عند عامة الأمة حتى يتجنب الزلل في هذا. * * *

الفصل الثاني الأدلة من السنة المطهرة على عدم تأثير عارض الجهل في الردة

الفصل الثاني الأدلة من السنة المطهرة على عدم تأثير عارض الجهل في الردة وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: حكم الاعتراض على حكم النبي (صلى الله عليه وسلم). المبحث الثاني: صفة الخوارج وحكمهم. المبحث الثالث: التغيظ من الصحابة دلالة على كفر صاحبه. المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها.

المبحث الأول: حكم الاعتراض على حكم النبي صلى الله عليه وسلم

الفصل الثاني الأدلة من السنة المطهرة على عدم تأثير عارض الجهل في الردة المبحث الأول: حكم الاعتراض على حكم النبي صلى الله عليه وسلم: الدليل الأول: وأما السنة المطهرة فأذكر أولاً عدة أحاديث مع تعليق مبسط عليها خشية الإطالة. قال ابن تيمية: (بعد ذكر أحاديث الخوارج): ومن ذلك ما رواه ابن أبي عاصم وأبو الشيخ في الدلائل بإسناد صحيح عن قتادة عن عقبة بن وساج عن ابن عمر قال: أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقليد من ذهب وفضة فقسمه بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل فقال: "ويحك من يعدل عليك بعدي". فلما ولى قال: "ردوه علي رويدا". ومن ذلك قول الأنصاري الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له، صلى الله عليه وسلم، "اسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك". فقال: أن كان ابن عمتك؟ وحديث الرجل الذي قضى عليه فقال: لا أرضى ثم ذهب إلى أبي بكر ثم إلى عمر فقتله. ولهذا نظائر في الحديث إذا تتبعت مثل الحديث المعروف عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن أخاه أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: ... إن الناس يزعمون أنك تنهى عن الفيء وتستخل به فقال صلى الله عليه وسلم: "لئن كنت أفعل ذلك إنه لعلى وما هو عليهم خلوا له جيرانه" رواه أبو داود بإسناد صحيح. فهذا وإن كان حكى القذف عن غيره فإنما قصد به انتقاصه وإيذاءه بذلك ولم يحكه على وجه الرد على من قاله. وهذا من أنواع السب. ومثل حديث ابن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: ابتاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جزوراً من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة فجاء به إلى منزله. فالتمس التمر فلم يجده في البيت قال: فخرج إلى الأعرابي فقال: "يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر

الذخيرة ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده". فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه فوكزه الناس وقالوا: لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تقول هذا؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (دعوه) رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في الدلائل. فهذا الباب كله مما يوجب القتل ويكون به الرجل كافراً منافقاً حلال الدم، كان النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره من الأنبياء يعفون ويصفحون عمن قاله امتثالاً لقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) .. ويبين ذلك (أي عفوه، صلى الله عليه وسلم، عمن سبّه) ما روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أعرابياً جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يستعينه في شيء فأعطاه شيئاً ثم قال: "أحسنت لك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت. قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثم قام فدخل منزله ثم أرسل إلى الأغرابي فدعاه إلى البيت يعني أعطاه فرضي فقال: إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال: نعم فلما كان الغد أو العشى جاء وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن صاحبكم جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضى أكذلك؟ قال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، "ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فجاءت فاستناخت فشد عليها رحلها واستوى عليها وإنى لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار". ورواه أبو أحمد العسكري بهذا الإسناد قال: جاء أعرابي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أعطني فإنك لا تعطيني من مالك ولا مال أبيك فأغلظ للنبي، صلى الله عليه وسلم، فوثب إليه أصحابه فقالوا: يا عدو الله تقول هذا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم،؟ وذكره بهذا يبين لك: أن قتل ذلك الرجل لأجل قوله ما قال كان جائزاً قبل الاستتابة وأنه صار كافراً بتلك الكلمة ولولا ذلك لما كان يدخل النار إذا قتل على مجرد تلك الكلمة بل كان يدخل الجنة لأنه مظلوم شهيد وكان قاتله دخل النار لأنه قتل مؤمناً متعمداً ولكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يبين أن قتله لم يحل لأن سفك الدم بغير حق من أكبر الكبائر

وهذا الأعرابي كان مسلماً، ولهذا قال، صلى الله عليه وسلم، في حقه لفظ (صاحبكم) ولهذا جاء الأعرابي يستعينه. ولو كان كافراً محارباً لما جاء يستعينه في شيء ولو كان النبي، صلى الله عليه وسلم، أعطاه ليسلم لذكر في الحديث أنه أسلم فلم يجر للإسلام ذكر دل على أنه كان ممن دخل في الإسلام وفيه جفاء الأعراب وممن دخل في قوله تعالى: (فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (¬1). ا. هـ. وقال الحافظ معلقاً على حديث (أن كان ابن عمتك). وإنما لم يعاقب النبي، صلى الله عليه وسلم، صاحب القصة لما كان عليه من تأليف الناس كما قال في حق كثير من المنافقين (لا يتحدث الناس أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، يقتل أصحابه). قال القرطبي: فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- أو في حق شريعته لقتل قتلة زنديق ونقل النووي نحوه عن العلماء والله أعلم (¬2) ا. هـ. وقال ابن القيم -بعد ذكر حكم من سب النبي أنه كفر وردة -فقال: وأما تركه، صلى الله عليه وسلم، قتل من قدح في عدله بقوله: اعدل فإنك لم تعدل، وفي حكمه بقوله: أن كان ابن عمتك، وفي قصده بقوله: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، أو في حكومته بقوله: يقولون إنك تنهى عن الفيء وتستحلى به وغير ذلك. فذلك أن الحق له فله أن يستوفيه، وله أن يتركه وليس لأمته ترك استيفاء حقه صلى الله عليه وسلم (¬3) ا. هـ حكم من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: قال ابن تيمية: السنة الثالثة عشرة (¬4): ما رويناه من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي .. أن النبي، صلى الله عليه وسلم، بلغه أن رجلاً قال لقوم: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم كذا وكذا وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المرأة، فبعث القوم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ففال: كذب عدو الله ثم أرسل ¬

(¬1) الصارم المسلول ص: 201: 205. (¬2) فتح الباري جـ: 5 ص: 49 - كتاب الشرب والمساقاة. (¬3) زاد المعاد جـ: 3 ص: 214. (¬4) أي: في حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم.

رجلاً فقال: إن وجدته حياً فاقتله وإن أنت وجدته ميتاً فحرقه بالنار، فانطلق فوجده قد لُدغ فمات فحرقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل .. عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه، فأتاهم وعليه حلة فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها فأرسل القوم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال كذب: عدو الله ثم أرسل رجلاً فقال: "إن وجدته حياً -وما أراك تجده حياً- فاضرب عنقه وإن وجدته ميتاً فحرقه بالنار" قال: فذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة ... وللناس في هذا الحديث قولان. أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك قاله جماعة منهم: أبو محمد الجويني حتى قال ابن عقيل عن شيخه. أبي الفضل الهمداني: مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله. والملحدون كالمحاصرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن. فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له. ووجه هذا القول أن الكذب عليه كذب على الله ولهذا قال: "إن كذباً علي ليس ككذب على أحدكم" فإن ما أمر به الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به ... ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنئين فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله. ويبين ذلك أن الكذب بمنزل التكذيب له ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ) [العنكبوت: 68] بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذب له ولهذا بدأ الله به كما أن الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره فإذا كان الكاذب مثل المكذب أو أعظم، والكاذب على الله كالمكذب

له، فالكاذب على الرسول كالمكذب له. يوضح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق، وذلك إبطال لدين الله، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافراً لما يتضمنه من إبطال رسالة الله ودينه. والكاذب عليه يدخل في دينه ما ليس منه عمداً ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الحبر وامتثال هذا الأمر لأنه دين الله مع العلم بأنه ليس لله مدين. والزيادة في الدين كالنقص منه، ولا فرق بين من يكذب بآية من القرآن أو يصنف كلاماً ويزعم أنه سورة من القرآن عامداً لذلك ... فحاصله أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أكمل من فعله، وما فعله ففعله أكمل من تركه، فإذا كذب الرجل عليه متعمداً أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه تقصّ بالنسبة إليه، إذ لو كان كمالاً لوجد منه، ومن انتقص الرسول فقد كفر .... الأقوال والأعمال أساس إجراء الأحكام: القول الثاني: إن الكاذب عليه تغلظ عقوبته، لكن لا يكفر، ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له، ومن قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيب ظاهر. فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاءً ظاهراً ولا ريب أنه كافر حلال الدم. وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك لا للكذب. وهذا الجواب ليس بشيء: لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن من سننه أن يقتل أحداً من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلاً بمجرد علمه بنفاقه؟ ثم إنه سمي خلفاً من المنافقين لحذيفة وغيره ولم يقتل منهم أحداً. وأيضاً فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي، صلى الله عليه وسلم، كذباً له فيه غرض وعليه رتب القتل فلا تجوز إضافة القتل إلى سبب آخر.

وأيضاً فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار. وأيضاً فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسبب ماض، فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق والمنافق كافر وإذا كان النفاق متقدماً وهو المقتضي للقتل لا غيره فعلام يؤخر الأمر بقتله إلى هذا الحين؟ وعلام لم يؤاخذه الله -تعالى- بذلك النفاق حتى فعل ما فعل؟ وأيضاً فإن القوم أخبروا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله فقال "كذب عدو الله" ثم أمر بقتله إن وجده حياً ثم قال: "ما أراك تجده حياً" لعلمه، صلى الله عليه وسلم، بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة. والنبي، صلى الله عليه وسلم، إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات والكفارات عقب فعل وُصف له صالح لترتيب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء لا غيره، كما أن الأعرابي لما وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفارة ولما أقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنا أمر بالرجم وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه نعم قد يختلفون في نفس الموجب هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها وهو نوع من تنقيح المناط فأما أن يُجْعَلَ ذلك الفعل عدم التأثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر وهذا فاسد بالضرورة. لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا وهو: أن هذا الرجل كذب على النبي، صلى الله عليه وسلم، كذباً يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حكمه في دمائهم وأموالهم وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم ومقصود بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكماً في الدماء والأموال. ومعلوم أن النبي لم يحلل الحرام ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسب النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أنه يأذن له أن يبيت عند امرأة أجنبية خالياً بها وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين وهذا طعن على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعيب له، وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة، وهو المقصود في هذا المكان فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين. ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي، صلى الله عليه وسلم، لما

تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم. ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه، وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه، فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به، والأغراض في الغالب إما مال وإما شرف كما أن المسيء إنما يقصد -إذ لم يقصد مجرد الإضلال -إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة. وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله (¬1). ا. هـ. مناطات حبوط العمل دون قصد: قلت: فهذه الأحاديث السالفة لهي خير بيان لمناط قوله تعالى: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] فمن قدح في عدله، صلى الله عليه وسلم، ظن أن نسبة هذا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقدح في إيمانه برسالته ولا يوجب الكفر به ولا قصده، وكذلك من قدح في حكمه بقوله: أن كان ابن عمتك، وكذلك من قدح في عدله بقوله: إن هذه القسمة لم يرد بها وجه الله، وكذلك أيضاً قول أحد الأعرابيين، واغدراه وقول الآخر: أعطني فإنك لا تعطيني من مالك ولا مال أبيك. لم يقصدا كفراً ولكن هو من جفاء الأعراب ومع ذلك فكل هذا الباب كما قال ابن تيمية: مما يوجب القتل ويكون الرجل به كافراً منافقاً حلال الدم. فهؤلاء جميعاً قالوا أقوالاً فحبطت بها أعمالهم دون شعور منهم بهذا، وكذلك الرجل الذي ذهب ليفجر بالمرأة مستنداً في ذلك أمام قومها بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد كساه حلة وأذن له في أن يحكم في أموالهم ودمائهم برأيه أراد من هذا تحصيل شهوته دون الكفر والاستهزاء ولهذا جاء في بعض الروايات أنه خرج يتوضأ للصلاة فلدغه أفعى. فهو بعد هذا الإحداث ما زال عند نفسه في عداد المسلمين المصلين من أهل القبلة، بيد أنه في حقيقة الأمر كافر منافق حلال الدم حبط عمله وسعيه وهو لا يشعر. قال ابن تيمية في قوله تعالى: (... أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) .... ¬

(¬1) الصارم المسلول ص: 146.

فوجه الدلالة: أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر فإنه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له: بطلب سلامة العمل عن الحبوط، وبين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب. والعمل يحبط بالكفر قال سبحانه: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) [البقرة: 217]. وقال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). [المائدة: 5]. كما أن الكفر إذا قارنه عمل لا يقبل لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]. وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 1]. وهذا ظاهر ولا يحبط الأعمال غير الكفر، لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمال مطلقاً إلا الكفر وهذا معروف من أصول أهل السنة. نعم قد يبطل بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى: (لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى) [البقرة: 264]. ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر. فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوفير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولما أن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له واستخفاف به وإن لم يقصد الرافع ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفراً فالأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى (¬1). ا. هـ. القول على الله بغير علم أساس البدع والشرك: قلت: وهذه الأحاديث السالفة الذكر والآية الكريمة هي في أهل القبلة فبمن دان واستقام على الإسلام توضح في جلاء بمفهومها ومنطوقها أن العبد قد يتكلم بالكلمة أو ¬

(¬1) الصارم المسلول ص: 47.

يفعل فعلاً فيحبط عمله كله ويكون كافراً مباح الذم وهو لا يشعر ولهذا ينبغي على العبد أن لا يتكلم بكلمة حتى يعلم معناها ومآلها إلى رضوان من الله أو سخط منه سبحانه ولذلك حرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم. قال ابن القيم: وأما "القول على الله بغير علم" ... فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثماً، وهو أصل الشرك والكفر وعليه أمست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم ... وأصل الشرك والكفر: هو القول على الله بلا علم. فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبوداً من دون الله يقربه إلى الله، ويشفع له عنده ويقضي حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك. فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس. إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والابتداع في دين الله فهو أعم من الشرك، والشرك فرد من أفراده .... فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع، وأنى بالتوبة منها. لمن لم يعلم أنها بدعة أو يظنها سنة فهو يدعو إليها ويحض عليها، فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة وكثرة اطلاعه عليها ودوام البحث عنها والتفتيش عليها ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبداً (¬1). ا. هـ. وأخرج البخاري في صحيحه ... عن أبي هريرة سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق" ... وعن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم" قال الحافظ: قوله (ما يتبين ما فيها) أي: لا يتطلب معناها أي: لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت فيها فلا يقولها إلا أن ظهرت المصلحة في القول .. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه، قلت: وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة ¬

(¬1) مدارج السالكين جـ: 1 ص: 378.

الواجب. وقال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك ... قوله (لا يلقي لها بالاً) بالقاف في جميع الروايات أي: لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئاً وهو من نحو قوله تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ). وقد وقع في حديث بلال بن الحارث المزني الذي أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم بلفظ "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة". وقال في السخط مثل ذلك .... وأخرج الترمذي هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق قال: "حدثني محمد بن إبراهيم التيمي" بلفظ "لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً" (¬1). ا. هـ. قلت: مما سبق يعلم أنه ينبغي ويجب على العبد أن يتفحص معنى الكلمة ومآلها وأن يفر من الكلمة التي لا يعرف حسنها من قبحها ولنا جميعاً العبرة والعظة في الرجل الذي كان مجتهداً في عبادة الله ثم قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته. قال صاحب كتاب الأحاديث القدسية أخرج أبو داود بسنده قال أبو هريرة -رضي الله عنه- سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "كان رجلان من بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول له: أقصر، فقال: خلّني وربي، أبعث علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال (أي الله) لهذا المجتهد: أكنت عالماً بي؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار". (قلت وأصله في صحيح مسلم) قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. قال الشارح: أوبقت دنياه فأحبطت أعماله الصالحة التي كان يجتهد فيها لكفره بذلك قال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ...). وأوبقت آخرته فلم تبق لأعماله ثواباً ولا أجراً لذلك استحق أن يقال فيه (اذهبوا به إلى النار). ¬

(¬1) فتح الباري جـ: 11 كاتب الرقاق ص: 314: 318.

المبحث الثاني: صفة الخوارج وحكمهم.

ويحتمل كما قال النووي: أن المراد اذهبوا به إلى النار مخلداً إذا كان قد صدر منه ولو بقلبه ما يكون كفراً، ويحتمل: أن المراد اذهبوا به إلى النار يعذب فيها عذاب عصاة المؤمنين تطهيراً لهم من ذنوبهم التي ارتكبوها لأن هذا اقترف إثماً عظيماً وهو حكمه جازماً بأن الله -تعالى- لن يغفر لأخيه العاصي ولا يدخله الجنة (¬1). ا. هـ. قلت: فهذا العبد المجتهد في العبادة الذي يحب المعروف ويبغض المنكر ومن بغضه له أنكره ولم يبال بعلاقته بأخيه أن تتأثر المهم عنده الانتصار لحق الله غير أنه نطق بكلمة لم يدر كم بلغت من سخط الله ما بلغت أوبقت عليه دنياه وآخرته فهل بعد هذه العظة من عظة وهل بعد هذه العبرة من عبره. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظني والمسلمين من كلمة السوء وأن يختم لنا جميعاً بحسن العاقبة آمين. المبحث الثاني: صفة الخوارج وحكمهم. الدليل الثاني: حديث الخوارج قال ابن تيمية قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة، أوجه وهذه العشرة أخرجها مسلم في صحيحه موافقة لأحمد وروى البخاري منها عدة أوجه وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر (¬2). ا. هـ. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكرها؟ قال: لا أدري من الحرورية ولكني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: يخرج في هذه الأمة "ولم يقل منها" قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء ... وعن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم قسماً. أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اعدل قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "ويلك من يعدل إن لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أعدل". فقال عمر بن ¬

(¬1) كتاب الأحاديث القدسية جـ: 1 ص: 51: 52. (¬2) جـ: 7 ص: 479 لمجموع الفتاوى.

الخطاب -رضي الله عنه- يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ائذن لي فيه أضرب عنقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته في صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء "وهو القدح" ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم .. " وفي رواية "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" وفي رواية "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". وفي رواية "يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة" (¬1). "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم". قال النووي: قال القاضي فيه تأويلان أحدهما معناه: لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والحلق إذ بهما تقطيع الحروف. والثاني معناه: لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يتقبل (¬2) ا. هـ. وفي صحيح البخاري: باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم وقول الله -تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ). وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. عن علي -رضي الله عنه- قال: إذا حدثتكم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثاً فو الله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة وإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 7 ص: 164: 174. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 7 ص: 159.

كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة" (¬1). ا. هـ. آفة الخوارج والتأويل الفاسد: قال الحافظ (¬2): وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستمدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك ... وقال في ص: 298: وقال الغزالي في الوسيط تبعاً لغيره في حكم الخوارج وجهان: أحدهما أنه كحكم أهل الردة، والثاني: أنه كحكم أهل البغي، ورجح الرافعي الأول ... قوله (وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله الخ) وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل نافعاً كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: كان يراهم شرار خلق الله انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين، قلت وسنده صحيح، وقد ثبت في الحديث الصحيح المرفوع عند مسلم من حديث أبي ذر في وصف الخوارج: "هم شرار الخلق والخليقة". وعند أحمد بسند جيد عن أنس مرفوعاً مثله وعند البزار من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الخوارج فقال: هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي". وسنده حسن وعند الطبراني من هذا الوجه مرفوعاً "هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "هم شر البرية". وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم "من أبغض خلق الله إليه" وفي حديث عبد الله بن خباب يعني عن أبيه عند الطبراني "شر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض". وفي حديث أبي أمامة نحوه وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي برزة مرفوعاً في ذكر الخوارج "شر الخلق والخليقة يقولها ثلاثا" وعبد ابن أبي شيبة من طريق عمير بن إسحاق عن أبي هريرة" هم شر الخلق" وهذا مما يؤيد قول من قال بكفرهم. ¬

(¬1) راجع فتح الباري جـ: 12 ص: 295. (¬2) راجع فتح الباري جـ: 12 ص: 296.

قوله: "يمرقون من الدين" في رواية أبي إسحاق عن سويد بن غفلة عند النسائي والطبري "يمرقون من الإسلام" وكذا في حديث ابن عمر في الباب، وفي رواية زيد بن وهب المشار إليها وحديث أبي بكرة في الطبري وعند النسائي من رواية طارق بن زياد عن علي "يمرقون من الحق" وفيه تعقب على من فسر الدين هنا بالطاعة كما تقدمت الإشارة إليه في علامات النبوة .... قوله (يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها) لم تختلف الطرق الصحيحة على أبي سعيد في ذلك فعند مسلم من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ذكر قوماً يكونون في أمته، وله من وجه آخر "تمرق عند فرقة مارقة من المسلمين" وله من رواية الضحاك المشرقي عن أبي سعيد نحوه وأما ما أخرجه الطبري من وجه آخر عن أبي سعيد بلفظ "من أمتي" فسنده ضعيف. لكن وقع عند مسلم من حديث أبي ذر بلفظ "سيكون بعدي من أمتي قوم" وله من طريق زيد بن وهب عن علي "يخرج قوم من أمتي" ويجمع بينه وبين حديث أبي سعيد بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة (¬1) وفي رواية غيره أمة الدعوة (¬2). قال النووي: وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمة ... قوله "تحقرون" بفتح أوله أي: تستقلون. قوله "صلاتكم مع صلاتهم" زاد في رواية الزهري عن أبي سلمة كما في الباب بعده "وصيامكم مع صيامهم" وفي رواية عاصم بن شميخ عن أبي سعيد "تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" ووصف عاصم أصحاب نجدة الحروري بأنهم "يصومون النهار ويقومون الليل ويأخذون الصدقات على السنة" أخرجه الطبري ومثله عنده من رواية يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة. وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنده "يتعبدون يحفر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم". ومثله من رواية أنس عن أبي سعيد، وزاد في رواية الأسود ابن العلاء عن أبي سلمة: "وأعمالكم مع أعمالهم". وفي رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن علي "ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئاً ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئاً". ¬

(¬1) أمة الإجابة: أي: من استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم من قومه وأسلم فقط. (¬2) أمة الدعوة: أي: الأمة التي بُعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم فهي تشمل المسلمين والكافرين أيضاً.

