العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير

الشنقيطي، محمد الأمين

بسم الله الرحمن الرحيم «هذا الكتابُ مباركٌ، أي: كثيرُ البركاتِ والخيراتِ، فَمَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ به غمرته الخيراتُ في الدنيا والآخرة؛ لأن ما سَمَّاهُ اللَّهُ مُبَارَكًا فهو كثيرُ البركاتِ والخيراتِ قَطْعًا. وكان بعضُ علماءِ التفسيرِ يقول: اشْتَغَلْنَا بالقرآنِ فَغَمَرَتْنَا البركاتُ والخيراتُ في الدنيا، تَصْدِيقًا لقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] ونرجو أن يكونَ لنا مِثْلُ ذلك في الدنيا. وهذا الكتابُ المباركُ لا يُيَسِّرُ اللَّهُ للعملِ به إلا الناسَ الطَّيِّبِينَ الْمُبَارَكِينَ، فإنه كثيرُ البركاتِ والخيراتِ؛ لأنه كلامُ رَبِّ العالمين؛ إذا قَرَأَهُ الإنسانُ وتدبرَ معانيه ففي كُلِّ حرفٍ عشرُ حسناتٍ في القراءةِ، إذا تَدَبَّرَ معانيه عَرَفَ منها العقائدَ التي هي الحقُّ، وعرفَ أصولَ الحلالِ والحرامِ، ومكارمَ الأخلاقِ، وأهلَ الجنةِ وأهلَ النارِ، وما يصيرُ إليه الإنسانُ بعدَ الموتِ، وما يُسَبِّبُ له النعيمَ الأبديَّ، وما يسببُ له العذابَ الأبديَّ، فكله خيراتٌ وبركاتٌ؛ لأنه نورٌ يُنِيرُ الطريقَ التي تُمَيِّزُ بين الحسنِ من القبيحِ، والنافعِ من الضارِّ، والباطلِ من الحقِّ، فهو كُلُّهُ خيراتٌ وبركاتٌ، مَنْ عَمِلَ به غمرته الخيراتُ والبركاتُ في الدنيا والآخرةِ، وأصلحَ له اللَّهُ الدَّارَيْنِ». محمد الأمين الشنقيطي

تقديم الكتاب بقلم فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله الأمين الشنقيطي (ابن الشيخ المفسر رحمه الله)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب تبياناً لكل شيء، والصلاة والسلام على القائل: "ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه" (¬1). وعلى صحابته المروي عنهم: (إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه) (¬2) ... الأثر، الموعودين بالحسنى؛ وأتباعهم إلى يوم الدين. أما بعد: فلقد تصفحت ما كتبه فضيلة الشيخ د. خالد بن عثمان السبت (حفظه الله) وقام به من جهد ينبيء عن علو همة ورغبة في الخير، وقد ظهر في الذي وقفت عليه من عمله أمانة علمية، وتجشم للصعاب. وإذا كانت النفوسُ كباراً ... تعبتْ في مرادِهَا الأجسامُ (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 131)، وأبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم: (4580) (12/ 354)، والبيهقي في السنن (9/ 232)، وفي الدلائل (6/ 549)، وابن حبان (1/ 107)، والدراقطني (4/ 287)، والطبراني في الكبير (20/ 283)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 209)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 150)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 263)، وانظر: صحيح أبي داود (3848). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم: (111) (1/ 204). وأطرافه في (3047، 3903، 6915) من قول علي (رضي الله عنه). (¬3) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (بشرح البرقوقي 4/ 64).

وأخبرني بقيامه بسماع الأشرطة عدة مرات أولاً، ثم عهد بنسخها ثانياً، ثم قام بتوثيق المعلومات ثالثاً. وهي معلومات غزيرة ومتنوعة، مما يتطلب الوقت الكثير والبحث المتواصل، والتأمل والتحري، مما يكلف المرء عناءً هو عند طلبة العلم من أشهى المتع، كما قال الشاعر: وتَمَايُلي طَرَباً لحلٍّ عَوِيْصةٍ ... في الدرسِ أَشْهى من مُدَامَةِ سَاقِ (¬1) وكما قال الشيخ: أَبِيْتُ مُفكراً فيها فَتَضْحَى ... لفَهْمِ الفَدْمِ خَافِضَةَ الجَنَاحِ (¬2) وكان الشيخ (رحمه الله) يوظف جميع معارفه لفهم القرآن. وقد كفاني مؤنة ذلك الشيخ خالد. وقد أخذ القوس باريها. ونحن طلبةَ العلم وتلاميذ الشيخ (رحمه الله)، مَنْ منا يستطيع أن يقوم بخدمة كتبه أو أشرطته أو محاضراته على الوجه الصحيح، فلا ينبغي أن يتوانى في القيام بذلك، والعلم رَحِمٌ بين أهله. رحمة الله على الشيخ، وجزى الله الشيخ خالداً بالخير. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والسلام. عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي 20/ 2/1418 هـ ¬

_ (¬1) البيت للشافعي، وهو في ديوانه ص 64. (¬2) البيت ضمن أبيات للشيخ أوردها الشيخ عطية (رحمه الله) في ترجمته (وهي مطبوعة في آخر الأضواء ص 31).

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ في كل زمانِ فترةٍ من الرسلِ بقايا من أهلِ العلمِ، يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلى الهدى، ويصبرونَ منهم على الأَذَى، يُحيُونَ بكتابِ الله الموتى، ويُبَصِّرُون بنورِ اللَّهِ أهلَ العَمَى، فَكَمْ من قتيلٍ لإبليسَ قد أَحْيَوْهُ، وكم من ضَالٍّ تَائِهٍ قد هَدَوْهُ، فما أَحْسَنَ أثرَهم على الناسِ، وأقبحَ أثرَ الناسِ عليهم. يَنْفُونَ عن كتابِ اللَّهِ تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، الذين عَقَدُوا ألويةَ البدعةِ، وَأَطْلَقُوا عقالَ الفتنةِ، فَهُمْ مختلفونَ في الكتابِ، مُخَالِفُونَ للكتابِ، مُجْمِعون على مُفَارَقَةِ الكتابِ، يقولون على اللَّهِ وفي اللَّهِ وفي كتابِ اللَّهِ بغير علمٍ، يتكلمون بالمتشابهِ من الكلامِ، ويخدعونَ جُهَّالَ الناسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، فنعوذُ باللَّهِ من فِتَنِ الْمُضِلِّينَ (¬1). ¬

(¬1) مقتبس من كلام الإمام أحمد (رحمه الله) في مقدمة الرد على الزنادقة والجهمية، ص 6. وأورد نحوه ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها ص10 عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بغير إسناد.

أما بعدُ: فإن القرآنَ العظيمَ هو مَأْدُبَةُ اللَّهِ (عز وجل) (¬1)،فيه نَبَأُ ما قَبْلَنَا، وخبرُ ما بَعْدَنَا، وهو حَبْلُ اللَّهِ المتينُ، والذكرُ الحكيمُ، وهو الفصلُ ليس بالهزلِ، مَنْ تَرَكَهُ من جبارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، ومن ابْتَغَى الْهُدَى في غيرِه أَضَلَّهُ اللَّهُ، وهو الصراطُ المستقيمُ الذي لا تزيغُ به الأهواءُ، ولا تلتبسُ به الألسنةُ، ولا تَشْبَعُ منه العلماءُ، ولا يَخْلَقُ على كثرةِ الردِّ، ولا تنقضي عجائبُه، مَنْ قال به صَدَقَ، ومن عَمِلَ به أُجِرَ، ومن حَكَمَ به عَدَلَ، ومن دَعَا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ (¬2). ولقد بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حروفَ القرآنِ كما بَيَّنَ ما قد يَخْفَى من ¬

(¬1) اقتباس من أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه: أخرجه ابن المبارك في الزهد ص272، وعبد الرزاق في المصنف (5998، 6017)، (3/ 368، 375)، وسعيد بن منصور (التفسير)، (7)، (1/ 43)، والدارمي (3310، 3318)، (2/ 308، 310)، وابن نصر في قيام الليل (المختصر ص173)، والفريابي في فضائل القرآن (41، 59)، ص152، 166، والطبراني في الكبير (9/ 138)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 130 - 131)، وتاريخ أصبهان (2/ 242)،والرازي في فضائل القرآن (31)، ص 74، والبيهقي في السنن الصغير (944)، (1/ 333)،والشعب (1786، 1832)، (4/ 493، 549)، وابن منده في الرد على من يقول (آلم) حرف (9)، ص 48، والشجري في الأمالي (ترتيب الأمالي)، (447، 576)، (1/ 116، 155)،والبغوي في التفسير (1/ 32). موقوفاً. وقد رُوي مرفوعًا: أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (7)، (1/ 240)، وابن أبي شيبة في المسند (376)، (1/ 251)، والمصنف (10056)، (10/ 482)، وابن نصر في قيام الليل (المختصر ص171)، وابن حبان في المجروحين (1/ 100)، والآجري في أخلاق أهل القرآن (11)، ص52، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (647)، (4/ 252)، وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (202)، ص69، والحاكم في المستدرك (1/ 555) , وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 248)، والرازي في فضائل القرآن (30)، ص73، 75، والبيهقي في السنن الصغير (943)، (1/ 333)، والشعب (1786، 1832)، (4/ 493،549)، والخطيب في الجامع (79)، (1/ 107)، وابن منده في الرد على من يقول (آلم) حرف (11)، ص50، والشجري في الأمالي (ترتيب الأمالي) (427)، (1/ 111)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (145)، (1/ 101).قال ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ (303)، ص130: ((رواه إبراهيم بن مسلم الهجري ... وإبراهيم هذا ليس بشيء في الحديث)) ا. هـ. وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (145)، (1/ 102): ((هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود. قال ابن معين: إبراهيم الهجري ليس حديثه بشيء)) ا. هـ. وقال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص46 بعد أن ساق الحديث من رواية أبي عبيد في فضائل القرآن: ((هذا غريب من هذا الوجه، ورواه محمد بن فضيل عن أبي إسحاق الهجري ... وهو أحد التابعين، لكن تكلموا فيه كثيراً، وقال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي: رفاع كثير الوهم. قلت: فيحتمل - والله أعلم -أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما هو من كلام ابن مسعود، ولكن له شاهد من وجه آخر، والله أعلم)) ا. هـ. وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (5949)، (6/ 5950): ((رواه الحاكم من طريق صالح بن عمر، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عنه به، وقال: تفرد به صالح بن عمر عنه به، وهو صحيح. كذا قال! وليس كما زعم؛ فإن إبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف، وصالح بن عمر لم يتفرد به عن الهجري فقد تابعه عليه أبو معاوية الضرير محمد بن خازم، كما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة)) ا. هـ. وأورده الألباني في الضعيفة (6842)، (14/ 785) وفي ضعيف الترغيب (867) (1/ 216) وصحح وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) اقتباس من حديث يروى عن علي رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، حديث رقم: (2906)، (5/ 172)، وابن أبي شيبة في المصنف (10056)، (10/ 482)، وأحمد (1/ 91)، والدارمي (3334، 3335)، (2/ 312، 313)، والبزار (836)، (3/ 71)، وابن نصر في قيام الليل (المختصر ص157)، والفريابي في فضائل القرآن (82،81،80،79) ص182 - 187، وأبو يعلى (367)، (1/ 302)، والطبراني في الكبير (20/ 84)، وابن عدي في الكامل (4/ 1320)، وأبو طاهر المخلص في المخلصيات (1995، 2000)، (3/ 60، 63)، والبيهقي في الشعب (1788)، (4/ 496)، والشجري في الأمالي (ترتيب الأمالي) (461)، (1/ 120)، والبغوي في شرح السنة (1181)، (4/ 437)، وفي التفسير (1/ 31)، والمزي في تهذيب الكمال (34/ 267). قال الترمذي (5/ 172): ((هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال)) ا. هـ. وعقب عليه الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص10 بقوله: ((لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات ... والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا، والله أعلم. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم)) ا. هـ. وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2/ 88): ((إسناده ضعيف جداً، من أجل الحارث الأعور. ثم الظاهر أنه منقطع ... )) ا. هـ. وضعفه الألباني، كما في الضعيفة (6393)، (13/ 883).

معانيه؛ إذ إن بعثتَه تدورُ على ذلك، كما أخبرَ (تعالى) عن هذا المعنى بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: آية 44]. وإنما المقصودُ من إنزالِ القرآنِ فَهْمُهُ والعملُ به، ولم يُنْزَلْ من أجلِ القراءةِ فَحَسْبَ - مع أنها مطلوبةٌ - كما لا يكفي فَهْمُ معانيه من غيرِ العملِ به، ولا يمكنُ العملُ به من غيرِ فَهْمِ مَعَانِيهِ. وطريقُ فَهْمِ القرآنِ هي تَدَبُّرُ ألفاظِهِ ومعانيه، والتفكرُ فيها، قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرًا} [النساء: آية 82] وقال (تعالى): {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: آية 24] وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [ص: آية 29]. كما أن فَهْمَهُ يحصلُ بِتَطَلُّبِ تفسيرِه من كلامِ العلماءِ الراسخين في هذا البابِ الشريفِ، الشارحين لآياتِ القرآنِ الكريمِ، وَالْمُبَيِّنِينَ لمدلولاتِها، سواءً كان الأخذُ عنهم مشافهةً، أو عن طريقِ مُصَنَّفَاتِهِمْ. وإن من العلماءِ الأفذاذِ الذين بَلَغُوا شَأْوًا عظيمًا في علمِ التفسيرِ، العلامةَ الْمُفَسِّرَ الأصوليَّ محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله)، وهو -وإن كان من المتأخرين- إلا أن سماعَ كلامِه في التفسيرِ يُذَكِّرُ سامعَه بالأئمةِ المتقدمين. ومعلومٌ أن التأخرَ والمعاصرةَ لا يُطَفِّفَانِ حَقَّ العالِم إذا كان مُتَحَقِّقًا في العلمِ. فـ «ليس لقِدَمِ العهد يُفَضَّل القائلُ (¬1)، ولا لحِدْثَانِ ¬

(¬1) هكذا ضبطه القرافي وجماعة (القائل) بالقاف، وذهب الزبيدي وجماعة إلى أنه بالفاء (الفائل) من: فال رأيه إذا ضعف. انظر: تاج العروس (1/ 29).

عهدٍ يُهْتَضَم الْمُصِيبُ، ولكن يُعْطَى كلٌّ ما يَسْتَحِقُّ» (¬1). ذلك أن نتائجَ الأفكارِ لا تنقضي لانقضاءِ عصرٍ بِعَيْنِهِ؛ بل لكلِّ عَالِمٍ ومتعلمٍ مِنْ ذلك حظٌّ بحسبِ إخَاذِهِ، وليس ثَمَّةَ ما يمنعُ أن يُدَّخَرَ لبعضِ المتأخرين ما لم يُوهَبْ لبعضِ المتقدمين، وعليه فلا عِبْرَةَ بقولِ بعضِهم: «مَا تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ»!! فإن هذه الكلمةَ بالغةُ الضررِ بالعلمِ؛ لكونها قاطعةً للآمالِ عن تحصيلِه والإضافةِ فيه، كما لا يَخْفَى. ولكن ينبغي أن يقالَ: «كَمْ تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ». والشيءُ إنما يُسْتَجَادُ ويسترذلُ لِجَوْدَتِه وَرَدَاءَتِهِ لا لِتَقَدُّمِ قائلِه أو تَأَخُّرِهِ (¬2). قال أبو محمد بن قتيبة (رحمه الله) في مقدمةِ (الشعرِ والشعراءِ): «وَلَمْ أَسْلُكْ فيما ذكرتُه من شعرِ كُلِّ شاعرٍ مُخْتَارًا له سبيلَ مَنْ قلَّدَ أو استحسن باستحسانِ غيرِه، ولا نظرتُ إلى المتقدمِ منهم بعينِ الجلالةِ لِتَقَدُّمِهِ، وإلى المتأخرِ منهم بعينِ الاحتقارِ لِتَأَخُّرِهِ، بل نظرتُ بعينِ العدلِ على الفَرِيقَيْنِ، وأعطيتُ كُلاًّ حَظَّهُ، ووفرتُ عليه حَقَّهُ، فإني رأيتُ من علمائنا مَنْ يستجيدُ الشعرَ السخيفَ لتقدمِ قائلِه، ويضعُه في مُتَخَيَّرِهِ، ويُرْذِل الشعرَ الرصينَ، ولا عيبَ له عنده إلا أنه قِيلَ في زمانِه، أو أنه رأى قائلَه، ولم يَقْصُرِ اللَّهُ العلمَ والشعرَ والبلاغةَ على زمنٍ دونَ زمنٍ، ولا خَصَّ به قومًا دونَ قومٍ، بل جعلَ ذلك مُشْتَركًا مَقْسُومًا بين عبادِه في كُلِّ دَهْرٍ، وجعلَ كُلَّ قَدِيمٍ حديثًا ¬

(¬1) ما بين الأقواس «» من كلام المبرد في «الكامل» (1/ 43). (¬2) انظر: كشف الظنون (1/ 39) , ولأحمد بن فارس (رحمه الله) كلام مفيد في هذا الموضوع نقله الأُستاذ عبد السلام هارون (رحمه الله) في مقدمة التحقيق لكتاب (المقاييس في اللغة) (1/ 15 - 20).

في عصرِه، وَكُلَّ شَرَفٍ خارجيَّةً (¬1) فِي أوَّله، فقد كان جَرِيرٌ، والفرزدقُ، والأخطلُ. . . وأمثالهم يُعَدُّون مُحْدَثِينَ. . .، ثم صار هؤلاء قدماءَ عندنا بِبُعْدِ العهدِ منهم، وكذلك يكونُ مَنْ بعدهم لِمَنْ بَعْدَنَا، فكلُّ مَنْ أتى بحَسَنٍ مِنْ قولٍ أو فِعْلٍ ذكرناه له وَأَثْنَيْنَا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخرُ قائلِه أو فاعلِه، ولا حداثةُ سِنِّهِ؛ كما أن الرديءَ إذا وَرَدَ علينا للمتقدمِ أو الشريفِ لم يَرْفَعْهُ عندنا شرفُ صاحبِه ولا تَقَدُّمُهُ» اهـ (¬2). وقال في مقدمةِ (عُيُونِ الأَخْبَارِ): «وكذلك مَذْهَبُنَا فيما نختاره من كلامِ المتأخرين وأشعارِ الْمُحْدَثِينَ، إذا كان متخيَّرَ اللفظِ، لطيفَ المعنى، لم يُزْرِ به عندنا تَأَخُّرُ قائِله، كما أنه إذا كان بخلافِ ذلك لم يَرْفَعْهُ تقدُّمُه، فكلُّ قديمٍ حديثٌ في عصرِه، وكلُّ شرفٍ فَأَوَّلُهُ خارجيةٌ، وَمِنْ شأنِ عوامِّ الناسِ رفعُ المعدومِ، ووضعُ الموجودِ، ورفضُ المبذولِ، وَحُبُّ الممنوعِ، وتعظيمُ المتقدمِ وغفرانُ زَلَّتِهِ، وبخسُ المتأخرِ والتَّجَنِّي عليه، والعاقلُ منهم ينظرُ بعينِ العدلِ لا بعينِ الرِّضَا، ويزنُ الأمورَ بالقسطاسِ المستقيمِ» اهـ (¬3). وقال ابنُ مالكٍ (رحمه الله) في مقدمةِ التسهيلِ: «وإذا كانتِ العلومُ مِنَحًا إلهيةً، ومواهبَ اختصاصيةً، فغيرُ مُسْتَبْعَدٍ أن يُدَّخَرَ لبعضِ المتأخرين ما عَسُرَ على كثير من المتقدمين» اهـ (¬4). ¬

(¬1) الخارجيَّة: خيل لا عِرقَ لها في الجودة، فتُخرَّج سوابق، والخارجي: الذي يخرج ويشرف بنفسه من غير أن يكون له قديم، وتقول: «خرجت خوارج فلان» إذا ظهرت نجابته. انظر: اللسان (مادة: خرج) (1/ 808)، القاموس (مادة: خرج) ص 237. (¬2) الشعر والشعراء 23 - 24. (¬3) عيون الأخبار (1/م - ن). (¬4) المساعد على تسهيل الفوائد (1/ 3).

وقال الزبيدي (رحمه الله) في مُقَدِّمَتِهِ لشرحِ القاموسِ: «وكأني بالعالِم المصنفِ قد اطَّلَعَ عليه فَارْتَضَاهُ، وأَجَالَ فيه نَظْرةَ ذِي عَلَقٍ فَاجْتَبَاهُ، ولم يَلْتَفِتْ إلى حُدوثِ عهدِه وقربِ ميلادِه؛ لأنه إنما يُستجَاد الشيء ويُستَرذل لجودته ورداءتِه في ذاته لا لِقِدَمِه وحُدُوثِهِ، وبالجاهلِ المُشِطِّ قد سَمِعَ به فَسَارَعَ إلى تمزيقِ فروتِه وتوجيهِ المَعَابِ إليه. . . والذي غَرَّهُ أنه عَمَلٌ مُحْدَثٌ ولا عملٌ قديمٌ، وَحَسْبُكَ أن الأشياءَ تُنْتَقَدُ أو تُبَهرجُ؛ لأنها تَليدةٌ أو طَارِفَةٌ» اهـ (¬1). وقد أحسنَ القائلُ (¬2): قُلْ لِمَنْ لاَ يَرَى الْمُعَاصِرَ شَيْئًا ... وَيَرَى لِلأَوَائِلِ التَّقْدِيمَا إِنَّ ذَاكَ الْقَدِيمَ كَانَ حَدِيثًا ... وَسَيُمْسِي هَذَا الْحَدِيثُ قَدِيمَا والشيخُ الأمينُ (رحمه الله) عَالِمٌ متضلعٌ في فنونٍ عِدَّةٍ مِنْ أَبْرَزِهَا التفسيرُ. وسيأتي قولُه في سياقِ ترجمتِه: «لاَ توجدُ آيةٌ في القرآنِ إلاَّ دَرَسْتُهَا عَلَى حِدَةٍ» اهـ. وللشيخِ (رحمه الله) كتابٌ في تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ يُعَدُّ مِنْ أَحْسَنِ التفاسيرِ وَأَجْوَدِهَا. وإذا كان عِلْمُ التفسيرِ مَعْدُودًا في جملةِ العلومِ الضروريةِ، وكان الشيخُ الأمينُ بهذه المنزلةِ من الرسوخِ فيه، فَحُقَّ على طلبةِ العلمِ أن يُعْنَوْا بما تَرَكَهُ الشيخُ (رحمه الله) في هذا البابِ. وإن من هذه التركةِ النفيسةِ: عشراتٌ من الأشرطةِ الصوتيةِ التي تَحْوِي كثيرًا من دروسِ الشيخِ (رحمه الله) في التفسيرِ. ¬

(¬1) تاج العروس (1/ 5). (¬2) البيتان لابن شرف القيرواني، كما في مسائل الانتقاد ص5.

لمحة عن دروس الشيخ (رحمه الله) في التفسير

وقد كنتُ أَعْجَبُ من إغفالِ كِتَابَتِهَا وإخراجِها للناسِ مقروءةً كي يَعُمَّ الانتفاعُ بها؛ ذلك أن تلكَ الأشرطةَ يَصْعُبُ الانتفاعُ بها بسببِ عدمِ وضوحِها في الغالبِ، سواءً من جهةِ ضَعْفِ التسجيلِ آنذَاك، أو من جهةِ سرعةِ الشيخِ (رحمه الله) في الإلقاءِ. فصحَّ العزمُ على إخراجِ ذلك خدمةً لكتابِ اللَّهِ (تعالى)، ووفاءً للشيخِ الْمُفَسِّرِ (رحمه الله تعالى). ولا يَخْفَى أن مثلَ هذا الأمرِ يتطلبُ جُهْدًا كبيرًا من نَاحِيَتَيْنِ: الناحيةُ الأُولَى: صعوبةُ كتابةِ محتوياتِ الأشرطةِ لِمَا سَبَقَ. الناحيةُ الثانيةُ: صعوبةُ توثيقِ المادةِ العلميةِ التي يُورِدُهَا الشيخُ (رحمه الله)؛ ذلك أن دَرْسَهُ حافلٌ بالمعلوماتِ المختلفةِ من شَتَّى الفنونِ، من تفسيرٍ، ولغةٍ، وإعرابٍ، وسيرةٍ، وتاريخٍ، وأصولٍ، وقراءاتٍ، وغيرِ ذلك. ومما يزيدُ التوثيقَ صعوبةً أن الشيخَ (رحمه الله) لا يُعْنَى بالعَزْوِ إلى كتبِ التفسيرِ أو أعلامِه، الأمرُ الذي قَدْ لا يتميزُ معه بعضُ ما أخذَه من غيرِه مما فَتَحَ اللَّهُ به عليه. لَمْحَةٌ عن دروسِ الشيخِ (رحمه الله) فِي التَّفْسِيرِ (¬1): دَرَّسَ الشيخُ (رحمه الله تعالى) التفسيرَ في أماكنَ متعددةٍ، منها: ¬

(¬1) انظر: ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، للسديس ص69، ترجمة الشيخ (رحمه الله) الملحقة في آخر الأضواء ص39 - 48. (2) تجد ذلك صريحا عند تفسير الآية رقم (99) من سورة الأعراف.

1 - المسجدُ النبويُّ، وقد أَتَمَّ فيه تفسيرَ القرآنِ كاملاً، وَتُوُفِّيَ ولم يُتِمَّ الثانيةَ، وهي هذه (¬1). وقد كان هذا الدرسُ يُعْقَدُ في كُلِّ يومٍ على مدارِ العَامِ. كما ذَكَرَ ذلك بعضُ تلامذتِه الذين لاَزَمُوا دَرْسَهُ في التفسيرِ منذ عامِ (1369 هـ). ثم صَارَ الدرسُ مُقْتَصِرًا على الإجازةِ الصيفيةِ منذ سنةِ (1371 هـ) حينَ انتقلَ الشيخُ (رحمه الله) إلى الرياضِ في ذلك العامِ. فكان الشيخُ (رحمه الله) يعودُ إلى المدينةِ المنورةِ - في الإجازةِ - ويواصلُ هذا الدرسَ في مسجدِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد استمرَّ الأمرُ على ذلك إلى أن انتقلَ الشيخُ (رحمه الله) إلى المدينةِ النبويةِ مرةً ثانيةً عامَ (1381 هـ) لِيُدَرِّسَ في الجامعةِ الإسلاميةِ. وفي سنةِ (1385 هـ) صارَ وقتُ الدرسِ مُقْتَصِرًا على شهرِ رمضانَ فقط؛ فكان يتوقفُ سائرَ العامِ، فإذا جاءَ رمضانُ أَكْمَلَ التفسيرَ من حيثُ وَقَفَ في العامِ قَبْلَهُ وهكذا. وقد استمرَّ الأمرُ على هذا الحالِ إلى وفاةِ الشيخِ (رحمه الله) عامَ (1393 هـ). وكان دَرْسُهُ في رمضانَ يَبْدَأُ بَعْدَ صلاةِ العصرِ مباشرةً ويستمرُّ إلى قُرْبِ أذانِ المغربِ، وربما كان وقتُ الدرسِ قصيرًا لِعَارِضٍ، كما وقعَ للشيخِ (رحمه الله) عندَ تفسيرِه لسورةِ الأعرافِ، فبعدَ أن فرغَ من الكلامِ على الآيةِ رَقْمِ (97) منها تَوَقَّفَ مُعْتَذِرًا بقولِه: «وقد نقتصرُ ¬

(¬1)

الآنَ على هذه الكلماتِ القليلةِ؛ لأن البارحةَ أَخَذْنَا دواءً أَثَّرَ علينا، فَمَعِيَ الآنَ بعضُ الأثرِ» اهـ. 2 - دارُ العلومِ بالمدينةِ النبويةِ، وذلك في عَامَيْ (1369 و1370 هـ) إلى أن انتقلَ الشيخُ (رحمه الله) إلى الرياضِ. 3 - المعهدُ العلميُّ، وَكُلِّيَّتَا الشَّرِيعَةِ واللغةِ العربيةِ بالرياضِ. وذلك لَمَّا انتقلَ إليها عامَ (1371 هـ)، وَبَقِيَ على ذلك إلى عامِ (1381 هـ) حينَ انتقلَ إلى المدينةِ النبويةِ. 4 - الجامعةُ الإسلاميةُ. حيث دَرَّسَ فيها التفسيرَ والأصولَ إلى أن تُوُفِّيَ، إضافةً إلى آدابِ البحثِ والمناظرةِ كما سيأتي في ترجمتِه. 5 - في بيتِه في مدينةِ الرياضِ، أو بعدَ انتقالِه إلى المدينةِ النبويةِ (وهي دروسٌ خاصةٌ لبعضِ تلامذتِه). يقول تلميذُه الشيخُ عطيةُ (رحمه الله): «ولم يكن لِي مَعَهُ (رحمه الله) مِنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، مع كثرةِ الإخوانِ الدارسينَ عليه الْمُقِيمِينَ معه في بيتِه إلا وقتٌ واحدٌ، هو ما بينَ المغربِ والعشاءِ، لمدةِ سَنَتَيْنِ دراسيتين ونحنُ بالرياضِ، قرأتُ خِلاَلَهُمَا تفسيرَ سورةِ البقرةِ» (¬1) اهـ. ¬

(¬1) ترجمة الشيخ عطية سالم (رحمه الله) لشيخه الشيخ محمد الأمين (رحمه الله) في آخر الأضواء (9/ 14). (2) انظر: ترجمة الشيخ عطية سالم (رحمه الله) لشيخه الشيخ محمد الأمين (رحمه الله). في آخر الأضواء (9/ 40)، علماء ومفكرون عرفتهم (1/ 181)، ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، للسديس ص222. (3) معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص14.

منهج الشيخ (رحمه الله) في تدريس التفسير

مَنْهَجُ الشَّيْخِ (رحمه الله) فِي تَدْرِيسِ التَّفْسِيرِ (¬1): كان لدرسِ الشيخِ (رحمه الله) في التفسيرِ من حيث التوسعُ وعدمُه - كما ذَكَرَ أَحَدُ تَلاَمِذَتِهِ (¬2) - ثلاثةُ أحوالٍ: الأُولَى: الإسهابُ والتوسعُ. وعلى هذه الحالِ كانت دروسُه في المسجدِ النبويِّ. الثانيةُ: التوسطُ بين التوسعِ والاقتضابِ. وهذه حالُ دُرُوسِهِ في الجامعةِ في الأحوالِ العاديةِ. الثالثةُ: الاقتضابُ الشديدُ. وهو المرورُ السريعُ على بعضِ المفرداتِ في الآيةِ، والإشارةُ السريعةُ إلى بعضِ مَعَانِيهَا، وكان يَلْجَأُ إلى ذلك في آخِرِ السنةِ الدراسيةِ عندما يَرَى أنه لا يمكن إِكْمَالُ المنهجِ المقررِ بأسلوبِ الحالةِ الثانيةِ. وسوف أقتصرُ في الكلامِ هنا على الحالةِ الأُولَى؛ لأنها هي التي تتعلقُ بغالبِ المادةِ التي بَيْنَ أَيْدِينَا. لقد كان درسُ الشيخِ (رحمه الله) يمتازُ بتسخيرِ جميعِ علومِ العربيةِ وغيرِها من العلومِ الإسلاميةِ في تفسيرِ كتابِ اللَّهِ (تعالى)، ومحاكمةِ الآراءِ والمعانِي التي تُقَالُ في الكلمةِ أو الآيةِ إلى ما غَلَبَ في القرآنِ نفسِه، ثم تفسيرِه بِالسُّنَّةِ، ثم بما وَرَدَ عن السلفِ، مع التعمقِ في فَهْمِ ذلك بالأساليبِ العربيةِ (¬3). ¬

(¬1) المصدر السابق ص11. (2) وربما كانت بعض تلك الشواهد تحمل معاني غير مستحسنة، وقد برر الشيخ (رحمه الله) إيرادها بقوله: «وقصدنا بهذا الكلام الخبيث بيان لغة العرب، لا المعاني الخسيسة التافهة؛ لأن معاني لغة العرب يُستفاد منها ما يعين على فهم كتاب الله وسنة رسوله، وإن كان مُفْرَغًا في مَعَانٍ خسيسة تافهة، فنحن نقصد مطلق اللغة لا المعاني التافهة التي هي تابعة لها» ا. هـ من كلامه على الآية رقم (2) من سورة الأعراف. (3) علماء ومفكرون عرفتهم (1/ 181). (¬2) (¬3)

كانت حلقةُ الدرسِ تُفْتَتَحُ بآيٍ من السورةِ المقصودِ تفسيرُها، يَتْلُوهَا أحدُ التلاميذِ - وهي بمعدلِ خمسِ آياتٍ تقريبًا - فإذا فَرَغَ القارئُ شَرَعَ الشيخُ في التفسيرِ مُبْتَدِئًا بالمناسبةِ بَيْنَ الآيةِ وما قَبْلَهَا في بعضِ الأحيانِ، ثُمَّ يَعْرِضُ للمفرداتِ اللغويةِ بحيثُ يَعْرِضُ معانيها واشتقاقاتِها وَكُلَّ ما يتصلُ بها مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ، مُسْتَعِينًا على ذلك بِمَا لا يُحْصَى من شواهدِ اللغةِ (¬1)، وَمِنْ ثَمَّ يتناولُ العلائقَ التركيبيةَ بين المفرداتِ، فيعرضُ لضروبِ القراءاتِ الواردةِ فيها مع عَزْوِهَا وَتَوْجِيهِهَا، كما يَذْكُرُ وجوهَ الإعرابِ وما تُقَرِّرُهُ من المدلولاتِ، فإذا انْتَهَى من ذلك صرفَ الأذهانَ إلى الاستنباطِ الفقهيِّ، مع ذِكْرِ الخلافِ والأدلةِ والترجيحِ، مستعينًا على ذلك بِكُلِّ ما يتطلبُه المقامُ من علومِ اللسانِ، والبيانِ، والأصولِ، والناسخِ والمنسوخِ، وأسبابِ النزولِ، وما يتصلُ بذلك من العمومِ والخصوصِ والإطلاقِ والتقييدِ، ولا يَفُوتُهُ أن يربطَ بعضَ المعانِي ببعضِ الوقائعِ الْمُشَابِهَةِ على صورةٍ تُثْرِي المعرفةَ، وَتُعَمِّقُ أسبابَ الإقناعِ. وإذا كان المضمونُ قَصَصِيًّا عَمَدَ إلى عناصرِ القصةِ فاستخرجَ عِبَرَهَا، وَكَشَفَ نُذُرَهَا، وقاسَ ما فيها من صورِ الماضي على ما يُعَايِشُهُ الناسُ من أحداثِ الحاضرِ (¬2)، فكان كثيرَ الربطِ بين هذا

وهذا، فتجدُه يتحدثُ عن أسبابِ ضَعْفِ المسلمين اليومَ، وعن الموقفِ من الحضارةِ الغربيةِ، ولزومِ الأخذِ بأسبابِ القوةِ، وأسبابِ النصرِ والتمكينِ. . . وغيرِ ذلك مما تَجِدُهُ في مواضعِه من هذه الدروسِ. وهكذا حِينَمَا يعرضُ لغزوةٍ من الغزواتِ فإنه يَسْتَطْرِدُ في ذِكْرِ تفاصيلِها المختلفةِ، وقد قال (رحمه الله) عندَ تفسيرِ الآياتِ المتعلقةِ بغزوةِ حُنَيْنٍ من سورةِ بَرَاءَةٍ: «ونحنُ دائمًا في هذه الدروسِ إذا جاءت غزوةٌ من مَغَازِي رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في الآياتِ القرآنيةِ نُفَصِّلُهَا ونذكرُ تفاصيلَها لتمامِ الفائدةِ، كما أَوْضَحْنَا فيما مَضَى غزوةَ أُحُدٍ في سورةِ آلِ عمرانَ، وغزوةِ بَدْرٍ في سورةِ الأنفالِ، وسيأتي في سورِ القرآنِ العظيمِ أكثرُ مَغَازِيهِ - صلى الله عليه وسلم -» اهـ. وإذا كانت الآيةُ المفسرةُ مما يتعلقُ به بعضُ المبتدعةِ فإنه يُنَبِّهُ على ذلك ثم يَسْتَطْرِدُ فِي الردِّ عليهم، وقد قال عندَ تفسيرِ الآيةِ رقم (107) من سورةِ الأعرافِ حينَ عَرَضَ لشبهةِ الجبرِ والقَدَرِ: «وَنَحْنُ في هذه الدروسِ دائمًا نُبَيِّنُ كيفيةَ رَدِّ هذه الشُّبَهِ» اهـ. وكان (رحمه الله) كثيرًا ما يَعْرِضُ السؤالَ الذي يَتَوَقَّعُ انقداحَه في أذهانِ السامعين ثم يجيبُ عنه، وقد قال عند تفسيرِ الآيةِ رقمِ (37) من سورةِ التوبةِ: «إِنَّ من عادتنا التي نَجْرِي عليها في هذه الدروسِ أن نتعرضَ لِمَا نَظُنُّ أنه يَسْأَلُ عنه طلبةُ العلمِ» اهـ وهذا تجده مبثوثًا في هذا التفسيرِ فيما يَقْرُبُ من سبعين موضعًا. وكثيرًا ما يَقْرِنُ الشيخُ ذلك كُلَّهُ بالوعظِ والتذكيرِ بالاستعدادِ للآخرةِ واستحضارِ المراقبةِ لِلَّهِ (عز وجل).

وقد يَسْتَطْرِدُ في بعضِ الأحيانِ في قضيةٍ واحدةٍ تستغرقُ الدرسَ كُلَّهُ - وهذا قليلٌ فيما وَقَفْتُ عليه - كما فَعَلَ عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورةِ الأعرافِ: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12] حيث أَطَالَ في الردِّ على ابنِ حَزْمٍ في رَدِّهِ القياسَ، كما سَتَقِفُ على ذلك في موضعِه من سورةِ الأعرافِ. وكذلك عند الكلامِ على قوله (تعالى) من السورة نفسها: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: آية 54] حيث بَسَطَ الكلامَ على مسألةِ الصفاتِ. وكذا في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: آية 57] حيث أطالَ النَّفَسَ في الردِّ على أهلِ الفَلَكِ. وربما أَحَالَ إلى بعضِ كُتُبِهِ، كما نرى ذلك عند كلامِه على المجازِ أثناءَ تفسيرِ الآيةِ رَقْمِ (21) من سورةِ بَرَاءَةٍ. ومما يُذْكَرُ في هذا المقامِ مِمَّا يَدُلُّ على غَزَارَةِ تلك الدروسِ بالعلمِ أن الشيخَ (رحمه الله) حينما عُرِضَ عليه درسُه السابقُ المتعلقُ بالردِّ على ابنِ حَزْمٍ في إنكارِ القياسِ - مُفرَّغًا من الشريطِ الْمُسَجَّلِ بعد سنةٍ من إلقائِه - وَسَمِعَهُ الشيخُ بصوتهِ قال: «لِوْلاَ أَنِّي أَسْمَعُ صَوْتِي بِأُذُنِي وأنتَ - يعني تلميذَه الشيخَ عطيةَ - أَتَيْتَنِي بها مكتوبةً؛ ما صدقتُ أن شخصًا يقولُ هذا ارْتِجَالاً» (¬1). ¬

(¬1) ترجمة الشيخ محمد الأمبن الشنقيطي، للسديس ص222.

وَلَمَّا رَاجَعَهُ أحدُ تلامذتِه في تخفيفِ مستوى الدرسِ، أَجَابَ بقولِه: «إن اللَّهَ يفتحُ على المرءِ ما لم يكن يتوقعُ، ثم إن المسجدَ يَجْمَعُ عجائبَ من أجناسٍ مختلفةٍ، وَيَكْفِينِي واحدٌ يَحْمِلُ عَنِّي ما بَلَّغْتُ مِمَّا عِنْدِي» (¬1) اهـ. وقد نَبَّهَ الشيخُ (رحمه الله) على ذلك عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورة براءة: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... } [التوبة: آية 44] لَمَّا تكلمَ على بعضِ النواحِي الإعرابيةِ واللغويةِ المتصلةِ بالآيةِ، فقال بعدَ ذلك: «ونحنُ نذكرُ هذه الأشياءَ العربيةَ، وإن كانَ أكثرُ المستمعين لا يَفْهَمُونَهَا؛ لأَنَّا نريدُ أن تكونَ هذه الدروسُ القرآنيةُ يستفيدُ منها كُلُّ الحاضرين على قَدْرِ استعداداتِهم، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ الجميعَ للخيرِ» اهـ. وذكر (رحمه الله) بعضَ التحقيقاتِ اللغويةِ في موضعٍ آخرَ، ثم عَقَّبَ ذلك بقولِه: «فنحنُ - أيها الإخوانُ - نذكرُ هذه المناسباتِ؛ لأَنَّا نعلمُ أن القرآنَ العظيمَ هو مصدرُ العلومِ، وله في كُلِّ عِلْمٍ بيانٌ، فنتطرقُ الآيةَ من وجوهها، وَقَصْدُنَا انتفاعُ طلبةِ العلمِ؛ لأن القرآنَ أصلٌ عظيمٌ تُعْرَفُ به أصولُ التصريفِ، والنحوِ، وأصولِ الفقهِ، والتاريخِ، والأحكامِ، إلى غيرِ ذلك من جميعِ النواحِي، فنحن جَرَتْ عادتُنا بأن نتطرقَ الآيةَ من جميعِ نواحيها بحسبِ الطاقةِ لينتفعَ كُلٌّ بِحَسَبِهِ» (¬2) اهـ. وقال عند تفسيرِ قولِه (تعالى): {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ... [التوبة: آية 34]: «ونحنُ - عادةً في هذه ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) ذكره عند تفسير الآية (101) من سورة الأعراف.

الدروسِ - إذا مررنا بآيةٍ من كتابِ اللَّهِ هي أصلُ بابٍ من أبوابِ الفقهِ نتعرضُ إلى مسائلِه الكبارِ، وَنُبَيِّنُ عيونَها ومسائلَها التي لها أهميةٌ» اهـ. ولم يكن الشيخُ (رحمه الله) يتركُ الحديثَ عن الأحكامِ المتعلقةِ بالآيةِ نظرًا لأن موضوعَها قد عُطِّلَ أوكَادَ في هذا العصرِ أَنْ يُعَطَّلَ، فنجدُه عند الكلامِ على قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّنْ شَيْءٍ} ... [الأنفال: الآية 41] يقول: «وهذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنفالِ قد تَضَمَّنَتْ أحكامًا كثيرةً من أحكامِ الجهادِ، ومن أحكامِ الغنائمِ، وقد يحتاجُ لها المسلمونَ؛ لأنا نَرْجُو اللَّهَ (جل وعلا) أن يرفعَ عَلَمَ الجهادِ وَيُقَوِّيَ كلمةَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأن تَخْفِقَ راياتُ المسلمين في أقطارِ الدنيا فيحتاجون إلى تَعَلُّمِ ما تَضَمَّنَتْهُ هذه الآيةُ الكريمةُ من أحكامِ الجهادِ. وَلَمَّا كانَ القرآنُ العظيمُ هو مصدرُ جميعِ العلومِ؛ لأنه الكتابُ الذي حَوَى جميعَ العلومِ، وكانت أصولُ جميعِ الأشياءِ كُلِّهَا فيه أَرَدْنَا هنا أن نُبَيِّنَ جُمَلاً من الأحكامِ التي أَشَارَتْ إليها هذه الآيةُ الكريمةُ» اهـ. وقد ينسى الشيخُ (رحمه الله) مسألةً يَرْغَبُ في عَرْضِهَا عندَ تفسيرِه للآيةِ فَيَسْتَدْرِكُ ذلك في الدرسِ الذي يَلِيهِ ويتكلمُ عليها قَبْلَ أن يَشْرَعَ في تفسيرِ الآياتِ التي بعدَها، كما وَقَعَ عندَ تفسيرِ الآيةِ رقم (37) من سورةِ براءةٍ. ولربما وقعَ له ذهولٌ عن أحدِ الأقسامِ التي هو بِصَدَدِ الحديثِ عنها فلا يَذْكُرُهُ، ثم يُنَبِّهُ على ذلك في مناسبةٍ أخرى تُمَاثِلُهَا، كما في كلامِه على مادةِ (بَيَنَ) والمعاني التي تأتي لها في حالِ لُزُومِهَا وَتَعَدِّيهَا، فقد تكلمَ عليها في سبعةِ مواضعَ، ثلاثة في الأنعامِ وأربعة في الأعرافِ، وقد قال عندَ كلامِه عليها في الموضعِ

السادسِ، وذلك ضمنَ تفسيرِ الآيةِ رقم (101) من سورةِ الأعرافِ: «وَقَدْ ذَكَرْنَا فيما مَضَى في الكلامِ على قولِه: {قَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ} [الأنعام: آية 157] تصريفَ هذه الكلمةِ وما جاءَ من أمثلتِها في القرآنِ ببعضِ أمثلتِها، وكانَ ذلك الذي ذَكَرْنَا هنالك سَقَطَ منه قِسْمٌ نِسْيَانًا، وكنا نَتَحَرَّى إِنْ جَاءَتْ لها مناسبةٌ أخرى أن نُبَيِّنَ القسمَ الذي سقطَ من كلامنا سَهْوًا لئلا يضيعَ على بعضِ طلبةِ العلمِ الذين يسمعون هذه الدروسَ ... » إلى آخرِ ما ذَكَرَهُ (رحمه الله). ومع هذه الغزارةِ في المعلوماتِ؛ فقد كان الشيخُ (رحمه الله) حين يُلْقِي درسَه كالسيلِ المنحدرِ؛ فهو يُسْرِعُ في الإلقاءِ، وتتواردُ عليه هذه المعلوماتُ المتنوعةُ، التي تَمُدُّهُ بها تلك الذاكرةُ النادرةُ، فيضعُ كُلَّ معلومةٍ في مَوْضِعِهَا، فتأتي متسقةً مترابطةً، كُلُّ ذلك في لغةٍ عاليةٍ، لا لَحْنَ فيها ولا سُوقِيَّة (¬1). ومع هذا الإسراعِ في العرضِ، بالإضافةِ إلى ذلك الكمِّ الهائلِ من المعلوماتِ المتنوعةِ، مع ما في ضِمْنِ ذلك من عَزْوٍ للقراءاتِ إلى قارئيها، والأحاديثِ إلى مُخَرِّجِيهَا، والأقوالِ والمذاهبِ الفقهيةِ لأصحابِها، والأشعارِ والشواهدِ لقائلِيها، إلى غيرِ ذلك مِمَّا عَرَضَ له في هذا التفسيرِ؛ فإنك مع ذلك كُلِّهِ يَنْدُرُ أن تقولَه على غلطٍ مُحَقَّقٍ، وقد تَتَبَّعْتُ كُلَّ ما يذكره في هذا التفسيرِ بُغْيَةَ تَوْثِيقِهِ فَهَالَنِي قوةُ ضَبْطِهِ وحفظِه وإتقانِه. ولعلَّ من الطريفِ أن أذكرَ أن الشيخَ (رحمه الله) عند كلامِه على القراءاتِ في معرضِ تفسيرِه للآيةِ رقم (61) من سورةِ براءة أخطأَ فنسبَ قراءةَ الخفضِ في قولِه ¬

(¬1) انظر: علماء ومفكرون عرفتهم (1/ 182).

تعالى: {ورحمةٍ} إلى الكسائيِّ، فَتَرَدَّدْتُ في التعليقِ على ذلك لِمَا عهدتُه من ضَبْطِه وحفظِه، ثم وجدتُه بعد أن جاوزَها وتكلمَ على بعضِ المسائلِ يَرْجِعُ ويقول: «وأما على قراءةِ حمزةَ الذي قرأَ {ورحمةٍ} بالخفضِ - هو حمزةُ لا الكسائي - أما على قراءةِ حمزةَ ... » إلى آخرِ ما ذَكَرَ. ولربما عزَا الحديثَ إلى بعضِ المصنفاتِ فَتَطَلَّبْتُهُ فيه مرةً بعد مرةٍ بشتى الطرقِ المعروفةِ في تخريجِ الحديثِ حتى إذا كِدْتُ أن أجزمَ بعدمِ وجودِه فيه وجدتُه بعد ذلك في غيرِ مَظَانِّهِ. هذا وقد جَرَى كثيرٌ من المفسرين على إيرادِ الأدلةِ والتفصيلاتِ المختلفةِ عندَ أولِ مناسبةٍ تَعْرِضُ لهم، ثم إذا تَكَرَّرَ نظائرُ لذلك فإنهم يكتفونَ بالإشارةِ لِمَا حَرَّرُوهُ في الموضعِ المتقدمِ، وهذا أمرٌ يُفِيدُ في اختصارِ حجمِ الكتابِ بلا رَيْبٍ وإن كان يؤثرُ على القارئِ كما لا يَخْفَى، وقد جرى على هذه الطريقةِ الشيخُ نفسُه في كتابِه: "أَضْوَاءِ الْبَيَانِ". وأما الطريقةُ الثانيةُ وهي أن يُبَيِّنَ ما احتاجَ إلى بيانٍ في كُلِّ موضعٍ، وإن كان ذلك متكررا، فهذه الطريقةُ أنفعُ للقارئِ من التي قَبْلَهَا خاصةً في التفسيرِ، يقول الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ سَعْدِي (رحمه الله): «اعْلَمْ أن طريقتي في هذا التفسيرِ أَنِّي أذكرُ عندَ كُلِّ آيةٍ ما يحضرني من معانيها ولا أَكْتَفِي بِذِكْرِي ما تَعَلَّقَ بالمواضعِ السابقةِ عن ذِكْرِ ما تعلقَ بالمواضعِ اللاحقةِ؛ لأن اللَّهَ وَصَفَ هذا الكتابَ أنه: {مَّثَانِيَ} ثَنَّى فيه الأخبارَ والقصصَ والأحكامَ وجميعَ المواضيعِ النافعةِ لِحَكَمٍ عَظِيمَةٍ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ جميعِه لِمَا في ذلك من زيادةِ العلومِ والمعارفِ وصلاحِ

الظاهرِ والباطنِ وإصلاحِ الأمورِ كُلِّهَا» اهـ (¬1). ثم إن الْحَاجَةَ لذلك تَعْظُمُ إذا كان التفسيرُ دَرْسًا يُلْقَى في سنين متطاولةٍ في مواسمَ معينةٍ مع ما بَيْنَهَا من التباعدِ في المدةِ وما يحصلُ مع ذلك من النسيانِ لَدَى السامعين؛ إضافةً إلى تَجَدُّدِ الكثيرِ من الوجوهِ في كُلِّ مَرَّةٍ؛ ولذا جَرَى الشيخُ (رحمه الله) في هذا التفسيرِ على بيانِ الآيةِ من جميعِ الوجوهِ مع صَرْفِ النظرِ عن كَوْنِ ذلك يقعُ مُتَكَرِّرًا، فنجدُه يُبَيِّنُ أَنَّ: {لَعَلَّ} تأتي لمعنى التعليلِ في جميعِ القرآنِ إلا في موضعٍ واحدٍ؛ يذكر ذلك في أحدَ عشرَ موضعًا، وَيُنَبِّهُ على الفرقِ بين النبأِ والخبرِ في تسعةِ مواضعَ، كما نَجِدُ بعضَ القضايا يُكَرِّرُهَا في ثمانيةِ مواطنَ كبيانِ الفرقِ بينَ الخوفِ والحزنِ، ولزومِ الحملِ على ظاهرِ القرآنِ إلا لدليلٍ، وأن الشيءَ قد يُقْصَرُ على بعضِ أفرادِه؛ لأنهم المنتفعون به، وقضيةُ الحكمِ بغيرِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وأن عِلْمَ الغيبِ يختصُّ بِاللَّهِ (عز وجل)، وهناك بعضُ المسائلِ التي تَكَرَّرَتْ في سبعةِ مواضعَ، كالكلامِ على أطوارِ خلقِ الإنسانِ، وأن الله خَلَقَ الخلقَ ليختبرهم في إحسانِ العملِ، وشرحِ الأُسُسِ الثلاثةِ التي يُبْنَى عليها الاعتقادُ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ، والردِّ على القدريةِ القائلين بأن اللَّهَ لم يَشَأِ الكفرَ والمعاصيَ، والمناظرةُ المشهورةُ التي وَقَعَتْ بين أبي إسحاقَ الإسفرائيني والقاضي عبدِ الجبارِ المعتزليِّ في القدرِ، وغير ذلك مما تَكَرَّرَ هذا التَّكَرُّرَ في هذا التفسيرِ، وأما القضايا التي تَكَرَّرَتْ دونَ ذلك فهي كثيرةٌ لا أُطِيلُ بِذِكْرِهَا، عِلْمًا بأن ما بِأَيْدِينَا من هذه الدروسِ إنما يُمَثِّلُ أجزاءً قليلةً من هذا التفسيرِ الْمُبَارَكِ، فكيف لو وُجِدَ كَامِلاً؟ ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن ص28.

موقفه من الروايات الإسرائيلية

مَوْقُفُهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الإِسْرَائِيلِيَّةِ: إِنَّ الْمُطَالِعَ لكتبِ التفسيرِ يجدُ أن عَامَّتَهَا لم يَسْلَمْ من دخولِ الرواياتِ الإسرائيليةِ على تفاوتٍ بينها في ذلك، فَمِنْ مُقِلِّ ومن مُسْتَكْثِرٍ، مع أن التفسيرَ في غُنْيَةٍ عنها، إلا أن كثيرًا من المفسرين قد أُولِعُوا بالتتبعِ لتفاصيلَ لا طَائِلَ تحتها ولا فائدةَ في معرفتها، كما نَبَّهَ الشيخُ (رحمه الله) على ذلك عند تفسيرِ الآيةِ رقم (73) من سورةِ البقرةِ؛ ولذا نَرَى الشيخَ في هذه الدروسِ لا يكاد يُورِدُ شيئًا منها إلا ما نَدُرَ، ثم يُنَبِّهُ على ذلك بعدَ إيرادِه أو قَبْلَهُ، كما قال عندَ تفسيرِ الآيةِ (48) من سورةِ الأعرافِ: «وستأتي قصةُ الرجلِ في سورةِ الصافاتِ؛ لأن اللَّهَ ذَكَرَ في الصافاتِ قصةَ رجلٍ وَأَجْمَلَهَا، والمفسرون يَبْسُطُونَهَا وَيَشْرَحُونَهَا؛ إلا أن شَرْحَهُمْ لها وَبَسْطَهَا من القصصِ الإسرائيليةِ التي لا يُعوَّلُ عليها. . .» اهـ ثُمَّ أَوْرَدَ القصةَ، وكما في كلامِه على الآيةِ رقم (168) من سورةِ الأعرافِ حيث يقول: «وَجَرَتْ عادةُ المفسرين أن يَذْكُرُوا قصةً غريبةً عنهم في آيةٍ ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هذا من سورةِ الأعرافِ - ثم ذَكَرَ الآيةَ والقصةَ المشارَ إليها ثم عَقَّبَ ذلك بقوله - هكذا يقولون، وَتَكْثُرُ هذه القصةُ ... في كلامِ المفسرين عندَ هذه الآيةِ الكريمةِ، وقد أَلْمَحْنَا بالآيةِ ولم نَذْكُرْهَا لأنها لم يَثْبُتْ عندنا فيها شيءٌ» اهـ وهكذا عند كلامِه على الآيةِ رقمِ (175) من سورةِ الأعرافِ حيث ذَكَرَ بعضَ الأقوالِ التي مُعَوَّلُهَا على الإسرائيلياتِ ثم عَقَّبَ ذلك بقولِه: «وَكُلُّ هَذِهِ إِسْرَائِيلِيَّاتٌ» ثم نَقَلَ كلامًا من قبيلِ الإسرائيلياتِ وَعَقَّبَهُ بقولِه: «وهذه إسرائيلياتٌ لا مُعَوَّلَ عليها يَذْكُرُهَا المفسرون» ثم نَقَلَ كلامًا لبعضهم من ذلك القبيلِ وَعَقَّبَهُ بقولِه: «وغير هذا من رواياتٍ كثيرةٍ إسرائيليةٍ يَحْكِيهَا المفسرون في تفسيرِ

القيمة العلمية لهذه الدروس

هذه الآيةِ من سورةِ الأعرافِ لا طائلَ تَحْتَهَا ولا دليلَ على شيءٍ منها» اهـ. وهذا يُعَدُّ مزيةً لهذا التفسيرِ كما لا يَخْفَى. وكان من عادتِه (رحمه الله) أن يَخْتِمَ الدرسَ بدعاءٍ يُؤَمِّنُ عليه مَنْ حَضَرَ، وقد عَلَّلَ ذلك بقوله عند تفسيرِ الآيةِ رقمِ (55) من سورةِ الأعرافِ في الكلامِ على قوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}: «ونحنُ -وَإِنْ كُنَّا نعلمُ أن الإخفاءَ في الدعاءِ أفضلُ من [الجهرِ] به وندعو غَالِبًا في هذا المجلسِ دعاءً ظاهرًا، قَصَدْنَا به أن يَسْمَعَنَا إخوانُنا ويُؤَمِّنُونَ لنا فنكونُ مُجْتَمِعِينَ على الدعاءِ في هذا الشهرِ المباركِ، ولو أَسْرَرْنَا الدعاءَ لَمَا سَمِعُوهُ وَلَمَا أَمَّنُوا لنا، والمؤمِّنُ أحدُ الداعِيَيْنِ. . .» إلى آخِرِ ما ذَكَرَ. الْقِيمَةُ الْعِلْمِيَّةُ لِهَذِهِ الدُّرُوسِ: يمكنُ أن ألخصَ الكلامَ على هذه القضيةِ في الأمورِ الآتيةِ: 1 - عُلُوُّ كَعْبِ صاحبِها في العلمِ، ورسوخُه في التفسيرِ، الأمرُ الذي يجعلُ لاختياراتِه وترجيحاتِه قيمةً مُعْتَبَرَةً. 2 - غَزَارَةُ المادةِ العلميةِ التي احْتَوَتْهَا هذه الدروسُ (¬1)؛ فهي - كما ¬

(¬1) وإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فاعلم أن هذا القدر الذي وقفنا عليه من هذا التفسير المبارك لا يمثل إلا أجزاء قليلة من القرآن لا تتجاوز الأربعة، ومع ذلك تجد فيها من الأحاديث والآثار - من غير المكرر - ما يقارب الخمسمائة، وفيها من الأشعار والشواهد والمنظومات ما يزبد على ستمائة بيت، وفيها من القراءات ما يقارب خمسين ومائتي قراءة، وأكثر من عشرين ومائة فرع فقهي، وفيه نحو هذا الكم من المسائل المتعلقة بالعقيدة، كما تجد فيه أكثر من سبعين قاعدة من القواعد المتنوعة، وما يقرب من سبعين إشكالا أجاب عنها، إضافة إلى ما يذكره من الفروق المتنوعة وهي تقارب الخمسين فرقا، فضلا عن القضايا الإعرابية والصرفية والبلاغية وغير ذلك.

سَبَقَ - تشتملُ على معلوماتٍ كثيرةٍ مستقاةٍ من مُخْتَلَفِ العلومِ الْمُحْتَاجِ إليها في التفسيرِ، منها ما هو موجودٌ في بعضِ كتبِ التفسيرِ، ومنها ما هو مُفَرَّقٌ في كتبٍ تتعلقُ بفنونٍ أخرى كتاريخِ ابنِ جريرٍ، وفتحِ البارِي، وكتبِ اللغةِ وغيرِها، إضافةً إلى بعضِ الفوائدِ والشواهدِ التي تَلَقَّاهَا الشيخُ (رحمه الله) عَمَّنْ أَخَذَ عنهم العلمَ. 3 - تجدُ في هذه الدروسِ كثيرًا من الاستنباطاتِ العلميةِ التي تَوَصَّلَ إليها الشيخُ بعد اطلاعٍ واسعٍ، وَفَهْمٍ ثَاقِبٍ، وَنَظَرٍ صحيحٍ. 4 - من الأمورِ الْجَلِيَّةِ في هذه الدروسِ أن الشيخَ (رحمه الله) حينما يُلْقِيهَا ليس هو مجردَ ناقلٍ يَسْرُدُ ما قَرَأَ فحسب، بل نجدُه ينقلُ كلامَ العلماءِ، ويقارنُ بين تلك المقولاتِ ويناقشُها، ويختارُ منها ما يترجحُ لَدَيْهِ. 5 - في هذه الدروسِ تقفُ على نموذجٍ رفيعٍ من توظيفِ القواعدِ والضوابطِ العلميةِ في الفَهْمِ والاستنباطِ والترجيحِ. وهذا من أنفعِ الأمورِ التي يحتاجُ إليها طالبُ العلمِ. 6 - تَشْتَمِلُ هذه الدروسُ على بيانِ مواطنِ الْعِبَرِ في القرآنِ، وَرَبْطِ ما جَاءَ فيه بحياةِ الناسِ وَوَاقِعِهِمْ؛ فالشيخُ لا يشرحُ الآياتِ على أنها تخاطبُ قومًا ذهبوا وَقَضَوْا، بل يُبَيِّنُهَا بطريقةٍ تجعلُ السامعَ بعيشُ معها كلمةً كلمةً، وآيةً آيةً، حتى يُدْرِكَ أنه مُخَاطَبٌ بها.