أخرجه مسلم والطبراني ... وفي حديث ابن عباس عند الطبراني في قصة مناظرته للخوارج قال: "فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهاداً منهم أيديهم كأنها ثفن الإبل ووجوههم معلمة من آثار السجود" وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه ذكر "عنده الخوارج واجتهادهم في العبادة فقال: ليسوا أشد اجتهاداً من الرهبان". سرعة مروق الخوارج من هذا الدين: ص: 307 قوله: (من الرمية). في رواية معبد بن سيرين عن أبي سعيد الآتية في آخر كتاب التوحيد "لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه" والرمية: فعيلة من الرمي والمراد: الغزالة المرمية مثلاً. ووقع في حديث عبد الله بن عمرو من رواية مقسم عنه "فإنه سيكون لهذا شيعة يتعمقون في الدين يمرقون منه" الحديث أي: يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ منه بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه وجده ولم يجد الذي رماه فينظر في السهم ليعرف هل أصاب أو أخطأ فإذا لم يره علق فيه شيء من الدم ولا غيره ظن أنه لم يصبه والغرض أنه أصابه. وإلى ذلك أشار بقوله "سبق الفرث والدم" أي: جاوزهما ولم يتعلق فيه منهما شيء بل خرجا بعده وقد تقدم شرح القذذ في علامات النبوة. ووقع في رواية أبي نضرة عن أبي سعيد عند مسلم فضرب النبي، صلى الله عليه وسلم، لهم مثلاً الرجل يرمي الرمية، الحديث. وفي رواية أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد عند الطبري "مثلهم كمثل رجل رمى رمية فتوخى السهم حيث وقع فأخذه فنظر إلى فوقه فلم ير به دسماً ولا دماً". لم يتعلق به شيء من الدسم والدم، كذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام. وعنده في رواية عاصم بن شمخ المعجمة وسكون الميم بعدها معجمة بعد قوله من الرمية "يذهب السهم فينظر في النصل فلا يرى شيئاً من الفرث والدم" الحديث وفيه "يتركون الإسلام وراء ظهورهم". وجعل يديه وراء ظهره وفي رواية أبي إسحاق مولى بني هاشم عن أبي سعيد في آخر الحديث "لا يتعلقون من الدين بشيء كما لا يتعلق بذلك السهم". أخرجه الطبري وفي حديث أنس عن أبي سعيد عند أحمد وأبي داود والطبري "لا يرجعون إلى الإسلام حتى يرتد السهم إلى فوقه". وجاء عن ابن عباس عند الطبري وأوله في ابن ماجة بسياق أوضح

من هذا ولفظه "سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القذذ فلم يره تعلق من الدم بشيء فقال: إن كنت أصبت فإن بالريش والفوق شيئاً من الدم فنظر فلم ير شيئاً تعلق بالريش والفوق قال. كذلك يخرجون من الإسلام". وفي رواية بلال بن بقطر عن أبي بكرة "يأتيهم الشيطان من قبل دينهم". وللحميدي وابن أبي عمر في مسنديهما من طريق أبي بكر مولى الأنصار عن علي "إن ناساً يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه أبداً". ص: 312 قوله (قال فنزلت فيه) في رواية السرخسي (فيهم). قوله: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) ... وله شاهد من حديث ابن مسعود قال: "لما قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غنائم حنين سمعت رجلاً يقول إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله". قال فنزلت: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ). أخرجه ابن مردويه .. وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: "جاء أبو بكر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إني مررت بواد كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه فقال: "إذهب إليه فاقتله قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله فرجع فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمر إذهب إليه فاقتله فذهب فراه على تلك الحالة فرجع فقال: يا علي إذهب إليه فاقتله، فذهب علي فلم يره فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية". وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات ... حكم الخوارج: قال (أي الطبري) وفيه أنه لا يجوز قتال الخوارج وقتلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق والإعذار إليهم. وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة بالآية المذكورة فيها، واستدل به لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاري حيث قرنهم بالملحدين وأفرد عنهم المتأولين بترجمة وبذلك صرح القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي فقال: الصحيح أنهم كفار لقول النبي، صلى الله عليه وسلم،: "يمرقون من الإسلام" ولقوله: "لأقتلنهم قتل عاد". وفي لفظ "ثمود" وكل منهما إنما هلك بالكفر وبقوله هم "شر

الخلق" ولا يوصف بذلك إلا الكفار ولقوله "إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى" ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم. وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه: احتج من كفر الخوارج وعلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصخابة لتضمنه تكذيب النبي، صلى الله عليه وسلم، في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاج صحيح قال: واحتج من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يستدعي تقدم علمهم بالشهادة المذكورة علماً قطعياً، وفيه نظر لأنا نعلم تزكية من كفروه علماً قطعياً إلى حين موته وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم، ويؤيده حديث: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما". وفي لفظ مسلم: "من رمى مسلماً بالكفر أو قال عدو الله إلا حاد عليه". قال وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خير الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ونحوه ممن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فسروا الكفر بالجحود فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك قلنا وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه علماً قطعياً، ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالا والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك. دلالة الحديث على عدم اعتبار القصد في الردة: قال الحافظ: وممن جنح إلى بعض هذا البحث الطبري في تهذيبه، فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً فإنه مبطل لقوله في الحديث "يقولون الحق ويقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء". ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه. ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس وذكر عنده الخوارج وما يلقون عند قراءة القرآن فقال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه. ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع ما تقدم من حديث ابن مسعود: "لا يحل قتل امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث -وفيه- التارك لدينه، المفارق للجماعة". قال القرطبي في "المفهم" يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد يعني الآتي في الباب الذي يليه فإن ظاهر مقصوده أنهم

خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشيء كما خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرمية بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله "سبق الفرث الدم". وقال صاحب الشفاء فيه: وكذا تقطع بكفر كل من قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة، وحكاه صاحب "الروضة" في كتاب الردة عنه وأقره. وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك. وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وأنهم لا يكفرون ما داموا مستمسكين بأصل الإسلام. وقال عياض: كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالاً عند المتكلمين من غيرها حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين، قال: وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني وقال: لم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالاً تؤدي إلى الكفر. وقال الغزالي في كتاب "التفرقة بين الإيمان والزندقة" والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد. ومما احتج به من لم يكفرهم قوله في ثالث أحاديث الباب بعد وصفهم بالمروق من الدين (كمروق السهم فينظر الرامي إلى سهمه) إلى أن قال "فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء" قال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله (يتمارى في الفوق) لأن التماري من الشك وإذ وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين قال: وقد سئل علي عن أهل النهر هل كفروا؟ فقال: من الكفر فروا. قلت: وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تفكيرهم عند من كفرهم، وفي احتجاجه بقوله "يتمارى في الفوق" نظر فإن في بعض طرق الحديث المذكور كما تقدمت الإشارة إليه وكما سيأتي "لم يعلق منه بشيء" وفي بعضها "سبق الفرث والدم" وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أولا ثم تحقق أنه لم يعلق بالسهم ولا بشيء منه

من الرمي بشيء، ويمكن أن يحمل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويكون في قوله "يتمارى" إشارة إلى أن بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء. قال القرطبي في "المفهم" والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث قال: فعلى القول بتكفيرهم يقاتلون ويقتلون وتسبى أموالهم وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا ونصبوا الحرب فأما من استسر منهم ببدعة فإذا ظهر عليه هل يقتل بعد الاستتابة أو لا يقتل بل يجتهد في رد بدعته؟ اختلف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم. قال: وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئاً ... وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار ديناً على دين الإسلام وأن الخوارج شر الفرق المبتدعة من الأمة المحمدية ومن اليهود والنصارى. قلت: والأخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقاً (¬1). ا. هـ. قلت: فهذا النص القطعي الثبوت القوي الدلالة في أناس من الأمة شديدي الاجتهاد في العبادة وصلوا لدرجة إذا صلى الصحابي بجوار أحدهم حقر صلاته مع صلاته وقراءته مع قراءته وصيامه مع صيامه. يقولون: من خير قول البرية بل هم القراء المجاهدون الذين كانوا يجاهدون مع علي -رضي الله عنه- في سبيل الله وهم مع هذه الحالة العظيمة من العبادة يقرءون القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم بل وقعوا في أمر جلل جد خطير وآفتهم الجهل والتأويل الفاسد غير المستساغ. قال ابن كثير في حقهم: "قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم فسبحان من نوع خلقه كما أراد وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: أنهم المذكورون في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً -إلى قوله- فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً). والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال والأشقياء في الأقوال والأفعال .... فخرجوا (أي لمحاربة المسلمين) من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا ¬

(¬1) فتح الباري جـ: 12 ص: 295: 313 - باب الردة.

سائر القرابات يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات والعظائم والخطيئات وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات. وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج، فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليه من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك، فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، والله المستعان (¬1). ا. هـ قلت: فتلك نصوص العلماء تقرر: أن ما أوقعهم في هذه الموبقات إلا الجهل والخطأ في تأويل آي القرآن على غير المراد منه وهم مع هذا يظنون أنهم حملته ورافعوا لواءه ويقاتلون في زعمهم: الخارجين المرتدين عن حاكمية القرآن وقدموا أرواحهم ودماءهم وأموالهم فدية وقرباناً لهذا الاعتقاد وصدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في وصفهم: "يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم". وجاءت الروايات الصحيحة الصريحة في خروجهم من الإسلام مع عدم تعلقهم بشيء منه كخروج السهم المنطلق لسرعة راميه من الرمية لم يتعلق منها بشيء، سبق الفرث والدم، فالأمة قاطبة اجتمعت على ضلالهم وذمهم واختلفوا في تكفيرهم. قال ابن تيمية: فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين: في مذهب مالك وأحمد وفي مذهب الشافعي أيضاً نزاع في كفرهم (¬2). ا. هـ. ¬

(¬1) البداية والنهاية جـ: 7 ص: 286: 287. (¬2) جـ: 28 ص: 518 لمجموع الفتاوى.

الأدلة على كفر الخوارج: قلت: وقد قطع كثير من أئمة المحققين بكفرهم كأمثال إمام المحدثين البخاري وشيخ المفسرين الطبري والسبكي وأبي بكر بن العربي والرافعي وقال القرطبي: إن القول بتكفيرهم أظهر في الحديث وظاهر الرواية عن أبي سعيد أنه يرى كفرهم، وهو قول مشهور في مذهب مالك وأحمد والشافعي ودلالة النصوص تؤيد هذا القول وتنصره والفريق الآخر من العلماء لا حجة له إلا تأويل النصوص وما من حجة لهم في هذا التأويل إلا وظواهر النصوص تأباها وتردها ويلاحظ أن هذا الفريق من العلماء علل عدم كفرهم لأنهم مستمسكون: بأصل الإسلام كأبي سليمان الخطابي لأن نقض أصل الدين لا خلاف في خروج صاحبه من الدين لأن حكم الإسلام ثبت له بافتراض وجوده "أي: أصل الدين" لديه فإذا نقضه حكم بردته بلا خلاف وقد تقدم هذا من قبل -بفضل الله وعونه-. وقد استدل العلماء في هذا المقام بقول النبي، صلى الله عليه وسلم،: "يتمارون في الفوق". وأجاب الحافظ على هذا: بأنه جاءت روايات أخرى تقول لم يتعلق منه بشيء، و "سبق الفرث والدم" ويجمع بينهما أنه كان في بادئ الأمر وجد التماري لكن بعد تدقيق النظر تيقن الناظر بأنه لم يعلق بشيء. وكذلك استدلوا ببعض الروايات التي جاء فيها "من هذه الأمة" وأجاب الحافظ: أن رواية (في هذه الأمة) يقصد بها: أمة الإجابة ورواية (من هذه الأمة) المقصود بها: أمة الدعوة أو أن يكون (من هذه الأمة) باعتبار ما سبق. وكذلك تأويل العلماء لقول النبي، صلى الله عليه وسلم، "يمرقون من الإسلام" أن المقصود به الطاعة للإمام. فهذا التأويل ترده رواية (يمرقون من الدين). وكذلك احتجاجهم بقول علي -رضي الله عنه- عندما سُئل عن الخوارج فقال هم من الكفر فروا. فالجواب كما قال الحافظ: إنه إن ثبت هذا عن علي فيحمل على أنه لم يطلع على كفرهم. أو أنه قال هذا في بادئ أمرهم وقبل أن يكفروا الأمة بأسرها. والتأويل لا يصح إلا بصارف أو قرينة تخرجنا عن المعنى الظاهري للنص وليس ثمّ صارف في الروايات بل قد جاءت تثبت وتؤكد المعنى الظاهر كقوله، صلى الله عليه وسلم،: "يخرج في

هذه الأمة، و "يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية" و "سبق الفرث الدم" و "يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم". ومعلوم أن القرآن حجة للمسلمين لا عليهم، والصلاة لا تقبل من الكفار، أو لتخلف شرط من شروطها، أو ركن، أو فعل ناقض وليس ثم من ذلك شيء فلم يبق إلا الكفر وقوله، صلى الله عليه وسلم، "يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه". ومعلوم أنهم لو كانوا فيه فما المقصود بقوله، صلى الله عليه وسلم، ثم لا يعودون فيه؟! وقوله: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم". فهذا نص في أن القلب عري عن الإيمان ومعلوم أن إيمان القلب شرط في صحة الإسلام لا يُنتفع إلا به للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة. وقوله، صلى الله عليه وسلم،: "هم شر الخلق والخليقة" و "شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي" و "شر البرية" و "من أبغض خلق الله إليه" و "شر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض". فإن هذه الروايات ظاهرة بينة في كفرهم فكونهم شر خلق الله ومن أبغض خلق الله إليه وشر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض فمن المعلوم بيقين أن هذه الصفة لا تكون إلا للكافرين. فإن قيل إن هذه الروايات مطلقة وتحمل على مقيداتها من الروايات التي تقول "شرار أمتي" فتحمل على أنهم شرار المسلمين أقول وبالله التوفيق. إنه من المعلوم بالاضطرار من الشريعة أن جماعات من الأمة وقعت في الشرك والردة والرجوع إلى دين الآباء وهم المعنيون بقوله تعالى: (أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). وقوله تعالى: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). وقوله: (لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ). وكذلك الحديث الذي في البخاري "لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس على ذي الخلصة" (¬1). قال الحافظ والمسلم وأحمد من حديث ثوبان: ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان" (¬2) ا. هـ. وهذا الحديث مما يؤكد صحة جمع الحافظ -رحمه الله- بين روايتين "من هذه الأمة" و "في هذه الأمة" أن رواية "من هذه الأمة" تطلق وإما يراد بها باعتبار ما قد سلف أو أنهم من ¬

(¬1) راجع فتح الباري جـ: 13 ص: 82. (¬2) راجع فتح الباري جـ: 13 ص: 91

أمة الدعوة وليسوا من أمة الإجابة لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين". فهم من الأمة أي: "أمة الإجابة" قبل لحوقهم وليسوا منها بعد اللحوق، وهم من: أمة الدعوة قبل وبعد اللحوق، وكذلك أيضاً ما وقع من ردة في العرب بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-. فمما تقدم نعلم بيقين أن من الأمة من ارتكست وارتدت عن دينها ولحقت بالمشركين، فكون الخوارج شرار الأمة وأبغضهم إلى الله يدل أيضاً على كفرهم. وقوله، صلى الله عليه وسلم، "لأقتلنهم قتل عاد" وفي رواية "ثمود" وكل منهما مات وهلك على الكفر ومن أجله، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرجعون إلى الإسلام حتى يرتد السهم إلى فوقه". وقول راوي الحديث فنزلت "فيه" وفي رواية السرخسي "فيهم" (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ). ومن المعلوم أن هذا المعترض المأبون على قسمة النبي، صلى الله عليه وسلم، ارتد بذلك والآية نزلت فيه عيناً وفي شيعته لأنهم من جنسه في الكفر ولذلك جاءت الرواية التي رواها السرخسي "فيهم" فيا له من فقه أبي سعيد -رضي الله عنه- وهذا مما يؤكد أنه كان يرى كفرهم لإدخاله إياهم تحت حكم الآية لإستواءهم مع أصل خروجهم ذي الخويصرة في الكفر والردة. ويدل على هذا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عنه (¬1) " .... فرأيت (¬2) أبا سعيد بعد ما كبر ويديه ترتعش، ويقول: قتالهم عندي أحل من قتال عدتهم من الترك" (¬3). وكذلك أيضاً يؤيد كفرهم المثل المضروب لهم من مروق السهم من الرمية لسرعة راميه دون التعلق منها بشيء في أي جزء من أجزائه بل سبق الفرث والدم وكذلك هم يمرقون من الدين دون التعلق منه بشيء ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه. علة تكفير الخوارج: وآفة القوم التي أوقعتهم في الكفر وعلة ذلك هي: -والله تعالى أعلم- تكفيرهم للصحابة ¬

(¬1) أي: عن أحمد بن حنبل. (¬2) أي: عاصم بن شميخ راوي هذا الأثر. (¬3) راجع البداية والنهاية جـ: 7 ص: 299.

المبحث الثالث: التغيظ من الصحابة دلالة على كفر صاحبه

لأن هذا يقتضي الطعن فيما نقلوه من القرآن والسنة فإن الفاسق شهادته مردودة فما بالنا بالكافر. قال أبو بكر بن العربي في قوله تعالى: (... إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ...) ... المسألة الثانية: -من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعاً لأن الخبر أمانة والفسق قرينة تبطلها (¬1). ا. هـ. وكذلك أيضاً يستلزم تكفيرهم للصحابة تكذيب القرآن الذي أخبر بعدالتهم وخبرتهم في أكثر من آية، وكذلك تواتر ثناء النبي، صلى الله عليه وسلم، عليهم والشهادة لأعيان منهم بالجنة، والأخبار لا يدخلها النسخ بخلاف الأوامر وأخطر ذلك على الإطلاق أم تكفيرهم للصحابة يستلزم الطعن فيما نقلوه من القرآن والسنة. قال القاضي عياض. وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولا: يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ لم تقدم علياً وكفرت علياً إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه لأنهم أبطلوا الشريعة بأمرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه كفرة في زعمهم وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة (¬2). ا. هـ. المبحث الثالث: التغيظ من الصحابة دلالة على كفر صاحبه: قال القرطبي في قوله تعالى: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح: 29]. الخامسة: روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -فقرأ مالك هذه الآية: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ). حتى بلغ (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غبط على أحد من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد أصابته هذه الآية: ذكره الخطيب أبو بكر. قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله -رب العالمين- وأبطل شرائع المسلمين قال الله - ¬

(¬1) أحكام القرآن جـ: 4 ص: 1715. (¬2) كتاب الشفاء بشرح نور الدين القاري مطبعة المدني جـ: 5 ص: 427، 428.

تعالى-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ). الآية وقال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ). إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم والشهادة لهم بالصدق والفلاح قال الله -تعالى-: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) وقال (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ -إلى قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). ثم قال -عز من قائل-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ -إلى قوله- فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم (ثم ذكر أحاديث في مدحهم رضي الله عنهم جميعاً) والأحاديث بهذا المعنى كثيرة فحذار من الوقوع في أحد منهم، كما فعل من طعن في الدين فقال: إن المعوذتين ليستا من القرآن، وما صح حديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها فروايته مطرحة. وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجراً عظيماً. فمن نسبه أو واحداً من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة مبطل للقرآن طاعن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ا. هـ. وقال ابن كثير (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ). أي: فكذلك أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فآزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة -رضي الله عنهم- قال: لأنهم يغيظونهم من وغاظ الصحابة -رضي الله عنهم- فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء على ذلك والأحاديث في فضائل الصحابة -رضي الله عنهم- والنهي عن التعرض بمساءة كثيرة ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ا. هـ. وقال البغوي: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي: إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين. قال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد أصابته هذه الآية. ا. هـ. وقال الإمام الطبري: وقوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) يقول تعالى ذكره:

يعجب هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحسن نباته وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه "ليغيظ بهم الكفار"، يقول: فكذلك مثل محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه واجتماع عددهم حتى كثروا ونموا وغلظ أمرهم كهذا الزرع وصف جل ثناؤه صفته ثم قال ليغيظ بهم الكفار. ا. هـ. وقال ابن تيمية (¬1) في الصارم ص: 504 وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة قال محمد بن يوسف الفرياني وسئل عمن شتم أبا بكر قال: كافر، قيل: فيصلى عليه؟ قال: لا. وسأله: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته، وقال أحمد بن يونس: لو أن يهودياً ذبح شاة وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي، ولم آكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام. وكذلك قال أبو بكر بن هاني: لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد، وأهل الذمة يقرون على دينهم وتؤخذ منهم الجزية. وكذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة: ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم. وقال في ص: 505 وصرح جماعات من أصحابنا: بكفر الخوارج المعتقدين: البراءة من علي وعثمان، وبكفر الرافضة المعتقدين: لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم. وقال أبو بكر عبد العزيز في المقنع: فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج. ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى: أنه إن سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك، وإن سبهم سباً لا يقدح مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سباً يقصد به غيظه ونحو ذلك -لم يكفر. قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان: هذا زندقة، وقال في رواية المروزي: من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام، قال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله وكمال الحد وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره قال: فيحتمل أن يحمل قوله ¬

(¬1) الصارم المسلول ص: 504.

"ما أراه على الإسلام" إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي قال: ويحتمل قوله "ما أراه على الإسلام" على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا وفسقوا بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في اسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله: كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان إحداهما يكفر والثانية يفسق. وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في تكفيرهم روايتين قال القاضي: ومن قذف عائشة -رضي الله عنها- بما برأها الله منه كفر بلا خلاف .. ونحن نرتب الكلام في فصلين أحدهما: في سبهم مطلقاً، والثاني: في تفصيل أحكام الساب (وأخذ يسرد حجج الفريقين القائلين بالتكفير والقائلين بالعصيان دون الكفر) وقال في ص: 512 وأما من قال "يقتل الساب" أو قال "يكفر" فلهم دلالات احتجوا بها: منها قوله تعالى (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ -إلى قوله- لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). فلا بد أن يغيظ بهم الكفار، وإذا كان الكفار يغاظون بهم، فمن غيظ بهم فقد شارك الكفار فيما أذلهم الله به وأخزاهم وكبتهم على كفرهم، ولا يشارك الكفار في غيظهم الذي كبتوا به جزاء لكفرهم إلا كافر، لأن المؤمن لا يكبت جزاء للكفر يوضح ذلك قوله تعالى: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب لأن الكفر مناسب لأن يغاظ صاحبه فإذا كان هو الموجب لأن يغيظ الله صاحبه بأصحاب محمد، فمن غاظه الله بأصحاب محمد فقد وجد في حقه موجب ذلك وهو الكفر ... ومن ذلك ما خرجاه في الصحيحين عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار". وفي لفظة قال في الأنصار "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق" ... ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر". وروى مسلم في صحيحه أيضاً عن أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر". فمن سبهم فقد زاد على

بغضهم فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر -إلى أن قال- في ص: 518: 519. فصل في تفصيل القول فيهم. أما من اقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو أنه كان النبي وإنما غلط جبرائيل في الرسالة فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت أو زعم أن له تأويلات باطلة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك وهؤلاء يسمون: القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كقر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الآية التي هي: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). وخيرها هو: القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً ومضمونها: أن هذه الأمم شر الأمم وأن سابقي هذه الأمم هم: شرارها. وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق (¬1). ا. هـ. قلت: فمن هذه النقول المستفيضة -بفضل الله وعونه- ثبت أن سب الصحابة سبا يقدح في دينهم وعدالتهم بوصفهم أنهم كفار أو فساق أن مثل هذا كفره متعين، بل هو ¬

(¬1) الصارم المسلول ص: 504: 519.

المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها.

مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، لأن مضمون هذه المقالة الطعن: فيما نقلوه وتكذيب القرآن لكثير من آياته التي تثني عليهم وتمدحهم، وأن الشرع جعل الغيظ للصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- علامة على كفر صاحبه وهو وصف مشتق مناسب يصلح لأن يكون: علة الحكم ومن المعلوم أن الخوارج كفروا علياً ومعاوية ومن والاهما. نخلص من هذا الحديث (أي: حديث الخوارج) كما قال إمام المفسرين على الإطلاق الإمام الطبري: فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً فإنه مبطل لقوله في الحديث: "يقولون الحق ويقرؤون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء". وكما قال الحافظ وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار ديناً على الإسلام وهو مبني على القول بتكفيرهم مطلقا. وبهذا يعلم أن هذه القاعدة التي تحدث عنها الحافظ راسخة عند كل من رأى تكفيرهم، مع أن هذا لم يمس أصل الدين فما الحكم إذا كان يمس أصل الدين؟ وهل يجرؤ أحد أن يقول: أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري وإمام المحدثين: البخاري وإمام المفسرين الطبري والقاضي أبا بكر بن العربي والسبكي والرافعي وغيرهم مبتدعون؟ لأنهم حكموا بكفر الخوارج ولم يعذروهم بالجهل والخطأ والتأويل. المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها. الدليل الثالث: (حديث القدرية): أخرج مسلم في صحيحه عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب ... فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف. قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) (ثم حدث بحديث جبريل).

قال النووي: قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: يتقعرون بالعين وفسره بأنهم يطلبون قعره أي: غامضه وخفيه ومنه تقعر في كلامه إذا جاء بالغريب منه. وفي رواية أبي يعلى الموصلي يتفقهون بزيادة الهاء وهو ظاهر قوله (وذكر من شأنهم) .... يعني: وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به. قوله (يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف) هو بضم الهمزة والنون أي: مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله -تعالى- وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل وهذا القول قول غلاتهم وليس قول جميع القدرية ... قوله (قال يعني ابن عمر -رضي الله عنهما- فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني ....). هذا الذي قاله ابن عمر -رضي الله عنه- ظاهر في تكفيره القدرية. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله -تعالى- بالكائنات قال والقائل بهذا كافر بلا خلاف (¬1) ا. هـ. وقال ابن تيمية: وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها. فهذا حق لا ريب فيه وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار وهذا العلم والكتاب: هو القدر الذي ينكره غالبية القدرية ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار كفرهم الأئمة: كالشافعي وأحمد وغيرهما (¬2) ا. هـ. فرق القدرية: وقال أيضاً: وإنما نازع في ذلك (أي الإيمان بالقدر) غلاة القدرية وظنوا أن تقدم العلم يمنع الأمر والنهي، وصاروا فريقين. (فريق) أقروا: بالأمر والنهي والثواب والعقاب وأنكروا أن يتقدم بذلك قضاء وقدر وكتاب، وهؤلاء نبغوا في أواخر عصر الصحابة فلما سمع الصحابة بدعهم تبرؤوا منهم كما تبرؤا منهم، ورد عليهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 150. (¬2) جـ: 2 ص: 152 لمجموع الفتاوى.

الأسقع وغيرهم، وقد نص (الأئمة) كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم. (والفريق الثاني): من يقر: بتقدم علم الله وكتابه لكن يزعم أن ذلك يغني عن الأمر والنهي والعمل وأنه لا يحتاج إلى العمل. بل من قضى له بالسعادة دخل الجنة بلا عمل أصلاً ومن قضي عليه بالشقاوة شقي بلا عمل. فهؤلاء ليسوا طائفة معدودة من طوائف أهل المقالات وإنما يقوله كثير من جهال الناس، وهؤلاء أكفر من أولئك وأضل سبيلاً ومضمون قول هؤلاء تعطيل الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى بكثير. وهؤلاء هم الذين سأل السائل عن مقالتهم. وأما "جمهور القدرية" فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم لكن ينكرون أن الله خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات، وتعارضهم القدرية المجبرة الذين يقولون: ليس للعبد قدرة ولا إرادة حقيقة ولا هو فاعل حقيقة وكل هؤلاء مبتدعة ضلال. وشر من هؤلاء من يجعل خلق الأفعال وإرادة الكائنات مانعة من الأمر والنهي كالمشركين الذين قالوا (لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ). فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى ومضمون قولهم: تعطيل جميع ما جاءت به الرسل كلهم من الأمر والنهي (¬1). ا. هـ. البدعة ليست على رتبة واحدة: قلت: يلاحظ من هذا النقل أن البدعة ليست على رتبة واحدة فتارة يغلو فيها أصحابها حتى يخرجوا بها إلى درجة الكفر الصريح وتارة يقفون عند درجة الابتداع وكفر المآل. ولهذا عندما يتكلم أهل العلم عن أحكام المبتدعة لا بد أن ينقح مناطهم الذي يتحدثون فيه هل هو درجة الكفر البواح وكفر التصريح أم هو درجة الابتداع وكفر المآل. ويلاحظ أيضاً أن: إنكار تقدم علم الله وقضائه وقدره على الأمر والنهي كفر لا يختلف فيه. وأن من أقروا بهذا إلا أنهم يزعمون أنه يُغني عن الأمر والنهي والعمل، وأن دخول ¬

(¬1) جـ: 8 ص: 288: 289.