وقفة مع تسجيل دروس الشيخ (رحمه الله) في التفسير

7 - يتعرضُ الشيخُ (رحمه الله) في هذه الدروسِ لتحليلِ كُلِّ كلمةٍ في الآيةِ، ويبينُ معناها وما تَدُلُّ عليه، كما يُبَيِّنُ أصلَ مَادَّتِهَا وهكذا. فهو لا يتركُ شاردةً ولا واردةً إلا ويتكلمُ عليها غالبًا. وبهذا تُدْرِكُ فَرْقًا جَلِيًّا بين هذه المادةِ التي بَيْنَ يَدَيْكَ وبينَ ما ذَكَرَهُ الشيخُ (رحمه الله) في كتابِه: (أَضْوَاءِ الْبَيَانِ)؛ إِذْ إنه في (الأضواءِ) لا يتعرضُ لتفسيرِ جميعِ الآياتِ، بل يتكلمُ على بعضِها، كما لا يتطرقُ إلى تفسيرِ جميعِ الألفاظِ في الآيةِ التي يُفَسِّرُهَا؛ ذلك أنه قَصَدَ من تأليفِه أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ - كما صَرَّحَ بذلك في مقدمته (¬1) - هما: 1 - بَيَانُ القُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. 2 - بيانُ الأحكامِ الفقهيةِ في جميعِ الآياتِ المُبَيَّنَةِ. وَقْفَةٌ مَعَ تَسْجِيلِ دُرُوسِ الشَّيْخِ (رَحِمَهُ اللَّهُ) فِي التَّفْسِيرِ: يبدو أن دروسَ الشيخِ (رحمه الله) في الكُلِّيَّةِ لم تكن تُسَجَّلُ صَوْتِيًّا؛ إذ يقولُ أحدُ تلامذتِه في الكليةِ: «ولم نَكُنْ في ذلك الوقتِ نفكرُ في إحضارِ مُسَجِّلٍ للصوتِ لأسبابٍ: منها كِبَرُ حَجْمِ الْمُسَجِّلاَتِ، حيث يَصْعُبُ حَمْلُهَا مع حَمْلِ الْكُتُبِ، ومنها أنها تَحْتَاجُ إلى أشرطةٍ كثيرةٍ قد يَصْعُبُ على الطالبِ شِرَاؤُهَا؛ لِقِلَّةِ النفقةِ» (¬2) اهـ. أما في المسجدِ النبويِّ فقد كانت تلك الدروسُ تُسَجَّلُ صَوْتِيًّا، وبين أيدينا مجموعةٌ منها تُعَدُّ بالعشراتِ. ¬

(¬1) انظر: الأضواء (1/ 5 - 6). (¬2) معارج الصعود ص12.

يقول أحدُ تلامذةِ الشيخِ: «ومرةً من المراتِ أَحْصَيْتُ أربعين مُسَجِّلاً للصوتِ تُسَجِّلُ دُرُوسَهُ» (¬1) اهـ. إلا أن من المؤسفِ أن الْمُتَدَاوَلَ بين أيدينا منها يُعَدُّ ضئيلاً مقارنةً بكثرةِ تلك الدروسِ! والظاهرُ أن جميعَ الدروسِ الْمُسَجَّلَةِ في المسجدِ النبويِّ والمتداولةِ إنما هي من المرةِ الثانيةِ من المرتين اللتين فَسَّرَ فيهما الشيخُ (رحمه الله) القرآنَ، وقد مَاتَ ولم يُتِمَّهَا وقد صَرَّحَ (رحمه الله) بذلك عند تفسيرِ الآيةِ رَقْمِ (99) من سورةِ الأعرافِ. هذا وقد تَطَلَّبْتُ ما سُجِّلَ من تلك الدروسِ العامرةِ فَوَقَعَ لي منها سبعُ نُسَخٍ (¬2)، في كُلِّ نسخةٍ منها زياداتٌ - ولو يسيرةً - قد سَقَطَتْ من النسخِ الأخرى، وبعد استعراضِ محتوياتها والمقارنةِ بينها صَنَعْتُ من مجموعها نسخةً مكمَّلةً تَحْوِي جميعَ التفسيرِ الْمُسَجَّلِ في تلك النسخِ، وبهذا أَمْكَنَ التخلصُ من كثيرٍ من المسحِ والانقطاعِ في التسجيلِ الواقعِ في كُلِّ نسخةٍ مما وَقَفْتُ عليه من تلك الدروسِ المسجلةِ، ثم رَقَّمْتُهَا ترقيمًا خاصًّا وهو ما سَأَذْكُرُهُ قريبًا إن شاءَ اللَّهُ تعالى (¬3). ¬

(¬1) نقله صاحب كتاب: جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف ص69. (¬2) بعد المقارنات بين هذه النسخ وتكرار سماعها تبين لي بما لا يدع مجالا للشك أنها تدور على نسخة واحدة في الأصل قد سُجِّلت منها، وهي نسخة الشيخ عطية (رحمه الله) إلا أن قلة العناية بالتسجيل أدى إلى هذا التفاوت، والله المستعان. (2) ولتسهيل الوقوف على هذه النسخة بعثت بنسخة منها للمكتبة الصوتية في المسجد النبوي، كما تجدها أيضا في تسجيلات البخاري بمكة، بالإضافة إلى بعض المواقع في الشبكة العنكبوتية، مثل: 1 - موقع رسالة الإسلام http://www.islammessage.com 2 - موقع السلفيون http://www.alsalafyoon.com تنبيه: عند تصحيح طباعة هذا الكتاب وقفت على نسخة صوتية جديدة لهذه الدروس تفضل بها الشيخ الدكتور بسام الغانم فوجدت فيها بعض المادة التي ذهبت من النسخ الأخرى بسبب انقطاع التسجيل أو المسح، فألحقتها في مراضعها من الكتاب، وهي إجمالا على النحو التالي: 1 - زيادة بقدر سطرين ضمن تفسير الآية (35) من سورة الأعراف. 2 - زيادة بقدر ثلاثة أسطر ضمن تفسير الآية (45) من سورة الأعراف. 3 - زيادة بقدر ورقتين ضمن تفسير الآية السابقة. 4 - زيادة بقدر خمسة أسطر ضمن تفسير الآية (48) من سورة الأعراف. 5 - زيادة بقدر ثلاثة أسطر ضمن تفسير الآية (52) من سورة الأعراف. (¬3) 6 - زيادة كثيرة بقدر شريط لمدة ساعة تقريبا ضمن تفسير الآية (54) من سورة الأعراف. ... 7 - زيادة بقدر نصف سطر ضمن تفسير الآية (68) من سورة الأعراف. 8 - زيادة بقدر سطر ضمن تفسير الآية (81) من سورة الأعراف.

ذكر محتويات الأشرطة التي أمكن الوقوف عليها

ذِكْرُ مُحْتَوَيَاتِ الأَشْرِطَةِ الَّتِي أَمْكَنَ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا: إن مجموعَ ما بِأَيْدِينَا من هذهِ الأشرطةِ المتعلقةِ بالتفسيرِ يبلغُ ستةً وسبعينَ شريطًا مُوَزَّعَةً على خمسِ سورٍ من القرآنِ الكريمِ هي: (البقرة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة) وإليك عرضًا لمحتوياتِها تَفْصِيلاً: أَوَّلاً: من سورةِ البقرةِ: وهي ثلاثةُ أشرطةٍ: الشريطُ رقمُ [1] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (45) _ (53). الشريطُ رقمُ [2] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (54) _ (59)، (67) _ (69). الشريطُ رقمُ [3] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (69) _ (79).

وهذه الأشرطةُ ليست ضمنَ سلسلةِ دروسِ الشيخِ (رحمه الله) في المسجدِ النبويِّ؛ وإنما سَجَّلَهَا تلميذُه الشيخُ عطيةُ سالم (رحمه الله) في منزلِ الشيخِ (رحمه الله) حينَ أَقْعَدَهُ المرضُ عن إلقاءِ درسِه في الجامعةِ، فكان هذا التسجيلُ للطلبةِ تعويضًا لهم من انقطاعِ الشيخِ (رحمه الله) عنهم. ثَانِيًا: من سورةِ الأنعامِ: الشريطُ رقمُ [1] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (33) _ (38). الشريطُ رقمُ [2] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (38) _ (42)، نصف الآية (43) قوله: {تَضَرَّعُوا}. الشريطُ رقمُ [3] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (43) _ (48). الشريطُ رقمُ [4] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (49) _ (53). الشريطُ رقمُ [5] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (53) _ (57). الشريطُ رقمُ [6] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (57) _ (59)، (74). الشريطُ رقمُ [7] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (74) _ (82). الشريطُ رقمُ [8] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (83) _ (89). الشريطُ رقمُ [9] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (90) _ (93). الشريطُ رقمُ [10] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (93) _ (97). الشريطُ رقمُ [11] فَسَّرَ فيه الآيتين: (98) _ (99). الشريطُ رقمُ [12] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (100) _ (102). الشريطُ رقمُ [13] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (103) _ (108). الشريطُ رقمُ [14] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (108) _ (111). الشريطُ رقمُ [15] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (112) _ (116). الشريطُ رقمُ [16] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (116) _ (120)، (128).

الشريطُ رقمُ [17] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (128) _ (131). الشريطُ رقمُ [18] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (131) _ (135)، (141) _ (144). الشريطُ رقمُ [19] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (144) _ (146). الشريطُ رقمُ [20] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (146) _ (150). الشريطُ رقمُ [21] فَسَّرَ فيه الآيَتَيْنِ: (150) _ (151). الشريطُ رقمُ [22] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (151) _ (152). بدايةَ (155). الشريطُ رقمُ [23] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (155) _ (158). الشريطُ رقمُ [24] فَسَّرَ فيه الآيَتَيْنِ: (158) _ (159). الشريطُ رقمُ [25] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (159) _ (165). ثَالِثًا: سورةُ الأعرافِ: الشريطُ رقمُ [1] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (1) _ (3). الشريطُ رقمُ [2] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (4) _ (7). الشريطُ رقمُ [3] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (8) _ (11). الشريطُ رقمُ [4] فَسَّرَ فيه الآيةَ: (11). الشريطُ رقمُ [5] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (31) _ (35). الشريطُ رقمُ [6] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (35) _ (38). الشريطُ رقمُ [7] فَسَّرَ فيه الآياتِ، (38) _ (44). الشريطُ رقمُ [8] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (44) _ (52). الشريطُ رقمُ [9] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (52) _ (54). الشريطُ رقمُ [10] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (54) _ (62). الشريطُ رقمُ [11] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (63) _ (72).

الشريطُ رقمُ [12] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (73) _ (81). الشريطُ رقمُ [13] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (81) _ (89). الشريطُ رقمُ [14] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (89) _ (99). الشريطُ رقمُ [15] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (99) _ (101). الشريطُ رقمُ [16] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (101) _ (106)، (115) _ (124). الشريطُ رقمُ [17] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (124) _ (135)، (137). الشريطُ رقمُ [18] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (138) _ (144). الشريطُ رقمُ [19] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (148) _ (155). الشريطُ رقمُ [20] فَسَّرَ فيه الآيَتَيْنِ: (156) _ (157). الشريطُ رقمُ [21] فَسَّرَ فيه الآيَتَيْنِ: (158) _ (159). الشريطُ رقمُ [22] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (159) _ (163). الشريطُ رقمُ [23] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (164) _ (174). الشريطُ رقمُ [24] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (175) _ (181). الشريطُ رقمُ [25] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (182) _ (189). الشريطُ رقمُ [26] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (189) _ (199). الشريطُ رقمُ [27] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (199) _ (206). رَابِعًا: من سورةِ الأنفالِ: الشريطُ رقمُ [1] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (1) _ (7). الشريطُ رقمُ [2] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (7) _ (11). الشريطُ رقمُ [3] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (11) _ (13)، (24) _ (28).

الطريقة المتبعة في إخراج هذا التفسير

الشريطُ رقمُ [4] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (29) _ (41). الشريطُ رقمُ [5] فَسَّرَ فِيهِ الآيَةَ: (41) فقط. الشريطُ رقمُ [6] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (41) _ (44). الشريطُ رقمُ [7] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (45) _ (50). الشريطُ رقمُ [8] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (50) _ (61). الشريطُ رقمُ [9] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (61) _ (69). الشريطُ رقمُ [10] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (70) _ (73). الشريطُ رقمُ [11] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (73) _ (75). خَامِسًا: من سورةِ التوبةِ: الشريطُ رقمُ [1] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (1) _ (7). الشريطُ رقمُ [2] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (7) _ (16). الشريطُ رقمُ [3] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (17) _ (25). الشريطُ رقمُ [4] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (25) _ (28). الشريطُ رقمُ [5] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (28) _ (31). الشريطُ رقمُ [6] فَسَّرَ فيه الآيةَ: (31) _ (35)، (37). الشريطُ رقمُ [7] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (38) _ (40). الشريطُ رقمُ [8] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (40) وبعضَ (41)، ثُمَّ (44) _ (57). الشريطُ رقمُ [9] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (57) _ (63). الشريطُ رقمُ [10] فَسَّرَ فيه الآياتِ: (63) _ (68). الطَّرِيقَةُ الْمُتَّبَعَةُ فِي إِخْرَاجِ هَذَا التَّفْسِيرِ: أَوَّلاً: فيما يتعلقُ بتفريغِ محتوياتِ الأشرطةِ ومراجعتِها:

1 - قمتُ باستخراجِ نسخةٍ مسجلةٍ تحوي جميعَ محتوياتِ النسخِ التي تَوَفَّرَتْ لَدَيَّ. 2 - بعد أن تَمَّ تفريغُ محتوياتِ الأشرطةِ قُمْتُ بمراجعتِها، وذلك بالمقابلةِ بين المكتوبِ على الورقِ وبين التسجيلِ الصوتيِّ، وذلك للتأكدِ من سلامةِ النصِّ الْمُثْبَتِ. وقد الْتَزَمْتُ أن لا تَقِلَّ هذه المقابلةُ عن مرتين في كُلِّ شَرِيطٍ. ثَانِيًا: ما يتعلقُ بالتوثيقِ والعَزْوِ: 1 - قمتُ بترقيمِ الآياتِ القرآنيةِ، وتخريجِ الأحاديثِ والآثارِ من مَصَادِرِهَا، وكذلك الشواهدُ الشعريةُ. 2 - عَمَلْتُ على ذِكْرِ مصادرِ المادةِ العلميةِ التي يذكرُها الشيخُ (رحمه الله) من قراءاتٍ، وتصريفٍ، وبلاغةٍ، وإعرابٍ، وأحكامٍ، وقواعدَ، وغير ذلك مما تجدُه في حاشيةِ الكتابِ. 3 - عَرَّفْتُ ببعضِ المصطلحاتِ القليلةِ التداولِ، وبعضِ الكلماتِ الغامضةِ. ثَالِثًا: ما يتعلقُ بمنهجِ الكتابةِ والتوثيقِ: 1 - إذا كان الحديثُ في الصحيحين أو أحدُهما اكْتَفَيْتُ بِالْعَزْوِ إليهما أو إلى أحدهما في حالِ التفردِ. 2 - عندَ ذِكْرِ مصادرِ القراءاتِ أو الشواهدِ أو القواعدِ أو المسائلِ العلميةِ فإني أَكْتَفِي - غالبًا - بذكرِ مصدرٍ واحدٍ أو اثنين أو ثلاثة دونَ التوسعِ في هذا البابِ.

3 - أَثْبَتُّ كلامَ الشيخِ بِنَصِّهِ من غيرِ تَصَرُّفٍ إلا ما تَقْتَضِيهِ صناعةُ الإعرابِ، وفي هذه الحالاتِ على الوجهِ الصحيحِ من غيرِ إشارةٍ إلى ذلك. وفي حالِ وجودِ انقطاعٍ في التسجيلِ أو مسحٍ في الشريطِ أو لفظةٍ غيرِ واضحةٍ فإني أضعُ مكانَ ذلك ما يُتِمُّ به المعنى من كلامِ الشيخِ في موضعٍ آخَرَ - إن وُجِدَ - وإلا كَمَّلْتُهُ بما يتناسبُ مع السياقِ، وأجعلُ ذلك بين مَعْقُوفَتَيْنِ []، وهكذا فيما يقعُ من سَبْقِ اللسانِ، ثم أُنَبِّهُ إلى ذلك في الحاشيةِ. 4 - في بعضِ الأحيانِ يذكرُ الشيخُ (رحمه الله) كلمةً أو أكثرَ ثم يستدركُ فيذكرُ كلامًا آخَرَ، وفي هذه الحالةِ أَتْرُكُ الكلامَ الذي أَعْرَضَ عنه الشيخُ، وأُثْبِتُ كلامَ الشيخِ بعدَ الاستدراكِ. كما أن الشيخَ (رحمه الله) قد يُكَرِّرُ الجملةَ لِيَفْهَمَ السامعُ مُرَادَهُ أو يعيدها بعد الفراغِ منها تأكيدًا لمضمونها في ذهنِ المستمعِ، وهذا أمرٌ يحتاج إليه الْمُلْقِي، لَكِنْ إن وَقَعَ في المادةِ المكتوبةِ فإنه يُخِلُّ بتتابعِ الكلامِ وَتَرَابُطِ أجزائِه؛ ولذا فإني - غَالِبًا - أحذفُ الجملةَ المكررةَ التي لا تحملُ أَيَّ فائدةٍ زائدةٍ من جهةِ المعنى ولا أُشِيرُ لذلك. 5 - يُوجَدُ في آخِرِ كُلِّ دَرْسٍ من دروسِ سورةِ البقرةِ سؤالاتٌ مُوَجَّهَةٌ من الشيخِ عطيةَ لشيخِه الأمينِ (رحمه الله)، وهي تتصلُ ببعضِ المواضعِ من الآياتِ الْمُفَسَّرَةِ في الدرسِ نفسِه، ثم يجيبُ الشيخُ عنها. وقد قُمْتُ بِوَضْعِهَا في مَوَاطِنِهَا التي تتصلُ بها (في الهامشِ) مع الإحالةِ عند مَوْطِنِهَا من المتنِ على الهامشِ، وقد أَثْبَتُّ جوابَ الشيخِ بِنَصِّهِ، أما السؤالُ فقد

أَخْتَصِرُهُ أو أُعِيدُ صِيَاغَتَهُ. 6 - إذا وقعَ للشيخِ خطأ في الآيةِ القرآنيةِ فإني أُصْلِحُهُ دونَ الإشارةِ لذلك. 7 - الأحاديثُ التي يُورِدُهَا الشيخُ (رحمه الله) أَثْبَتُّهَا كما نَطَقَ بها. مع أنه قد يَذْكُرُهَا بالمعنى في بعضِ الأحيانِ، وإنما اكْتَفَيْتُ بتخريجها. 8 - فيما يتعلقُ بالشواهدِ والأشعارِ التي يُورِدُهَا الشيخُ (رحمه الله)، قد أَجِدُ مغايرةً في بعضِ الألفاظِ فيما بينَ ما نَطَقَ به الشيخُ وما وقفتُ عليه من المصادرِ التي ذُكِرَ البيتُ فيها. فإن وَقَفْتُ في هذه الحالةِ على روايةٍ للبيتِ تُوَافِقُ ما ذَكَرَهُ الشيخُ اكتفيتُ بذلك وَأَثْبَتُّهُ كما قاله. وإلا أَثْبَتُّهُ كما قاله الشيخُ الْمُفَسِّرُ، وأشرتُ في الهامشِ إلى نوعِ المغايرةِ التي وقفتُ عليها. أما إذا كان البيتُ من ألفيةِ ابنِ مَالِكٍ، أو مَرَاقِي السعودِ أو غيرِ ذلك من المنظوماتِ العلميةِ فإني أُثْبِتُهُ كما في الأصلِ الذي أُخِذَ منه. 9 - عندَ بدايةِ كُلِّ وَجْهٍ من تلك الأشرطةِ أضعُ علامةَ (/) مع كتابةِ رقمِ الشريطِ والوجهِ في البياضِ الأيسرِ من الصفحةِ، هكذا (1/أ) أو (1/ب) وَهَلُمَّ جَرَّا. 10 - بَعْدَ كُلِّ درسٍ يختمُ الشيخُ (رحمه الله) بدعاءٍ قَدْرَ نصفِ صفحةٍ، وقد تَرَكْتُ نقلَ ذلك اختصارًا، ولأنه لا تَعَلُّقَ له بموضوعِ التفسيرِ (¬1). ¬

(¬1) وقد نقلت نص دعائه في أحد الدروس في آخر الكتاب.

رَابِعًا: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بالفهارسِ: كنتُ قد أَعْدَدْتُ فهارسَ متنوعةً تُقَرِّبُ مادةَ الكتابِ لدَى القُرَّاءِ، ثم عَدَلْتُ عن ذلك لأَمْرَيْنِ: الأَوَّلُ: أن الكتابَ لم يَكْتَمِلْ، ولا زِلْنَا نأملُ الحصولَ على مزيدٍ من الدروسِ الْمُسَجَّلَةِ للشيخِ (رحمه الله)، وهذا يعني أنه بمجردِ حصولِ زيادةٍ في المحتوياتِ يحصلُ إخلالٌ في الفهارسِ من جهةِ أرقامِ الصفحاتِ كما لا يَخْفَى. وهذا السببُ بِعَيْنِهِ هو الذي أَلْجَأَ إلى أن تكونَ الإحالاتُ إلى المواضعِ السابقةِ واللاحقةِ في الحاشيةِ مرتبطةً بأرقامِ الآياتِ في السورِ. الثاني: كنتُ قد عَهِدْتُ لأحدِ الفضلاءِ من طلبةِ العلمِ (¬1) صناعةَ فهارسَ علميةٍ شاملةٍ لجميع ما وَرَّثَهُ الشيخُ (رحمه الله) من العلمِ، سواء كان أصلُ مادتِه مُؤَلَّفًا للشيخِ، أم كان دروسًا مُسَجَّلَةً كُتِبَتْ بعد ذلك، كبعضِ المحاضراتِ، أو هذا التفسيرِ، بالإضافةِ إلى بعضِ الفتاوى الْخَطِّيَّةِ التي كَتَبَهَا الشيخُ (رحمه الله) ولم تُطْبَعْ بَعْدُ، وهذا يغني عن وَضْعِ فهارسَ خاصةٍ لهذا الكتابِ. ولتيسيرِ الوقوفِ على الآيةِ المطلوبِ تفسيرُها قمتُ بترقيمِ الآياتِ بالإضافةِ إلى كتابةِ اسمِ السورةِ ورقمِ الآيةِ المفسَّرةِ في رأسِ كُلِّ صَفْحَةٍ. هذا وقد سَمَّيْتُهُ (الْعَذْب النَّمِير مِنْ مَجَالِسِ الشَّنْقِيطِيِّ فِي التَّفْسِيرِ). أسألُ اللَّهَ (عز وجل) أن ينفعَ به مَنْ كَتَبَه، أو قَرَأَهُ، وهو حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوكيلُ. ••• ¬

(¬1) وهو الأستاذ زاهر الشهري حفظه الله.

شكر ورجاء

شُكْرٌ وَرَجَاءٌ أشكرُ كُلَّ مَنْ أَعَانَ على إخراجِ هذا العملِ بِرَأْيٍ، أو فائدةٍ، أو مقابلةٍ، أو مراجعةٍ، أو غيرِ ذلك. فأسألُ اللَّهَ أن يجزلَ لهم المثوبةَ وَيُعْظِمَ لهم الأجرَ ويختمَ لهم بالسعادةِ إنه قريبٌ مُجِيبٌ. كما أرجو كُلَّ مَنْ وَقَفَ عليه ورأى فيه نقصًا أو خَلَلاً أن يرشدني إليه وله مني الشكرُ والدعاءُ. ثم مَنْ كان لديه مزيدٌ على ما وقفتُ عليه من دروسِ الشيخِ المسجلةِ - وهي المذكورةُ ضمنَ هذه المقدمةِ - فَلْيُطْلِعْنِي عليه إِتْمَامًا لهذا العملِ، ونشرًا لعلمِ الشيخِ (رحمه الله)، ومشاركةً في بذلِ النفعِ للخلقِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لنا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمانِ، ولا تَجْعَلْ في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وَقِنَا عذابَ النارِ.

وصلى الله وسلم وَبَارَكَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه. كتبه: خالد بن عثمان السبت

تفسير سورة البقرة

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [1/أ] / {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} [البقرة: الآيات 45 - 47]. يقول الله جل وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة: الآيتان 45 - 46]. {اسْتَعِينُوا} اسْتِفْعَالٌ من العَوْنِ، وياؤه مُبْدَلةٌ من واوٍ، أَصْلُهُ: (اسْتَعْوِنُوا) تَحَرَّكَتِ الوَاوُ بعدَ ساكنٍ صحيحٍ؛ فَوَجَبَ نقلُ حركتِها إلى الساكنِ الصحيحِ (¬1)، على حَدِّ قولِه في الخلاصةِ (¬2): لِسَاكِنٍ صَحَّ انْقُلِ التَّحْرِيكَ مِنْ ... ذِي لِينٍ أَتَى عَيْنَ فِعْلٍ كَأَبِنْ والسينُ والتاءُ للطلبِ، فمعنى {اسْتَعِينُوا} اطْلُبُوا العونَ على أُمُورِكُمُ الدنيويةِ والأخرويةِ. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 59، 329). (¬2) الخلاصة ص 78، وراجع شرحه في الأشموني (2/ 629)، ضياء السالك (2/ 405).

{بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الصبرُ: مصدرُ صَبَرَ صَبْرًا، وهذه المادةُ تَتَعَدَّى وَتَلْزَمُ، فمن تعدِّيها في القرآنِ {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآيةَ [الكهف: آية 28]، وَمِنْ لُزُومِهَا في القرآنِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} الآيةَ [آل عمران: آية 200]، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: آية 43]. وقال بعضُ العلماءِ: هي متعديةٌ دائمًا إلا أنها يَكْثُرُ حذفُ مَفْعُولِهَا، وَمِنْ تَعْدِيَتِهَا في كلامِ العربِ قولُ عنترةَ (¬1)، وقيل أبو ذؤيب: فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ والصبرُ خصلةٌ من خصالِ الخيرِ عظيمةٌ، صَرَّحَ اللَّهُ في سورةِ فُصِّلَتْ أنه لاَ يُعْطِيهَا لكلِّ الناسِ، وإنما يُعْطِيهَا لصاحبِ الحظِّ الأكبرِ، والنصيبِ الأَوْفَرِ، وذلك في قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: آية 35]. وهذه الخصلةُ التي هي الصبرُ لا يعلمُ جزاءَها إلا اللَّهُ، كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: آية 10]، والصائمون مِنْ خِيَارِ الصابرين؛ وَلِذَا قال صلى الله عليه وسلم فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ: «إِلاَّ الصَّوْمَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» (¬2). ¬

(¬1) شرح ديوان عنترة ص85 وفي القرطبي (1/ 371) ونسبه لعنترة جازما بذلك. (¬2) قطعة من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الصيام، باب: فضل الصوم، حديث رقم (1894) (4/ 103)، وقد أخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم (1904، 5927، 7492، 7538)، ومسلم في صحيحه - واللفظ له - كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، حديث رقم (1151) (2/ 806).

والصبرُ يتناولُ الصبرَ على طاعةِ اللَّهِ، وإن كنتَ كالقابضِ على الجمرِ، والصبرَ عن معصيةِ اللَّهِ وَإِنِ اشْتَعَلَتْ نارُ الشهواتِ، ويدخلُ في ذلك الصبرُ على المصائبِ (¬1) عندَ الصدمةِ الأُولَى، والصبرُ على الموتِ تحتَ ظلالِ السيوفِ. وقولُه: {وَالصَّلاةِ} أي: وَاسْتَعِينُوا بالصلاةِ؛ لأن الصلاةَ نِعْمَ المعينُ على نوائبِ الدهرِ، وعلى خيرِ الدنيا والآخرةِ؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الآيةَ [العنكبوت: آية 45]، وقال جل وعلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: آية 132]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ صلى (¬2)، وَرُوِيَ عن ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أنه نُعِيَ له أخوُه قُثَم، فأناخَ راحلتَه وصلى، وتلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} (¬3) [البقرة: آية 45]، يستعينُ بالصلاةِ على صبرِ مصيبةِ أَخِيهِ. ولا شَكَّ أن لطالبِ العلمِ هنا سؤالاً وهو أن يقولَ: أما الاستعانةُ بالصبرِ على أمورِ الدنيا والآخرةِ فهي أَمْرٌ واضحٌ لا إشكالَ ¬

(¬1) انظر: هذه الأنواع الثلاثة في مدارج السالكين (2/ 156)، بصائر ذوي التمييز (3/ 375، 381). (¬2) جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه عند أحمد (5/ 388)، وأبي داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، حديث رقم: (1305) (4/ 202)، وابن جرير برقم (849، 850) (2/ 12)، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة رقم: (212) (1/ 231)، وقد صححه أحمد شاكر في تعليقه على ابن جرير (2/ 12)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 245). (¬3) أخرجه ابن جرير، انظر: الأثر رقم: (852) (2/ 14)، والبيهقي في الشعب، انظر: الأثرين رقم: (9681، 9682) (7/ 114)، وقال أحمد شاكر: «إسناده صحيح» ابن جرير (2/ 14).

فيه؛ لأن مَنْ حَبَسَ نفسَه على مَكْرُوهِهَا في طاعةِ اللَّهِ كان ذلك أكبرَ مُعِينٍ على الطاعةِ، ولكن مَا وَجْهُ الاستعانةِ بالصلاةِ على أمورِ الدنيا والآخرةِ؟ الجوابُ (¬1): أن الصلاةَ هي أكبرُ مُعِينٍ على ذلك؛ لأن العبدَ إذا وَقَفَ بين يَدَيِ رَبِّهِ، يناجي رَبَّهُ ويتلو كتابَه تَذَكَّرَ ما عند اللَّهِ من الثوابِ، وما لديه من العقابِ؛ فَهَانَ في عَيْنِهِ كُلُّ شيءٍ، وهانت عليه مصائبُ الدنيا، وَاسْتَحْقَرَ لَذَّاتِهَا؛ رغبةً فيما عندَ اللَّهِ، ورهبةً مما عند الله. ثم إن اللَّه قال جل وعلا: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: آية 45] للعلماءِ في مرجعِ الضميرِ في {وَإِنَّهَا} أقوالٌ كثيرةٌ (¬2)، منها: أنه راجعٌ إلى الاستعانةِ، المفهومِ من قوله: {وَاسْتَعِينُوا}. ومنها: أنه راجعٌ إلى المذكوراتِ في الآيةِ قبلَ هذا، والتحقيقُ: أنه راجعٌ إلى الصلاةِ، والمعنى: {وَإِنَّهَا} أي: الصلاةُ: {لَكَبِيرَةٌ} أي: عظيمةٌ شَاقَّةٌ على كُلِّ أَحَدٍ: {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، والصبرُ كذلك على المصائبِ وعلى طاعةِ اللَّهِ وعن معاصِي اللَّهِ كبيرٌ جِدًّا إلا على الخاشعين، والظاهرُ أن الضميرَ إنما رَجَعَ لأحدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ اكتفاءً به عن الآخَرِ؛ لأن مثلَ ذلك يُفْهَمُ في الآخَرِ، وهذا يَكْثُرُ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ (¬3)، فَمِنْهُ في القرآنِ قولُه هنا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (2/ 11 - 12)، البحر المحيط (1/ 184)، أضواء البيان (1/ 75). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 15)، البيهقي في الشعب (7/ 113)، القرطبي (1/ 373)، البحر المحيط (1/ 185)، الدر المصون (1/ 330). (¬3) للتوسع في هذا الموضوع انظر: ابن جرير (14/ 228 - 229)، (15/ 23)، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص288، الصاحبي ص362، فقه اللغة للثعالبي ص298، المدخل للحدادي ص274، البرهان (3/ 126، 4/ 28، 30)، الإتقان (2/ 283)، الكليات ص386، 569، قواعد التفسير ص406.

وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة: آية 45]، ونظيره: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} الآيةَ [التوبة: آية 34]، وقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: آية 62]، ولم يَقُلْ: يُرْضُوهُمَا. وقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: آية 20]، ولم يَقُلْ: عَنْهُمَا. ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ (¬1): إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأَسْـ ... ـوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا ولم يقل: «مَا لَمْ يُعَاصَيَا». وقولُ نابغةِ ذُبْيَانَ (¬2): وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لاَهِيَيْنِ بِهَا ... وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ وقولُ الأَضْبَطِ بنِ قريع (¬3)، وقيل كعبِ بنِ زُهَيْرٍ: لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَةْ ... والمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ ولم يقل: «لاَ فَلاَحَ مَعَهُمَا». ¬

(¬1) ديوان حسان بن ثابت ص246. (¬2) ديوان النابغة الذبياني ص19. (¬3) انظر: اللسان (مادة: مسا) (3/ 486)، البيان والتبيين (3/ 341)، الأمالي (1/ 107) ونسبوه للأضبط بن قُريع، وهو في تفسير القرطبي (1/ 374)، من غير نسبة.

والكبيرةُ هنا: وَصْفٌ من (كَبُرَ) بِضَمِّ البَاءِ، (يكبُر) بِضَمِّهَا، إذا عَظُمَ وَشَقَّ وَثَقُلَ، ومنه قولُه: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: آية 13]، وهذا النوعُ في المعانِي مِنْ (كَبُرَ الأَمْرُ) إذا شَقَّ وَثَقُلَ، أو (كَبُرَ) بمعنى (عَظُمَ)، كقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: آية 3] يَكْبُرُ الأمرُ فهو كبيرٌ، مضمومٌ في الماضِي، تقول: كَبُرَ يَكْبُرُ فَهُوَ كَبِيرٌ. كما بَيَّنَّا. أما كِبَرَ السِّنُّ: فَفِعْلُهُ (كَبِرَ) بِكَسْرِ الباءِ (يكبَر) بفتحها على القياسِ، وهو معروفٌ (¬1)، ومن أمثلتِه قولُ قَيْسٍ المجنونِ (¬2): تَعَشَّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ ذَوَائِبٍ ... وَلَمْ يَبْدُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبُهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا ... إِلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ الْبُهْمُ والاستثناءُ في قوله: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: آية 45]، استثناءٌ مُفَرَّغٌ (¬3)، وأصلُ تقريرِ المعنى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} أي: ثَقِيلَةٌ عظيمةٌ شَاقَّةٌ على كُلِّ أحدٍ: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} والخاشعونَ جَمْعُ: الْخَاشِعِ، وهو الوصفُ من: خَشَعَ. وأصلُ الخشوعِ في لغةِ العربِ: الانخفاضُ في طُمَأْنِينَةٍ، كُلُّ مُنْخَفِضٍ مطمئنٍ تُسَمِّيهِ العربُ: ¬

(¬1) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الكاف، باب الكاف والباء وما يثلثهما، (مادة: كبر) ص915، إكمال الإعلام لابن مالك (2/ 540)، بصائر ذوي التمييز (4/ 323). (¬2) البيتان في الخزانة (2/ 171)، مع شيء من المغايرة في اللفظ، إذ المُثبت هناك: تعلقت ليلى وهي غِرٌّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم (¬3) انظر: الدر المصون (1/ 331).

خَاشِعًا (¬1)، ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أَبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ أي: منخفضٌ مطمئنٌ، هذا أصلُ الخشوعِ في لغةِ العربِ. وهو في اصطلاحِ الشرعِ (¬3): خشيةٌ تُدَاخِلُ القلوبَ، تَظْهَرُ آثارُها على الجوارحِ، فتنخفضُ وتطمئنُّ خوفًا من خالقِ السماواتِ والأرضِ. والمعنى: ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) ديوان النابغة الذبياني ص52 - 53. (¬3) انظر: تفسير القرطبي (1/ 374 - 375)، مدارج السالكين (1/ 521 - 522).

أن الصلاةَ صعبةٌ شَاقَّةٌ على غيرِ مَنْ فِي قُلُوبِهُمُ الخوفُ من الله، ويدلُّ لذلك شدةُ عِظَمِهَا على المنافقين، كما قال جل وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: آية 142]، وقال جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: الآيتان 4، 5]. وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: آية 46]، {الَّذِينَ} في مَحَلِّ خفضٍ نعتٌ للخاشعين (¬1) أَيْ: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ}. والظنُّ هنا معناه اليقينُ، على التحقيقِ (¬2)، خلافًا لمن شَذَّ فزعم أنه الظنُّ المعروفُ، وأن المتعلقَ محذوفٌ، والمعنى: يظنون أنهم مُلاَقُو رَبِّهِمْ بِذُنُوبٍ، فَهُمْ وَجِلُونَ من تلك الذنوبِ. فهذا غيرُ ظاهرٍ، ولا يجوزُ حَمْلُ القرآنِ عليه وإن قال به بعضُ العلماءِ (¬3). والتحقيقُ أن معنى: {يَظُنُّونَ}: يُوقِنُونَ، وقد تَقَرَّرَ في علمِ العربيةِ أن الظنَّ يُطْلَقُ في العربيةِ وفي القرآنِ إِطْلاَقَيْنِ (¬4): يُطْلَقُ الظنُّ بمعنى اليقينِ، ومنه قولُه هنا: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: آية 46]، أي: يُوقِنُونَ، ومنه بهذا المعنى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: آية 20]، أي: أيقنتُ أني ملاقٍ حِسَابِيَهْ، ومنه قولُه تعالى: {وَرَءَا المُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: آية 53]، أي: أَيْقَنُوا أنهم مُوَاقِعُوهَا ... إلى غير ذلك من الآيات. ومن أمثلةِ إطلاقِ العربِ الظنَّ على اليقينِ قولُ دُرَيْدِ بن الصِّمَّةِ (¬5): فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ فقوله: «ظُنُّوا» أي: أَيْقِنُوا. وقول عميرة بن طارق (¬6): بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدُ فِيكُمُ ... وَأَجْعَلُ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا أي: أجعلُ مني اليقينَ غَيْبًا مُرَجَّمًا، فمعنى {يَظُنُّونَ} أي: يُوقِنُونَ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 375)، الدر المصون (1/ 332). (¬2) انظر: أضواء البيان (1/ 75)، دفع إيهام الاضطراب (ملحق بالأضواء ص20). (¬3) انظر: الدر المصون (1/ 332). (¬4) انظر: المقاييس في اللغة: كتاب الظاء، باب الظاء وما معها في المضاعف والمطابق، (مادة: ظن) ص639، ابن جرير (2/ 17 - 18). (¬5) انظر: ابن جرير (2/ 18)، اللسان (مادة: ظنن) (2/ 654). (¬6) انظر: ابن جرير (2/ 18).

{أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: آية 46]، و {مُلاَقُو} أصلُه (مُلاقيون) (مُفاعلون) منقوصٌ، والمنقوصُ تُحْذَفُ ياؤُه عندَ التصحيحِ (¬1)، وَحُذِفَتْ نُونُ (مُلاقون) للإضافةِ (¬2)، أي: مُلاَقُو رَبِّهِمْ. والمرادُ بهذه الملاقاةِ: أنهم يُعْرَضُونَ على ربهم يومَ القيامةِ، فيجازيهم على أعمالهم، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: آية 18] وقال (جل وعلا): {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} الآيةَ [العنكبوت: آية 5]. وقوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: آية 46]، أي: يُوقِنُونَ أنهم أيضًا إليه راجعونَ (جل وعلا) يومَ القيامةِ فَمُجَازِيهِمْ على أعمالِهم، وَقَدَّمَ المعمولَ الذي هو الجارُّ والمجرورُ في قوله: {إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} لأَمْرَيْنِ، أحدهما: المحافظةُ على رؤوسِ الآي، والثاني: الحصرُ، وقد تقررَ في فَنِّ الأصولِ في مبحثِ دليلِ الخطابِ - أعني مفهومَ المخالفةِ (¬3) -: أن تقديمَ المعمولِ من أدواتِ الحصرِ، وكذلك تَقَرَّرَ في فَنِّ المعاني في مبحثِ القصرِ (¬4) أن تقديمَ المعمولِ من أدواتِ ¬

(¬1) قال في معجم مفردات الإبدال والإعلال: ص238، (ملاقوا: اسم فاعل من الثلاثي المزيد «لاقى» جُمع جمعا سالما على وزن مُفاعُوا، أصله «ملاقيُو» استُثقِلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان، فحُذفت الياء، وضُم ما قبل الواو للمجانسة، أو: نُقِلت ضمة الياء إلى القاف قبل حذف الياء) اهـ ص238. (¬2) انظر: المحرر الوجيز (1/ 207). (¬3) انظر: البرهان للزركشي (2/ 414)، (3/ 236)، البحر المحيط للزركشي (4/ 56)، الكوكب الدري ص427، الكليات ص1032، 1065، أضواء البيان (3/ 278). (¬4) انظر: التلخيص في علوم البلاغة (وشرحه للبرقوقي) ص141 - 142، الإيضاح للقزويني ص126.

الحصرِ، وهذا معنى قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: آية 46]. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: آية 47]. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} معناه: يَا أَوْلاَدَ يعقوبَ، وإسرائيلُ معناه في العبريةِ: عبدُ اللَّهِ، وإسرائيلُ هو يعقوبُ بنُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ (عليهم وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ)، وإنما نَادَاهُمْ بهذا النداءِ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَنَسَبَهُمْ إلى هذا النبيِّ الكريمِ ليبعثهم بذلك على امتثالِ الأمرِ واجتنابِ النهيِ، كما تقولُ العربُ لمن يستحثونَه للأمرِ: يا ابنَ الكِرَامِ افْعَلْ كذا. وقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} المرادُ بالذِّكْرِ هنا: ذِكْرٌ يَحْمِلُ على الشُّكْرِ، وَمِنْ شُكْرِ تلك النعمةِ المأمورِ به: تصديقُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم واتباعُه فيما جاء به. و {نِعْمَتِيَ}: اسمُ جنسٍ مضافٌ إلى معرفةٍ، واسمُ الجنسِ إذا أضيفَ إلى معرفةٍ فهو من صِيَغِ العمومِ كما تَقَرَّرَ في الأصولِ (¬1)، فمعنى نِعْمَتِي: أي: نِعَمِي، كقولِه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: آية 18] أي: نِعَم اللَّهِ لا تُحْصُوهَا، وكقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية63]، أي: أَوَامِرِهِ، ومن هذه النعمِ التي ذكَّرَهُمْ بِهَا حَمْلاً على شُكْرِهَا: إنجاؤهم من عَدُوِّهِمْ فرعونَ، وإغراقُ عدوهم وهم ينظرون، ومنها: تظليلُ الغمامِ عليهم، ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 97، 108، 146)، شرح الكوكب المنير (3/ 129 - 136)، أضواء البيان (1/ 92)، (3/ 253)، (4/ 332)، (5/ 29)، (776)، (7/ 730).

وإنزالُ الْمَنِّ والسَّلْوَى، وتفجيرُ الماءِ من الحَجَرِ ... إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ في كتابِه. وجرت العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ يَمْتَنُّ على الموجودين في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالنعمِ التي أَنْعَمَهَا على أسلافِهم الماضين، وكذلك يَعِيبُهُمْ بالمعائبِ التي صَدَرَتْ من أسلافِهم الماضين؛ لأنهم أمةٌ واحدةٌ؛ ولأنَّ الأبناءَ يتشرفون بفضائلِ الآباءِ، فكأنهم شيءٌ واحدٌ (¬1). ولذلك كان (جل وعلا) يَمْتَنُّ على هؤلاء بِنِعَمِهِ على الأسلافِ، وكذلك يَعِيبُهُمْ بما صَدَرَ من الأسلافِ؛ لأنهم جماعةٌ واحدةٌ. وقوله: {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي: التي أَنْعَمْتُهَا عليكم، كإنزالِ الْمَنِّ والسَّلْوَى، وتظليلِ الغمامِ، والإنجاءِ من فرعونَ ... إلى غيرِ ذلك. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} المصدرُ الْمُنْسَبِكُ من (أَنَّ) وَصِلَتِهَا في مَحَلِّ نصبٍ عَطْفًا على {نِعْمَتِيَ} أي: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَتَفْضِيلِي إياكم على العالمين (¬2). و «العالَمون»: جمعُ عَالَمٍ، وهو يُطْلَقُ على ما سِوَى الله (¬3). والدليلُ على أنه يشملُ أهلَ السماءِ والأرضِ من المخلوقين: قولُه (جل وعلا): {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآيتان 23، 24] ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (2/ 23)، (38)، (39)، (41)، (63)، (164)، (165)، (245)، (299)، (302)، (353)، (409)، (12/ 320)، (321)، المزهر (1/ 334)، تفسير السعدي (1/ 42). (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 334). (¬3) انظر: ابن جرير (1/ 143 - 146، 151،152)، ابن كثير (1/ 23)، أضواء البيان (1/ 39).

والعالَم: اسمُ جنسٍ يُعرَبُ إعرابَ الجمعِ المذكرِ السالمِ. وقوله هنا: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: على عالَمِ زمانكم الذي أَنْتُمْ فيه. فلا يُنَافِي أن هذه الأمةَ التي هي أمةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ منهم (¬1)، كما نَصَّ اللَّهُ على ذلك في قولِه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: آية 110] وفي حديثِ معاويةَ بنِ حَيْدَةَ القشيريِّ (رضي الله عنه) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» (¬2). ومن الآياتِ الْمُبَيِّنَةِ لفضلِ أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على أمةِ موسى أنه قَالَ في أمةِ موسى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: آية 66] فَجَعَلَ أعلى مَرَاتِبِهَمُ الفئةَ المقتصدةَ، بخلافِ أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَقَسَّمَهُمْ إلى ثلاثِ طوائفَ، وجعلَ فيهم طائفةً أكملَ من الطائفةِ المقتصدةِ، وذلك في قولِه في فاطر: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: آية 32] فجعل فيهم سابقًا بالخيراتِ، وهو أَعْلَى من المقتصدِ، وَوَعَدَ الجميعَ بِظَالِمِهِمْ ومقتصدهم وسابِقهم بجناتِ عدنٍ في قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (1/ 151 - 152)، (2/ 24)، المحرر الوجيز (1/ 208)، القرطبي (1/ 376)، دفع إيهام الاضطراب ص21. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 3، 5)، والدارمي في السنن، حديث رقم (2763) (2/ 221)، والترمذي، كتاب التفسير باب: ومن سورة آل عمران، حديث رقم: (3001) (5/ 226)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم: (4287، 4288) (2/ 1433)، والحاكم (4/ 84)، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني، انظر: المشكاة حديث رقم: (6285)، (3/ 771)، صحيح الترمذي رقم: (2399)، (3/ 32)، صحيح ابن ماجه رقم: (3460، 3461)، (2/ 426).

ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: آية 33] وقال بعضُ العلماءِ: حُقَّ لهذه الواوِ أن تُكْتَبَ بماءِ العينين (¬1). يعني: واو {يَدْخُلُونَهَا}؛ لأنه وَعْدٌ من الله صادقٌ، شاملٌ بظاهرِه الظالمَ والمقتصدَ والسابقَ. وفي الآيةِ سؤالٌ معروفٌ وهو أَنْ يقالَ: ما الحكمةُ في تقديمِ الظالمِ لنفسِه في الوعدِ بجناتِ عدنٍ وتأخيرِ السابقِ (¬2)؟ وللعلماءِ عن هذا أجوبةٌ معروفةٌ، منها: أنه قدَّم الظالمَ لِئَلاَّ يَقْنَطَ، وأخَّر السابقَ بالخيراتِ لئلا يُعْجَبَ بعملِه فَيُحْبَطَ. وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمونَ لأنفسهم، فبدأَ بهم لأَكْثَرِيَّتِهِمْ. وَمِمَّا يدلُّ على أفضليةِ أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - على بني إسرائيلَ: أن الابتلاءَ الذي يظهرُ به الفضلُ وَعَدَمُهُ إنما يكونُ بخوفٍ أو طَمَعٍ، وقد ابْتَلَى أصحابَ النبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - بخوفٍ، وابتلاهم بطمعٍ، وابتلى بني إسرائيلَ بخوفٍ، وابتلاهم بطمعٍ، أما الخوفُ الذي ابتلى اللَّهُ (جل وعلا) به أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم -: فهو أنهم لما غَزَوْا غزاة بدرٍ، وسَاحَلَ أبو سفيان بِالْعِيرِ، واستنفرَ لهم النفيرَ، وجاءهم الخبرُ بأن العير سَلِمَتْ، وأن الجيشَ أَقْبَلَ إليهم، وأخبرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، قال له المقدادُ بنُ عمرٍو (رضي الله عنه): وَاللَّهِ لو سِرْتَ بنا إلى بَرْك الغِمَادِ (¬3) لَجَالَدْنَا مِنْ دُونِهِ معكَ، ولو خُضْتَ بنا هذا البحرَ لَخُضْنَاهُ، ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (6/ 165). (¬2) انظر: القرطبي (14/ 349)، الأضواء (6/ 165). (¬3) (بَرْك) بفتح الباء وإسكان الراء، وهو المشهور في روايات المحدثين. و (الغِماد) بغين معجمة مكسورة، ومضمومة لغتان مشهورتان، والكسر أفصح، وهو الأشهر عند المحدثين، والضم أشهر في كتب اللغة، وهر موضع من وراء مكة بخمس ليال، بناحية الساحل، وقيل غير ذلك، قال إبراهيم الحربي: «برك الغماد، وسعفات هجر كناية، يُقال فبما تباعد» انظر: النووي على مسلم (4/ 411)، معجم البلدان (1/ 399)، فتح الباري (7/ 232).

ولا نقول لك كما قال قومُ موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: آية 24]، بل إنا مَعَكَ مُقَاتِلُونَ (¬1). ولما أعاد الكلامَ قال له سعدُ بنُ معاذٍ (رضي الله عنه): كأنكَ تَعْنِينَا معاشرَ الأنصارِ- لأنهم اشترطوا عليه ليلةَ العقبةِ أن يمنعوه مما يمنعونَ منه نِسَاءَهُمْ وأبناءَهم، بشرطِ أن يكونَ في داخلِ المدينةِ، ولم يَشْتَرِطْ عليهم خارجَ المدينةِ - فأخبرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه يَعْنِيهِمْ فقال كلامَه المعروفَ المأثورَ، قال: «وَاللَّهِ إِنَّا لقومٌ صُبُرٌ في الحربِ، صُدُقٌ عندَ اللقاءِ، وَاللَّهِ ما نَكْرَهُ أن تَلْقَى بنا عَدُوَّكَ حتى ترى منا ما يُقِرُّ عَيْنَكَ، وَاللَّهِ لقد تَخَلَّفَ عنك أقوامٌ لو علموا أنكَ تلقى كيدًا ما تَخَلَّفَ عنكَ منهم رجلٌ» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري مع شيء من المغايرة في اللفظ، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} ... حديث رقم: (3952)، (7/ 287)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (4609)، وقد أخرج مسلم نحوه عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، حديث رقم: (1779)، (3/ 1404)، وانظر: كلام الحافظ على رواية مسلم: الفتح (7/ 288). (¬2) تاريخ الطبري (2/ 273 - 274)، البيهقي في الدلائل (3/ 34)، السيرة لابن هشام (2/ 653)، وذكره ابن كثير في تاريخه (3/ 262) وعقبه بقوله: «هكذا رواه ابن إسحاق (رحمه الله) وله شواهد من وجوه كثيرة»، اهـ ثم ذكر شواهده عند البخاري والنسائي وأحمد وابن مردويه والأموي في مغازيه. وراجع تعليق الألباني على فقه السيرة ص239، ومرويات غزوة بدر لأحمد باوزير ص144 - 149.

بخلافِ بني إسرائيلَ لما امْتُحِنُوا بخوفٍ كهذا صدرَ منهم ما ذَكَرَهُ اللَّهُ في سورةِ المائدةِ قوله: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: آية 22]، وقالوا له: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: آية 24]. كذلك ابْتَلَى بني إسرائيلَ بصيدٍ، وهو صيدُ السَّمَكِ المذكورُ في الأعرافِ، المشارُ له في البقرةِ (¬1): {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: آية 163]، فَحَدَاهُمُ القَرَمُ (¬2) والطمعُ في أكلِ الحوتِ إلى أن اعْتَدَوْا في السبتِ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قردةً. وقد امتحنَ اللَّهُ (جل وعلا) أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عمرةِ الحديبيةِ بالصيدِ وهم مُحْرِمُونَ، فهيَّأَ لهم جميعَ أنواعِ الصيدِ من الوحوشِ والطيرِ، من كبارها وصغارها، ولم يَعْتَدِ رجلٌ منهم، ولم يَصِدْ في الإحرامِ، كما بَيَّنَهُ (جل وعلا) بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: آية 94]، فما مَدَّ رجلٌ منهم يدَه إلى صَيْدٍ. فظهر بهذا أن كلتا الأُمَّتَيْنِ امتُحِنَتْ بصيدٍ، وأن هؤلاء اعتدوا على ذلك الصيدِ فمُسِخوا قِرَدَةً، وأن أولئك اتقوا الله. كذلك امتُحنوا بخوفٍ من عَدُوٍّ فَصَبَرَ هؤلاء وَثَبَتُوا، وخاف هؤلاء وَجَبُنُوا، فَدَلَّ هذا على أنهم أفضلُ منهم، وهذا مما لا خلافَ فيه، وهذا مما يبينُ أن قولَه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أن المرادَ: ¬

(¬1) أي: في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: آية 65]. (¬2) وهو شدة شهوة اللحم. القاموس (مادة: القرم) (1481).

عَالَمُ زَمَانِهِمْ (¬1). وقال بعضُ العلماءِ: هو نوعٌ من التفضيلِ آخَرُ لا يُعَارِضُ أَشرَفِيَّةَ هذه الأمةِ وأفضليتَها عليهم، وهو كثرةُ الرُّسُلِ فيهم؛ لأن الأنبياءَ أكثرُ فيهم منهم في غيرِهم (¬2)، وكثرةُ الأنبياءِ فيهم لا تجعلُهم أفضلَ من هذه الأمةِ، بل هذه الأمةُ أفضلُ منهم وإن كانت الأنبياءُ فيها إنما جاءها نبيٌّ واحدٌ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا معنى قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} [البقر ة: الآيتان 48 - 49]. يقول الله (جل وعلا): {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)} [البقرة: آية 48]، معنى الاتقاءِ في اللغةِ العربيةِ هو: أن تجعلَ بينَك وبينَ ما يَضُرُّكَ وقايةً (¬3). وَأَصْلُ مادتِه: (وقى) دَخَلَهَا تَاءُ الافتعالِ، كما تقول في قَرُبَ: اقترب، وفي كسب: اكتسب، وفي وقى: اوتَقَى. والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن تاءَ الافتعالِ إذا دَخَلَ على مادةِ وَاوِهَا فاءٌ وَجَبَ إبدالُ الواوِ تاءً وإدغامُها في تاءِ الافتعالِ (¬4). فمعنى {وَاتَّقُوا}: ¬

(¬1) مضى قريبًا. (¬2) انظر: القرطبي (1/ 376)، أبو حيان (1/ 189). (¬3) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الواو باب الواو والقاف وما يثلثهما، ص1100، القرطبي (1/ 161)، المفردات، (مادة: وقى) ص881. (¬4) انظر: القرطبي (1/ 161)، الدر المصون (1/ 90)، (191)، (335)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص491 - 492.

اجْعَلُوا بينَكم وبينَ ذلك اليومِ وقايةً تَقِيكُمْ مما يقعُ فيه مِنَ الأهوالِ والأَوْجَالِ. والاتقاءُ: هو جَعْلُ الوقايةِ دونَ ما يَضُرُّ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قول نابغةِ ذبيانَ (¬1): سَقََطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ يعني: اسْتَقْبَلَتْنَا بيدها جاعلةً إياها وقايةً بيننا وبينَ رؤيةِ وَجْهِهَا. والاتقاءُ في اصطلاحِ الشرعِ (¬2): هو جَعْلُ الوقايةِ دونَ سَخَطِ اللَّهِ وعذابِه، تلك الوقايةُ هي امتثالُ أَمْرِهِ، واجتنابُ نَهْيِهِ (جل وعلا). والمرادُ باتقاءِ اليومِ: اتقاءُ ما يكونُ فيه من الأهوالِ والأوجالِ (¬3)؛ لأن القرآنَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، والعربُ تُعبِّرُ بالأيامِ عما يقعُ فيها من الشدائدِ، ومنه: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77]، أي: لِمَا فيه من الشدةِ، وهذا معنى قولِه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: آية 48]، و (اليوم) مفعولٌ به لـ «اتَّقُوا» (¬4). وقيل: المفعولُ محذوفٌ، واليومُ ظرفٌ. أي: اتَّقُوا العذابَ يومَ لا تَجْزِي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا. وقولُه: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: آية 48]، الجملةُ نعتٌ لليومِ (¬5)، وقد تَقَرَّرَ في العربيةِ: أن ¬

(¬1) ديوان النابغة الذبياني ص107. (¬2) انظر: القرطبي (1/ 161 - 162)، المفردات (مادة: وقى) ص881، الكليات ص38. (¬3) انظر: ابن عاشور (1/ 484). (¬4) انظر: القرطبي (1/ 377)، البحر المحيط (1/ 189). (¬5) انظر: البحر المحيط (1/ 189 - 190)، الدر المصون (1/ 335 - 336).

الجُمَلَ تُنْعَتُ بها النكراتُ؛ كما عَقَدَهُ في الخلاصةِ بقولِه (¬1): ونَعَتُوا بِجُمْلَةٍ مُنكَّرَا ... فأُعْطِيَتْ مَا أُعْطِيَتْهُ خَبَرَا ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: أين الرابطُ الذي يَرْبِطُ بين الجملةِ التي هي وَصْفٌ وبينَ المنعوتِ؟ الجوابُ (¬2): أنه اختُلِفَ في تقديرِه على قَوْلَيْنِ: أحدُهما أن العائدَ: (وَاتَّقُوا يومًا لا تجزي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا) فالعائدُ هو: المجرورُ المحذوفُ هو وحرفُ الْجَرِّ. وقال بعضُ العلماءِ (¬3): حُذِفَ حرفُ الْجَرِّ فَوُصِلَ العاملُ إلى الضميرِ بعدَ حذفِ حرفِ الْجَرِّ ثم حُذِفَ، وعليه فالتقديرُ: (وَاتَّقُوا يومًا لا تجزيه نفسٌ عن نفسٍ شيئا) بحذفِ الهاءِ، وعلى كُلِّ حالٍ فحذفُ الضميرِ الرابطِ للجملةِ التي هي وَصْفٌ للنكرةِ الموصوفةِ موجودٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬4): وَمَا أَدْرِي أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ ... وَطُولُ الْعَهْدِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا فجملة (أَصَابُوا) نعتٌ للنكرةِ التي هي (مالٌ) والعائدُ محذوفٌ، وتقريرُ المعنى: (أم مَالٌ أَصَابُوهُ). وقوله: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: لا تقضي عنها حَقًّا وَجَبَ عليها، ولا تدفعُ عنها عَذَابًا حَقَّ عليها، أما تفسيرُ مَنْ فَسَّرَ: {تَجْزِي} بـ (تُغْنِي) فهو إنما يتمشى على ¬

(¬1) الخلاصة ص45، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 66 - 67)، النحو الوافي (3/ 472). (¬2) انظر: البحر المحيط (1/ 189 - 190)، الدر المصون (1/ 335 - 336). (¬3) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (11/ 143). (¬4) البيت للحارث بن كَلدَة. انظر: الكتاب لسيبويه (1/ 88، 130).

قراءةِ مَنْ قَرَأَ {تُجْزي} (¬1) بصيغةِ الرُّبَاعِيِّ؛ لأنها هي التي تأتي بمعنى الإغناءِ، وتقريرُ المعنى: (وَاتَّقُوا يومًا لا تَجْزِي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا) أي: لا تَقْضِي نفسٌ عن نفسٍ حَقًّا وَجَبَ عليها، ولا تدفعُ عنها عذابًا حَقَّ عليها، والرابطُ المحذوفُ محذوفٌ من الْجُمَلِ المعطوفةِ على الجملةِ النعتيةِ (¬2)، وتقريرُ المعنى: (لا تجزي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا ولا يُقْبَلُ فيه شفاعةٌ، ولا يُؤْخَذُ فيه عدلٌ، ولا هم يُنصرون فيه) فالرابطُ محذوفٌ من الْجُمَلِ المعطوفةِ على الجملةِ التي هي وَصْفٌ، وتقريرُ المعنى: (وَاتَّقُوا يومًا لا تجزي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا)، أي: لا تَقْضِي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا أي: حَقًّا وَجَبَ عليها، ولا تدفعُ عنها عذابًا حَقَّ عليها، وعلى هذا التقريرِ فـ {شَيْئًا} مفعولٌ به لـ {تَجْزِي} (¬3)، وقال بعضُ العلماءِ: {شَيْئًا} في مَحَلِّ المصدرِ، أي: لا تجزي عنها شيئًا، أي: جزاءً قليلاً ولا كثيرًا (¬4). وقولُه: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} فيه قراءتانِ سَبْعِيَّتَانِ (¬5): قَرَأَهُ أكثرُ السبعةِ: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (¬6) والتذكيرُ في قولِه: {يُقْبَلُ} لأَمْرَيْنِ (¬7): أحدُهما: أن تأنيثَ الشفاعةِ تأنيثٌ غيرٌ حَقِيقِيٍّ. الثاني: ¬

(¬1) انظر: المحرر الوجيز (1/ 208)، القرطبي (1/ 378)، البحر المحيط (1/ 189). (¬2) انظر: البحر المحيط (1/ 190). (¬3) انظر: البحر المحيط (1/ 190). (¬4) المصدر السابق. (¬5) انظر: المبسوط في القراءات العشر ص129. (¬6) وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: {ولا تُقبل} بالتاء. انظر: المبسوط ص129، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث (الشفاعة). انظر: حجة القراءات ص95. (¬7) انظر: حجة القراءات ص95.