الجنة والنار غير متوقف على العمل فحكم هؤلاء أنهم: جهال كفار أكفر من اليهود والنصارى وليسوا طائفة معدودة من طوائف المسلمين. وأن من يحتج بالقدر على حجية الأفعال والمقدور فهؤلاء: أكفر من اليهود والنصارى لأن اليهود والنصارى يؤمنون ببعض الأوامر والنواهي ويكفرون ببعضها وهؤلاء كفار بجميع الأوامر والنواهي والشرائع السماوية. وأن من أقر بالعلم والكتاب المتقدم مع إنكار خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات فهؤلاء: مبتدعة ضلال في تكفيرهم: نزاع مشهور بين العلماء. قال ابن رجب في شرح حديث جبريل: ولأجل هذه الكلمة (أي الإيمان بالقدر) روى ابن عمر -رضي الله عنهما- هذا الحديث محتجاً به على من أنكر القدر وزعم أن الأمر أُنف: يعني: أنه مستأنف لم يسبق به سابق قدر من الله -عز وجل- وقد غلظ عبد الله بن عمر عليهم وتبرأ منهم وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر ... إثبات العلم القديم حجة على القدرية: وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا. يريدون: أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله -تعالى- قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا، لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه. وفي تكفير هؤلاء: نزاع مشهور بين العلماء وأما من أنكر العلم القدين فنص الشافعي وأحمد على تكفيره وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام (¬1). ا. هـ. قلت: فمن هذا الأثر في هؤلاء القوم الذين أرادوا أن ينزهوا الله فوقعوا في التنقص به -عز وجل- من حيث لا يشعرون ولا يقصدون الكفر، بل حالهم البحث عن العلم واقتفاء أثره، ومع هذا عندما وصل حالهم إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- تبرأ منهم البراءة ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم ص: 25.

الكاملة. ومعلوم أن هذا لا يكون إلا من الكافرين فإن الله عندما أمرنا أن نتبرأ من الكفار قال: (إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ). وعندما أخبر: عن البراءة من العصاة فقال: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ). فالمسلم العاصي يتبرأ من فعله وعمله لا منه، ولا يتبرأ من العبد البراءة الكاملة إلا العبد المشرك. ولم يسأل الصحابي الجليل السائلين هل أقمتما عليهم الحجة وأزلتما الشبهة ووجدت شروط التكفير وانتفت موانعه أم لا؟. بل قوله -رضي الله عنه- فيهم ظاهر في تكفيرهم والتبري منهم بمجرد سماع مقالتهم وتابعه على هذا الحكم الأئمة الأعلام، بل كما قال القاضي عياض أن قائل هذا كافر بلا خلاف. ومن المعلوم أن ما وقعوا فيه هو ما دون الشرك فكيف الحال بفعله؟ فأين المتهمون الذين يتهمون من يحكم على من وقع في عبادة غير الله -تعالى- بأنه مشرك ولا يستديم له تأويل ولا اشتباه لنقضه التوحيد الذي هو: أصل الأصول بماذا يحكمون على عبد الله بن عمر ومالك والشافعي وأحمد والقاضي عياض وابن تيمية وابن رجب بل على جماهير أئمة الإسلام؟ فهل أنتم منتهون؟! الدليل الرابع: أخرج البخاري عن عكرمة قال "أتي علي -رضي الله عنه- بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "لا تعذبوا بعذاب الله". ولقتلتهم لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬1). ا. هـ. قلت: فهؤلاء القوم ادعوا في علي -رضي الله عنه- الإلهية فعندما جاءه خبرهم حرقهم واتفق علي وابن عباس -رضي الله عنهما-، على قتلهم، وإن اختلفوا في صفة القتل ولم يُذكر أن علياً عذرهم بجهلهم وأقام الحجة عليهم وأزال عنهم الشبهة، بل أقام عليهم حد الردة بمجرد نقضهم للتوحيد. وقد يقول قائل: إن علياً أقام عليهم الحجة بدليل أنه في بعض الروايات قال لهم: إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام .... ¬

(¬1) صحيح البخاري -باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.

قلت: بل هذه استتابة بنص العلماء وليست إقامة حجة بدليل أن البخاري ساقه (¬1) تحت باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، وكذلك في كتاب نيل الأوطار وشرح منتفى الأخبار بوب المصنف أيضاً باب قتل المرتد واستشهد به (¬2). قال الشوكاني واستدل بالحديث المذكور في الباب (أي: حديث علي) على أنه: يقتل الزنديق من غير استتابة، وتعقب بأنه وقع في بعض طرق الحديث أن أمير المؤمنين علياً -رضي الله عنه- استتابهم كما في الفتح من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوماً على باب المسجد يزعمون أنك ربهم. فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ فقالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا قال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون .. قال الحافظ: إن إسناد هذا صحيح (¬3). ا. هـ. قلت: فهذه نصوص العلماء على أن هذه استتابة من الردة، وليست إقامة حجة لأنهم خرجوا عن الإسلام لا عن بصيرة فتشرع استتابتهم لأجل فيئهم إليه. نقل الحافظ ابن حجر عن الإمام الطحاوي قال: قال الطخاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من قبل أن يدعى، قالوا: وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام، لا عن بصيرة فأما من خرج عن بصيرة فلا. ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم لكن قال: إن جاء مبادراً بالتوبة خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله -تعالى (¬4) - ا. هـ. قلت: فهذه نصوص العلماء أن المسلم الذي يخرج عن الإسلام بجهل أنه مرتد وغير معذور غير أنه تشرع استتابته من الردة. قال القاضي عياض وقد أحرق علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من ادعى له الإلهية، وقد قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنبي وصلبه، وفعل ذلك غير واحد من الخلفاء والملوك بأشباههم، وأجمع علماء وقتهم على تصويب فعلهم والمخالف في ذلك من كفرهم كافر (¬5). ا. هـ. ¬

(¬1) أي: أثر تحريق الزنادقة. (¬2) أي: أثر تحريق الزنادقة. (¬3) جـ: 12 ص: 57 - كتاب نيل الأوطار. (¬4) جـ: 12 ص: 281 - فتح الباري. (¬5) الشفاء بشرح نور الدين القاري جـ: 5 ص: 472: 473.

دعوى الحلول في معين كفر بإجماع المسلمين: وقال ابن تيمية: وأما (النوع الثاني): فهو قول من يقول: بالحلول والاتحاد في معين كالنصارى الذين قالوا: بذلك في المسيح عيسى والغالية الذين يقولون: بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته ... فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين (¬1). ا. هـ. قلت: فهذه أقوال السلف بداية بالصحابة فيمن ادعى الإلهية في عبد أنه كافر مرتد لنقضه التوحيد الذي هو: أصل الدين بل كفر مثل هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام بل من يشك في كفره بعد معرفة قوله ودين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين. الدليل الخامس: ردة مانعي الزكاة: وكذلك أيضاً حكم السلف في مانعي الزكاة (وحديثهم في الصحيحين) الذين منعوها بتأويل فاسد استناداً لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا). قالوا هذا خطاب للنبي خاصة يسقط بموته ولا يملك التزكية والطهارة إلا هو -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا الجهل والتأويل الفاسد قاتلهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- قتال مرتدين وسبى ذراريهم وغنم أموالهم وشهد على قتلاهم بالنار. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -"نقلاً عن ابن تيمية": وقال الشيخ رحمه الله -تعالى- في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصديق لعمر -رضي الله عنهما-: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال: مجرد المنع لا جحد الوجوب وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون: بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة وهي قتل ¬

(¬1) جـ: 2 ص: 367: 368 لمجموع الفتاوى.

مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعاً أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما توقف غيره حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله. أما قتال المقرين بنبوة مسيلمة: فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، وهذه حجة من قال: إن قاتلوا عليها الإمام كفروا وإلا فلا، فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة بخلاف، من لم يقاتل الإمام عليها .... انتهى. فتأمل كلامه وتصريحه بأن: الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون، ويحكم عليهم بالكفر والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم والحكم عليهم بالكفر والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- والله أعلم (¬1). ا. هـ. وقال ابن تيمية: قد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان. وهؤلاء لم يكن لهم: شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله (¬2). ا. هـ. قلت: فهذه الطائفة التي منعت زكاة مالها بشبهة وتأويل فاسد -مع استمساكهم بالشهادتين والقيام بالصلاة وبقية الفرائض- فقد اتفق الصحابة على قتالهم وردتهم وغنيمة أموالهم، وسبي ذراريهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة. وهذا في فرعية من فروع الشريعة. وما أوقع القوم في هذا إلا الجهل والتأويل الفاسد بشبهة لم تكن: سائغة فلم تدرأ عنهم الكفر فلهذا كانوا مرتدين وهذا كله في فرع فما ظننا في أصل الأصول وهو: التوحيد تلك القضية التي لا نجاة لعبد في الدنيا والآخرة إلا بها. ¬

(¬1) الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة ص: 17. (¬2) جـ: 28 ص: 519 لمجموع الفتاوى.

لها أخذ الميثاق وعليها فُطر العباد، ومن أجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب وقام سوق الآخرة ولعلو شأنها جردت السيوف. وهذا القدر من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والسلف الصالح من بعدهم فيمن ارتد بعد إسلامه من هذه الأمة خير بيان لهدم قاعدة العذر بالجهل لمن تلبس بالشرك الأكبر التي أصّلها بعض المتأخرين وهي قاعدة أجنبية عن الشريعة، وقد اتسعوا بها حتى أسلموا بها الطواغيت وأعوانهم والزنادقة والملحدين والعلمانيين وهم أذيال النصارى واليهود في ديارنا ليمسخوا عقيدتنا ويمحوا إسلامنا ويرفعوا راية الصليب ونجمة داود عالية خفاقة ثم يريدون منا أن نحكم على أمثال هؤلاء المارقين بالإسلام، ونواليهم ونعادي من عاداهم فإنا لله وإنا إليه راجعون؟ أقول: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21]. فهذه النصوص بفهم الصحابة والأئمة بعدهم قاضية بردة من أشرك من هذه الأمة ونقض التوحيد خاصة بيقين. وأن من التزم التوحيد وانتهى عن الشرك والتزم الشرائع فإن وقع في أمر مكفر وكان تأويله فاحشاً وشبهته غير سائغة فلا يعذر بجهله. والدليل على هذا حديث الخوارج والقدرية الأول ومانعي الزكاة -والله تعالى أعلم-. * * *

الفصل الثالث باب الردة من كتب السلف

الفصل الثالث باب الردة من كتب السلف وفيه مبحثان: المبحث الأول: الشرك لا يجتمع مع الإسلام. المبحث الثاني: غالب الردة تنشأ عن الجهل والاشتباه.

الفصل الثالث باب الردة من كتب السلف قال القاضي عياض الإمام المالكي (فصل) في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه وما ليس بكفر. اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع ولا مجال للعقل فيه، والفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت: بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله أو مع الله فهي كفر .... وكذلك من اعترف بإلهية الله ووحدانيته ولكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم وأنه محدث أو مصور أو ادعى له ولداً أو صاحبة أو والداً أو أنه متولد من شيء أو كائن عنه أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه أو مدبراً غيره فلذلك كله كفر بإجماع المسلمين .... وكذلك من ادعى مجالسة الله والعروج إليه ومكالمته أو حلوله في أحد الأشخاص كقول: بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة. وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم أو بقائه أو شك في ذلك ... وكذلك من أضاف إلى نبينا، صلى الله عليه وسلم، تعمد الكذب فيما بلغه وأخبر به أو شك في صدقه أو سبه أو قال إنه لم يبلغ أو استخف به أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم أو قتل نبياً أو حاربه فهو كافر بإجماع .... وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب أو خص حديثاً مجمعاً على نقله مقطوعاً به مُجمعاً على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم. ولهذا نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه. فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك .... وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل: كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب والنار

المبحث الأول: الشرك لا يجتمع مع الإسلام

والسعي إلى الكنائس والبيع مع أهلها والتزيي بزيهم من شد الزنانير وفحص الرؤوس. فقد أجمع المسلمون على أن هذا لا يوجد إلا من كافر وأن هذه الأفعال علامة على الكفر وإن صرح فاعلها بالإسلام. وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرمه الله بعد علمه بتحريمه كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة (¬1). ا. هـ. المبحث الأول: الشرك لا يجتمع مع الإسلام قلت: فانظر -رحمك الله تعالى- عندما تكلم القاضي -رحمه الله- عن: الشرك الأكبر فحكم على صاحبه بالكفر والردة، وإن كان صاحبها مصرحاً بالإسلام، ولم يذكر العلم بتحريمه. وعندما تحدث: عن كفر من استحل القتل أو الزنا أو الخمر وقفه على علمه بتحريمه. لأن الأول نقض للتوحيد ولعقد الإسلام الذي جرت أحكامه عليه بافتراض أنه متوفر لديه وأنه منخلع من الشرك فمتى بان عدم انخلاعه من الشرك أو رجوعه إليه رجع القتال وارتفعت عصمة الدم والمال مرة أخرى، بخلاف فرعيات الشريعة لأنه لم يدخل في الإسلام وجرت عليه أحكامه بالإقرار بها على التعيين بل بإقراره بالتوحيد. فلذلك فهو أصل الدين الذي من تركه لا تنفعه جميع أنواع الطاعة وإن أتى بها فهي غير مقبولة بل حابطة. ويُغفر لمن أتى به كل ما هو دونه (أي: التوحيد) إن شاء الله -تعالى- لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ). ولقوله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). لذلك حكى إجماع المسلمين على أن عبادة غير الله لا توجد إلا من كافر أي: لا تصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحاً: بالإسلام مع فعله هذا الفعل أي كفر بمجرد ¬

(¬1) كتاب الشفاء بشرح نور الدين القاري جـ: 5 ص: 401: 431.

التلبس بالشرك الأكبر ومعلوم أن هذا من أبلغ صيغ العموم إذ هو أسلوب حصر وقصر أي: عبادة غير الله لا تكون إلا من كافر، ولا توجد مع الإسلام البتة، بخلاف استحلال المحرمات فقد يكون صاحبها مسلماً إذا كان نشأ ببادية بعيدة، أو حديث عهد بالإسلام، أو لم يكن المحرم: معلوماً بالاضطرار من الدين في وقته. ففي هذه الأحوال يعذر بجهله استحلال المحرمات لأن الخبريات لا يكفر جاهلها إلا بعد النص والبلاغ، بخلاف التوحيد فنقضه كفر قبل الخبر وبعده. تعريف الردة وأنواعها: قال صاحب كفاية الأخيار أبو بكر بن محمد: الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره ومنه قوله تعالى: (وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ). وفي الشرع: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام. ويحصل تارة بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بالاعتقاد وكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة فيه مسائل لا تكاد تحصر فتذكر كل نبذة ما يعرف بها غيره. أما القول: فكما إذا قال شخص عن عدوه لو كان ربي ما عبدته فإنه يكفر، وكذا لو قال لو كان نبياً ما آمنت به، أو قال عن ولده أو زوجته هو أحب إلي من الله أو من رسوله، وكذا لو قال مريض بعد ما شفي: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر لم استوجبه فإنه يكفر، وذهب طائفة من العلماء: إلى أنه يتحتم قتله لأن يتضمن قوله نسبة الله تعالى إلى الجور .... وكذا لو ادعى: أنه أوحى إليه وإن لم يدع النبوة أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها وأنه يعانق الحور العين فهو كفر بالإجماع، ومثل هذا وأشباهه كما يقوله: زنادقة المتصوفة قاتلهم الله ما أجهلهم وأكفرهم وأبلم من اعتقدهم، ولو سب نبياً من الأنبياء أو استخف به فإنه يكفر بالإجماع .... وأما الكفر بالفعل: كالسجود للصنم والشمس والقمر وإلقاء المصحف في القاذورات والسحر الذي فيه عبادة الشمس وكذا الذبح للأصنام والسخرية باسم من أسماء الله تعالى أو بأمره أو وعيده أو قراءة القرآن على ضرب الدف .... ولو فعل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر وإن كان مصرحاً

المبحث الثاني: غالب الردة تنشأ عن الجهل والاشتباه

بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب، أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها فإنه يكفر ..... وأما الكفر بالاعتقاد فكثيرة جداً فمن اعتقد: قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو اعتقد نفي ما هو ثابت لله تعالى بالإجماع أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع كالألوان والاتصال والانفصال كان كافراً .... والرضى بالكفر كفر، والعزم على الكفر كفر في الحال، وكذا لو تردد هل يكفر كفر في الحال، وكذا تعليق الكفر بأمر مستقبل كفر في الحال .... إذا عرفت هذا فمن تثبت ردته فهو مهدور الدم لأنه أتى بأفحش أنواع الكفر وأغلظها حكماً. قال الله تعالى: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ). إلى قوله: (خَالِدُونَ) وهل تستحب توبته أو تجب قولان: أحدهما تستحب لقوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" والصحيح أنها تجب .... لأن الغالب في الردة أن تكون: عن شبهة عرضت فلم يجز القتل قبل كشفها، والاستتابة منها كأهل الحرب فإنا لا نقتلهم إلا بعد بلوغ الدعوة وإظهار المعجزة (¬1). ا. هـ. المبحث الثاني: غالب الردة تنشأ عن الجهل والاشتباه: قلت: انظر -رحمك الله- إلى قوله أيضاً ولو فعل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلى من كافر وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله فيقال فيها: ما قيل من قبل وكذلك قوله بوجوب استتابة المرتد معللاً ذلك: بأن غالب الردة تكون عن شبهة وهذا أيضاً ما قاله الإمام الطحاوي: أن الاستتابة تشرع لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة. وقال ابن قدامة مرجحاً وجوب الاستتابة قال: ولأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له، فإذا تأتى عليه وكشفت شبهته رجع إلى الإسلام .... فإن قتل قبل الاستتابة لم يجب ضمانه، لأن عصمته قد زالت بردته (¬2). ا. هـ. وقال صاحب كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل (للحطاب) قال: قال ابن العربي في أول كتاب التوسط في أصول الدين: ألا ترى أن المرتد استحب العلماء له الإمهال، لعله إنما ارتد لريب فيتربص به مدة لعله أن يراجع الشك باليقين والجهل بالعلم ¬

(¬1) كفاية الأخيار جـ: 2 ص: 123 - باب الردة. (¬2) الكافي -باب المرتد.

ولا يجب ذلك لحصول العلم بالنظر الصحيح الأول (¬1). ا. هـ. وهذا يوضح بجلاء هدم قاعدة العذر بالجهل على الإطلاق التي أصلها بعض المتأخرين فإن الردة كثيراً ما تقع من أصحابها بجهل وتأويل فاسد، وليس العلم شرطاً في ثبوتها. قال الشوكاني ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى: ما قاله من جاء بلفظ كفري أو فعل فعلاً كفرياً (¬2). اهـ. قلت: وما نقلته من أبواب الردة سابقاً متواتر في كتب الفقه للعلماء الأجلاء ولولا خشية الإطالة لجئت منها بالكثير، وهو أنهم يكفرون من نقض التوحيد ولا يوقفونه على العلم بخلاف فرعيات الشريعة فهي لا يكفر صاحبها إلا أن يكون عالماً بتحريمها. لأن التوحيد كما ذكرت من قبل الحجة عليه العقل والفطرة والميثاق لا يحتاج ذلك إلى رسول بخلاف الفروع فإنها متوقفة على البلاغ. وفي نهاية هذا الفصل أذكر فيه نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها صاحب الولاء والبراء نقلاً عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قال: ذكر أهل العلم أن هناك عشرة نواقض هامة هي: (1) الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) [النساء: 116]. (2) من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعاً. (3) من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً. (4) من اعتقد أن غير هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر. (5) من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولو عمل به كفر إجماعاً والدليل قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 9]. ¬

(¬1) مواهب الجليل بشرح مختصر خليل (للحطاب) جـ: 6 ص: 281. (¬2) الدر النضيد ص: 43.

(6) من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر والدليل قوله تعالى: (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65: 66]. (7) السحر ومنه: الصرف، والعطف فمن فعله أو رضي به كفر. والدليل قوله تعالى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ) [البقرة: 102]. (8) مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين. والدليل قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51]. (9) من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباع النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام فهو كافر. (10) الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة: 22]. ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره وكلها من أعظم ما يكون خطراً ومن أكثر ما يكون وقوعاً فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه (¬1). ا. هـ. قلت: وبهذا قد تم هذا الباب -بفضل الله وكرمه- وهو حكم الشرع فيمن أحدث ردة وبدّل دينه بعد أن استقام على التوحيد والإسلام. * * * ¬

(¬1) الولاء والبراء ص: 77.

الباب الرابع الرد على الشبهات في قضية عدم العذر بالجهل والتأويل في أصل الدين

الباب الرابع الرد على الشبهات في قضية عدم العذر بالجهل والتأويل في أصل الدين وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الرد على الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم. الفصل الثاني: الرد على الشبه المستدل بها خطأ من السنة المطهرة. الفصل الثالث: الرد على فرية بدعة تقسيم الدين إلى أصول وفروع. الفصل الرابع: موقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من تكفير المعين.

الفصل الأول الرد على الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم

الفصل الأول الرد على الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ. المبحث الثاني: شروط الاجتهاد. المبحث الثالث: إثبات الضلال قبل البيان.

المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ

الفصل الأول الرد على الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم الشبهة الأولى: الاستدلال بعموم رخصة الخطأ: الشبهة الأولى -الاستدلال برخصة الخطأ وأن الجهل فرد من أفراده وهو مرفوع عن الأمة في التوحيد والأصول والفروع واستدل الأخوة الأفاضل في هذا بقوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286] وبقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5]. وبالحديث الصحيح معناه: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر". والحديث الآخر: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وقالوا أن هذه رخصة عامة وهي تخصص عموم آيات الشرك. أقول وبالله التوفيق: إن هذه الرخصة ليست على عمومها بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وفهم الصحابة والأئمة من بعدهم. المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ: أما الكتاب: الدليل الأول قوله تعالى: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ). ووجه الدلالة: حبوط الأعمال مع عدم الشعور. قال البخاري في كتاب التفسير وأنتم لا تشعرون: وأنتم لا تعلمون. فهذا النص ينص على أن العبد المسلم قد يأتي من الأقوال أو الأعمال أو الأفعال ما يحبط عمله بهذا وهو لا يعلم ويراجع، نقل ابن تيمية في هذه الآية السابق نقله من الصارم والحبوط الكلي لا يكون: إلا بالكفر، كما أن غفران الذنوب جميعها لا يكون إلا بالتوبة وهذا من أصول أهل السنة. فهذه الآية تنص على استثناء الكفر من عموم رخصة الخطأ. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).

فهؤلاء القوم كما رجح ابن تيمية قد قالوا: هذا القول الذي قد علموا حرمته، ولم يقصدوا الكفر، وظنوا أن الخوض واللعب يدرأ الكفر عن صاحبه كالإكراه وأن الكفر لا يكون إلا مع العمد والجد ومع ذلك كفرهم الشرع ولم يقبل عذرهم فهؤلاء مع جهلهم بكفرهم لم يُعذروا برخصة الخطأ فهذا النص أيضاً يدل على استثناء الكفر من عموم رخصة الخطأ. الدليل الثالث: يراجع الاحتجاج بدليل عموم آيات النفاق وقوله تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) وقوله تعالى: (وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) وقوله (وَمَا يَشْعُرُونَ). وصف أهل القبلة: أما الاحتجاج بالآيتين (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا) وقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ). فيقال: إن هذه رخصة لأهل القبلة ومعلوم أن وصف أهل القبلة لا يكون إلا لعبد موحد متحنف كفر بكل ما يعبد من دون الله وترك الشرك عن علم وقصد، ووحد الله الواحد القهار، فهذا هو الذي يترخص برخص أهل القبلة أما المشرك والكافر فليس من أهل القبلة (¬1) والدليل على ذلك أن رخصة الخطأ جاءت بعد سياق تحقيق الإيمان بقوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ .... رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). فمن السياق يُعلم أن رخصة الخطأ هي: فيما دون ذلك القدر من التوحيد والإيمان الذي هو أصل الدين وهذا كالحديث الذي في البخاري: "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ..... فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له .. ". قال الحافظ: قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة. قلت: (أي الحافظ) وهذا بناء على أن قوله: "من ذلك شيئاً" يتناول جميع ما ذكره وهو ظاهر (¬2). ا. هـ. ثم أخذ الحافظ يذكر تأويلات العلماء في هذا ورجح كلام الإمام النووي. ¬

(¬1) يراجع: المبحث الثالث من الفصل الثالث من الباب الثاني. (¬2) جـ: 1 ص: 81: 83 - كتاب فتح الباري.

وهذا لأن عمومات تحريم الشرك وعدم غفرانه هذه العمومات المكية المحفوظة تخصص جميع الرخص لأهل القبلة لأنهم ما استحقوا هذا الوصف إلا بتحقيق التوحيد وخلع عبادة وتأله كل ما يعبد من دون الله. قال الطبري إمام المفسرين في قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). وهذا تعليم من الله -عز وجل- عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه وما يقولون في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا ربنا لا تؤاخذنا إن نسيناً شيئاً فرضت علينا عمله فلم نعمله أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه على غير قصد منا إلى معصيتك ولكن على جهالة منا به وخطأ. وساق بسنده عن ابن زيد في قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). إن نسينا شيئاً مما افترضته علينا أو أخطأنا شيئاً مما حرمته علينا .... فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله -عز وجل- في تركه مؤاخذته به وهو النسيان الذي عاقب الله -عز وجل- به آدم، صلى الله عليه وسلم، فأخرجه من الجنة فقال في ذلك (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) وهو النسيان الذي قال جل ثناؤه: (فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا). رخصة الخطأ فيما دون الكفر: فرغبة العبد إلى الله -عز وجل- بقوله: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطاً منه فيه وتضييعاً كفراً بالله -عز وجل- فإن ذلك إذا كان كفراً بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله -عز وجل- قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسئلته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل: نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته ومثل نسيانه صلاة أو صياماً .... وكذلك الخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نهى عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة فذلك خطأ منه وهو به مأخوذ ... وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه إلا ما كان من ذلك كفراً. ا. هـ.