الفصلُ الذي بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه، والفصلُ يبيحُ تركَ التاءِ، كما عَقَدَهُ في الخلاصةِ بقوله (¬1): وَقَدْ يُبِيحُ الْفَصْلُ تَرْكَ التَّاءِ فِي ... نَحْوِ أَتَى الْقَاضِيَ بِنْتُ الْوَاقِفِ والشفاعةُ في الاصطلاحِ (¬2): هي التوسطُ للغيرِ في جَلْبِ مصلحةٍ أو دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وأصلُها من الشفعِ الذي هو ضِدُّ الوَتْرِ؛ لأن صاحبَ الحاجةِ كان فَرْدًا في حاجتِه فلما جاءه الشفيعُ صارَ شَفْعًا، أي: اثنين، صاحبُ الحاجةِ وَمَنْ يتوسطُ له فيها، هذا [أصل] (¬3) معنى الشفاعةِ، والشفاعةُ في الدنيا إذا كانت في حَقٍّ وَاجِبٍ فللشافعِ أَجْرٌ، وإذا كانت في حَرَامٍ فَعَلَيْهِ وِزْرٌ (¬4)، كما صَرَّحَ تعالى بذلك في قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} (¬5) [النساء: آية 85] وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ¬

(¬1) الخلاصة ص25، وانظر: شرح الأشموني (1/ 309). (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (2/ 31 - 32)، القرطبي (1/ 378). (¬3) في الأصل: (أصله). (¬4) انظر: الفتح (10/ 451 - 452). (¬5) سئل الشيخ رحمه الله عن قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: آية 85] ما الفرق بين النصيب والكفل في هذه الآية الكريمة؟ فأجاب: قال بعضُ العلماءِ: النصيب: نصيب من الخير، والكفل: نصيب من الشر، مستدلا بظاهر هذه الآية، والحق أن الكفل نصيب قد يكون من الخير كما في قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، وقد يكون نصيبا من الشر، كما في قوله: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء آية 85]، والظاهر أن التعبير بالنصيب وبالكفل من التفنن في العبارة؛ لأنه أطرف من تكرير النصيب، والله تعالى أعلم.

وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» (¬1). وقد دَلَّ الكتابُ والسنةُ أن نفيَ الشفاعةِ المذكورَ هنا ليس على عُمُومِهِ (¬2)، وأن للشفاعةِ تَفْصِيلاً، منها ما هو ثابتٌ شَرْعًا، ومنها ما هو مَنْفِيٌّ شَرْعًا (¬3). أما المنفيُّ شَرْعًا الذي أَجْمَعَ عليه المسلمون فهو الشفاعةُ للكفارِ؛ لأن الكفارَ لا تنفعهم شفاعةٌ أَلْبَتَّةَ، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: آية 48]، وقال عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء: آية 100]، وقال (جل وعلا): {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: آية 28] مع أنه قال في الكافرِ: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: آية 7]، فالشفاعةُ للكفارِ ممنوعةٌ شَرْعًا بإجماعِ المسلمين، ولم يقع في هذا استثناءٌ أَلْبَتَّةَ، إلا شفاعةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ أبي طالبٍ (¬4)، فإنها نَفَعَتْهُ بأن نُقِلَ بسببها من محلٍّ من النارِ إلى محلٍّ أسهلَ منه، كما صَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ (¬5) مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، لَهُ نَعْلاَنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه، كتاب الزكاة، باب: التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، حديث رقم: (1432)، (3/ 299)، وقد أخرجه البخاري في مواضع أخرى انظر: الأحاديث رقم: (6027، 6028، 7476)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام، حديث رقم: (2627)، (4/ 2026). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 33)، القرطبي (1/ 379)، أضواء البيان (1/ 75). (¬3) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 144 - 154، 332). (¬4) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 144)، أضواء البيان (1/ 76). (¬5) هو في اللغة. ما رقَّ من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين. انظر: مجمع بحار الأنوار للفتني (مادة: ضحضح) (3/ 386). (¬6) أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، كتاب مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، حديث رقم (3885)، (7/ 193)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (6564)، ومسلم: كتاب الإيمان باب: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، حديث رقم: (210)، (1/ 195).

أما غير هذا من الشفاعةِ للكفارِ فهو ممنوعٌ إجماعًا، وإنما نَفَعَتْ شفاعةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّهُ أبا طَالِبٍ في نقلٍ من محلٍّ من النارِ إلى محلٍّ آخَرَ. الشفاعةُ المنفيةُ الأخرى هي الشفاعةُ بدونِ إِذْنِ رَبِّ السماواتِ والأرضِ (¬1)، فهذه ممنوعةٌ بَتَاتًا بإجماعِ المسلمين، وبدلالةِ القرآنِ العظيمِ، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية 255]. وادعاءُ هذه الشفاعةِ شِرْكٌ بالله وَكُفْرٌ به، كما قال (جل وعلا): {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: آية 18]. وَوَجْهُ كونِ هذه الشفاعةِ من أنواعِ الشركِ - ولله الْمَثَلُ الأعلى -: أن ملوكَ الدنيا قد يتمكنونَ من مجرمٍ يتقطعونَ عليه غَيْظًا، ويريدونَ أن يُقَطِّعوه عُضْوًا عُضْوًا، فيأتي بعضُ أهلِ الجاهِ والشرفِ ويشفعُ عندهم له، فيضطرون إلى قَبُولِ شفاعتِه؛ لأنهم لو رَدُّوا شفاعتَه لَصَارَ عَدُوًّا لهم، وَتَرَقَّبُوا منه بعضَ الغوائلِ، فيضطرون إلى أن يُشفِّعُوهُ وهم كَارِهُونَ، خَوْفًا من سُوئِهِ، وربُّ السماواتِ والأرضِ لا يخافُ أحدًا، ولاَ يمكن أن يَضُرَّهُ أحدٌ، فلا يمكنُ أن يتجاسرَ أحدٌ عليه بمثلِ هذا، وله المثلُ الأَعْلَى؛ ولذا قال ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 130)، (150). (332)، (14/ 380 - 415)، شرح الطحاوية ص300 - 302.

(جل وعلا): {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية 255]. أما الشفاعةُ للمؤمنين بإذنِ رَبِّ السماواتِ والأرضِ فهي جائزةٌ شَرْعًا وواقعةٌ، كما دَلَّتْ عليه نصوصُ الكتابِ وَالسُّنَّةِ (¬1)، كما في قوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: آية 28]، وقوله (جل وعلا): {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: آية 23]، ونحو ذلك من الآياتِ والأحاديثِ. والشفاعةُ الكبرى للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي إيضاحُه في سورةِ بني إسرائيلَ في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: آية 79]، وقد يُشفِّعُ اللَّهُ مَنْ شَاءَ من خَلْقِهِ من الأنبياءِ والمرسلين والصالحين (¬2). وقد تكونُ الشفاعةُ بإخراجِ مَنْ دَخَلَ النَّارَ، وقد تكونُ الشفاعةُ بأن يشفعَ لمن عليه ذنوبٌ فيُنْقَذُ من النارِ، وقد تكونُ برفعِ الدرجاتِ، والشفاعةُ الكبرى في فَصْلِ القضاءِ بين الْخَلْقِ، فمعنى قوله إذًا: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هذا إذا كانت كافرةً على الإطلاقِ، ولو كانت مؤمنةً لا تُقْبَلُ شفاعةٌ إلا بإذنِ رَبِّ السماواتِ والأرضِ. [1/ب] وقولُه: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} العَدْلُ: الفداءُ، وإنما سُمِّيَ الفداءُ عَدْلاً؛ لأن فداءَ الشيءِ كأنه قِيمَةٌ مُعادِلَةٌ له ومُماثِلَةٌ له تكونُ عِوَضًا وبدلاً منه. قال بعضُ علماءِ العربيةِ (¬3): ما يُعَادِلُ الشيءَ ويماثلُه إن كان من جِنْسِهِ قيل له (عِدْلٌ) بكسر العين، ومنه (عِدْلاَ ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (1/ 75). (¬2) انظر: أنواع الشفاعة المثبتة في شرح الطحاوية ص282 - 293، معارج القبول (2/ 251 - 265). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 35)، القرطبي (1/ 380).

الْبَعِيرِ) أي: عِكْمَاه (¬1)؛ لأنهما مُتَمَاثِلاَنِ. أما إذا كان يماثلُه ويساويه وليس من جِنْسِهِ قيل فيه (عَدْلٌ) بفتحِ العينِ؛ ولذا سُمِّيَ الفداءُ عَدْلاً؛ لأنه شيءٌ مُمَاثِلٌ لِلْمُفْدِي ليس من جِنْسِهِ. ومن هذا المعنى قولُه (جل وعلا): {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: آية 95]؛ لأن ما يُعَادِلُ الإطعامَ من الصيامِ ليس من جنسِه، فإذا كان من جنسه قيل فيه (عِدْلٌ)، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، وقد كَرَّرَهُ مهلهلُ بنُ ربيعةَ في قصيدتِه المشهورةِ في قوله (¬2): عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا طُرِدَ الْيَتِيمُ عَنِ الْجَزُورِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا مَا ضِيمَ جِيرَانُ الْمُجِيرِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ ... غَدَاةَ بَلاَبِلِ الأَمْرِ الْكَبِيرِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا بَرَزَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُورِ ¬

(¬1) العِكْمَان: عِدْلان يُشدان على جانبي الهودج بثوب، انظر: اللسان (مادة: عكم) (2/ 855). (¬2) الأمالي (2/ 132)، وقد سقط منها - هنا - أحد الأبيات، كما وقع بين أبياتها شيء من التقديم والتأخير، وهي في الأمالي هكذا: على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ ... إذا طُرِدَ اليتيم عن الجَزور على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ ... إذا رجف العِضَاه من الدَّبور على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ ... إذا ما ضِيمَ جيران المُجير على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ ... إذا خيف المخوف من الثغور على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ ... غداة بلابل الأمر الكبير على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبِ ... إذا برزت مُخبَّأة الخدور على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبِ ... إذا عَلَنَت نَجِيَّات الأمور

عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا رَجَفَ الْعِضَاهُ (¬1) مِنَ الدَّبُورِ (¬2) يعني أن القتلى التي قَتَلَهَا بكليب من بني بكرِ بنِ وائلٍ لا تُماثِلُهُ في الشرفِ ولا تُسَاوِيهِ، وإنما كَسَرَ العينَ لأنهم من جنسٍ واحدٍ. وهذا معنى قوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أصلُ النصرِ في لغةِ العربِ إعانةُ المظلومِ. ومعنى هنا {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: ليس لهم مُعِينٌ يَدْفَعُ عنهم عذابَ اللَّهِ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: أَفْرَدَ الضميرَ في قولِه: {وَلَا يُقْبَلُ منهَا} {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا} أَفْرَدَهُ مؤنثًا، وَجَمَعَهُ مُذَكَّرًا في قولِه: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} مع أن مَرْجِعَ هذه الضمائرِ واحدٌ؟ (¬3). الجوابُ ظاهرٌ، لأن قولَه: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} نكرةٌ في سياقِ النفيِ، والنكرةُ في سياقِ النفيِ تَعُمُّ (¬4)، وعمُومُها يجعلُها شاملةً لكثيرٍ من أَفْرَادِ النفوسِ، فَأَنَّثَ الضميرَ وَأَفْرَدَهُ في قولِه: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا} {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا} نَظَرًا إلى لفظِ النفسِ، وَجَمَعَ الضميرَ المذكرَ في قولِه: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} نظرًا إلى معنَى النكرةِ في ¬

(¬1) العِضاه من الشجر: كل شجر له شوك، وقيل: ما عظُم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، وقيل غير ذلك، انظر: اللسان (مادة: عضه) (2/ 808). (¬2) هي ريح تهب من جهة الغرب تقابل الصَّبا. ويقال: تُقبل من جهة الجنوب ذاهبة نحو المشرق. انظر: المصباح المنير (مادة: دبر) ص72 (¬3) انظر: البحر المحيط (1/ 191). (¬4) انظر: البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 110، 118)، شرح الكوكب المنير (3/ 136)، أضواء البيان (5/ 362)، (6/ 130).

سياقِ النفيِ، وأنها شاملةٌ لكثيرٍ من الأَنْفُسِ، وهذا معنى قولِه: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}. وقوله (جل وعلا): {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: آية 49]، أي: وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ من آلِ فرعونَ، يعني: من فرعونَ وقومِه القبطِ؛ لأنهم كانوا يُهِينُونَ بني إسرائيلَ. قال بعضُ العلماءِ (¬1): أصلُ (الآل): أهلٌ، بدليلِ تصغيرِه على (أُهَيْلٍ)، وبعضهم صغَّره على (أُوَيْلٍ)، ولا يُطْلَقُ (الآلُ) على الأهلِ إلا إذا كان مُضَافًا لمن له شَرَفٌ وَقَدْرٌ، فلا تقول: آل الْحَجَّامِ، ولا آل الإسكافِ (¬2) (¬3). و (فرعونُ) مَلِكُ مصرَ المعروفُ، وهو يُطْلَقُ على مَنْ مَلَكَ مصرَ. وقال بعضُهم: كُلُّ مَنْ مَلَكَ العمالقةَ يُطْلَقُ عليه (فرعونُ) (¬4). واختُلف في لفظِ (فرعونَ) هل هو عَرَبِيٌّ أو أَعْجَمِيٌّ؟ (¬5) قيل: هو اسمٌ أعجميٌّ، مُنِعَ من الصرفِ للعلميةِ والعُجْمَةِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو عربيٌّ، من تَفَرْعَنَ الرجلُ إذا كان ذا مَكْرٍ وَدَهَاءٍ. والأولُ أظهرُ. وعلى أنه عربيٌّ فَوَزْنُهُ (فِعْلَول) بلامين لا (فعلون) بالنونِ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (2/ 37)، القرطبي (1/ 383)، الدر المصون (1/ 341). (¬2) هو الخرّاز، وقيل: كل صانع، انظر: المصباح المنير: (مادة: الإسكاف) ص107. (¬3) انظر: المفردات (مادة: آل) ص98، الدر المصون (1/ 343). (¬4) انظر: ابن جرير (2/ 38)، القرطبي (1/ 383)، الدر المصون (1/ 343). (¬5) انظر: الدر المصون (1/ 344)، اللسان (مادة: فرعن) (2/ 1083).

وقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} تقول العربُ: سَامَهُ خَسْفًا، إذا أَوْلاَهُ ظُلْمًا، وأذاقَه عذابًا، ومن هذا المعنى قولُ عمرِو بنِ كلثوم في معلقتِه (¬1): إِذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ ... خَسْفًا أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِينَا وقوله: {سُوءَ الْعَذَابِ} أي: يُذِيقُونَكُمْ ويولونكم سوءَ العذابِ، أي: أصعبَ العذابِ وَأَشَدَّهُ وأفظعَه؛ لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواعٍ من العذابِ شاقةٍ ذَكَرَ اللَّهُ بعضًا منها هنا حيث قال: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} فالفعلُ المضارعُ الذي هو {يُذَبِّحُونَ} بدلٌ من الفعلِ المضارعِ الذي قَبْلَهُ (¬2) الذي هو {يَسُومُونَكُمْ} على حَدِّ قَوْلِهِ في الخلاصةِ (¬3): وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ كَمَنْ ... يَصِلْ إِلينَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ وإنما عُبِّرَ بالتشديدِ في قراءةِ الجمهورِ في قوله: {يُذَبِّحُونَ} دلالةً على الكثرةِ؛ لأنهم ذَبَحُوا كثيرًا من أبنائهم (¬4). {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} أي: الذكورَ {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي: بناتِكم الإناثَ، يُبْقُوهُنَّ حَيَّاتٍ، ولم يذبحوهن. والنساءُ على التحقيقِ اسمُ جَمْعٍ (¬5) لا واحدَ له من لَفْظِهِ، واحدتُه امرأةٌ. ¬

(¬1) شرح القصائد المشهورات (2/ 124). (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 345 - 346). (¬3) الخلاصة ص49، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 133). (¬4) انظر: القرطبي (1/ 385، 386). (¬5) اسم الجمع: ما دل على آحاده دلالة الكل على أجزائه، والغالب أنه لا واحد له من لفظه، نحو: (قوم، رهط، طائفة، جماعة) انظر: حاشية الصيان (1/ 29).

وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ؛ لأن اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ أنهم سَامُوهُمْ سوءَ العذابِ فَسَّرَ قولَه: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بالبدلِ بعدَه، وَبَيَّنَ أن من ذلك العذابِ العظيمِ السيئِ: تذبيحَ الأبناءِ، واستحياءَ البناتِ. وفي هذا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: تذبيحُ الأبناءِ ظاهرٌ أنه من ذلك العذابِ الذي يَسُومُونَهُمْ، أما استحياءُ البناتِ، وهو قولُه: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} فأين وجهُ كونِ هذا من سوءِ العذابِ، مع أن بقاءَ البعضِ قد يظهرُ للناظرِ أنه أحسنُ من تذبيحِ الكُلِّ؟ كما قال الهُذلي (¬1): حَمِدْتُ إِلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إِذْ نَجَا ... خِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ الجوابُ عن هذا: أن استحياءَهم للنساءِ استحياءٌ هو من جملةِ العذابِ؛ لأنهم يستحيونهم ليُعَمِّلُوهم في الأعمالِ الشَّاقَّةِ، وليفعلوا بهم ما لا يليقُ من العارِ والشنارِ (¬2)، وبقاءُ البنتِ - وهي عورةٌ - تحتَ يدِ عدوٍّ لا يُشْفِقُ عليها، يفعلُ بها ما لا يليقُ، وَيُكَلِّفُهَا ما لا تُطِيقُ، هذا من سوءِ العذابِ بلا شَكٍّ، وقد قال جل وعلا: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [النساء: آية 9] والعربُ كانوا ربما قَتَلُوا بناتِهم شفقةً وخوفًا عليهم مما يلاقونه مما لا يليقُ بعدَ موتِ الآباءِ، وهو كثيرٌ في شِعْرِهِمْ، وقد قال رجلٌ منهم في ابنةٍ له تُسَمَّى مودَّة (¬3): مَوَدَّةُ تَهْوَى عُمْرَ شَيْخٍ يَسُرُّهُ ... لَهَا الْمَوْتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لَوْ أَنَّهَا تَدْرِي ¬

(¬1) البيت لأبي خراش الهذلي، انظر: الخزانة (2/ 458). (¬2) انظر: ابن عطية (1/ 212)، البحر المحيط (1/ 194)، دفع إيهام الاضطراب ص21. (¬3) انظر: أضواء البيان (3/ 286)، دفع إيهام الاضطراب ص22.

يَخَافُ عَلَيْهَا جَفْوَةَ النَّاسِ بَعْدَهُ ... وَلاَ خَتَنٌ يُرْجَى أَوَدُّ مِنَ الْقَبْرِ ولما خُطِبَتْ عندَ عقيلِ بنِ عُلَّفَةَ المري ابنتُه الجرباءُ أنشد (¬1): إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ الْمَهْرُ ... عَبْدٌ وَأَلْفَانِ وَذُودٌ (¬2) عَشْرُ أَحَبُّ أَصْهَارِي إِلَيَّ الْقَبْرُ وقد قال الشاعرُ (¬3): تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ وهذا هو وجهُ كونِ استحياءِ النساءِ من ذلك العذابِ الذي يَسُومُونَهُمْ. وقال جل وعلا: {وَفِى ذَلِكُم بَلاَءٌ مِن رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} في الإشارةِ في قولِه: {ذَلِكُم} وجهانِ لا يُكَذِّبُ أحدُهما الآخرَ مَبْنِيَّانِ على المرادِ بالبلاءِ (¬4)؛ لأن البلاءَ في لغةِ العربِ الاختبارُ (¬5)، والاختبارُ قد يقعُ بالخيرِ وقد يقعُ بالشرِّ، كما قال جل وعلا: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: آية 35] وقال (جل وعلا): ¬

(¬1) انظر: القرطبي (10/ 118)، مختصر تاريخ دمشق (17/ 127)، زهر الآداب (1/ 484)، دفع إيهام الاضطراب ص25. أضواء البيان (3/ 286) والمثبت في هذه المصادر: «ألف وعبدان». (¬2) في القرطبي (وخور) وهي: جمع خوَّارة، وهي الناقة الغزيرة اللبن. انظر: القرطبي (10/ 118). وأما الذَّوْد من الإبل: فهو من الثلاثة إلى العشرة. المصباح المنير (مادة: ذود) ص80. (¬3) البيت لأبي إسحاق بن خلف. انظر: القرطبي (19/ 275)، الدر المصون (10/ 736)، ابن عاشور (15/ 87)، زهر الآداب (1/ 485)، دفع إيهام الاضطراب ص25. (¬4) انظر: ابن عطية (1/ 212)، الدر المصون (1/ 348). (¬5) انظر: ابن جرير (2/ 49)، المفردات (مادة: بلى) ص145.

{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: آية 168] وَاللَّهُ ذَكَرَ في الآيةِ الماضيةِ أنه ابْتَلَى بني إسرائيلَ بخيرٍ وَشَرٍّ؛ أما الشرُّ الذي ابتلاهم به فهو ما كان يَسُومُهُمْ فرعونُ من سوءِ العذابِ، وأما الخيرُ الذي ابتلاهم به فهو إنجاؤُه إياهم من ذلك العذابِ. قال بعضُ العلماءِ: {فِى ذَلِكُم} أي: {وَفِى ذَلِكُم} العذاب الذي كان يَسُومُكُمْ فرعونُ، {بَلاَءٌ} بالشرِّ {مِن رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، وقال بعضُ العلماءِ: {وَفِى ذَلِكُم} الإنجاءُ الذي أَنْجَاكُمُ اللَّهُ به من عذابِ فرعونَ {بَلاَءٌ} بالخيرِ {مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، وكلما كان الشرُّ أكبرَ كان الإنقاذُ منه مُمَاثِلاً له في الكِبَرِ، ولا شَكَّ أن العربَ تُطْلِقُ البلاءَ على الاختبارِ بالشرِّ والاختبارِ بالخيرِ، خلافًا لمن مَنَعَهُ في الاختبارِ بالخيرِ، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في الخيرِ قولُ زهير (¬1): جَزَى اللَّهُ بِالإِحْسَانِ مَا فَعَلاَ بِكُمْ ... وَأَبْلاهُمَا خَيْرَ الْبَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو وهذا معنى قولِه: {وَفِى ذَلِكُم بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} [البقرة: الآيات 50 - 53]. ¬

(¬1) شرح ديوان زهير ص91، وأوله: (رأى الله)، وهي إحدى روايات البيت. والبيت في ابن جرير (2/ 49)، معاني القرآن للزجاج (1/ 132)، الدر المصون (1/ 348).

يقول الله (جل وعلا): {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: آية 50] أي: وَاذْكُرُوا إِذْ فَرَقْنَا بكم البحرَ. {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي: فَلَقْنَاهُ، بدليلِ قولِه: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: آية 63] وَأَصْلُ الفِرْقِ: الفصلُ بينَ أجزاءِ الشيءِ (¬1). فمعنى {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي: فَصَلْنَا بينَ بعضِه وبعضٍ حتى كانت بينَه مسالكُ تَسْلُكُونَ فيها. ومن هذا المعنى قولُه: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: آية 25] أي: افْصِلْ بَيْنَنَا وبينَهم، {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات: آية 4] أي: على القولِ بأنها الملائكةُ تنزلُ بالوحيِ الذي يَفْصِلُ بين الحقِّ والباطلِ. وهذا معنى قولِه: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي: فَصَلْنَا بعضَ أجزائِه عن بعضٍ حتى كانت بينَه مسالكُ تسلكون فيها من طرقٍ يابسةٍ كما قال جل وعلا: {طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: آية 77]. و (الباءُ) في قوله: {بِكُمُ} فيها لعلماءِ التفسيرِ أَوْجُهٌ (¬2)، أَظْهَرُهَا أنها سَبَبِيَّةٌ. والمعنى: فَصَلْنَا بعضَ أجزاءِ البحرِ عن بعضٍ، بسببِ دُخُولِكُمْ فيه؛ لِيُمْكِنَكُمُ المرورُ سالكين بين أجزائِه، كما قال تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: آية 63]. وقال بعضُ العلماءِ: (الباء) بمعنى اللامِ، فمعنى {فَرَقْنَا بِكُمُ} أي: فَرَقْنَا لكم. وهو عائدٌ إلى معنى الأولِ؛ لأن اللامَ للتعليلِ، والباءُ للسببِ، فالمعنى مُتَقَارِبٌ. وقال بعضُ العلماءِ: الجارُّ والمجرورُ في مَحَلِّ حَالٍ، أي: فَرَقْنَا البحرَ في حالِ كونِه مُتَلَبِّسًا بكم. وقال بعضُ العلماءِ: {فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي: جَعَلْنَاكُمْ كأنكم حاجزٌ بين بعضِه ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: فرق) ص632، القرطبي (1/ 387). (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 349).

وبعضٍ، كما تقول: فَصَلْتُ بينَ أجزاءِ الشيءِ بكذا. و (البحر) معروفٌ، قال بعضُ العلماءِ: اشتقاقُه من الشَّقِّ (¬1)؛ لأنه شَقٌّ في الأرضِ كبيرٌ، ومنه البَحِيرَةُ؛ لأنها مشقوقةُ الأُذُنِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو من البحرِ بمعنى الاتساعِ لاتساعِه. وقوله: {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} أي: أَنْجَيْنَاكُمْ من فرعونَ وما كان يسومكم من العذابِ. وأصلُ الإنجاءِ والتنجيةُ أصلُ اشتقاقِه من النَّجْوَةِ، وهي المرتفعُ من الأرضِ (¬2). فكأن الإنسانَ إذا سَلِمَ من هلاكٍ، وَنَجَا من أَمْرٍ خَطِرٍ ارتفعَ عن هوةِ الهلاكِ إلى نجوةِ السلامةِ. وهذا معنى قولِه: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} الهمزةُ في {وَأَغْرَقْنَا} للتعديةِ، وأصلُ الفعلِ الثلاثيِّ قبلَ أن تدخلَ عليه همزةُ التعديةِ: (غَرِقَ يَغْرَقُ غَرَقًا)، ومنه قولُ ذِي الرُّمَّةِ (¬3): وَإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الْمَاءُ تَارَةً ... فَيَبْدُو وَتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ والعربُ تُعَدِّيهِ بِالْهَمْزَةِ والتضعيفِ فتقول: أَغْرَقَهُ اللَّهُ، وغرَّقه، إذا جَعَلَهُ يغرَق. ومن هذا المعنى قولُ الشاعرِ (¬4): . . . . . . . . . . . . . . . ... أَلاَ لَيْتَ قَيْسًا غَرَّقَتْهُ القَوَابِلُ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 195)، الدر المصون (1/ 350). (¬2) انظر: المفردات (مادة: نجو) ص792. (¬3) انظر: المحتسب (1/ 150)، ضياء السالك (3/ 187)، المعجم المفصَّل (2/ 590). (¬4) البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص156، وصدره: أطَورَين في عام غزاةً ورِحْلَةً

فالهمزةُ في (أَغْرَقَنَا) همزةُ التعديةِ، والمعروفُ أن همزةَ التعديةِ إذا دَخَلَتْ على فعلٍ لازمٍ أَكْسَبَتْهُ مفعولاً، وإذا دَخَلَتْ على فعلٍ مُتَعَدٍّ لمفعولٍ أَكْسَبَتْهُ مفعولين، وإذا دَخَلَتْ على فِعْلٍ مُتَعَدٍّ لمفعولين أَكْسَبَتْهُ ثالثًا، كما قال في الخلاصةِ (¬1): إِلَى ثَلاَثَةْ رَأَى وَعَلِمَا ... عَدَّوْا إِذَا صَارَا أَرَى وَأَعْلَمَا و {آلَ فِرْعَوْنَ} (¬2) قَدَّمْنَا معناه. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملةٌ حَالِيَّةٌ (¬3)، والظاهرُ أنه نَظَرٌ بالأبصارِ (¬4)؛ لأن اللَّهَ أَرَاهُمْ ما أَحَلَّ بفرعونَ وقومِه من الغرقِ في البحرِ، وهو البحرُ الأحمرُ؛ ليكونَ ذلك أَقَرَّ لأعينهم؛ لأن هلاكَ الْعَدُوِّ وَعَدُوُّهُ ينظر إليه أَقَرُّ لعينِه. وهذا معنى قولِه: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}. وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: آية 51] (إذ) منصوبٌ بـ (اذْكُرْ) مُقَدَّرًا على أحدِ الأقوالِ (¬5)، وهو معطوفٌ على المذكوراتِ قَبْلَهُ (¬6)، وقرأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عدا الْبَصْرِيَّ ¬

(¬1) الخلاصة ص24، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 295). (¬2) سئل الشيخ رحمه الله عن التعبير هنا بقوله: {آلَ فِرْعَوْنَ} مع قوله في حق موسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: آية 54]؟. فأجاب رحمه الله بقوله: عبر بـ {آلَ فِرْعَوْنَ} يريد فرعون وقومه، كما قال جل وعلا: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: آية 73] يدخل فيهم إبراهيم، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» يعني: داود. (¬3) انظر: الدر المصون (1/ 351). (¬4) انظر: القرطبي (1/ 392). (¬5) انظر: البحر المحيط (1/ 139)، الدر المصون (4/ 695). (¬6) المصدر السابق (1/ 197).

أبَا عمرٍو: {وَاعَدْنَا} بصيغةِ الْمُفَاعَلَةِ، وقرأه أبو عمرٍو وَحْدَهُ من السبعةِ: {وإِذْ وَعَدْنَا} (¬1) ثُلاَثِيًّا مُجَرَّدًا من الوعدِ. أَمَّا على قراءةِ أبي عمرٍو فلا إشكالَ: صيغةُ الجمعِ للتعظيمِ. واللَّهُ وَعَدَ نَبِيَّهُ موسى أن يُنْزِلَ عليه كتابًا فيه الحلالُ والحرامُ، وكل ما يحتاجون إليه بعدَ أربعين ليلةً. أما على قراءةِ الجمهورِ {وَإِذْ وَاعَدْنَا} بصيغةِ المُفَاعَلَةِ، فالمقررُ في فَنِّ التصريفِ: أن المُفَاعَلَةَ تقتضي الطرفين. أعني اشتراكَ الفعلِ بينَ فَاعِلَيْنِ؛ ولذا استشكلَ بعضُ العلماءِ التعبيرَ بالمواعدةِ هنا، قال: إن الله يَعِدُ وحدَه، ولا يَعِدُهُ غيرُه، والجوابُ عن هذا (¬2): أن المُفَاعَلَةَ باعتبارِ أن اللَّهَ وعدَ موسى بوحيٍ يُبَيِّنُ له فيه الأمورَ، وموسى وَعَدَ رَبَّهُ بالإتيانِ للميقاتِ المُعيَّنِ لتلقِّي ذلك الوحيِ، ومن هنا صارت المفَاعَلَةُ معقولةً. وقوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قال بعضُ العلماءِ: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: تَمَامِ أربعينَ ليلةً (¬3). وقد بيَّن تعالى في سورةِ الأعرافِ أن الوعدَ بهذه الأربعين كان مُفَرَّقًا بأن وَعَدَ ثلاثين أَوَّلاً ثم أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ (¬4)، وذلك في قولِه: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: آية 142] قال بعضُ العلماءِ: هذه الأربعونَ ليلةً هي شهرُ ذِي القعدةِ وعشرٌ من ذِي ¬

(¬1) المبسوط لابن مهران ص129، الإقناع (2/ 597). (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (2/ 58 - 60)، حجة القراءات ص96، الكشف لمكي (1/ 239)، الموضح لابن أبي مريم (1/ 274). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 395). (¬4) انظر: أضواء البيان (1/ 15، 77).

الحجةِ (¬1)، واليومُ الذي أَغْرَقَ اللَّهُ فيه فرعونَ وَأَنْجَى فيه بني إسرائيلَ هو يومُ عاشوراءَ، وقد ثَبَتَ في الصحيحِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَدِمَ المدينةَ وَجَدَ اليهودَ يَصُومُونَ يومَ عاشوراءَ، فسألهم فَأَخْبَرُوهُ بأنه اليومُ الذي أَنْجَى اللَّهُ فيه موسى وقومَه، وَأَهْلَكَ فيه فرعونَ وقومَه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ». فكان يصومُه حتى نزلَ صيامُ رمضانَ (¬2) (¬3). ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 395). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصيام، باب صيام عاشوراء، حديث رقم: (2004)، (4/ 244)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (3397)، (3943)، (4680)، (4737)، ومسلم في الصحيح، كتاب الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، حديث رقم: (1130)، (2/ 795). (¬3) سئل الشيخ رحمه الله: على التعليل لصيامه في الإسلام بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى اليهود يصومونه وسألهم ... إلخ. بم يجاب على حديث: «خالفوا اليهود والنصارى» مع وقوع هذا الصيام موافقا لفعل اليهود في ذلك اليوم؟ فأجاب رحمه الله بقوله: الظاهر - والله تعالى أعلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصمه إلا لأولويته بموسى، لا لمجرد اتفاق اليهود، وقد علل ذلك بقوله في الحديث: «نحن أولى بموسى منهم» والظاهر أنه لم يُصدِّق بني إسرائيل في أن هذا اليوم هو الذي نجَّى الله فيه موسى وقومه، وأنه قد عرف ذلك من طريق غير إخبارهم، لما تقرر عند العلماء: أن شرع من قبلنا لا يكون شرعا لنا، ولا يتعبد به نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ثبوته في شرعنا، فإن ثبت في شرعنا فأصح الأقوال أنه شرع لنا، وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - متعبد به، ومما يدل على ذلك: ما ثبت في صحيح البخاري في تفسير سورة (ص) أن مجاهدا سأل ابن عباس رضي الله عنهما: من أين أخذت السجدة في (ص)؟ فأجابه ابن عباس: أَوَمَا تقرأ: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داود، فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعلى قياس هذا لا يبعد أن يوحي الله إليه أن هذا اليوم أنجى الله (جل وعلا) فيه موسى ويصوموه.

وَثَبَتَ في الصحيحِ عن عائشةَ (رضي الله عنها) أن قريشًا كانوا يصومون (¬1) يومَ عاشوراءَ في الجاهليةِ، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصومُه (¬2). ولا تَعَارُضَ بين الأحاديثِ؛ لأنه لا مانعَ من أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصومُه لأن قريشًا في الجاهليةِ كانوا يَصُومُونَهُ. وَلَمَّا جاء تمادى على صومِه، ووجدَ اليهودَ يصومونَه، ولا مانعَ مِنْ كونِ الفعلِ الواحدِ أو النصِّ الواحدِ له سَبَبَانِ فأكثرَ (¬3). وعلى كُلِّ حالٍ فَصَوْمُ يومِ عاشوراءَ وُجُوبُهُ منسوخٌ بإجماعِ العلماءِ (¬4). وقوله جل وعلا: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} عَبَّرَ بالليالي لأنها قبلَ الأيامِ (¬5) والمقررُ في فَنِّ العربيةِ أن التاريخَ بالليالي لأنها قبلَ الأيامِ (¬6). فَلَمَّا ¬

(¬1) سئل الشيخ رحمه الله عن علة صيام عاشوراء في الجاهلية. فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله: «الله تعالى أعلم، ويمكن أن يكون قريش في الجاهلية تسرَّب إليهم صومه من بني إسرائيل؛ لأنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون، والله تعالى أعلم». اهـ جواب الشيخ. وللاستزادة راجع: القرطبي (1/ 391)، الفتح (4/ 246). (¬2) البخاري في الصحيح، كتاب الحج، باب: قول الله تعالى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} حديث رقم: (1592)، (3/ 454)، وقد أخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (1893)، (2001)، (2002)، (3831)، (4502)، (4504)، ومسلم في الصحيح، كتاب الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، حديث رقم: (1125)، (2/ 792). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 391)، الفتح (4/ 248). (¬4) انظر: التمهيد (7/ 203)، (22/ 148). (¬5) انظر: القرطبي (1/ 396). (¬6) انظر: القرطبي (7/ 276)، البحر المحيط (1/ 199).

انتهى هذا الميعادُ أَنْزَلَ اللَّهُ (جل وعلا) عليه التوراةَ، وَكَتَبَهَا له في الألواحِ، كما يأتي تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ. وقولُه: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} قرأه بعضُ السبعةِ: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} وقرأه بعضُهم: {ثم اتخذتم العجل من بعده} بالإدغام (¬1). وأصلُ (الاتخاذِ) على التحقيقِ عندَ علماءِ العربيةِ: افتعالٌ من الأخذِ، أصلُه (اأتخاذ) (¬2)، وإبدالُ الهمزةِ تاءً يُحْفَظُ ولا يقاسُ عليه، وإنما المقيسُ إبدالُ فاءِ المثالِ، أعني واويَّ الفاءِ، أو يائيَّ الفاءِ، كالاتجاهِ، والاتسارِ، إبدالُ الواوِ فيه تاءً، أما إبدالُ الهمزةِ تاءً فهو شاذٌّ يُحْفَظُ ولا يقاسُ عليه، كَاتَّكَلَ، وَاتَّزَرَ، وَاتَّخَذَ، بناءً على الصحيحِ أنها (افْتَعَل) من الأخذِ. وأصلُ العِجْلِ: وَلَدُ البقرةِ، وَيُجْمَعُ على (عَجَاجِيلَ، عَجَاجِلَ) على غيرِ قياسٍ، كما عَقَدَ مثلَه في الخلاصةِ بقولِه (¬3): وَحَائِدٌ عَنِ الْقِيَاسِ كُلُّ مَا ... خَالَفَ فِي الْبَابَيْنِ حُكْمًا رُسِمَا وهذا العِجْلُ هو العجلُ الذي صَاغَهُ لهم السامريُّ من حُلِيِّ القبطِ المذكورِ في قولِه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} [الأعراف: آية 148]، وبيَّنَهُ في سورةِ طه بقولِه: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي ¬

(¬1) أي تُقرأ هكذا: (اتَّخَتُّم)، انظر: الإقناع في القراءات السبع (1/ 265)، النشر (2/ 15). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 396 - 397)، الدر المصون (1/ 354 - 355). (¬3) الخلاصة ص68، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 465)، وراجع اللسان (مادة: عجل) (2/ 696)، القاموس (مادة: العجل) ص1331.

نَفْسِي} [طه: آية 96] وَحَذَفَ مفعولَ الاتخاذِ الثانيَّ، وهو محذوفٌ في جميعِ القرآنِ، وتقريرُ المعنى: ثم اتخذتم العجلَ من بعده، أي: من بعدِ موسى لَمَّا ذَهَبَ إلى الميقاتِ، أي: اتخذتم العجلَ إِلَهًا. وهذا المفعولُ الثاني محذوفٌ في جميعِ القرآنِ {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: آية 54] أي: إِلَهًا. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا} [الأعراف: آية 54]، أي: إلها. فهذا المفعولُ الثاني الذي تقديرُه (إلهًا) محذوفٌ في جميعِ القرآنِ (¬1). قال بعضُ العلماءِ: النكتةُ في حذفِه التنبيهُ على أنه لا ينبغي لعاقلٍ أن يتلفظَ بأن عِجْلاً مُصْطَنَعًا من حُلِيٍّ أنه إِلَهٌ (¬2). وقولُه: {وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} جملةٌ حاليةٌ (¬3)، يعني: اتَّخَذْتُمُ العجلَ والحالُ أنتم ظالمونَ باتخاذكم العجلَ إِلَهًا. وأصلُ الظلمِ في لغةِ العربِ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ محله، فَكُلُّ مَنْ وَضَعَ شيئًا في غير محله فقد ظَلَمَ في لغةِ العربِ (¬4). وأكبرُ أنواعِ الظلمِ - أي وضع الشيءِ في غيرِ محله - وضعُ العبادةِ في غيرِ مَنْ خَلَقَ، فَمَنْ عَبَدَ غيرَ خالقِ السماواتِ والأرضِ فقد وَضَعَ العبادةَ في غيرِ مَوْضِعِهَا؛ ولذا هو ظالمٌ لغةً؛ ولأجلِ هذا البيانِ فإن القرآنَ يُكْثِرُ اللَّهُ جل وعلا فيه إطلاقَ الظلمِ على الشركِ، كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (1/ 78). (¬2) انظر: الأضواء (1/ 17). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 397). (¬4) انظر: ابن جرير (1/ 523)، المفردات (مادة: ظلم) ص537، القرطبي (1/ 309 - 310).

الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254]، وقال: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: آية 106] وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه فَسَّرَ قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82]، أي: بِشِرْكٍ (¬1). وقال جل وعلا عن العبدِ الصالحِ لقمانَ الحكيمِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13]. هذا معنَى الظلمِ في لغةِ العربِ، ومنه قِيلَ لمن يضربُ لَبَنَهُ قبل أن يروبَ: ظالمٌ؛ لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ موضعِه؛ لأن ضَرْبَهُ قبل أن يروبَ يُضَيِّعُ زُبْدَهُ. وفي لُغَزِ الحريريِّ: هَلْ تجوزُ شهادةُ الظالمِ؟ قال: نعم، إذا كان عَالِمًا (¬2). يعني بالظالمِ: الذي يضربُ لَبَنَهُ قبلَ أن يروبَ. ومن هذا المعنى قول الشاعر (¬3): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ يعني بصاحبِ الصدقِ الذي لم تَرِبْهُ شَكَاتُه في ظلمِه إياه: سقاء له، ضَرَبَهُ قبلَ أن يروبَ. ومن هذا المعنى قولُ الشاعرِ (¬4): وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} حديث رقم (3360) (6/ 389)، وأخرجه في مواضع أخرى من صحيحه، انظر: الأحاديث: (3428، 4629، 4776، 6918، 6937). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: صدق الإيمان وإخلاصه. حديث رقم: (197) (1/ 114). (¬2) مقامات الحريري مع شرح الشريشي (3/ 148) في المقامة الثانية والثلاثون. (¬3) انظر: اللسان (مادة: ظلم) (2/ 650). (¬4) المصدر السابق.

فقولها: (ظلمتُ لكم سِقائي) أي: سقيتُكم منه قبلَ أن يروبَ؛ ولأجل هذا قيل للأرضِ التي حُفِرَ فيها ولم تُحْفَرْ قَطُّ، إذا لم تكن محلا للحفرِ: مظلومةٌ؛ لأن الحفرَ وقعَ في غيرِ موضعِه. ومن هذا المعنى على التحقيقِ قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬1): إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... والنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ خلافًا لمن زَعَمَ أن (المظلومةَ) التي أَبْطَأَ عنها المطرُ. ومن هنا قيل للقبرِ (ظليمٌ)؛ لأنه حَفْرٌ في محل لم يُحْفَرْ قبلَ ذلك. ومنه بهذا المعنى قولُ الشاعرِ (¬2): فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ ... عَلَى الْعَيْشِ مَرْدُودٍ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا هذا أصلُ معنى الظلمِ في لغةِ العربِ، وشواهدِه العربيةِ، وهو يُطْلَقُ في القرآنِ إِطْلاَقَيْنِ: يُطْلَقُ بمعناه الأعظمِ، وهو وضعُ العبادةِ في غيرِ مَنْ خَلَقَ، وهذا أكبرُ أنواعِ الظلمِ، ومنه بهذا المعنى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254]، {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: آية 106]، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13]. وقد يُطْلَقُ الظلمُ في القرآنِ أيضًا على ظُلْمِ الإنسانِ نفسَه ببعضِ المعاصي التي لا تَبْلُغُ به الكفرَ، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} الآية [فاطر: آية 32]، بدليلِ قولِه في ¬

(¬1) ديوان النابغة الذبياني ص9 وسيأتي شرح بعض مفردات البيت عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام (¬2) اللسان (مادة: ظلم) (2/ 651).

الجميعِ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية [فاطر: آية 33]، لأن هذا أَطَاعَ الشيطانَ وعصى رَبَّهُ فقد وَضَعَ الطاعةَ في غيرِ مَوْضِعِهَا، كما قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: آية 50]. وقوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: آية 52] (عَفَوْنَا) أصلُه من (العفو)، من عَفَت الريحُ الأَثَرَ، إذا طَمَسَتْهُ. فالعفوُ - مثلاً - هو: طَمْسُ اللَّهِ أثرَ الذنبِ بِتَجَاوُزِهِ حتى لا يبقى له أثرٌ يتضررُ به العبدُ (¬1). والإشارةُ في قولِه: {ذَلِكَ} إلى اتخاذِهم العجلَ إِلَهًا، وهو ذلك الذنبُ العظيمُ، وأشار إليه إشارةَ البعيدِ؛ لأن مثلَ ذلك الفعلِ يجبُ أن يُتَبَاعَدَ منه تَبَاعُدًا كُلِّيًّا. وقولُه: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال بعضُ العلماءِ: يغلبُ إتيانِ (لعلَّ) في القرآنِ مُشَمَّةً معنى التعليلِ، إلا التي في الشعراءِ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (¬2) [الشعراء: آية 129] وإتيانُ (لَعَلَّ) حرفَ تعليلٍ مسموعٌ في كلامِ العربِ، ومن إتيانِ (لَعَلَّ) للتعليلِ قولُ الشاعرِ (¬3): وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلاَ مُتَأَلِّقِ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 397)، الدر المصون (1/ 356). (¬2) انظر: البرهان للزركشي (4/ 57)، الإتقان (2/ 233)، فتح الباري (8/ 498)، أضواء البيان (2/ 414) (6/ 204)، الدر المصون (1/ 189). (¬3) انظر: ابن جرير (1/ 364)، القرطبي (1/ 227)، الدر المصون (1/ 189) والمثبت في هذه المصادر: «كَلَمْعِ سراب في المَلا ... ».

فهذه لَيْسَتْ لِلتَّرَجِّي بَتَاتًا؛ لأنه قال: «ووثقتم لنا كُلَّ موثق». وقوله: «ووثقتم لنا كل موثق» دَلَّ على أن المرادَ: فقلتُم لنا كفُّوا الحروبَ لأجلِ أن نَكُفَّ، ووثقتم لنا كُلَّ مَوْثِقِ في وعدكم بالكفِّ المعلَّل بِكَفِّنَا. هذا هو التحقيقُ. وقال بعضُ العلماءِ (¬1): المرادُ بـ (لعل) يعني: افْعَلُوا ما أَمَرْنَاكُمْ به مُتَرَجِّينَ أن يقعَ ما بعدَ لَعَلَّ، وتقريرُه في هذا المعنى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}. وذلك العفوُ ينبغي - مثلاً - أن تَتَرَجَّوْا، وذلك العفوُ الذي عَفَوْنَا عنكم يُرْجَى من مثلكم فيه أن تشكروا ذلك العفوَ. فتكونُ لِلتَّرَجِّي على بَابِهَا. والأولُ لا يُنَافِي الثاني؛ لأنا لو قلنا: إنها للتعليلِ، فَالْمُعَلَّلُ مَرْجُوُّ الحصولِ عندَ وجودِ عِلَّتِهِ. وأصلُ (الشكرِ) في لغةِ العربِ: الظهورُ، ومنه (الشَّكِيرُ) وهو العُسْلُوجُ الذي يَظْهَرُ في جذعِ الشجرةِ التي قُطِعَتْ إذا أصابها الماءُ فظهرَ فيها عُسْلُوجٌ يُسَمَّى شَكِيرًا؛ لأنه ظَهَرَ بعدَ أن لم يكن، ومنه: (نَاقَةٌ شَكُورٌ) يظهرُ عليها أَثَرُ السِّمَنِ (¬2). والشكرُ يطلقُ في القرآنِ من اللَّهِ لِعَبْدِهِ، ومن العبدِ لِرَبِّهِ، فَمِنْ إطلاقِ شكرِ الربِّ لعبدِه قولُه جل وعلا: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: آية 34] {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 158]. ¬

(¬1) القرطبي (1/ 227). (¬2) انظر: اللسان (مادة: شكر) (2/ 344 - 345)، المفردات (مادة: شكر) ص461، المصباح المنير (مادة: شكر) ص122.

ومعنى شُكْرِ الرَّبِّ لعبدِه: هو إثابتُه له الثوابَ الجزيلَ من عَمَلِهِ القليلِ. وَيُطْلَقُ الشكرُ من العبدِ، كما في قولِه هنا: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومعنى شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ: هو أن يستعملَ نِعَمَهُ في طَاعَاتِهِ؛ فهذه العينُ الباصرةُ التي أَنْعَمَ عليه بها شُكْرُهَا أن لا ينظرَ بها إلا إلى ما يُرْضِي اللَّهَ، وهذه اليدُ الباطشةُ التي أَنْعَمَ عليه بها شُكْرُ نِعْمَتِهَا أن لا يبطشَ بها إلا فيما يُرْضِي اللَّهَ، وهذا اللسانُ الذي يُبِينُ به وَيُفْصِحُ عما في ضميرِه شُكْرُهُ أن لا ينطقَ به إلا فيما يُرْضِي اللَّهَ، وهكذا في جميعِ سائرِ النِّعَمِ والْمِنَحِ البدنيةِ والماليةِ إلى غيرِ ذلك. وهذا معنى قوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمِ مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وقوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: آية 53] (إِذْ) معطوفٌ على ما قَبْلَهُ، وأكثرُ العلماءِ على أنه منصوبٌ بـ (اذْكُرْ) مُقَدَّرًا (¬1). وقد بَيَّنَّا مِرَارًا أن الدليلَ على عملِ هذا العاملِ الذي هو (اذْكُرْ) في (إِذْ) أنه مفهومٌ من استقراءِ القرآنِ؛ لكثرةِ إعمالِ (اذْكُرْ) في (إذ) نحو: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: آية 21]، {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: آية 26]، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: آية 86] وهكذا. و {ءَاتَيْنَا} معناه أَعْطَيْنَا، والأَلِفُ فيه مُبْدَلَةٌ من همزةِ فاءِ الفعلِ، فَوَزْنُهُ: (أَفْعَلْنَا) والأصلُ (أَأْتَيْنَا) فَأُبْدِلَتْ همزةُ فاءِ الفعلِ مَدًّا مُجَانِسًا لحركةِ همزةِ (أَفْعَل) (¬2) على القاعدةِ التصريفيةِ الْمُجْمَعِ عليها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص302.

المشهورةِ التي عَقَدَهَا ابنُ مَالِكٍ في الخلاصةِ بقولِه (¬1): وَمَدَّاً ابْدِلْ ثَانِيَ الْهَمْزَينِ مِنْ ... كِلْمَةٍ انْ يَسْكُنْ كَآثِرْ وَائْتَمِنْ وصيغةُ الجمعِ للتعظيمِ. ومعنى (آتَيْنَا): أعطينا، وهي تَطْلُبُ مفعولين، والمفعولُ الأولُ هو موسى، والثاني الكتابُ، وهذه من بابِ: (كَسَا) لا من (ظَنَّ). ومعلومٌ عندَ علماءِ العربيةِ أن الفرقَ الواضحَ الموضِّحَ بين بابِ (ظَنَّ) وبابِ: (كَسَا) (¬2) - مع أن كُلاًّ منهما تَنْصِبُ مفعولين - هو: أن تحذفَ الفعلَ من كِلاَ الْبَابَيْنِ، ثم تجعلُ المفعولين مبتدأً وخبرًا، فإن صَدَقَتِ القضيةُ فهي من بابِ (ظَنَّ)، وإن كَذَبَتْ فهي من بابِ (كَسَا)، وهذا ضابطٌ مُطَّرِدٌ مفيدٌ لطالبِ العلمِ، فلو قُلْتَ مثلاً: «ظَنَنْتُ زَيْدًا قَائِمًا». فحذفتَ الفعلَ الذي هو (ظننتُ) وجعلتَ المفعولين مبتدأً وَخَبَرًا، فقلتَ: «زَيْدٌ قَائِمٌ» كان كلامًا مستقيمًا. فهذا من بابِ (ظَنَّ)، بخلافِ «كَسَوْتُ زَيْدًا ثَوْبًا» و «سَقَيْتُ عَمْرًا ماءً». و {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} لو حذفتَ الفعلَ منها وقلتَ: «زيدٌ ثوبٌ»، «عمرٌو ماءٌ»، «موسى الكتابُ»، فهذه القضيةُ كاذبةٌ، فدلَّ على أنها من بابِ (كَسَا). والمرادُ بالكتابِ التوراةُ، بإجماعِ العلماءِ (¬3). والتحقيقُ أن المرادَ بالفرقانِ هو التوراةُ أَيْضًا (¬4)، وقد تقرر في فَنِّ العربيةِ أن الشيءَ الواحدَ إذا وُصِفَ بصفاتٍ مختلفةٍ يجوزُ عَطْفُهُ ¬

(¬1) الخلاصة ص76، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 604). (¬2) انظر: التوضيح والتكميل لشرح ابن عقيل (1/ 385). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 399). (¬4) انظر: ابن جرير (2/ 71).

على نفسِه نظرًا إلى اختلافِ صفاتِه، وتنزيلاً لتغايرِ الصفاتِ منزلةَ تغايرِ الذواتِ (¬1). ومن أمثلتِه في القرآنِ قولُه جل وعلا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: الآيات 1 - 4]، فَالْمُتَعَاطِفَاتُ بالواوِ مدلولُها واحدٌ، إلا أنها عُطِفَتْ بحسبِ تغايرِ الصفاتِ، ونظيرُ هذا من كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬2): إِلَى الْمَلَكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ فَعَطَفَ هذه بعضَها على بعضٍ، مع أن الموصوفَ بها واحدٌ، نظرًا إلى تغايرِ الصفاتِ. والدليلُ على أن (الفرقانَ) كتابُ موسى، وأن مَنْ زَعَمَ أن المعنى: آتَيْنَا مُوسَى الكتابَ، ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم - الفرقانَ، أنه قولٌ باطلٌ، بدليل قولِه (¬3) (جل وعلا) في الأنبياءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: آية 48]. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: لأَجْلِ أن تهتدوا كما بَيَّنَّا. أو على أن إنزالَ هذا الكتابِ يُرْجَى منه أن تَهْتَدُوا؛ لأنه مَظِنَّةٌ لذلك، ومحلٌّ للرجاءِ في هُدَاكُمْ بهذا الكتابِ العظيمِ السماويِّ. و {تَهْتَدُونَ} معناه: تَسْلُكُونَ طريقَ الْهُدَى، من طاعةِ اللَّهِ جل وعلا، بامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نَهْيِهِ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 399)، المدخل للحدادي ص236، أضواء البيان (1/ 77)، (3/ 195). (¬2) انظر: الخزانة (1/ 216). (¬3) انظر: الدر المصون (1/ 359)، الأضواء (1/ 77 - 78).

[2/أ] / {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: الآيات 54 - 56]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} [البقرة: آية 54] أي: وَاذْكُرُوا {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} حِينَ قال موسى {لِقَوْمِهِ} أي: بَنِي إِسْرَائِيلَ {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أصلُه: (يَا قَوْمِي) منادى مضافٌ إلى ياءِ المتكلمِ، وَحُذِفَتْ ياءُ المتكلمِ اكتفاءً عنها بالكسرةِ (¬1). وفي المنادى المضافِ إلى ياءِ المتكلمِ إن كان صحيحَ الآخِرِ خمسُ لغاتٍ (¬2)، كلها صَحِيحَةٌ، أكثرُها حَذْفُ ياءِ المتكلمِ كما في هذه الآيةِ. وتلك اللغاتُ عَقَدَهَا في الخلاصةِ بقولِه (¬3): واجْعَلْ مُنَادَىً صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا ... كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا أصلُه: يا قَوْمِي. {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} قَدَّمْنَا معنى الظُّلْمِ (¬4) بشواهدِه العربيةِ، ومعناه في القرآنِ، وقد جاء في القرآنِ في موضعٍ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 400). (¬2) في القرطبي (1/ 400)، والدر المصون (1/ 39) (ست لغات). وانظر: التوضيح والتكميل (2/ 217 - 218). (¬3) الخلاصة ص51، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 156)، التوضيح والتكميل (2/ 217 - 218). (¬4) مضى عند تفسير الآية (51) من هذه السورة.

واحدٍ مرادًا به النقصُ في قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: آية 33] أي: ولم تَنْقُصْ منه شيئًا (¬1). وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أن مَنْ خَالَفَ أمرَ اللَّهِ أنه إنما ظَلَمَ بذلك نفسَه حيث عَرَّضَهَا لسخطِ اللَّهِ وعذابِه، فضررُ فِعْلِهِ عائدٌ إليه وحدَه، وذلك أكبرُ باعثٍ على الانزجارِ والكفِّ، لأن الإنسانَ لا يُحِبُّ أن يَضُرَّ نفسَه، ولا أن يَجْنِيَ عليها، فإذا عَرَفَ الإنسانُ أن ضررَ فِعْلِهِ إنما هو عائدٌ إليه حَاسَبَ. والباءُ في قولِه: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} سَبَبِيَّةٌ (¬2)، يعني أن اتخاذَهم العجلَ هو السببُ الذي ظَلَمُوا به أنفسَهم. وقد قَدَّمْنَا (¬3) أن (الاتخاذَ) مصدرُ اتَّخَذَ، وأن الظاهرَ أن أصلَه (افتعال) من (الأخذ)، إلا أن الهمزةَ التي هي في محلِّ فاءِ الكلمةِ أُبْدِلَتْ تاءً وأُدْغِمَتْ في تاءِ الافتعالِ، وهذا يُحْفَظُ ولا يُقَاسُ عليه، كما عَقَدَهُ في الخلاصةِ بقولِه (¬4): ذُو اللِّينِ فَا تَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلاَ ... وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوُ ائْتَكَلاَ و {بِاتِّخَاذِكُمُ} مصدرٌ مِنْ فِعْلٍ يَطْلُبُ مفعولين، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فَاعِلِهِ (¬5). والمفعولُ الأولُ الْعِجْلُ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ دائمًا في القرآنِ، وتقريرُ المعنى: باتخاذكم العجلَ إِلَهًا. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: ظلم) ص538 (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 361). (¬3) مضى عند تفسير الآية (51) من هذه السورة. (¬4) الخلاصة ص79، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 641). (¬5) انظر: الدر المصون (1/ 361).

وقد قَدَّمْنَا (¬1) أن هذا المفعولَ الثانيَ في (اتخاذهم العجلَ إِلَهًا) محذوفٌ في جميعِ القرآنِ، وأن بعضَ العلماءِ قال: النكتةُ في حذفِه دائمًا هي التنبيهُ على أنه لا ينبغي أن يُتَلَفَّظَ بأن عِجْلاً مُصْطَنَعًا من حُلِيٍّ إِلَهٌ. وقال جل وعلا: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} الفاءُ سببيةٌ، وقد تقررَ في فَنِّ الأصولِ في مسلكِ (الإيماءِ والتنبيهِ) (¬2) أن الفاءَ من حروفِ التعليلِ، وأن ما قَبْلَهَا علَّة لِمَا بَعْدَهَا، كقولهم: «سَهَا فَسَجَدَ»، أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، و «سرق فقُطِعَتْ يدُه» أي: لعلةِ سرقتِه، {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا} أي: لعلةِ ظُلْمِكُمْ. {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} قد قدَّمنا معنى التوبةِ واشتقاقَها في أولِ هذه السورةِ الكريمةِ. وقولُه: {إِلَى بَارِئِكُمْ} أي: خَالِقُكُمْ وَمُبْرِزُكُمْ من العدمِ إلى الوجودِ. وقد ذَكَرَ (جل وعلا) الخالقَ البارئَ من صفاتِه كما قال في أخرياتِ الحشرِ: {الخَالِقُ البَارِئُ} [الحشر: آية 24]، و (الخالقُ) اسمُ فاعلِ الخلقِ، والخلقُ في اللغةِ: التقديرُ. و (البارئُ) هو الذي يَفْرِي ما خَلَقَ؛ فمعنى خَلَقَ: قَدَّرَ، ومعنى بَرَأَ: أنفذَ ما قَدَّرَ، وأبرز من العدمِ إلى الوجودِ، والعربُ تُسَمِّي التقديرَ خَلْقًا، ومنه قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى (¬3): وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وبَعْـ ... ـضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 171) شرح الكوكب المنير (3/ 477) (4/ 125). (¬3) القرطبي (1/ 226)، الدر المصون (1/ 188).

وكثيرًا ما يُطْلَقُ اسمُ الخلقِ على الإبرازِ من العدمِ إلى الوجودِ. وعلى كُلِّ حالٍ فمعنى (البارئِ): المبدِعُ الذي يَبْرَأُ الأشياءَ، أي: يُبْرِزُهَا من العدمِ إلى الوجودِ. وفي الآيةِ سِرٌّ لطيفٌ (¬1)، وهو أن مَنْ أَبْرَزَ من العدمِ إلى الوجودِ هو الذي يستحقُّ أن يُعْبَدَ، ويُتابَ إليه من الذنوبِ؛ لأن عنوانَ استحقاقِ العبادةِ إنما هو الخلقُ، فَمَنْ يخلقُ ويُبْرِزُ من العدمِ إلى الوجودِ فهو المعبودُ الذي يُعْبَدُ وحدَه، ويُتَنَصَّل إليه من الذنوبِ، وَمَنْ لا يخلقُ فهو مربوبٌ محتاجٌ إلى خالقٍ يخلقُه؛ ولذا كَثُرَ في القرآنِ الإشارةُ إلى أن ضابطَ مَنْ يَسْتَحِقُّ العبادةَ هو الخالقُ الذي يُبْرِزُ من العدمِ إلى الوجودِ، كما تَقَدَّمَ في قولِه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: آية 21]، وكما في قولِه: {أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: آية 16]، وخالقُ كُلِّ شيءٍ هو المعبودُ وحدَه. وقال جل وعلا: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: آية 17]، الجوابُ: لاَ. وهذا معنى قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}. وقرأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} وعن أبي عمرٍو فيه روايتانِ عنه: قراءةُ: {إِلَى بَارِئْكُمْ} بإسكانِ الهمزةِ، وعنه قراءةٌ أُخْرَى رَوَاهَا عنه الدُّورِيُّ باختلاسِ الهمزةِ، واختلاسُ الهمزةِ: هو تخفيفُ حركتِها حتى يأتيَ ببعضِ الحركةِ ولا يأتي بها كَامِلَةً، وهذه الروايةُ الأخيرةُ روايةُ الدُّوريِّ عن أبي عمرٍو هي التي بها الأخذُ، والمشهورةُ عندَ القراءِ (¬2). وما زَعَمَهُ بعضُ علماءِ العربيةِ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 207)، تفسير أبي السعود (1/ 102). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص129.