قلت: فهذا تأويل إمام المفسرين لهذا النص وهذا التفسير الذي قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن صاحبه. أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين .... وقال فيه أيضاً: لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها (أي: البغوي والقرطبي وابن عطية والزمخشري وغيرهم (¬1). ا. هـ. فقد نص إمام المفسرين على أن رخصة الخطأ والنسيان هي فيما هو دون الكفر وذلك لخبر الله لنا: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). وذلك لأنه كما قلت سابقاً: أن أهل القبلة هم الذين: تابوا من الشرك والتزموا الشرائع كما في قوله تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ). قال حبر الأمة ابن عباس -رضي الله عنهما- حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة (¬2). فهذا وصف أهل القبلة: الانخلاع من الشرك والتزام الشرائع فهذا هو الذي يترخص برخص أهل القبلة، أما المشرك فقد بان عن وصف أهل القبلة فلا يتمتع برخصها. قال ابن تيمية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به". والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان. فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث، لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، في الحقيقة ويكون بمنزلة المنافقين، فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله وهذا فرق بيّن يدل عليه الحديث وبه تأتلف الأدلة الشرعية. وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان كما دل عليه الكتاب والسنة. فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس كما يخرجون من النار بخلاف من ليس معه الإيمان فإن هذا لم يتدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطأه ونسيانه (¬3). ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 13 ص: 385: 388 لمجموع الفتاوى. (¬2) راجع أحكام القرآن للقرطبي. (¬3) جـ: 10 ص: 760 لمجموع الفتاوى.

فهذا نص ابن تيمية صريح في أن العبد الذي يتمتع برخص أهل القبلة هو من صح إيمانه وأن العفو يكون في الأمور التي لا تناقض الإيمان. أما الكافر والمشرك ومن فسد إيمانه من أهل القبلة فهؤلاء لم يتناولهم لفظ الحديث وبهذا التأويل تأتلف الأدلة الشرعية وبهذا انتهى الاستدلال من الكتاب. أما الاستدلال من السنة. الحديث الأول: حديث الخوارج: ويراجع بحثهم في هذا الكتاب ووجه الدلالة منه أنهم أحدثوا اعتقاداً ظنوا به أنهم صفوة الله من خلقه، وأنهم المقبولون به عند بارئهم، دون غيرهم بل كفّروا وكل من خالف معتقدهم وكانوا على عبادة عظيمة. ومع ذلك فقد اتفقت الأمة على ذمهم وتضليلهم واختلفوا في تكفيرهم هذا مع قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في شأنهم: "يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم". فمع تأويلهم وجهلهم اتفقت الأمة على إثمهم ولم يعذروهم برخصة الخطأ. وأعيد في هذا المقام قول إمام المفسرين الإمام الطبري فيهم: ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه (¬1) اهـ. فهذا الحديث نص في أن رخصة الخطأ ليست على عمومها فتثبت لها التخصيص. وهذا إما أن يكون في الفروع أو في أصول الاعتقاد أو في أصل الدين الذي هو: التوحيد وترك الشرك فإن كان التخصيص للفروع فهو أيضاً للأصول الاعتقادية ومن باب أولى لأصل الدين-. وإن ثبت للأصول الاعتقادية فهو من باب أولى يثبت لأصل الدين. وإما أن يكون لأصل الدين وإن ثبت أن التخصيص له فلا يلزم من ذلك أن يكون للأصول الاعتقادية فضلاً عن فروع الشريعة ففي جميع الاحتمالات ثبت التخصيص لعموم رخصة الخطأ: للتوحيد وترك الشرك الذي هو: أصل الدين. الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه " ... وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري كنت أقول ما يقوله الناس ... ". ¬

(¬1) منقول من فتح الباري وقد مر سابقاً فليراجع.

قال الحافظ: وفيه ذم التقليد في الاعتقادات لمعاقبة من قال: كنت أسمع الناس يقولون شيئاً فقلته (¬1). ا. هـ. قلت: ومن المعلوم أن المقلد جاهل مخطئ إلا أنه غير معذور بجهله بالتقليد في الاعتقادات الباطلة ولم يعذر بالخطأ. الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه " .... وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم". وفي رواية -وهي في الصحيحين- (ما يتبين ما فيها) .. قال الحافظ: في قوله (يهوي) .. وأخرج الترمذي هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق ... بلفظ "لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً" (¬2). ا. هـ. قلت: فهذا الحديث في الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين ما فيها من المعصية والتعدي يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ولم يعذر بالجهل والخطأ. قال الشيخ العز بن عبد السلام: هي الكلمة التي: لا يعرف القائل حسنها من قبحها. قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه. قلت (أي الحافظ) وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب (¬3). ا. هـ. وخير بيان لهذا الحديث على سبيل الثال لا الحصر الخارجي المعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن هذه القسمة لم يراد بها وجه الله" فهذا المأبون يريد أن ينكر منكراً في ظنه فقال كلمة يرجوا ثوابها فكان كافراً مرتداً ولم يظن أنها تبلغ من سخط الله ما بلغت وما يتبين ما فيها من المروق ولا يرى بها بأساً ومع هذا لم يعذر بالخطأ والجهل فثبت التخصيص لهذه الرخصة في الكفر الأكبر. والأحاديث في هذا المقام كثيرة ولولا خشية الإطالة لآتيت بها وبتفسير السلف الصالح لها. ¬

(¬1) جـ: 3 ص: 284 - فتح الباري "كتاب الجنائز". (¬2) جـ: 11 ص: 314: 318 - فتح الباري. (¬3) المصدر السابق فليراجع.

وأما الإجماع: قال القاضي عياض: وذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضة للتأويل وفارق في ذلك فرق الأمة إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين في واحد والمخطئ فيه آثم عاص فاسق وإنما الخلاف في تكفيره (¬1). ا. هـ. فهذا إجماع على أن المخطئ في أصول الدين آثم عاص فاسق، والخلاف في تكفيره. فالأمة اتفقت وأجمعت على أن رخصة الخطأ فيما دون أصول الدين والمقصود بأصول الدين هو: أصول اعتقاد أهل السنة مثل: الإيمان قول وعمل وأن الله في السماء ورؤية الله في الآخرة وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ... فهذا الذي يخالفهم فيه مخطئ آثم مختلف في تكفيره ويكون مبتدعاً لمخالفة أصول الاعتقاد عند أهل السنة التي وقع عليها الإجماع وليس المقصود بذلك (¬2): التوحيد وترك الشرك. لذلك قيده القاضي بقوله: فيما كان عرضة للتأويل بخلاف التوحيد فهذا أصل الأصول وهو أصل الدين. قال صاحب عون المعبود وقال عبد الرحمن أيضاً: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركنا السلف عليه وما يعتقدون من ذلك؟. فقال: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً فكان مذهبهم: أن الإيمان: قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله وأن الله -تعالى- على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، بلا كيف أحاط بكل شيء علماً (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (¬3). ا. هـ. ¬

(¬1) الشفاء بشرح نور الدين القاري جـ: 5 ص: 393: 394. (¬2) أي: الخلاف في تكفير صاحبه. (¬3) عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ: 13 ص: 48.

المبحث الثاني: شروط الاجتهاد

ترك تكفير المبتدعين بشرط الإقرار بالتوحيد والتزام الشرائع: فهذه هي أصول الاعتقاد وأصول الدين التي اختلف السلف في تكفير من خالفها من أهل البدع بعضهم رجح التكفير والجمهور على عدم تكفيرهم بشرط أن يكونوا موحدين ملتزمين للشرائع. قال الحافظ تعليقاً على حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله". قال: ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع (¬1). ا. هـ. قلت: فهذا ما اتفق عليه سلف الأمة أن المبتدع المختلف في تكفيره من هذه الأمة هو من كان موحداً ملتزماً للشرائع. المبحث الثاني: شروط الاجتهاد: وحديث "إذا اجتهد الحاكم فأصاب ... ". فالاجتهاد يكون: في الفروع وليس في الأصول الاعتقادية فضلاً عن أصل الدين وأيضاً في الفروع التي ليس عليها قاطع من الشرع. فلا يجوز أن يُجتهد في عدد ركعات الصلاة وفرضها ولا في وجوب الحج والصيام وحرمة الفواحش التي عليها قاطع من الشرع. فمحل الاجتهاد في جزء يسير في الشريعة فهو في: الفروع العملية التي ليست عليها قاطع من الشرع: وأما المجتهد فلا بد أن يكون جامعاً لآلة الاجتهاد فإن لم يكن جامعاً لآلة الاجتهاد فهو آثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القضاة ثلاثة: اثنان في النار منهم من قضى على جهل فهو في النار فهناك شرطان حتى يؤجر المجتهد المخطأ. أولهما: أن يكون عالماً جامعاً لآلة الاجتهاد. فالجاهل لم تأذن له الشريعة في الاجتهاد البتة. الثاني: أن يجتهد في الفروع العملية الظنية التي ليس عليها قاطع من الشرع. فإن الشريعة قد أحكمت التوحيد وهو أصل الدين وكذلك أصول الاعتقاد وكذلك كثير من الفروع العملية كالفرائض وحرمة الفواحش فهذه ليس فيها اجتهاد ولا مأذون للاجتهاد فيها للمجتهد الجامع لآلة الاجتهاد، فضلاً عن الجاهل. ¬

(¬1) جـ: 1 ص: 97 - فتح الباري.

فمن اجتهد فيها فهو آثم لا ريب كمن اجتهد فيما أذن الشرع فيه إلا أنه غير جامع لآلة الاجتهاد فهذا أيضاً آثم لا شك في ذلك. وهذا القدر متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها كما نقل القاضي عياض الإجماع عليه. قال الإمام النووي تعليقاً على الحديث (إذا اجتهد الحاكم) فقال: قال لعلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجران أجر باجتهاده وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده، وفي الحديث محذوف تقديره إذا أراد الحاكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك وقد جاء في الحديث في السنن: القضاة ثلاثة قاض في الجنة واثنان في النار .. وقاض قضى على جهل فهو في النار. (ثم أخذ يتكلم عن مسألة هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد إلى أن قال). وهذا الاختلاف إنما هو: في الاجتهاد في الفروع فأما أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد بإجماع من يعتد به (¬1). ا. هـ. وقال صاحب عون المعبود تعليقاً على الحديث قال: قال الخطابي: إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق. لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط. وهذا فيمن كان جامعاً لآلة الاجتهاد عارفاً بالأصول عالماً بوجوه القياس، فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر ويدل عليه قوله، صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار". وهذا إنما هو: في الفروع المحتملة للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه ولا مدخل فيها للتأويل، فإن من أخطأ فيها كان غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك مردوداً (¬2). ا. هـ. قلت: ويراجع أيضاً فتح الباري وغيرها من كتب الحديث. ¬

(¬1) صحيح مسلم شرح النووي جـ: 12 ص: 13. (¬2) عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ: 9 ص: 488: 489.

لا اجتهاد في القطعيات: قال الإمام الشوكاني نقلاً عن الغزالي: في تعريف الاجتهاد قال فهو: استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه وهو: سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل: مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهداً وليس هكذا حال الأصول. انتهى ... ومنهم من قال: هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي فزاد قيد الظن لأنه لا اجتهاد في القطعيات .. وإذا عرفت هذا (كلام الإمام الشوكاني) فالمجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي. وإذا عرفت معنى الاجتهاد والمجتهد فاعلم أن المجتهد فيه: هو الحكم الشرعي العملي. قال في المحصول: المجتهد فيه: هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام، وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكاة وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشريعة .... المسألة السابعة: اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب، والمسائل التي الحق فيها مع واحد من المجتهدين وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين: الفرع الأول: العقليات وهي على أنواع: النوع الأول: ما يكون الغلط فيه مانعاً من معرفة الله ورسوله كما في إثبات العلم بالصانع والتوحيد والعدل. قالوا فهذه الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب الحق ومن أخطأه فهو كافر. النوع الثاني: مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فالحق فيها واحد فمن أصابه فقد أصاب، ومن أخطأه فقيل: يكفر، ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعمة (¬1). ا. هـ. قلت: فهذا المعنى مستقر في كتب شروح السنة وكتب أصول الفقه. ¬

(¬1) إرشاد الفحول ص: 250: 259 - باب الاجتهاد.

أن المجتهد لا بد أن يكون جامعاً لآلة الاجتهاد، والمُجْتهد فيه الفروع العملية التي ليس عليها قاطع فكيف يستقيم هذا مع من يقول بأن المشرك المجتهد معذور لحديث "إذا اجتهد الحاكم" ولقوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). وذلك لأسباب: (1) أن المشرك ليس من أهل القبلة. (2) أنه ليس بجامع لآلة الاجتهاد. (3) أنه اجتهد فيما لم يأذن الشرع له فيه أن يجتهد. أما أقوال الصحابة والأئمة من بعدهم في هذه القضية فمنها: (1) موقف الصحابة من مانعي الزكاة ولم يعتبروا تأويلهم وخطأهم باحتجاجهم خطأ يقول الله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا). بل قاتلوهم قتال مرتدين (يراجع ما جاء في هذا المقام بالنسبة لمانعي الزكاة) (¬1). (2) موقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- من القدرية الأول ولم يعتبر الاشتباه الذي قد وقعوا فيه وإرادتهم تنزيه الله عن الظلم فوقعوا في التنقص به من حيث لا يشعرون وبراءته منهم بمجرد سماع مقالتهم (يراجع النقل فيها) (¬2). (3) موقف الأئمة من أصحاب البدع المغلظة ولم يعتبروا تأويلهم وجهلهم وخطاهم على سبيل المثال لا الحصر -الجهمية. قال ابن تيمية: قال: وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا عنه أنه تكلم في تضليلهم: يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة. فقيل: لابن المبارك والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية (¬3). ا. هـ. وقال أيضاً: قال البخاري: وأقول: في المصحف قرآن وفي صدور الرجال قرآن فمن ¬

(¬1) يراجع الفصل الثاني من الباب الثالث -مسألة: ردة مانعي الزكاة. (¬2) يراجع المبحث الرابع من الفصل الثاني من الباب الثالث -فرق القدرية وحكمها. (¬3) جـ: 3 ص: 350 لمجموع الفتاوى.

قال غير هذا: يستتاب فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر (¬1). ا. هـ. وقال صاحب عون المعبود وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: قال سمعته وبلغه عن رجل أنه قال إن الله لا يرى في الآخرة فغضب غضباً شديداً ثم قال: من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر فعليه لعنة الله وغضبه من كان من الناس أليس الله -عز وجل- يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). وقال: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ). فهذا دليل على أن المؤمنين يرون الله .... وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل وقد ذكر عنده شيء في الرؤية فغضب وقال: من قال: إن الله لا يرى فهو كافر (¬2). ا. هـ. قلت: وفي هذا القدر الكفاية بفضل الله للرد على هذا الاشتباه وبيان أن رخصة الخطأ هي فيما دون أصل الدين أي: التوحيد وترك الشرك وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وعليه سلف الأمة وأئمتها. وقد استفضت في الرد على هذا الاشتباه (لأنه من جهة الأمانة العلمية أقوى دليل يُستدل به خطأ في هذه القضية وبمشيئة الله هذا لن يكون دأبي في بقية الشبه فمنها بمشيئة الله ما سوف أمر عليه مر الكرام إما لوهنه الشديد في الاشتباه وإما لأنه أجنبي عن الاستدلال في المسألة وبالله التوفيق. حادثة الحواريين: الشبهة الثانية: الاستدلال بقول الله -تعالى-: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 112: 113]. قالوا: فهؤلاء القوم شكوا في قدرة الله وفي صدق نبوة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وعذروا بجهلهم والجواب: ¬

(¬1) جـ: 4 ص: 182 لمجموع الفتاوى. (¬2) عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ: 13 ص: 54: 55.

الحواريين أعلم بالله من أن يشكوا فيه: حمل جمهور العلماء من المفسرين: قراءة يستطيع ربك على قراءة تستطيع ربك بنصب ربك بمعنى: هل تستطيع أنت أن تسأل ربك نزول المائدة. وقالوا: إن القوم أعلم من أن يشكوا في قدرة الله. وقراءة يستطيع قالوا عنها: يستطيع بمعنى: يُجيبك ربك ويطيع لك في هذا. وهذا مشهور في كلام العرب. قال ابن تيمية: وكذلك قول الحواريين: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ). إنما استفهموا عن هذه القدرة (¬1) وكذلك ظن يونس أن لن نقدر عليه أي فسر بالقدرة كما يقال للرجل هل تقدر أن تفعل كذا؟ أي: هل تفعله؟ وهو مشهور في كلام الناس (¬2). ا. هـ. وقال بعض أهل العلم: إنهم شكوا في قدرة الله وفي صحة رسالة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأنهم وقعوا في هذا قبل أن تستحكم المعرفة في قلوبهم وحملوا المعنى على هذا وقالوا إن القوم كفروا بهذا القول واستتابهم نبيهم، صلى الله عليه وسلم، من هذا القول بقوله: (اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). وهذا ترجيح الإمام الطبري وكذلك قولهم (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا). قال الإمام الطبري أنهم شكوا في رسالته لذلك هو رجح كفرهم وجمهور المفسرين قالوا: أي نزداد يقينا وتصديقاً في رسالته، وأن القوم لم يشكوا بل طلبوا آية حسية يزدادون بها يقيناً وصدقاً خالصاً من الخواطر والهواجس النفسية. فهل بعد هذا التفصيل -بفضل الله تعالى- لكلام المفسرين من شبهة بقيت للاحتجاج بها على قضية العذر بالجهل؟. فالعلماء منهم من رجح الشك فكفروهم ولم يعذروهم. والجمهور على أن القوم لم يشكوا وأنهم أعلم بالله من هذا وهو الراجح من القول وهو قول علي وعائشة وابن عباس ومجاهد (¬3) وأنهم طلبوا آية حسية يزدادون بها يقيناً وصدقاً. ولم يقل أحد من العلماء: أنهم شكوا في قدرة الله وصحة الرسالة وعُذروا بهذا. ¬

(¬1) أي القدرة المقارنة للمقدور أي: هل قدر هذا -وليست القدرة على الفعل. (¬2) جـ: 8 ص: 374 لمجموع الفتاوى. (¬3) يراجع تفسير الإمام البغوي.

وقوله تعالى: (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا). أي: نرى آية حسية والعرب تضع الرؤية مكان العلم والعلم مكان الرؤية. قال القرطبي في قوله تعالى في تحويل القبلة (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة: 143]. قال علي -رضي الله عنه-: معنى "لنعلم" لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ). بمعنى: ألم تعلم. ا. هـ. فالمقصود من العلم هنا: -والله أعلم- رؤية حسية تطمئن قلوبهم بها كقوله تعالى (بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). عن إبراهيم الخليل، صلى الله عليه وسلم، عندما سأل ربه آية حسية يزداد قلبه بها طمأنينة. قال -البغوي- قرأ الكسائي: (هل تستطيع) بالتاء (ربك) بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد. أي: هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك. وقرأ الآخرون (يستطيع) بالياء و (ربك) برفع الباء. ولم يكونوا شاكين في قدرة الله -عز وجل- ولكن معناه: هل ينزل ربك أم لا؟ كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا .. (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا) بأنك رسول الله أي: نزداد إيماناً ويقينا ا. هـ. وقال ابن كثير: (.. هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) هذه قراءة كثيرين وقرأ آخرون (هل تستطيع ربك) أي: هل نستطيع أن تسأل ربك .. (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا) أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك).ا. هـ. وقال القرطبي: ... فقال السدي: المعنى: هل يطيعك ربك إن سألته (أن ينزل) فيستطيع بمعنى: يطيع كما قالوا: استجاب بمعنى: أجاب وكذلك استطاع بمعنى: أطاع. وقبل المعنى: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله -عز وجل. ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: (اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي: لا تشكوا في قدرة الله -تعالى-. قلت: وفي هذا نظر لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ) [الصف: 14]. وقال عليه السلام

"لكل نبي حواري وحواري الزبير". ومعلوم أن الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، جاءوا بمعرفة الله -تعالى- وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفي ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله -تعالى-؟ ... وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي، وقد علمت أنه يستطيع فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله -تعالى- لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك كما قال إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى). على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة. قلت وهذا تأويل حسن، وأحسن منه أن ذلك كان من قول: من كان مع الحواريين .. قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبراً عن الحواريين لعيسى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) ليس يشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال وأدب مع الله -تعالى- إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه لكل أحد والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله -تعالى- على كل شيء ممكن؟ وأما قراءة التاء فقيل المعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك. هذا قول عائشة ومجاهد -رضي الله عنهما -قالت عائشة- رضي الله عنها- كان القوم أعلم بالله -عز وجل- من أن يقولوا "" [قالت] ولكن "هل تستطيع ربك" وروى عنها أيضاً أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا: "هل تستطيع ربك" وعن معاذ بن جبل قال: "أقرأنا النبي، صلى الله عليه وسلم، "هل تستطيع ربك" قال معاذ: وسمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، مراراً يقرأ بالتاء "هل تستطيع ربك". ا. هـ. وقال الطبري: ... فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين "هل تستطيع" بالتاء "ربك" بالنصب بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو هل تستطيع أن تدعو ربك؟ أو هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكين أن الله -تعالى ذكره- قادر أن ينزل عليهم ذلك وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك .... (ثم أخذ يتكلم عن قراءة يستطيع ويرجحها فقال): إن الله -تعالى ذكره- قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قبلهم ذلك والإقرار لله بالقدرة على كل شيء وتصديق

رسوله، صلى الله عليه وسلم، فبما أخبرهم عن ربهم من الأخبار، وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاماً منه لما قالوا: (اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). ففي استتابة الله إياهم ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله، صلى الله عليه وسلم، عند قيلهم ما قالوا من ذلك واستعظام نبي الله، صلى الله عليه وسلم، كلمتهم الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع "الربُ" ... وأما قوله: "قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" فإنه يعني: قال عيسى للحواريين القائلين له: " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ " راقبوا الله أيها القوم وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده. وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماءكفر به فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين. ا. هـ. قلت: فهل بعد سرد كلام العلماء في هذه الآية تبقى شبهة في الاحتجاج بها في قضية العذر بالجهل في أصل الدين؟ اترك للقارئ الفاضل الإجابة على هذا السؤال. الشبهة الثالثة: الاستدلال بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115]. وقالوا: الضلال لا يكون إلا بعد بيان وهذا النص يعم الشرك وما دونه ولفظ الضلال في هذا لا يقع إلا بعد البيان -والجواب. منهج أهل السنة في الاستنباط: إن أهل السنة عندما يريدون أن يستنبطوا حكماً معيناً ينظرون إلى الأدلة على أنها مجتمعة لا متفرقة وعلى أن القرآن يصدق بعضه بعضاً لا يكذب بعضه بعضاً لقوله تعالى: (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً). أي: يشبه بعضه بعضاً لا اختلاف فيه، ولقوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً). فعند الجمع بين أطراف الأدلة وتنزيل كل دليل على مناطه يتضح الحكم ويظهر بقوة وبيان وجلاء، أما أهل البدع والعياذ بالله فينظرون بنظرة متشابه وعلى آحاد الأدلة ويقتطعون الشرع ويضربون بعضه ببعض. ففي هذه الآية ينفي القرآن فيها الضلال إلا بعد البيان ولكن هذا فيما دون الشرك والكفر لأن القرآن أثبت الضلال قبل البيان في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي

الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ -إلى قوله- وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ). [البقرة، الآية: 198]. قال القرطبي: أي: ما كنتم من قبل إنزاله (أي القرآن) إلا ضالين. ا. هـ. وقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي (¬1)). وهذا عندما وجد بعض الأنصار من قسمته، صلى الله عليه وسلم، فهذه نصوص الكتاب والسنة أن المشركين قبل البيان كانوا من الضالين وكذلك قوله تعالى: (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) [الأعراف: 30]. قال ابن كثير: قال ابن جرير الطبري: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرق. وقد فرق الله -تعالى- بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية. ا. هـ. وقال البغوي: فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء. ا. هـ. قلت: فهذان إمامان جليلان من أئمة السنة ابن جرير الطبري وابن كثير وكذلك الإمام البغوي على أن هذه الآية التي بين أيدينا تنص على أن الكافر الذي يظن أنه على الحق والصراط المستقيم بيد أنه في حقيقة الأمر على سبيل من السبل بسبب الجهل والتأويل أنه عير معذور فثبت بهذا النص أن الكفر والشرك مستثنى من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ). قال ابن تيمية ولفظ "الضلال" إذا أطلق تناول من ضل عن الهدي سواء كان عمداً أو جهلاً ولزم أن يكون معذباً كقوله: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ). وقوله: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ ¬

(¬1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 7 ص: 157.

المبحث الثالث: إثبات الضلال قبل البيان

لَعْناً كَبِيراً). وقوله (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (¬1). ا. هـ. المبحث الثالث: إثبات الضلال قبل البيان: قلت: وكذلك قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ). وقوله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) [الأنعام: 140]. قال ابن كثير: يقول تعالى: قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم وضيقوا عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله وافترائهم .... . . . عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال إذا سرك أن تعلم جهل العرب فقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ -إلى قوله- قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ). وهكذا رواه البخاري منفرداً في كتاب مناقب قريش من صحيحه. ا. هـ. قلت: فهذه الآية التي تتحدث عن قريش قبل البعثة أنهم مع جهلهم وافترائهم وقبل البيان من الله كانوا ضالين لأن ذلك كان في التشريع وهو من أخطر أنواع الشرك بل هو أساس كل شرك التشريع من دون الله لأن العبيد لو وقفوا على تشريع الله ولم يتعدوا حدوده لما وجدت شركاً ولا بدعة. وكذلك قوله تعالى: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ). [النحل: 25]. الجهل أساس الضلال: قال القرطبي: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال مجاهد: يحملون وزر من أضلوه ولا ينقص من إثم المضل شيء. وفي الخير "أيما داع إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وأيما داع إلى هدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء". أخرجه مسلم بمعناه و "من" للجنس لا للتبعيض. فدعاة الضلالة عليهم مثل أوزار من اتبعهم. وقوله "بغير علم" أي: يضلون الخلق ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 166 لمجموع الفتاوى.

جهلاً منهم بما يلزمهم من الآثام إذ لو علموا لما أضلوا. ا. هـ. قلت: ويراجع تفسيري ابن جرير وابن كثير فهما في نفس المعنى تماما. فهذا النص ينص على إثم من ضل بغير علم وهو في الشرك والبدع العقائدية ويراجع بحث الاجتهاد السابق ذكره للعلماء الذين تحدثوا عن الاجتهاد الخطأ وضوابطه ومجاله. وهذه الآية تتفق تماما مع الحديث الذي في البخاري. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس (ولا تقف) لا تقل (ما ليس لك به علم) "إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم. فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" ... وفي رواية حرملة: "يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون". قال الحافظ: وفي حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة: "أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئاً" فإن في بقيته "فسأله أعرابي فقال: يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم" (¬1) ولهذه الزيادة شواهد من حديث عوف بن مالك وابن عمرو وصفوان بن عسال وغيرهم وهي عند الترمذي والطبراني والدارمي والبزار بألفاظ مختلفة وفي جميعها هذا المعنى (¬2). ا. هـ. قلت: فهذا الحديث ينص في صراحة بوقوع لفظ الضلال مع الجهل للتابع والمتبوع فالآية والحديث يدلان بوضوح بوقوع لفظ الضلال والوزر مع الجهل والتأويل وهذا يكون في الشرك والابتداع ولهذا بوب البخاري باباً في نفس هذا الكتاب (أي الاعتصام بالكتاب والسنة). باب إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة لقول الله تعالى: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ). الآية. ¬

(¬1) وهذه الزيادة أيضاً في سنن ابن ماجة وصححها الشيخ الألباني -صحيح سنن ابن ماجة جـ: 2 ص: 377. (¬2) فتح الباري جـ: 12 ص: 295: 299.

قال الحافظ ... فأما حديث "من دعا إلى ضلالة" فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ... عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" ... قال: المهلب هذا الباب والذي قبله في معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين، والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين. انتهى. ووجه التحذير: أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها (¬1). ا. هـ. قلت: فمن النص القرآني والأحاديث الصحيحة بعلم: أن الضلال والوزر يقعان مع الجهل والتقليد المحض في الشرك والبدع ومحدثات الأمور وهذا يخصص عموم قوله -تعالى- (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ). قال ابن كثير وقال ابن جرير: يقول الله -تعالى-: وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته ذلك بالنهي عنه ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعاً أو عاصياً فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه. ا. هـ. قلت: انظر رحمك الله قول الإمامين ابن كثير وابن جرير في هذه الآية وفي آية "فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ". صريح بالمؤاخذة في الاعتقاد وبغير المؤاخذة في الأوامر والنواهي في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً). وهذا أكبر دليل على أن مناط الآية الأولى غير مناط الآية الثانية ولا تعارض بينهما لعدم اتحاد مناطهما. ¬

(¬1) فتح الباري جـ: 13 ص: 315.

العذاب لا يقع إلا بعد البيان: وقال الإمام البغوي: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) الآية معناه: ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ). يريد: حتى يتقدم إليكم بالنهي فإذا تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال. قال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة فافعلوا أو ذروا. وقال الضحاك: ما كان الله ليعذب قوماً حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون. ا. هـ. قلت: فهذه أقوال المفسرين في هذه الآية أنها نزلت بسبب استغفار المسلمين لآبائهم المشركين تأسياً بإبراهيم الخليل، صلى الله عليه وسلم، في استغفاره لأبيه. وهذه معصية لم يسبق النهي عنها في حقهم بنص فخاف المسلمون من الإثم بعد نزول النهي عنها، فنزل قول الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً). وقال العلماء: إنها عامة في جميع الأوامر والنواهي دون الشرك والابتداع وبهذا تأتلف النصوص والأدلة الشرعية بفضل الله وحده. الضلال المستوجب للعقوبة لا يكون إلا بعد البلاغ: والضلال المنفي في الآية هو الضلال المستوجب للعقوبة كما قال الضحاك وهذا (أي العقاب) مرفوع في الأصول والفروع والكليات والجزئيات حتى يأتي الشرع لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ولا حظر ولا أمر إلا بشرع ولا يلزم العباد التكليف إلا بالبلوغ منع انتفاء المعارض من التمكن من العلم فهذا هو الضلال المستوجب للعقوبة في الدارين: وأما الضلال الذي هو الغياب عن سنن الهدى فهذا متحقق قبل النص لأنه لا خروج من الضلال إلا بنص من الله جل ثناؤه ومن هذا يعلم قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم" (¬1) ... فلا خروج من الضلال إلا بالنص والبلاغ عن الله. لذلك من وقع في الشرك قبل البعثة فهو مشرك ضال ولو لم يأته بيان من الله لنقضه العهد والميثاق والفطرة وحجية الآيات لكونية لذلك وصف القرآن المشركين قبل البعثة بالضلال كقوله تعالى: (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ). وقوله تعالى: ¬

(¬1) صحيح مسلم -كتاب البر والصلة والآداب وابن ماجه في الزهد والترمذي -باب صفة القيامة.

(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ). والحديث الصحيح -ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي-. فالشرك قبل البعثة قبح وضلال وغياب عن سنن الهدى وسبب للعذاب إلا أنه متوقف على شرط وهو البعثة الرسالية لذلك كما قال ابن تيمية سابقا (واسم المشرك ثبت قبل الرسالة لأنه يشرك بربه) وابن القيم. أن الحجة في الشرك العقل وأما الحجة الرسالية فهي حجة في العذاب. وبهذا يعلم أن الضلال قبل البيان خروج عن الصراط المستقيم وأصحابه قطعا إن كانوا واقعين في الشرك فليسوا بمسلمين بيد أنهم لا يعذبون في الدارين هذا على المذهب الراجح -إلا بعد البلاغ والحجة الرسالية. وعلى هذا يفهم قول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ). فالمقصود بالضلال الذي يكون بعد البعثة: هو الضلال الذي يستوجب صاحبه العذاب في الدارين بعد قيام الحجة عليه وإلا فالقوم قبلها في ضلال مبين لأن الأنبياء يُرسلون إلى أقوامهم المشركين يدعونهم إلى الفطرة الصحيحة والإسلام والعبادة التي خلقوا من أجلها فهم قبلهم في ضلال مبين وجور عن الصراط المستقيم وليسوا بمهتدين لذلك قال الله -عز وجل-: (فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) لأنهم لم يكونوا قبل البعثة على الهدى والصراط المستقيم ولهذا أثبت القرآن الضلال قبل البيان والبعثة كما ذكرت من قبل وهذا في الكثير الكثير من الآيات على سبيل المثال لا الحصر إضافة إلى الآيات السابقة. قوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ) أي: لئلا تضلوا وكراهية أن تضلوا. فالمشركون قبل البعثة ضلّال لا ريب في ذلك ولكن بعد الحجة الرسالية إن أصروا على شركهم وغيهم فقد استوجبوا العذاب في الدارين قال الله -عز وجل-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1]. قال الإمام الشوكاني: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). لتخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور العلم والإيمان والهداية. ا. هـ.

فبنص القرآن الناس قبل الحجة الرسالية وقبل البيان في ظلمات الكفر والشرك والضلال ولكن هذا الضلال موجب للعذاب بعد الحجة الرسالية. وقال الشوكاني أيضاً في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) .... وتقديم الإضلال على الهداية لأنه متقدم عليها إذ هو إبقاء على الأصل، والهداية إنشاء ما لم يكن. ا. هـ. انظر -رحمك الله- أن الضلال ثابت قبل البعثة وهو متقدم على الهداية لذلك هو بقاء على الأصل والهداية إنشاء ما لم يكن. نخرج من هذا البحث في هذه الآية: (1) أن الشرك قبل البعثة والحجة الرسالية ضلال مبين وصاحبه مشرك ليس بمسلم -وأنه موعد بالعذاب على شركه إن أصر عليه بعد الحجة (على الراجح عند أهل السنة). (2) بعد بلوغ الشرائع لا يقع الضلال إلا بعد البيان في الأوامر والنواهي. (3) يأثم القوم ويقع عليهم الضلال والوزر مع الجهل والتقليد في الابتداع والإحداث. فبعد بلوغ الرسالة قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً). على عمومه في الأوامر والنواهي دون الشرك والابتداع وقوله تعالى: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ). وحديث: (وأيما داع إلى ضلالة كان عليه من الوزر ومن أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً". عام في العقائد مع الإعراض واتباع غير الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وسبيل المؤمنين. وبهذا تأتلف الأدلة وتستقيم بلا تعارض بينها ولله الفضل والمنة والله -تعالى- أعلم. وبهذا انتهى بفضل الله الرد على أهم الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم. * * *

الفصل الثاني الرد على الشبه المستدل بها خطأ من السنة المطهرة

الفصل الثاني الرد على الشبه المستدل بها خطأ من السنة المطهرة وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. المبحث الثاني: الفرق بين الطلب من المخلوق والطلب به. المبحث الثالث: التأويل دليل على مخالفة النص الجزئي لقاعة كلية.

الفصل الثاني الرد على الشبه المستدل بها خطأ من السنة المطهرة حديث أمنا عائشة في العلم: الشبهة الأولى: الاستدلال خطأ بحديث عائشة -رضي الله عنها- في العلم. أخرج مسلم في صحيحه "قالت عائشة ألا أحدثكم عني وعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قلنا بلى قال (¬1) قالت لما كانت ليلتي التي كان النبي، صلى الله عليه وسلم، فيها عندي اتقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعها عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويداً فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى حاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال يا عائش حشيا رابية قالت قلت لا شيء قال فلتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير قالت قلت يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأبي أنت وأمي فأخبرته قال فأنت السواد الذي رأيت أمامي قلت نعم فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله قلت مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم. قال فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله قال قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". قال النووي: (قالت مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم) هكذا هو في الأصول وهو صحيح وكأنها لما قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، صدقت نفسها فقالت: نعم (¬2). ا. هـ. ¬

(¬1) أي راوي الحديث عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ:: 7 ص: 44.

المبحث الأول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة

لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة: قلت: فهذا الحديث من أوله إلى آخره أين الشك من أمنا عائشة -رضي الله عنها-؟. فقولها (مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم) تقرير للعلم، وهو في الأصول كما قال النووي. وهل لو كانت عائشة والعياذ بالله تشك في هذه الصورة الدقيقة فلم لم ينكر عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن قيل: هذا لجهلها فالجواب: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنكر على من هم حدثاء عهد بإسلام إنكاراً شديداً في حديث ذات أنواط وشبّههم ببني إسرائيل في قولهم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وأنكر على من قال له (ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده) أو كما قال، صلى الله عليه وسلم، وما كان آفتهم التي أوقعتهم في هذا إلا الجهل. فلم لم ينكر النبي، صلى الله عليه وسلم، على عائشة؟ وهي من تربت في بيت النبوة التي كان بيتها يتلى فيه آيات الكتاب والحكمة وهي مسلمة بفضل الله منذ العهد المكي وليست حديثة عهد بإسلام. فالحديث ليس فيه أدنى لوم عليها مترتب على مقالتها التي صدقت فيها نفسها. ومن المعلوم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بلا خلاف بين العلماء. المبحث الأول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة: قال ابن قدامة: ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (¬1). ا. هـ. وقال الشوكاني في تأخير البيان عن وقت الحاجة. اعلم أن كل ما يحتاج إلى البيان من مجمل وعام ومجاز ومشترك وفعل متردد ومطلق إذا تأخر بيانه فذلك على وجهين: الأول: أن يتأخر عن وقت الحاجة، وهو: الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب وذلك في الواجبات الفورية لم يجز. لأن الاتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا ¬

(¬1) روضة الناظر وجنة المناظر ص: 96.

يطاق، وأما من جوز التكليف بما لا يطاق فهو يقول: بجوازه فقط لا بوقوعه: فكان عدم الوقوع متفقاً عليه بين الطائفتين. ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني: اجماع أرباب الشرائع على امتناعه. قال ابن السمعاني: لا خلاف في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل (¬1). ا. هـ. الفرق بين وقت الحاجة ووقت الخطاب: قلت: فهذا اتفاق العلماء على أنه: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أي: وقت امتثال التكليف الشرعي. وأما تأخير البيان في الواجبات التي ليست بفورية عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل والامتثال فقد جوزه: كثير من العلماء فانتبه للفرق. ومن المعلوم بيقين أن العقائد البيان يكون فيها على الفور لأنها واجبة الاعتقاد وشرط في الإيمان منذ اللحظة الأولى للدخول في هذا الدين وليس في الحديث الذي بين أيدينا لوماً من النبي، صلى الله عليه وسلم، للسيدة عائشة على ما قالت فدل هذا بيقين أنها لم تقع في محذور شرعي. لأن عدم البيان في موضع البيان دليل على العدم. سجود معاذ رضي الله عنه: الشبهة الثانية: حديث سجود معاذ -رضي الله عنه- روى ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "ما هذا". فقال: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: "فلا تفعل فإني لو أمرت شيئاً أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهل على قتب لم تمنعه". لفظ البستي (¬2). ا. هـ. الفرق بين سجود التحية وسجود العبادة: قلت: والذي عليه جمهور أهل العلم بلا خلاف ولا نزاع بينهم أن هذا السجود من معاذ -رضي الله عنه- كان سجود تحية لا عبادة إذ كيف يجهل هذا الصحابي الجليل أن سجود ¬

(¬1) ارشاد الفحول ص: 173. (¬2) راجع تفسير القرطبي جـ:: 1 ص: 250 عند قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ).

العبادة لا ينبغي إلا لله، سبحانك هذا ظلم وافتراء عظيم على هذا الصحابي الجليل الذي اصطفاه النبي، صلى الله عليه وسلم، من الصحابة جميعاً لمناظرة أهل الكتاب وتبليغهم التوحيد وأصل الدين وقال له، صلى الله عليه وسلم: "إنك ستقدم قوماً أهل كتاب". قال الحافظ في الفتح تعليقاً على هذه اللفظة. قوله (سنأتي قوماً أهل كتاب). هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان (¬1). ا. هـ. نسخ سجود التحية بحديث معاذ رضي الله عنه: فهل يصطفي النبي، صلى الله عليه وسلم، من أصحابه من يجهل أصل التوحيد ليناظر أهل علم ومجادلة على ما لا يعلمه؟ وقد استشهد القرطبي في تفسيره بهذا الحديث على أن سجود التحية كان جائزاً إلى عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم،. وقال ابن كثير في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ). فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته. وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ..). وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا (ثم ذكر حديث معاذ) -رضي الله عنه-. ا. هـ. وقال أيضاً في قوله تعالى في سورة يوسف: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ..). قال: وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى -عليه السلام- فحرم هذا في هذه الملة وجعل السجود مختصاً بجناب الرب -سبحانه وتعالى- هذا مضمون قول قتادة وغيره (ثم ذكر حديث معاذ). ا. هـ. وقال الشوكاني في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ). مرجحاً أن السجود كان لآدم على وجه التحية والإكرام -فإن السجود للبشر قد يكون جائزاً في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم، وكذلك الآية الأخرى ¬

(¬1) جـ: 3 ص:: 419 فتح الباري.

أعني قوله -فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين -وقال تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً). فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا، صلى الله عليه وسلم، أن يكون كذلك في سائر الشرائع. ا. هـ. وقال ابن تيمية: ولا يجوز أن يتنقل على طريق العبادة إلا لله وحده لا لشمس ولا لقمر ولا لملك ولا لنبي ولا لصالح ولا لقبر نبي ولا صالح. هذا في جميع الملل (ملل الأنبياء) وقد ذكر ذلك في شريعتنا حتى نهى: أن يتنقل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً أن يسجد له وقال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها". ونهى عن الإنحاء في التحية ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصلاة وهو قاعد (¬1). ا. هـ. قلت: فهذه أقوال العلماء شاهدة بأن هذا السجود كان: سجود تحية وكان مباحاً في الشرائع السابقة إلى أن نسخ في شريعتنا. ومن المعلوم أن السجود لغير الله على وجه العبادة لم يكن مباحاً في أية شريعة فكل الأنبياء نهوا عن ذلك وبلغوا أقوامهم (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). وأكبر دليل على هذا (¬2) هو قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في آخر الحديث (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها). فهذا نص في أن هذا السجود سجود تحية وإكرام وإلا تعارض مع قوله تعالى (والعياذ بالله من ذلك) (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ). وفي هذا القدر الكفاية لبيان فساد هذا الاستدلال ولله الفضل والمنة وحده. ¬

(¬1) جـ: 1 ص:: 74: 75 لمجموع الفتاوى. (¬2) أي أن: سجود معاذ -رضي الله عنه- كان على وجه التحية.

المبحث الثاني: الفرق بين الطلب من المخلوق وبين الطلب به

حادثة ذات أنواط: الشبه الثالثة: الاستدلال خطأ بحديث ذات أنواط عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: "الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل: (اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لتركبن سنن من كان قبلكم". أخرجه الترمذي وصححه. المبحث الثاني: الفرق بين الطلب من المخلوق وبين الطلب به: أقول وبالله التوفيق: إن الذين طلبوا كانوا حدثاء عهد بالكفر، وطلبوا ولم يفعلوا، وقد نص العلماء على أنهم طلبوا مجرد المشابهة في أن تكون لهم شجرة ينوطون بها السلاح يستمدون بها وليس منها النصر بسبب ما ينزل من البركة عليها من قبل الله. ولذلك سألوا النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط. فهم لم يدّعوا فيها هذا من قبل نفوسهم ولكن أرادوا أن يكون ذلك من الله عن طريق نبيه ومصطفاه، صلى الله عليه وسلم، وكما قلت من قبل: يستمدون بها النصر وليس منها كما في الحديث الصحيح "مطرنا بنوء كذا". أي: بسبب الكوكب لا به. لأن القول مطرنا بسبب الكوكب فهذا يكون ابتداع وشرك أصغر. ومن قال: إن الكوكب هو الذي أنزل المطر فهذا شرك بالله في ربوبيته. فهم طلبوا النصر بها ولكن المحذور الذي وقعوا فيه هو مشابهتهم للمشركين فقطع النبي، صلى الله عليه وسلم، مادة المشابهة من جذرها، وقال: قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة). ومن المعلوم أن المشبه يشبه المشبه به في وجه أو في بعض الأوجه دون بقيتها لا يماثله تماماً وإلا كان فرداً من جنسه وهذا كقول النبي، صلى الله عليه وسلم،: "مدمن الخمر كعابد وثن" (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته" (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه وحسنه الألباني -راجع صحيح سنن ابن ماجه جـ: 2 "كتاب الأشربة". (¬2) صحيح البخاري -كتاب التوحيد- باب قول الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ).

ومن المعلوم أن التشبيه هنا في الرؤية والوضوح لا في الشكل والاستدارة (والعياذ بالله من ذلك) وكذلك هنا أن بني إسرائيل طلبوا مشابهة المشركين ولكن في الشرك الأكبر وأنتم طلبتم مشابهة المشركين إلا أنه في الشرك الأصغر، أو أن طلبهم هذا قد يؤول إلى الشرك الأكبر مع طول الزمان لأن البدع يريد الشرك الأكبر، فأول شرك وقع على وجه الأرض كان بدايته تصوير الأصنام على صور الصالحين، ثم لما تنسخ العلم عبدت، فكان تصوير الأصنام ذريعة إلى الشرك فيما بعد مع أن مجرد الوقوف عليه ليس بشرك، وكما حرم في شريعتنا بناء المساجد على القبور أيضاً لهذا المعنى: لأنها تؤول بأصحابها إلى الشرك الأكبر. فإن قيل فإن كان سؤالهم مجرد المشابهة فلم قال صلى الله عليه وسلم: "قلتم كما قالت بنو إسرائيل"؟ قيل: هذا من باب ما يؤول إليه الأمر ومن باب التغليظ كما غلظ النبي -صلى الله عليه وسلم- على من قال له "ما شاء الله وشئت، فقال أجعلتني لله نداً". قال الشاطبي: - في معرض اتباع الأمم السابقة خاصة أهل الكتاب في بدعهم -قال فقوله، صلى الله عليه وسلم: "حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها". يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها، فالذي يدل على الأول قوله "لتتبعن سنن من كان قبلكم". الحديث فإنه قال فيه: "حتى لو دخلوا في جحر ضب حرب لاتبعتموهم". والذي يدل على الثاني قوله: "فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، فقال عليه السلام هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها" الحديث. فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه، فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه والله أعلم (¬1). ا. هـ. طلب القوم مجرد المشابهة: فهذا النص من الإمام الأصولي يدل على أن: القوم لم يطلبوا الشرك الأكبر بل مجرد المشابهة وأنه يشبه طلب بني إسرائيل لا أنه هو بنفسه، وأنه لا يلزم التشابه بينهما من كل وجه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه، ما لم ينص عليه من كل وجه. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد أن ساق الحديث في باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما -فيه مسائل-. ¬

(¬1) الاعتصام جـ: 2 ص:: 245: 246.

المسألة الثالثة -كونهم لم يفعلوا -المسألة الحادية عشر- أن الشرك فيه: أكبر، وأصغر لأنهم لم يرتدوا بهذا" (¬1). ا. هـ. قلت: فهذا نص من الشيخ أن القوم طلبوا الشرك الأصغر. وقال ابن تيمية: ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم". فأنكر النبي، صلى الله عليه وسلم، مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم. فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه؟ فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض. سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها أو قتاة جارية أو جبلاً أو مغارة وسواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله -سبحانه- عندها، أو لينسك عندها. بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عيناً ولا نوعاً (¬2). ا. هـ. الفرق بين التوحيد والبدعة والشرك: وهذا كلام شيخ الإسلام ينص على أن: القوم طلبوا مجرد المشابهة للمشركين لا عين الشرك ثم انظر إلى الأمثلة التي ذكرها بعد ذلك فهي كلها في البدع وليست في الشرك الأكبر وهو أن يخص العبد بقعة أو شجرة أو قناة بنوع من البركة بغير برهان من الله، ويعبد الله عندها رجاء عظم الثواب وهذا هو عين البدعة لأن التوحيد هو: عبادة الله وحده بما شرع على ألسن رسله عليهم السلام والشرك عبادة غير الله معه. والبدعة (¬3) هي: عبادة الله وحده بغير ما شرع على التعيين دون الإجمال. ¬

(¬1) كتاب التوحيد -باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما-. (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم ص: 314: 315. (¬3) هذا تعريف البدعة الغير مكفرة -أي: البدع التي وقع فيها أهل القبلة ولم يخرجوا بها من الإسلام. وقولي على التعيين دون الإجمال أي: أصاب متابعة الشرع على الإجمال دون التعيين في المتابعة لهذه الجزئية من العبادات، وإلا فترك المتابعة كفر لا ريب فيه. وبهذا يظهر الفرق بين الكافر والمبتدع. فالأول ترك الاتباع إجمالاً فضلاً عن التفضيل والثاني متابعته على الإجمال تشفع له خطأه في التفصيل.

فالذي يعبد الله وحده عند البيت الحرام يجو عظم الثواب فهذا موحد على السنة لأن الله فضل هذا المكان على غيره. وأما من يعبد الأموات. فهو مشرك لصرفه العبادة لغير الله. وأما من يعبد الله وحده لا شريك له عند القبور فهذا موحد لم يشرك بالله غيره إلا أنه مبتدع لأنه فضل مكاناً بغير برهان من الشرع، فخرج من السنة إلى البدعة بهذا. العبد منذ أسلم مكلف بالتوحيد على الفور: والقوم لم يطلبوا الشرك الأكبر يقيناً لأنه كما ذكرت من قبل أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بلا نزاع بين العلماء ومن المعلوم أن العبد منذ دخل في الإسلام وهو مطالب بالتوحيد والنهي عن الشرك فكيف يجوز تأخير هذا الأمر؟ فهل يظن ظان أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يحدث أمته عن الشرك ويبينه لهم وينهاهم عنه، وينتظر حتى يقع في الأمة شرك في النسك فيقول عندها: هذا شرك بالله، ثم يقع شرك في الحاكمية فعندها يخبر الأمة: أن هذا شرك بالله، ثم يقع شرك في الولاية فيخبر ساعتها أن هذا شرك ولا تعودوا إليه ولو لم يقع لا ينهى، صلى الله عليه وسلم، عنه. أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم وطعن في نبي الله ومصطفاه، صلى الله عليه وسلم، إذ كيف يأمر معاذاً عند قدومه لأهل الكتاب أن يدعوهم إلى التوحيد، ولا ينتقل منه إلى الشرائع حتى يعرفوا الله المعرفة التي تفرق بين التوحيد والشرك وأن يعرفهم إلههم الذي يجهلونه، ولا يفعل هو، صلى الله عليه وسلم، ذلك -والعياذ بالله- فإنا نبرأ بنينا، صلى الله عليه وسلم، من هذا النقص والازدراء ويلزم من هذا القول الخبيث أن كثيراً من الصحابة ماتوا قبل أن يعلموا ويستكملوا حقيقة التوحيد والشرك. فعلى من يظن هذا أن يراجع إيمانه ويتقي الله في نفسه قبل أن يسأل في القبر عن نبيه، صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع الإجابة ويقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فإني على يقين من أنه لا يدخل عبد في الإسلام إلا ويعلمه النبي، صلى الله عليه وسلم، التوحيد وحسنه والشرك وقبحه في ساعتها وإلا فالأمة مجمعة على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة في فروع الشريعة فكيف الحال بأصل الأصول وهو التوحيد والنهي عن الشرك فهل هذا يجوز تأخير بيانه؟.