من أن الروايةَ الأخرى عن أبي عمرٍو بإسكانِ الهمزةِ في {بارئْكم} أنها لَحْنٌ، وأن حركةَ الإعرابِ لا يجوزُ تَسْكِينُهَا، فهو غَلَطٌ (¬1)، ولا شكَّ أنها لغةٌ صحيحةٌ، وقراءةٌ ثابتةٌ عن أبي عمرٍو، وتخفيفُ الحركةِ بالإسكانِ لغةُ تميمٍ وبني أسدٍ، وَيَكْثُرُ في كلامِ العربِ إسكانُ الحركةِ للتخفيفِ، ولا سيما إذا توالت ثلاثُ حركاتٍ، كما في قراءةِ الجمهورِ {بَارِئِكُمْ} بثلاثِ حركاتٍ. ومن تسكينِ الحركةِ للتخفيفِ قولُ امرئِ القيسِ (¬2): فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ وعلى هذا التخفيفِ قراءةُ أبي عمرٍو {أَرْنَا الَّذَيْنِ} (¬3) [فصلت: آية 29]، وقراءةُ حفصٍ: {ويخش الله وَيَتَّقْهِ} (¬4) [النور: آية 52] فإن هذا السكونَ إنما هو تخفيفٌ؛ لأن المحلَّ ليس محلَّ سكونٍ، لأن الأصلَ (يتقيه) و {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} (¬5) [البقرة: آية 128]. ومنه قولُ الشاعرِ (¬6): أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا وقولُ الآخَرِ (¬7): ومَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعْهُ ... وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 361 - 365). (¬2) ديوان امرئ القيس ص134. (¬3) المبسوط ص394. (¬4) المصدر السابق ص320. (¬5) المصدر السابق ص 136، السبعة لابن مجاهد ص170. (¬6) البيت في تفسير الثعلبي (الكَشْف والبيان)، (1/ 275) ونَسَبَه للسُّدٍّي. (¬7) الخصائص (1/ 306)، المحتسب (1/ 361).

وقولُ الراجزِ (¬1): قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وَهَاتِ خُبْزَ البُرِّ أَوْ دَقِيقَا وقولُه: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كأنهم قالوا: بِمَ نتوبُ إلى بارئنا توبةً يقبلها منا؟ قيل لهم: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. أو الفاء للتعقيبِ (¬2)؛ لأن هذا القتلَ عَقِبَ الذنبِ هو الذي حَصَلَتْ به التوبةُ. وأصلُ القتلِ في لغةِ العربِ (¬3): إزهاقُ الروحِ بشرطِ أن يكونَ مِنْ فِعْلِ فاعلٍ، كالطعنِ، والضربِ، والخنقِ، وما جرى مَجْرَى ذلك، أما إزهاقُ الروحِ بلا سببٍ من ضربٍ أو نحوِه فهو موتٌ وهلاكٌ لا قتلٌ. وقال بعضُ العلماءِ: القتلُ إماتةُ الحركةِ. وقد تُطْلِقُ العربُ مادةَ القافِ والتاءِ واللامِ على غيرِ إزهاقِ الروحِ، فَتُطْلِقُهُ على التذليلِ، فالتقتيلُ: التذليلُ، وَتُطْلِقُ القتلَ أيضًا على إضعافِ الشدةِ، فَمِنْ إطلاقِ التقتيلِ على التذليلِ قولُ امرئِ القيسِ (¬4): وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلاَّ لِتَضْرِبِي ... بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ ¬

(¬1) البيت للعذافر الكندي، وقد ورد بروايات متعددة، انظر: المحتسب (1/ 361)، الخصائص (2/ 340). (¬2) انظر: البحر المحيط (1/ 208). (¬3) انظر: المفردات (مادة: قتل) ص655. (¬4) ديوان امرئ القيس ص114.

أي: مُذَلَّلِ. وقول زُهَيْرٍ (¬1): كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةَ سُحُقَا أي: مُذَلَّلَة. وكذلك يطلق القتلُ على كسرِ الشِّدةِ، ومنه قتلُ الخمرِ بالماءِ، أي: كسرُ شِدَّتِهَا بالماءِ، كما قال حسانُ (رضي اللَّهُ عنه) (¬2): إِنَّ الَّتِي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُهَا ... قُتِلَتْ قُتِلَتْ فَهَاتِهَا لَمْ تُقْتَلِ يعني بِقَتْلِهَا: إضعافُ شِدَّتِهَا بمزجها بالماءِ. وقولُه: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} {أَنْفُسَكُمْ} جمعُ قِلَّةٍ؛ لأن (الأَفْعُل) من صيغِ جموعِ القلةِ (¬3). وما يَزْعُمُهُ بعضُ النحويين والمفسرين من أن مثلَ هذه الآيةِ جِيءَ فيه بجمعِ القلةِ موضعَ جمعِ الكثرةِ فهو خلافُ التحقيقِ؛ لأن {أَنْفُسَكُمْ} أُضِيفَ إلى معرفةٍ، واسمُ الجنسِ مُفْرَدًا كان أو جَمْعًا إذا أضيفَ إلى معرفةٍ اكتسبَ العمومَ (¬4). والشيءُ الذي يعمُّ جميعَ الأفرادِ لا يُعْقَلُ أن يقالَ فيه: إنه جَمْعُ قِلَّةٍ؛ لأن جمعَ القلةِ لا يتعدى العشرةَ، وهو بعمومِه يشملُ آلافَ الأفرادِ، فالتحقيقُ ما حَرَّرَهُ علماءُ الأصولِ في مبحثِ التخصيصِ (¬5) من أن جموعَ القلةِ وجموعَ الكثرةِ لا يكونُ الفرقُ بينها ألبتةَ إلا في التنكيرِ، أما في التعريفِ فإن ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (7/ 34)، اللسان (مادة: سحق) (2/ 109)، الدر المصون (8/ 541). (¬2) ديوان حسان بن ثابت ص185، الخزانة (2/ 238). (¬3) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 391). (¬4) مضى عند تفسير الآية (47) من هذه السورة. (¬5) انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 84 - 93).

الأَلِفَ واللامَ تفيدُ العمومَ، والإضافةُ إلى المعارفِ تفيدُ العمومَ (¬1)، وما صار عَامًّا استحالَ أن يقالَ هو جمعُ قِلَّةٍ؛ لأن العمومَ يستغرقُ جميعَ الأفرادِ. هذا هو التحقيقُ. وهذا معنى قولِه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} في مرجعِ الإشارةِ في قولِه: {ذَلِكُمْ} وجهانِ للعلماءِ لا يُكَذِّبُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ (¬2)، أحدُهما: أنه راجعٌ إلى مصدرِ القتلِ المفهومِ من قولِه: {فَاقْتُلُوا} أي: ذلك القتلُ لأنفسكم خيرٌ لكم عند بارئكم، وقد قَرَّرَ علماءُ العربيةِ أن الفعلَ الصناعيَّ -أعني فعلَ الأمرِ، أو الفعلَ المضارعَ، أو الماضيَ- ينحلُّ عن مصدرٍ وزمنٍ، فالمصدرُ كامنٌ في مفهومِه إجماعًا (¬3). قالَ في الخلاصةِ (¬4): الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ ... مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ ونحنُ نرى القرآنَ يلاحظُ المصدرَ تارةً، ويلاحظُ الزمنَ تارةً. فَمِنْ أمثلةِ ملاحظتِه للمصدرِ: {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ} [المائدة: آية 8] أي: العدل الكامن في مفهومِ {اعْدِلُوا}، وتارةً يُلاَحِظُ الزمنَ، ومن أمثلةِ ملاحظتِه لزمانِ الفعلِ الصناعيِّ قولُه (جل وعلا) في (ق): {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق: آية 20]، فالإشارةُ في قولِه: {ذَلِكَ} لزمنِ النفخِ المفهومِ من بناءِ الفعلِ في قولِه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}. ¬

(¬1) المصدر السابق (3/ 108). (¬2) انظر: البحر المحيط لأبي حيان (1/ 209). (¬3) انظر: الكليات ص680. (¬4) الخلاصة ص29، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 364).

وقال بعضُ العلماءِ (¬1): الإشارةُ في قولِه: {ذَلِكُمْ} راجعةٌ إلى شيئين هُمَا: التوبةُ المفهومةُ من قولِه: {فَتُوبُوَا إِلَى بَارِئِكُمْ}، والقتلُ المفهومُ من قولِه: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وعلى هذا القولِ فالمعنى: ذلكم المذكورُ من التوبةِ والقتلِ. ونظيرُ هذا في القرآنِ - أي: بأن يكونَ لفظُ الإشارةِ مُفْرَدًا ومعناه مثنى - قوله (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: آية 68] أي: ذلك المذكور من الفارضِ والبكرِ. وهذا المعنى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ عبدِ اللَّهِ بنِ الزِّبَعْرَى (¬2): إِنَّ لِلشَّرِّ وَلِلْخَيْرِ مَدًى ... وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ أي: كلا ذلك المذكورِ. ولما قال رؤبةُ بن العجاجِ في رجزِه المشهورِ (¬3): فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فقيل له: ما معنى قولك: «كأنه» بالتذكيرِ، إن كنتَ تريدُ الخطوطَ لَزِمَ أن تقولَ: (كأنها)، وإن كنتَ تريدُ السوادَ والبلقَ لزمَ أن تقولَ: (كأنهما) فَلِمَ قلتَ: (كأنَّه)؟ قال: (كأنه) أي: ما ذُكِرَ مِنْ سوادٍ وَبَلَق. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 209). (¬2) انظر: البحر المحيط (1/ 209)، مغني اللبيب (1/ 172)، أوضح المسالك (2/ 203)، وصدره: «إن للخير وللشر مدى». (¬3) انظر: المحتسب (2/ 154).

وقوله: {خَيْرٌ لَكُمْ} الظاهرُ أنها هنا صيغةُ تفضيلٍ، وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ أن لفظةَ (خَيْرٍ وَشَرٍّ) حَذَفَتِ العربُ منها الهمزةَ في صيغةِ التفضيلِ لكثرةِ الاستعمالِ في الأغلبِ، كما عقده ابنُ مالكٍ في الكافيةِ بقوله (¬1): وَغَالِبًا أَغْنَاهُمْ خَيْرٌ وَشَرّ ... عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّ ووجهُ كونها هنا صيغةَ تفضيلٍ: أن هذا القتلَ بهذه التوبةِ يقطعُ حياتَهم الدنيويةَ، ولكنه يُكْسِبُهُمْ حياةً أخرويةً، وهذه الحياةُ الأخرويةُ خيرٌ من الحياةِ الدنيويةِ (¬2)، وهذا معنى قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي: ذلكم المذكورُ من توبتِكم وقتلِكم أنفسَكم خيرٌ لكم عند بارئِكم من عَدَمِهِ، أي: عند خالقكم ومبرزكم من العدمِ إلى الوجودِ. وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} معطوفٌ على محذوفٍ دَلَّ المقامُ عليه، أي: فَامْتَثَلْتُمْ ما أُمِرْتُمْ به، وقدمتم أنفسَكم للقتلِ فتابَ عليكم (¬3). واختلف العلماءُ في كيفيةِ هذا القتلِ الذي أُمِرُوا به (¬4)، قال بعضُ العلماءِ: كيفيةُ هذا القتلِ الذي أُمِرُوا به أن مَنْ لَمْ يَعْبُدِ العجلَ منهم أُمِرَ بأن يقتلَ مَنْ عَبَد العجلَ، وقيل: أُمِرُوا أن يقتلَ بعضُهم بعضًا، مَنْ عَبَدَ العجلَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ، وعلى هذا القولِ فَذَنْبُ مَنْ لَمْ يعبدِ العجلَ أنه لم يَنْهَهُمْ، ولم يُغَيِّرِ المنكرَ؛ لأن المنكرَ إذا وَقَعَ ولم يُغَيَّرْ عَمَّ العذابُ. ¬

(¬1) شرح الكافية الشافية (2/ 1121). (¬2) انظر: البحر المحيط (1/ 209). (¬3) المصدر السابق. (¬4) انظر: ابن جرير (2/ 73)، القرطبي (1/ 401)، ابن كثير (1/ 92).

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ: أن البريءَ منهم أُمِرَ بقتلِ الذي عبدَ العجلَ. ذكر المفسرون في قصتهم أنهم لَمَّا كان الرجلُ ينظرُ إلى قريبِه وأخيِه لا يقدرُ أن يتجاسرَ على قتلِه، فأنزلَ اللَّهُ ضبابًا حتى صاروا لا يرى بعضُهم بعضًا، فوضعوا فيهم السيفَ حتى قتلوا منهم نحو سبعين أَلْفًا، فدعا موسى وهارونُ رَبَّهُمَا، فَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ، ورفعَ القتلَ عن بقيَّتِهم (¬1). هذا معنى قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. قد أَوْضَحْنَا معنى: {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] بما أَغْنَى عن إعادتِه هنا. وقوله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: آية 55] أي: وَاذْكُرُوا أيضًا حين قلتُم لنبيِّ اللَّهِ موسى: {يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} أي: لن نُصَدِّقَكَ فيما ذكرتَ من أن اللَّهَ كَلَّمَكَ به. قال بعضُ العلماءِ (¬2): هم السبعونَ الذين اختارهم موسى، سَمِعُوا اللَّهَ يكلمُ موسى فقالوا: لن نُصَدِّقَكَ في أن هذا كلامُ اللَّهِ حتى نرى اللَّهَ جهرةً. والقاعدةُ باستقراءِ القرآنِ أن لفظَ (الإيمان) إذا عُدِّيَ باللامِ معناه عدمُ التصديقِ (¬3) (¬4) كقولِه: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا ¬

(¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) انظر: القرطبي (1/ 403). (¬3) أي: في سياق النفي كما في الآية، أما في سياق الإثبات فيكون معناه: التصديق. (¬4) فائدة: لمعرفة الفروقات بين الإيمان والتصديق انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية ص112 - 125، 274 - 281، 300، الإيمان الأوسط ص71 - 75، 178 - 179، شرح الطحاوية ص290 - 292، معارج القبول (2/ 21 - 25).

صَادِقِينَ} [يوسف: آية 17] أي: بِمُصَدِّقِنَا، وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 61] أي: يُصَدِّقُ المؤمنين، فالمعنَى على هذا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} لكَ أي: لن نُصَدِّقَكَ فيما ذَكَرْتَ مِنْ أن اللَّهَ كَلَّمَكَ وَأَمَرَكَ وَنَهَاكَ. وهذا - نَفْيُهُمْ للتصديقِ - غَيَّوْهُ بغايةٍ يتمادى إليها هي: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي: إلى رؤيتنا اللَّهَ جهرةً. وقوله: {جَهْرَةً} فيه وجهانِ من التفسيرِ (¬1)، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ {نَرَى} والمعنى: {نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي: عِيَانًا، وانتصابُه على أنه مصدرٌ مُؤَكِّدٌ لعامله مزيلٌ توهمَ أنها رؤيةُ منامٍ، أو رؤيةُ عِلْمٍ بالقلبِ، وقال بعضُ العلماءِ: هو يتعلقُ بقولِه: {قُلْتُمْ} أي: قلتُم جِهَارًا - من غيرِ مُوَارَبَةٍ - هذا القولُ العظيمُ الشنيعُ، وعلى هذا فأظهرُ القولين فيها أنه مصدرٌ مُنَكَّرٌ حال، أي قلتُم هذا القولَ جهرةً أي: في حالِ كونِكم جاهرين بهذا الأمرِ العظيمِ. وقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} الفاءُ سببيةٌ دَلَّتْ على أن أخذَ الصاعقةِ إياهم سببُه هذا الاجتراءُ العظيمُ، وامتناعُهم من تصديقِهم نَبِيَّهُمْ حتى يروا اللَّهَ عِيَانًا، كما قال جل وعلا: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: آية 153]. والصاعقةُ تُطْلَقُ إطلاقاتٍ (¬2): تُطْلَقُ على النارِ الْمُحْرِقَةِ، وعلى الصوتِ المزعجِ الْمُهْلِكِ، وأكثرُ إطلاقاتِها عليهما معًا، صوتٌ مزعجٌ مشتملٌ على نارٍ مهلكةٍ، وعلى كُلِّ حالٍ فعلى أنهم السبعون المذكورون في الأعرافِ فقد بَيَّنَ أن هذه الصاعقةَ رَجْفَةٌ، كما في ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 404)، الدر المصون (1/ 367). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 83)، المفردات (مادة: صعق) ص485، القرطبي (1/ 219).

قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: آية 155]. على كُلِّ حالٍ فهذه الصاعقةُ سواء قلنا: إنها نارٌ مُحْرِقَةٌ، أو صوتٌ مزعجٌ أَهْلَكَهُمْ، أو هما معًا صوتٌ مزعجٌ أَرْجَفَ بهم الأرضَ، فالتحقيقُ أنهم مَاتُوا، وأنه صَعْقُ موتٍ، كما صرَّحَ اللَّهُ بذلكَ في قولِه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: آية 56] أنهم ماتوا، أَمَاتَهُمُ اللَّهُ عقابًا لمقالتِهم هذه الشنعاءِ، ثم أحياهم بدعاءِ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - وعلى نبينا، خلافًا لِمَنْ زعم أن صَعْقَهُمْ هذا صَعْقُ غشيةٍ قائلاً: إن الصعقَ قد يُطْلَقُ على [غيرِ] (¬1) الموتِ، وذكروا منه قولَ جريرٍ يهجو الفرزدقَ (¬2): وهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ ... أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا فقوله: «أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ» ليس معناه أنه ماتَ. والتحقيقُ أنه صعقُ موتٍ، لأنه لا أحدَ أصدقُ من اللَّهِ، وَاللَّهُ صَرَّحَ بأنه موتٌ في قولِه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} البعثُ بعد الموتِ معناه الإحياءُ بعدَ الموتِ، أي: بعدَ أن مُتُّمْ. أحياهم اللَّهُ جل وعلا أحياءً. وعامةُ المفسرين يقولون: إِنَّ الزمنَ الذي مَكَثُوا في هذا الموتِ أو الغشيةِ - على القولِ الباطلِ عند مَنْ يزعمُ أنه صَعْقُ غشيةٍ لا صَعْقَ موتٍ، مدةُ هذا الصعقِ الَّذِي عَلَيْهِ التحقيقُ أنه موتُ - يومٍ وليلةٍ، كما عليه عامةُ الْمُفَسِّرِينَ (¬3) إلا مَنْ شَذَّ. ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 83). (¬3) انظر: البحر المحيط (1/ 211)، ونقل عليه الإجماع.

وقوله: {وَأَنتُمْ تَنْظُرُونَ} جملةٌ حاليةٌ، وأصلُ هذه الجملةِ فيها إشكالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: كيف ينظرونَ، وينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ مع إصابةِ الصاعقةِ إياهم؟ وللعلماءِ عن هذا أجوبةٌ (¬1): أظهرُها أن الصاعقةَ أَصَابَتْهُمْ غيرَ دُفْعَةٍ، بل تصيبُ البعضَ والبعضُ ينظرُ إلى إهلاكِه؛ لأن ظاهرَ القرآنِ يَجِبُ الحملُ عليه إلا بدليلٍ جازمٍ من كتابٍ وَسُنَّةٍ (¬2)، وظاهرُ القرآنِ أن هنالك نَظَرًا لوقوعِ هذه الصاعقةِ، أن الصاعقةَ وَقَعَتْ في حالِ نَظَرِهِمْ، وبهذا قال بعضُ العلماءِ، وهو الأظهرُ؛ لأنه يتمشى مع ظاهرِ القرآنِ، ولا مانعَ من أن تصيبَ الصاعقةُ بعضَهم والبعضُ الآخَرُ ينظرُ إليه، ثم تصيبُ بعضًا والبعضُ الآخَرُ ينظرُ إليه، وكذلك قال بعضُ العلماءِ (¬3): إن اللَّهَ أحياهم مُتَفَرِّقِينَ في غيرِ دفعةٍ واحدةٍ، يحيا بعضَهم، والبعضُ الآخَرُ ينظرُ إليه كيف يُحْيِيهِ اللَّهُ. وهذا معنى قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قَدْ قَدَّمْنَا معنى (لَعَلَّ) ومعنى (الشُّكْرِ) (¬4). وهذه الآيةُ الكريمةُ فيها دليلٌ جازمٌ على البعثِ؛ لأن بني إسرائيلَ هؤلاء، هذه الطائفةُ منهم التي أَمَاتَهَا اللَّهُ فأحياها دليلٌ قاطعٌ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 404)، البحر المحيط (2/ 212). (¬2) في هذه القاعدة انظر: ابن جرير (1/ 388، 471، 485، 550)، (2/ 15، 61، 180، 456، 457، 545، 560) الصواعق المرسلة (1/ 204)، قواعد التفسير (2/ 843 - 850). (¬3) انظر: البحر المحيط (1/ 212). (¬4) مضى عند تفسير الآية (52) من هذه السورة.

على أن اللَّهَ (جل وعلا) قادرٌ على إحياءِ الموتى. وقد ذَكَرَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ خمسةَ أمثلةٍ من إحيائِه للموتى في دارِ الدنيا (¬1) هذا أَوَّلُهَا. الموضعُ الثاني: قولُه في قتيلِ بني إسرائيلَ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة: آية 73] وقولُه: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} بَيَّنَ به أن إحياءَه قتيلَ بني إسرائيلَ في دارِ الدنيا دليلٌ على البعثِ وإحيائِه الموتى، وبعثه إياهم بعدَ أن صَارُوا عِظَامًا. الْمَوْضِعُ الثالثُ: قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: آية 243]. الموضعُ الرابعُ: قوله في عُزَيْرٍ وَحِمَارِهِ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة: آية 259]. وفي القراءةِ الأُخْرَى (¬2) {كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. الموضعُ الخامسُ: طيورُ إبراهيمَ المذكورُ في قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (1/ 112). (¬2) المبسوط لابن مهران ص151.

قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة ة آية 260] (¬1). ¬

(¬1) سئل الشيخ (رحمه الله): من أدلة إحياء الله الموتى في الدنيا: الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم، فقال الله: {مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: آية 243]، هل هذه الإماتة على حقيقتها أو هناك نوع آخر معنوي؟ فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله: الجواب: أنه هذه الإماتة إماتة حقيقية، وإحياء حقيقي؛ لأن القرآن لا يجوز صرفه عن ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة صحيحة، والقرينة - قرينة الآية - تدل على أنه موت حقيقي، ففي نفس الآية قرينة دالة على ذلك؛ لأن سبب نزول الآية تشجيع المؤمنين على القتال، وأن الله يريد أن يفهمهم أن من ردَّه الجبن عن لقاء العدو سيجد حتفه أمامه، كهذه الألوف من بني إسرائيل، لما وقع الطاعون وفرُّوا هاربين حذرا من الموت وجدوا الموت أمامهم، فأماتهم الله، ولهذا أتبع هذه الآية بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 244]، {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: فليس الحذر والجبن والتخلف عن القتال يضمن لكم الحياة، بل قد يفرُّ الإنسان من الموت فيجد الموت أمامه، كما وقع لهؤلاء الألوف، وكما قال تعالى: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب: آية 16] فقوله بعدها: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} قرينة على أنه موت حقيقي، وأن الحذر من الموت لا ينجي من الموت! ولقد أجاد من قال: في الجبن عار وفي الإقدام مَكْرُمَة ... والمرء في الجبن لا ينجو من القدر وسئل الشيخ (رحمه الله): هل يوجد دليل - هو نص - على أن الإماتة إذا كانت معنوية يكون معها قرينة ودليل على المراد؟ فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله: الموت إذا أُطلق في لغة العرب معروف أنه يصدُق بمفارقة الروح للجسد، ولا يجوز حمله على غير هذا المعنى المتبادر إلا لدليل، ولا شك أن القرآن جاء فيه إطلاق الموت على الموت المعنوي، =

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} [البقرة: الآيات 57 - 59]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} [البقرة: آية 57] لَمَّا كان بنو إسرائيلَ في التيهِ، ¬

= كالكفر، كقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: آية 122] أي: كان كافرًا فهديناه إلى الإيمان. وقد أجمع العلماء على أن قوله في الأنعام: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} [الأنعام: آية 36] أي: الكافرين يبعثهم الله، كما عليه عامة أهل التفسيرِ، إلا أن إطلاق الموت على هذا المعنى كإطلاقه على الكافر في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: آية 22] وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: آية 122]، هذا لا يُحمل عليه إلا بقرينة سياق. أما الآية: {خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ} [البقرة: آية 243] فالموت الذي حذروه لا شك أنه الموت المضاد للحياة القاطع لها. وقوله: {خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} من قال له الله: «مُت» مات بلا شك؛ لأن الله إذا قال للشيء «كُنْ» كان، وهم إنما خرجوا من ديارهم حذر الموت الحقيقي الذي يحذره كل إنسان، القاطع للحياة. فقوله: {خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} ثم قوله بعده: {فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: آية 243] أدلة واضحة على أنه موت حقيقي، وعليه عامة المفسرين، وهو الحق الذي لا شك فيه، فادعاء أنه موت معنوي أو غير هذا تلاعب بكتاب الله (جل وعلا)، وحمل له على غير معناه من غير دليل يجب الرجوع إليه. والله الموفق للصواب.

واشتكوا الحرَّ، دعا نبيُّ اللَّهِ موسى لهم، فَظَلَّلَ اللَّهُ عليهم الغمامَ. والغمامُ: اسمُ جنسٍ واحدُه غمامةٌ، وهو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ يُظِلُّهُمْ من الشمسِ (¬1). وفي قصتِهم أنه إذا كان في الليلِ ارتفعَ ليستضيئوا بضوءِ القمرِ. وصيغةُ الجمعِ في قولِه: {وَظَلَّلْنَا} للتعظيمِ. {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} لَمَّا اشتكوا في التيهِ من الجوعِ، دَعَا اللَّهَ نَبِيُّهُمْ، فأنزل اللَّهُ الْمَنَّ والسلوى. وأكثرُ علماءِ التفسيرِ (¬2) على أن الْمَنَّ: التَّرَّنْجَبِينُ، وهو شيءٌ ينزلُ كالندى ثم يجتَمع، أبيضُ، حُلْوٌ، يُشْبِهُ العسلَ الأبيضَ، هذا قولُ أكثرِ المفسرين في المرادِ بِالْمَنِّ. قال بعضُ العلماءِ (¬3): ولا يعارضُ هذا ما ثَبَتَ في الصحيحِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أنه قال: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» (¬4). ¬

(¬1) سئل الشيخ (رحمه الله) عن الفرق بين الغمام والسحاب؟ فأجاب بقوله: السحاب غير المطر بإجماع العلماء، فالسحاب هو الوعاء الذي فيه ماء المطر، ويسمى الغمام، إلا أن هذا الغمام الذي أنزل الله عليهم يقول العلماء فيه: إنه لم بكن وعاء كالسحاب، وإنما هو غمام أبيض رقيق يشبهه، أنزله الله عليهم، مع أن الغمام يطلق على السحاب. (¬2) انظر: القرطبي (1/ 406)، دفع إيهام الاضطراب ص25. (¬3) المصدر السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} حديث رقم: (4478)، (8/ 136)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الحديثين رقم: (4639، 5708)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب: فضل الكمأة، ومداواة العين بها، حديث رقم: (2049)، (3/ 1619).

قالوا: فمرادُه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «مِنَ الْمَنِّ» أي: من جنسِ ما مَنَّ اللَّهُ به على بني إسرائيلَ، حيث إنه طعامٌ يوجدُ - فضلاً من اللَّهِ - من غيرِ تَعَبٍ، وظاهرُ الحديثِ أن الكمأةَ مِنْ نَفْسِ مَا مَنَّ اللَّهُ به على بني إسرائيلَ في التِّيهِ. [2/ب] / وقوله: {وَالسَّلْوَى} جمهورُ المفسرين، أو عامةُ المفسرين على أن (السلوى): طَيْرٌ (¬1)، قال بعضُهم: هو السُّمَانَى، وقال بعضُهم: طائرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. وتفسيرُ مَنْ فَسَّرَ السلوى بأنه (العسلُ) غيرُ صوابٍ، وكذلك ادعاءُ أن السلوى لا يُطْلَقُ على العسلِ في لغةِ العربِ غيرُ صوابٍ. والتحقيقُ: أن السلوى يُطْلَقُ في لغةِ العربِ على العسلِ، ومنه قولُ الْهُذَلِيِّ (¬2): وَقَاسَمْتُهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لأَنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا والشورُ: استخراجُ العسلِ خاصَّة. لكن ليس المرادُ بالسلوى في الآيةِ العسلَ، وإنما المرادُ به طائرٌ، كما عليه عامةُ المفسرين، هو السُّمَانَى أو طائرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} مَحْكِيُّ قَوْلٍ محذوفٍ (¬3)، أي: وقلنا لهم: كُلُوا من طيباتِ ما رزقناكم كهذا الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وهما طَيِّبَانِ حِسًّا وَمَعْنًى؛ لِلَذَاذَةِ طعمِهما وَحِلِّيَتِهِمَا شَرْعًا؛ لأنهما مَنٌّ وَفَضْلٌ من اللَّهِ جل وعلا. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 407)، دفع إيهام الاضطراب ص25. (¬2) اللسان (مادة: سلا)، القرطبي (1/ 407)، الدر المصون (1/ 370). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 408)، الدر المصون (1/ 370).

{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} هنا محذوفٌ دلَّ المقامُ عليه (¬1)، والمعنى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: أَنْعَمْنَا عليهم هذه النعمَ فقابلوا نِعَمَنَا بعدمِ الشكرِ وارتكابِ المعاصي، {وَمَا ظَلَمُونَا} بتلك المعاصي التي قَابَلُوا بها نِعَمَنَا {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. وقال بعضُ العلماءِ: أُمِرُوا أن لا يدَّخِرُوا من المنِّ والسلوى فخالفوا أَمْرَ اللَّهِ وَادَّخَرُوا، وَمَا ظَلَمُونَا بذلك الادخارِ المنهيِّ عنه ولكن كانوا أنفسَهم يَظْلِمُونَ (¬2). والقولُ الأولُ أَشْمَلُ، وهو الصوابُ. وقوله (جل وعلا) في هذه الآيةِ: {وَمَا ظَلَمُونَا} فيه الدليلُ الواضحُ على أن نَفْيَ الفعلِ لا يستلزمُ إمكانَه (¬3)؛ لأن اللَّهَ نفى عنه أنهم ظَلَمُوهُ، ونفيُه (جل وعلا) عن نفسِه أنهم ظَلَمُوهُ لا يدلُّ على أنه يمكنُ أن يَظْلِمُوهُ، بل نفيُ الفعلِ لا يدلُّ على إمكانِه. وقولُه جل وعلا: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (لكن) واقعةٌ في مَوْقِعِهَا، والمعنى: أن هذا الظلمَ واقعٌ على أنفسِهم حيثُ عَرَّضُوهَا به لسخطِ اللَّهِ (جل وعلا) وعقابِه، فَضَرَرُ فِعْلِهِمْ عائدٌ إليهم، واللَّهُ (جل وعلا) لا تَضُرُّهُ معاصي خَلْقِهِ، ولا تَنْفَعُهُ طاعاتُهم {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: آية 6]. وقد بَيَّنَ القرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ أن اللَّهَ (جل وعلا) لا يتضررُ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 409)، الدر المصون (1/ 371). (¬2) انظر: البحر المحيط (1/ 215). (¬3) المصدر السابق.

بمعاصي خَلْقِهِ ولا ينتفعُ بطاعاتِهم، كقولِه: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: آية 8]، وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: آية 6]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: آية 15]، وفي صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّه: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» الحديث (¬1). هذا معنى قولِه: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: قَابَلُوا نِعَمَنَا بالمعاصي، وما ظلمونا بذلك ولكن ظَلَمُوا أنفسَهم بذلك. وقوله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: آية 58] أي: وَاذْكُرْ {وَإِذْ قُلْنَا} أي: حين قُلْنَا. وصيغةُ الجمعِ للتعظيمِ. {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الصوابُ الذي عليه أكثرُ الْمُفَسِّرِينَ أن هذه القريةَ هي (بيتُ الْمَقْدِسِ) (¬2). وقال جماعةٌ من العلماءِ: (هي أَرِيحَا) (¬3). وعن الضحاكِ أنها (الرَّمْلَةُ)، و (فلسطينُ)، و (تَدْمُر) ونحو ذلك (¬4). ¬

(¬1) مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم: (2577)، (4/ 1994). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 102)، القرطبي (1/ 409). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 103)، القرطبي (1/ 409). (¬4) انظر: القرطبي (1/ 409).

والتحقيقُ الذي عليه جمهورُ المفسرين أنها (بيتُ المقدسِ)، ويدلُّ عليه قولُه في المائدةِ: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: آية 21] هذه القرية. وَلَمَّا زالَ عنهم التيهُ، ومات موسى وهارونُ، وكان الخليفةُ بعدهما يوشعُ بنُ نون، وجاؤوا وجاهدوهم الجهادَ المعروفَ في التاريخِ (¬1)، الذي رَدَّ اللَّهُ فيه الشمسَ ليوشعَ بنِ نون، وفتحوا البلدَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ (جل وعلا) أن يَشْكُرُوا هذه النعمةَ بقولٍ يقولونه، وَفِعْلٍ يَفْعَلُونَهُ، فَبَدَّلُوا القولَ الذي قيل لهم بقولٍ غيرِه، وَبَدَّلُوا - أيضا- الفعلَ الذي قيل لهم بفعلٍ غيرِه، وتقريرُ المعنى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} فَكُلُوا من هذه القريةِ حيث شئتُم. (حيث) كلمةٌ تَدُلُّ على المكانِ كما تدلُّ (حين) على الزمانِ، رُبَّمَا ضُمِّنَتْ معنى الشرطِ، وهي تَعُمُّ، أي: في أَيِّ مكانٍ من أمكنةِ هذه القريةِ شِئْتُمْ (¬2). وقولُه: {رَغَدًا} نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ (¬3) أي: (أكلاً رَغَدًا) أي: وَاسِعًا لَذِيذًا لا عناءَ فيه ولا تعبَ. وهذا الذي أُبِيحَ لهم هنا الذي يظهرُ أنه يدخلُ فيه ما طَلَبُوهُ - أي: طلبوا نَبِيَّهُمْ موسى أن يدعوَ اللَّهَ لهم أن يُعْطِيَهُمْ إياه - الآتي في قوله: {لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: آية 61]، الظاهرُ أن اللَّهَ لَمَّا قال لهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: الآية 61] وفتحَ عليهم هذه القريةَ قال لهم: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: الآية 58] ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 323). (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 281 - 283)، اللسان (مادة: حيث) (1/ 765). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 410).

وأنه يدخل في ذلك ما طلبوه أيامَ التيهِ من البقولِ والفومِ والعدسِ والبصلِ وما ذُكِرَ معها. ثم إن الله (جل وعلا) أمرهم بفعلٍ وقولٍ شكرًا لنعمةِ الفتحِ، وهو قولُه: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي: ادْخُلُوهُ في حالِ كونِكم سُجَّدًا. والسُّجَّدُ جمع سَاجِدٍ، و (الفاعلُ) إذا كان وصفًا من جموعِ تكسيرِه المعروفةِ - جموعِ الكثرةِ - أن يُجمعَ على (فُعَّل)، كساجدٍ وسُجَّدٍ، وراكعٍ وَرُكَّعٍ (¬1). قال بعضُ العلماءِ: هو سجودٌ على الجبهةِ، والمعنى: إذا دخلوا البابَ سَجَدُوا. أي: ادْخُلُوهُ في حالِ كونِكم سُجَّدًا، أي: عندما تدخلونَ تتصفونَ بحالةِ السجودِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو سجودُ ركوعٍ وانحناءٍ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وشكرًا على نعمةِ الفتحِ (¬2). وقد يُفْهَمُ من هذا أن نعمةَ الفتحِ ينبغي أن تشكرَ بالسجودِ لِلَّهِ (جل وعلا). وَلَمَّا فتحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ صلى الضحى ثمان ركعاتٍ (¬3). وكان العلماءُ يَرَوْنَ أنها صلاةُ شكرٍ على ما أَنْعَمَ اللَّهُ عليه به من الفتحِ، واللَّهُ (تعالى) أعلمُ. وهذا معنى قولِه: {ادْخُلُوا الْبَابَ} البابُ: واحدُ الأبوابِ، وَأَلِفُهُ الكائنةُ في موضعِ العينِ مبدلةٌ من واوٍ، بدليلِ تصغيرِه ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 399). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 104). (¬3) البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب: صلاة الضحى في السفر، حديث رقم: (1176)، (3/ 51)، ومسلم في الصحيح، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى، حديث رقم: (336)، (1/ 497).

على (بُوَيْب)، وجمعُه على (أبوابٍ) (¬1). و {سُجَّدًا} حالٌ من الواوِ في {ادْخُلُوا} (¬2)، أي: حالَ كونِكم سُجَّدًا لِلَّهِ شكرًا على نعمةِ الفتحِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو سجودُ انحناءٍ وتواضعٍ. ومنهم مَنْ شَذَّ فَزَعَمَ أنه مطلقُ التواضعِ لِلَّهِ. والسجودُ وإن كان في لغةِ العربِ قد يُطْلَقُ على مطلقِ التواضعِ فليس هو المرادَ في الآيةِ. وقولُه: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} هذا القولُ الذي قيل لهم أيضًا. و {حِطَّةٌ} (فِعْلَةٌ) من (الحطِّ)، و (الحطُّ) معناه الوضعُ، وهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٌ، ومتعلَّقها محذوفٌ. وتقريرُ المعنى بإيضاح: (وَقُولُوا مَسْأَلَتُنَا لِرَبِّنَا حِطَّةٌ) (¬3) أي: غفرانٌ لذنوبنا وَحَطٌّ، أي: وَضْعٌ لأَوْزَارِنَا عن ظهورِنا، فهو لفظٌ عربيٌّ فصيحٌ. هذا هو القولُ الذي قيل لهم، أَمَرَهُمُ اللَّهُ أن يدخلوا سجودًا متواضعين، وأن يقولوا قولاً هو استغفارٌ وطلبٌ لِحَطِّ الذنوبِ. وهذا معنى قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}. وقوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} فيه ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات (¬4): قرأه نافعٌ الْمَدَنِيُّ: {يُغفَر لكم خطاياكم} بالياءِ المضمومةِ وفتحِ (الفاءِ) مَبْنِيًّا للمفعولِ. وإنما جازَ تذكيرُه والإتيانُ بالياءِ؛ لأن تأنيثَ الخطايا غيرُ حَقِيقِيٍّ، ولأنه فَصَلَ بينَه وبينَ الفعلِ فاصلٌ، وهو (لكم)، والفصلُ يُبِيحُ تركَ (التاءِ) (¬5) ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص56. (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 373). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 410)، الدر المصون (1/ 373). (¬4) انظر: المبسوط لابن مهران ص130. (¬5) انظر: حجة القراءات ص97، القرطبي (1/ 414)، الدر المصون (1/ 376).

كما تَقَدَّمَ (¬1). وقرأه الشاميُّ ابنُ عامرٍ: {تُغفَرْ لكم خطاياكم} بضمِّ (التاءِ) وفتحِ (الفاءِ) مَبْنِيًّا للمفعولِ. {خَطَاياَكُمْ} نائبٌ عن الفاعلِ في كلتا القراءتين. وقرأَه غيرُهما من القراءِ: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} {خَطَاياَكُمْ} في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به، و {نَّغْفِرْ} بكسرِ (الفاءِ) مَبْنِيًّا للفاعلِ. وقراءةُ الجمهورِ أشدُّ انسجامًا بالسياقِ؛ لأن اللَّهَ قال قَبْلَهَا: {قُلْنَا}، {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} وقال بَعْدَهَا: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بصيغةِ التعظيمِ، فقراءةُ الجمهورِ أشدُّ انسجامًا وملاءمةً مع السياقِ من قراءةِ نافعٍ وقراءةِ ابنِ عامرٍ (¬2). و (الخطايا): جمعُ الخطيئةِ، والخطيئةُ: الذنبُ العظيمُ (¬3) الذي يَسْتَحِقُّ صاحبُه التنكيلَ، أي: نغفر لكم ذنوبَكم العظيمةَ. ثم قال (جل وعلا): {وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ} للعلماءِ في تفسيرِ المحسنين هنا أقوالٌ (¬4)، والحقُّ الذي لا ينبغي العدولُ عنه أن لا يُعْدَلَ في تفسيرِها عن تفسيرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو قولُه لَمَّا سَأَلَهُ جبريلُ عن الإحسانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬5). يعني: الذين كانوا أشدَّ مراقبةً لله في أعمالهم سيزيدُهم اللَّهُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬2) انظر: حجة القراءات ص98، القرطبي (1/ 414). (¬3) انظر: المفردات (مادة: خطأ) ص288. (¬4) انظر: القرطبي (1/ 415)، البحر المحيط (1/ 218). (¬5) البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان .. حديث رقم: (50)، (1/ 114)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (4777)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: الإيمان والإسلام والإحسان .. حديث رقم: (9)، (1/ 39).

إيمانًا؛ لأن الإنسانَ كُلَّمَا ازدادَ تَقْوَاهُ لله (جل وعلا) زَادَهُ اللَّهُ، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: آية 17] معناه: وسنزيدُ المحسنين منكم، أي: الذين هم أشدُّ مراقبةً لِلَّهِ سنزيدهم من الخيرِ والإيمانِ. وقال بعضُ العلماءِ: سنزيدُ في جزاءِ أعمالِ المحسنين؛ لأن العملَ الذي يُرَاقِبُ صاحبُه اللَّهَ قد يكونُ ثوابُه أكثرَ ممن هو أقلُّ منه مُرَاقَبَةً. ثم قال جل وعلا: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: الآية 59] وفي الكلامِ حذفُ الواوِ وما عَطَفَتْ، وحذف المُتَعَلَّقِ. وتقريرُ المعنى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ بِقَوْلٍ غَيْرِهِ (¬1)، وبدَّلوا فِعْلاً غيرَ الذي قيلَ لهم بفعلٍ غيرِه. والقولُ الذي قيلَ لهم هو (حِطَّةٌ) فَبَدَّلُوهُ بقولٍ غيرِه، وقالوا: (حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ). وقال بعضُ العلماءِ: قالوا: (حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ) وثبتَ في الصحيحِ (¬2) أن القولَ الذي بدَّلوه: (حبةٌ في شعرةٍ). وفي بعضِ رواياتِ الحديثِ (حنطةٌ في شعيرةٍ) (¬3). وعلى كُلِّ حالٍ فقد بدَّلوا هذا القولَ الذي قيل لهم بغيرِه، كما بَدَّلُوا الفعلَ الذي قيل لهم بفعلٍ غيرِه؛ لأن الفعلَ الذي أُمِرُوا به هو دُخُولُهُمُ البابَ سُجَّدًا، فبدلوه بفعلٍ غيرِه، فَدَخَلُوا يزحفونَ على أسْتَاهِهِمْ، وهذا من كُفْرِهِمْ، عياذًا بالله. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 379). (¬2) البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام. حديث رقم: (2403)، (6/ 436)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الأحاديث رقم (4479، 4641)، ومسلم في الصحيح، كتاب التفسير، حديث رقم: (3015)، (4/ 2312). (¬3) انظر: الفتح (8/ 304).

وما قاله بعضُ العلماءِ (¬1): مِنْ أن هذه الآيةَ الكريمةَ يُؤْخَذُ منها عدمُ نقلِ الحديثِ بالمعنى؛ لأن اللَّهَ ذَمَّ مَنْ بَدَّلَ قولاً بقولٍ غيرِه، فيلزمُ أن يكونَ القولُ هو نفسُ مَا أُمِرَ به، لا قولاً غيرَه غيرُ صوابٍ. ويجابُ عنه: بأن القولَ المأمورَ به له حَالَتَانِ: إما أن يكونَ مُتَعَبَّدًا بلفظِه كـ (اللَّهُ أَكْبَرُ) في الصلاةِ، وما جرى مجرَى ذلك من العباداتِ القوليةِ، فمثلُ هذا لا يجوزُ تبديلُه، وَمَنْ بَدَّلَهُ يَلْحَقُهُ من الوعيدِ ما لَحِقَهُمْ بقدرِ ما ارْتُكِبَ في قولِه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ولا يجوزُ تبديلُه. أما الذي لم يُتَعَبَّدْ به بلفظِه فلا مانعَ من أن يُبَدَّلَ بلفظٍ يُؤَدِّي معناه إذا لم يكن هناك تفاوتٌ في المعنى. وجماهيرُ العلماءِ من المسلمين قديمًا وحديثًا على جوازِ نقلِ الحديثِ بالمعنى إذا كان ناقلُه بالمعنى عَارِفًا باللسانِ، مُتَبَحِّرًا فيه، لا تَخْفَى عليه النكتُ والتفاوتُ الذي يكونُ بين الألفاظِ، ونَقَلَهُ بحالةٍ ليست أَخْفَى من نصِّ الحديثِ، ولا أظهرَ من نصِّ الحديثِ، فلا يجوزُ نقلُه بلفظٍ أظهرَ منه. قال بعضُ العلماءِ: لأنه قد يعارضُه حديثٌ آخَرُ، والظهورُ من المرجحاتِ بين النصوص المتعارضةِ، فيظن المجتهدُ أن لفظَ الراويِ الظاهرَ الذي بدَّله بلفظٍ هو أقلُّ منه ظهورًا أنه من لفظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَيُرَجِّحُهُ بهذا الظهورِ على حديثٍ آخَرَ، فيكون استنادُ هذا الترجيحِ مستندًا لتصرفِ الراويِ، وهذا مِمَّا لا ينبغي. وعلى كُلِّ حالٍ فمسألةُ نقلِ الحديثِ بالمعنى مسألةٌ معروفةٌ في الأصولِ (¬2)، وفي علومِ الحديثِ (¬3)، مَنَعَهَا قومٌ واستدلوا ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 411 - 414). (¬2) انظر: البحر المحيط للزركشي (4/ 355 - 361)، شرح مختصر الروضة (2/ 244). (¬3) انظر: الكفاية للخطيب (198 - 211)، تدريب الراوي (2/ 98 - 102).

بالحديثِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما سَمِعَ الرجلَ قال: «آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ». ردَّ عليه وقالَ: «وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» (¬1). ولا شَكَّ أن اللفظَ الذي قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يقومُ مقامَه اللفظُ الذي تصرَّف فيه الرَّاوِي؛ لأن «وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» واضحٌ بليغٌ لا تكريرَ فيه؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد يكونُ مُرْسَلاً وغيرَ مُرْسَلٍ، والرسولُ مُرْسَلٌ قَطْعًا، فيكون «رَسُولُكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» تكرارٌ - يعني - لأن «الَّذِي أَرْسَلْتَ» معناهُ يُؤَدِّيهِ «رسولك» أما «نَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» فيكونُ كُلٌّ من الكلمتين عمدةً وتأسيسًا لا لغوًا، والحاصلُ أنه معروفٌ أن الجمهورَ من العلماءِ على جوازِ نقلِ الحديثِ بالمعنَى إذا وَثِقَ الراوي أنه لم يَزِدْ في معناهُ ولم يُنْقِصْ، وأن قومًا منعوا ذلك، وأن الآيةَ لا دليلَ فيها لذلك أَلْبتَّةَ؛ لأنهم إنما بَدَّلُوا قولاً مُنَافِيًا للقولِ الذي قيل لهم في المعنى، والتبديلُ إذا كان مُنَافِيًا في المعنى ممنوعٌ بإجماعِ المسلمين، وليس مما فيه الخلافُ، إنما الخلافُ في تبديلِ الألفاظِ مع بقاءِ المعنى، وهم بدَّلُوا اللفظَ بلفظٍ لا يؤدي معناه، أُمِرُوا بأن يقولوا (حِطَّةٌ)، فقالوا: (حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ)، أو (حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ)!! فالقولُ الذي بدَّلوا به ليس معناه يؤدي معنى القولِ الذي أُمِرُوا به، فكأنهم رفضوه بَتَاتًا، وَعَصَوُا اللَّهَ، وجاؤوا بما لم يُؤْمَرُوا به، لا لَفْظًا ولا معنًى. والفعلُ الذي بدَّلوا به: أنهم أُمِرُوا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب: فضل من بات على الوضوء، حديث رقم: (247)، (1/ 357)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (6311)، (6313)، (6315)، (7488)، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، باب: ما يقوله عند النوم وأخذ المضجع، حديث رقم: (2710)، (4/ 2081).

بالسجودِ فدخلوا يزحفونَ على أَسْتَاهِهِمْ. وقولُه: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الفاءُ سببيةٌ، وصيغةُ الجمعِ للتعظيمِ، أي: فبسببُ تبديلِهم القولَ الذي قيلَ لهم بقولٍ غيرِه، والفعلِ الذي قيل لهم بفعلٍ غيرِه أَنْزَلْنَا عليهم، وإنما أظهرَ في محلِّ الإضمارِ قال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يَقُلْ: (فأنزلنا عليهم) ليُسَجِّلَ عليهم موجبَ هذا العذابِ؛ وأنه الظلمُ؛ ولذا عَدَلَ عن الضميرِ إلى الظاهرِ قال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} لِيُبَيِّنَ أن هذا الرِّجْزَ مُنَزَّلٌ عليهم بسببِ ظُلْمِهِمْ، والضميرُ لا يُعْطِي هذا، وإن كان معناه يؤدي المعنى في الجملةِ (¬1). وهذا معنى قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ظَلَمُوا أنفسَهم بتبديلِ القولِ بقولٍ غيرِه، والفعلِ بفعلٍ غيرِه. {رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ} الرجزُ: العذابُ، وهذا العذابُ طاعونٌ أنزله اللَّهُ عليهم. قال العلماءُ: أَهْلَكَ اللَّهُ به منهم سَبْعِينَ أَلْفًا (¬2). وقولُه: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الباءُ) سببيةٌ، و (ما) مصدريةٌ، أي: بسببِ كونِهم فَاسِقِينَ (¬3). والفسقُ (¬4) في لغةِ العربِ الخروجُ، ومنه قولُه جل وعلا: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي: فخرجَ عن طاعةِ رَبِّهِ، والعربُ تقولُ: (فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ من قِشْرَتِهَا) إذا خَرَجَتْ، و (فَسَقَتِ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 381). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 116 - 118). (¬3) انظر: الدر المصون (1/ 382). (¬4) انظر: ابن جرير (1/ 409)، القرطبي (1/ 245)، المفردات (مادة: فسق) ص636، الدر المصون (1/ 234).

الْفَأْرَةُ) إذا خرجت من جُحْرِهَا للإفسادِ. وكونُ الفسقِ يُطْلَقُ على الخروجِ معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ (¬1): يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا فقوله: «فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا» أي: خوارجَ عن طريقِ القصدِ إلى طريقٍ آخَرَ. وقال بعضُ العلماءِ (¬2): إنما كَرَّرَ لفظَ (الظلمِ) في قولِه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لأن هذا الفعلَ الذي هو ظُلْمُهُمْ ذِكرُهُ له أهميةٌ في السياقِ؛ لأنهم ظَلَمُوا في الوقتِ الذي أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم، وَعَصَوْا أمرَ رَبِّهِمْ، ومن عادةِ العربِ إذا كان الأمرُ له أهميةٌ أن تُكَرِّرَهُ، سواء كانت أهميتُه من جهةِ خيرٍ، أو أهميتُه من جهةِ شَرٍّ (¬3)، كما قال الشاعرُ (¬4): لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِمًا (¬5) ... كَانَ الْغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ لأن الغرابَ لَمَّا نَعَبَ ببينَ أَحِبَّتِهِ صارَ الغرابُ له أهميةٌ عندَه فَكَرَّرَ لفظَه، ومنه قولُ الآخَرِ (¬6): لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا ¬

(¬1) انظر: الكتاب لسيبويه (1/ 94)، الخصائص (2/ 432)، القرطبي (1/ 245)، الدر المصون (1/ 234). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 416). (¬3) انظر: الإكسير ص215، بدائع الفوائد (2/ 47 - 48)، الإتقان (3/ 216). (¬4) البيت لجرير، انظر: تفسير ابن جرير (2/ 396)، القرطبي (1/ 416). (¬5) في القرطبي (دائبا) وهكذا في الدر المصون (1/ 381). (¬6) البيت لعدي بن زيد، وينسب - أيضا - لأمية بن أبي الصلت، انظر: الكتاب لسيبويه (1/ 62)، الخصائص (3/ 53)، الخزانة (1/ 183).

لَمَّا كان الموتُ له أهميةٌ في قطعِه الحياةَ كَرَّرَهُ، ونظائرُ هذا كثيرةٌ في كلامِ العربِ، وعلماءُ البلاغةِ يقولون إن إعادةَ قولِه: {ظَلَمُوا} في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ليُسَجَّلَ عليهم الذنبُ الذي بسببِه أنزلَ عليهم العذابَ (¬1) كما قَدَّمْنَا، والله (تعالى) أعلم. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: الآيات 67 - 71]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)} [البقرة: الآية 67] قَرَأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ: {هُزُؤا} بِضَمِّ الزايِ والهمزةِ، وقرأه حمزةُ: {هُزْءًا} وهي لغةُ تميمٍ، وأسدٍ، وقيسٍ، وقرأه حفصُ عن عاصمٍ {هُزُوًا} بإبدالِ الهمزةِ وَاوًا (¬2). ومعنى قولِه جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} كما ذَكَرَهُ المفسرون (¬3): أنه قُتِلَ في بَنِي إسرائيلَ قتيلٌ كما يأتي في قولِه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: آية 72]، ¬

(¬1) انظر: تفسير أبي السعود (1/ 105). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص130، الكشف (1/ 247). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 183 - 189)، ابن كثير (1/ 108).

يَزْعُمُونَ أن اسمَ القتيلِ (عاميل) (¬1). قال بعضُهم: كان له أقرباءُ فقراءُ، وهو غَنِيٌّ، فقتلوه لِيَرِثُوهُ. وقيل: كانت تحتَه امرأةٌ جميلةٌ فَقَتَلَهُ بعضُ الناسِ ليتزوجها. والأولُ أكثرُ قَائِلاً. وعلى كُلِّ حالٍ فالذين قَتَلُوا القتيلَ ادَّعَوْهُ على غيرِهم، وسألوا مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ موسى أن يسألَ اللَّهَ لهم لِيُبَيِّنَ لهم قاتلَ القتيلِ، فأمرهم اللَّهُ (جل وعلا) على لسانِ نَبِيِّهِ أن يذبحوا بقرةً ويضربوا القتيلَ بجزءٍ منها، فيحيا القتيلُ، ويخبرُهم بقاتلِه. وهذا معنى قوله: وَاذْكُرْ {إِذْ قَالَ} أي: حينَ قالَ {مُوسَى لِقَوْمِهِ} لَمَّا ادَّارَؤُوا في القتيلِ وَتَدَافَعُوهُ، كُلٌّ يدفعُ قَتْلَهُ عن نفسِه إلى غيرِه: {إِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي: وَتَضْرِبُوا القتيلَ ببعضِها فَيَحْيَا، فيخبركم عن قاتلِه. وقرأَ هذا الحرفَ جماهيرُ القراءِ: {يَأْمُرُكُمْ} بضمةٍ مشبعةٍ على القياسِ. وقرأه أبو عمرٍو: {يَأْمُرْكُمْ} بإسكانِ الراءِ، وزادَ عنه الدُّورِيُّ باختلاسِ الضمةِ (¬2)، وقد قَدَّمْنَا وجهَ ذلك في قراءتِه في {فَتُوبُوا إلى بارِئْكُمْ} (¬3). وقوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} المصدرُ المنسبكُ من (أن) وَصِلَتِهَا هو متعلَّقُ الأمرِ، وأَصلُ (أَمَرَ) تتعدَّى بالباءِ، والأصلُ: (يَأْمُرُكُمْ بأن تَذْبَحُوا بقرةً) أي: بذبحِ بقرةٍ، وَضَرْبِ القتيلِ بجزءٍ منها، كما عَدَّى الأمرَ بالباءِ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: آية 90]، فالمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها مجرورٌ بحرفٍ محذوفٍ (¬4)، وحَذْفُ هذا الحرفِ قياسٌ مُطَّرِدٌ كما عَقَدَهُ في الخلاصةِ بقولِه (¬5): ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 249)، مفحمات الأقران ص43. (¬2) انظر: القرطبي (1/ 444)، البحر المحيط (1/ 249). (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬4) انظر: البحر المحيط (1/ 249 - 250)، الدر المصون (1/ 417)، (4/ 656). (¬5) الخلاصة ص28، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 344).

وَعَدَّ لاَزِمًا بِحَرْفِ جَرٍّ ... وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ نَقْلاً وَفِي أَنَّ وَأَنْ يَطَّرِدُ ... مَعَ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا ولطالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: عرفنا أن المصدرَ المنسبكَ من (أَنْ) وَصِلَتِهَا المجرورَ بالباءِ المحذوفةِ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي: (يأمركم بأن تذبحوا بقرةً) فهذا المصدرُ بعد حذفِ الباءِ هل محلُّه الجرُّ بالباءِ المحذوفةِ، أو محلُّه النصبُ لَمَّا نُزِعَ الخافضُ؟ الجوابُ: أن جماهيرَ النحويين أنه في محلِّ نصبٍ (¬1)، وأنه لو عُطِفَ عليه لَنُصِبَ على اللغةِ الفصحى. وَخَالَفَ في هذا (الأخفشُ) فقال: إن محلَّه الجرُّ. واستدلَّ على أن محله الجرُّ بأنه سُمِعَ عن العربِ خفضُ المعطوفِ عليه في قولِ الشاعرِ (¬2): وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً ... إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ فَخَفَضَ قولَه: «وَلاَ دَيْنٍ» بالعطفِ على المصدرِ المنسبكِ من (أن) وصلتِها المجرورِ بحرفٍ محذوفٍ. وتقريرُ المعنى: «فَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً» أي: لكونها حبيبةً، ولا لِدَيْنٍ بها أنا طالبه. وأجازَ سيبويه الوجهين، أن محلَّه الكسرُ، والعطفُ عليه بالخفضِ، وأن محله النصبُ، والعطفُ عليه بالنصبِ (¬3). ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 444)، تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد ص511، الدر المصون (1/ 211 - 212، 417). (¬2) وهو الفرزدق، انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 29)، تخليص الشواهد ص511، الدر المصون (1/ 212). (¬3) انظر: الكتاب (3/ 28 - 30).

وأجابَ الجمهورُ عن البيتِ الذي أورده الأخفشُ بأن الخفضَ فيه مِنْ عَطْفِ التوهمِ، وعطفُ التوهمِ يَكْفِي فيه مطلقُ تَوَهُّمِ جوازِ الخفضِ. وعطفُ التوهمِ مسموعٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه قولُ زُهَيْرٍ (¬1): بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... وَلاَ سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا فالروايةُ نصبُ «مدْرِك» وخفضُ «سابقٍ»، والمخفوضُ معطوفٌ على المنصوبِ، وهو عطفُ تَوَهُّمٍ. أعني توهمَ (الباء) في خبرِ (ليس)؛ لأن (بَدَا لي أني لستُ مدركَ ما مَضَى) يجوزُ فيه: لستُ بِمُدْرِكٍ وَلاَ سَابِقٍ، كما قال (¬2): وَبَعْدَ (مَا) و (لَيْسَ) جَرَّ (الْبَا) الْخَبَرْ ... . . . . . . . . فَتَوَهَّمُوا (الباءَ) لمطلقِ الجوازِ، وَعَطَفُوا عليه خفضًا عطفَ تَوَهُّمٍ، ونظيرُه قولُ الآخَرِ (¬3): مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إِلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا بخفضِ (نَاعِبٍ) عَطْفًا على (مُصْلِحِينَ)، لِتَوَهُّمِ جوازِ دخولِ الباءِ. قالوا: مِنْ ذَلِكَ: وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً ... إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ. . . . . . . لِتَوَهُّمِ اللاَّمِ. ¬

(¬1) الكتاب لسيبويه (3/ 29)، تخليص الشواهد ص512. (¬2) هذا الشطر الأول من أحد أبيات الخلاصة، وشطره الثاني: . . . . . . . . . . . . . ... وبعد لا ونفي كان قد يُجر انظر: الخلاصة ص20، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 205). (¬3) البيت للفرزدق، وهو في الكتاب لسيبويه (3/ 29)، الخصائص (2/ 354).

وقولُه جل وعلا: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الذبحُ معروفٌ، و (بقرةً) قال بعضُ العلماءِ: تَاؤُهُ للتأنيثِ، وذَكَرُهُ يُسَمَّى ثَوْرًا (¬1). وقال بعضُ العلماءِ: هي تاءُ الوحدةِ، والبقرُ يُطْلَقُ على ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ. وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ بظاهرِها على أنهم لو ذَبَحُوا أيَّ بقرةٍ لأَجْزَأَتْ، ولكنهم شَدَّدُوا على أنفسِهم فَشَدَّدَ اللَّهُ عليهم. وقوله جل وعلا: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي: قال قومُ موسى لموسى لَمَّا قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي: مَهْزُوءًا منا من قِبَلِكَ بأن نقول لكَ: ادْعُ لنا رَبَّكَ يبين لنا قاتلَ القتيلِ، فَتُجِيبَنَا بقولكَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فهذا الجوابُ غيرُ مطابقٍ للسؤالِ، فكأنك تستهزئُ منا، وتسخرُ منا، ولم يفهموا أن المرادَ بذبحِ البقرةِ أنه يُضْرَبُ القتيلُ ببعضٍ منها فَيَحْيَا - بإذنِ الله - ويخبرُهم بقاتلِه، فقال نبيُّ اللَّهِ موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أعتصمُ وأتمنعُ بِرَبِّي أن أكونَ من الجاهلين. الجاهلونَ: جمعُ الجاهلِ، وهو الوصفُ من (جهِل). وأحسنُ تعاريفِ الجهلِ عندَ علماءِ الأصولِ: أنه هو انتفاءُ الْعِلْمِ بما مِنْ شأنِه أن يُقْصَدَ لِيُعْلَمَ، وللعلماءِ فيه أقوالٌ متعددةٌ مَحَلُّ ذِكْرِهَا في فَنِّ الأُصُولِ (¬2). والمعنى: أن نبيَّ اللَّهِ موسى استعاذَ بربه (جل وعلا) من أن يكونَ معدودًا، وفي عدادِ الجاهلين (¬3). والآيةُ تدلُّ على أن مَنْ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 445)، الدر المصون (1/ 417). (¬2) انظر: حاشية البناني (1/ 161)، شرح الكوكب (1/ 77)، الكليات ص350، نثر الورود (1/ 74). (¬3) انظر: تفسير السعدي (1/ 53).