علم قوم النبي صلى الله عليه وسلم باللسان العربي: وقوم النبي، صلى الله عليه وسلم، كانوا علماء باللسان العربي الذي نزل به القرآن وهذا بنص التنزيل قال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). [فصلت: 3]. قال الإمام البغوي (قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). اللسان العربي، ولو كان بغير لسانهم ما علموه. ا. هـ. وقال الشوكاني: (لقوم يعلمون) أي: يعلمون معانيه ويفهمونها وهم أهل اللسان العربي. اهـ. فهم يعلمون ويفقهون ما دعوا إليهم لأنهم أهل اللسان العربي. فكان من يكفر منهم يكفر على علم بدعوة القرآن لإفراد الله -جل ثناؤه- بالتأله والكفر بما يعبد من دونه لذلك قالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً). ومن آمن منهم آمن على علم. فالكفار علموا مراد النبي، صلى الله عليه وسلم، من دعوته إليهم فكيف لا يعلم من آمن منهم مراد نبيه، صلى الله عليه وسلم،؟! فمن هذا يعلم أن السؤال منهم لم يكن في الشرك الأكبر ولكن هو مجرد المشابهة للمشركين. حديث القدرة: الشبهة الرابعة: الاستدلال خطأ بحديث القدرة وهو في الصحيحين أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له". قال النووي: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة الله فإن الشاك في قدرة الله -تعالى- كافر، وقد قال في آخر الحديث: إنه إنما فعل هذا من خشية الله -تعالى- والكافر لا يخشى الله -تعالى- ولا يغفر له، قال هؤلاء فيكون له تأويلان أحدهما: أن معناه لئن قدر على العذاب أي: قضاه يقال عنه قدر بالتخفيف وقدر بالتشديد بمعنى واحد.

والثاني: أن قدر هنا بمعنى ضيق عليّ. قال الله -تعالى- (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) وهو أحد الأقوال في قوله تعالى (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ). وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره ولكن قاله هذا الرجل وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع بحيث ذهب تيقظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغافل والناسي وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته "أنت عبدي وأنا ربك" فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو. وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم "فلعى أضل الله" أي: أغيب عنه وهذا يدل على أن قوله لئن قدر الله على ظاهره. وقالت طائفة: هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالها يسمونه مزج الشك باليقين كقوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى). فصورته صورة الشك والمراد به اليقين. وقالت طائفة: هذا الرجل جهل صفة من صفات الله -تعالى- وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة. قال القاضي: وممن كفره بذلك ابن جرير الطبري وقاله: أبو الحسن الأشعري أولاً. وقال آخرون: لا يكفر بجهل الصفة ولا يخرج به عن اسم الإيمان بخلاف جحدها وإليه رجع: أبو الحسن الأشعري وعليه استقر قوله لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ويراه ديناً وشرعاً، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق. قال هؤلاء: ولو سئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قليلاً. وقالت طائفة: كان هذا الرجل في زمن فترة حين ينفع مجرد التوحيد ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وقالت طائفة: يجوز أنه كان في زمن شرعهم فيه جواز العفو عن الكافر بخلاف شرعنا وذلك من مجوزات العقول عند أهل السنة وإنما منعناه في شرعنا بالشرع وهو قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). وغير ذلك من الأدلة والله أعلم (¬1). ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 7 ص: 70: 74.

ظاهر الحديث مشكل: وقال الحافظ قال الخطابي: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب: إنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب. وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله. قال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك. ورده ابن الجوزي وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً وإنما قيل: إن معنى قوله: (لئن قدر الله عليّ). أي: ضيق وهي كقوله (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ). أي: ضيق. وأما قوله (لعلي أضل الله) فمعناه: لعلي أفوته يقال: ضل الشيء إذا فات وذهب وهو كقوله (لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى). ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال: "أنت عبدي وأنا ربك" أو يكون قوله "لئن قدّر علي" بتشديد الدال أي: قدر علي أن يعذبني ليعذبني أو على أنه كان مثبتا للصانع وكان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان. وأظهر الأقوال أنه قال ذلك: في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر (¬1). ا. هـ. قيام هذا الرجل بالتوحيد: قلت: فهذه أقوال العلماء في تأويل هذا الحديث هل قال أحد منهم أنه جهل قدرة الله بالكلية في الإجمال والتفصيل وكان جاهلاً فعذر بجهله؟ هذه واحدة-. الثانية أن هذا الحديث ليس في التوحيد وترك الشرك الذي هو أصل الدين ولكن في جهل الصفات لذلك أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير واحد عن الحسن وابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل ممن قبلكم لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد فلما احتضر ¬

(¬1) فتح الباري -كتاب أحاديث الأنبياء- جـ: 6 ص: 604.

المبحث الثالث: التأويل دليل على مخالفة النص الجزئي لقاعدة كلية

قال لأهله انظروا إذا أنا مت أن يحرقوه حتى يدعوه حمما ثم اطحنوه ثم أذروه في يوم ريح فلما مات فعلوا ذلك به فإذا هو في قبضة الله فقال الله عز وجل يا ابن دم ما حملك على ما فعلت قال: أي ربي من مخافتك قال فغفر له بها ولم يعمل خيراً قط إلا التوحيد (¬1). قال صاحب الأحاديث القدسية نقلاً عن القسطلاني في شرح الصحيح لم (يقدم عند الله خيراً) ليس: المراد نفي كل خير على العموم، بل نفي ما عدا: التوحيد ولذلك غفر له، وإلا فلو كان التوحيد منتفياً عنه، لتحتم عقابه سمعاً ولم يغفر له ... وليس ذلك شكاً منه في قدرة الله على إحيائه ولا إنكاراً للبعث وإلا لم يكن موقناً، وقد أظهر إيمانه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله -تعالى (¬2) -. ا. هـ. (1) فهذا الحديث خرج عن محل النزاع فهو ليس في قضية التوحيد التي هي أصل الأصول. (2) تأويل العلماء لهذا الحديث وصرفه عن معناه الظاهري لخير بيان أن ظاهر هذا الحديث غير مراد وأنه معارض لأصولهم الكلية، وهم ينزلون قضايا الأعيان على مقتضى القواعد الكلية. فإن كان من أصوالهم: إعذار الجاهل لقالوا جميعاً: أن هذا الرجل جهل قدرة الله وكان جاهلاً وعذر بجهله وكفوا أنفسهم مؤنة التأويل! لأن التأويل عندهم شر لا يذهبون له إلا في حالة الضرورة عندما تصطدم قضية من قضايا الأعيان أو دليل جزئي مع القواعد والأصول الكلية. المبحث الثالث: التأويل دليل على مخالفة النص الجزئي لقاعدة كلية: قال الشاطبي: فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الخلط على تلك القواعد. إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة فلا يمكن والحالة هذه أن تحرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي (¬3). ا. هـ. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد جـ: 2 ص: 304 طبعة مؤسسة قرطبة. (¬2) الأحاديث القدسية جـ: 1 ص: 90. (¬3) الموافقات جـ: 3 ص: 109.

وقال أيضاً: إذا ثبت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال والدليل على ذلك أمور .... (الثالث) أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات. ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص (¬1). ا. هـ. وقال أبو زهرة: التأويل شروطه ... ثانيها أن يكون: ثمة موجب للتأويل بأن يكون ظاهر النص مخالفاً لقاعدة مقررة معلومة من الدين بالضرورة أو مخالفاً لنص أقوى منه سنداً (¬2). ا. هـ. وقال النووي: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً ... فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل. هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع (¬3). ا. هـ. قلت: فهذه نقول العلماء قاضية بأنه إذا: تقررت قاعدة كلية وجاء ما يصادمها في الظاهر من قضايا الأعيان أو الأدلة الجزئية يجب حملها على مقتضى القواعد الشرعية وتأويلها عليها لتأتلف النصوص وليجمع بينها. فتأويل جمهور العلماء لظاهر حديث القدرة أكبر دليل على أن ظاهره يضاد أصلاً كلياً عندهم أو دليلاً أقوى منه دلالة فلهذا فروا إلى التأويل. (3) هل هذا الرجل جهل قدرة الله والبعث؟ ¬

(¬1) الموافقات جـ: 3 ص: 261: 262. (¬2) أصول الفقه لأبي زهرة ص: 106: 107. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 217.

الجواب: أنه لم يجهل هذا بدليل أنه أمر نبيه أن يفعلوا به ما وصاهم به. وإلا لقال لهم: إذا مت فاقبروني بهيئتي لئن قدر الله علي ليعذبني. ولكن هو كما قال العلماء: أنه ظن أنه إن فعل أولاده فيه ما أوصى به أن يكون جمعه والحال هذه من الممتنعات، والممتنعات خارجة عن نطاق القدرة وهذا لا يعلم إلا بشرع. قال الإمام الدهلوي: فهذا الرجل استيقن بأن الله متصف بالقدرة التامة لكن القدرة إنما هي في الممكنات لا في الممتنعات. وكان يظن أن جمع الرماد المتفرق نصفه في البر ونصفه في البحر ممتنع، فلم يجعل ذلك نقصاً فأخذ بقدر ما عنده من العلم ولم يعد كافراً (¬1). ا. هـ. إيمان الرجل بقدرة الله على البعث: والدليل على أنه كان مؤمناً بقدرة الله الرواية التي في صحيح مسلم "فإني لم أبتهر عند الله خيراً وإن الله يقدر على أن يعذبني". قال النووي: (وإن الله يقدر على أن يعذبني) هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا ونقل اتفاق الرواة والنسخ عليه هكذا بتكرير "إن" وسقطت لفظة "أن" الثانية في بعض النسخ المعتمدة فعلى هذا تكون: إن الأولى شرطية وتقديره: إن قدر الله علي عذبني وهو موافق للرواية السابقة، وأما على رواية الجمهور وهي إثبات أن الثانية مع الأولى فاختلف في تقديره .... ويجوز أن يكون على ظاهره كما ذكر هذا القائل لكن يكون قوله هنا معناه: إن الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأما إن سحقتموني وذريتموني في البر والبحر فلا يقدر علي، ويكون جوابه كما سبق وبهذا تجتمع الروايات والله أعلم (¬2). ا. هـ. قلت: فهذه الرواية التي عليها جمهور الرواة تدل بجلاء على أن الرجل كان مؤمناً بقدرة الله عليه في الجملة وجهل وشك في هذه الصورة الدقيقة. ومعلوم أن جهل هذه الصورة الدقيقة لا يطعن في ألوهية الله لذلك جاءت الرواية عنه (لم يعمل خيراً شيئاً قط إلا التوحيد). بخلاف من شك في أصل قدرة الله فهذا طعن في ألوهيته إذ كيف يكون الإله عاجزاً أو جاهلاً أو ميتاً أو أصم أو لا يخلق فهذه تطعن طعناً مباشراً في ألوهية الله. ¬

(¬1) حجة الله البالغة جـ: 1 ص: 60. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 17 ص: 83: 84.

لذلك لم يكن الجهل بالصفات جهلاً بالذات إلا أن تكون هذه الصفة لا تتصور الذات بدونها ويكون مفهوم التأله قائم عليها فهذه الجهل بها جهل بالذات. ويراجع هذا في شرح حديث معاذ لأهل الكتاب. فهذه هي أقوال العلماء في تأويل هذا الحديث فهل بعد سردها بقيت شبهة في عدم جواز الاستدلال بها؟!. وأختم الحديث في هذا الحديث بقول الإمام أبي بطين عليه قال: واحتج: من يجادل عن المشركين بقصة الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته على أن: من ارتكب الكفر جاهلاً لا يكفر ولا يكفر إلا المعاند. والجواب: عن ذلك كله أن الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأعظم ما أرسلوا به ودعوا إليه عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك الذي هو: عبادة غيره. فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذوراً لجهله فمن هو الذي لا يعذر؟ ولازم هذه الدعوى أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند مع أن أصحاب هذه الدعوى لا يمكنه طرد أصله بل لا بد أن يتناقض. فإنه لا يمكنه أن يتوقف في تكفير من شك في رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، أو شك في البعث أو غير ذلك من أصول الدين، والشاك جاهل. والفقهاء -رحمهم الله- يذكرون في كتب الفقه حكم المرتد وأنه: المسلم الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو فعلاً أو اعتقاداً أو شكاً. وسبب الشك: الجهل ولازم هذا لا يكفر جهلة اليهود والنصارى ولا الذين يسجدون للشمس والقمر والأصنام لجهلهم، ولا الذين حرقهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنار لأننا نقطع أنهم جهال وقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال .... فالمدعي: أن مرتكب الكفر متأولاً أو مجتهداً أو مخطئاً أو مقلداً أو جاهلاً معذور مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك مع أنه لا بد أن ينقض أصله فلو اطرد أصله كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير: من شك في رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم،.

وأما الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه وأن الله غفر له مع شكه في صفة من صفات الرب -سبحانه- فإنما غفر له لعدم بلوغ الرسالة له كذا قال غير واحد من العلماء، ولهذا قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: من شك في صفة من صفات الرب ومثله لا يجهلها كفر، وإن كان مثله بجهلها لم يكفر قال: ولهذا لم يكفر النبي، صلى الله عليه وسلم، الرجل الشاك في قدرة الله -تعالى- لأنه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكذا قال ابن عقيل وحمله على أنه لم تبلغه الدعوة واختبار الشيخ تقي الدين في الصفات أنه لا يكفر الجاهل، وأما في الشرك ونحوه فلا كما ستقف على بعض كلامه إن شاء الله -تعالى- وقد قدمنا بعض كلامه في الاتحادية وغيرهم وتكفيره من شك في كفرهم. قال: صاحب اختياراته: والمرتد من أشرك بالله وكان مبغضاً لرسوله أو لما جاء به أو ترك إنكار كل منكر بقلبه ... أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً. ومن شك في صفة من صفات الله (الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية) ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي، صلى الله عليه وسلم، الرجل الشاك: في قدرة الله تعالى. فأطلق فيما تقدم من المكفرات، وفرق في الصفة بين الجاهل وغيره، مع أن رأي الشيخ رحمه الله في التوقف عن تكفير الجهمية ونحوهم خلاف نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام. قال المجد رحمه الله تعالى: كل بدعة كفرنا فيها الداعية فإنا نفسق المقلد فيها كمن يقول: بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق أو أن أسماءه مخلوقة أو أنه لا يرى في الآخرة أو يسب الصحابة تديناً أو أن الإيمان: مجرد اعتقاد وما أشبه ذلك. فمن كان عالماً بشيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره نص أحمد على ذلك في مواضع انتهى. فانظروا كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) الانتصار لحزب الله الموحدين ص: 16، 18.

الفصل الثالث تقسيم الدين إلى أصول وفروع

الفصل الثالث تقسيم الدين إلى أصول وفروع وفيه مبحثان: المبحث الأول: أصول الدين المزعومة عند أهل البدع. المبحث الثاني: إحكام أصول الدين وبيانها بياناً شافياً قاطعاً للعذر.

المبحث الأول: أصول الدين المزعومة عند أهل البدع

الفصل الثالث تقسيم الدين إلى أصول وفروع ردد كثير من الإخوة الذين ينافحون عن أسلمة الشركين بأية طريقة وسبيل عبارة مقطوعة لشيخ الإسلام ابن تيمية أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع بدعة، ورموا من يقول: بأن للدين أصول وفروع بالبدعة -أقول وبالله التوفيق: ألم يأن للذين يرددون هذه المقالة أن يتقوا ربهم فإن هذا الأمر تقشعر منه الجلود وتنقطع له القلوب -ألم يسمعوا قول الله: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ). وقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ). وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ). مع تفسير النبي، صلى الله عليه وسلم، للظلم بأنه الشرك الأكبر مُذكراً بقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). ألم يسمعوا قول النبي، صلى الله عليه وسلم،: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله". وقوله: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله. ولم يقل أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن الزنا حرام وأن النكاح حلال أو أن الربا حرام وأن البيع حلال؟. فلو جاء مشرك إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال أشهد أن الخمر حرام فقط هل كان يحكم بإسلامه؟ هل يريدون منا أن نقول أن التوحيد كإماطة الأذى عن الطريق وأن الشرك كالمعصية لا فرق بينهما؟ سبحانك هذا افتراء عظيم فإن القرآن والسنة من أولهما إلى آخرهما يردان على هذا الزعم المفترى. المبحث الأول: أصول الدين المزعومة عند أهل البدع: أما كلام الشيخ -رحمه الله- فإنه يتحدث عن الأصول التي أصلها أهل البدع المخالفة لأصول الدين التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من المسائل والدلائل، والتي وقّفوا إسلام العبد على الإتيان بها ولا عذر في تركها. وما دونها فهي: الفروع وتحتمل العذر بالجهل والتأويل. وما من فرقة من الفرق إلا ولها أصول تدعي أنها أصول الدين وهي مخالفة لأصول

المبحث الثاني: أحكام أصول الدين وبيانها بيانا شافيا قاطعا للعذر

الدين التي جاء بها الرسول صلى الله عليه ولسم وتكفر من لم يأت بها وتعذر فيما هو من دونها كأمثال الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم. قال الشيخ: واسم التوحيد اسم معظم جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فإذا جعل تلك المعاني التي نفاها من التوحيد ظن من لم يعرف مخالفة مراده لمراد الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه يقول بالتوحيد الذي جاءت به الرسل ويسمى طائفته الموحدين، كما يفعل ذلك: الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على نفي شيء من الصفات ويسمون ذلك: توحيداً وطائفتهم: الموحدين، ويسمون علمهم: علم التوحيد كما تسمى المعتزلة ومن وافقهم نفي القدر: عدلاً، ويسمون أنفسهم: العدلية وأهل العدل ومثل هذه البدع كثير جداً يعبر بألفاظ الكتاب والسنة عن معان مخالفة لما أراده الله ورسوله بتلك الألفاظ، ولا يكون أصحاب تلك الأقوال تلقوها ابتداء عن الله -عز وجل- ورسوله، صلى الله عليه وسلم، بل عن شبهة حصلت لهم وأئمة لهم وجعلوا التعبير عنها بألفاظ الكتاب والسنة حجة لهم وعمدة لهم ليُظهر بذلك أنهم متابعون للرسول، صلى الله عليه وسلم، لا مخالفون له. وكثير منهم لا يعرفون أن ما ذكروه مخالف للرسول، صلى الله عليه وسلم، بل يظن أن هذا المعنى الذي أراده هو المعنى الذي أراده الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه .. (إلى أن قال) والقرآن مملوء من ذكر وصف الله بأنه أحد وواحد ومن ذكر أن إلهكم واحد ومن ذكر أنه: لا إله إلا الله ونحو ذلك. فلا بد أن يكون الصحابة يعرفون ذلك فإن معرفته أصل الدين وهو أول ما دعا الرسول، صلى الله عليه وسلم، إليه الخلق وهو أول ما يقاتلهم عليه وهو أول ما أمر رسله أن يأمروا الناس به وقد تواتر عنه أنه أول ما دعا الخلق إلى أن يقولوا لا إله إلا الله (¬1). ا. هـ. المبحث الثاني: أحكام أصول الدين وبيانها بياناً شافياً قاطعا للعذر: وقال: (رداً على سؤال جاءه): هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين لم ينقل عن سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، فيها كلام أم لا؟ فإن قيل بالجواز: فما وجهه؟ ... فأجاب: الحمد لله رب العالمين (أما المسألة الأولى) فقول السائل هل يجوز الخوض فيما تكلم ¬

(¬1) جـ: 17 ص: 352 لمجموع الفتاوى.

الناس فيه من مسائل في أصول الدين لم ينقل عن سيدنا محمد فيها كلام أم لا؟ سؤال ورد بحسب ما عهد عن الأوضاع المبتدعة الباطلة. فإن المسائل التي هي من أصول الدين التي تستحق أن تسمى: أصول الدين أعني: الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه لا يجوز أن يقال: لم ينقل عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فيها كلام، بل هذا كلام متناقض في نفسه إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين، وأنها مما يحتاج إليه الدين. ثم نفى نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين: إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة: التي يحتاج الدين إليها فلم يبينها أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة. وكلا هذين باطل قطعاً، وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين، وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول، أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم، أو جاهل بهما جميعاً. فإن جهله بالأول يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه. وجهله بالثاني يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات وإنما هي: جهليات، وجهله بالأمرين يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة، وأن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس حذاقهم فضلاً عن عامتهم ... فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بياناً شافياً قاطعاً للعذر. إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين، وبينه للناس وهو من أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذي بينوه وبلغوه ... وإنما الغرض التنبيه على أن في القرآن والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل: التي تستحق أن تكون أصول الدين. وأما ما يدخله بعض الناس في هذا المسمى من الباطل فليس ذلك من أصول الدين، وإن أدخله فيه مثل المسائل والدلائل الفاسدة مثل: نفي الصفات والقدر ونحو ذلك من المسائل (¬1). ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 3 ص: 293: 303 لمجموع الفتاوى.

أصل الدين التلقي من الله وحده: وقال الشيخ رحمه الله معرفاً أصل الدين: وأصل الدين: أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا مكروه إلا ما كره الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ولا مستحب إلا ما أحبه الله ورسوله. فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ولهذا أنكر الله على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو شرعوه من الدين بغير إذن من الله (¬1). ا. هـ. أصل الدين: عبادة الله وحده والإيمان به: وقال: وأن يعلم المسلمون كلهم أنما عليه المبتدعون المراؤون ليس من الدين ولا من فعل عباد الله الصالحين، بل من فعل أهل الجهل والضلال والإشراك بالله -تعالى- الذين يخرجون عن توحيده وإخلاص الدين له وعن طاعة رسله. وأصل الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فمن طلب بعبادته الرياء والسمعة فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله ومن خرج عما أمر به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله. وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله ولم يخرج عن شريعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التي بلغها عن الله (¬2) ا. هـ. وقال فالدعوة إلى الله تكون: بدعوة العبد إلى دينه. وأصل ذلك عبادته وحده لا شريك له كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه ... فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية: كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام والأعراف ... ولهذا كان الخطاب في السور المكية "يا أيها الناس" لعموم الدعوة إلى الأصول، إذ لا يدعى إلى الفرع من لا يقر بالأصل (¬3). ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 29 ص: 345 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 11 ص: 617 لمجموع الفتاوى. (¬3) جـ: 65 ص: 158: 160 لمجموع الفتاوى.

وقال: اسم الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ وهو أصل الدين وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء (¬1). ا. هـ. وقال والدين القائم بالقلب من الإيمان علماً وحالاً هو الأصل، والأعمال الظاهرة هي الفروع وهي كمال الإيمان. فالدين أول ما يبنى من أصول ويكمل بفروعه كما أنزل الله بمكة أصوله من التوحيد والأمثال التي هي المقاييس العقلية والقصص والوعد والعيد ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعه الظاهرة من الجمعة والجماعة .. فأصوله تمد فروعه وتثبتها وفروعه تكمل أصوله وتحفظها (¬2) ا. هـ. وقال وأيضاً فإن التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار وهو ثمن الجنة ولا يصح إسلام أحد إلا به (¬3). ا. هـ. قلت: بعد هذه النقول عن الشيخ -رحمه الله- ولولا خشية الإطالة لجئت منها بالكثير أسأل الله -تعالى- أن كل عبد يعتقد أن الدين ليس له أصولاً وفروعاً وأن التوحيد والطاعات والشرك والمعاصي على رتبة واحدة لا فرق بينهم أن يتقي الله في نفسه ويفيء إلى الحق الذي ليس بعده إلا الضلال اللهم بلغت اللهم فاشهد. * * * ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 289 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 10 ص: 355 لمجموع الفتاوى. (¬3) جـ: 24 ص: 235 لمجموع الفتاوى.

الفصل الرابع موقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من تكفير المعين

الفصل الرابع موقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من تكفير المعين وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: المشرك ليس من عداد المسلمين. المبحث الثاني: الجهل سبب غلبة الشرك على النفوس. المبحث الثالث: الاسم الواحد يثبت وينفي بحسب ما يتعلق به من أحكام. المبحث الرابع: تعريف الكفر الذي ينفيه هؤلاء الأئمة.