يستهزئُ من الناسِ أنه جاهلٌ (¬1)؛ لأن نبيَّ اللَّهِ موسى استعاذَ بِاللَّهِ من أن يكونَ اتخذهم هزؤا كما قالوا؛ وَلِذَا قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فلما عَلِمُوا أن الأمرَ من اللَّهِ جدٌّ، وأن الجوابَ مطابقٌ لسؤالهم، وأن المرادَ بذبحِ البقرةِ أن يُضْرَبَ القتيلُ بجزءٍ منها فَيَحْيَا، فيخبرهم بقاتلِه تَعَنَّتُوا وَأَكْثَرُوا الأسئلةَ فشدَّدُوا على أنفسِهم، فشدَّدَ اللَّهُ عليهم، قالوا مُخَاطِبِينَ نَبِيَّهُمْ: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: آية 68]، أي: اسْأَلْ لنا رَبَّكَ {يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} المرادُ بقوله: {مَا هِيَ} هنا يَعْنُونَ: ما سِنُّها (¬2)؛ لأن السؤالَ يوضِّحُه الجوابُ، حيثُ قال لهم نبيُّ اللَّهِ موسى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ} {إِنَّهَا} أي: البقرةُ التي سَأَلْتُمْ عن سِنِّهَا {بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} {عَوَانٌ}: خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ (¬3). والمعنى: لا فارضٌ ولا بكرٌ، هي عوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ. الفارضُ: الْمُسِنَّةُ التي طَعَنَتْ في السَّنِّ، وكلُّ طاعنٍ في السِّنِّ تُسَمِّيهِ العربُ (فارضًا)، وكلُّ قديمٍ تُسَمِّيهِ (فَارِضًا) (¬4)، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ خفاف بن نُدبة السُّلَميِّ ¬

(¬1) سئل الشيخ (رحمه الله) عن الفرق بين الجهل الذي هو ضد العلم، والجهل الذي هو ضد الحلم. فأجاب بقوله: «مما يبين ذلك المناظرة التي عقدها بعض الأدباء بين الحلم والعقل حيث قال: حلم الحليم وعقل العاقل اختلفا ... من ذا الذي منهما قد أكمل الشرفا فالعقل قال أنا أحرزت غايته ... لأنني بي رب الناس قد عُرِفا فأفصح الحلم إفصاحا وقال له ... بأينا الله في تنزيله اتصفا فبان للعقل أن الحلم سيده ... فقبَّل العقل رأس الحلم وانصرفا» ا. هـ قلت: يصلح هذا الجواب في المُفَاضَلة بين الحِلْم والعقل. أما الفرق بين نوعي الجهل المُشَار إليهما في السؤال فيتضح بما قاله ابن فارس (رحمه الله) في المقاييس: ((الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما: خلاف العلم، والآخر: الخِفَّة وخِلاف الطمأنينة)) ا. هـ. المقاييس، كتاب الجيم، باب الجيم والهاء وما يثلثهما. ص228. (¬2) انظر: أضواء البيان (1/ 78). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 449)، الدر المصون (1/ 421). (¬4) انظر: القرطبي (1/ 448)، الدر المصون (1/ 420).

يهجو العباسَ بنَ مِرْدَاس، وقيل: القائلُ علقمةُ بنُ عوفٍ (¬1): لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ جَارَكَ فَارِضًا ... تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ وَلَمْ تُعْطِهِ بِكْرًا فَيَرْضَى سَمِينَةً ... فَكَيْفَ تُجَازَى بِالْمَوَدَّةِ وَالْفَضْلِ ومن إطلاقِ العربِ الفارضِ على ما تَقَادَمَ عهدُه قولُ الراجزِ (¬2): يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضٍ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ يعني: بالضغنِ الفارضِ: أنه تقادمَ عهدُه وَطَالَتْ سِنُّهُ. قال بعضُ العلماءِ: ومنه قولُ الآخَرِ (¬3): شَيَّبَ أَصْدَاغِي فَرَأْسِي أَبْيَضُ ... مَحَافِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ قال: أي طَاعِنُونَ في السِّنِّ، والأظهرُ أن المرادَ بقولِ هذا الراجزِ «فُرَّضٌ» أي: ضخامُ الأبدانِ؛ لأن العربَ تُطْلِقُ الفارضَ أيضًا على الضخمِ عظيمِ البدنِ. وقوله: {وَلاَ بِكْرٌ} البكرُ: هي التي لم يَفْتَحِلْهَا الفَحْلُ لِصِغَرِهَا (¬4). وقال بعضُ العلماءِ: البكرُ: التي وَلَدَتْ مَرَّةً (¬5)، ولكن ¬

(¬1) القرطبي (1/ 448)، اللسان (مادة: فرض) (2/ 1078)، البحر المحيط (1/ 248)، الدر المصون (1/ 420). (¬2) انظر: الطبري (2/ 190)، اللسان (مادة: فرض) (2/ 1078)، القرطبي (1/ 448). (¬3) انظر: اللسان (مادة: فرض) (2/ 1078)، القرطبي (1/ 448)، الدر المصون (1/ 420). (¬4) انظر: القرطبي (1/ 449)، الدر المصون (1/ 421). (¬5) نفس المصدرين، أدب الكاتب ص159.

المرادَ هنا التي لم يَفْتَحِلْهَا الفحلُ لِصِغَرِ سِنِّهَا، والمعنى: ليست هذه البقرةُ التي أُمِرْتُمْ بِذَبْحِهَا بطاعنةٍ في السِّنِّ فارضٍ، ولا بصغيرةٍ جِدًّا لم يَفْتَحِلْهَا الفحلُ، بل هي {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} العوانُ: النَّصَفُ، أي: لا طاعنةٌ في السِّنِّ ولا بكرٌ، أي: لا صغيرةٌ جِدًّا بل هي: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} والعوانُ: النَّصَفُ، وأصلُ النَّصفِ: التي انْتَصَفَ عُمُرها (¬1)، وهي وسطٌ في السِّنِّ، ليست بصغيرةٍ جِدًّا، ولا كبيرةٍ جِدًّا، وَكُلُّ متوسطةٍ في السنِّ نَصَفٌ تُسَمِّيهَا العربُ (عَوَانًا)، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الطِّرِمَّاحِ قال (¬2): حَصَانُ مَوَاضِعِ النَّقَبِ الأَعَالِي ... نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُونِ يعني بالأبكارِ جمعَ بِكْرٍ، الصغيرةُ التي لم تَتَزَوَّجْ. والعُونُ: جمعُ عوانٍ، وهي النَّصَفُ، والنَّصَفُ التي انتصفَ عُمْرُهَا، فهي في وسطِ سِنِّهَا، ليست بكبيرةٍ جِدًّا، ولا بصغيرةٍ جِدًّا، ومنه قولُ كعبِ بنِ زهيرٍ (¬3): شَدَّ النَّهارُ ذِرَاعَا عَيْطَلٍ نَصَفٍ ... قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ وَفَسَّرَ بعضُ الأدباءِ في شعرِه (النَّصَفَ) بالتي انتصفَ عُمْرُهَا، حيث قال (¬4): ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 449)، الدر المصون (1/ 421). (¬2) انظر: الكشاف (1/ 74)، تفسير أبي السعود (1/ 111)، الدر المصون (1/ 421). (¬3) شرح قصيدة كعب بن زهير لابن هشام ص229. (¬4) عيون الأخبار (4/ 43)، والبيت من شواهد ابن هشام في شرحه لقصيدة كعب بن زهير ص230.

وَإِنْ أَتَوْكَ وَقَالُوا إِنَّهَا نَصَفٌ ... فَإِنَّ أَطْيَبَ نِصْفَيْهَا الَّذِي ذَهَبَا وقوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} فيه سؤالٌ معروفٌ وهو أن (ذلك) إشارةٌ إلى مفردٍ مُذَكَّرٍ، كما قالَ في الخلاصةِ (¬1): بِذَا لِمُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ أَشِرْ ... . . . . . . . . . . . . و (بين) لا تضافُ للمفردِ إلا إذا أُرِيدَتْ أَجْزَاؤُهُ. والجوابُ (¬2): أن ذلك وإن كان لَفْظُهُ مفردًا فمعناه مثنًى؛ لأن الإشارةَ راجعةٌ إلى ما ذُكِرَ من الفارضِ والبِكرِ، أي بينَ ذلك المذكورِ من فارضٍ وبِكْرٍ؛ لأن العوانَ أصغرُ من الفارضِ وأكبرُ من البِكرِ، ونظيرُ هذا من كلامِ العربِ قولُ ابنِ الزِّبَعْرَى كما تَقَدَّمَ (¬3): إِنَّ لِلشَّرِّ وَلِلْخَيْرِ مَدًى ... وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ أي: وَكِلاَ ذلك المذكورِ من شَرٍّ وخيرٍ؛ لأن (كِلاَ) لا تضافُ إلا لِمُثَنَّى لفظًا أو معنًى، وهذا معنى قولِه: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الأصلُ (ما تؤمرون به) فحُذِفَ الباء، فَوصل الفعلُ إلى الضميرِ فَحُذِفَ (¬4). وهذا الذي يُؤْمَرُونَ به هو ذبحُ البقرةِ ليضربوا القتيلَ بجزءٍ منها فَيَحْيَا. وهذا معنى قولِه: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} فزادوا تَعَنُّتًا وسؤالاً وتشديدًا فَشَدَّدَ اللَّهُ عليهم أَيْضًا. [3/أ] / قال: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: ¬

(¬1) الخلاصة ص14. وهذا هو الشطر الأول في البيت. (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 422)، مغني اللبيب (1/ 172). (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من هذه السورة. (¬4) انظر: الدر المصون (1/ 423).

الآية 69] {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ} (يبين) في هذه المواضعِ مجزومٌ بجزاءِ الأَمْرِ، والفعلُ المضارعُ المجزومُ في جزاءِ الطلبِ يقولُ الْمُحَقِّقُونَ من علماءِ العربيةِ: إنه مجزومٌ بشرطٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عليه الأَمْرُ (¬1). وتقريرُ المعنى: إِنْ تَدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ. {يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} اللونُ هو إحدى الكيفياتِ التي يكونُ عليها الجرمُ، كالسوادِ والبياضِ. يعني ما اللونُ الذي هي مُتَلَوِّنَةٌ به؟ {قَالَ إِنَّهُ} أي: رَبُّكُمْ جل وعلا: {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} أي: مُتَّصِفَةٌ بلونِ الصُّفْرَةِ، والتحقيقُ أن المرادَ بالصفرةِ هنا الصفرةُ المعروفةُ، وما ذهبَ إليه بعضُ أهلِ العلمِ من أن المرادَ بالصفرةِ (السوادُ) مردودٌ من وَجْهَيْنِ (¬2): أحدُهما: أنه أَكَّدَ الصفرةَ بقولِه: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} والفقوعُ لا يُوصَفُ به إلا الصُّفرةُ الخالصةُ تَمَامًا. [ثَانِيهِما] (¬3): أن العربَ لا تُطْلِقُ الصفرةَ وتريدُ السوادَ إلا في الإبلِ خاصةً دونَ غيرها، كما يأتي في تفسيرِ قولِه: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33)} [المرسلات: الآيتان 32 - 33] الجمالةُ جمعُ الْجَمَلِ. والمرادُ بـ (الصفر) هناك (السودُ)؛ لأن شَرَرَ نارِ الآخرةِ أسودُ (¬4)، والعربُ إنما تُطْلِقُ الصفرةَ على السوادِ في الإبلِ خاصةً دونَ غيرِها من سائرِ الحيواناتِ، ومن إطلاقِ العربِ الصُّفرةَ ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 301)، الدر المصون (5/ 362). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 199 - 201)، القرطبي (1/ 450)، الدر المصون (1/ 425). (¬3) في الأصل: ثانية. (¬4) انظر: القرطبي (19/ 164).

على سوادِ الإبلِ قولُ الأَعْشَى (¬1): تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ يعني بقولِه: (صُفْرٌ): سُودٌ. فالتحقيقُ أن المرادَ بالصفرةِ هنا: هي الصفرةُ المعروفةُ. وقولُه: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} هذا نعتٌ سَبَبِيٌّ. والتحقيقُ في إعرابِ {لَوْنُهَا} أنه فاعلٌ لقولِه: {فَاقِعٌ} وأن {فَاقِعٌ} نعتٌ سَبَبِيٌّ لقولِه: {بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} و {لَوْنُهَا} فاعلٌ به لقولِه: {فَاقِعٌ}. وقال بعضُ العلماءِ: (لونُها) مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، و (فاقعٌ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وجملةُ المبتدأِ والخبرُ في محلِّ النعتِ. أي: بقرةٌ صفراءُ لونُها فاقعٌ. أي: صفرتُها خالصةٌ جِدًّا (¬2). وقولُه: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي: يَدْخُلُ السرورُ على مَنْ نظرَ إليها لكمالِ حُسْنِهَا. ذكروا في قصتِها أن الشمسَ تتوضحُ في جلدِها لشدةِ حُسْنِهَا (¬3). وعادةً إذا نظرَ الإنسانُ إلى شيءٍ جميلٍ سَرَّهُ النظرُ إلى ذلك الشيءِ الجميلِ؛ ولذا قال جل وعلا: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}. وقولُه: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: الآية 70]. ¬

(¬1) ابن جرير (2/ 200)، القرطبي (1/ 450)، (19/ 164)، اللسان (مادة: خشب) (1/ 833)، (مادة: صفر) (2/ 448). (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 424). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 202).

فالسؤالُ الأولُ عن سِنِّهَا، وهل هي كبيرةٌ، أو صغيرةٌ، أو متوسطةٌ؟ والسؤالُ الثاني عن لَوْنِهَا، وقد تَقَدَّمَ الجوابُ فيهما. والسؤالُ الثالثُ عن صِفَتِهَا، هل هي مُذَلَّلَةٌ مُرَوَّضَةٌ عَامِلَةٌ، أو هي صعبةٌ غَيْرُ مُرَوَّضَةٍ؟ وهل فيها لونٌ يُخَالِفُ لونَ جِلْدِهَا الآخر؟ ولذا أجابَه بما يأتي: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} يَعْنُونَ [أن] هذه الأوصافَ كثيرةٌ في البقرِ، فَيَكْثُرُ في البقرِ: الصفرةُ، والفقوعُ، والتوسطُ في السِّنِّ، فلم تتميز لنا هذه البقرةُ من غيرِها من البقرِ للاشتراكِ في الصفاتِ. وأفردَ الضميرَ في {تَشَابَهَ} وذلك يَدُلُّ على أن أسماءَ الأجناسِ يجوزُ تذكيرُها وتأنيثُها (¬1). وقراءةُ الجمهورِ هنا {تَشَابَهَ} هو. أي: البقرُ، بصيغةِ الماضي. وتذكيرُ الضميرِ لأن (البقرَ) جنسٌ يجوزُ تذكيرُها وتأنيثُها. وفي بعضِ القراءاتِ: {تَشَّابَهُ علينا} وَأَصْلُهُ: تتشابه هي، أي: البقرُ، وَأَدْغَمَ التاءَ في التاءِ، وهذه قراءةٌ شاذةٌ (¬2). و (البقرُ) يجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه، وهو اسمُ جنسٍ يقال فيه: باقر، وبيقور، وفيه لغاتٌ غيرُ ذلك (¬3). ومِن إطلاقِه على (البيقور) قولُ الشاعرِ (¬4): ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 426). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 451)، البحر المحيط (1/ 253). (¬3) انظر: الحيوان للجاحظ (4/ 468)، القرطبي (1/ 445، 451). (¬4) البيت للورل الطائي، انظر: الحيوان للجاحظ (4/ 468)، اللسان (مادة: بقر) (1/ 242).

أَجَاعِلٌ أَنْتَ بَيْقُورًا مُسَلَّعَةً ... ذَرِيعَةً لَكَ بَيْنَ اللَّهِ وَالْمَطَرِ قيل: سُمِّيَ البقرُ بقرًا لأنه يَبْقُرُ الأرضَ، يعني بحيث يَشُقُّهَا للحرثِ (¬1). وهذا معنى قولِه: {إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}. {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} مفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، وتقريرُ المعنى: وإنا لمهتدونَ إن شاءَ اللَّهُ هِدَايَتَنَا (¬2). فَفَصَلَ بين اسمِ (إن) وخبرِها، وحذف مفعولَ (إن شاء) لدلالةِ المقامِ عليه. وتقريرُ المعنى: وإنا لمهتدون إلى نفسِ البقرةِ المطلوبةِ إن شاءَ اللَّهُ هِدَايَتَنَا إليها. ذُكِرَ عن ابنِ عباسٍ أنه قال: لو لم يَقُولُوا إن شاءَ اللَّهُ لَمَا اهْتَدَوْا إليها أَبَدًا (¬3). {قَالَ إِنَّهُ} أي: رَبُّكُمْ جل وعلا {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 417). (¬2) المصدر السابق (1/ 427). (¬3) ورد في هذا المعنى عدة روايات، منها المرفوع ومنها الموقوف؛ أما الروايات المرفوعة - وكلها ضعيفة - فعلى النحو التالي: 1 - من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند ابن أبي حاتم في التفسير (1/ 141)، وأورده ابن كثير في التفسير (1/ 111) من طريق ابن أبي حاتم، ومن طريق ابن مردويه. ثم قال: ((وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة ... )) ا. هـ. وذكره السيوطي في الدر (1/ 77)، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه. وقال الألباني في الضعيفة (5555)، (12/ 94) وقال: ((منكر)). 2 - عن عكرمة - مرسلا - عند سعيد بن منصور (2/ 565)، وأورده السيوطي في الدر (1/ 77)، والشوكاني في التفسير (1/ 162) وعزواه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن المنذر. 3 - عن ابن جريج - مرسلا - عند ابن جرير (2/ 205)، وأورده السيوطي في الدر (1/ 77)، والشوكاني في التفسير (1/ 162) وعزواه لابن جرير. 4 - عن قتادة - مرسلا - عند ابن جرير (2/ 206)، وأورده السيوطي في الدر (1/ 77)، والشوكاني في التفسير (1/ 162) وعزواه لابن جرير. وأما الروايات الموقوفة فهي: 1 - عن عكرمة، عند ابن جرير (2/ 204 - 205). 2 - عن أبي العالية، عند ابن جرير (2/ 205 - 206). وقال الشوكاني بعد أن أورد حديث أبي هريرة - السابق -: «وأخرج نحوه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس» ا. هـ (فتح القدير 1/ 162). قلت: ولم أقف على هذه الجملة - من كلام ابن عباس - في الكتابين المذكورين، فالله أعلم.

[البقرة: الآية 71] الذلولُ: هي التي ذُلِّلَتْ بالرياضةِ حتى صَارَ يُعْمَلُ عليها، يُحْرَثُ عليها وَيُسْتَقَى. تقول العربُ مثلاً: هذه دابةٌ ذلولٌ، بَيِّنَةُ الذِّل (بالكسرِ)، ورجلٌ ذَلِيلٌ، بَيِّنُ الذُّل (بالضم) (¬1). {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} أي: لم تُذَلَّلْ بالرياضةِ، بل هي صعبةٌ مُتَوَحِّشَةٌ. وقولُه: {لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ} يعني لم تُذَلَّلْ، ليست بذلولٍ مُرَوَّضَةٍ، ولا تثيرُ الأرضَ، أي: لا يُحْرَثُ عليها؛ لأن البقرَ تُثَارُ عليها الأرضُ للحرثِ، وهذه البقرةُ لَمْ تُذَلَّلْ بالرياضةِ، ولم تُثِرْ أرضَ الحرثِ لصعوبتِها وَتَوَحُّشِهَا، فليست مُرَوَّضَةً. {تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ} يعني: ليست مِمَّا يُحْرَثُ عليه، ولا يُسْتَنَى عليه لِسَقْيِ الزرعِ؛ لأنها صعبةٌ مُتَوَحِّشَةٌ. وهذا هو التحقيقُ: أن {تُثِيرُ} و {تَسْقِي} كلها معطوفاتٌ على النفيِ فهي منفيةٌ (¬2). والمعنى: {لاَّ ذَلُولٌ} ليست مذللةً مُرَوَّضَةً، وليست {تُثِيرُ الأَرْضَ} للحرثِ و {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ} أيضًا؛ لأنها صعبةٌ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 429). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 452)، الدر المصون (1/ 428).

متوحشةٌ. خلافًا لمن زَعَمَ أن {تُثِيرُ الأَرْضَ} مُؤْتَنَفٌ. والذين قالوا: «تثير الأرض» (¬1) يردُّ قولهم أنه قال: {لاَّ ذَلُولٌ} والمروضةُ للحرثِ ذَلُولٌ. وأجابَ بعضُهم (¬2): أن المرادَ بـ {تُثِيرُ الأَرْضَ} أي: تُثِيرُهَا بشدةِ وطءِ أظلافِها لنشاطِها وقوتِها. وهذا خلافُ الظاهرِ، بل معنى الآيةِ: أن من صفاتِ هذه البقرةِ أنها غيرُ مُرَوَّضَةٍ، وغيرُ مُذَلَّلَةٍ، فليست تثيرُ الأرضَ؛ لأنها لم تُذَلَّلْ لذلك، ولا تَسْقِي الحرثَ، ولا يُسْتَنَى عليها؛ لأنها لم تُرَضْ، ولم تُذَلَّلْ لذلك. وهذا هو معنى الآيةِ. وقولُه: {مُسَلَّمَةٌ} أي: مِنْ جميعِ العيوبِ، ليس فيها عَرَجٌ، ولا عَوَرٌ، ولا كَسْرُ قَرْنٍ، ولا أَيُّ عَيْبٍ. أي: مُسَلَّمَةٌ من جميعِ العيوبِ. وقولُه: {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} وَزْنُ الشِيَةِ: (عِلَة)، وأصلُ مَادَّتِهَا: (وَشَى)، ومعروفٌ أن المثالَ - أعني واويَّ الفاءِ - يَطَّرِدُ حذفُ فائِه فى المصدرِ - مثلاً - إذا كان على (عِلَة) (¬3)، وكذلك في المضارعِ والأمرِ، كما عقده في الخلاصةِ بقولِه (¬4): فَا أَمْرٍ اوْ مُضَارِعٍ مِنْ كَوَعَدْ ... احْذِفْ وَفِي كَعِدَةٍ ذَاكَ اطَّرَدْ فأصلُ الشِّيَةِ: (وشْية) مِنَ الوَشْيِ، والوَشْيُ: هو - مثلاً - أن ¬

(¬1) أي: على الإثبات. (¬2) انظر: القرطبي (1/ 453). (¬3) انظر: القرطبي (1/ 454)، الدر المصون (1/ 431). (¬4) الخلاصة ص79، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 653).

يكونَ في الشيءِ لونانِ مختلفانِ، فكلُّ - مثلاً - شيءٍ فيه لونانِ مختلفانِ تقولُ العربُ: فيه وَشْيٌ (¬1). واذا كان - مثلاً - حمارُ الوحشِ أو الثورُ فيه خطوطٌ - يعني تُخَالِفُ لونَه في أَرْجُلَهُ - يقولون له: مَوْشِي. أي: فيه وَشْيٌ. ومن هذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): كَأَنَّ رَحْلِي وقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي (¬3) الْجَلِيلِ (¬4) عَلَى مُسْتَأْنَسٍ وَحَدِ مِنْ وَحْشِ وجْرَةَ (¬5) مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي الْمَصِيرِ (¬6) كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ (مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ) يعني [أن] (¬7) فيها وَشْيًا. أي: خطوطًا تُخَالِفُ لونَه، فمعنى {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} أي: لا وشيَ من خطوطٍ مخالفةٍ للونها، بل لونُها كُلُّهُ أصفرُ فاقعٌ على وتيرةٍ واحدةٍ، حتى قال بعضُ العلماءِ (¬8): إن أظلافَها وقرونَها صفرٌ. وهذا معنى قوله: {لاَّ شِيَةَ فِيهَا}. {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} الأَلِفُ واللامُ زائدتانِ لزومًا في {الآنَ} (¬9). وهي يُعَبَّرُ عنها بالوقتِ الحاضرِ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 454)، الدر المصون (1/ 431). (¬2) ديوان النابغة الذبياني ص10 - 11. (¬3) في الديوان: (يوم). (¬4) واد قرب مكة، وقد جاوزه البنيان في هذا الوقت. (¬5) وجرة: اسم مكان معروف بين مكة والبصرة، بينها وبين مكة نحو أربعين ميلا، ليس فيها منزل، فهي مرتع للوحش. انظر: معجم البلدان (5/ 362). (¬6) أي: ضامر البطن. (¬7) في الأصل: أنها. (¬8) انظر: ما نقله ابن جرير عن بعض السلف في هذا المعنى في التفسير (2/ 199 - 200). (¬9) انظر: الدر المصون (1/ 433).

هو مَبْنِيٌّ على الفتحِ؛ لأنه خُولِفَتْ به نظائرُه. وعلى كُلِّ حَالٍ فالمرادُ بـ {الآنَ}: الوقتُ الحاضرُ، في هذا الوقتِ الحاضرِ {جِئْتَ} - يعني في صفاتِ هذه البقرةِ المطلوبةِ - {بِالْحَقِّ} ويتعينُ هنا حذفُ الصفةِ؛ لأنه لو لم تُقَدَّرِ الصفةُ لكانوا كُفَّارًا؛ لأنهم لو قالوا: لم يَأْتِ بالحقِّ إلا في هذا الوقتِ، فَقَبْلَ هذا الوقتِ لم يكن آتِيًا بالحقِّ!! كانوا مُكَذِّبِينَ لنبيٍّ كريمٍ، وَمَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا كَرِيمًا فهو كافرٌ؛ ولذلك يتعينُ تقديرُ النعتِ هنا (¬1)، والمعنى: جئتَ بالحقِّ الذي لا يتركُ في هذه البقرةِ لَبْسًا لإيضاحِها بصفاتِها الكاشفةِ تَمَامًا، وقد تقرر في علمِ العربيةِ: أَنَّ حَذْفَ الصفةِ إذا دَلَّ المقامُ عليه موجودٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ (¬2)، فَمِنْ أمثلتِه في القرآنِ {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: آية 79] حُذِفَ نَعْتُهَا، أي: كُلَّ سفينةٍ صحيحةٍ؛ إِذْ لو كان يأخذُ المعيبةَ لَمَا كان في خرقِ الْخَضِرِ للسفينةِ فائدةٌ، ولَمَا قَالَ: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: آية 79]. قال بعضُ العلماءِ (¬3): ومنه {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء: آية 58] قالوا: حُذِفَ وَصْفُهُ. أي: وإن من قريةٍ ظالمةٍ. بدليلِ قولِه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: آية 59]. وَمِنْ شَوَاهِدِ حذفِ النعتِ في لغةِ العربِ قولُ الشاعرِ، وهو المرقَّشُ الأكبرُ (¬4): ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 257). (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 153). أضواء البيان (3/ 600)، (4/ 180). (¬3) راجع الهامش السابق. (¬4) ضياء السالك (3/ 18)، المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (1/ 227).

وَرُبَّ أَسِيلَةِ الخَدَّيْنِ بِكْرٍ مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وجِيدُ أي: لها فرعٌ فَاحِمٌ، وجيدٌ طويلٌ. ومن هذا القبيلِ قولُ عبيدِ بنِ الأبرصِ الأسديِّ (¬1): مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ وَمَنْ فِعْلُهُ فِعْلٌ ومَنْ نَائِلُهُ نَائِلُ يعني: مَنْ قولُه قولٌ فَصْلٌ، ومن فِعْلُهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ، ومن نائله نائلٌ جزلٌ. فحذفَ النعوتَ لدلالةِ المقامِ عليها، وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ، وإن ذَكَرَ ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ أن حذفَ النعتِ قليلٌ حيث قال (¬2): وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ وهذا معنى قولِه: {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: جئتَ في الوقتِ الأخيرِ بالحقِّ الذي لا يتركُ في هذه البقرةِ لَبْسًا، ولا يتركها تَتَشَابَهُ مع غيرِها من البقرِ؛ لأنه مُيِّزَتْ بصفاتِها الكاشفةِ التي تفصلها وتميزها عن غيرها. ويؤخذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ جوازُ السَّلَمِ في الحيواناتِ (¬3)، وأنها تنضبط بصفاتِها الكاشفةِ حتى تصيرَ كالمرئيةِ؛ لأن هؤلاء الناسَ لا يوجدُ ناسٌ أَشَدُّ منهم تَعَنُّتًا، فاضطرتهم الصفاتُ الكاشفةُ إلى أن اعترفوا بأن هذه البقرةَ ظَهَرَتْ صفاتُها وَتَمَيَّزَتْ عن غيرِها، ويدلُّ لهذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ ¬

(¬1) ديوان عبيد بن الأبرص ص100. (¬2) الخلاصة ص45، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 74). (¬3) انظر: الأم للشافعي (3/ 117)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 26)، الإنصاف (5/ 85).

إِلَيْهَا» (¬1). فَبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أن الصفاتِ الكاشفةَ تقومُ مقامَ النظرِ؛ لأنها تُعَيِّنُ الموصوفَ. وهذا دليلٌ واضحٌ لِمَا ذَهَبَ إليه جمهورُ العلماءِ من السلفِ في الحيواناتِ إذا بُيِّنَتْ صفاتُها؛ لأن الوصفَ يَجْعَلُهَا كالمرئيةِ ويضبُطها. خلافًا للإمامِ أبي حنيفةَ (رحمه الله) الذي مَنَعَ السَّلَمَ في الحيواناتِ بناءً على أنها لا تنضبطُ صفاتُها (¬2). ومما يؤيد السَّلَمَ فيها - خلافًا للإمامِ أبِي حنيفةَ (رحمه الله): ما ثَبَتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَرَدَّ رباعيا (¬3)، وكما دَلَّتْ عليه هذه النصوصُ. قال بعضُ العلماءِ: ويؤخذُ من هذه القصةِ أيضًا جوازُ النسخِ قبلَ التمكنِ من الفعلِ؛ لأن قولَه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} نكرةٌ في سياقِ الإثباتِ، والنكرةُ في سياقِ الإثباتِ إطلاقٌ، فلو ذَبَحُوا أَيَّ بقرةٍ كانت لَصَدَقَتْ باسمِ تلك البقرةِ المطلقةِ، وَلأَجْزَأَتْهُمْ، ولَمَّا شَدَّدُوا نَسَخَ اللَّهُ الاكتفاءَ ببقرةٍ مجردةٍ أَيَّةً كانت إلى بقرةٍ موصوفةٍ بصفاتٍ منعوتةٍ بنعوتٍ كثيرةٍ شديدةٍ. ومن هنا قال بعضُ العلماءِ (¬4): هذه من الأدلةِ على النسخِ قبلَ التمكنِ من الفعلِ. وقال بعضُ العلماءِ: هذا لا يصلحُ مِثَالاً للنسخِ قبلَ التمكنِ من الفعلِ؛ لأن هذا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، حديث رقم: (5240 - 5241)، (9/ 338)، بلفظ: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها». واللفظ الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) وهو لفظ الحديث عند الطبراني في الكبير، رقم: (10247)، (10/ 173) مع اختلاف يسير. (¬2) انظر: بدائع الصنائع (5/ 209)، القرطبي (1/ 453). (¬3) مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه، حديث رقم: (1600)، (3/ 1224). (¬4) انظر: القرطبي (1/ 448)، البحر المحيط (1/ 258).

حُكْمٌ زِيدَتْ فيه صفاتٌ، ولم ينسخ ذبحُ البقرةِ بالكليةِ، بل بَقِيَ مُحْكَمًا، وإنما زِيدَتْ في البقرةِ صفاتٌ. وأجابَ القائلون بأنه نسخٌ قالوا: زيادةُ هذه الصفاتِ تَضَمَّنَ نَسْخًا في الجملةِ؛ لأن مضمونَ النصِّ الأولِ يدلُّ على أن كلَّ بقرةٍ ذُبِحَتْ كائنةً ما كانت ولو مجردةً عن تلك الصفاتِ [أَجْزَأَتْ] (¬1)، فَوَصْفُهَا بالصفاتِ الآتيةِ الجديدةِ نَسَخَ الاجْتِزَاءَ بأي بقرةٍ كانت. وعلى كل حالٍ فهذه مسألةٌ أصوليةٌ هي- مثلاً -: هل يجوزُ النسخُ قبلَ التمكنِ من الفعلِ أو لا يجوزُ (¬2)؟ والجماهيرُ من العلماءِ على أنه جائزٌ وواقعٌ، ومن أمثلتِه: نَسْخُ خمسٍ وأربعينَ صلاةً ليلةَ الإسراءِ بعدَ أن فُرِضَتْ خمسين، ونُسِخَ منها خمسٌ [وأربعون] (¬3)، ثم أُقِرَّتْ خَمْسًا. ومن أمثلتِه قولُه (جل وعلا) في إبراهيمَ فى قصةِ ذبحِ إبراهيمَ لولدِه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: آية 107] لأنه أَمَرَهُ أن يذبحَ ولدَه، ونسخَ عنه هذا الأمرَ قبلَ التمكنِ من الفعلِ. والتحقيقُ أن هذا جائزٌ وواقعٌ. ولا شكَّ أن فيه سؤالاً معروفًا، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: إذا كان الحكمُ يُشْرَعُ وَيُنْسَخُ قبلَ العملِ فما الحكمةُ في تشريعِه الأولِ إذا كان يُنْسَخُ قبلَ أن يُعْمَلَ به؟ الجوابُ: أن التحقيقَ أن حِكْمَةِ التشريعِ منقسمةٌ قسمةً ثنائيةً، ¬

(¬1) في الأصل: لأجزأت. (¬2) انظر: المستصفى (1/ 112)، البحر المحيط للزركشي (4/ 81)، شرح الكوكب (3/ 531)، شرح مختصر الروضة (2/ 281، 309)، مجموع الفتاوى (14/ 146، 147)، نثر الورود (1/ 348)، المذكرة ص73. (¬3) في الأصل: وأربعين.

وهي دائرةٌ بين الامتثالِ والابتلاءِ (¬1). فإذا نُسِخَ الحكمُ بعدَ العملِ به فحكمتُه الامتثالُ وقد امْتُثِلَ، وإذا نُسِخَ قبلَ العملِ به فحكمةُ تشريعِه الأولِ الابتلاءُ، وهو اختبارُ الخلقِ هل يتهيؤون للامتثالِ؟ وقد وقعَ الابتلاءُ، وقد نصَّ اللَّهُ (جل وعلا) في قصةِ إبراهيمَ على أن الحكمةَ في أمرِه بذبحِ ولدِه - مع أن اللَّهَ يعلمُ أنه لا يُمكِّنُه من ذلك - هو الابتلاءُ هل يتهيأُ ويطيعُ رَبَّهُ في أن يذبحَ ثمرةَ قلبِه؟ كما قال جل وعلا: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: آية 103]، يعني: تلَّه للجبينِ لينفذَ فيه الذبحَ حتى - مثلا - قَالَ له رَبُّهُ: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: الآيتان 104 - 105] وقال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: آية 107] ثم إن اللَّهَ نصَّ على أن الحكمةَ الابتلاءُ في قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ} [الصافات: آية 106]. وقولُه جل وعلا: {فَذَبَحُوهَا} أي: فذبحوا البقرةَ، وضربوه بجزءٍ منها فَحَيِيَ، وأخبرَهم بقاتلِه كما يأتي. وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يعني: ما كادُوا يذبحونها إلا بعدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ؛ لِمَا جاؤوا به دونَ ذَبْحِهَا من السؤالاتِ والتعنتاتِ. وقولُ بعضِ العلماءِ: إنَّ (كَادَ) إذا كانت في الإثباتِ دَلَّتْ على النفيِ، وإذا كانت في النفيِ دَلَّتْ على الإثباتِ، وأن هذا يُلْغَزُ به: هو في الواقعِ غيرُ صحيحٍ (¬2)، وَأَنَّ (كَادَ) فعلُ مقاربةٍ تدلُّ على مقاربةِ ¬

(¬1) انظر: نثر الورود (1/ 348)، المذكرة (73 - 74). (¬2) في الكلام على (كاد) راجع: تفسير ابن جرير (18/ 151)، تهذيب اللغة للأزهري (10/ 329)، شرح الكافية لابن مالك (1/ 466)، المساعد على تسهيل الفوائد (1/ 303)، البحر المحيط (1/ 258)، الكليات ص749، القاموس (مادة: الكود) ص403، الدر المصون (1/ 176)، الأشباه والنظائر للسيوطي (3/ 26)، التحربر والتنوير (1/ 557 - 559)، تفسير سورة النور للشيخ (رحمه الله) ص155، النحو الوافي (1/ 618).

حصولِ الخبرِ للمبتدأِ، وإذا نُفيت نُفيت المقاربةُ. يعني: ما قَارَبُوا أن يذبحوا. يعني في زمنِ التعنتِ والأسئلةِ، حتى انقضى زمنُ التعنتِ والأسئلةِ، في آخِرِ الأمرِ ذَبَحُوهَا، والقرينةُ على أن هذا المرادَ: أنه صرَّح بأنهم ذَبَحُوهَا {فَذَبَحُوهَا} يعني: في الآونةِ الأخيرةِ {وَمَا كَادُوا} قبلَ ذلك في الأزمانِ التي قَبْلَهُ {يَفْعَلُونَ} لِتَعَنُّتِهِمْ وكثرةِ سؤالاتهم وعدمِ امتثالِهم. وهذا معنى قولِه: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}. {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} [البقرة: الآيات 72 - 74]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: آية 72] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} معطوفٌ على قولِه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة ة الآية 67] وقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} هو أولُ القصةِ في الوقوعِ، ولكنه متأخرٌ في النزولِ (¬1) وترتيبِ القرآنِ على الظاهرِ، أي: وَاذْكُرُوا {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} هو القتيلُ المتقدِّمُ، قيل اسمُه: (عاميل) (¬2). والعربُ تعبرُ عن الشخصِ بالنفسِ، تقول: (قَتَلَ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 445، 455)، البحر المحيط (1/ 258 - 259). (¬2) مضى عند تفسبر الآية (67) من سورة البقرة.

نَفْسًا) أي: شخصًا ذَكَرًا كان أو أنثى، والظاهرُ أن هذا القتيلَ ذَكَرٌ، بدليلِ تذكيرِ الضميرِ العائدِ عليه في قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: الآية 73] أي: القتيل الذي فيه النزاعُ (¬1). وهنا سؤالٌ، وهو أن يقالَ: ما المسوغُ لإسنادِ قَتْلِ هذا القتيلِ إلى جميعِهم في قولِه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ}؟ الجوابُ (¬2): أن القرآنَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ومن أساليبِ اللغةِ العربيةِ إسنادُ الأمرِ إلى جميعِ القبيلةِ إذا فَعَلَهُ واحدٌ منها. ونظيرُه في القرآنِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ (¬3): {وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: آية 191]؛ لأنه ليس من المعقولِ أَمْرُ مَنْ قُتِلَ بالفعلِ أن يقتلَ قاتلَه، ولكن: فإن قتلوا بعضَكم فليقتلهم البعضُ الآخَرُ. فأسندَ الفعلَ إلى الجميعِ وهو واقعٌ من البعضِ. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في لغةِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬4): فَإِنْ تَقْتُلُونَا عِنْدَ (¬5) حَرَّةِ وَاقِمٍ ... فَلَسْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ يعني: تَقْتُلُوا بَعْضَنَا. وقولُه: أصلُه: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أصلُه: فَتَدَارَأْتُمْ فِيهَا. وهو (تَفَاعُل) ¬

(¬1) انظر: الأضواء (1/ 24، 79). (¬2) انظر: البحر المحيط (1/ 259)، الدر المصون (1/ 434) وانظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (33) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص144. (¬4) المحتسب (2/ 128). (¬5) في المحتسب: (يوم).

من الدَّرْءِ، بمعنى الدفعِ، والقاعدةُ المقررةُ في علمِ العربيةِ: أن (تفاعلَ) و (تفعَّلَ) - مثلاً - إذا أريد فيهما الإدغامُ اسْتُجْلِبَتْ همزةُ الوصلِ لِيُمْكِنَ النطقُ بالساكنِ؛ إذ العربُ لا تبتدئُ بساكنٍ. أصلُه: (تدارأتم) فأريدَ إدغامُ تاءِ التفَاعُلِ في الدالِ التي هي فاءُ الكلمةِ فَسُكِّنَ لأَجْلِ الإدغامِ، فاستُجْلِبتْ همزةُ الوصلِ توصُّلاً للنطقِ بالساكنِ (¬1). وهذا كثيرٌ في القرآنِ في (تفاعل) و (تفعَّل) نحو {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: آية 38] أصلُه: تَثَاقَلْتُمْ {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} [النمل: آية 47] أصلُه: تَطَيَّرْنَا {وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا} [يونس: آية 24] أصلُه: تَزَيَّنَتْ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ. ونظيرُ هذا الإدغامِ في (تَفَاعَل) ونحوها من كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬2): تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا الْتَذَّهَا (¬3) خَصِرَا عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلُ يَعْنِي: إذا ما تَتَابَعَ القُبَلُ. ومعنى {فَادَّارَأْتُمْ}: تدارأتم من الدرءِ، والدرءُ معناه: الدفعُ. والمعنى: تَدَافَعْتُمْ قَتْلَ القتيلِ. أي: كُلٌّ منكم يدفعُ قتلَه عن نفسِه إلى صاحبِه، بأن يقولَ هؤلاء: قَتَلَهُ غَيْرُنَا، أنتم قَتَلْتُمُوهُ، وهؤلاء يقولون: بل أنتم الذين قَتَلْتُمُوهُ، ونحن لم نَقْتُلْهُ. واختلافُ العلماءِ فيه (¬4) - بمعنى قولِ بعضِهم: {فَادَّارَأْتُمْ} أي: تَنَازَعْتُمْ. وقولُ بعضِهم: {فَادَّارَأْتُمْ} اختلفتم - كُلُّهُ عائدٌ إلى مَا ذَكَرْنَا. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 434). (¬2) انظر: ابن جرير (2/ 224)، القرطبي (8/ 140). (¬3) في ابن جرير: (استافها). (¬4) انظر: ابن جرير (2/ 222، 224).

وقوله: {فِيهَا} أَنَّثَ الضميرَ، يعني: رَاجِعًا إلى النفسِ. يعني: (فيها) أي: في النفسِ المقتولةِ، كُلُّكُمْ يدفعُ قتلَها عن نفسِه إلى صاحبِه. {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} {مُخْرِجٌ} اسمُ فاعلِ (أَخْرَجَ) أي: مُظْهِرٌ ما كنتم تكتمون. و (ما) موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه منصوبٌ بفعلٍ، على حَدِّ قولِه في الخلاصةِ (¬1): ........................ وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمُ كَثِيرٌ مُنْجَلِي فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ اوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ وتقريرُه: (واللَّهُ مخرجٌ الذي كنتم تكتمونَه من أمرِ القتيلِ) وكذلك أَسْنَدَ الكتمَ هنا للجميعِ، والكاتمُ هو القاتلُ. وقال بعضُ العلماءِ: القَتَلَةُ جماعةٌ تَمَالَؤُوا على عَمِّهِمْ فَقَتَلُوهُ لِيَرِثُوهُ. ومعنى قولِه: {مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي: مُخْرِجٌ الذي كنتُم تكتمونَه. أَسْنَدَ الكتمَ إلى الكلِّ وأرادَ بعضَهم، سواءً قُلْنَا: إن القاتلَ واحدٌ أو جماعةٌ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ وهو: أن (ما) مفعولٌ به لاسمِ الفاعلِ الذي هو (مُخْرِجٌ)، والقصةُ - التي هي هذه - قصةٌ ماضيةٌ قبلَ نزولِ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنها واقعةٌ في زمنِ موسى، فهي في وقتِ نزولِ الآيةِ ماضيةٌ، مَضَتْ لها أزمانٌ كثيرةٌ، والمقررُ في علمِ العربيةِ: أن اسمَ الفاعلِ إذا لم يُحلَّ بالألفِ واللامِ لا يَعْمَلُ إلا إذا كانَ مقترنًا بالحالِ أو المستقبلِ، فلا يعملُ ¬

(¬1) الخلاصة ص16، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 128).

مُقْتَرِنًا بالماضي (¬1)، وهنا أُعْمِلَ وهو واقعٌ في زمنِ الماضي؟ هذا وجهُ السؤالِ. الجوابُ (¬2): أنه إنما أُعْمِلَ اسمُ الفاعلِ في هذا المفعولِ؛ لأن هذه حكايةُ حالٍ ماضية في وقتِها، فإنما حُكِيَتِ الحالُ في وقتها؛ فكأنها في وقتِها؛ لأن الحكايةَ تُحْكَى فيها الأحوالُ في حالِ وقتِها. ونظيرُ هذا يُجَابُ به عن قولِه جل وعلا: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}؛ لأنها أيضا حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، وهي في وقتِها مُطَابِقَةٌ للزمنِ الْحَالِي. والآيةُ تدلُّ على أن مَنْ فَعَلَ سوءًا وكتمَه أن اللَّهَ يُظْهِرُهُ، غالبًا لا يُسِرُّ الإنسانُ سَريرةً إلا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا (¬3). وكان بعضُ العلماءِ يقول: لو عَمِلَ الإنسانُ الشرَّ في غايةِ الخفاءِ لا بدَّ أن يُظْهِرَهُ اللَّهُ، كما يُفْهَمُ من قولِه: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}. وقولُه: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: الآية 73] صيغةُ الجمعِ للتعظيمِ، و (الفاء) عاطفةٌ للجملةِ على ما قَبْلَهَا، يعني: تدارأتم في القتيلِ، فقلنا لكم: اضْرِبُوهُ ببعضِ البقرةِ؛ لِيُبَيَّنَ لكم الواقعَ، وتعرفون القاتلَ، وينتهي النزاعُ {فَقُلْنَا} صيغةُ الجمعِ للتعظيمِ، {اضْرِبُوهُ} أي: القتيلَ. فالضميرُ عائدٌ إلى القتيلِ. المفهوم من النفسِ في قولِه: {نَفْسًا}، فَأَنَّثَ الضميرَ باعتبارِ لفظِ النفسِ، وذكَّرَهُ باعتبارِ معناها؛ لأن القتيلَ ذَكَرٌ، وقد يكونُ الذَّكرُ يُعَبَّرُ عنه بلفظٍ ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 58، 61). (¬2) انظر: الدر المصون (1/ 435). (¬3) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1/ 229)، شرح الطحاوية ص144، تفسير ابن كثير (1/ 112)، (4/ 180).

مُؤَنَّثٍ، فيجوزُ التأنيثُ مراعاةً للفظِ، والتذكيرُ مراعاةً لِلْمَعْنَى (¬1). ومنه في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬2): أَبُوكَ خَلِيْفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ فَأَنَّثَ (الخليفةَ) وأطلقَ عليه لفظُ (الأُخْرَى) نظرًا إلى تأنيثِ لفظِه، مع أنه يجوزُ تذكيرُه؛ لأنه رجلٌ. فقلنا لهم: اضْرِبُوا القتيلَ ببعضِ هذه البقرةِ، فضربوه ببعضِها فَحَيِيَ. وهذا البعضُ الذي ضربوه به منها اختلفَ فيه المفسرون (¬3)، فمنهم مَنْ يَقُولُ: هو لسانُها. ومنهم من يقول: فَخِذُهَا. ومنهم من يقولُ: عَجْبُ ذَنَبِهَا. ومنهم مَنْ يقولُ: الغضروفُ، غضروفُ الأُذُنِ. والحقُّ أن هذا البعضَ الذي ضَرَبُوهُ به منها لا دليلَ عليه، ولا جَدْوَى في تَعْيِينِهِ. وَكَثِيرًا ما يُولَعُ المفسرون بالتعيينِ في أشياءَ لم يَرِدْ فيها دليلٌ من كتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا جَدْوَى تحتَ تَعْيِينِهَا، فَيَتْعَبُونَ بما لا طائلَ تَحْتَهُ، كاختلافِهم في خشبِ سفينةِ نوحٍ من أَيِّ شجرٍ هو؟ وكم كان عرضُ السفينةِ؟ وطولُها؟ وكم فيها من الطبقاتِ؟ وكاختلافِهم في الشجرةِ التي نُهِيَ عنها آدمُ وحواءُ، أَيُّ شجرةٍ هي؟ وكاختلافهم في كلبِ أصحابِ الكهفِ ما لَوْنُهُ، هل هو أسودُ أو أصفرُ؟ وكثير من هذه الأمورِ التي يُولَعُونَ بها ولا طائلَ تَحْتَهَا، ولا دليلَ عليها من كتابٍ وسنةٍ (¬4). غايةُ ما دَلَّ عليه القرآنُ: أنهم ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 435). (¬2) البيت لنُصيب بن رباح الأموي، انظر: اللسان (مادة: خلف) (1/ 883)، (مادة: فلح) (2/ 1126). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 229 - 231). (¬4) انظر: مقدمة في أصول التفسير ص19.

ضربوه ببعضٍ مِنْ تلكَ البقرةِ غيرَ مُعَيَّنٍ {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي: فَضَرَبُوهُ ببعضٍ منها فَحَيِيَ بإذنِ اللَّهِ، فأخبرهم بقاتلِه، ثم عادَ مَيِّتًا، ولم يَرثِه قاتلُه الذي قَتَلَهُ. قال بعضُ العلماءِ: ومن ذلك اليومِ لم يَرِثْ قاتلٌ عَمْدًا (¬1). وعامةُ العلماءِ على أن القاتلَ لا يرثُ، سواء كان القتلُ عمدًا أو خطأً، لا من المالِ ولا من الديةِ. وعن مالكِ بنِ أنسٍ (رحمه الله) التفصيل بين الديةِ والمالِ في خصوصِ القتلِ خطأً، قال: إن القاتلَ خطأً يرثُ من المالِ، ولا يرثُ من الديةِ. والجمهورُ على خلافِه، وشذَّ قومٌ فَوَرَّثُوهُ من المالِ والديةِ في القتلِ خطأً (¬2). وقولُه: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يعني: كما أَحْيَا اللَّهُ هذا القتيلَ وهذا الجمُّ الغفيرُ من الناسِ ينظرون، كذلك الإحياءُ الْمُشَاهَدُ يُحْيِي اللَّهُ الموتى يومَ القيامةِ، فهو دليلٌ قُرْآنِيٌّ على البعثِ؛ لأن مَنْ أَحْيَا نفسًا واحدةً فهو قادرٌ على إحياءِ جميعِ النفوسِ، لأن ما جَازَ على المِثل يجوزُ على مُمَاثِلِهِ، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: آية 28]. وهذه الآيةُ الكريمةُ تُؤْخَذُ منها فوائدُ، من الفوائدِ التي تُؤْخَذُ منها: أن الخالقَ الفاعلَ كيفَ يشاءُ هو رَبُّ السماواتِ والأرضِ. وأن الأسبابَ لا تأثيرَ لها إلا بمشيئةِ اللَّهِ. وأن اللَّهَ يُسبِّبُ ما شاءَ على ما شاءَ من الأسبابِ، ولو لم تكن بين السببِ والمُسَبَّبِ مناسبةٌ، فهذا القتيلُ لو ضُرِبَ بالبقرةِ وهي حَيَّةٌ لقالَ قائلٌ جاهلٌ: اكتسبَ الحياةَ من ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1/ 215)، تفسير ابن كثير (1/ 108). (¬2) انظر: العذب الفائض (1/ 28 - 29).

حياتِها فَاللَّهُ (جل وعلا) أَمَرَهُمْ أن يذبحوها حتى تكونَ مَيِّتَةً، وأن يأخذُوا قطعةً ميتةً منها لا حياةَ فيها فيضربوا بها هذا القتيلَ فَيَحْيَا. فَضَرْبُهُ بهذه القطعةِ الميتةِ من هذه البقرةِ المذبوحةِ كان سببًا لوجودِ الحياةِ فيه. وهذا السببُ لا مناسبةَ ببنَه وبينَ المُسَبَّبِ (¬1)، فدلَّ على أن خالقَ السماواتِ والأرضِ يفعلُ ما يشاءُ كيف يشاءُ، وَيُرَتِّبُ ما شاءَ من المُسَبَّباتِ على ما شاءَ من الأسبابِ باختيارِه وقدرتِه ومشيئتِه، ولو لم تكن هناك مناسبةٌ بين السببِ ومُسَبَّبِهِ. أَخَذَ مَالِكٌ (رحمه الله) دونَ عامةِ العلماءِ من هذه الآيةِ حُكْمًا، وهو أنه يُثْبِتُ القَسَامةَ (¬2). بقولِ المقتولِ: «دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ» (¬3)؛ لأن هذا القتيلَ لَمَّا حَيِيَ أخبرهم أن قاتلَه فلانٌ، وَعَمِلُوا بقولِه، قال مَالِكٌ: فَعَمَلُهُمْ بقولِه الذي دَلَّ عليه القرآنُ دليلٌ على أن مَنْ قَالَ: ¬

(¬1) سئل الشيخ (رحمه الله) عن مدى تعلق قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: آية 60] بما ذُكر من أن الله (تعالى) يسبب ما شاء على ما شاء من الأسباب، ولو لم تكن بين السبب والمُسَبَّب مناسبة. فأجاب الشيخ (رحمه الله) بقوله: ضَرْب الحجر بالعصا في هذا المقام شبيه بضرب القتيل بالجزء من هذه البقرة؛ لأن ضرب الحجر بالعصا لا يجعل الماء في الحَجَر، بل الماء إنما يخلقه الله بقدرته، كما أن ضَرب القتيل بالجزء من البقرة لا يجعله يحيا، ولكن الله أحياه، ورتب ما شاء من الأسباب على ما شاء، وقد أجاد من قال: ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع يسَّاقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزِّه ... جنته ولكن كل شيء له سبب (¬2) هي حلف مُعَيَّن عند التهمة بالقتل على الإثبات أو النفي. انظر: القاموس الفقهي ص303. (¬3) انظر: القرطبي (1/ 457)، أضواء البيان (3/ 563).

«قَتَلَنِي فُلاَنٌ». أنه يُعْمَلُ بقولِه، ومن هنا جَعِلَ قولُ المقتولِ إذا أُدْرِكَ وبه رمقٌ وقيل له: مَنْ ضَرَبَكَ؟ فقال لهم: «قَتَلَنِي فُلاَنٌ، أو دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ». فهذا لَوْثٌ (¬1) عند مَالِكٍ (¬2) تُحلف معه أيمانُ الْقَسَامَةِ، وَيُسْتَحَقُّ به الدمُ أو الديةُ، على التفصيلِ المعروفِ فيما تُسْتَحَقُّ به القَسَامَةُ من عَمْدٍ أو خَطَأٍ. وخالفَ مَالِكًا في هذا الفرعِ عامَّةُ العلماءِ، وقالوا: قولُ القتيلِ: «دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ» هذا لا يمكنُ أن يُسوِّغَ القَسَامةَ؛ لأنه لو قال: «لِي دِرْهَمٌ عَلَى فُلاَنٍ، أو أُطَالِبُ فُلاَنًا بِكَذَا» لا يَثْبُتُ من ذلك شيءٌ، فكيفَ يَثْبُتُ به القتلُ ودمُ المعصومِ؟ ومالكٌ استدلَّ بهذه القصةِ، واستدلَّ أيضا بأن الإنسانَ إذا كان في آخِرِ عهدٍ من الدنيا زَالَ غَرَضُهُ من الكذبِ، وصارَ منتقلاً إلى دارِ الآخرةِ، وصارت الدَّوَاعِي إلى الكذبِ بعيدةً جِدًّا في حَقِّهِ، فالذي يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنه لا يُخْبِرُ إلا بِوَاقِعٍ. وأجابَ الجمهورُ عن القصةِ قالوا (¬3): هذه القصةُ لا يقاسُ عليها غيرُها؛ لأن هذا قتيلٌ أحياه اللَّهُ معجزةً لنبيٍّ، وأخبرهم - مثلاً - أنه يُحْيِيهِ، وأنه يخبرهم بِمَنْ قَتَلَ، وهذا الإخبارُ مستندٌ إلى دليلٍ قَطْعِيٍّ، فليس كإخبارِ قتيلٍ آخَرَ. ¬

(¬1) اللَّوْثُ: يطلق عند المالكية على الأمارة التي تغلب على الظن صدق مدّعي القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحَّط في دمه والمتهم نحوه أو قربه علبه آثار القتل، انظر: القرطبي (1/ 459)، القاموس الفقهي ص334، أضواء البيان (3/ 563). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 459)، أضواء البيان (3/ 563). (¬3) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 24)، القرطبي (1/ 457).

وأجابَ ابنُ العربيِّ في أحكامِه عن هذا قال: المعجزةُ إنما هي في إحياءِ القتيلِ، أما كلامُ القتيلِ، فهو كسائرِ كلامِ الناسِ، يجوزُ في حَقِّهِ أن يكونَ حَقًّا، وأن يكونَ كَذِبًا. وعلى كُلِّ حَالٍ فهذا الفرعُ خَالَفَ فيه مَالِكًا جمهورُ العلماءِ. وقولُه جل وعلا: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} فيه دليلٌ على أن قصةَ إحياءِ هذا القتيلِ من الأدلةِ على البعثِ، وقد بَيَّنَّا فيما مضى خمسةَ أمثلةٍ منها في هذه السورةِ الكريمةِ (¬1). وقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} {وَيُرِيكُمْ} مضارعُ (أَرَاهُ)، أصلُها يُرئيكم آياتِه. أي. يُبَيِّنُهَا لكم حتى تَرَوْهَا. {آيَاتِهِ} الآية: تُطْلَقُ في اللغةِ إِطْلاَقَيْنِ، وتطلقُ في القرآنِ إطلاقين، وجمهورُ علماءِ العربيةِ أن أصلَ وزنِ الآيةِ (أيَيَة) فهي وزنُها: (فعَلَة) فاؤها همزٌ، وعينها ياءٌ، ولامها ياءٌ، اجتمع فيها مُوجِبَا إِعْلاَلٍ، على القاعدةِ المقررةِ في التصريفِ، التي عَقَدَهَا في الخلاصةِ بقولِه (¬2): مِنْ [وَاوٍ أَوْ يَاءٍ] (¬3) بِتَحْرِيكٍ أُصِلْ ... أَلِفًا ابْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ والأصلُ المشهورُ أن يكونَ الإعلالُ في الأخيرِ، فالجاري على القياسِ أن يقالَ: أياة، وتُبْدَلُ الياءُ الأخيرةُ أَلِفًا، إلا أنه أُبْدِلَتْ هنا الياءُ الأُولَى (¬4). وإعلالُ الأولِ من الحرفين اللذَيْنِ اجتمعَ فيهما مُوجِبَا إعلالٍ موجودٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ، كآيةٍ، وغايةٍ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (56) من هذه السورة. (¬2) الخلاصة ص77، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 622). (¬3) في الأصل: ياء أو واو. (¬4) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص42.

والآيةُ تُطْلَقُ في لغةِ العربِ إطلاقين (¬1): تطلقُ الآيةُ بمعنى: (العلامةِ). وهذا إطلاقُها المشهورُ. ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ ثم صَرَّحَ بأن مُرادَه بالآياتِ علاماتُ الدارِ في قولِه: رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ ومن هذا المعنى قولُه: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} أي: علامةُ مُلْكِهِ {أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الآيةَ ... [البقرة: الآية 248]. وتطلق الآيةُ على: (الجماعةِ)، تقول العربُ: جاء القومُ بآيتِهم، أي: بجماعتِهم، ومنه قولُ بُرج بن مُسهر (¬3): خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلاَ أي: بِجَمَاعَتِنَا. والآيةُ تُطْلَق في القرآنِ إطلاقين: آيةٌ كونيةٌ قدريةٌ، كقولِه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ} [آل عمران: الآية 190] وهذه الآيةُ الكونيةُ القدريةُ من (الآية) بمعنى (العلامةِ) باتفاقٍ، أي: لَعَلاَمَاتٍ على كمالِ قدرةِ مَنْ وَضَعَهَا، وأنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه. ¬

(¬1) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الهمزة، باب: الهمزة والياء وما يثلثهما في الثلاثي، (مادة: أيي) (1/ 102)، القاموس (مادة: أيي) (1628)، الأضواء (4/ 38 - 39). (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬3) القرطبي (1/ 66)، اللسان (مادة: أيا) (1/ 140).

وَتُطْلَقُ الآيةُ في القرآنِ بمعناها الشرعيِّ الدينيِّ، كقوله: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: آية 11] أي: آياتِه الدينيةَ الشرعيةَ. والآيةُ الدينيةُ الشرعيةُ قيل: من (العلامة)، لأنها علاماتٌ على صدقِ مَنْ جَاءَ بها؛ لِمَا فِيهَا من الإعجازِ. أو لأن لها مبادئَ ومقاطعَ علامات على انتهاءِ هذه الآيةِ وابتداءِ الآيةِ الأُخْرَى. وقال بعضُ العلماءِ: هي من (الآية) بمعنى (الجماعةِ)؛ لأن الآيةَ كأنها نبذةٌ وجماعةٌ من كلماتِ القرآنِ، تتضمنُ بعضَ ما في القرآنِ من الإعجازِ والأحكامِ والعقائدِ والحلالِ والحرامِ (¬1). هذا معنى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يعني: يجعلُكم تَرَوْنَهَا واضحةً. أي: علاماتِه الواضحةَ على كمالِ قدرتِه وإحيائِه للموتى، وأنه يبعثُ الناسَ بعدَ أن يموتوا. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يعني: لأجلِ أن تُدْرِكُوا بعقولِكم أنه (جل وعلا) يُحْيِي الناسَ بعدَ الموتِ، ويبعثُهم من قبورِهم، وأنه قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وحدَه، و {تَعْقِلُونَ} معناه: تُدْرِكُونَ بعقولكم. [3/ب] / يقول اللَّهُ جل وعلا: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: الآية 74]. ¬

(¬1) في تعريف الآية اصطلاحا انظر: ابن جرير (1/ 106)، ابن كثير (1/ 7)، القرطبي (1/ 66) قواعد التفسير (1/ 100).

قال بعضُ العلماءِ (¬1): (ثم) في قولِه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} للاستبعادِ؛ لأن هذا الذي نظروه من آياتِ اللَّهِ وعِبَرِه وإحيائِه للقتيلِ سببٌ عظيمٌ لِلِينِ القلوبِ، فقسوةُ القلوبِ بعدَ مشاهدتِه من الأمرِ الْمُسْتَبْعَدِ؛ ولذا قال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم} من بعدِ ذلك الأمرِ الذي عَايَنْتُمُوهُ، وهو إحياءُ القتيلِ، الذي هو أعظمُ سببٍ لِلِينِ القلوبِ، فـ (ثم) هنا للاستبعادِ، كما قاله بعضُ العلماءِ. ونظيرُه من إتيانِ (ثم) للاستبعادِ قولُه تعالى في أولِ سورةِ الأنعامِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام: آية 1]؛ لأن مَنْ خَلَق السماواتِ والأرضَ، وجعلَ الظلماتِ والنورَ يُسْتَبْعَدُ جِدًّا أن يُجعل له عديلٌ ونظيرٌ. ونظيرُ (ثمَّ) للاستبعادِ من كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬2): وَلاَ يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا لأن مَنْ رَأَى غمراتِ الموتِ تُسْتَبْعَدُ منه زيارتُها. والإشارةُ في قولِه: {ذَلِكَ} عائدةٌ إلى ما ذُكِرَ من إحياءِ القتيلِ لَمَّا ضُرِبَ بالجزءِ من البقرةِ الميتةِ، ومعنى قسوةِ القلوبِ: شِدَّتُهَا وصلابتُها حتى لا يدخلَ فيها خيرٌ؛ لأن ذا الشيءَ القاسيَ ليس بقابلٍ لدخولِ شيءٍ فيه، فقلوبُهم صلبةٌ شديدةٌ نابيةٌ عن الخيرِ لا يدخلُها وَعْظٌ ولا يَنْجِعُ فيها خيرٌ. والسببُ الذي قَسَتْ به قلوبُهم نَهَى اللَّهُ عن ارتكابِه المسلمين في قولِه: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: آية 16]. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 261 - 262). (¬2) البيت لجعفر بن عُلبة الحارثي. انظر: الدر المصون (9/ 89)، (642).

وقولُه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أي: في شدةِ القسوةِ والصلابةِ، فكما أنكَ لو أردتَ أن تُدْخِلَ ماءً أو دُهْنًا في جوفِ حَجَرٍ صلبٍ أصمَّ لا يمكنُ لكَ ذلك، فلا يمكنُ أن تُدْخِلَ في قلوبِهم خيرًا ولا موعظةً ولا شيئًا ينفعُهم؛ لقساوتها عياذا بالله. وقولُه: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} {أَوْ أَشَدُّ} مرفوعٌ عَطْفًا على الكافِ من قولِه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أي: فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ قسوةً؛ لأن الكافَ في معنى (مثل). وقيل: عُطِفَ على محلِّ الجارِّ والمجرورِ؛ لأنه في محلِّ رفعٍ خبرُ المبتدأِ، أي: فهي كالحجارةِ، أو فهي أشدُّ قسوةً (¬1). و {قَسْوَةً} تمييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ؛ لأنه بعدَ صيغةِ التفضيلِ، على حَدِّ قولِه في الخلاصةِ (¬2): والفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلاَ مُفَضَّلاً كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلاَ لأَنَّ {قَسْوَةً} تمييزٌ فاعلٌ في المعنى، فَنُصِبَ بأَفْعَل مُفَضلا تمييزًا مُحَوَّلاً عن الفاعلِ. ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) بَيَّنَ أن قلوبَهم أشدُّ قسوةً من الحجارةِ، قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} يعني: إن بعضَ الحجارةِ رُبَّمَا [تَفَجَّرَ منه الأنهارُ] (¬3)، وبعضُها ربما لانَ فتشققَ فخرجَ منه ماءٌ، وقلوبُهم لا تلينُ ولا ينفجرُ منها خيرٌ، لا قليلٌ ولا كثيرٌ. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 263). (¬2) الخلاصة ص34، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 445). (¬3) في الأصل: (لانَ فتفجر منه ماء)؛ وذلك لأنه وقع للشيخ (رحمه الله) سهو في الآية السابقة حيث نطق بها هكذا: (لما يتفجر منه الماء) فجاء التفسير هنا كما ترى.

وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: ما معنى (أو) في قولِه: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} والْمُخُبِرُ بهذا الكلامِ (جل وعلا) يستحيلُ في حَقِّهِ الشكُّ، فما معنى (أو) في قولِه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}؟ للعلماءِ عن هذا السؤالِ أجوبةٌ معروفةٌ (¬1)، أظهرُها: أن «أو» للتنويعِ، و «أو» التي هي للتنويعِ تدلُّ على نوعٍ. والمعنى: أن منهم نوعًا قلوبُهم كالحجارةِ، وهنالك نوعٌ آخَرُ دلَّتْ عليه (أو) التنويعية أقسى قلوبًا من هذه (¬2) ( ... ). {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: الآيات: 75 - 79]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على إيمانِ اليهودِ وغيرِهم من ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (2/ 235)، القرطبي (1/ 463)، البحر المحيط (1/ 262)، الدر المصون (1/ 436)، وراجع أيضا منه ص167. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل وكلام الشيخ (رحمه الله) على هذا المعنى الذي استظهره تام، وللوقوف على المعاني الأخرى راجع المصادر السابقة.

أهلِ الكتابِ؛ لأن عندهم عِلْمًا من الكتبِ السماويةِ المتقدمةِ. ولو آمنوا لكانَ ذلك دَاعِيًا إلى إيمانِ غيرِهم لِمَا عِنْدَهُمْ من العلمِ، فقنَّطَهُ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ من إيمانِ اليهودِ وَأَنْكَرَ عليه أن يعلقَ طمعَه بشيءٍ لا مطمعَ فيه، قال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: الآية 75] يعني: أَتُعَلِّقُونَ الطمعَ بما لاَ طمعَ فيه فتطمعون أن يؤمنوا لكم أي: يتصفوا بالإيمانِ لكم. أي: لأجلِ دَعْوَتِكُمْ وطلبكم منهم الإيمانَ. والعادةُ في القرآنِ أن الإيمانَ إذا كان تصديقًا بالله (جل وعلا) عُدِّيَ بالباءِ، فتقول: «ويؤمنون بالله»، «آمنتُ بالله» (¬1). وإذا كان تصديقًا بِبَشَرٍ عُدِّيَ باللامِ. وهذا معروفٌ من استقراءِ القرآنِ، كقولِه هنا: {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي: يصدقوكم ويتبعوكم في هذا الدِّينِ الحنيفِ، ومنه قولُه: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: آية 17] أي: بِمُصَدِّقِنَا في أن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}، وقولُه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: آية 26]، وجمع المثالين قولُه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 61] والمعنى: أن اللَّهَ أَنْكَرَ عليهم الطمعَ بإيمانهم؛ لأنهم لا مطمعَ في إيمانهم. ثم بيَّن صعوبةَ الإيمانِ عليهم وَبُعْدَهُمْ منه قال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يعني: أتطمعونَ بإيمانِ قومٍ وهم بهذه المثابةِ من العنادِ واللجاجِ وعدمِ امتثالِ الأوامرِ، والحالُ: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ} الفريقُ: الطائفةُ من الناسِ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من هذه السورة.

ويجوزُ انقسامُ الناسِ إلى جماعاتٍ متعددةٍ، ولا يلزمُ أن يكونوا فريقين فقط، بل يجوزُ أن يكونوا فريقين وأكثرَ، ومن هذا المعنى قولُ نُصَيبٍ (¬1): فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ: لاَ، وَفَرِيقُهُمْ نَعَمْ [وَقَالَ فَرِيقٌ] (¬2): وَيْحَكَ مَا نَدْرِي واختلفَ العلماءُ في المرادِ بهذا الفريقِ الذين سمعوا كلامَ اللَّهِ وَحَرَّفُوهُ بعدَ أن عَقَلُوهُ (¬3): قال جماعةٌ من العلماءِ: هذا الفريقُ هم علماؤُهم، ومعنى {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ} يسمعونَ كلامَ اللَّهِ يُتْلَى في كتابِه التوراةِ ويفهمونه {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} من بعد ما أَدْرَكُوهُ بعقولِهم، فيجدونَ فيه صفاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (أبيضَ)، فيحرفونها إلى (أسمرَ)، ويجدونَ من صفاتِه: (رَبْعَة)، فيحرفونها إلى أنه طويلٌ مُشَذَّبٌ، ونحو ذلك من تغييرِ الصفاتِ. فعلى هذا الوجهِ فالفريقُ الذين يسمعونَ كلامَ اللَّهِ: العلماءُ يسمعونَ كتابَ اللَّهِ التوراةَ يُتْلَى {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} يعني يُبَدِّلُونَهُ وَيُحَرِّفُونَهُ، ويجعلونَ فيه ما ليسَ فيه، بأن يُحِلُّوا حرامَه، ويحرموا حلالَه، ويغيروا فيه صفاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وينكروا بعضَ آياتِه كآيةِ الرجمِ، وما جرى مجرَى ذلك من التحريفِ. ¬

(¬1) البيت في الكتاب لسيبويه (3/ 503)، ولفظه: فقال فريق القوم لمَّا نشدتُهم ... نَعَمْ، وفريقٌ لَيْمُنُ الله ما ندري (¬2) في الأصل: وفريق قال. (¬3) انظر: ابن كثير (1/ 115).

وعلى هذا القولِ فالفريقُ: العلماءُ منهم بالتوراةِ، وتحريفُهم له معروفٌ. فإذا كان خِيَارُهُمْ وعلماؤُهم يعقلونَ عن اللَّهِ كلامَه في كتابِه ثم يُغَيِّرُونَهُ ويحرفونه ويحملونه على غيرِ مَحْمَلِهِ، فما بَالِكُمْ تطمعونَ في أَنَّ مثلَ هؤلاء يؤمنون لكم ويهتدون إلى خيرٍ. الوجهُ الثاني: أن هذا الفريقَ هم السبعونَ الذين اختارهم موسى، المذكورون في سورةِ الأعرافِ في قولِه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} الآيةَ ... [الأعراف: آية 155] وَمَنْ قالَ هذا القولَ قال: إنهم لَمَّا خرجوا مع موسى إلى الميقاتِ سألوه أن يسألَ اللَّهَ أن يُسْمِعَهُمْ كلامَه. فسأل لهم نَبِيُّهُمْ ذلك. وأن اللَّهَ أمرهم أن يَصُومُوا. وَلَمَّا أرادَ اللَّهُ أن يكلمَ موسى، وألقى عليه الضبابَ سَمِعُوا كلامَ اللَّهِ يأمرُ موسى وينهاهُ، فبعدَ أن سَمِعُوا كَلاَمَ اللَّهِ وعقلوه حَرَّفُوهُ. قالوا: سمعناه يقولُ في آخِرِ الكلامِ: إن شئتُم فَافْعَلُوا، وإن شئتُم لا تَفْعَلُوا. فإذا كانوا يسمعونَ من اللَّهِ كلامَه، هذه السبعونَ المختارةُ منهم تسمعُ كلامَ اللَّهِ وتحرفُه وَتُغَيِّرُهُ، فما بالُكم تطمعونَ في إيمانِ مَنْ هذه صِفَتُهُمْ؟ هذان الوجهانِ في قولِه: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ}. وقد بَيَّنَّا مرارًا أن همزةَ استفهامِ الإنكارِ إذا جاءَ بعدَها حرفُ عطفٍ كالفاءِ، كما في قولِه هنا: {أَفَتَطْمَعُونَ} و (الواو) أو (ثم) أن فيها للعلماءِ وَجْهَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ (¬1): ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (1/ 271).

أحدُهما: أن همزةَ الاستفهامِ تتعلقُ بمحذوفٍ دَلَّ المقامُ عليه، و (الفاءُ) تَعْطِفُ الجملةَ التي بَعْدَهَا على الجملةِ المحذوفةِ التي دَلَّ المقامُ عليها. والمعنى: أتطمعونَ بما لا طَمَعَ فيه، فتطمعونَ أن يُؤْمِنُوا لكم؟ ونحو هذا. أو: أَلاَ تعرفونَ الحقائقَ فتطمعونَ بما لا طمعَ فيه؟ والأحوالُ متقاربةٌ، وإلى هذا الوجهِ مَيْلُ ابنِ مالكٍ في الخلاصةِ في قولِه (¬1): وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ يَصِحّ والوجهُ الثاني: أن همزةَ الاستفهامِ مُزَحْلَقَةٌ عن محلِّها، وأنها متأخرةٌ بعد الفاءِ، إلا أنها قُدِّمَتْ عن مَحَلِّهَا؛ لأن للاستفهامِ صدرَ الكلامِ، وعلى هذا فالمعنى: فأتطمعون. فتكونُ الجملةُ معطوفةً بالفاءِ على ما قَبْلَهَا، كأن المعنى: فَأُعْطِفَ على ذلك إنكارُ طَمَعِكُمْ بما لا طمعَ فيه، فيكون المعنى: فأتطمعونَ أن يؤمنوا لكم والحالُ {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}. التحريفُ: يعني: وضعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِهِ، يَصْدُقُ بأن يُبَدِّلُوهُ بما ليسَ منه وأن يُغَيِّرُوهُ، وأن يَحْمِلُوهُ على غيرِ مَحْمَلِهِ، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ التحريفِ. وقولُه: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أَيْ أَدْرَكُوهُ بعقولِهم. العربُ تقولُ: عَقَلْتُ الأمرَ أَعْقِلُهُ، إذا أدركتُه بِعَقْلِي. والعقلُ نورٌ رُوحَانِيٌّ تُدْرَكُ به النفسُ العلومَ الضروريةَ والنظريةَ (¬2)، ومحلُّه القلبُ، كما نَصَّ عليه الكتابُ والسنةُ. لا الدماغُ كما يزعمُه الفلاسفةُ. ¬

(¬1) الخلاصة ص48، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 120). (¬2) انظر: الكليات ص67.

وبحوثُ العقلِ بحوثٌ فلسفيةٌ لاَ طائلَ تَحْتَهَا. فللفلاسفةِ في بحثِ العقلِ ما يزيدُ على مائةِ طريقٍ، من جهةِ البحثِ في العقلِ هل هو جوهرٌ أو عَرَضٌ؟ والكلامُ على العقولِ العشرةِ، والعقلِ الفياضِ. كله بحثٌ فلسفيٌّ لا طائلَ تَحْتَهُ (¬1). وإنما قال جل وعلا: {تَعْقِلُونَ} أي: تُدْرِكُونَ بعقولِكم؛ لأن العقلَ نورٌ رُوحَانِيٌّ تُدْرِكُ به النفسُ العلومَ الضروريةَ والنظريةَ. وقد دَلَّ القرآنُ على أن محلَّه القلبُ لا الدماغُ؛ لأن الله يقول: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: آية 46] ولم يقل: أَدْمِغَةٌ يَعْقِلُونَ بها. ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كاَنَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: آية 37] ولم يَقُلْ: لمن كان له دِمَاغٌ. وفي الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ» (¬2) ولم يقل: ألا وهي الدماغُ. وَجَمَعَ بعضُ العلماءِ بينَ قولِ أهلِ السنةِ وقولِ الفلاسفةِ بأن قالَ: إن أصلَ العقلِ في القلبِ كما في الكتابِ والسنةِ، إِلاَّ أَنَّ نورَه يتصلُ شعاعُه بالدماغِ. واستدلُّوا على هذا بدليلٍ استقرائيٍّ عاديٍّ، قالوا: بالعادةِ المطردةِ والاستقراءِ أنكَ لا تجدُ رجلاً طويلَ العنقِ طُولاً مُفْرِطًا إلا كَانَ فِي عَقْلِهِ بَعْضَ الدَّخَلِ؛ لِبُعْدِ ما بينَ طَرَفَيْ شُعَاعِ نُورِ عَقْلِهِ. ¬

(¬1) انظر: المعجم الفلسفي (2/ 84 - 88). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه. حديث رقم: (52)، (1/ 126)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (2051)، ومسلم في الصحيح، كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث رقم: (1599)، (3/ 1219).

والتحقيقُ: أن العقلَ في القلبِ (¬1) كما دَلَّ عليه الوحيُ (¬2) [والذين قالوا: إن العقلَ في] الدماغِ استدلوا: بأن كُلَّ ما يؤثرُ على الدماغِ يؤثرُ على العقلِ. وهذا لا دليلَ فيه، لإمكانِ أن يكونَ العقلُ في القلبِ - كما هو الحقُّ - وسلامتُه مشروطةٌ بسلامةِ الدماغِ، وهذا لا إشكالَ فيه. والعقلُ الصحيحُ هو الذي يعْقِلُ صاحبَه عن الوقوعِ فيما لا يَنْبَغِي، كما قال (جل وعلا) عن الكفارِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: آية 10] أما العقلُ الذي لا يَزْجُرُ عمَّا لا ينبغي فهو عقلٌ دنيويٌّ يعيشُ به صاحبُه، وليس هو العقلَ بمعنى الكلمةِ. وقولُه جل وعلا: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ يعني: أنهم سَمِعُوا كلامَ اللَّهِ فحرَّفُوه بعدَ أن أَدْرَكُوهُ بعقولِهم وَفَهِمُوهُ، والحالُ أنهم يعلمونَ أنهم حَرَّفُوهُ وافتروا على اللَّهِ، فَمَنْ (¬3) [كان] بهذه المثابةِ لا يطمعُ أحدٌ في إِيمانِه. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ (جل وعلا) ذكرَ طائفةً أُخْرَى من اليهودِ هم منافقونَ، ¬

(¬1) في هذه المسألة راجع: مجموع الفتاوى (9/ 303)، أقسام القرآن لابن القيم (404 - 405)، أضواء البيان (5/ 715)، وللشيخ (رحمه الله) رسالة لا تزال مخطوطة، وهي تقع في إحدى عشرة صفحة، وهي متضمنة أجوبة لسؤالات ثلاثة بعث بها إليه الشيخ محمد الأمين ابن الشيخ محمد الخضر، والأول من تلك السؤالات: مقر العقل من الإنسان. (¬2) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام. (¬3) في الأصل كلمة ممسوحة وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.

وهذه الطائفةُ المنافقةُ ذَكَرَهَا تعالى بقولِه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} [البقرة: الآيتان 76 - 77] (إذا): ظَرْفٌ فيه معنى الشرطِ، العاملُ فيه دائمًا جزاءُ الشرطِ لا فعلَ الشرطِ، وهو مِنَ الأسماءِ الملازمةِ للإضافةِ إلى جُمَلِ الأفعالِ خاصةً، كما قال في الخلاصةِ (¬1): وَأَلْزَمُوا إِذَا إِضَافَةً إِلَى جُمَلِ الأَفْعَالِ كَهُنْ إِذَا اعْتَلَى و (لَقُوا) أصلُه: لقِيُوا (فَعِلُوا) (¬2)، والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن كُلَّ فعلٍ ناقصٍ - أعني معتلَّ اللامِ - سواء كان واويَّ اللامِ، أو يائيَّ اللامِ، إذا أُسْنِدَ إلى واوِ جماعةٍ، أو ياءٍ مؤنثةٍ مخاطبةٍ وَجَبَ حذفُ لامِه المعتلةِ بقياسٍ مطردٍ. فحُذِفَتْ هذه الياءُ التي هي لامُ الكلمةِ، وَأُبْدِلَتْ كسرةُ القافِ ضمةً لمجانسةِ الواوِ. فأصلُه: (لقِيُوا) على وزنِ (فَعِلُوا)، ووزنُه الحاليُّ {وَإِذَا لَقُوا} (فَعُوا)؛ لأن الياءَ التي في موضعِ اللامِ حُذِفَتْ لإسنادِ الفعلِ الناقصِ إلى واوِ الجماعةِ، كما هو مقررٌ في التصريفِ (¬3). {الَّذِينَ آمَنُوا} في محلِّ نصبٍ مفعولٌ به لـ {لَقُوا} والمعنى: أن هؤلاء الطائفةَ من المنافقين إذا اجتمعوا بالمؤمنين - النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه - {قَالُوا آمَنَّا}. ذَكَرُوا لهم أنهم آمنوا نِفَاقًا، وَبَيَّنُوا لهم أن النبيَّ المنتظرَ الْمُبَشَّرَ به أن صفاتِه الموجودةَ في كُتُبِهِمْ مُتطبِّقةٌ على هذا النبيِّ الكريمِ - صلى الله عليه وسلم -. هذا معنى قولِه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}. ¬

(¬1) الخلاصة ص37، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 511). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 206). (¬3) انظر: الدر المصون (1/ 144)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص464.

{وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} يعني: رَجَعُوا إلى أصحابِهم وكان الموضعُ خَالِيًا من المؤمنين بأن كان الموجودُ فيه هم فيما بينهم. {قَالُوا} يعني: أصحابُهم الذين لم يُنَافِقُوا. قالوا مُنْكِرِينَ على الذين نَافَقُوا وَمُوَبِّخِينَ لهم: {أَتُحَدِّثُونَهُم} أي: أتحدِّثون المؤمنين - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه - {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني: بما فَتَحَ عليكم عِلْمَهُ في التوراةِ من أن هذا هو النبيُّ المنتظرُ، وأن هذه صفاتُه، أنها متطبِّقةٌ، وأنه هو لاَ شَكَّ فيه، وأنكم مؤمنون به لِمَا علمتم من أنه هو النبيُّ الموعودُ به المنتظرُ. {لِيُحَآجُّوكُم} بهذا الإقرارِ {عِندَ رَبِّكُمْ} أَنَّكُمْ أقررتم بأنكم تعرفونَ أنه الحقُّ، وأن صفاتِه متطبقةٌ على صفاتِ النبيِّ المنتظرِ، فإن هذا يُحَاجُّونَكُمْ به يومَ القيامةِ، أنكم عرفتُم الحقَّ وتركتموه. وهذا يدلُّ على أنهم في غايةِ الجهلِ؛ لأنهم لو كَتَمُوهُ أَلَيْسَ اللَّهُ عَالِمًا بما في ضمائرِهم؟ وما الفرقُ بين ما لو أَقَرُّوا بأنهم عرفوا الحقَّ وكتموه، أو كتموه ولم يقولوا؟ ولذا وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بقولِه: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: الآية 77] أيقولونَ مثلَ هذا ولا يعلمونَ أن اللَّهَ يعلمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ؟ {يُسِرُّونَ} هو المضارعُ من الإسرارِ، و {يُعْلِنُونَ} المضارعُ من الإعلانِ، والفعلُ إذا كان مَاضِيهِ على وزنِ (أَفْعَل) تُحْذَفُ همزتُه في المضارعِ، واسمِ الفاعلِ، واسمِ المفعولِ، بقياسٍ مُطَّردٍ. فالأصلُ: (يُؤَسْرِرُون) و (يُؤَعْلِنُون) إلا أن حَذْفَ همزةِ (أَفْعَل) يَطَّرِدُ في المضارعِ وفي اسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ، كما عَقَدَهُ في

الخلاصةِ بقولِه (¬1): وَحَذْفُ هَمْزِ أَفْعَلَ اسْتَمَرَّ فِي مُضَارِعٍ وَبِنْيَتَيْ مَتَّصِفِ والمعنى: أن إسرارَهم وإعلانَهم عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا) سواءٌ؛ لأن اللَّهَ يعلمُ السرَّ وَأَخْفَى، السرُّ عنده علانيةٌ، يعلمُ ما تخفيه الضمائرُ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: آية 16]. وعلى هذا الذي قَرَّرْنَا فمعنى: {فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني: عَلَّمَكُمْ إياه وأزالَ عنكم الحجابَ دُونَهُ من العلمِ مما في التوراةِ. وقولُه: {لِيُحَآجُّوكُم} أصلُه (يُحاججوكم) (يُفَاعِلُون) من الْمُحَاجَجَةِ يقتضي الطرفين، والحجةُ: كُلُّ مَا أَدْلَى به الخصمُ باطلاً كان أو حَقًّا (¬2). بدليلِ قولِه: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: آية 16]. وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بالفتحِ في هذه الآيةِ: الحكمُ. وذلك أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ خيبرَ ذَكَرَ لهم اسمَ القِرَدَةِ. قال بعضُهم: ما عَلِمُوا أن أَوَائِلَكُمْ وَقَعَ مَسْخُ بعضِهم قِرَدَةً إلا مِنْكُمْ، بعضُكم أخبرهم بهذا (¬3)!!. وعلى هذا فالمرادُ {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي: ما حَكَمَ عليكم به من المسخِ، والعربُ تُطْلِقُ الفتحَ على الْحُكْمِ (¬4)، وقد جاء في القرآنِ العظيمِ، ومنه على التحقيقِ: {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ ¬

(¬1) الخلاصة ص79، وانظر: شرحه في الأشموني (1/ 657). (¬2) انظر: المفردات (مادة: حَجَّ) 218، الكليات 406. (¬3) أخرجه ابن جرير (2/ 252)، وابن أبي حاتم (1/ 238)، عن مجاهد مرسلا. (¬4) انظر: ابن جرير (2/ 254).

جَاءكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: آية 19] يعني: إن تَطْلُبُوا الحكمَ من اللَّهِ على الظالمِ بالهلاكِ فقد جاءكم ذلك، وَهَلَكَ الظَّالِمُ، أبو جهل وأصحابُه، ومن هذا المعنى قولُه (جل وعلا) عن شُعَيْبٍ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: آية 89] أي: احْكُمْ بيننا بالحقِّ وأنتَ خيرُ الْحَاكِمِينَ، وهذه لغةٌ حميريةٌ، يُسَمُّونَ الحاكمَ: فَتَّاحًا، والحُكمَ فُتَاحَة (¬1)، ومن هذا المعنى قولُ الشاعرِ (¬2): أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولاً بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ أي: عن حُكْمِكُمْ غَنِيٌّ. هذا قيل به في الآيةِ، ولكنه قولٌ مرجوحٌ غيرُ ظاهرٍ، والتحقيقُ - إن شاء الله - هو الأولُ، ثم إنهم قالوا لهم: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أتقولون قولَ مَنْ لا يَعْقِلُ؟ فلا تعقلونَ أنه لا ينبغي لكم أن تُخْبِرُوهُمْ وتحدثوهم بما فتحَ اللَّهُ عليكم من علمِ التوراةِ مما خَفِيَ عليهم؛ ليكونَ حُجَّةً لهم عليكم عِنْدَ اللَّهِ يومَ القيامةِ، أنكم أَقْرَرْتُمْ بأنهم على حَقٍّ، وَخَالَفْتُمُوهُمْ ولم تتبعوهم. ثم إن الله ذَكَرَ طائفةً ثالثةً، وهي الطائفةُ الجاهلةُ التي لا تَدْرِي، وإنما تسمعُ كلامًا فتقلِّد فيه تقليدًا أَعْمَى، قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة: الآية 78] الأُمِّيُّ: هو الذي لا يقرأُ ولا يكتبُ. أي: طائفةٌ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (2/ 4). (¬2) تفسير ابن جرير (2/ 254)، الأمالي (2/ 281)، اللسان (مادة: فتح) (2/ 1045)، مع شيء من المغايرة في اللفظ، فهو في اللسان هكذا: ألا من مبلغ عَمْراً رسولاً ... فإني عن فُتاحتكم غني وفي ابن جرير والأمالي: ألا أبلغ بني عُصَم رسولاً ... فإني عن فُتاحتكم غني

جاهلةٌ لا يكتبونَ الكتبَ ولا يقرؤون ما في الكتبِ. {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} الذي هو التوراةُ ولا غيرُه من الكتبِ. وقوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} في قولِه: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ عندَ العلماءِ (¬1): أحدُهما تُبْعِدُهُ قرينةٌ في نفسِ الآيةِ. أما القولانِ المعروفانِ: أن المرادَ بالأمانيِّ هنا: جمعُ (أُمْنِيَّةٍ) بمعنى (القراءةِ). والعربُ تُطْلِقُ (الأمنيَّةَ) على (القراءةِ) وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ العربُ: (تمنَّى) إذا قرأَ، ومنه قولُ حسانَ (¬2): تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ وقولُ كعبِ بنِ مالكٍ أو حسانَ (¬3): تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ وَآخِرَهَالاَقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ فمعنى (تَمَنَّى): قَرَأَ، وعلى هذا فالاستثناءُ متصلٌ. وتقريرُ المعنى: لاَ يعلمونَ من الكتابِ إلا قراءةَ ألفاظٍ ليس معها تَفَهُّمٌ وتدبرٌ لِمَا تَحْوِيهِ الألفاظُ من المعانِي (¬4)، وَمَنْ لم يكن عنده مِنْ عِلْمِ الكتابِ إلا قراءةَ ألفاظٍ لا يفهمُ ما تحتَها من المعانِي فهذا جاهلٌ لا عِلْمَ عندَه. هذا وَجْهٌ في الآيةِ، وهو الذي قُلْنَا: إن في الآيةِ قرينةً تُبْعِدُهُ؛ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (2/ 259)، القرطبي (2/ 6)، أضواء البيان (1/ 79). (¬2) لم أقف على من نسب البيت لحسان (رضي الله عنه)، وهو في القرطبي (2/ 6)، الدر المصون (1/ 447). (¬3) البيت في تفسير الرازي (23/ 51)، القرطبي (2/ 6)، البحر المحيط (6/ 382)، الدر المصون (1/ 447). (¬4) للفائدة: ينظر اعتراض الطاهرابن عاشور على تفسير (التمني) بالقراءة في التحرير والتنوير (1/ 575)، (17/ 299، 306).

لأن هذا يدلُّ على أنهم يقرؤون التوراةَ قراءةَ ألفاظٍ لا يفهمونَ ما تَحْتَهَا من المعانِي والعِبَرِ والحِكَمِ. وقوله في أولِ الآيةِ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} يدلُّ على أنهم لا يَقْرَؤُونَ. فَكَأَنَّ حملَ الأمانيِّ على القراءةِ فيه شِبْهُ مناقضةٍ مع قولِه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}. الوجهُ الثاني في الآيةِ الكريمةِ: أن الاستثناءَ منقطعٌ، وأن (الأمانيَّ) جمعُ (أُمْنِيَةٍ) وهي الأمنيةُ المعروفةُ، وهي أن يتمنَّى الإنسانُ حصولَ ما ليس بحاصلٍ. وعلى هذا القولِ فتقريرُ المعنى: لا يعلمونَ الكتابَ، لكن يتمنونَ أمانيَّ باطلةً صادرةً عن جهلٍ لا مبدأَ لها من عِلْمٍ، كأن يقولوا: ما عليه محمدٌ وأصحابُه ليس بِحَقٍّ، و {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: الآية 18]، {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: الآية 135]، والدليلُ على أن هذا من أمانيهم الباطلةِ وأن خيرَ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ: قولُه تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: الآية 111] فصرحَ (جل وعلا) بأن أمانيهم من هذا القبيلِ، كما قال جل وعلا: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الآيةَ ... [النساء: آية 123] وهذانِ الوجهانِ في قولِه: {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ}. {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (إنْ) هي النافيةُ. والمعنى: ما هم إلا يظنونَ، يسمعونَ عندَ علمائِهم قولاً فيقولونه تقليدًا وَظَنًّا وَجَهْلاً. والظنُّ قد قَدَّمْنَا أنه يُطْلَقُ إطلاقين (¬1): يطلقُ على الشكِّ. وهو ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: ظن) ص539، القرطبي (2/ 6)، البحر المحيط (1/ 276).

المرادُ هنا، وهو المرادُ في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: آية 36] وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» (¬1). ومنه قولُه عن الكفارِ: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجائية: آية 32] واصطلاحُ الأُصُولِيِّينَ: أن الظنَّ لا يُطْلَقُ على الشكِّ؛ لأن الشكَّ نصفُ الاعتقادِ. والظنُّ عندهم جُلُّ الاعتقادِ، وما بَقِيَ عن الظنِّ من الاعتقادِ يُسَمُّونَهُ وَهْمًا، هذا اصطلاحٌ أُصُولِيٌّ (¬2). أما أهلُ اللغةِ العربيةِ فإنهم يُطْلِقُونَ اسمَ الظنِّ على الشكِّ. قولُه تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: الآية 79]، (ويلٌ): كلمةُ عذابٍ، وهو مصدرٌ لا فعلَ له من لفظِه، معناه: هلاكٌ عظيمٌ هائلٌ كائنٌ لهم (¬3). وقال بعضُ العلماءِ: (ويلٌ): وَادٍ فِي جهنمَ تَسْتَعِيذُ جَهَنَّمُ مِنْ حَرِّهِ. ولو فَرَضْنَا صحَّةَ هذا القولِ لكانَ راجعًا إلى الأولِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، حديث رقم: (5143)، (9/ 198)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (6064)، (6066)، (6724)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، حديث رقم: (2563)، (4/ 1985). (¬2) انظر: نشر البنود (1/ 62 - 63)، نثر الورود (1/ 72 - 73). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 267)، القرطبي (2/ 7)، البحر المحيط (1/ 276).

ولفظةُ (ويل) تتعدَّى باللامِ؛ وَلِذَا عَدَّاهُ بقولِه: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} وهو مبتدأٌ خبرُه جملةُ: (للذين)، وإنما سَوَّغ الابتداء بهذه النكرةِ لأنها مُشَمَّةٌ معنى الدعاءِ، وقد تقررَ في علمِ العربيةِ: أن النكرةَ إذا كانت مُشَمَّةً معنى الدعاءِ بخيرٍ أو بِشَرٍّ كان ذلك مُسَوِّغًا للابتداءِ بها (¬1)، ومثالُه في الدعاءِ بالخيرِ: {قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ} [هود: آية 69] (سلامٌ عليكم) مبتدأٌ، سَوَّغَ الابتداءَ به أنه في معرضِ الدعاءِ، والدعاءُ بالشرِّ كقولِه هنا: {فَوَيْلٌ} أي: هلاكٌ عظيمٌ لا خلاصَ منه للذين يكتبونَ الكتابَ بأيديهم ثم يقولونَ هذا من عندِ اللَّهِ، فهؤلاء اليهودُ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - كانوا يأخذونَ أوراقًا وقراطيسَ ينقلونَ فيها من التوراةِ، يقولون مثلاً: في المحلِّ الفلانيِّ من التوراةِ كذا وكذا وكذا، ويكتبونَ أمورًا باطلةً ليست في كتابِ اللَّهِ، كما يأتي في قولِه: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: آية 91] وهذا الذي يكتبونه بأيديهم في هذه القراطيسِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ على اللَّهِ (جل وعلا). وهذا الاختلاقُ والتحريفُ إنما فَعَلُوهُ ليتعوضوا به عَرَضًا من عَرَضِ الدنيا؛ ذلك أنهم لو أَخْبَرُوا بالواقعِ لآمَنَ كُلُّ الناسِ، وصارُوا تِبَعًا لا مَتْبُوعِينَ، وَضَاعَتْ عليهم رئاسةُ الدِّينِ، والأموالُ التي يأخذونَها عن طريقِ الرئاسةِ الدينيةِ، فَصَارُوا يكتبونَ أمورًا محرَّفَةً مزورةً، منها تغييرُ صفاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وغيرُ ذلك. فقال اللَّهُ فيهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} يكتبونَ الكتابَ في تلك القراطيسِ بأيديهم. وقولُه: {بِأَيْدِيهِمْ} هذا نوعٌ من التأكيدِ جَرَى على ألسنةِ ¬

(¬1) انظر: الأشموني (1/ 158)، الدر المصون (1/ 449).

العربِ، فنزلَ به القرآنُ؛ لأنه بلسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ (¬1). نحو: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: آية 38]، ومعلومٌ أنه لا يطيرُ إلا بِجَنَاحَيْهِ. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: آية 167] ومعروفٌ أنهم إنما يقولونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (¬2) (ثم) هذه - كمان (¬3) - تدلُّ على الاستبعادِ؛ لأن الكتابَ إذا كان مُخْتَلَقًا على اللَّهِ يبعُد كُلَّ البعدِ أن يقولَ الإنسانُ إنه من عِنْدِ اللَّهِ. ثم بيَّن عِلَّةَ افترائِهم وتزويرِهم ودعواهم أن الكتابَ من عِنْدِ اللَّهِ، وهو ليس من عِنْدِ اللَّهِ، بَيَّنَ عِلَّةَ ذلك وعِلَّتَهُ الغائيةَ المقصودةَ عندهم بقولِه: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} الاشتراءُ في لغةِ العربِ: الاستبدالُ، فَكُلُّ شيءٍ اسْتَبْدَلْتَهُ بشيء فقد اشْتَرَيْتَهُ، ومن هذا المعنى قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ (¬4): وَالْحَمْدُ لاَ يُشتَرَى إِلاَّ لَهُ ثَمَنٌ ... مِمَّا تَضِنُّ بِهِ النُّفُوسُ مَعْلُومُ (¬5) ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (2/ 272)، القرطبي (2/ 9)، البحر المحيط (1/ 277)، الدر المصون (1/ 451)، وانظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬2) سئل الشيخ (رحمه الله): هل هناك علة أخرى غير التأكيد يحتملها مثل هذا الاستعمال؟ فأجاب الشيخ (رحمه الله) بقوله: نعم، ذكر بعض العلماء فيه نكتة غير هذا، وأن المراد بذكر الأيدي التسجيل عليهم حيث اختلقوه وكتبوه بأيديهم ثم نسبوا هذا الذي اختلقوه وكتبوه بأيديهم إلى الله (جل وعلا)، فلو وجدوه مكتوبا قبل هذا لكان الافتراء أخف، فالذي يكتب الشيء بيده ثم ينسبه إلى الله (جل وعلا)، فهذا أبعد؛ فيكون فيه شبه تسجيل زيادة في تقبيح فعلهم. (¬3) أي: (أيضا) كما في اللهجة الدارجة. (¬4) المفضليات ص401. (¬5) في المفضليات. (مما يضن به الأقوام معلوم). وبه يستقيم الوزن.

وقولُ الراجزِ (¬1): بَدَّلْتُ (¬2) بِالْجُمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرَا وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا (¬3) .................... (¬4) كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا أي: كما اسْتَبْدَلَ. و (الثمنُ) تُطْلِقُهُ العربُ على كُلِّ عِوَضٍ مبذولٍ في شيءٍ تُسَمِّيهِ العربُ ثَمَنًا، ومنه بيتُ علقمةَ المذكورُ آنِفًا في قولِه: وَالْحَمْدُ لاَ يُشْتَرَى إِلاَّ لَهُ ثَمَنٌ ............................ وقولُ عمرَ بنِ أَبِي ربيعةَ (¬5): إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ أَقَمْتَ لَهَا مَاذَا أَخَذْتَ بِتَرْكِ الْحَمْدِ مِنْ ثَمَنِ ومعنى الآيةِ الكريمةِ: أنهم يُغَيِّرُونَ كلامَ اللَّهِ، ويكتبونَ على اللَّهِ ما لم يَقُلْ، ويقولونَ: إنه من عِنْدِ اللَّهِ، وما هو من عند اللَّهِ، ويقولون على اللَّهِ الكذبَ وهم يعلمونَ؛ لأجلِ أن يَعْتَاضُوا بذلك ثَمَنًا قليلاً من عرضِ الدنيا، وهو ما يَنَالُونَهُ من المالِ على رئاستِهم الدينيةِ. ¬

(¬1) انظر: مشاهد الإنصاف (ملحق في آخر الكشاف) (4/ 40). (¬2) في شواهد الإنصاف: (أخذت). (¬3) في شواهد الإنصاف: (دردرا). (¬4) لم يذكر الشيخ (رحمه الله) صدر هذا البيت وهو في شواهد الإنصاف، ونصه: (وبالطويل العمر عمرًا حيدرا). وهو في الدر المصون (3/ 177)، (7/ 67)، (9/ 229). (¬5) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص217، ورواية الديوان: إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها ... فماذا أخذت بترك الحج من ثمن وهو في السير للذهبي (6/ 336) مع مغايرة في بعض الألفاظ.

ثم إن الله قال: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: هلاكٌ عظيمٌ لا خلاصَ منه كائنٌ لهم، مبدؤُه وسببُه مما كَتَبَتْ أيديهم مُزَوَّرًا على اللَّهِ أنه من عندِ اللَّهِ وليس من عندِ اللَّهِ {وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} أي: من الرُّشا والأموالِ عِوَضًا عن ذلك التزويرِ والافتراءِ على رَبِّ السماواتِ والأرضِ، وهذا غايةُ التهديدِ والوعيدِ العظيمِ حيث قال: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني: وَتَقَوَّلُوهُ على اللَّهِ كَذِبًا {وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} أي: من المالِ عِوَضًا عن ذلك، وهذا معنى قولِه: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}. •••

تفسير سورة الأنعام

تَفْسِيرُ سُورَةِ الأَنْعَامِ [1/أ] / {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [الأنعام: الآيات 33 - 36]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: آية 33]. قولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} قرأه عامَّةُ القراءِ، ما عدا نافعًا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} مضارعُ حَزَنَه الأمرُ - بالثلاثيِّ - يَحْزُنُهُ، وقرأه نافعٌ وحدَه: {قد نعلم إنه لَيُحْزِنُك} مِنْ أَحْزَنَهُ الأَمْرُ - بصيغةِ الرباعيِّ - يُحْزِنُهُ (بِضَمِّ الياءِ) (¬1). ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص171.

وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} قرأه عامةُ القراءِ ما عدا نافعًا والكسائيَّ: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} بصيغةِ (التفعيلِ). وقرأه نافعٌ والكسائيُّ من بين القُراءِ {فإنهم لا يُكْذِبُونَك} بصيغةِ (الإفعالِ) لا بصيغةِ (التفعيلِ) (¬1). وَسَبَبُ نزولِ هذه الآيةِ كما ثبتَ عن عَلِيٍّ (رضي الله عنه) أن الكفارَ - كفارَ مكةَ - كَأَبِي جهلٍ ونظرائِه قالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: نحنُ لاَ نُكَذِّبُكَ، ونعلمُ أنك صادقٌ أمينٌ، ولكن هذا الذي جئتَ به هو الذي نُكَذِّبُهُ، فأنزلَ اللَّهُ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬2). ¬

(¬1) المصدر السابق ص (193). (¬2) أخرجه الترمذي في السنن، كتاب تفسير القرآن، باب (7)، حديث رقم: (3064) (5/ 261)، والحاكم (2/ 315) عن علي رضي الله عنه. وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. وعقبه الذهبي بقوله: «قلت: ما خرجا لناجية شيئا» اهـ. كما أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1282)، والدارقطني في العلل (4/ 143)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 9) وعزاه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والضياء. وأخرجه الترمذي (5/ 261)، وابن جرير (11/ 334)، والواحدي في أسباب النزول (216) وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1282)، والدارقطني في العلل (4/ 143). عن ناجية بن كعب مرسلا. قال الترمذي: (وهذا أصح) اهـ. وجميع طرق هذا الحديث - بالوصل والإرسال - تدور على أبي إسحاق السبيعي الذي يرويه عن ناجية بن كعب. وأبو إسحاق السبيعي (رحمه الله) قد رُمي بالاختلاط والتدليس كما في التهذيب (8/ 57 - 59) وقد عنعنه عن ناجية. وقد ضعف الألباني هذا الحديث (موصولا ومرسلا) انظر: ضعيف سنن الترمذي ص (374) وصححه أحمد شاكر والأرنؤوط. انظر: عمدة التفسير (5/ 24 - 25)، جامع الأصول (2/ 132).

و (قد) في قولِه: {قَدْ نَعْلَمُ} هي للتحقيقِ (¬1)، أي: لتحقيقِ عِلْمِ اللَّهِ جل وعلا. وما جاءَ على ألسنةِ علماءِ العربيةِ (¬2) من أن (قد) إذا دَخَلَتْ على المضارعِ أنها تكونُ للتقليلِ، وأنها تارةً تكونُ للتكثيرِ كـ «رُبَّمَا»، وَاسْتَدَلُّوا بأنها تكونُ تارةً للتكثيرِ بقولِ الشاعرِ (¬3): قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ وقول الآخَرِ (¬4): أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُتْلِفُ الْخَمْرُ مَالَهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُتْلِفُ الْمَالَ نَائِلُهْ قالوا: «قد يُتلفُ المالَ» أي يَكثُر مِنْ نَائِلِهِ إتلافُ المالِ، وكذلك يَكْثُرُ في هذا المفتخرِ بقتلِ الأقرانِ: قتلُ الأقرانِ. كُلُّ هذا خلافُ التحقيقِ في هذه الآيةِ؛ لأن (قد) فيها للتحقيقِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ مُحَقِّقًا لهم أن عِلْمَهُ مُحيطٌ بما ذَكَرَ أنه يَعْلَمُهُ، وهو كثيرٌ في ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (4/ 601). (¬2) في هذه المسألة انظر: البحر المحيط (4/ 110)، الدر المصون (1/ 412)، (4/ 602)، الخزانة (4/ 502)، البرهان للزركشي (2/ 417)، قواعد وفوائد لفقه كتاب الله تعالى ص45. (¬3) البيت لعبيد بن الأبرص وهو في الكتاب لسيبويه (4/ 224)، البحر المحيط (4/ 110)، الخزانة (4/ 502)، الدر المصون (1/ 412). واصفرار الأنامل هنا كناية عن الموت. والفرصاد: ماء التوت، أي من الدم. (¬4) البيت لزهير. وهو في البحر المحيط (4/ 110) الدر المصون (4/ 601، 602) والمُثبت فيهما: «ولكنه قد يُهْلِكُ».

القرآنِ، كقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} [الأحزاب: آية 18] {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: آية 144] , {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: آية 97] كُلُّ هذه الآياتِ (قد) فيها قَبْلَ الفعلِ المضارعِ للتحقيقِ كما هُنَا. {قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ} الضميرُ في قولِه: «إنه» هو ضميرُ الشَّأْنِ (¬1) {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ} أي الأمرُ والشأنُ، واللَّه {لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}. وهذا الذي يقولونه، الذي يَحْزُنُهُ، أَشَارَتْ له آياتٌ أُخَرُ، كما بَيَّنَ تعالى أن هذا الذي يقولونَه له يُحْزِنُهُ، وأنه يَضِيقُ به صدرُه كما قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: آية 97] وَبَيَّنَ في سورةِ هود أن هذا الذي يضيقُ صدرُه مما يقولونَ له إنه مِنْ نوعِ التكذيبِ والتعنتِ كما قال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: آية 12] يعني: ضائقٌ صَدْرُكَ؛ لأَجْلِ أن يقولوا تَكْذِيبًا وَتَعَنُّتًا: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يُصَدِّقُهُ. وقال بعضُ العلماءِ (¬2): هذا الذي يحزنه من كلامِهم قولُهم له: «أَنْتَ شَاعِرٌ، سَاحِرٌ، كَاهِنٌ، هذا الذي جئتَ به أساطيرُ الأَوَّلِينَ، لا نقبلُ دِينَكَ»، هذا التكذيبُ وَنِسْبَتُهُ إلى أنه ساحرٌ، مجنونٌ، كاهنٌ، هذا الذي يُؤْذِيهِ وَيَضِيقُ به صدرُه، ويحزنه. وقد بَيَّنَ له اللَّهُ (جل وعلا) في آخِرِ سورةِ الْحِجْرِ علاجَ هذا الداءِ من هذا الذي يقولونَ له فَيُحْزِنُهُ، وَبَيَّنَ له أنه إذا أَحْزَنَهُ ذلك القولُ الذي يقولون أنه يُبَادِرُ إلى ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (4/ 603). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 111).

الصلاةِ؛ فإن الصلاةَ يُعِينُهُ اللَّهُ بها وَيُذْهِبُ عنه ذلك الحُزنَ، كما قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: آية 45]. وقال له في آخِرِ سورةِ الْحِجْرِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: آية 97] فَرَتَّبَ على ضِيقِ صَدْرِهِ بما يقولون - بالفاءِ - قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: آية 98]. عرفنا أن هذا التسبيحَ والصلاةَ والإنابةَ إلى اللَّهِ هو دواءُ ذلك الحزنِ والأَذَى الذي يَنَالُهُ منهم؛ ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - كما في حديثِ نعيمِ بنِ عمارٍ كان - إذا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إلى الصلاةِ (¬1)، صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه، كما دَلَّ على ذلك قولُه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ} [الحجر: الآيتان 97، 98] أي فَدَوَاءُ ذلك هو ما أَمَرَكَ رَبُّكَ به بقولِه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} وقال هنا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} هذا الذي يقولونَه لكَ نحن نعلمُ أنه يحزنك، أي: يُورِثُكَ الحزنَ لِمَا يَلْقَوْنَكَ به من التكذيبِ، ونسبتِهم إياك إلى السحرِ والشعرِ والكهانةِ والجنونِ هذا يؤذيه - صلى الله عليه وسلم -، فيضيقُ به صدرُه، وَمِنْ أَشَدِّ ما يؤذيه: امتناعُهم من الإيمانِ؛ لأنه صلواتُ الله وسلامُه عليه مجبولٌ على الشفقةِ، وقد وصفَه اللَّهُ بالرأفةِ والرحمةِ بالمؤمنين في قولِه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: آية 128] فمعنَى {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يعزُّ عليه وَيَعْظُمُ وَيَكْبُرُ عليه كُلُّ ما يصيبكم منه العنت، وهو المشقةُ والأذى (¬2) {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬2) انظر: تذكرة الأريب لابن الجوزي (1/ 229).

إلى أن قال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} كان إذا امْتَنَعُوا من الإيمانِ أَسِفَ وَحَزِنَ حُزْنًا شديدًا، كما قال له اللَّهُ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: آية 3] أي: لأجلِ أن لا يكونوا مؤمنين. و (الباخع) معناه: المهلكُ (¬1)، أي: فلعلك مهلكُ نفسك أَسَفًا لأجلِ أنهم لم يؤمنوا {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: آية 6] أي حُزْنًا شديدًا عليهم {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: آية 8] ونحو ذلك من الآيات (¬2)؛ وَلِذَا قال له اللَّهُ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} {الَّذِي} موصولٌ، وجملةُ الموصولِ {يَقُولُونَ} والضميرُ العائدُ إلى الصلةِ محذوفٌ؛ لأنه منصوبٌ بفعلٍ، وتقديرُه: (قد نعلمُ إنه ليحزنكَ الذي يقولونَه) فالهاءُ المحذوفةُ التي في محلِّ المفعولِ هي الرابطُ بين الصلةِ والموصولِ. ثم إن الله قال لِنَبِيِّهِ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ}. {فإنهم لاَ يُكْذِبونَكَ} (¬3) قال بعضُ العلماءِ: معنى الْقِرَاءَتَيْنِ واحدٌ (¬4)، والعربُ تُعَدِّي الثلاثيَّ بالتضعيفِ كما تُعَدِّيهِ بالهمزةِ؛ كما يقال: «كثَّرت الشيءَ» و «أَكْثَرْتُهُ». وجماهيرُ العلماءِ على أن بَيْنَهُمَا في المعنى فَرْقًا (¬5)، أن معنَى (كذَّب) ليس معنى (أَكْذَبَ)، والمقررُ في علومِ القراءاتِ: أن القراءتين حُكْمُهُمَا حكمُ الآيتين المختلفتين، فَكُلٌّ ¬

(¬1) انظر: تفسير المشكل من غريب القرآن ص (141)، الدر المصون (7/ 442) .. (¬2) راجع الأضواء (2/ 189). (¬3) انظر: المبسوط ص (193). (¬4) انظر: حجة القراءات (248). (¬5) انظر: المصدر السابق (247).

منهما تفيدُ ما تَضَمَّنَتْهُ من الأحكامِ والمعاني (¬1). أما على قراءةِ الجمهورِ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} فالتحقيقُ أن المعنى: أن الكفارَ لا يُكذبونك. وَاعْلَمْ أنه معروفٌ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ أن الفعلَ يُسْنَدُ إلى المجموعِ والمرادُ بعضُ المجموعِ لا جميعهم (¬2)، وَمِمَّا يوضحُ هذا المعنى غايةَ الإيضاحِ من القرآنِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ (¬3): {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: آية 191] بصيغةِ (القَتْل) في الفعلين؛ لأنه لا يُعْقَلُ أن الذي قُتِلَ بالفعلِ يُؤْمَرُ بقتلِ قاتلِه، وَلَكِنَّ المعنى: فإن قتلوا بعضَكم فليقتلهم البعضُ الذي لم يُقْتَلْ (¬4). وهذا أسلوبٌ معروفٌ في القرآنِ وفي غيرِه. وإذا عرفتَ هذا فَاعْلَمْ أن بعضَ الكفارِ عَلِمُوا صدقَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الباطنِ، وقلوبُهم مُوقِنَةٌ أنه صَادِقٌ (¬5)، كما قال أبو جهل - لَعَنَهُ اللَّهُ - لَمَّا قال له الأخنسُ بنُ شُريق قال له: أنا وأنتَ في خلوةٍ، ليس معنا أحدٌ من قريشٍ، فَأَخْبِرْنِي عن صحةِ ما يقولُه محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). فقال له أبو جهلٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لأعلمُ أنه صادقٌ، وأنه نَبِيٌّ، وَوَاللَّهِ ما كذبَ محمدٌ قطُّ ولا يكذبُ، ولكن كنا نحن وَبَنُو هاشمٍ فَرَسَيْ رِهَانٍ، طعِموا فَأَطْعَمْنَا، وفعلوا ¬

(¬1) في هذه القاعدة انظر: مجموع الفتاوى (13/ 391 - 398، 15/ 248، 17/ 381 - 382)، شفاء العليل (96)، البرهان للزركشي (1/ 326)، الإتقان (1/ 227)، أضواء البيان (2/ 8، 120، 6/ 226، 680). (¬2) في هذا المعنى انظر: ابن جرير (1/ 501)، (2/ 485 - 487، 500)، (16/ 91) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة. (¬4) انظر: حجة القراءات ص (128). (¬5) انظر: ابن جرير (11/ 331)، الدر المصون (4/ 604).

ففعلنا، واليومَ يقولون: مِنَّا نبيٌّ! فَمَنْ لنا بهذه؟ وَاللَّهِ لا نعترفُ بنبوتِه أبدًا (¬1)!! ولا شكَّ أن هنالك قومًا من الجهلةِ يسمعونَ كلامَ الرؤساءِ فَيَظُنُّونَ أنه كاذبٌ، ويعتقدون كذبَه. إذا عرفتُم هذا فقولُه: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} راجعٌ إلى الذين عَلِمُوا صِدْقَهُ. وكثيرٌ من عقلائِهم عَالِمٌ في قرارةِ نفسِه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيٌّ، وأنه رسولٌ، وهم يَجْحَدُونَ ذلك ظُلْمًا. وعليه فالمعنَى: {لاَ يُكَذِّبُونَكَ} في الحقيقةِ، فيما بينهم وبينَ أنفسهم، ولكن الظالمين يَجْحَدُونَ آياتِ اللَّهِ التي أُنْزِلَتْ عليه، فلم يعترفوا بأنها من اللَّهِ، كما قال له أبو جهلٍ: أنتَ عندنا صادقٌ، ولا نُكَذِّبُكَ، ولكن نُكَذِّبُ هذا الذي جئتَ به (¬2). أما على قراءةِ: {فإنهم لا يُكْذِبُونَك} فـ (أَكْذَبَ) بصيغةِ (الإفعالِ) تفترقُ مع (كذَّب) بمعنيين (¬3): أحدُهما: أن الفرقَ بينَ (كذَّب) و (أَكْذَبَ): أنكَ إذا كَذَّبْتَ إِنْسَانًا، معناه قلتَ له: كَذَبْتَ، وَنَسَبْتَهُ إلى افتراءِ الكذبِ. وإذا قيلَ: أَكْذَبَ إنسانٌ إنسانًا، معناه: أن كلامَه يعتقدُ أنه كَذِبٌ، ولا يُنْسَبُ ذلك الإنسانُ إلى الكذبِ، بل يقولُ: لعله أَخْطَأَ، أو نَسِيَ، أو سَهَا وهو لا يقصدُ الكذبَ أو تَخَيَّلُ له غيرُ الْحَقِّ. فمعنى «أَكْذَبَ» على هذا: أنه لا يتعمدُ الكذبَ، وأنه ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (11/ 333)، والواحدي في أسباب النزول ص (216) عن السدي مرسلا. على أن ذلك كان في يوم بدر. وروى ابن إسحاق نحوه عن الزهري مرسلا. على أن ذلك كان في مكة قبل الهجرة. انظر: السيرة لابن هشام (1/ 328 - 329)، تفسير ابن كثير (2/ 129). (¬2) مضى قريبا. (¬3) انظر: حجة القراءات ص (247)، القرطبي (6/ 416)، البحر المحيط (4/ 111).

لا يُنْسَبُ إلى الاختلاقِ والافتراءِ، ولكن القولَ الذي جاء به غيرُ مُطَابِقٍ لِلْحَقِّ. الوجهُ الثاني في قراءةِ {يُكْذِبُونَك}: - وهو الذي عليه الأكثرُ -: أنه تقررَ في فَنِّ التصريفِ أن من معانِي «أَفْعَلَ» إذا قلتَ: أَفْعَلتُ الرجلَ، إذا وجدتَه كذا، تقول: أَحْمَدتُهُ إذا وجدتَه حَمِيدًا، وأَبْخَلْتُه إذا وجدتَه في نفسِ الأمرِ بَخِيلاً، وأَكْذَبْتُه إذا وجدتَه في نفسِ الأمرِ كَاذِبًا، وعلى هذه القراءةِ: إن ظَنَّتْ نفوسُهم أَنَّكَ كاذبٌ، وَكَذَّبُوكَ، وقالوا: إنك كاذبٌ ساحرٌ كاهنٌ فإنهم لا يصادفونك في نفسِ الأمرِ كاذبًا، فأنتَ على حَقٍّ فيما بينَك وبينَ اللَّهِ، فَهَوِّنْ عليكَ، ولا تَثْقُلْ عَلَيْكَ افْتِرَاءَاتُهُمْ. هذان الوجهانِ من التفسيرِ في قراءةِ {يُكْذِبُونَك} وقد قَدَّمْنَا معنَى {يُكَذِّبُونَكَ}. {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ} قد قَدَّمْنَا معنَى الظلمِ (¬1). {بِآيَاتِ اللَّهِ} أي الشرعيةِ الدينيةِ {يَجْحَدُونَ} أي يَجْحَدُونَهَا وَيُنْكِرُونَ أنها حَقٌّ. {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: آية 34]. هذه الآيةُ تَسْلِيَةٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتهوينٌ عليه؛ لأنكَ إذا وجدتَ إنسانًا وَقَعَ في مصيبةٍ وَبَلِيَّةٍ وقلتَ له: هذه المصيبةُ التي نَزَلَتْ بكَ قد نَزَلَتْ بإخوانٍ لكَ كرامٍ أفاضلَ، وَصَبَرُوا عليها، وكان لهم في عاقبةِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

الأمرِ الظفرُ والنجاحُ والعاقبةُ المحمودةُ؛ فإن هذا يُهَوِّنُ ويُسهِّلُ المصيبةَ على ذلك الْمُبْتَلَى. وقد نَصَّ اللَّهُ في أخرياتِ سورةِ هود على أنه يَقُصُّ على النبيِّ أخبارَ الرسلِ؛ لِيُهَوِّنَ عليه وَيُثَبِّتَ قلبَه، وذلك في قوله: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: آية 120] يقولُ له: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: آية 43] هذا الذي لَقِيَكَ به قومُكَ لقي الرسل من قِبَل قومهم بمثلِه وأشدَّ، فَاصْبِرْ كما صَبَرُوا، فستكونُ لكَ العاقبةُ الحميدةُ كما كانت لهم. وفي هذا أعظمُ بشارةٍ وأكرمُ تسليةٍ له - صلى الله عليه وسلم -. واللامُ في (لقد) موطئةُ قسمٍ محذوفٍ. وَاللَّهِ لقد كُذِّبَتْ رسلٌ من قبلك، هؤلاء الرسلُ الذين كُذبوا من قبلك منهم مَنْ جاءَ مُفَصَّلاً في هذا القرآنِ العظيمِ، كقولِ قومِ نوحٍ لنوحٍ: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: آية 27] وقولُهم له: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: آية 32]، وقد سَخِرُوا منه كما قال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: آية 38]، والمفسرون يقولون (¬1): سُخْرِيَتُهُمْ منه التي ذَكَرَهَا اللَّهُ أنه لَمَّا أرادَ أن يصنعَ السفينةَ [وَتَعَلَّمَ] (¬2) النجارةَ صَارُوا يضحكون، ويقولون: بعدَ أن كنتَ نَبِيًّا صِرْتَ [نَجَّارًا، وهكذا عادٌ قالوا لهودٍ، وثمودُ] (¬3) قالوا لصالحٍ!! قالوا لنبيِّ اللَّهِ هود: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: آية 53]، وقالوا لِصَالِحٍ: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: آية 62] يعني: وَأَمَّا إذا ¬

(¬1) انظر: القرطبي (9/ 31). (¬2) في هذا الموضع كلمة غير واضحة وما بين المعقوفين زيادة ينتظم بها الكلام. (¬3) في هذا الموضع وقع مسح وانقطاع. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها المعنى ..