المبحث الأول: المشرك ليس من عداد المسلمين

الفصل الرابع موقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من تكفير المعين وفي هذا الفصل أعرض فيه بمشيئة الله وعونه موقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من هذه القضية التي نحن بصددها وهي هل يعذر المشرك بجهله أم لا؟ أقول وبالله التوفيق: إن هؤلاء الأئمة لا يعذرون بالجهل في أصل الأصول وهو التوحيد وترك الشرك خاصة دون غيره من الشرائع وهذا لما يلي: المبحث الأول: المشرك ليس من عداد المسلمين: (1) تعريفهم وتوصيفهم للإسلام يوضح بجلاء إخراج المشرك عن مسمى المسلمين ويراجع ما نقلته عنهم. في هذا الشأن واكتفي بذكر بعض النقول هنا عنهم. قال ابن تيمية: وأيضاً فإن التوحيد أصل الإيمان وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار وهو ثمن الجنة ولا يصح إسلام أحد إلا به-. وقال أيضاً ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده فأصله في القلب وهو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون سواه. فمن عبده وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً ومن لم يعبده بل واستكبر عن عبادته لم يكن مسلماً والإسلام هو الاستسلام لله وحده. وقال ابن القيم: إن الإسلام: ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً. وقال: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان برسوله واتباعه فيما جاء به فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرا معانداً فهو كافر جاهل. وقال محمد بن عبد الوهاب: اعلم -رحمك الله- أن هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام وهي كلمة التقوى وهي العروة الوثقى وهي التي جعلها إبراهيم (كلمة باقية في عقبه

لعلهم يرجعون). وليس المراد قولها باللسان مع الجهل بمعناها فإن المنافقين يقولونها -وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار مع كونهم يصلون ويتصدقون. ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب ومحبتها ومحبة أهلها وبغض ما خالفها ومعاداته كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم،: "من قال لا إله إلا الله مخلصا". وفي رواية "خالصاً من قلبه" وفي رواية "صادقاً من قلبه" وفي حديث آخر "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة. وقال تعليقاً على حديث "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" وهذا من أعظم ما يبين معنى: لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف بذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع. وقد سبق نقل هذه النقول من مصادرها ولقد أعدت ذكرها مرة أخرى ليتبين لك أخي القاري. بيقين أن عباد القبور والمشركين غير داخلين في مسمى المسلمين عند هؤلاء الأئمة فهذه واحدة: لا يخرج العباد عن الشرك أو التوحيد: (2) فقد نص هؤلاء العلماء أن الناس صنفان لا ثالث لهما إما موحد لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له وإما مشرك يعبد غير الله. ومن المعلوم أن عباد القبور وكل من قدم شيئاً لغير الله مما لا يكون إلا لله من خصائص الإلهية ليسوا ممن عبدوا الله مخلصين له الدين وإذا كان ذلك كذلك فهؤلاء ليسوا بموحدين وبالتالي فهم مشركون إذ لا ثالث لهما. قال ابن تيمية: ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده، فلا بد أن يكون عابداً لغيره. يعبد غيره فيكون مشركاً. وليس في بني آدم قسم ثالث. بل إما موحد أو مشرك أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل: النصارى ومن أشبههم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام.

فكل من لم يعبد الله مخلصاً له الدين فلا بد أن يكون مشركاً عابداً لغير الله. وهو في الحقيقة عابد للشيطان. فكل واحد من بني آدم إما عابد للرحمن وإما عابد للشيطان. قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) (¬1). ا. هـ. وقال ابن القيم كما أن من غمر قلبه بمحبة الله -تعالى- وذكره وخشيته والتوكل عليه والإنابة إليه أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور. وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده. فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع ضال شاء أم أبى (¬2). ا. هـ. وقال: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ...). فقسم -سبحانه- الخلائق قسمين: سفيها لا أسفه منه، ورشيداً. فالسفيه: من رغب عن ملته إلى الشرك. والرشيد: من تبرأ من الشرك قولاً وعملاً وحالاً فكان قوله توحيداً وعمله توحيداً وحاله توحيداً ودعوته إلى التوحيد (¬3). ا. هـ وهذه الثانية العبادة وشروطها وفساد الشرك لها: (3) تقرير هؤلاء الأئمة أن العبادة لله وحده لا تقع مع الشرك به، وأن من شروط تحقق العبادة العلم بالمعبود، والمشرك جاهل بالله -عز وجل-. فإن الله هو الرب المالك الخالق لكل شيء وبهذا استحق العبادة والتأله ووجب له الشكر وحده لا شريك له والمشرك لا علم له بهذا وأيضاً من شروط العبادة أن تكون: خالصة لله وحده لا شريك له، وأن يكون المتوجه له مسلماً حال التوجه لا تقع إلا بهذا. قال تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن ¬

(¬1) جـ: 14 ص: 282: 285. (¬2) إغاثة اللهفان جـ: 1 ص: 214. (¬3) مدارج السالكين جـ: 3 ص: 446.

بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). فالمولى تبارك وتعالى لم يكن قط إلا إلهاً واحداً ولم يأذن في أي وقت بتعدد الآلهة فهو واحد في تألهه وهذا وصف لازم له لا ينفك عنه ولا يعبد إلا به ولا يكفي هذا في العبادة، بل يجب على المتوجه لله أن يكون مسلماً له أي: خاضعاً مستسلماً له وحده لا شريك له ظاهراً وباطناً ساعة التوجه لا تقع العبادة إلا بهذا. وهذا ملخص تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية لقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ). ومن المعلوم أن المشرك جاهل بهذا كله. قال ابن تيمية: وأهل النظر والكلام وأهل العقائد من أهل الحديث وغيرهم يتكلمون في العلم والمعرفة والتصديق الذي هو أصل الإرادة: ويقولون: العبادة لا بد فيها من القصد، والقصد لا يصح إلا بعد العلم بالمقصود المعبود، وهذا صحيح فلا بد من معرفة المعبود وما يعبد به. فالضالون من المشركين والنصارى وأشباههم لهم عبادات وزهادات لكن لغير الله أو بغير أمر الله، وإنما القصد والإرادة النافعة هو إرادة عبادة الله وحده، وهو إنما يعبد بما شرع لا بالبدع وعلى هذين الأصلين يدور دين الإسلام: على أن يعبد الله وحده وأن يعبد بما شرع ولا يعبد بالبدع (¬1). ا. هـ. وقال ابن القيم وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على العباد كلهم إلا بالعلم وهل ينال العلم إلا بطلبه (¬2) اهـ. وقال ابن تيمية عند تفسير سورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فقوله (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) يتناول شركهم فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له ... وقال: فكل من عبد الله مخلصاً له الدين فهو مسلم في كل وقت. قلت: وقرر الشيخ أنه لا يعبد إله إبراهيم إلا من كان على ملته. والمشرك ليس على ملة إبراهيم لأن ملته، صلى الله عليه وسلم، التوحيد والطاعة لله وحده لا شريك له وترك الشرك عن قصد وعلم كما قال يوسف (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ¬

(¬1) جـ: 19 ص: 172: 173 لمجموع الفتاوى. (¬2) هذه النقول قد مرت من قبل فلتراجع مصادرها.

آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ). الآية. وقال: فالمشرك الذي جعل مع الله إلهاً آخر لا يدخل في مسمى الإيمان عند الإطلاق ... وقال: فمن عبد إلهين لم يكن عابداً لإلهه (أي يعقوب عليه السلام) وإله آبائه وإنما يعبد إلهه من عبد إلهاً واحداً. ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابداً له لكانت عبادته نوعين -عبادة إشراك وعبادة إخلاص. وقال: فمن عبد معه غيره فما عبده إلهاً واحداً ومن أشرك به فما عبده وهو لا يكون إلا إلهاً واحداً فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له لم تكن له حال أخرى يعبده فيها فما عبده (¬1). اهـ. فهذه الثالثة. ثبوت وصف الشرك قبل الرسالة والحجة عليه العقل والفطرة: (4) إثبات هؤلاء الأئمة أن وصف الشرك ثابت قبل الرسالة والحجة عليه العقل والفطرة ولا يحتاج ذلك إلى رسول إلا أن العذاب لا يكون إلا بعد الحجة الرسالية لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). قال ابن تيمية (وقد مر في بحث التحسين والتقبيح) والجمهور من السلف والخلف على أن: ما كانوا فيه قبل مجيء الرسول من الشرك والجاهلية كان سيئاً قبيحاً لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجيء الرسول. وقال أيضاً فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي وقبل إنكاره عليهم. وقال أيضاً -فلولا أن حسن التوحيد وعبادة الله -تعالى- وحده لا شريك له وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا. وقال -رحمه الله-: فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أنداداً قبل الرسول. وقال ابن القيم تعليقاً على آية الميثاق: وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول فإنه جعل ما تقدم حجة ¬

(¬1) هذه النقول قد مرت من قبل فلتراجع مصادرها.

المبحث الثاني: الجهل سبب غلبة الشرك على النفوس

عليهم بدون هذا وهذا لا يناقض قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وقال أيضاً فكون ذلك فاحشة وإثماً وبغياً بمنزلة كون: الشرك شركاً فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده. فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركاً بعد النهي وليس شركاً قبل ذلك. ا. هـ. قلت: فاسم المشرك ثابت قبل الرسالة والحجة على ذلك العقل والفطرة فما الحكم إذاً بعد الرسالة؟ فهذه الرابعة. المبحث الثاني: الجهل سبب غلبة الشرك على النفوس: (5) إثبات الشرك مع الجهل. وأن الجهل سبب غلبة الشرك على النفوس وأن هذا الحكم عام في كل مشرك سواء من أهل ملتنا أو من غيرها من الملل: قال ابن تيمية: وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي كما يفعله طائفة من الجهال المشركين. وأعظم من ذلك: أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام (¬1). ا. هـ. وقال: "اتباع الهوى" درجات: فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون الله ما يستحسنون بلا علم ولا برهان (¬2). ا. هـ. وقال وهو يخاطب بعض جماعات التصوف الواقعين في الشرك قال: قال بعضهم: نحن نتوب الناس. فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله ويتوبون إليه أو ينوون التوبة فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام (¬3). ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 1 ص: 351 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 10 ص: 592 لمجموع الفتاوى. (¬3) جـ: 11 ص: 472 لمجموع الفتاوى.

وقال: فإن قلت: قد يفعل بعض الناس عند قبره مثل هذا (أي الشرك). قلت لك: أما عند القبر فلا يقدر أحد على ذلك، فإن الله أجاب دعوته حيث قال "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد". وأما في مسجده فإنما يفعل ذلك بعض الناس الجهال، وأما من يعلم شرع الإسلام فإنما يفعل ما شرع، وهؤلاء ينهون أولئك بحسب الإمكان. فلا يجتمع الزوار على الضلال، وأما قبر غيره فالمسافرون إليهم كلهم جهال ضالون مشركون ويصيرون عند نفس القبر ولا أحد هناك ينكر عليهم (¬1). ا. هـ. وقال ابن القيم: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم. فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح -عليه السلام- ولهذا لعن النبي، صلى الله عليه وسلم، المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ونهى أمته أن يتخذوا قبره عبداً وقال "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل. فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلاً، وإما عناداً لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئاً وهذا هو السبب الغالب على عوام المشركين (¬2). ا. هـ. وقال أيضاً -رحمه الله-: وأما "القول على الله بغير علم" فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثماً، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم ... وأصل الشرك والكفر: هو القول على الله بلا علم، فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبوداً من دون الله يقربه إلى الله ويشفع له عنده، ويقضي حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والابتداع في دين الله فهو أعم من الشرك، والشرك فرد من أفراده (¬3). ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 27 ص: 269 لمجموع الفتاوى. (¬2) إغاثة اللهفان جـ: 2 ص: 222. (¬3) مدارج السالكين جـ: 1 ص: 378.

وقال: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى أو أعظم شركاً عندها وبها والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيى، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر وذراعاً بذارع وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم فصار المعروف: منكراً والمنكر: معروفاً والسنة: بدعة والبدعة: سنة ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء وغلب السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين (¬1). ا. هـ. قلت: فهذه نقول هؤلاء الأئمة أن الشرك ما غلب على النفوس إلا بالجهل والقول على الله بغير علم فهل بعد هذا يصح أن نقول أن المشرك معذور بجهله؟ هذه الخامسة. العلم ركن من أركان الإيمان: (6) نص هؤلاء الأئمة على أن العلم ركن من أركان الإيمان لا يكون العبد مؤمناً إلا بتوفر العلم الصحيح لديه المطابق للمعلوم على ما هو عليه. ومن المعلوم أن الإيمان هو أصل الدين وشرط في وجود وتحقق الإسلام، إذ لا إسلام لمن لا إيمان له ولا إيمان لمن لا إسلام له وساعة نطق العبد بالشهادتين يحكم له بالإسلام مع افتراض وجود الإيمان في الباطن الذي يصححه -ما لم يلتبس بشرك حال النطق-. ¬

(¬1) زاد المعاد جـ: 2 ص: 200، دار الفكر.

فإذا ظهر من العبد بعد هذا ناقض من نواقض الشهادتين علمنا فساد الإيمان لديه إما بسبب فساد العلم الذي هو قول القلب وهو ركن الإيمان الأول، وإما بسبب فساد الانقياد الذي هو عمل القلب وهو ركنه الثاني وعند هذا نقطع بفساد الإيمان والإسلام لدى هذا العبد. قال ابن تيمية: فالإيمان في القلب لا يكون إيماناً بمجرد تصديق ليس معه عمل وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيماناً بمجرد ظن وهوى بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب وعمل القلب. ا. هـ. وقال أيضاً: وكانوا يقولون الإيمان: معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإركان. ا. هـ. وقال: وقوله تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء) وقوله: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ). الآية. فجعل هذه الأمور شرطاً في ثبوت حكم الإيمان فثبت أن الإيمان المعرفة بشرائط لا يكون معتداً به دونها (¬1). ا. هـ. وقال ابن القيم: قالوا: والقلب عليه واجبان لا يكون مؤمناً إلا بهما جميعاً واجب المعرفة والعلم وواجب الحب والانقياد والاستسلام فكما لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب الحب والانقياد والاستسلام بل إذا ترك الواجب من علمه ومعرفته به كان أعظم كفراً وأبعد عن الإيمان من الكافر جهلاً (¬2). ا. هـ. وقال أيضاً -رحمه الله-: فإن الإيمان فرض على كل أحد وهو ماهية مركبة من علم وعمل فلا يتصور وجود الإيمان إلا بالعلم والعمل (¬3). ا. هـ. قلت: ومن هذا يعلم أن العبد إذا فعل الشرك بجهل قطعنا بتخلف العلم لديه الذي هو ركن من أركان الإيمان وبالتالي فساده وفساد الإسلام لدى هذا العبد. وهذه السادسة. ومن هذه النقاط الست وغيرها الكثير يعلم أن هؤلاء الأئمة لا يعذرون المشرك بجهله ولا يدخلونه في مسمى المسلمين. وأما فتاوى هؤلاء العلماء في أنهم لا يكفرون أحداً ممن وقع في الشرك والكفر إلا بعد إقامة الحجة وذلك لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة كقول ابن تيمية -رحمه الله- ¬

(¬1) قد مرت هذه النقول من قبل فلتراجع مصادرها. (¬2) قد مرت هذه النقول من قبل فلتراجع مصادرها. (¬3) قد مرت هذه النقول من قبل فلتراجع مصادرها.

المبحث الثالث: الإسم الواحد يثبت وينفى بحسب ما يتعلق به من أحكام

بعد أن ذكر بعضاً من أعلام الشرك الأكبر فقال: وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان. وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى .. وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية. فإن "الإيمان" من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله. ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه (¬1). ا. هـ. المبحث الثالث: الإسم الواحد يثبت وينفى بحسب ما يتعلق به من أحكام: أقول وبالله التوفيق: أن هؤلاء العلماء يستخدمون لفظ الكفر بعدة اعتبارات وبحسب ما يتعلق به من الأحكام وأن الاسم الواحد يُنفي ويُثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا ثبت أو نفي في حكم أن يكون كذلك في بقية الأحكام وهذا مشهور في كلام العرب-. فالكفر قبل قيام الحجة له حد وأحكام تختلف عنه بعد قيام الحجة فتارة ينفون الكفر إلا بعد الحجة بحسب ما يتعلق به من أحكام وهذا لا ينفي الكفر الآخر الثابت لأصحابه قبل قيام الحجة وبلوغ الرسالة. قال شيخ الإسلام في هذا المعنى: وجماع الأمر أن الاسم الواحد ينفي ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا ثبت أو نفي في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام، وهذا في كلام العرب وسائر الأمم، لأن المعنى مفهوم، مثل ذلك: المنافقون قد يجعلون من المؤمنين في موضع وفي موضع آخر يقال: ما هم منهم. قال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ....). فهنالك جعل هؤلاء المنافقين الخائفين من العدو .. الناكلين عن الجهاد، الناهين لغيرهم، الذامين للمؤمنين: منهم. وقال في آية أخرى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ¬

(¬1) جـ: 35 ص: 164: 165 لمجموع الفتاوى.

وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ...). وهؤلاء: ذنبهم أخف، فإنهم لم يؤذوا المؤمنين لا بنهي ولا سلق بألسنة حداد ولكن حلفوا بالله أنهم من المؤمنين في الباطن بقلوبهم، وإلا فقد علم المؤمنون أنهم منهم في الظاهر فكذبهم الله وقال (وما هم منكم) وهناك قال: (قد يعلم الله المعوقين منكم). فالخطاب: لمن كان في الظاهر مسلماً مؤمناً وليس مؤمناً بأن منكم من هو بهذه الصفة، وليس مؤمناً بل أحبط الله عمله فهو منكم في الظاهر لا الباطن. ولهذا لما استؤذن النبي في قتل بعض المنافقين قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فإنهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق ... وكذلك: الأنساب مثل كون الإنسان أباً لآخر أو أخاه يثبت في بعض الأحكام دون بعض فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه لما اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بن الأسود في ابن وليدة زمعة، وكان عتبة بن أبي وقاص قد فجر بها في الجاهلية، وولدت منه ولداً فقال عتبه لأخيه سعد: إذا قدمت مكة فانظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني. فاختصم فيه وهو وعبد بن زمعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة، عهد إلى أخي عتبة فيه إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه ابني، ألا ترى يا رسول الله شبهه بعتبة؟ فقال عبد: يا رسول الله أخي وابن ووليدة أبي ولد على فراش أبي. فرأى النبي شبهاً بيناً بعتبة فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفرش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة". لما رأى من شبهه البين بعتبة .. فتبين أن الاسم الواحد ينفي في حكم، ويثب في حكم. فهو أخ في الميراث وليس بأخ في المحرمية .. ولفظ النكاح وغيره في الأمر يتناول الكامل وهو العقد والوطء كما في قوله: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء). وقوله (حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). وفي النهي يعم الناقص والكامل، فينهي عن العقد مفرداً وإن لم يكن وطء كقوله: (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء) (¬1). ا. هـ. ¬

(¬1) جـ: 7 ص: 418: 419 لمجموع الفتاوى.

المبحث الرابع: تعريف الكفر الذي ينفيه هؤلاء الأئمة

قلت: فالكفر الذي ينفيه ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى- هو الكفر الذي يستحق صاحبه العقوبة في الدارين القتل في الدنيا والخلود في النيران في الآخرة وهذا لا يكون إلا بعد الحجة الرسالية لأن العقوبة والعذاب متوقفة على بلاغ الرسالة لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وهذا الكفر أصحابه إن كانوا واقعين في الشرك فهم مشركون وليسوا بمسلمين، وكفار لكن الكفر الغير معذب عليه وبرهان هذا ما يلي: أولاً: النقاط الستة السابقة. المبحث الرابع: تعريف الكفر الذي ينفيه هؤلاء الأئمة: ثانياً: قال ابن تيمية: فإن حال: الكافر لا تخلو من أن يتصور الرسالة أولا فإن لم يتصور فهو في غفلة عنها، وعدم إيمان كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً). وقال: (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ). لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة، والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة ... فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر. وليس كل كافر مكذباً. بل قد يكون مرتاباً إن كان ناظراً فيه، أو معرضاً عنه بعد أن لم يكن ناظراً فيه وقد يكون غافلاً عنه لم يتصوره بحال. لكن عقوبة هذا موقوفة على تبليغ المرسل إليه (¬1). ا. هـ. فانظر -رحمك الله- إلى قول الإمام في أول النقل فإن حال الكافر: لا تخلو من أن يتصور الرسالة أو لا ثم قال وأما الكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة وقوله العقوبة متوقفة على تبليغ المرسل إليه. وقال -رحمه الله- منكراً على من يقول أن حسن التوحيد وقبح الشرك وإمكان المعاد لا يعلم بالعقل فقال: وكثير من هؤلاء يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل: كالمعاد؛ وحسن التوحيد، والعدل، والصدق، وقبح الشرك، والظلم، والكذب. والقرآن يبين: الأدلة العقلية ¬

(¬1) جـ: 2 ص: 78: 79 لمجموع الفتاوى.

الدالة على ذلك، وينكر على من لم يستدل بها، ويبين أنه بالعقل يعرف المعاد وحسن عبادته وحده وحسن شكره وقبح الشرك وكفر نعمه كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع .. فتارك الواجب وفاعل القبيح وإن لم يعذب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه. وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها -أن يسلبها فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد، والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب وقبل ذلك ينقص النعمة ولا يزيد مع أنه لا بد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار (¬1). ا. هـ. انظر إلى قول الشيخ أن العقل يعلم به حسن التوحيد والمعاد وقبح الشرك. ولذلك فالكفر ثابت قبل الحجة لمخالفة حجية العقل والفطرة وهذا الكفر ينقص النعمة ولا يزيد والكفر بعد الحجة موجب للعذاب. ولذلك قال: قالوا- أي: أهل السنة-: ولما كان العلم بالله إيماناً، والجهل به كفراً وكان العمل بالفرائض إيماناً، والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر لأن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، إليهم، ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك فلم يكن جهلهم بذلك كفراً، ثم أنزل الله عليهم الفرائض فكان إقرارهم بها والقيام بها إيماناً، وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافراً وبعد مجيء الخبر، من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافراً. والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر (¬2). ا. هـ. انظر لهذا النقل أن الجهل بالله كفر قبل الخبر وبعد الخبر والمقصود الجهل بتوحيده والدليل على ذلك: قوله أن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أقروا بالله أول ما بعث رسوله، صلى الله عليه وسلم، إليهم ومن المعلوم بيقين أن الإقرار هنا هو الإقرار بتوحيد الإلهية لا بتوحيد الربوبية الذي لا يفرق بين الموحدين والمشركين بل هو متوفر لديهم جميعاً- إذاً فالجهل بالله كفر قبل الخبر وبعد الخبر، لكن قبل الخبر ينقص النعمة ولا يزيد ومحرم على أصحابه دخول ¬

(¬1) جـ: 16 ص: 252: 253 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 7 ص: 325 لمجموع الفتاوى.

الجنة وإن ماتوا على ذلك لا يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين لأنهم مشركون وليسوا بمسلمين، إلا أنهم لا يعذبون في الدارين إلا بعد إقامة الحجة. وهذا هو الكفر بعد الخبر وهو الكفر المعذب عليه وكما أنهم لا يعذبون فهم أيضاً لا ينعمون. قال الشيخ: فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصاً له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره: كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالاً من المشرك، فلا بد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله ديناً غيره. ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولاً (¬1). ا. هـ. فمن هذه النقول للشيخ يتبين أنه لا يحكم بالإسلام للمشرك الجاهل البتة إلا أنه لا يحكم عليه بالعذاب في الدارين إلا بعد إقامة الحجة وهم قبلها مشركون وليسوا بمسلمين. وقال الشيخ: نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله الله شفاءاً لما في الصدور وبياناً للناس فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، إما ألا يعرفوا اللفظ وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه، فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن ههنا يقع الشرك وتفريق الدين شيعاً كالفتن التي تحدث السيف. فالفتن القولية والعملية هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة عنهم كما قال مالك بن أنس: إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء. ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم ولهذا قال أحمد في خطبته: ¬

(¬1) جـ: 14 ص: 476: 477 لمجموع الفتاوى.

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم. فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة كما قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى). فأهل الهدى والفلاح هم: المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون في كل زمان ومكان. وأهل العذاب والضلال هم: المكذبون للأنبياء، يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء. فهؤلاء في: ضلال وجهل وشرك وشر لكن الله يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وقال: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). وقال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ). فهؤلاء لا يهلكهم الله ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولاً. وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة (¬1). ا. هـ. ففي هذا النقل يبرهن فيه شيخ الإسلام على أن أهل الهدى والفلاح هم: المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون. وأهل العذاب والضلال هم: المكذبون للأنبياء وهذا هو الكفر المعذب عليه. يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء إذاً فهم لم يكذبوا فلم يقعوا في الكفر المعذب عليه بيد أنهم لم يتبعوهم أيضاً ووقعوا في الإشراك بالله. فهؤلاء في ضلال وجهل وشرك وشر إلا إنهم لا يعذبون إلا بعد الحجة الرسالية. وهذا هو الكفر قبل الحجة وبلوغ الخبر. ويلاحظ أن هذا النقل في الأمة المحمدية ولا يجرؤ أحد أن يقول إنهم مشركون على الإطلاق دون التعيين لأنه لو كان كذلك لما قال عنهم الشيخ: إنهم يمتحنون في العرصات لأنهم لو كانوا مسلمين لدخلوا الجنة دون امتحان. فثبوت الامتحان لهم دل على أنهم مشركون على التعيين. ¬

(¬1) جـ: 17 ص: 307 لمجموع الفتاوى.