ادَّعَيْتَ النبوةَ، ودعوتَ إلى عبادةِ اللَّهِ فلا رجاءَ لنا فيكَ. وهذا جاءَ مُفَصَّلاً عن الرسلِ في القرآنِ العظيمِ، كتكذيبِهم لنوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، وتكذيبِ فرعونَ وقومِه لموسى وهارونَ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وهنالك رُسُلٌ لم تُقَصَّ عليه أخبارُهم، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ النساءِ (¬1)، وفي سورةِ المؤمنِ: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: آية 78]. وإنما قال: {كُذِّبَتْ رُسُلٌ} بتاءِ التأنيثِ لِمَا تقررَ في علمِ العربيةِ: أن ثلاثةً من الجموعِ - أعني الجمعَ المُكَسَّرَ مذكرًا كان أو مؤنثًا، والجمعَ السالمَ المؤنثَ، كُلُّهَا تجري مجرَى الواحدةِ المؤنثةِ مجازيةِ التأنيثِ (¬2)؛ ولذلك أُنِّثَ الفعلُ هنا وقيل فيه: {كُذِّبَتْ} وأُنثت الإشارةُ إليه لهذا كما قال: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: آية 253] ونحو ذلك {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ} حُذِفَ الفاعلُ هنا وأنابَ المفعولُ به منابَه؛ لأنه يُوَضِّحُهُ. أي كذبهم قومُهم فصبروا على ذلك التكذيبِ والأَذَى. {فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُوا} (ما) هنا مصدريةٌ. فصبروا على التكذيبِ. وقولُه: {وَأُوذُوا} فيما يُعْطَفُ عليه وجهانِ (¬3): أظهرُهما أنه معطوفٌ على: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} أي: فصبروا على التكذيبِ، وعلى الإيذاءِ الذي يَنَالُهُمْ من قومِهم، حتى جاءهم نصرُنا. ¬

(¬1) وهو قوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: آية 164]. (¬2) انظر: ضياء السالك (2/ 25). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 112)، الدر المصون (4/ 605).

وعلى هذا فقولُه: {وَأُوذُوا} معطوفٌ على قوله: {كُذِّبُوا} فصبروا على ما كُذبوا، وصبروا على ما أُوذوا. و (ما) مصدريةٌ، أي: صَبَرُوا على التكذيبِ والإيذاءِ حتى جاءهم نصرُنا، وهنالك قومٌ قالوا: الإيذاءُ لم يتقدم له ذِكْرٌ حتى يكونَ الصبرُ عليه مذكورًا؛ ولذا قالوا: {وَأُوذُوا} عُطِفَ على قولِه: {كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ} يعني: لقد كُذِّبَ الرسلُ وَأُوذُوا فصبروا على ذلك. وقوله: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} يعني: أن اللَّهَ من كلماتِه (جل وعلا) نصرُه لِرُسُلِهِ، وأن العاقبةَ الحميدةَ كائنةٌ لهم (¬1)، كما قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: الآيات 171 - 173] {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: آية 21] وقوله جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: آية 51] مثل هذه الكلماتِ من الوعدِ الصادقِ بنصرِ الرسلِ، وأن العاقبةَ لهم، كما قال عن مجموعِ الرسلِ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: الآيتان 13، 14] هذه الكلماتُ - وغيرُها من سائرِ كلماتِ اللَّهِ التي لاَ نهايةَ لها كما قال: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: آية 109]- لا مُبَدِّلَ لها. والمعنى قال اللَّهُ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: الآيات 171 - 173]، فليس يمكنُ لأحدٍ أن يُبَدِّلَ هذا الخبرَ ويجعلَ إيجابَه سَلْبًا، فيجعلَ الرسلَ مَقْهُورِينَ غيرَ منصورين، لا أبدًا، وَقِسْ على ذلك. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 417)، البحر المحيط (4/ 112 - 113).

وهذا معنى قولِه: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} ومعنى التبديلِ هو إذهابُ هذا والإتيانُ ببدلٍ غيرِها. {لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} وَعْدُهُ رُسُلَهُ بالنصرِ والعاقبةِ المحمودةِ، فتبديلُ هذا أن ينزعَ النصرَ عنهم، ويجعلَ مكانَه غلبتَهم وإذلالَهم. لا أحدَ يستطيعُ هذا التبديلَ لكلماتِ اللَّهِ. ثم قال: {وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} فاعل (جاء) هنا محذوفٌ دَلَّ عليه المقامُ (¬1). و (مِنْ) في قولِه: {مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} تبعيضيةٌ، أي: ولقد جاءَك بعضُ أنباءِ المرسلينَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {مِنْهُم مَّنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: آية 78]، وفي هذا البعضِ الذي جاءَك مِنْ أنبائهم تسليةٌ لكَ، وتثبيتٌ لكَ، كما قال: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: آية 120]، {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: آية 43]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: آية 35]. {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: آية 35]. {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دَعَا قومَه إلى الإسلامِ، وَعَرَضَ عليهم هذا القرآنَ العظيمَ بما فيه من الآياتِ البيناتِ التي لا تَتْرُكُ في الحقِّ لَبْسًا قَابَلُوهُ بالردِّ القبيحِ والإعراضِ، أي: ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 417)، البحر المحيط (4/ 113)، الدر المصون (4/ 606).

التَّوَلِّي والصدودِ عن دينِ اللَّهِ (جل وعلا) وَآذَوْهُ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَيَّنَ في هذه الآيةِ أن مِنْ أَسْوَإِ ما يسوؤه، وأحزن ما يحزنه، ويضيقُ به صدرُه إعراضُهم وتوليهم عن الحقِّ؛ لِمَا جُبِلَ عليه من الشفقةِ والرحمةِ؛ وَلِذَا نَهَاهُ اللَّهُ مرارًا عن شدةِ أَسَفِهِ وحزنِه عليهم (¬1)، قال له: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: آية 8] لأجلِ أن لم يؤمنوا فَهَوِّنْ عليكَ، وقال له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: آية 3] ومعنَى {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} مهلكٌ نَفْسَكَ بالأسفِ والحزنِ؛ لأجلِ عدمِ إيمانِهم. و (الباخعُ) في لغةِ العربِ: الْمُهْلِكُ (¬2)، ومنه قولُ غيلان ذي الرمة (¬3): أَلاَ أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ «الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ» أي: المهلكُ الوجدُ نفسَه. {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي: مُهْلِكُهَا. {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لأجلِ عدمِ إيمانِهم، فَهَوِّنْ عليكَ، وقال له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: آية 6] وهو شدةُ الحزنِ، أي: لشدةِ الحزنِ عليهم أن لم يؤمنوا، وقال له: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: آية 8] مِنْ شِدَّةِ التأسفِ على عدمِ إيمانِهم، فَهَوِّنْ عليكَ. واللَّهُ يعني بهذا: يعني أنتَ رسولٌ مُهِمَّتُكَ الرسالةُ، وقد بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَأَدَّيْتَ كما ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 189). (¬2) مضى عند تفسير الآية (33) من سورة الأنعام. (¬3) البيت في معاني القرآن للزجاج (3/ 268)، الدر المصون (7/ 442).

ينبغي، فَهُدَاهُمْ ليسَ عليكَ، وحسابُهم ليسَ عليكَ، فَرَبُّهُمْ أعلمُ بِهِمْ، هو الذي يُشْقِي وَيَهْدِي، وهو الذي إليه مَرْجِعُهُمْ وَحِسَابُهُمْ، فَهَوِّنْ عليكَ، فقد قمتَ بما عليكَ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}؛ ولذا شَدَّدَ عليه هنا في هذه الآيةِ، قال له: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي شَقَّ وَعَظُمَ عليكَ {إِعْرَاضُهُمْ} أي: صُدُودُهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ عَمَّا جئتَ به، وقد أَمَرْتُكَ مرارًا أن تتركَ عنكَ هذا الحزنَ، وتعلم أنَّ ما عليك قد أَدَّيْتَهُ، بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ، وأن هُدَاهُمْ ليس بِيَدِكَ {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: آية 272] {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: آية 41] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: آية 37] قال له هنا: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي: شَقَّ وَعَظُمَ عليكَ وَأَحْزَنَكَ (¬1) {إِعْرَاضُهُمْ} أي: صدودُهم عَمَّا جئتَ به. و (الإعراضُ) مصدرُ أعرضَ يُعْرِضُ إِعْرَاضًا، إذا صدَّ وَتَوَلَّى عن الشيءِ. فكأن اللَّهَ يقولُ له: إن عَظُمَ وَشَقَّ عليكَ وأحزنكَ صدودُهم وتوليهم، وقد نهيتُكَ مرارًا عن هذا الحزنِ، فإن كانت لكَ طاقةٌ أو قدرةٌ فَأْتِ بها، وإن عجزتَ عن ذلك فَاعْلَمْ أن ذلك بِيَدِ اللَّهِ، فَكِلْ الأَمْرَ إليه، وَهَوِّنْ عليكَ؛ ولذا قال: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} الاستطاعةُ على الشيء: القدرةُ عليه. {أَنْ تَبْتَغِيَ} تَطْلُبَ. {نَفَقًا فِي الأَرْضِ} النفقُ: السَّرَبُ في بطنِ الأرضِ، الذي يكونُ له وجهٌ من جهةٍ أخرى ينفذُ منه الإنسانُ (¬2)، أن تبتغيَ سَرَبًا في الأرضِ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 417). (¬2) انظر: القرطبي (6/ 417)، الدر المصون (4/ 609).

[فَتَغُوصَ] (¬1) به في بطنِ الأرضِ؛ لتُخْرِجَ آيةً تَقْهَرُهُمْ بها، {أَوْ سُلَّمًا} أو مصعدًا تصعدُ به إلى السماءِ (¬2)، حتى تُحَصِّلَ من الأسفلِ أو من الأعلى آيةً تَقْهَرُهُمْ بها؛ إِنْ قدرتَ على هذا فَافْعَلْ. فجوابُ {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} محذوفٌ، وتقديرُه: فَافْعَلْ. إن قدرتَ على ذلك فَافْعَلْ (¬3)، وإن كنتَ عاجزًا عن ذلك - كما هو الحقُّ - فَهَوِّنْ عليكَ، وَاعْلَمْ أن أمرَهم إلى اللَّهِ، ومصيرَهم إلى اللَّهِ، فَهَوِّنْ عليكَ. وقولُه في صدرِ هذه الآيةِ الكريمةِ: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} المعروفُ في فَنِّ العربيةِ: أن مادةَ (الكافِ والباءِ والراءِ) تُسْتَعْمَلُ فِي القرآنِ العظيمِ وفي لغةِ العربِ اسْتِعْمَالَيْنِ، ويتغيرُ شَكْلُهَا بحسبِ الاستعمالين (¬4)، إن كانت (كَبُرَ) معناه: أنه عَظُمَ وكبر، فهي مضمومةُ الباءِ في مُضَارِعِهَا وماضيها، تقول: «كَبُرَ عَلَيْهِ الأَمْرُ»، إذا عَظُمَ وَشَقَّ. ومنه قولُه هنا: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}، وقولُه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: آية 5] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} [الصف: آية 3] ومضارعُ هذه أيضا: (يكبُر) بضمِّ الباءِ على القياسِ، كما في قولِه: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: الآيتان 50، 51] فهذه كبُر يكبُر. أما معناها الآخَرُ، وهو (الكِبَر في السِّنِّ)، بأن تقولَ: «كَبِرَ هذا الغلامُ في سِنِّهِ»، فهي مكسورةُ الباءِ في الماضي، تقول: (كَبِرَ)، بكسرِ الباءِ. ولا تقول: (كَبُرَ)، وتقول في مضارعها: (يَكْبَر) بفتحِ الباءِ، ¬

(¬1) في الأصل: فتغيص. (¬2) انظر: القرطبي (6/ 417)، الدر المصون (4/ 610). (¬3) انظر: الدر المصون (4/ 607)، ضياء السالك (4/ 51 - 52). (¬4) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

ولا تقول: (يكبُر)، على القياسِ، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: آية 6] لأنه هنا مضارعُ (كبِر) بكسرِ الباءِ، (يَكْبَر) بفتحِها على القياسِ، ومنه بهذا المعنى الأخيرِ قولُ مجنونِ بَنِي عامر (¬1): تَعَشَّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ ذَوَائِبٍ ... وَلَمْ يَبْدُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبُهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا ... إِلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ الْبُهْمُ هذان معنى (كَبُرَ) و (كَبِرَ)؛ لأنهما معنيانِ مختلفانِ يتغيرُ المعنى بهما. وهذا معنى قولِه: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ} النفقُ: السَّرَبُ في داخلِ الأرضِ (¬2)، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬3): وَلاَ لَكُمَا مَنْجًى مِنَ الأَرْضِ فَابْغِيَا ... بِهَا نَفَقًا أَوْ فِي السَّمَوَاتِ سُلَّمَا وَيُجْمَعُ النفقُ على أنفاقٍ، ومنه قولُ امرئِ القيسِ (¬4): خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬2) مضى قريبا. (¬3) البيت لكعب بن زهير. وهو في البحر المحيط (4/ 114)، الدر المصون (4/ 610). (¬4) ديوان امرئ القيس ص (36). وقبله: ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبا ... على جدَد الصحراء من شد مُلهبِ والمعنى: خفاهن: أظهرهن، يعني الفئران. أنفاقهن: أجحارهن. الودق: المطر. فهو يقول: إن شدة وقع حوافر هذا الجواد على الأرض أوهم الفئران في أجحارهن بأنه وقع مطر شديد فتركت أنفاقها، وخرجت ناجية بأرواحها إلى مرتفعات الأرض.

يعني أَخْرَجَهُنَّ من جحورهن؛ لأن جحورَ الحشراتِ تُسَمَّى أَنْفَاقًا، واحدُها نفقٌ. والسُّلَّمُ: هو المصعدُ إلى الشيءِ، معروفٌ في كلامِ العربِ. والسُّلمُ إلى السماءِ: المصعدُ الذي يُصْعَدُ فيه إلى السماءِ (¬1). ومنه قولُ زهيرٍ في معلقتِه (¬2): وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَكُلُّ مصعدٍ يصعد فيه الإنسانُ تُسَمِّيهِ العربُ سُلَّمًا، ولو كان مَعْنَوِيًّا، فالشيءُ الذي يُرْتَقَى به إلى الأمرِ - ولو مَعْنَوِيًّا غيرَ محسوسٍ - تقولُ له العربُ: سُلَّمٌ، ومنه قولُ الحطيئةِ (¬3): الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهْ زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ وقولُه جل وعلا: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ} هذا الفعلُ المضارعُ منصوبٌ؛ لأنه معطوفٌ على فعلٍ منصوبٍ، والمضارعُ المعطوفُ على منصوبٍ يُنْصَبُ. والأولُ المنصوبُ قولُه: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ} فقوله: {تَبْتَغِيَ} منصوبٌ بـ (أن). وقولُه: {فَتَأْتِيَهُمْ} معطوفٌ عليه، {فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ} قاهرةٍ تقهرهم بها فَافْعَلْ إن قدرتَ، وإن لم تَقْدِرْ على ذلك فَهَوِّنْ عليكَ، وَاعْلَمْ أن أمرَهم بيدِ اللَّهِ، هُدَاهُمْ بيدِه وحسابُهم عليه، فَهَوِّنْ عليكَ. ثم إن اللَّهَ قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} هذا الْهُدَى الذي يُؤْسِفُكَ أن لم يَهْتَدُوا هو بيدِ اللَّهِ، لو شَاءَ رَبُّكَ {لَجَمَعَهُمْ عَلَى ¬

(¬1) مضى قريبا. (¬2) انظر: شرح القصائد المشهورات (1/ 122). (¬3) ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت ص (291).

الْهُدَى} لَفَعَلَ. والقاعدةُ المقررةُ في عِلْمِ العربيةِ: أن فعلَ المشيئةِ إذا قُرِنَ بشرطٍ أنه يُحْذَفُ مفعولُه دائما (¬1)؛ لأن جزاءَ الشرطِ يكفي عنه. والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: (ولو شاء اللَّهُ جَمْعَهُمْ على الْهُدَى لَجَمَعَهُمْ على الْهُدَى) فغالبًا إذا عُلِّقَ فعلُ المشيئةِ بالشرطِ حُذِفَ مفعولُه لدلالةِ جوابِ الشرطِ عليه، ولم نَجِدْهُ موجودًا في القرآنِ ولا في كلامِ العربِ، إلا إذا كانَ المفعولُ مصدرًا مُنْسَبِكًا من (أن) وَصِلَتِهَا، كقولِه: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ} [الأنبياء: آية 17] {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى} [الزمر: آية 4] لأن الأسلوبَ الشائعَ في القرآنِ هو حذفُ هدا المفعولِ، أن يقولَ: لو أَرَادَ اللَّهُ لاصْطَفَى وَلَدًا، (لو أرادَ لاتَّخَذَ لَهْوًا)، ولكنه هنا أثبتَ المفعولَ، وهو مصدرٌ منسبكٌ من (أن) وَصِلَتِهَا. ونظيرُه في إثباتِ المفعولِ - وهو مصدرٌ منسبكٌ من (أن) وَصِلَتِهَا - قولُ الشاعرِ (¬2): وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ عَلَيْكَ وَلَكِنْ سَاحِةُ الصَّبرِ أَوْسَعُ وقولُه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} (جل وعلا) {لَجَمَعَهُمْ} جميعًا {عَلَى الْهُدَى}، وَالْهُدَى هنا بمعناه الخاصِّ؛ لأنا قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ- في الكلامِ على سورةِ الفاتحةِ- أن الْهُدَى يُطْلَقُ في القرآنِ إطلاقين: يطلق إطلاقًا عامًّا، ويطلقُ إطلاقًا خاصًّا، أما الهدى بمعناه العامِّ: فهو إبانةُ الطريقِ وإيضاحُها وتوضيحُ الخيرِ من الشَّرِّ. ومنه بهذا المعنى في القرآنِ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: آية 17] أي: ¬

(¬1) انظر: الإتقان (3/ 172 - 173)، الدر المصون (1/ 183، 4/ 614). (¬2) البيت للخُريمي، وهو في الكامل للمبرد (3/ 1362)، تاريخ دمشق (8/ 202).

أَوْضَحْنَا لهم طريقَ الخيرِ وَالشَّرِّ بَيِّنَةً على لسانِ نَبِيِّنَا صالحٍ. وليس هذا الْهُدَى (هُدَى تَوْفِيقٍ)، وإنما هو (هُدَى بَيَانٍ) فَقَطْ بدليلِ قولِه: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: آية 17] فَتَبَيَّنَ أن قولَه: {فَهَدَيْنَاهُمْ} ليس (هُدَى تَوْفِيقٍ)، وإنما هو (هُدَى بَيَانٍ) وإيضاحٍ للحقِّ من الباطلِ، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى في الإنسانِ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: آية 3] لأن معنى قولِه: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بَيَّنَّا له طريقَ الخيرِ والشرِّ، وَأَوْضَحْنَا له ما يُتَّقَى وما يُفْعَلُ، بدليلِ قولِه بعدَه: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: آية 3] لأنه لو كان (هُدَى تَوْفِيقٍ) لَمَا فَصَّلَهُ بقولِه: {وَإِمَّا كَفُورًا} ومن إطلاقِ الْهُدَى بمعناه الخاصِّ قولُه في النَّبِيِّينَ الذين ذَكَرَهُمْ في الأنعامِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90] وهو بمعناه الخاصِّ: التوفيقُ إلى ما يُرْضِي اللَّهَ. وإذا علمتُم أن للهدى إِطْلاَقَيْنِ: إطلاقًا عَامًّا، وإطلاقًا خَاصًّا (¬1)، وأن إطلاقَه العامَّ معناه الهدى بمعنى البيانِ والإرشادِ وبيانِ الحقِّ وإيضاحِه، وأن معناه الخاصَّ هو تفضُّلُ اللَّهِ بالتوفيقِ على عبدِه، وأن يهديَه إلى طريقِ الخيرِ، كما قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: آية 125] أي: بهذا الهدى الخاصِّ {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ}. بهذا التفصيلِ تزولُ عنكم إشكالاتٌ في كتابِ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ مثلا ¬

(¬1) انظر: شفاء العليل ص (65)، دفع إيهام الاضطراب ص (7 - 8) (ملحق لآخر الجزء التاسع من أضواء البيان).

قال لِنَبِيِّهِ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] وقال له في آيةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: آية 52] فيقعُ فيه لطالبِ العلمِ أن يقولَ: كيف قال له: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] وقال له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: آية 52]؟ والجوابُ عن الآيتين: هو ما بَيَّنَّا الآنَ أن للهدى إِطْلاَقًا عَامًّا، وإطلاقًا خَاصًّا، فالهدى المثبتُ له في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: آية 52] هو الْهُدَى العامُّ، وهو بيانُ الطريق وإيضاحُها. وقد بَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - الطريقَ حتى تَرَكَهَا مَحَجَّةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ. أما الْهُدَى المنفيُّ عنه في قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] فهو التفضلُ بالتوفيقِ؛ لأن التوفيقَ بِيَدِ اللَّهِ وحدَه {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [المائدة: آية 41]. وقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: آية 37] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُهدَى مَن يُضِلُّ} (¬1) أي: مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ لا يُهْدَى، لا هاديَ له أبدًا. إذا عرفتُم هذا فقولُه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: آية 35] يعني به الْهُدَى الخاصَّ والتوفيقَ، أما الْهُدَى العامُّ فقد بيَّن لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهَدَاهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إلى طريقِ الخيرِ. ¬

(¬1) وهي قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وأبي جعفر، ويعقوب. انظر: المبسوط لابن مهران ص (263).

ثم قال لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: آية 35] والجاهلونَ: جمعُ الجاهلِ، فهو اسمُ فاعلِ الجهلِ، وكلامُ العلماءِ في (الجهلِ) وفي تفسيرِه معروفٌ (¬1)، أشهرُ تفسيراتِه: أن الجهلَ عَدَمِيٌّ، وأن المرادَ به عدمُ العلمِ بما مِنْ شَأْنِهِ أن يُعلم. وهذه الآيةُ وأمثالُها في القرآنِ يخاطبُ اللَّهُ بها نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لِيُشَرِّعَ على لسانِه لِخَلْقِهِ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُشَرِّعٌ، يخاطبُه اللَّهُ خطابَ السيدِ لعبدِه؛ لِيُشَرِّعَ على لسانِه لِخَلْقِهِ. [1/ب] ثم إن اللَّهَ بَيَّنَ لنبيِه - صلى الله عليه وسلم - أن عدمَ هُدَاهُمْ الذي كان يُحْزِنُهُ وَيُؤْسِفُهُ / أنه لا يهتدي إلا مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ قابلاً لذلك الْهُدَى، لا مَنْ أَضَلُّهُ اللَّهُ وأماتَ قلبَه - والعياذُ بالله - ولذا قال بعدَ هذا: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: آية 36] أي: لا يُجِيبُكَ إلى ما تطلبُ وتدعو من الْهُدَى، إلا الذين يَسْمَعُونَ، أي: جَعَلَ اللَّهُ لهم سماعَ حقٍّ وَتَفَهُّمٍ يسمعونَ به عن اللَّهِ، أما الذين [أَعْمَى] (¬2) اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ، وَخَتَمَ على آذانِهم فلا يجيبونك أبدًا، فلا تَحْزَنْ عليهم، فليسَ فيهم حِيلَةٌ؛ لأن رَبَّهُمْ قضى عليهم بالشقاءِ الأَزَلِيِّ؛ ولذا قال هنا: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} أي: يستجيبُ لكَ، وَيُجِيبُكَ فيما تدعوه إليه من الإسلامِ {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} سماعَ تَفَهُّمٍ بأن وَفّقَهُمُ اللَّهُ، وأعطاهم سماعَ تَفَهُّمٍ يفهمون به ويقبلونَ، أما الذين لم يُعْطِهِمُ اللَّهُ سماعَ تَفَهُّمٍ فهم صُمّ وإن كانوا يسمعونَ، كما قال تعالى في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: آية 18] صرح بأنهم (صُمٌّ) وأنهم (بُكْمٌ) وأنهم (عُمْيٌ)، ومع ذا يقولُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة. (¬2) في الأصل: أصم.

فيهم: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: آية 19] كيف يَسْلُقُ بألسنةٍ حدادٍ مَنْ هُوَ أَبْكَمُ؟ وقال: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: آية 4] أي: لفصاحتِهم وحلاوةِ ألسنتِهم. ومعنى هذا: أن اللَّهَ أَصَمَّهُمْ عن سماعِ الحقِّ وعن الدينِ، وعمَّا ينفعُهم عندَ رَبِّهِمْ، وإن كانوا يسمعونَ غيرَه، وكذلك جعلَ ألسنتَهم بُكْمًا عن النطقِ بالقولِ فيما يُرْضِي اللَّهَ، وبما ينفعُهم عندَه، وإن نَطَقُوا بِغَيْرِهِ. ومن أساليبِ اللغةِ العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ: أن الشيءَ إذا كان قليلَ الْجَدْوَى أُطْلِقَ عليه: لاَ شيءَ (¬1). فَأَسْمَاعُهُمْ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا بها عن اللَّهِ، وأبصارُهم لَمَّا لم يُبْصِرُوا بها ما يُرْضِي اللَّهَ، وقلوبُهم لَمَّا لم يَعْقِلُوا بها بما يُرْضِي اللَّهَ، صَارَتْ كُلُّهَا كأنها عَدَمٌ؛ وَلِذَا أُطْلِقَ عليهم اسم الصَّمَمِ؛ لأن سمعَهم لم يَنْفَعْهُمْ (¬2)، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: آية 26] فمعلومٌ في لغةِ العربِ أن السماعَ الذي لا جَدْوَى له تُطْلِقُ العربُ عليه: لا شيءَ، وَتُسَمِّي صاحبَه أَصَمَّ (¬3). وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ (¬4): ¬

(¬1) انظر: فقه اللغة للثعالبي ص (310)، مجموع الفتاوى (25/ 155 - 160)، البرهان (3/ 395)، فتح الباري (2/ 61، 241)، (9/ 208)، الإتقان (3/ 231)، الكليات (890)، القواعد الحسان ص (134). (¬2) انظر: الأضواء (1/ 49)، دفع إيهام الاضطراب ص (12)، (ملحق في آخر جـ (9) من الأضواء). (¬3) انظر: المفردات (مادة: صمم) ص (492)، دفع إيهام الاضطراب ص (12). (¬4) البيت في معاني القرآن للزجاج (5/ 303)، القرطبي (19/ 269)، الدر المصون (10/ 732).

صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا فَسَمَّاهُمْ (صُمًّا) وهو يقولُ: (إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا) فأطلقَ عليهم الصممَ مع أنه صَرَّحَ بأنهم يسمعونَ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الآخَرِ (¬1): قُلْ مَا بَدَا لَكَ مِنْ زُوْرٍ وَمِنْ كَذِبٍ حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ يعني: حِلْمِي لا يُبَالِي بما تقولُ، وإن كانت أُذْنِي تسمعُه؛ ولذا قال هنا: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} لأنهم أحياءُ يسمعونَ عن اللَّهِ سماعَ تَفَهُّمٍ. ثم قال: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} الموتى جَمْعُ (المَيِّتِ) ومثل (مَيِّتٍ) يُجْمَعُ على (مَوْتَى)، وقد يَطَّرِدُ الجمعُ على (فَعْلَى) في كُلِّ (فَعِيل) إذا كان يُرْثَى له. وكذلك (فَيْعِل) (¬2) و (فَعِل) كـ (مَيِّتٍ ومَوْتَى) و (زَمِنٍ وَزَمْنَى)، هذا على الأَكْثَرِ، أما في (فَعِيل) بمعنَى (مفعول) إذا كان يُرْثَى لصاحبِه فَتَطَّرِدُ فيه: (فَعْلَى). وأطبقَ العلماءُ على أن المرادَ بالموتى هنا: الكفارُ. لا يَكَادُ يختلفُ في هذا اثنانِ من علماءِ التفسيرِ (¬3). كأنه يقولُ: إنما يستجيبُ ¬

(¬1) أنشده ثعلب في مجالسه (2/ 378)، وهو في كتاب الحيوان للجاحظ (4/ 390)، واللسان (مادة: صمم) (2/ 476). (¬2) قال ابن هشام في تعداد أبنية الكثرة: «السابع»: «فَعْلَى» بفتح أوله وسكون ثانيه. وهو لما دل على آفة من (فَعِِيل) وصفاً للمفعول، كجريح وأسير. وحُمِل عليه ستة أوزان مما دل على آفة، من (فَعِيْل) وصفاً للفاعل، كمريض، و (فَعِل) كَزَمِن، و (فاعِل) كهالك، و (فَيْعِل) كميِّت، و (أفْعَل) كأحمق، و (فَعْلان) كسكران» اهـ أوضح المسالك (3/ 260). (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 341)، القرطبي (6/ 417)، الأضواء (2/ 189).

الأحياءُ الذين يسمعونَ، كما قال له: {لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: الآية 70] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {لِّيُنذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} (¬1) أي: الذي له حياةٌ، أما المَيْتُ: الذي أَمَاتَ اللَّهُ قَلْبَهُ. وكثيرًا ما يُطْلِقُ القرآنُ اسمَ (الميتِ) على (الكفرِ)، كقولِه تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: آية 122] وكقولِه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلاَ الْأَمْوَاتُ} [فاطر: آية 22] يعني بالأحياءِ: المؤمنين، وبالأمواتِ: الكفرةَ؛ لأن الكافرَ - والعياذُ بِاللَّهِ - كأنه ميتٌ؛ لأن حركاتِ حياتِه لم تَكُنْ في شيءٍ ينفعُه عندَ رَبِّهِ - جل وعلا - في حياتِه الأُخْرَى، فصارَ ميتَ القلبِ كأنه ميتٌ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِذَا قال: {وَالْمَوْتَى} أي: الكفارُ الذين خَتَمَ اللَّهُ على قلوبِهم، وأماتَ قلوبَهم، لا حيلةَ في إيمانِهم، فلا تَحْزَنْ عليهم، ولكن هَوِّنْ عليكَ، فحسابُهم إلى اللَّهِ، وَهُدَاهُمْ عليه، اللَّهُ هو الذي أَضَلَّهُمْ في الدنيا، ويومَ القيامةِ يَبْعَثُهُمْ، ثم إليه يُرْجَعُونَ، فَيُجَازِيهِمْ على أعمالِهم. فَهُدَاهُمْ بيدِه، وشقاؤُهم بيدِه، وحسابُهم إليه. وأنتَ إنما أنتَ نذيرٌ، وقد بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ، وأديتَ الأمانةَ، فقمتَ بما عليكَ، وَهَوِّنْ عليكَ؛ ولذا قال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: آية 36]. والعربُ تُطْلِقُ (استجاب) بمعنى: (أجاب). وَالْمَعْنَى: {يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي: يُجِيبُونَكَ إلى ما تَدْعُوهُمْ إليه. ولا شَكَّ عندَ العلماءِ في إطلاقِ (اسْتَجَابَ) بمعنى ¬

(¬1) الأولى قرأ بها نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب. والثانية قرأ بها أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف. انظر: المبسوط لابن مهران (372).

(أَجَابَ) (¬1). ومن الدليلِ عليه أن العربَ الفصحاءَ نَطَقُوا بما يَدُلُّ على ذلك، ومنه قولُ كعبِ بنِ سعدٍ الغَنَوِيِّ (¬2): وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ فجاء بـ (المجيب) اسمَ فاعلٍ (لَمْ يَسْتَجِبْهُ)، فعرفنا أنه أرادَ بـ (لم يستجبه): لَمْ يُجِبْهُ مُجِيبٌ. {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} الذي يُجِيبُكَ إلى ما تَدْعُو إليه، ويؤمنُ بكَ الإيمانَ الذي تطلبُ {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} الأحياءُ الذين لهم سَمْعٌ يَفْهَمُونَ به عنكَ {وَالْمَوْتَى} أي: الكفارُ الذين خَتَمَ اللَّهُ على قلوبِهم وأسماعِهم، فإنكَ لاَ يمكنُ أن تُسْمِعَهُمْ؛ لأَنَّهُمْ مَوْتَى، كما قال: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: آية 80] وَلِذَا قال: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} أي: مِنْ قُبُورِهِمْ يومَ القيامةِ إلى الجزاءِ. {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} قد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي في مبحثِ القصرِ، وفي فنِّ الأصولِ في مبحثِ دليلِ الخطابِ - أعني مفهومَ المخالفةِ - أَنَّ مِنَ الصيغِ الدالةِ على الحصرِ: تقديمَ المعمولِ (¬3). وقد قدَّم المعمولَ هنا، وهو الجارُّ والمجرورُ إيذانًا بالحصرِ. ثم يرجعون إليه وحدَه؛ لأنه ليس هناكَ عدةُ ملوكٍ يَرْجِعُ بعضُ الناسِ إلى واحدٍ ليحاسبَه، وبعضٌ إلى واحدٍ لِيُحَاسِبَهُ. بل هو الْمَلِكُ الواحدُ القهارُ، الذي إليه مَرْجِعُ الجميعِ؛ ولذا قَدَّمَ المعمولَ فقال: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 159)، (2/ 291)، (4/ 500). (¬2) البيت في المصدر السابق (1/ 159). (¬3) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

{وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: آية 37]. {وَقَالُوا} يعني الكفار - كفار مكةَ - هم الذين قالوا هذا القولَ (¬1). وقوله: {لَوْلاَ} اعْلَمْ أَوَّلاً: أَنَّ (لَوْلاَ) جاءت في القرآنِ العظيمِ لثلاثةِ مَعَانٍ معروفةٍ في القرآنِ العظيمِ، وفي كلامِ العربِ (¬2): الأَوَّلُ: مِنْ هذه المعانِي الثلاثةِ: (لَوْلاَ) المعروفةُ بأنها تَأْتِي لامتناعٍ لوجودٍ، وهي التي تَدُلُّ على امتناعِ شيءٍ لوجودِ شيءٍ، كقولِه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} انتفى مسيسُ العذابِ العظيمِ لوجودِ فضلِ اللَّهِ ورحمتِه. هذه التي يقال فيها إنها تدلُّ على امتناعٍ لوجودٍ، وخبرُ مبتدئِها محذوفٌ دائمًا في الأغلبِ (¬3). الثانيةُ: هي (لَوْلاَ) التي بمعنَى التحضيضِ (¬4)، وهذه تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ. ومنها كانت (لَوْلاَ) مشتركةً بين ثلاثةِ مَعَانٍ. لَوْلاَ التحضيضيةُ إنما تَدُلُّ على التحضيضِ، والتحضيضُ معناه الطلبُ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 118). (¬2) وذكر لها ابن هشام معنى رابعا في (مغني اللبيب 1/ 216) وهو: الاستفهام. وعقبه بقوله: «وأكثرهم لا يذكره» اهـ. (¬3) انظر: المفردات (مادة: لولا) ص753، الكليات ص (787 - 790)، بصائر ذوي التمييز (4/ 458)، مغني اللبيب (1/ 215). (¬4) انظر: المفردات (مادة: لولا)، وانظر: الكليات ص (777، 788 - 790)، بصائر ذوي التمييز (4/ 458) مغني اللبيب (1/ 216).

ومنه هذه التي عندنا. (لَوْلاَ) أي: نطلبُ منكَ بِحَضٍّ وَحَثٍّ أن تنزلُ عليكَ آيةٌ مثلُ آيةِ موسى التي جَاءَتْ، صَارَتْ عَصَاهُ ثعبانًا مُبِينًا، وكآيةِ صالحٍ التي خَرَجَتْ له ناقة عشراءَ جوفاءَ وَبْراءَ مِنْ صخرةٍ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وكآيةِ عيسى الذي يُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ وَيُحْيِي الموتَى بإذنِ اللَّهِ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وهذا طلبٌ منهم وتحضيضٌ، وهو طلبٌ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، إلا أنه طَلَبُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ. الثالثُ: من معانِي (لَوْلاَ)، لم نتكلم عليه الآنَ، وهو أن (لَوْلاَ) التحضيضيةَ - ومعنى التحضيضيةِ: أنها دَالَّةٌ على تحضيضٍ، والتحضيضُ: هو طلبُ الفعلِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ - لها حالتانِ: تارةً يكونُ فِعْلُهَا المطلوبُ بها مُمْكِنُ الفعلِ لَمْ تَضِعْ فُرْصَتُهُ، فهذه هي التحضيضيةُ، كالتي عِنْدَنَا. وتارةً يكونُ فِعْلُهَا المطلوبُ فيها بأداةِ الطلبِ التي هي حرفُ التحضيضِ - أعني (لَوْلاَ) - فَاتَ وَلَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ؛ لأن فرصتَه ضَاعَتْ ولم يُمْكِنْ تداركُه. فإن التحضيضيةَ في هذه الحالةِ يَنْقَلِبُ معنَى تحضيضِها إلى توبيخٍ وتنديمٍ على التفريطِ فيما مَضَى (¬1)، كقولِه: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس: آية 98] فتلك الْقُرَى الماضيةُ هَلَكَتْ وَمَضَتْ، إلا أن توبيخَ اللَّهِ لها، وتنديمَه لها بعدَ أن مَاتَتْ لِيَعْتَبِرَ به غيرُها، وكما قال: {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: آية 16] لأَنَّ الفرصةَ فَاتَتْ عليهم؛ لأنهم تَكَلَّمُوا بما لا يَلِيقُ، فَصَارَتْ (لَوْلاَ) التحضيضيةُ في شَأْنِهِمْ يُرَادُ بها التوبيخُ والتنديمُ على التفريطِ فيما مَضَى. ¬

(¬1) انظر: الكليات ص (788 - 790، 958)، بصائر ذوي التمييز (4/ 458)، مغني اللبيب (1/ 216).

وقولُه: {لَوْلاَ} أي: هلاَّ {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ}. وقوله: {مِّن رَّبِّهِ} يَعْنُونَ: يكونُ مبدأُ إنزالِها وابتداؤُه من رَبِّهِ، ينزلُ عليه آيةٌ لا لَبْسَ في الحقِّ مَعَهَا، كَعَصَا مُوسَى، وناقةِ صالحٍ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك. فَاللَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أن يقولَ، قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}. ثم قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فقولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يَدُلُّ على أن طلبَهم للآيةِ بأداةِ التحضيضِ التي هي {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} أنه نَشَأَ عن جَهْلٍ لاَ عن عِلْمٍ، ولو كانوا عَالِمِينَ لَمَا تَعَنَّتُوا، وَلَمَا اقْتَرَحُوا هذا الاقتراحَ، وذلك مِنْ أَوْجُهٍ (¬1): منها أن اللَّهَ (جل وعلا) أَجْرَى العادةَ بأن القومَ إذا اقْتَرَحُوا آيةً وأنزلها اللَّهُ لهم وَكَفَرُوا بعدَ ذلك أن اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ هلاكَ الاستئصالِ، كما يأتي في قولِه: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: آية 59] أي: وهي الآيةُ التي اقْتَرَحُوهَا فَكَفَرُوا بها، فكان ذلك سببَ هلاكٍ مُسْتَأْصِلٍ، وتدميرٍ عَامٍّ أهلكهم اللَّهُ به، وَجَعَلَهُمْ أَثَرًا بعدَ عَيْنٍ. فقد يقترحون آيةً، ويأتيهم اللَّهُ بها، فَيَكْفُرُونَ بها فَيَمْحَقُهُمْ كما مَحَقَ ثَمُودَ، كما أشارَ له بقولِه: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: آية 59] اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، فلما أُتُوا بها كفروا بها، فكانت سببًا لهلاكٍ مُسْتَأْصِلْ. وقد ذَكَرُوا في بعضِ المواضعِ من القرآنِ أن الكفارَ قالوا للنبيِّ: «سَلْ رَبَّكَ يَجْعَلْ لنا الصَّفَا ذَهَبًا». وتعنتوا بأمورٍ كثيرةٍ، وأنه جاءَه التخييرُ من رَبِّهِ إن شَاءَ فَعَلَ لهم ما اقْتَرَحُوا، وإن كَفَرُوا ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 190).

أَهْلَكَهُمْ، وإن شاءَ تَرَكَهُمْ، وَهَدَى مَنْ يَهْدِي منهم وَمِنْ أَصْلاَبِهِمْ؛ وَلِذَا قال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}. وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ تباركَ وتعالى أنزلَ على عبدِه آياتٍ ومعجزاتٍ عظيمةً، لا لَبْسَ في الحقِّ مَعَهَا، فلو كان طَلَبُهُمْ للآيةِ طلبَ مُسْتَرْشِدٍ يريدُ الْهُدَى غير مُتَعَنِّتٍ لأَعْطَاهُمُ الآيةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ من الآياتِ ما لاَ يَبْقَى في الحقِّ معه لَبْسٌ، فَتَرَكُوهُ وسألوا ذلك عِنَادًا. وأعظمُ الآياتِ وأكبرُ المعجزاتِ هو هذا القرآنُ العظيمُ الذي تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ به، وكان عَجْزُ الخلقِ عن مُعَارَضَتِهِ أكبرَ آيةٍ عُظْمَى؛ وَلِذَا أنكرَ اللَّهُ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بمعجزةِ القرآنِ وَطَلَبَ آيةً غيرَها حيث قال مُنْكِرًا عليه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: آية 51] فقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} صيغةُ إنكارٍ، يُنْكِرُ اللَّهُ به على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بهذا القرآنِ، لأنه آيةٌ أعظمُ آيةٍ. وَمِمَّا امْتَازَتْ به عنِ الآياتِ: أن آياتِ الرسلِ ومعجزاتِهم تَنْقَضِي، وتكونُ أخبارًا لا وجودَ لها في العيانِ، وآيتُه - صلى الله عليه وسلم - الكبرى وهي هذا القرآنُ العظيمُ باقيةٌ تَتَرَدَّدُ في آذانِ الناسِ إلى يومِ القيامةِ؛ ولذلك أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الصحيحِ [إلى] (¬1) حَصْرِ معجزاتِه في هذا القرآنِ، وإن كانت معجزاتُه كثيرةً لا تُحْصَرُ لكثرتِها، حيث قال في الحديثِ الصحيحِ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلاَّ أُوتِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2) ولذا قال هنا لَمَّا اقترحوا هذه ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول

الآيةَ، اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا لا استرشادًا وطلبًا لِلْهُدَى، مع أنهم جاءهم من الآياتِ ما يَكْفِي، والناسُ عَايَنُوا من معجزاتِه - صلى الله عليه وسلم - أشياءَ تُبْهِرُ العقولَ، كَشَقِّ الْقَمَرِ (¬1). وتسبيحِ الحصى في يدِه (¬2)، وكحنينِ الْجِذْعِ في هذا المسجدِ لَمَّا تَحَوَّلَ عنه إلى المنبرِ، سَمِعُوهُ يحنُّ حنينَ العشارِ، ولم يَسْكُتْ حتى جَاءَهُ - صلى الله عليه وسلم - يسكتُه كما تسكتُ الأُمُّ ¬

(¬1) ما نزل. حديث (4981) (9/ 3)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث رقم: (7274) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته. حديث (152) (1/ 134). () قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: آية 1] وقد روى واقعة انشقاق القمر جماعة من الصحابة منهم: 1 - ابن مسعود عند البخاري، الأحاديث: (3636، 3869، 3871، 4864، 4865)، ومسلم، حديث (2800). 2 - أنس بن مالك. عند البخاري، الأحاديث (3637، 3868، 4867، 4868)، ومسلم، حديث (2802). 3 - ابن عباس. عند البخاري، الأحاديث (3638، 3870، 4866)، ومسلم، حديث (2803). 4 - ابن عمر. عند مسلم، حديث (2801). (¬2) ذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/ 144) في ترجمة الوليد بن سويد. وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (3/ 135 - 136) حديث (2413، 2414)، وساق له الدارقطني في العلل (6/ 242) عدة طرق، وعقبه بقوله: «والحديث مضطرب» اهـ كما أخرجه البيهقي في الدلائل (6/ 64 - 65)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 806 - 807). والحديث ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 201 - 203)، والهيثمي في المجمع (5/ 179، 8/ 299). قال الحافظ في الفتح (6/ 592): «وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها» اهـ.

وَلَدَهَا (¬1). ومعجزاتُه صلواتُ الله وسلامُه عليه كثيرةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ أَعْظَمَهَا القرآنُ؛ ولذا حَصَرَهَا فيه بقوله: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَلِذَا أنكرَ اللَّهُ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بهذا القرآنِ العظيمِ حيث قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: آية 51] وقال: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس: آية 37] ولأَجْلِ تَعَنُّتِهِمْ وعدمِ علمِهم بأن الآياتِ إذا أُتِيَ بها مَنِ اقْتَرَحَهَا ثُمَّ كَفَرَ جَاءَهُ العذابُ الْمُسْتَأْصِلُ، كان طلبُهم للآيةِ طلبَ جهلةٍ مُتَعَنِّتِينَ لا يَتَأَمَّلُونَ فِي العواقبِ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ومن أكثرِهم الذين لا يعلمونَ هُمُ الذين تَعَنَّتُوا وَاقْتَرَحُوا وَطَلَبُوا هذه الآياتِ؛ لأن عندهم تعنتاتٍ كثيرةً، كما ذكره اللَّهُ عنهم في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه، كقولِه في أخرياتِ سورةِ بني إسرائيلَ: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تُفَجِّرَ لنا} وفي القراءةِ الأُخْرَى (¬2): {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: الآيات 90 - 92] يَعْنُونَ قولَه: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ} [سبا: آية 9] {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري من حديث جابر، كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، حديث (918، 2095، 3584، 3585)، (2/ 397). كما أخرجه أيضا من حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) حديث (3583). (¬2) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر: (تُفجِّر) بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مكسورة. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف (تَفْجُر) بفتح التاء، وسكون الفاء، وضم الجيم خفيفة. انظر: المبسوط لابن مهران ص (271).

وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّنْ زُخْرُفٍ} يَعْنُونَ بالزخرفِ الذهبَ {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: الآيتان 92، 93] هذه تَعَنُّتَاتُهُمْ، ومن هذه التعنتاتِ: اقتراحهم للآياتِ، فأخبرهم أن رَبَّهُ قادرٌ على أن ينزلها، ولكن إنزالَها لا خيرَ لهم فيه، أَوَّلاً هو تعنتٌ لا يُراد به الحقُّ، ولو أنزلها لكفروا فأهلكهم كما أَهْلَكَ مَنْ كَفَرَ قبلَهم، كما أشارَ له بقولِه: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: آية 59] وقد أَتَاهُمْ من المعجزات بِمَا فيه الكفايةُ، ولا يبقى في الحقِّ معه لَبْسٌ. أما التعنتاتُ فلا داعيَ للإجابةِ فيها؛ وَلِذَا قال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: آية 37]. [2/أ] / {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)} [الأنعام: الآيات 38 - 41]. يقول الله جل وعلا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: آية 38]. قولُه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} أصلُه: وما دَابِّةٌ في الأرضِ. وإنما زِيدَتْ قبلَه (مِنْ) في قولِه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} لِتَنْقُلَهَا زيادةُ (مِنْ) من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ. فقد تَقَرَّرَ في الأصولِ: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ من صيغِ

العمومِ (¬1). إلا أنها تكونُ ظاهرةً في العمومِ، فإذا زِيدَتْ قبلَ النكرةِ لفظةُ (مِنْ) نَقَلَتْهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ (¬2). فلو قيل: «وما دابةٌ في الأرضِ» كانت الصيغةُ ظاهرةً في العمومِ. وَلَمَّا أكدَ شمولَ النفيِ بـ (من) وقال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ} نَقَلَتْهَا زيادةُ (مِنْ) من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ. والمرادُ بالعمومِ: شمولُ النفيِ لكلِّ دابةٍ (¬3). أنه ما دَابَّةٌ في الأرضِ ولا طائر يطيرُ إلا أممٌ أمثالكم. وَاعْلَمْ أن زيادةَ (من) قبلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ لِتَنْقُلَهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ، تَطَّرِدُ في القرآنِ وفي اللغةِ العربيةِ في ثلاثةِ مَوَاضِعَ (¬4): الأولُ: أَنْ تُزَادَ قبلَ المبتدأِ، كما هنا؛ لأن الأصلَ: وما دَابَّةٌ. و (دابة) مبتدأٌ سَوَّغَ الابتداءَ فيه بالنكرةِ اعتمادُها على النفيِ قَبْلَهُ. الثاني: زيادةُ (مِنْ) قَبْلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ إذا كانت النكرةُ فاعلاً. نحو: {مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: آية 46] أصلُه: (ما أتاهم نذيرٌ) فاعلٌ زِيدَتْ قبلَه (مِنْ). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬2) انظر: شرح تنقيح الفصول (182، 194)، شرح الكوكب المنير (3/ 138)، البرهان للزركشي (4/ 421)، الكليات (840)، المحلي على الجمع (1/ 414)، الفتح (1/ 88)، الأضواء (1/ 10)، (2/ 36)، (3/ 289)، (4/ 172، 278)، (6/ 660)، (7/ 651). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 119). (¬4) انظر: ضياء السالك (2/ 280).

الثالثُ: أن تُزَادَ قبلَ المفعولِ، نحو: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} [الأنبياء: آية 25] الأصلُ: ما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رَسُولاً. فزيدت (من) فَتَحَصَّلَ أن (من) إذا زِيدَتْ قبلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ نَقَلَتْهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ. وأنها تُزَادُ قبلَ النكرةِ بِاطِّرَادٍ في ثلاثةِ مواضعَ: قَبْلَ المبتدأِ، وقبلَ الفاعلِ، وقبلَ المفعولِ. وقولُه: {فِي الأَرْضِ} قال بعضُ العلماءِ: إنما خَصَّ دوابَّ الأرضِ دونَ دوابِّ السماءِ - مع أن في السماءِ دَوَابَّ أيضًا، كما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: آية 29]- لِتَهْوِينِ أَمْرِهِمْ؛ لأنه أَرَادَ أن يُبَيِّنَ - لَمَّا قالَ الكفارُ: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} - أنه لا يُهْمِلُ شيئًا، وهو قائمٌ بمصالحِ دوابِّ الأرضِ التي هي مِنْ أَحْقَرِ الأشياءِ، فكيف يُهْمِلُ مصالحَ الآدَمِيِّينَ (¬1)!! ولو كان لكم في الآيةِ المقترحةِ فائدةٌ لأَتَاكُمْ بها. وقال بعضُ العلماءِ: عُبِّرَ لهم بما عَرَفُوا في الأرضِ، وَتُرِكَ غيرُه؛ لأنهم لم يَعْرِفُوهُ، فَأُرِيدَ مخاطبتُهم بِمَا عَلِمُوا (¬2). وقولُه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قال بعضُ العلماءِ: إذا كان الطيرُ نازلاً يَمْشِي في الأرضِ فقد يَصْدُقُ عليه اسمُ (الدابةِ) لِدَبِيبِهِ في الأرضِ، وإذا طارَ في جوِّ السماءِ قابضًا وَصَافًّا لم يَصْدُقْ عليه في ذلك الوصفِ اسمَ الدبيبِ، وإنما يَصْدُقُ عليه أنه يطيرُ بِجَنَاحَيْهِ لاَ يدبُّ بِرِجْلِهِ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 344)، البحر المحيط (4/ 119). (¬2) انظر: القرطبي (6/ 420).

وقولُه: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} في هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: ما الفائدةُ وما الحكمةُ في قولِه: {بِجَنَاحَيْهِ} ومعلومٌ أن الطائرَ لا يطيرُ إلا بِجَنَاحَيْهِ؟ الجوابُ عن هذا السؤالِ عندَ العلماءِ مِنْ أَوْجُهٍ منها (¬1): أن القرآنَ نزلَ بلغةِ العربِ، وَمِنْ عادةِ العربِ هذا النوعُ من التوكيدِ، نحو: (قال لي هذا بِفِيهِ)، و (مَشَى إِلَيَّ بِرِجْلِهِ)، ومنه في القرآنِ: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: آية 79] ومعلومٌ أنهم لا يَكْتُبُونَهُ إلا بأيديهم، وكقولِه: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: آية 167] {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم} [الفتح: آية 11] ومعلومٌ أن القولَ بالفمِ واللسانِ وما جَرَى مَجْرَى ذلك. القولُ الثاني: أن مادةَ (الطاءِ والياءِ والراءِ) - مادة (الطيرانِ) - قد تُطْلِقُهَا العربُ على الإسراعِ بِالرِّجْلَيْنِ، لا بِالْجَنَاحَيْنِ. وقد تقولُ لِعَبْدِكَ: «طِرْ يَا غُلاَمُ فِي حَاجَتِي» تعني: أَسْرِعْ، وفي الحديثِ في مدحِ المجاهدِ: «إِذْ سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إِلَيْهَا»، أي: أَسْرَعَ إليها (¬2). وفي شعرِ الحماسي، بيتُه المعروفُ (¬3): ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 349)، القرطبي (6/ 419)، البحر المحيط (4/ 119)، الدر المصون (4/ 611) وراجع ما تقدم عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة. (¬2) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط حديث (1889)، (3/ 1503). (¬3) البيت لقُريط بن أُنيف. وهذا هو الشطر الثاني من البيت، وشطره الأول قوله: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... ........................... وهو في المفردات (مادة: طير) ص (529)، اللسان (مادة: طير) (2/ 635)، الدر المصون (4/ 612).

................... طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ (¬1): صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا إِنْ يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا مِنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا وَلَمَّا كان يكثرُ في لغةِ العربِ [إطلاقُ] (¬2) الطيرانِ على الإسراعِ بِالرِّجْلَيْنِ، قد يكونُ لقولِه: {بِجَنَاحَيْهِ} فائدةٌ؛ لتُخْرَجَ مِنَ الإسراعِ بغيرِ الجناحين كما ذَكَرْنَا. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: قد يكونُ بعضُ ما يطيرُ يطيرُ بأكثرَ مِنْ جَنَاحَيْنِ، كما قال في الملائكةِ: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: آية 1] قالوا: هنالك من الملائكةِ مَنْ يطيرُ بأربعةِ أجنحةٍ؛ وَلِذَا احتُرزَ عن ذلك بقوله: {بِجَنَاحَيْهِ}. وَأَظْهَرُ الأقوالِ هو ما صَدَّرْنَا به: أن هذا الأسلوبَ معروفٌ في كلامِ العربِ، كقوله: «قَالَهُ لِي بِفِيهِ»، و «مشى إِلَيَّ بِرِجْلِهِ»، و «كتبتُ له بِيَدِي»، و «طارَ الطائرُ بِجَنَاحَيْهِ»، ومنه: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: آية 79] {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: آية 167] وما جرى مَجْرَى ذلك و {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في قولِه: ¬

(¬1) البيت الأول تقدم عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام، والبيت الثاني ذكره ابن جني في المحتسب (1/ 206) وهو أيضا في الدر المصون (4/ 244). (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

{إِلاَّ أُمَمٌ} سؤال، وهو أن يُقال: أَفْرَدَ اللَّهُ هنا الدابةَ، قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} بلفظِ (دابةٍ) واحدةٍ {وَلاَ طَائِرٍ} بلفظِ (طائرٍ) واحدٍ. فكيف يَجْمَعُهُمْ على أممٍ ويقول: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}؟ والجوابُ (¬1): في هذا واضحٌ؛ لأن قولَه: {مَا مِنْ دَابَّةٍ} وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ} كلاهما نكرةٌ في سياقِ النفيِ، تَعُمُّ كُلَّ دابةٍ، كائنة ما كَانَتْ، وَكُلُّ طائرٍ يطيرُ بِجَنَاحَيْهِ كائنًا ما كانَ، فالمعنى عَامٌّ؛ وَلِذَا قال في مثلِ هذا: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: آية 27] أَفْرَدَ اسمَ الضامرِ وقال: {يَأْتِينَ} بصيغةِ الجمعِ؛ لأن {كُلِّ ضَامِرٍ} بمعنى: ضَوَامِرَ كثيرةٍ، وكذلك {مَا مِنْ دَابَّةٍ} بمعنى: دَوَابَّ كثيرةٍ {وَلاَ طَائِرٍ} يَعُمُّ طيرًا كثيرًا؛ ولذا قال: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} اختلف العلماءُ في مِثْلِيَّةِ هذه الأممِ للآدميين على أقوالٍ متعددةٍ (¬2)، بعضها حَقٌّ. وَحَاصِلُ هذا أن اللَّهَ صَرَّحَ بأن الدوابَّ بأنواعها: بأنواعِ الوحوشِ، وأنواعِ السباعِ، وأنواعِ الطيورِ، كُلُّ نوعٍ من هذه الأنواعِ أُمَّةٌ من الأممِ التي خَلََقَ اللَّهُ، أمثال الآدميين؛ لمشابهاتٍ بينها وبينَ الآدميين؛ لأَنَّ كُلاًّ من الجميعِ مخلوقٌ يحتاجُ إلى خالقٍ يَخْلُقُهُ، مرزوق يحتاجُ إلى خالقٍ يرزقُه ويدبرُ شُؤُونَهُ. والكُلُّ مضبوطٌ في كتابٍ: أوصافُ الجميعِ، وآدابُ الجميعِ، وصفاتُ الجميعِ، ومقاديرُهم، وألوانُهم، إلى غيرِ ذلك. ومما يكونُ من تلك المماثلةِ: أن الجميعَ يُحْشَرُونَ إلى اللَّهِ، كما قال هنا: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} وَنَصَّ على ذلك في التكويرِ في قولِه: {وَإِذَا الْوُحُوشُ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 120)، الدر المصون (4/ 612). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 345)، القرطبي (6/ 420)، البحر المحيط (4/ 120).

حُشِرَتْ} [التكوير: آية 5] فلما كانوا أُمَمًا وأجناسًا يَعْرِفُ بعضُها بعضًا، وتُسافِدُ ذُكُورُهَا إِنَاثَهَا فَيَتَنَاسَلُونَ، وهذا أبٌ، وهذا أُمٌّ، والكلُّ مرزوقٌ، يرزقُه رازقٌ، يُدَبِّرُ شؤونَه، وَقَدَّر أرزاقَه، وقَدَّر آجالَه، القَدْرُ الذي يرزقُهم اللَّهُ مُحَدَّدٌ، والقَدْرُ الذي يعيشونَ في الدنيا محددٌ، وأوصافُهم وألوانُهم وغيرُ ذلك، وكلُّ هذا في كتابٍ، والآدميونَ كذلك يحتاجونَ إلى رازقٍ يَرْزُقُهُمْ، ويدبرُ شؤونَهم، يضبطُ آجالَهم وأعمالَهم وأرزاقَهم. من هذه الحيثيةِ صارت هذه أُمَمًا أمثالَنا. وقد كان لسفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ (رحمه الله) في هذه الآيةِ تفسيرٌ مشهورٌ (¬1) ارتضاه بعضُ العلماءِ، ولا يظهرُ عندنا كُلَّ الظهورِ، كان ابنُ عُيَيْنَةَ (رحمه الله) يقولُ في هذه الآيةِ الكريمةِ: إن اللَّهَ تباركَ وتعالى جعلَ في الآدميين شَبَهًا من أنواعِ البهائمِ، فَجَعَلَ في بعضِهم جراءةَ الأسدِ، وجعلَ في بعضِهم سرعةَ عَدْوِ الذيبِ، وجعلَ في بعضِهم فخرَ الطاووسِ وزهوَه، وجعلَ في بعضهم شَرَهَ الخنزيرِ، وهكذا، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا مشابهاتٍ من هذا النوعِ. وأكثرُ العلماءِ على أنهم إنما كانوا أُمَمًا أمثالنا؛ لأن كُلَّنَا مخلوقٌ مسكينٌ مرزوقٌ يُدَبِّرُ شؤونَه خالقٌ رازقٌ، وأن ذلك الخالقَ الرازقَ قَدَّرَ الأوقات الذي يُوجِدُنَا فيها، والأوقات التي يُمِيتُنَا فيها، والأرزاقَ التي يَرْزُقُنَا فيها، وَقَدَّرَ لِكُلٍّ منا قَدْرَ حياتِه وَرِزْقِه وَأَجَلِه وَقَدَّرَ صفتَه التي يكونُ عليها، ومقدارَه الذي يكونُ عليه، ونحو ذلك. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 420)، البحر المحيط (4/ 120)، شفاء العليل لابن القيم ص77.

وبهذه الآيةِ يتفكرُ المسلمُ ويعتبر، ويعلمُ أنه بالنسبة إلى ضَعْفِهِ وافتقارِه؛ وعظمةِ اللَّهِ (جل وعلا) وجلالِه، أنه كالحيواناتِ والبهائمِ. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} كما أنكم تعرفونَ اللَّهَ، وَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُوَحِّدُونَهُ، فهم أممٌ أمثالُكم كذلك (¬1). ويدلُّ لهذا أن اللَّهَ (جل وعلا) قال: {وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: آية 44] وقال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: آية 41]. ومما يقدحُ في هذا القولِ أن هذا النوعَ تستوي فيه الجماداتُ مع البهائمِ؛ [لأنه] (¬2) دلَّ الكتابُ وَالسُّنَّةُ على أن الجماداتِ تشاركُ البهائمَ في هذا، واللَّهُ في آيةِ الأنعامِ هذه خَصَّ الحيواناتِ حيث قال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} أما ذلك الإدراكُ وتسبيحُ اللَّهِ فالجماداتُ تشاركُ فيه البهائمَ، ويشملها عمومُ قولِه: {وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: آية 44] وقد سَبَّحَ الْحَصَى بيدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ في قصةِ الْجِذْعِ - وهي متواترةٌ (¬4) - أن الجذعَ الذي كان يخطبُ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا تَحَوَّلَ عنه إلى المنبرِ فَقَدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فحَنَّ حنينَ العِشَارِ، والمسجدُ غَاصٌّ ¬

(¬1) المصدران السابقان. (¬2) في الأصل: «لأن الله بين» والكلام غير منتظم. (¬3) مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام. (¬4) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 563)، شمائل الرسرل - صلى الله عليه وسلم - لابن كثير ص243، فتع الباري (6/ 603)، شرح الشفا (1/ 622).