وقال -رحمه الله-: وأصل الإيمان والتقوى: الإيمان برسل الله وجماع ذلك: الإيمان بخاتم الرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به يتضمن: الإيمان بجميع كتب الله ورسله. وأصل الكفر والنفاق هو: الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة فإن الله -تعالى- أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة (¬1). اهـ. قلت: فهذا هو الكفر الذي ينفيه ابن تيمية في الكليات والجزئيات والأصول والفروع وهو الكفر المعذب عليه لأنه لا تكليف إلا بشرع والشرع يلزم بالبلاغ مع انتفاء المعارض حتى في أصل الأصول وهو التوحيد وأهله قبل الحجة ليسوا بمسلمين. إلا كفر التنقص والاستهزاء فأهله معذبون عليه بإطلاق لأنه لا يتصور جهله ولا التعبد به. سئل الشيخ -رحمه الله (¬2) - عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة. فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي، صلى الله عليه وسلم،؟ فأجاب: لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى .. والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمراً ولا نهياً بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل: كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم -عليه السلام- ... ¬

(¬1) جـ: 11 ص: 186 لمجموع الفتاوى. (¬2) جـ: 11 ص: 401: 413 لمجموع الفتاوى.

فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض وهم من جنس فرعون وذويه ... وكثير (¬1) من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر (وأخذ يدلل على هذا) .. فقد تبين: أن هذا القول كفر ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت. وأما قول القائل: هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي، صلى الله عليه وسلم،؟ فيقال: هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقاً. بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين، لأنهم جميعاً أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لا يصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم، أن يكون الإنسان عبداً لله خاضعاً له، ومن سوغ الإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه (¬2). ا. هـ. انظر -رحمك الله- إلى هذه الفتوى فإنه قرر في أولها أنهم أكفر أهل الأرض وأكفر من اليهود والنصارى وأنهم أخبث من المشركين، ثم ينفي الكفر عنهم بعد ذلك لقلة العلم وغلبة الجهل وهذا هو الكفر المعذب عليه، ثم يثبت بعد هذا أنهم كفار بجميع الكتب والرسل وكفار بإلهية الله وهذا هو الكفر قبل الخبر وقيام الحجة. وقال ابن القيم -رحمه الله- (في الرد على الإمام ابن عبد البر في إنكاره أحاديث الامتحان لأهل الفترات مستشهداً بقوله) ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافراً أو غير كافر .. ¬

(¬1) في ص: 407. (¬2) جـ: 11 ص: 401: 413 لمجموع الفتاوى.

جوابه من وجوه: أحدها أن يقال: هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان فإن الكفر هو: جحود ما جاء به الرسول فشرط تحققه بلوغ الرسالة، والإيمان هو: تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر وهذا أيضاً مشروط ببلوغ الرسالة، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه. فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفاراً ولا مؤمنين كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين. فإن قيل: فأنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا من: التوارث والولاية والمناكحة. قيل: إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا لا في الثواب والعقاب كما تقدم بيانه. الوجه الثاني: سلمنا أنهم كفار لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه، وهو قيام الحجة عليهم، فإن الله لا يعذب إلا من قامت عليه حجته (¬1). ا. هـ. فهذا النص من الإمام ينص على انتفاء الكفر المعذب عليه إلا بعد الحجة وأصحابه كفار في أحكام الدنيا لا في أحكام الثواب والعقاب هذا مع قوله قبل ذلك أن الشرك ثابت لأصحابه لا يحتاج إلى رسول فالحجة عليه العقل والفطرة. وقال -رحمه الله- في كتاب طريق الهجرتين الطبقة (الرابعة عشر) قوم: لا طاعة لهم ولا معصية ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخير، ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئاً ولا يميز، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئاً أبداً، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئاً-. ثم قال في الطبقة (السابعة عشر) ص: 411 فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم (¬2). ا. هـ. قلت: فعندما نفي ابن القيم الكفر عن أطفال المشركين نفاه باعتبار ما يترتب عليه من العقوبة في الدارين وعندما أثبته لنفس الطائفة أثبته باعتبار ما يجري عليهم من أحكام الكفر في الدنيا. ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة جـ: 2 ص: 656/ 5. (¬2) طريق الهجرتين ص: 387.

وعلى هذا التفصيل نراجع قراءة الطبقة السابعة عشر لابن القيم في كتابه طريق الهجرتين: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أسوة بهم .. وقد اتفقت الأمة: على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم .. وقد صح عنه أنه قال، صلى الله عليه وسلم،: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة". وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال وهو بمنزلة الأطفال والمجانين وقد تقدم الكلام عليه. والإسلام: هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله برسوله واتباعه فيما جاء به فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً .. (ثم تحدث الشيخ عن الجاهل المعرض والجاهل العاجز عن إدراك الهدى والاثنان كافران إلا أن الأول معذب لإعراضه والثاني غير معذب ويمتحن في الآخرة) .. بل الواجب على العبد: أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا: فهي جارية على ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أولياؤهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول: (أحدها) أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه. (الأصل الثاني) أن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة ... الثاني: العناد لها بعد قيامها ... وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفي الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل-.

(الأصل الثالث) أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى .. الأصل الرابع: أن أفعال الله تابعة لحكمته (¬1). ا. هـ. نخرج من هذا النقل بما يلي: 1 - المشرك الجاهل المقلد كافر. 2 - الجنة لا تدخلها إلا نفس مسلمة وهذا المشرك المقلد ليس بمسلم. 3 - المسلم هو من عبد الله وحده لا شريك له وآمن برسوله واتبعه فيما جاء به. 4 - العبد المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. 5 - كفر الجهل مع عدم قيام الحجة أصحابه كفار في أحكام الدنيا لا في أحكام الثواب والعقاب أي: الكفر المعذب عليه. 6 - كفر الجهل بعد قيام الحجة أصحابه كفار في أحكام الدنيا وفي أحكام الثواب والعقاب. 7 - المشرك الجاهل المقلد لرئيسه وإمامه ليس بمسلم سواء بلغته الحجة أم لا لأن الإسلام هو ترك الشرك والاستسلام لله وحده والإيمان به وبرسوله واتباعه فيما جاء به. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى الأخ أحمد التويجري: بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعد ما تبين له الحجة على بطلان الشرك (¬2). ا. هـ. انظر إلى قوله -رحمه الله- أنه يكفر من أشرك بالله بعد إقامة الحجة وهذا هو الكفر المعذب عليه ومن المعلوم بيقين أن هذا المشرك ليس عند الشيخ مسلماً بدليل أنه قال في نفس الرسالة أن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم فوقف الحكم بالإسلام على هذا القدر وهو غير متوفر لدى المشرك. ولهذا قال الشيخ: وأما المسائل الأخر وهي أني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها، ومنها أني أقول أن الإله هو الذي فيه ¬

(¬1) طريق الهجرتين ص: 411: 414. (¬2) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الخامس -الرسائل الشخصية ص: 60.

السر (لفظة عند العامة مرادفة للفظة الإله) ومنه تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك، ومنها أن الذبح للجن كفر والذبيحة حرام ولو سمى الله عليهم إذا ذبحها للجن. فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها ونبدأ بالكلام عليها لأنها أم المسائل وقبل ذلك أذكر معنى لا إله إلا الله فنقول: التوحيد نوعان توحيد الربوبية وهو: أن الله -سبحانه- متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه لكن لا يدخل الرجل في الإسلام لأن أكثر الناس مفرون به قال الله -تعالى-: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ -إلى قوله- أَفَلاَ تَتَّقُونَ) [يونس: 31]. وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام: هو توحيد الألوهية وهو: أن لا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً. وذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، بعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله فمنهم من يدعوا الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يُدعى أحد من دونه لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد: أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم، والتجأ إليهم فهو الذي: جحد أن لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء (¬1). ا. هـ. انظر إلى قوله -رحمك الله- لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى: لا إله إلا الله. وأنه يعرف من يأتيه بمعناها، وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو: توحيد الألوهية وهو: أن لا يعبد إلا الله. وأن من تبع النبي، صلى الله عليه وسلم، ووحد الله فهو الذي شهد أن: لا إله إلا الله. ومن أشرك فهو الذي جحدها وأن ما سبق مجمع عليه بين العلماء. فهذه النقول السالفة لهؤلاء الأئمة العلماء تبرهن وتوضح -بفضل الله وعونه- موقفهم من هذه القضية الحاسمة وهي أن المشرك الجاهل غير معذور بجهله وليس بمسلم على الإطلاق، وتجري عليه أحكام الكفر في الدنيا فإن كان في وقت أو زمن فترة ولم تقم عليه الحجة فلا يكفر الكفر المعذب عليه، وكذلك لا ينعم في الآخرة حتى يُختبر في العرصات. ¬

(¬1) المصدر السابق ص: 64.

لأن الحجة لا تدخلها إلا نفس مسلمة والإسلام هو: إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له والإيمان بنبيه صلى الله عليهم وسلم واتباعه فيما جاء به. والمشرك لم يأت بهذا القدر وبعد قيام الحجة عليه فهو كافر في أحكام الدنيا وفي أحكام الثواب والعقاب. وهذا بفضل الله فصل الخطاب في هذه المسألة العظيمة التي خلق الله الخلق من أجلها لها أخذ الميثاق وعليها فطر العباد ومن أجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وأعدت الجنة والنار. وهي: عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه. وقد نص على هذا المعنى الجلي البين الواضح الشيخ العلامة المحدث: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالته حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة الرسالة السادسة من كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين. ص: 149: 163. عباد القبور لا يدخلون في مسمى المسلمين: قال في ص: 150: 151: ومسألتنا هذه وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة هي: أصل الأصول وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفي دليلها على بعض المسلمين كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة أو في مسألة خفية كالصرف والعطف. وكيف يعرفون عباد القبور وهم ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمى الإسلام وهل يبقى مع الشرك عمل؟! والله -تعالى- يقول: (وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). إلى غير ذلك من الآيات. ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول

والقرآن نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة ... - إلى أن قال في ص: 159 - مع أن العلامة ابن القيم- رحمه الله- جزم بكفر المقلدين لمشايخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهلوا لذلك وأعرضوا ولم يلتفتوا ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة الرسول من الرسل، وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم وسيأتيك كلامه، وأما الشرك فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى شهادة أن لا إله إلا الله وبقاء الإسلام ومسماه .. - إلى أن قال في ص: 160 - وتفطن أيضاً فيما قال الشيخ عبد اللطيف: فيما نقله عن ابن القيم أن أقل أحوالهم (أي من فعل الشرك جاهلاً) أن يكونوا: مثل أهل الفترة الذين هلكوا قبل البعثة ومن لم تبلغه دعوة نبي من الأنبياء إلى أن قال وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم وأما الشرك فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى شهادة أن لا إله إلا الله؟. (ثم قال في ص: 163 بعد أن سرد كلام العلامة ابن القيم في أهل الفترات من كتابه طريق الهجرتين السابق نقله) ثم قال الشيخ -رحمه الله-.

فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع فإنه -رحمه الله- لم يستثن إلا من عجز عن إدراك الحق مع شدة طلبه وإرادته له فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وأمثالهما من المحققين. وأما العراقي وإخوانه المبطلون فشبّهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل وأنه يقول هو معذور وأجملوا القول، ولم يفصلوا وجعلوا هذه الشبهة ترساً يدفعون به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وصاحوا على عباد الله الموحدين كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين. وإلى الله المصير وهو الحاكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون إلى آخر ما ذكر الشيخ -رحمه الله-. فتأمل إن كنت ممن يطلب الحق بدليله وإن كنت ممن صمم على الباطل وأراد أن يستدل عليه بما أجمل من كلام العلماء فلا عجب. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين (¬1). ا. هـ. قلت: أختم هذا البحث بآية من كتاب الله وبقول عالم معاصر وهو: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. صفة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأتباعه: أما الآية فقوله تعالى: في سورة آل عمران: (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). [آل عمران: 20]. فقد وصفت الآية النبي، صلى الله عليه وسلم، وأتباعه بصفة لا تنفك عنهم قد فارقوا بها سائر ملل الكفر وهي: إسلام الوجه لله. وباتفاق المفسرين بلا خلاف بينهم أن إسلام الوجه لله هو: إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له والبراءة من كل ما يعبد من دون الله. وهنا سؤال: هل من عبد غير الله أخلص لله وجهه أم لا؟ فإن قيل: بلى. فهذا تسويغ للشرك ومروق من الدين. وإن قيل: لا -فهل هذا المشرك الذي لم يخلص لله وجهه من أتباع نبيه، صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في مقدمته على كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين-. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فقد تقدم إلى الأخ في الله فضيلة الشيخ /عبد الله بن سعد الغامدي وهو معروف بصدقه وأمانته وغيرته الدينية ووقوفه ضد الخرافات والأعمال الشركية والبدع ونحوها وذبه عن العقيدة الإسلامية والدعوة إليها ومكافحة ما يخالفها وذكر لي أنه قد عزم على جمع بعض ¬

(¬1) عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين -الرسالة السادسة ص: 149: 163.

الرسائل النافعة من مؤلفات أئمة الدعوة وبعض علماء نجد وطبعها، في حكم تكفير المعين وعدم العذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك وطلب مني أن أضع مقدمة لها. وقد اطلعت على هذه الرسائل فألفيتها رسائل قيمة جديرة بالنشر ألفها أئمة أجلاء وعلماء فضلاء قضوا حياتهم في تدريس العلم النافع من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- والعمل بهما والدعوة إلى الله، وصانوا العقيدة ودافعوا عنها وبينوا زيغ الزائغين وضلال الضالين مع اشتمال هذه الرسائل على بيان التوحيد وما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وبيان ما يجب لله -تعالى- على عباده من العبودية لله وحده وإخلاص العبادة له بجميع أنواعها قولاً وعملاً واعتقاداً فلا يدعي إلا هو وحده ولا يرجى إلا هو وحده ولا يستغاث ولا يستعان إلا به وحده ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد

نتائج البحث

نتائج البحث - ثبوت وصف الشرك بمجرد فعله وإن كان صاحبه جاهلاً ولم تقم عليه حجة البلاغ. - ما دون أصل الدين من الخبريات والفرائض لا يكفر جاهلها إلا بعد البلاغ والبيان. - الشرك قبل البيان سبب للعذاب غير أنه متوقف على شرط آخر وهو قيام حجة البلاغ - آية الميثاق حجة مستقلة في الإشراك. وليست بحجة مستقلة في العذاب- على الراجح عند أهل السنة-. - ليس هناك ارتباط بين حكم الشرك ونفي العذاب فكل معذب في الدارين فهو مشرك، وليس كل مشرك معذباً إلا بعد قيام الحجة فبينهما عموم وخصوص مطلق. - حسن التوحيد وقبح الشرك معلوم ومستقر في الفطر والسمع نبه العقول وأرشدها إلى ما فُطرت عليه من هذا. - فعل الفواحش قبل الحجة الرسالية ذنوب قبيحة، ويجب على أصحابها التوبة منها بعد العلم والبيان. - إفراد الله بالعبادة والكفر بما يعبد من دونه مع التزام الطاعة وقبول الأحكام من الله -وحده لا شريك له- هي: شروط وحقوق "لا إله إلا الله". - النطق بالشهادتين يجري به أحكام الإسلام ما لم يُلتبس بهما شرك أو دليل ظاهر على عدم تغير الاعتقاد. ويُفترض في قائلها تحقق شروط "لا إله إلا الله" فإذا أتى بناقض بعد هذا جرت عليه أحكام الردة. - لا تدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة. - التحليل والتحريم من أخص خصائص الربوبية فمن ادعاها لنفسه فقد نصب نفسه رباً. ومن قبلها منه فقد اتخذه رباً ومعبوداً وإن لم يصل له ويدعوه من دون الله. - من أتى بالتوحيد وانخلع من الشرك والتزم الأحكام اتباعاً للآباء والشيوخ دون الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو منافق النفاق الأكبر.

- هناك صفات لله مفهوم التأله قائم عليها. فمن جهلها جهل الله ولم يعرفه وعبد غيره وإن زعم غير هذا. - عبادة الله لا تقع إلا بإفراد الله بالتأله مع إسلام العبد ساعة التوجه لله وحده لا شريك له. - تحقيق التوحيد شرط في الإذن بالشفاعة للشافع والمشفوع. - الإسلام: هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله واتباعه فيما جاء به. - الحنيف: هو التارك للشرك عن قصد وعلى بصيرة إلى توحيد الله -تعالى- بالقول والعمل. - توحيد الألوهية هو الفارق بين المسلمين والمشركين. - أصل الدين العام الذي تطابقت عليه الرسالات، وتحقق النجاة في الآخرة متوقف عليه هو: عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر مع العمل الصالح. - الإيمان: معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان. يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والعلم والعمل ركناه. - لا إسلام لمن لا إيمان له ولا إيمان لمن لا إسلام له فالأول: نفاق، والثاني: كفر لا يثبا معه توحيد. - من عصى الله مستكبراً كفر بالاتفاق، ومن عصاه مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة ولا يكفره إلا الخوارج. - الجهل أساس النفاق وعلته. - إن سب الله أو كتابه أو نبيه -صلى الله عليه وسلم- كفر في الظاهر والباطن. سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل. - النطق بالشهادتين من غير علم بمعناها وعمل بمقتضاها غير نافع بالإجماع. - الأقوال والأعمال في الظاهر أساس إجراء الأحكام. - إذا شرع الشارع عقوبة عقب فعل موصوف صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضى لذلك الجزاء لا غيره.

- القول على الله بغير علم أساس البدع والشرك. - التغيظ من الصحابة دلالة على كفر صاحبه. - إنكار علم الله وقضائه وقدره على الأمر والنهي كفر لا يختلف فيه. - من يحتج بالقدر على حجية الأفعال والمقدور فهو أكفر من اليهود والنصارى. - من أقر بعلم الله السابق للمقدور وأنكر خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات فهو مبتدع ضال في تكفيره نزاع مشهور بين العلماء. - دعوى الحلول في معين كفر بإجماع المسلمين. - غالب الردة تنشأ عن الجهل والاشتباه ولا يشترط في ثبوتها العلم والقصد. - وصف أهل القبلة: هو لعبد متحنف تارك للشرك على علم وقصد. وهو الذي يتمتع برخص أهل القبلة دون غيره من المشركين لخروجهم عن وصف أهل القبلة. - شروط الاجتهاد: أن يكون العبد عالماً جامعاً لآلة الاجتهاد، وأن يجتهد في فروع الشريعة العملية الظنية التي ليست عليها قواطع من الشرع. - لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. - المبتدع الذي لا يكفر ببدعته. هو المحقق للتوحيد الملتزم للشرائع. - التأويل دليل على مخالفة النص الجزئي لقاعد كلية أو دليل أقوى منه دلالة. - من ادعى أن من ارتكب الشرك الأكبر بتأويل أو باجتهاد أو بتقليد أو بجهل معذور فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع. - الدين له أصول وفروع. والفرق بين أصول الدين عند أهل السنة وعند أهل البدع. أن أصول أهل السنة: هي الأصول الصحيحة المطابقة لما جاء به الشرع الحنيف. وأما أصول أهل البدع: فهي أصول مبتدعة ومباينة للأصول الصحيحة. - قد بين الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أصول الدين بياناً شافياً قاطعاً للعذر. - الكفر الذي ينفيه العلماء عن المعين من المشركين حتى تقام عليهم حجة البلاغ: هو الكفر المعذب عليه، وأصحابه ليسوا بمسلمين لنقضهم أصل الدين-، ولأن الشرك الأكبر لا يجتمع مع الإسلام البتة -ويجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا- من التوارث والولاية والمناكحة ..... إلا "العقوبة" -دون أحكام الكفر في الآخرة.

وفي ختام هذه الرسالة: أتوجه بالحمد والشكر لله المنعم المتعال الذي منّ علي بجمعها. وأسأله سبحانه أن يجعلها لي ولأهلي ولذريتي ذخراً طيباً في الدنيا وعتقاً من النيران في الآخرة. (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89]. وأسأله سبحانه أن يجمع قلوب المسلمين على الحق المبين والثبات على الصراط المستقيم. وإني لا أحل لأي واحد من الإخوة تابع ما في هذه الرسالة من أحكام ونتائج أن يستطيل على إخوانه المخالفين ويعقد بها المناظرات والمجادلات والخصومات ... التي لا تأتي إلا بتنافر القلوب، ووهن الرباط الأخوي بين المؤمنين، وضعف شوكة المسلمين فإني لم أضع الرسالة لهذا أبداً. بل يعلم الله أني ما أردت بتأليفها إلا أن تكون سبباً وعوناً على ضبط المفاهيم والأحكام حتى تقف الحركة الإسلامية على أرض صلبة لا على أرض رخوة هشة. وحتى نستطيع أن نحدد البدايات الأولية الصحيحة لإقامة وعود هذا الدين والقضاء على الطواغيت والملحدين وأعوانهم من الذين يتسترون بالدين للدنيا. وكذلك دعوة الناس إلى التوحيد الصافي من دخن الشرك للفوز بالنجاة الحقيقة في الدنيا والآخرة -لا النجاة المزيفة والأماني والغرور-. وكذلك نصرة دعاة التوحيد بالأدلة والبينات لضحد ما يواجهونه من الشبه الزائفة. وكذلك بيان المعركة الحقيقة بين أهل التوحيد وأهل الشرك حتى تستجمع الحركة الإسلامية قواها لخوض غمارها ولا تنشغل بمعارك وهمية غير حقيقية عن المعركة الفاصلة وكذلك بيان المحكمات والمتشابهات من المسائل والدلائل لفصل خيوط الاشتباه في حكم ناقض التوحيد بجهل وتأويل. وكذلك أردت بيان وفضح جرثومة الإرجاء التي أسلمت الأمة فريسة سهلة لأعدائها -من خلال بوابات الطواغيت والزنادقة والعلمانيين- تلعب بها كيفما تشاء. وواقعنا المعاصر بما يحمل في طياته من مؤامرات ومكائد عالمية ودولية لهدم صرح الإسلام وتمييع أهله خير شاهد ودليل على ما أقول.

وبعد: فهل من نهاية لتمزيق الصفوف وتنافر القلوب إلى عقد الأخوة الإيمانية القائمة على أصول أهل السنة المستبصرة بنور الله تعالى. السائرة على نهج سلفها الصالح متحلية: باستعلاء الإيمان وثقة بنصر رب العالمين وبصبر على طول الطريق، وعزيمة على مواجهة الصعاب وبصيرة وتقوى للنجاة من الشبهات والشهوات غير منحرفة عن هذا النهج قيد أنملة حتى تقيم هذا الدين، وتخرجه من الغربة الثانية إلى السيادة والظهور والعلو والهيمنة، وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب البرية، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الشرك والكفران إلى عدل التوحيد والإيمان. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحيينا ويميتنا ويبعثنا جميعاً على هذا فهو سبحانه -وحده لا شريك له- وليّ هذا والقادر عليه. وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وآخر دعواي (أن الحمد لله رب العالمين). فرغت منه -بفضل الله تعالى وعونه في يوم الثلاثاء 23 من شهر جمادى الأولى لعام 1413هـ بالرياض. أخوكم في الله -تعالى- أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج * * *

مراجع البحث

فهرس مراجع البحث - جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. - معالم التنزيل لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي. - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني. - الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي. - أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي. - تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير. - صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. - صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج. - مسند الإمام أحمد للإمام أحمد بن حنبل -مؤسسة قرطبة. - صحيح سنن ابن ماجة باختصار السند لمحمد ناصر الدين الألباني -الناشر: مكتبة التربية العربي لدول الخليج. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -دار الريان للتراث. - صحيح مسلم بشرح النووي للحافظ محي الدين يحيى بن شرف النووي -دار الكتب العلمية بيروت. - المفهم شرح صحيح مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي. - عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. - نيل الأوطار شرح منتفى الأخبار لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني. - الأحاديث القدسية لمجموعة من العلماء. - زاد المعاد في هدي خير العباد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية -دار الفكر.

-جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب الحنبلي. - الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، بشر نور الدين القاري -مطبعة المدني. - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. - الصارم المسلول على شاتم الرسول لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. - موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول بهامش كتاب منهاج السنة النبوية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. - مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وأحفاده. - الإحكام شرح أصول الأحكام لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي. - عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين (مجموعة رسائل في التوحيد) جمع عبد الله بن سعد الغامدي. - القسم الخامس الرسائل الشخصية من مؤلفات الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب. - التوحيد حق الله على العبيد لمحمد بن عبد الوهاب. - الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. - قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. - الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين لعبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبي بطين. - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام -دار العاصمة الرياض. - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن الحسن آل الشيخ. - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. - تاريخ نجد لحسين بن غنام. - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني.

-الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني. - حجة الله البالغة لولي الله الدهلوي. - مدارج السالكين شرح منازل السائرين بين "إياك نعبد وإياك نستعين" لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن القيم الجوزية -دار الكتاب العربي. - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم الجوزية -دار المعرفة بيروت لبنان. - أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزية. - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيم الجوزية -مكتبة الرياض الحديثة. - طريق الهجرتين وباب السعاتين لابن القيم الجوزية. - البداية والنهاية للحافظ ابن كثير. - شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن أحمد السرخسي. - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي. - كفاية الأخبار في حل غاية الاختصار لتقي الدين أبي بكر الحسيني الدمشقي. - مواهب الجليل شرح مختصر خليل "للحطاب" لأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف "بالحطاب". - لسان العرب لابن منظور. - الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي. - الموافقات في أصول الأحكام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي. - روضةالناظر وجنة المناظر لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة. - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني. - أصول الفقه لمحمد أبي زهرة. * * *

§1/1