بالناسِ، والصحابةُ يسمعونَ حَنِينَهُ، حتى جاءه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسَكِّتُهُ كما تُسَكِّتُ الأُمُّ وَلَدَهَا (¬1). وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ بِمَكَّةَ» (¬2). وقد قال اللَّهُ (جل وعلا) في كتابِه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا} - أي: مِنَ الحجارةِ - {لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: آية 74] لما يُصْعَقُ مِنْ أَعْلَى الجبلِ إلى أسفلِه نازلاً خوفًا من رَبِّ العالمين (جل وعلا)، كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: آية 21] وقد قال جل وعلا: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص: آية 18] فصرَّح بتسبيحِ الجبالِ، وقد قال جل وعلا: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: آية 72] والإشفاقُ: الخوفُ. معناه: أن هذه الجماداتِ، من السمواتِ والأرضِ والجبالِ، عندها إدراكٌ يعلمُه اللَّهُ، ونحن لا نعلمُه، حيث أَبَتْ من التزامِ التكليفِ وَأَشْفَقَتْ، وهذه حقائقُ دَلَّ عليها الكتابُ والسنةُ. وَالْمُلْحِدُونَ الذين يقولونَ: «هذه أمثلةٌ وتخييلٌ وتصويرٌ بما ليس بواقعٍ». كل ذلك من صَرْفِ كتابِ اللَّهِ عن ظاهرِه المتبادرِ منه بغيرِ دليلٍ، وذلك لا يجوزُ؛ إذ لا مانعَ عقلاً أن يخلقَ اللَّهُ للجماداتِ إدراكاتٍ يعلمُها هو ونحن لا نعلمُها، كما قال تعالى: {وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: آية 44] وكذلك يخلقُ للبهائمِ إدراكاتٍ، وقد نصَّ القرآنُ على كثيرٍ من ذلك، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. حديث (2277) (4/ 1782).

نصَّ على قضيةِ النملةِ وَخُطْبَتِهَا العظيمةِ التي قَالَ فيها: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: آية 18] وذكر قصةَ الهدهدِ ومحاجتَه لسليمانَ، ونسبتَه الإحاطةَ لنفسِه ونفيَها عن سليمانَ {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: آية 22] وَبَيَّنَ أنه يَفْهَمُ أن يذهبُ بالكتابِ إلى بلقيسَ وجماعتِها {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: آية 28]. وقوله (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 38] في المرادِ بالكتابِ هنا وَجْهَانِ معروفانِ (¬1): أَوَّلاً: الكتاب (فِعال) بمعنى (مفعول)، بمعنى المكتوبِ، قال بعضُ العلماءِ: هو هذا القرآنُ العظيمُ؛ لأنه مكتوبٌ عند الملائكةِ في صُحُفٍ، كما قال تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)} [عبس: الآيات 13 - 15] ومكتوب في اللوحِ المحفوظِ، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: الآيتان 21، 22]. الوجهُ الثاني: أن المرادَ بالكتابِ: اللوحُ المحفوظُ؛ لأنه مكتوبٌ فيه جميعُ وقائعِ ما كانَ وما يكونُ إلى يومِ القيامةِ، وأصلُ مادةِ (الكتابةِ) - مادة (الكافِ والتاءِ والباءِ) (كتب) - معناها في لغةِ العربِ: الضمُّ وَالْجَمْعُ (¬2)، فَكُلُّ شيءٍ ضَمَمْتَ بعضَه إلى بعضٍ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 420)، البحر المحيط (4/ 120). (¬2) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الكاف، باب الكاف والتاء وما يثلثهما (مادة: كتب) ص (917)، المفردات (مادة: كتب) ص (699).

وَجَمَعْتَ بعضَه مع بعضٍ فقد كَتَبْتَهُ؛ ولذا قيلَ للخياطةِ: كتابةٌ. وفي ألغازِ الحريريِّ في مقاماتِه (¬1): وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ ... حَرْفًا وَلاَ قَرَؤُوا مَا خُطَّ فِي الْكُتُبِ يعني بهم: الْخَيَّاطِينَ؛ ولأجلِ أن الخياطةَ تُسَمَّى كتابةً؛ لأنها تضمُّ طَرَفَيِ الثوبِ، وتجمعُ بعضَها إلى بعضٍ، أو طَرَفَيِ الأَدِيمِ، وتضمُّ بعضَها إلى بعضٍ؛ لأجلِ ذلك سَمَّتِ العربُ الرقعةَ التي في السِّقاءِ، سَمَّوْهَا: (كُتْبةً). وَسَمَّوُا الثوبَ الذي تُخَاطُ به الرقعةُ في السِّقاءِ: (كُتْبَةً)، وجمعها: (كُتَب). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ غيلانَ ذِي الرُّمَّةِ (¬2): مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ ... كَأَنَّهُ مِنْ كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ وفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا ... مُشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الكُتَبُ يعني بالكُتَبِ: الثغورُ التي تكونُ في الكُتْبَةِ يسيلُ منها الماءُ. يُشَبِّهُ ذلك الماءَ السائلَ بدمعِه؛ ولأجلِ هذا كانت العربُ تُسَمِّي الخياطةَ: كتابةً. ومنه قولُ عمرِو بنِ دارةَ (¬3) يهجو فَزَارَةَ، يهجوهم وَيُعَيِّرُهُمْ بأنهم يفعلونَ الفاحشةَ مع إناثِ الإبلِ، قال (¬4): ¬

(¬1) مقامات الحريري ص (347). (¬2) البيت في اللسان (مادة: سرب) (2/ 127)، (مادة: كتب) (3/ 217) والوفراء: الوافرة. (¬3) والغرفية: المدبوغة بالغَرْف، وهو شجر يُدبغ به. وأثاى: أفسد. والخوارز: جمع خارزة. () نسبه في الشعر والشعراء ص 258 لسالم بن دارة. (¬4) البيت في المقاييس في اللغة، كتاب الكاف، باب الكاف والتاء وما يثلثهما، (مادة: كتب) ص (918)، الشعر والشعراء ص 258، اللسان (مادة: كتب) (3/ 217)، تفسير الماوردي (1/ 24)، القرطبي (1/ 158)، والدر المصون (1/ 85).

لاَ تَأْمَنَّنَّ فَزَارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ ... عَلَى قَلُوصِكَ وَاكتُبْهَا بِأَسْيَارِ يعني: خِطْ فَرْجَهَا بأسيارٍ لئلا يفعلَ بها؛ ولأجلِ هذا المعنى قيلَ للكتيبةِ: (كتيبة)؛ لأنها جماعةٌ من الجندِ يَنْضَمُّ بعضُها إلى البعضِ حتى تكونَ كتلةً مُجتمعةً. وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ (¬1) هذا أصلُ مادةِ (الكافِ والتاءِ والباءِ) في لغةِ العربِ. ومعنى الكتابةِ (¬2): هي مصدرُ سيال، أنكَ تضمُّ نفسَ حرفٍ إلى حرفٍ إلى حرفٍ، حتى يجتمعَ من ذلك نقوشٌ دالةٌ على ألفاظٍ ومعانٍ. و (الكتابُ) في قولِه هنا: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ} أكثرُ الْمُحَقِّقِينَ على أنه اللوحُ المحفوظُ (¬3)، أي ما فَرَّطْنَا فيما كَتَبْنَا في اللوحِ المحفوظِ، ما ضَيَّعْنَا فيه شَيْئًا. و (مِنْ) هنا هي التي تُزَادُ قبلَ النكرةِ التي تَكَلَّمْنَا عليها الآنَ (¬4)، وهي هنا مزيدةٌ قبلَ المفعولِ؛ لأن التفريطَ: التضييعُ. أي: ما ضَيَّعْنَا شيئًا في الكتابِ، بل كَتَبْنَا فيه كُلَّ شيءٍ، ومن ذلك: آجالُ الطيورِ وأعمارُها وأرزاقُها وأقدارُها وألوانُها والوقتُ الذي تُولَدُ فيه، والوقتُ الذي تموتُ، كما فَعَلْنَا ذلك بِبَنِي آدمَ. ¬

(¬1) البيت للنابغة، وهو في ديوانه ص (32). (¬2) انظر: الكليات ص (767). (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 344 - 346:)، البغوي (2/ 95)، القرطبي (6/ 420)، شفاء العليل لابن القيم ص40، البحر المحيط (4/ 120). (¬4) مضى قريبا.

الوجهُ الثاني: أن المرادَ بالكتابِ: القرآنُ، والمعنى: ما ضَيَّعْنَا في هذا الكتابِ من شيءٍ، بل جَمَعْنَا فيه كُلَّ شيءٍ يحتاجُ إليه الخلقُ. وقد نَصَّ اللَّهُ على هذا المعنَى صريحًا في سورةِ النحلِ، ليس فيه خلافٌ، وهو قولُه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: آية 89] فهذه في القرآنِ بلا خلافٍ تدلُّ على أنه يُبَيِّنُ كُلَّ شيءٍ؛ لأن في القرآنِ كُلَّ شيءٍ، والناسُ إنما يأخذونَ بقدرِ استعدادِ أَذْهَانِهِمْ، كُلٌّ يَغْرِفُ بحسبِ فَهْمِهِ، وقد ثبتَ في صحيحِ البخاريِّ عن أبي جحيفةَ أنه لَمَّا سألَ عَلِيًّا (رضي الله عنه): «هل خَصَّكُمْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ؟» قال عَلِيٌّ (رضي الله عنه) فيما ثبتَ عنه في صحيحِ البخاريِّ: «لاَ والذي فَلَقَ الحبَّةَ وبرأَ النسمةَ، إلا فَهْمًا يُعطيه اللَّهُ رجلاً في كتابِ اللَّهِ، وما في هذه الصحيفةِ». قال: «وَمَا فِي هذه الصحيفةِ؟» قال: «العقلُ، وفِكَاكُ الأسيرِ، وألا يُقْتَلَ مسلمٌ بِكَافِرٍ» (¬1) فقولُ عَلِيٍّ (رضي الله عنه) في هذا الحديثِ الصحيحِ جوابًا لـ: «هل خصَّكم رسولُ الله بشيءٍ؟»: «لا، إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ ... » يُفهم منه أن مَنْ أعطاه اللَّهُ فهمًا في كتابِ اللَّهِ يُخَصُّ بخصائصَ مِنَ العلومِ لم يُخَصَّ بها غيرُه، وما ذلك إلا أن القرآنَ جَمَعَ كُلَّ شيءٍ، منه ما يَطَّلِعُ عليه كُلُّ الناسِ، ومنه ما يَطَّلِعُ عليه الراسخونَ في العلمِ، ومنه ما يَعْلَمُهُ النبيُّ، ومنه ما لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّهُ (جل وعلا). وَكُلُّ ما في السُّنَّةِ جَمِيعًا، فهو في كتابِ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: آية 7]. فَالسُّنَّةُ كُلُّهَا تَشْمَلُهَا كلمةٌ مِنْ بَحْرِ القرآنِ. وهذا معنى قولِه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} التفريطُ في الشيءِ: هو تَضْيِيعُهُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مقدمة الكتاب.

وقولُه تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الضميرُ عائدٌ إلى الأممِ المذكورةِ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}. وَيُشكلُ عليه: أنه رَدَّ عليه الضميرَ بصيغةِ ضميرِ العقلاءِ، والطيورُ والدوابُّ ليست من العقلاءِ؟ والجوابُ (¬1): أنه لَمَّا شَبَّهَهُمْ بالعقلاءِ وقال: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فعندَ هذا التشبيهِ بالعقلاءِ يُسوِّغُ ذلك أن يَبْنِيَ عليهم ضميرَ العقلاءِ. وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ: أن غيرَ العاقلِ كُلَّمَا شُبِّهَ بالعاقلِ جرى عليه في الضمائرِ ونوع الصِّيَغِ ما يجري على العاقلِ (¬2). ونظيرُه في القرآنِ قولُه تعالى في رُؤْيَا يوسفَ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} قال: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: آية 4] فَجُمِعَ جمعَ المذكرِ السالمِ المختصِّ بالعقلاءِ؛ لأنها لَمَّا اتَّصَفَتْ بالسجودِ أَشْبَهَتِ العقلاءَ من هذه الحيثيةِ، فَجَرَتْ عليها صيغةُ العقلاءِ. وكذلك قولُه: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: آية 11] لأنه لَمَّا خاطبَ السماواتِ والأرضَ خطابَ العقلاءِ، وَصَرَّحَتْ بالإطاعةِ كما يطيعُ العاقلُ، أجرى عليها جمعَ المذكرِ السالمِ المختصِّ بالعاقلِ كما هنا. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يَحْشُرُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ أحياء. وقد جاء في حديثٍ عن أبي هريرةَ (¬3)، ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 121). (¬2) انظر: ابن جرير (3/ 256)، (15/ 556)، فقه اللغة للثعالبي (297)، البرهان للزركشي (2/ 246)، البحر المحيط (4/ 199)، الدر المصون (5/ 100)، قواعد التفسير (307). (¬3) أخرجه ابن جرير (13222)، (11/ 347)، وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1286)، وكذا الحاكم (2/ 316) وقال: (صحيح على شرطه - أي مسلم - ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وأورده ابن كثير في التفسير (2/ 131)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 11) وعزاه لعبد الرزاق، وأبي عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم. وهو موقوف على أبي هريرة (رضي الله عنه) لكن له حكم الرفع.

وأبي ذَرٍّ (¬1) - وحديثُ أبي هريرةَ صَحَّحَهُ الحاكمُ وغيرُه - أن اللَّهَ يحشرهم هذا الحشرَ، ويعدلُ بينهم، حتى إنه ليقتصُّ لِلْجَمَّاءِ من الْقَرْنَاءِ التي كانت تَنْطَحُهَا في دارِ الدنيا. هكذا جاءَ في حديثٍ صَحَّحَهُ بعضُ العلماءِ، واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. وهذه الآيةُ صَرَّحَتْ بأن الحيواناتِ والطيورَ كُلَّهَا يَحْشُرُهَا اللَّهُ بَعْدَ الموتِ، وظاهرُ هذا أنه حشرُ إحياءٍ بعدَ الموتِ، وتدلُّ عليه آيةُ التكويرِ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: آية 5] في مَعْرِضِ يومِ القيامةِ. فالقولُ الْمَرْوِيُّ عن ابنِ عباسٍ: أن حشرَ الطيورِ والدوابِّ: مَوْتُهَا. هذا القولُ رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ من ¬

(¬1) وأصله عند مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم) حديث: (2582) (4/ 1997) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. () أخرجه أحمد بألفاظ مختلفة (5/ 153، 162، 172، 173)، وابن جرير. انظر: الأثرين رقم: (13223، 13224) (11/ 347 - 348)، والطبراني في الأوسط (6/ 173). وأورده ابن كثير في التفسير (2/ 131)، والهيثمي في المجمع (10/ 352) وألمح إلى ضعفه. والسيوطي في الدر (3/ 11). وقال أحمد شاكر معلقا على أحد طرقه عند أحمد (5/ 173): «وهذا إسناد حسن متصل» اهـ. وانظر: تعليقه على تفسير ابن جرير (11/ 348)، كما صحَّح الألباني (رحمه الله) بعض طرقه. انظر: السلسلة الصحيحة (4/ 60).

طُرُقٍ (¬1)، والظاهرُ أنه خلافُ الصحيحِ، وأن الصحيحَ ما عليه الجمهورُ، وَدَلَّ عليه ظاهرُ القرآنِ: أنه حَشْرٌ بعدَ الموتِ، كما قال: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: آية 5]. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: آية 39]. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} المعنى أن الذين كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ - كالذين جَحَدُوا هذا الوحيَ الْمُنَزَّلَ (القرآنَ العظيمَ)، وزعموا أنه شِعْرٌ أو سِحْرٌ أو كهانةٌ أو أساطيرُ الأولين، ونحو ذلك - قال اللَّه فيهم: إنهم صُمٌّ بُكْمٌ. الصُّمُّ: جمعُ الأَصَمِّ. وقد تقررَ في فَنِّ التصريفِ: أن صيغةَ (أَفْعَل) إذا كانت صفةً مشبهةً، وكذلك أُنْثَاهَا (فَعْلاء) ينقاسُ جَمْعُ كُلٍّ منهما تفسيرًا على (فُعْل) (¬2)، كالأصمِّ والصُّمِّ، والأعمى والعُمْيِ، والأبكمِ والبُكمِ، والأحمرِ والحُمرِ، إلى غيرِ ذلك. ومعنى صُمٍّ: أنهم صُمٌّ عن سماعِ الحقِّ وإن كانوا يسمعونَ غيرَه. كما بَيَّنَّا أنه قال عن المنافقين: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} [البقرة: آية 18] فَحَكَمَ عليهم بالبَكَمِ مع أنه يقولُ فيهم: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: آية 19] ومن أَيْنَ لِلْبُكْمِ أن تكونَ لهم الألسنةُ الحدادُ؟ وقال في المنافقين: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير من طريقين. انظر: الأثرين رقم (13219، 13220) (11/ 346) وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1286). وأورده ابن كثير (2/ 131) من طريق ابن أبي حاتم. (¬2) انظر: ضياء السالك (4/ 191).

[المنافقون: آية 4] أي لِفَصَاحَتِهِمْ وحلاوةِ ألسنتِهم، مع أنه يحكمُ بأنهم بُكْمٌ. وهذا (الصَّمَمُ) وهذا (البَكَمُ) المرادُ به: أنهم صُمٌّ عن سماعِ ما يُقَرِّبُهُمْ إلى اللَّهِ ويدخلُهم الجنةَ، وإن سَمِعُوا غيرَه، بُكْمٌ عن النطقِ بالحقِّ وإن تَكَلَّمُوا بغيرِه. والعادةُ المعروفةُ في العربيةِ: أنهم يطلقونَ على قليلِ الْجَدْوَى اسمَ (لا شيءَ). وأنهم يُطْلِقُونَ على السماعِ الذي لا فائدةَ فيه، اسمَ: (الصَّمَمِ) (¬1). ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ (¬2): صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا ومعنى (أَذِنُوا): أَنْصَتُوا بآذانٍ صاغيةٍ. فهو يقولُ: (صُمٌّ إذا سَمِعُوا) يُصَرِّحُ بأنهم صُمٌّ في الوقتِ الذي يصرحُ بأنهم يسمعونَ، كما في الآياتِ؛ لأن السماعَ الذي لا فائدةَ فيه يُطْلَقُ عليه اسمُ (الصَّمَمِ) وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سُئِلَ عن الكهانِ، قال في الكهان: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» (¬3). نَفَى عنهم اسمَ (الشيءِ) لِخَسَاسَتِهِمْ وقلةِ فائدتِهم، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ. والذي عليه الجمهورُ: أن هذا الصممَ والعَمَى في الدنيا، كما ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (36) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (38) من هذه السورة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب الكهانة، حديث (5762)، (10/ 216) وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الحديثين رقم: (6213، 7561)، ومسلم في الصحيح، كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة، وإتيان الكهان، حديث: (2228) (4/ 1750).

قال اللَّهُ: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: آية 23] وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: آية 7] وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: آية 23]. وقد قَدَّمْنَا أن هذا الصممَ والعَمَى إنما هو من ذلك الختمِ الذي يضعُ اللَّهُ على قلوبِهم، الذي عُبِّرَ عنه تارةً بـ (الختمِ) في قولِه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة: آية 7] وتارةً بـ (الطبعِ): {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: آية 74] وعنها تارةً بـ (الرَّانِ): {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية 14] ومرةً بـ (الأَكِنَّةِ): {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: آية 57]. قد بَيَّنَّا وجهَ الجوابِ منه عن حُجَّةِ الجبريةِ (¬1)؛ لأنهم يقولونَ: «إذا كان اللَّهُ جعلَ على قلبِه الختمَ، وعلى عيونِه [الغشاوةَ] (¬2)، وجعلَ عليه الطبعَ والأكنةَ، ومنعَه من الفهمِ والسماعِ إِذَنْ هو مجبورٌ»!! وقد أَجَبْنَا عن هذا: أن الآياتِ القرآنيةَ دَلَّتْ بكثرةٍ: أن ذلك الختمَ والطبعَ إنما يجعلُه اللَّهُ عليهم بعدَ أن بَادَرُوا إلى الكفرِ، وَتَمَرَّدُوا على اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَعَانَدُوا وَلَجُّوا في الباطلِ، فعند هذا يطمسُ اللَّهُ بصائرَهم جزاءً وِفَاقًا، كما قال: ¬

(¬1) في هذا الموضوع راجع الباب الخامس عشر (في الطبع والختم والغل والسد والغشاوة، والحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للرب تعالى) من كتاب شفاء العليل ص (85). (¬2) في الأصل «وقر» وهو سبق لسان.

{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5] بِأَنْ خَتَمَ عليها وطبعَ وَمَنَعَهَا من الخيرِ، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] أي: بسببِ كُفْرِهِمْ، فالباءُ سببيةٌ، بَيَّنَتْ أن سببَ ذلك الطبعِ هو كفرٌ سابقٌ. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: آية 110] أي: نُقَلِّبُهَا كي لا تسمعَ الحقَّ أو تُبْصِرَهُ {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} لَمَّا سَارَعُوا وَبَادَرُوا إلى الكفرِ طَمَسْنَا على قلوبِهم، كما بَيَّنَهُ في قولِه: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية 14] فَبَيَّنَ أن ذلك (الرَّانَ) الذي غَطَّى القلوبَ وَمَنَعَهَا من الفهمِ سببُه ما كانوا يكسبونه من الشَّرِّ والكفرِ والمعاصي - والعياذُ بالله - ولذا قال تعالى هنا: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} قولُه: {فِي الظُّلُمَاتِ} كأنه يقولُ: (عمي)، (صمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، إلا أنه عبَّر عن عَمَاهُمْ بكونِهم {فِي الظُّلُمَاتِ}؛ لأن الذي هو في الظلماتِ لا يُبْصِرُ شيئًا، و {فِي الظُّلُمَاتِ}: جمع ظُلْمَةٍ. وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مرارًا: أن مِنْ أصعبِ المسائلِ شُبْهَةَ الجبرِ وَالْقَدَرِ (¬1)، هي من أصعبِ المسائلِ، وأن القرآنَ أشارَ إليها في آياتٍ؛ لأن كثيرًا من الْجَهَلَةِ والملحدين يقولون: «إن كان اللَّهُ هو الذي يشاءُ أفعالَ العبدِ، وهو الخالقُ لِكُلِّ شيءٍ - ومنه أفعالُ العبدِ - وأفعالُ العبدِ بِمَشِيئَتِهِ، فكيف يُعَاقَبُ العبدُ المسكينُ على شيءٍ شَاءَهُ اللَّهُ، وَخَلَقَهُ اللَّهُ؟ فالعبدُ إِذَنْ لاَ يُؤَاخَذُ بشيءٍ»!! فَلأَجْلِ هذه الشبهةِ ضَلَّتِ القدريةُ - والعياذُ باللَّهِ - فقالوا: إن العبدَ يستقلُّ بأعمالِ نفسِه. زَاعِمِينَ أن قدرةَ العبدِ مستقلةٌ بأعمالِه بلا تأثيرٍ لقدرةِ اللَّهِ فيها، فَفَرُّوا ¬

(¬1) انظر: ما استدل به كل فريق والجواب عنها في (القضاء والقدر) للمحمود (217 - 243).

من شيءٍ ووقعوا فيما هو أعظمُ منه، والعياذُ بِاللَّهِ. وقد قَدَّمْنَا: أنه لو تَنَاظَرَ جَبْرِيٌّ وَسُنِّيٌّ فقال الجبريُّ مثلاً: هذه الذنوبُ والمعاصي التي صَدَرَتْ من البعيدِ أن اللَّهَ كَتَبَهَا عليه، وَقَدَّرَهَا عليه في الأزلِ، وَطُوِيَتْ الصحفُ، وَجَفَّتِ الصحفُ، وكان ما كان، ولا مبدلَ لِمَا سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ. يقول البعيدُ: لو أردتُ التخلصَ مما سبقَ به العلمُ الأزليُّ لا يُمْكِنُنِي ذلك بحالٍ. فيقولُ البعيدُ: أنا إذًا مَجْبُورٌ، فكيفَ نُعَاقَبُ؟ وهذا فِعْلُ اللَّهِ وتقديرُه في أَزَلِهِ قبلَ أن أُولَدَ، وما سبقَ في العلمِ فهو حتمٌ واقعٌ لاَ مَحَالَةَ!! والصحابةُ سَأَلُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المسألةِ، وقالوا: «أَهُوَ أَمْرٌ مُؤْتَنَفٌ، أو كانَ ما كان فيما مَضَى؟» أَخْبَرَهُمْ أنه كانَ مَا كَانَ. فقالوا له: إذًا لِمَ لا نَتْرُكُ وَنَتَّكِلُ على الكتابِ السابقِ، ونتركُ العملَ حيث فُرِغَ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وَمَضَى ما مَضَى؟ فَبَيَّنَ لهم بِنُكْتَةٍ من جوامعِ الكلمِ، قال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (¬1). فهي كلمةٌ مجملةٌ تَدُلُّ على ¬

(¬1) في هذا المعنى وردت عدة أحاديث رواها جمع من الصحابة منهم: 1 - علي (رضي الله عنه)، عند البخاري، كتاب الجنائز، باب: موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله. حديث رقم: (1362) (3/ 225)، وأخرجه أيضا في عدة مواضع، انظر: الأحاديث رقم: (4945، 4946، 4947، 4948، 4949، 6217، 6605، 7552) ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه ... ، حديث رقم: (2647) (4/ 2039). 2 - جابر بن عبد الله (رضي الله عنه)، عند مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي ... ، حديث (2648) (4/ 2040). 3 - عمران بن حصين (رضي الله عنه)، عند البخاري، كتاب القدر، باب: جف القلم على علم الله. حديث (6596) (11/ 491)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث (7551)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه ... ، حديث (2649)، (4/ 2041). 4 - عبد الله بن عمر (رضي الله عنه)، عند الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الشقاء والسعادة، حديث (2135)، (4/ 445)، وذكره في موضع آخر، انظر: حديث (3111). 5 - عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، عند أحمد (2/ 167)، والترمذي، كتاب القدر، باب: ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار، حديث: (2142)، (4/ 449).

معانِي هذا بالتفصيلِ، فالمؤمنُ - مثلاً - إذا نَاظَرَ الجبريَّ يقولُ له: اعْلَمْ يا جَبْرِيُّ أن جميعَ الأسبابِ الذي اهتدى بها المهتدون، وأعطاها اللَّهُ لهم: أعطاكَ مِثْلَهَا: العيونُ التي أَبْصَرُوا بها آياتِ اللَّهِ وغرائبَه وعجائبَه فَآمَنُوا: أَعْطَاكَ عَيْنَيْنِ صحيحتين مثلَها، والقلوبُ التي فَهِمُوا بها عن اللَّهِ: أعطاكَ عَقْلاً صحيحًا مثلَها، والرسولُ النذيرُ الذي أَنْذَرَ الكلَّ وَخَوَّفَهُ وَبَيَّنَ له: أَعْطَاكَ مثلَه، فجميعُ ما أَعْطَاهُمْ أعطاكَ إِيَّاهُ، إلا أن الفرقَ بينَك وبينَهم في شيءٍ واحدٍ هو: أن اللَّهَ تَفَضَّلَ عليهم بالتوفيقِ إلى ما بَيَّنَ لهم وَأَمَرَهُمْ به، وأنتَ لم يَتَفَضَّلْ عليكَ، وتفضُّله بالتوفيقِ مُلْكُهُ الْمَحْضُ، مَنْ تَفَضَّلَ عليه فَفَضْلٌ، ومن مَنَعَهُ من التوفيقِ فَعَدْلٌ، كما قال جل وعلا: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: آية 149] مُلْكُهُ للتوفيقِ بمشيئتِه: حُجَّتُهُ البالغةُ على خَلْقِهِ، مَنْ أَعْطَاهُ فَفَضْلٌ، وَمَنْ مَنَعَهُ فَعَدْلٌ. وقد بَيَّنَّا مناظرةَ عبدِ الجبارِ مع

أَبِي إسحاقَ الإسفراييني في هذه المسألةِ (¬1)؛ لأن أَبَا إِسْحَاقَ فَهِمَ مضمونَ هذه الآيةِ، وحاجَّ به هذا المبتدعَ الْمُفْتَرِي. فجاء عبدُ الجبارِ يتقربُ بمذهبهم الخسيسِ أن السرقةَ والزِّنَى لا تكونُ بمشيئةِ اللَّهِ؛ لأن السرقةَ والزِّنَى من القبائحِ والرذائلِ، وأن اللَّهَ - في زَعْمِهِمْ - أَنْزَهُ وأكرمُ وَأَجَلُّ من أن تكونَ هذه الخسائسُ والقبائحُ بمشيئتِه، فجاءَ عبدُ الجبارِ يتقربُ إلى اللَّهِ ويعبدُه بهذا المذهبِ الباطلِ، فقال: سبحانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ!! يعني: أن فُحْشَ السرقةِ والزِّنَى ليس بمشيئةِ اللَّهِ. فقال أبو إسحاقَ: كلمةُ حَقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ!! ثم قال: سبحانَ مَنْ لاَ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إلا مَا يَشَاءُ. فقالَ عبدُ الجبارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عليه؟ فَقَالَ أبو إسحاقَ: أتراك تفعلُه جَبْرًا عليهِ؟ أأنتَ الربُّ وهو العبدُ؟ فقال عبدُ الجبارِ: أرأيتَ إن دَعَانِي إلى الْهُدَى، وقضى عَلَيَّ بِالرَّدَى، دَعَانِي وَسَدَّ البابَ دُونِي، أتراه أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟ فقال أبو إسحاقَ: أرى أن الذي مَنَعَكَ إن كان حَقًّا واجبًا لكَ عليه فقد ظَلَمَكَ وقد أساءَ، إن كان مُلْكُهُ المحضُّ فإن أعطاكَ فَفَضْلٌ، وإن مَنَعَكَ فَعَدْلٌ. وبُهِتَ عبدُ الجبارِ، وقال الحاضرونَ: واللَّهِ ما لهذا جوابٌ!! ¬

(¬1) انظر: طبقات الشافعية للسبكي (4/ 261)، شرح الطحاوية (323)، فتح الباري (13/ 451) منهج الجدل والمناظرة (2/ 1074).

وقد بَيَّنَّا فيما مضَى القصةَ التي ذَكَرُوهَا عن عمرِو بنِ عُبَيْدٍ - مع أنه من عظمائِهم الأَجِلاَّءِ عندهم - أنه جاءَه ذلك البدويُّ، وقال له إن حِمَارَتَهُ أو دَابَّتَهُ سُرِقَتْ، وأنه [يطلب منه أن] (¬1) يدعوَ اللَّهَ له أن يَرُدَّهَا عليه. فقام يدعو ويتقربُ بهذا المذهبِ الباطلِ: اللَّهُمَّ إِنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ ولم تُرِدْ سَرِقَتَهَا؛ لأنك أكرمُ وأنزهُ وأجلُّ من أن تُرِيدَ هذه الرذيلةَ القبيحةَ - يعني السرقةَ -!! فالبدويُّ قال له: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يا هذا إلا ما كففتَ عَنِّي من دعائِك الخبيثِ، إن كانت سُرِقَتْ ولم يُرِدْ سرقتَها فقد يريدُ ردَّها ولا تُرَدُّ، ولا ثقةَ لي بِرَبٍّ يُفْعَلُ في مُلْكِهِ أشياءُ ليست في مشيئتِه، فهذا ليس بِرَبٍّ، ولا ثقةَ لِي به، فَاكْفُفْ عَنِّي من دعائكَ الخبيثِ (¬2)!! [2/ب] فحقيقةُ هذا الأمرِ أن اللَّهَ (جل وعلا) غَنِيٌّ عن الخلائقِ. / ولكنه خَلَقَ الخلقَ، وَجَبَلَ بعضَهم في الأزلِ على القُبحِ والسوءِ، وجبلَ بعضَهم في الأزلِ على الطيبِ والطهارةِ، وَيَسَّرَ كلاًّ لِمَا خلقَه له، والحكمةُ في ذلك: أن يكونَ فيهم مُطِيعُونَ يظهرُ فيهم مظاهرُ بعضِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه، يظهرُ فيهم من مظهرِ اسمِه: الرحيمِ، الكريمِ، الغفورِ الجوادِ، إلى غيرِ ذلك من صفاتِ الجودِ، والرحمةِ، والمغفرةِ، والكرمِ، كما أنه شاءَ أن يخذلَ قومًا آخرين، فتكون أعمالُهم غيرَ طَيِّبَةٍ؛ ليظهرَ فيهم أيضًا بعض مظاهرِ أسمائِه وصفاتِه من شدةِ البطشِ وقوةِ الانتقامِ، وعظمةِ النكالِ والعقابِ، إلى غيرِ ذلك. واللَّهُ (جل وعلا) إذا خلقهم وأوجدهم يصرفُ قُدَرَهم وإراداتِهم بقدرتِه وإرادتِه إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 740)، شرح الطحاوية (323).

فيأتونه طائعينَ {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الدهر: آية 30]. وقولُه جل وعلا: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: آية 39] جمهورُ العلماءِ على أن المرادَ بِصَمَمِهِمْ وَعَمَاهُمْ وكونهم في الظلماتِ: أنه في دارِ الدنيا (¬1)، والمرادُ به عَمَى أبصارِهم عن الحقِّ، وصممُ أسماعِهم عن الحقِّ، وعمى عيونِهم عن الحقِّ؛ لأنها في الظلماتِ - والعياذُ بالله - لا تُبْصِرُ شيئًا، كما في قولِه: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: آية 18] {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف: آية 26] خلافًا لبعضِ العلماءِ القائلِ: الذين كفروا في دارِ الدنيا {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} في الآخرةِ؛ لأجلِ تكذيبِهم في الدنيا (¬2)، واستدلَّ بأن اللَّهَ قال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97] وذكر بأنهم في الظلماتِ، بدليلِ قولِه: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: آية 13]. والقولُ الأولُ هو الذي عليه الجمهورُ. ثم قال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: آية 39]. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 350)، القرطبي (6/ 422)، البحر المحيط (4/ 122)، ابن كثير (2/ 132). (¬2) انظر: القرطبي (6/ 422)، البحر المحيط (4/ 122).

قد بَيَّنَّا فيما مَضَى (¬1) أن فِعْلَ المشيئةِ إذا قُرِنَ بأداةِ شرطٍ حُذِفَ مفعولُه باتفاقٍ؛ لأن جزاءَ الشرطِ يكفي عنه. وتقريرُ المعنى: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إِضْلاَلَهُ يُضْلِلْهُ، ومن يشأ جَعْلَهُ على صراطٍ مستقيمٍ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ). وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على رَدِّ مذهبِ القدريةِ رَدًّا واضحًا لا شَكَّ فيه؛ لأنه بَيَّنَ أن الضلالَ بمشيئتِه، والهدى بمشيئتِه، فلا يقعُ في الكونِ تحريكةٌ ولا تسكينةٌ إلا بمشيئتِه جل وعلا {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الدهر: آية 30] يعني مَنْ شاء أن يُضله، أي: يُزيغه عن طريقِ الصوابِ. وقد قَدَّمْنَا فيما مَضَى أن الضلالَ جاء إطلاقُه في القرآنِ وفي لغةِ العربِ على ثلاثةِ أنحاءَ متقاربةٍ (¬2). وبعضُ العلماءِ يحاولُ أن يجعلَ مرجعَها في الأصلِ إلى شيءٍ واحدٍ. أشهرُها: هو الذهابُ عن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ، وعن طريقِ الْهُدَى - التي جاء بها النبيُّ - إلى طريقِ الكفرِ والمعاصِي التي سَنَّهَا الشيطانُ. وهذا الإطلاقُ هو أشهرُ إطلاقِ أنواعِ الضلالِ، ومنه هذه الآيةُ: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الأنعام: آية 39] أي: يُضْلِلْهُ عن طريقِ الحقِّ التي تُدْخِلُهُ الجنةَ إلى طريقِ الضلالِ التي تُدْخِلُهُ النارَ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المفردات (مادة: ضل) (509)، نزهة الأعين النواظر (406)، إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني (292)، بصائر ذوي التمييز (3/ 481)، أضواء البيان (3/ 53).

الإطلاقُ الثاني من إطلاقاتِ الضلالِ أن معناه: الغيبوبةُ والاضمحلالُ، وكلُّ شيءٍ غابَ وانعدمَ واضمحلَّ تقولُ العربُ: (ضل). تقول العربُ: «ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطعامِ» إذا غابَ واضمحلَّ فيه، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه بهذا المعنى الآيةُ المتقدمةُ: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: آية 24] أي: غَابَ وَاضْمَحَلَّ وَزَالَ، ومنه قولُه: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] يَعْنُونَ أنهم اخْتَلَطَتْ عظامُهم بالأرضِ فَأَكَلَتْهَا فَانْعَدَمَتْ وَاضْمَحَلَّتْ فيها كما يضمحلُ السَّمْنُ في الطعامِ. ومن الضلالِ بهذا المعنى قولُ الأَخْطَلِ (¬1): كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الأَتِيُّ بِهِ، فَضَلَّ ضَلاَلاَ وقولُ الآخَرِ (¬2): أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا فقولُه: «الحيِّ المضللِ» أي: الذي ذَهَبَتْ به الأيامُ، وانقضى ذِكْرُه فغابَ وَاضْمَحَلَّ. الإطلاقُ الثالثُ من إطلاقاتِ الضلالِ: هو الذهابُ عن معرفةِ الشيءِ، لا عن طريقِ الصوابِ، ولا جنةٍ ولا نارٍ، بل كُلُّ شيءٍ ذَهَبَتْ عن حقيقةِ معرفةِ الواقعِ فيه تقولُ العربُ: «ضَلَّ عَنْهُ»، ومنه بهذا ¬

(¬1) ديوان الأخطل (250). والقذى: الأوساخ التي تطفو على الموج. والأكدر: الذي تغير لونه من الأوساخ. والأتي: السيل الذي يأتي من كل مكان. (¬2) البيت في القرطبي (1/ 150)، الدر المصون (1/ 76).

المعنى على أصحِّ التفسيراتِ: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى: آية 7] يعني: ذاهبًا عما تعرفُه الآنَ من العلومِ فَهَدَاكَ إلى تلك العلومِ بالوحيِ؛ لأنها علومٌ لاَ تُعْرَفُ بالعقلِ، ولا تعرفُ بالفطرةِ، ومن الضلالِ بهذا المعنى قولُه تعالى في الدَّيْنِ: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: آية 282] أي: تذهب عن معرفةِ المشهودِ به فَتُذَكِّرُهَا الأخرى، ومنه بهذا المعنى {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} [طه: آية 52] أي: لا يذهبُ عنه عِلْمُ شيءٍ، بل جميعُ الأشياءِ يحيطُ بها عِلْمُهُ. ومنه بهذا المعنى قولُ أولادِ يعقوبَ ليعقوبَ: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: آية 95] ذهابُك عن معرفةِ حقيقةِ يوسفَ، وما جرى مَجْرَى ذلك، ومن أمثلةِ هذا النوعِ في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬1): وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلاً، أُرَاهَا فِي الضَّلاَلِ تَهِيمُ يعني: أنها ظَنَّتْ أنه يبغي بها بَدَلاً، والأمرُ بخلافِ ذلك. ولأجلِ أن الضلالَ يُطْلَقُ على الغَيْبَةِ والاضمحلالِ (من إطلاقِه الثاني): سَمَّتِ العربُ الدفنَ (إضلالاً)، تقول: «ذَهَبُوا بِالْمَيِّتِ فَأَضَلُّوهُ» إذا دَفَنُوهُ في قبرِه، ومن هذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ وَغُودِرَ بِالْجَوْلاَنِ حَزْمٌ وَنَائِلُ ¬

(¬1) البيت في الإيضاح للقزويني ص (158) والتلخيص في علوم البلاغة ص (185) للمؤلف نفسه، جواهر البلاغة ص (165)، بلا نسبة. (¬2) ديوان النابغة الذبياني ص (155).

وهذه الآيةُ الكريمةُ تَرُدُّ مذهبَ المعتزلةِ، وتوضحُ أن الهدى والضلالَ كُلُّ ذلك بمشيئةِ اللَّهِ، يُضِلُّ قومًا وله بذلكَ الحكمةُ البالغةُ، وَيَهْدِي آخَرِينَ وله في ذلك الحكمةُ البالغةُ. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَمَنْ خلقَه اللَّهُ للخيرِ هَدَاهُ إلى ما يُرْضِيهِ، ومن خلقَه للشرِّ - والعياذُ بالله - بعكسِ ذلك؛ ولذا قال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الصراط) في لغةِ العربِ: هو الطريقُ الواضحُ (¬1). فَكُلُّ طريقٍ واضحٍ تُسَمِّيهِ العربُ: (صِرَاطًا). و (المستقيم): هو الذي لا اعوجاجَ فيه (¬2). ووزنُه بالميزانِ الصرفيِّ (¬3): (مُسْتَفْعِل) وياؤه مُبْدَلَةٌ من واوٍ، أصلُه: (مُسْتَقْوِم) على وزنِ (مُسْتَفْعِل)؛ لأن مادةَ (الاستقامةِ) واويةُ العينِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ؛ وذلك أن دينَ الإسلامِ طريقٌ واضحٌ، مَحَجَّةٌ بيضاءُ، تَرَكَهَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - بما أوضحَ به وَبَيَّنَهَا محجةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ. وقوله: {مُّسْتَقِيمٍ} طريقُ دِينِ الإسلامِ في غايةِ الاستقامةِ، ليس فيه اعوجاجٌ. ومعنى استقامتِه: أن طَرَفَهُ بِيَدِ المسلمين، وَطَرَفهُ الآخَر فِي الجنةِ، إذا ثَبَتُوا عليه استقامَ بهم إلى الجنةِ، فَأَدْخَلَهُمْ إياها من غيرِ أن يعدلَ بهم عنها يَمِينًا ولا شِمَالاً، وإذا تركوه ذَهَبُوا إلى بُنَيَّاتِ الطرقِ. وقد ضَرَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لهذا مثلاً (¬4)، فَخَطَّ ذلك الخطَّ ¬

(¬1) انظر: القاموس (مادة: سرط) (865). (¬2) انظر: ابن جرير (1/ 170)، المحتسب (1/ 43)، الدر المصون (1/ 64). (¬3) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص (227). (¬4) جاء هذا في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، رقم: (4142، 4437) (6/ 89، 199) (تحقيق أحمد شاكر)، والحاكم (2/ 318) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ، وابن جرير في التفسير، رقم: (14168، 14170) (12/ 230). وقد أطال ابن كثير في تخريجه وذكر طرقه، انظر: تفسير ابن كثير (2/ 190)، والحديث صححه أحمد شاكر (رحمه الله) في تعليقه على المسند، وتفسير ابن جرير، والألباني في تعليقه على كتاب السنة لابن أبي عاصم (1/ 13).

المستقيمَ، وَخَطَّ حولَه خطوطًا كثيرةً؛ لِيُبَيِّنَ أن دينَ اللَّهِ مستقيمٌ، وأن حولَه بِدَعًا، وبُنَيَّاتِ طُرُقٍ، مَنْ سَلَكَهَا ضَلَّ وَهَلَكَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ} الآية [الأنعام: آية 153]. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)} [الأنعام: الآيتان 40، 41]. هذه الآيةُ الكريمةُ عَابَ اللَّهُ فيها الكفارَ بسخافةِ العقولِ (¬1)، وأنهم إذا نَزَلَتْ بهم شِدَّةٌ من عظائمِ الشِّدَدِ أَخْلَصُوا في ذلك الوقتِ الدعاءَ إلى اللَّهِ، وَتَرَكُوا دعاءَ غيرِ اللَّهِ؛ لِعِلْمِهِمْ بأنه لا ينفعُ ولا يضرُّ، فإذا نَجَّاهُمُ اللَّهُ من تلك الكربةِ، وأمِنوا: رَجَعُوا إلى ما كانوا عليهِ من الشركِ بالله. وهذه سخافةُ عقولٍ؛ لأنهم في وقتِ الشدائدِ يُخْلِصُونَ إلى اللَّهِ، ثم إذا كان في غير ذلك الوقتِ رَجَعُوا إلى ما كانوا عليه من الكفرِ!! وهذا ذمٌّ من اللَّهِ للكفارِ، ذَمَّهُمْ به في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه؛ ذلك أن الإنسانَ إذا نَزَلَتْ به عظيمةٌ من عظائمِ الشدةِ - في الدنيا - والأهوالِ فإن الالتجاءَ في ذلك الوقتِ إلى مَنْ يُنْقِذُهُ. هذا من ¬

(¬1) سيأتي عند تفسير الآية (151) من هذه السورة.

خصوصِ خالقِ الكونِ (جل وعلا)، هذا أَمْرٌ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ، ليس فيه شركٌ لأحدٍ. فَاللَّهُ (جل وعلا) إذا نَزَلَتْ بالناسِ الشِّدَدُ والبلايا والفظائعُ العظامُ فَمَلْجَؤُهُمْ الذي يلجؤون إليه هو خالقُهم (جل وعلا). وَسَيِّدُهُمْ في ذلك وقائدُهم فيه: هو سيدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا نَزَلَ به المكروهُ والشدائدُ أَخْلَصَ الالتجاءَ في ذلك الوقتِ لِمَنْ له ذلك الحقُّ الخالصُ، كما قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: آية 9]. وهذا المستغيثُ هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يَلْتَجِئُ إلى اللَّهِ عندَ الشدةِ لِيُشَرِّعَ ذلك [لأُمَّتِهِ] (¬1)، ويبينَ لهم أن هذا حقُّ رَبِّهِمْ الخالصُ له وَحْدَهُ. وقد أوضحَ اللَّهُ هذا المعنى بالسورةِ الكريمةِ - سورةِ النملِ - حيث قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ} [النمل: آية 59] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2) الجواب: اللَّهُ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. ثم (¬3) قال: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: آية 61] ذَكَرَ في هذه الآياتِ خَلْقَهُ البحرَ والجبالَ وما فَعَلَ من عظائمِ رُبُوبِيَّتِهِ (جل وعلا)، وهذه خصائصُه وحقوقُه الخالصةُ. ثم قال في ¬

(¬1) في الأصل: لخلقه. (¬2) قرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: المبسوط في القراءات العشر (334). (¬3) قبل هذه الآية قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... } الآية [النمل: آية 60].

الأثناءِ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل: آية 62] ثم قال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل: آية 63] وفي القراءة الأخرى: {نُشْرًا بين يدي رحمته} (¬1) ثم قال: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ} [النمل: آية 64] هذه حقوقُ اللَّهِ الخالصةُ له، فنحن معاشرَ المؤمنين نُخْلِصُهَا لِلَّهِ، إرضاءً لِلَّهِ ولرسولِه - صلى الله عليه وسلم -، واقتداءً برسولِه؛ ولئلا نَتَعَدَّى حدودَ اللَّهِ، ونصرفَ حقوقَه لغيرِه، والكفارُ يعلمونَ هذا، ويعلمونَ أن هذه حقوقُ اللَّهِ الخالصةُ له، فإذا كان وقتُ الْجِدِّ، ورأوا الشدائدَ (¬2)، كَأَنْ يَهِيجُ عليهم البحرُ بأمواجِه وأهوالِه فيظنوا الموتَ، عند هذا يُخْلِصُونَ العبادةَ والدعاءَ لِلَّهِ وحدَه، فإذا أَنْجَاهُم اللَّهُ رجعوا إلى ما كانوا عليه، كما عَابَهُمْ فيه في آيةِ الأنعامِ هذه - التي نحن بِصَدَدِهَا- وأمثالُها في القرآنِ كثيرةٌ، كقولِه في سورةِ بني إسرائيلَ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء: آية 67] يعني: بِمَسِيسِ الضُّرِّ: إِنْ هَاجَتْ عليهم الأمواجُ، وَعَصَفَتِ الريحُ، وكادت السفينةُ تَغْرَقُ بما فيها {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ} أي: غَابَ عنكم كُلُّ ما كُنْتُمْ تدعونَه واضمحلَّ {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ} وأنقذَكم من ذلك الكربِ في البحرِ ¬

(¬1) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب: (نُشُراً) بضم النون والشين. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف. (نَشْراً). وقرأ ابن عامر: (نُشْراً) بضم النون وسكون الشين. وقرأ عاصم: (بُشْراً) بالباء. وسكون الشين. انظر: المبسوط لابن مهران ص (209). (¬2) انظر: أضواء البيان (2/ 190 - 192) ..

{أَعْرَضْتُمْ} أي: وَرَجَعْتُمْ إلى كُفْرِكُمْ، ثم قال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} [الإسراء: الآيات 67 - 69] وقال جل وعلا: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: الآيتان 22، 23] {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: آية 32] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: آية 65] وأمثالُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ جِدًّا. وكان سببُ إسلامِ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ - رضي الله عن عكرمةَ وَأَرْضَاهُ -: كان شديدَ العداوةِ للنبيِّ هو وَأَبُوهُ، فَلَمَّا فَتَحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ في عامِ ثمانٍ من الهجرةِ هربَ عكرمةُ، وركبَ في سفينةٍ من البحرِ الأحمرِ رائحًا إلى الحبشةِ، فلما لَجَجَتْ بهم السفينةُ في البحرِ هاجت عليهم الريحُ، وَأَيْقَنُوا بالهلاكِ، وَطَغَتْ عليهم الأمواجُ، فإذا جميعُ مَنْ فِي السفينةِ يَتَنَادَوْنَ، وينادي بعضُهم بعضًا: احْذَرُوا في هذا الوقتِ أن تدعوا غيرَ اللَّهِ؛ لأنه لا يُخَلِّصُكُمْ من هذا إلا اللَّهُ وحدَه. فلما سَمِعَهُمْ يقولون قال: وَاللَّهِ إن كان لا يُنْجِي مِنْ كرباتِ البحرِ إلا هو فلا يُنْجِي من كرباتِ الْبَرِّ إلا هو، ثم قال: اللَّهُمَّ لكَ عَلَيَّ العهدُ إن أَنْجَيْتَنِي من هذه لأَضَعَنَّ يدي في يدِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَلأَجَدِنَّهُ رؤوفًا رحيمًا، فأنجاهم اللَّهُ، فَرَجَعَ وَأَسْلَمَ، وصارَ من خيارِ أصحابِ

النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، فنحن معاشرَ المؤمنين، إذا نَزَلَتْ بنا البلايا، كأن يهيجَ علينا البحرُ في سفينةٍ، أو تقعَ أمورٌ لا يقدرُ على دَفْعِهَا إلا اللَّهُ، فاقتداءً بنبينا، وعملاً بكتابِنا، وتوحيدًا لِرَبِّنَا، نُعْطِي اللَّهَ حَقَّهُ الخالصَ، ولا نفعلُ كما يفعلُ الكفارُ؛ لأن اللَّهَ عابَ الكفارَ؛ لأنهم وقتَ الشدائدِ يُخْلِصُونَ العبادةَ لِمَنْ خَلَقَهُمْ، وفي وقتِ الرخاءِ يرجعون لِشِرْكِهِمْ؛ ولذا قال جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} [الأنعام: آية 40] هذه الكلمةُ المشهورُ فيها عندَ علماءِ العربيةِ (¬2) وعلماءِ التفسيرِ: أنها كلمةٌ أَطْلَقَتْهَا العربُ بهذه (التاء) مفتوحةً، سواء كان الْمُخَاطَبُ ذَكَرًا أو أُنْثَى، أو جماعةً أو اثنين، إلا أن (الكافَ) بعدَها حرفُ خطابٍ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِ الْمُخَاطَبِينَ، ككافِ الخطابِ في الإشارةِ في (ذلكم)، و (ذلك) و (ذلكن)، ومعناها عندَ الجمهورِ: أَخْبِرْنِي. والتحقيقُ: أن الكافَ فيها لا محلَّ له من الإعرابِ؛ لأنه حرفُ خطابٍ؛ وأنها كلمةٌ وَضَعَتْهَا العربُ بمعنى: أَخْبِرْنِي. {أَرَأَيْتَكُمْ} أَخْبِرُونِي، أَخْبِرُونِي أيها الكفارُ الذين تَعدِلُونَ بِاللَّهِ غيرَه، وتصرفونَ حقوقَه لغيرِه، وتدعون معه غيرَه، أَخْبِرُونِي إن ¬

(¬1) أخرج قصة عكرمة (رضي الله عنه) هذه: الحاكم (3/ 241) وابن عساكر في تاريخه، انظر: (مختصر تاريخ دمشق) (17/ 134، 135، 137، 138) وأوردها الحافظ في الإصابة (2/ 497) وعزاها للدارقطني، والحاكم، وابن مردويه. والذي في سنن الدارقطني (4/ 167 - 168) طرف الخبر في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما فتح مكة - بقتل أربعة، ثم قال الدارقطني: «وذكر باقي الحديث» اهـ .. (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 351)، القرطبي (6/ 423)، البحر المحيط (4/ 124 - 128)، الدر المصون (4/ 615 - 622).

جَاءَتْكُمْ بَلِيَّةٌ مِنَ البلايا {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} بأن هَاجَ عليكم البحرُ ورأيتم الموتَ عِيَانًا {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} من بلاءٍ عظيمٍ وداهيةٍ عُظْمَى {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}؟؟ أَتَدْعُونَ في ذلك الوقتِ غيرَ اللَّهِ من هذه الأصنامِ التي تَعْبُدُونَ دُونَهُ؟ والمعنى: كَلاَّ لاَ تَدْعُونَ في ذلك الوقتِ إلا إياه وحدَه، كما صَرَّحَ به في قولِه: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: آية 41] وَقَدَّمَ المفعولَ للحصرِ، أي: لا تَدْعُونَ وقتَ الشدائدِ إلا إياه وحدَه؛ لأنكم تعلمونَ أنه هو الذي بِيَدِهِ إزالتُها، وأن غيرَه لا يقدرُ على رفعِ الكرباتِ عَنْكُمْ، ثم قال: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} اسْتَشْكَلَ بعضُ العلماءِ (إلى) بعدَ (تَدْعُونَ) وقد قال بعضُ الْمُحَقِّقِينَ (¬1): إن [(دَعَا) قد تُضَمَّنُ مادةَ (لَجَأَ) كما قد تَتَعَدَّى بـ] (¬2) (إلى) كما في قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} وكما قال الشاعرُ (¬3): ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 129)، الدر المصون (4/ 631). (¬2) في الأصل: «(تدعون) قد تُضَمَّن مادة (دعا) قد تتعدى إلى». ولا يخفى أن الكلام بهذا السياق مُختل؛ وذلك أن مادة: (دعا) تتعدى بنفسها إلى المفعول إذا كانت بمعنى (¬3) السؤال والاستغاثة والطلب، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} [الزمر: آية 8]. وقد تأتي بمعنى الحث على فعل شيء أو تركه، وحينها تتعدى بـ (إلى) كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: آية 33]. وهنا في آية الأنعام المراد بالدعاء: سؤال الله واللَّجَأ إليه، وقد استشكل بعض العلماء تعدية (تدعون) بـ (إلى)، وبناء على ذلك وقع الخلاف في توجيه ذلك، فقيل: معنى الآية: «فيكشف ما تدعون - أي: تطلبون وتحثون - إلى كشفه». وبهذا يصح تعدية (تدعون) بـ (إلى) .. وقيل: بل هي على معنى سؤال الله وطلبه، ولكنها قد ضُمِّنَت معنى (تلجؤون) فصح تعديتها بـ (إلى). والله أعلم. () البيت لبشامة بن حزن النهشلي. وهو في البحر المحيط (4/ 129)، الدر المصون (1/ 468).

وَإِنْ دَعَوْتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ ... يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا الشاهدُ: أن (دَعَا) تَعَدَّى بـ (إلى). {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} هذا الذي تَدْعُونَ اللَّهَ إليه، أي: إلى أن يَكْشِفَهُ عنكم، ويزيلَه عنكم، قد يكشفُه إن شاءَ، وإن شاءَ لم يَكْشِفْهُ، فهذه قُيِّدَتْ بالمشيئةِ. قال بعضُ العلماءِ (¬1): هذه قُيِّدَتْ بالمشيئةِ، وآية البقرةِ أُطْلِقَتْ، لم تُقَيَّدْ، وهي قولُه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: آية 186] ولم يَقُلْ: إن شئتَ، وهنا قُيِّدَ بالمشيئةِ. قال بعضُ العلماءِ: يُحْمَلُ المطلقُ على المقيدِ، ويُقيَّدُ بالمشيئةِ. وأظهرُ القَوْلَيْنِ: ما قاله بعضُ العلماءِ: أن آيةَ البقرةِ مُطْلَقَةٌ، وأن دعاءَ المؤمنِ لا يُرَدُّ إلا إذا كان بإثمٍ أو قطيعةٍ، وما جرى مجرى ذلك، وهذه التي قُيِّدَتْ بالمشيئةِ: في دعاءِ الكفارِ، أما دعاءُ المؤمنين فَلَمْ يُقَيَّدْ بالمشيئةِ. وعلى كُلِّ حالٍ لا شيءَ إلا بمشيئةِ اللَّهِ، إلا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صادقٌ، وقد وعدَ المؤمنين بالإجابةِ، ولم يُقَيِّدْهُ بشيءٍ، وإنما جاء بقيدِ المشيئةِ في دعاءِ الكفارِ. ثم قال: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} فيه للعلماءِ وَجْهَانِ (¬2): ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (1/ 121). (¬2) انظر: القرطبي (6/ 423)، البحر المحيط (4/ 129)، الدر المصون (4/ 632).

أن معنَى {وَتَنْسَوْنَ} تَتْرُكُونَهُ عَمْدًا، تنسونَ الشركاءَ، أي: تَتْرُكُونَ دُعَاءَهَا وقتَ الشدةِ عمدًا؛ لِعِلْمِكُمْ بأن الكرباتِ والشدائدَ لا يكشفُها إلا اللَّهُ (جل وعلا)، فتتركونها عمدًا. والنسيانُ يُطْلَقُ على تركِ الشيءِ عمدًا، كما قال: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: آية 51] معناه: نَتْرُكُهُمْ عَمْدًا كما تَرَكُوا العملَ للقاءِ يومِ القيامةِ عمدًا. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، أنها تُطْلِقُ النسيانَ على تركِ الفعلِ عمدًا، وتطلقُه على تَرْكِهِ نِسْيَانًا. الوجهُ الثاني: أنه من شدةِ الهولِ نَسُوا غيرَ اللَّهِ (جل وعلا)، ولم يَخْطُرْ في أذهانِهم إلا اللَّهُ؛ لأنهم عارفونَ أنه لا يكشفُ الكرباتِ إلا هُوَ؛ ولذا قال: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}. [3/أ] / {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)} [الأنعام: الآيات 42 - 47]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ

أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: الآيات 42 - 45]. يقول اللَّهُ (جل وعلا) لِنَبِيِّهِ: لستَ أولَّ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قومُه، فقد أَرْسَلْنَا قبلَك رسلاً كِرَامًا، وجاؤوا بالبيناتِ والمعجزاتِ الواضحاتِ، فَكَذَّبَتْهُمْ أممُهم كما كَذَّبَتْكَ أُمَّتُكَ. وَكُلُّ هذا من تسليةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. واللامُ في (لقد) توطئةٌ لقسمٍ محذوفٍ (وَاللَّهِ لقد أرسلنا) وصيغةُ الجمعِ في {أَرْسَلْنَا} للتعظيمِ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ حَذْفَانِ، كِلاَهُمَا دَلَّ المقامُ عليه (¬1): الحذفُ الأولُ: حذفُ المفعولِ به، وتقديرُه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رسلاً إلى أممٍ من قَبْلِكَ) فَحُذِفَ المفعولُ لدلالةِ المقامِ عليه، وَحَذْفُ الفَضْلَةِ إذا دَلَّ المقامُ عليها سائغٌ مُطَّرِدٌ. الحذفُ الثاني الذي دَلَّ المقامُ عليه: هو حذفُ (الفاءِ) وما عَطَفَتْ. وحَذفُ (الفاء) وما عَطَفَتْ إن دَلَّ المقامُ عليه: فهو مُطَّرِدٌ في لغةِ العربِ، كثيرٌ في القرآنِ، أشارَ له ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقولِه (¬2): وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ ............................ وتقديرُه هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي: (أَرْسَلْنَا رُسُلاً) {إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} فَكَذَّبَتْ تلك الأممُ {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ابتلاءً لَمَّا كَذَّبُوا. هذانِ الحذفانِ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 424)، البحر المحيط (4/ 130)، الدر المصون (4/ 632). (¬2) الخلاصة ص (48)، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 119).

والأممُ هنا: جمعُ أُمَّةٍ. والصروفُ عند علماءِ العربيةِ: أن لفظَ (الأمةِ) أُطْلِقَ في القرآنِ العظيمِ أربعةَ إطلاقاتٍ مشهورةٍ، ولو قيل إن هنالك إِطْلاَقًا خامسًا لكان غيرَ بعيدٍ. أما إطلاقاتُ لفظِ (الأمةِ) في اللغةِ وفي القرآنِ فَمِنْ أَشْهَرِهَا (¬1): إطلاقُ (الأمةِ) على الطائفةِ المتفقةِ في الدِّينِ. أي: في نِحْلَةٍ كائنة ما كانت. وهذا أكثرُ إطلاقاتِها {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: آية 24] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [يونس: آية 47] {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: آية 38]. الإطلاقُ الثاني: إطلاقُ (الأمةِ) على الرجلِ العظيمِ الْمُقْتَدَى به، وقد أطلقَ اللَّهُ (الأمةَ) بهذا المعنى على نَبِيِّهِ إبراهيمَ في قولِه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: آية 120]. الإطلاقُ الثالثُ: إطلاقُ الأمةِ على البُرْهَةِ والقطعةِ من الزمنِ، ومنه بهذا المعنى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: آية 45] أي: تَذَكَّرَ بعدَ برهةٍ من الزمانِ، ومن هذا الإطلاقِ قولُه تعالى في أولِ سورةِ هود: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ} [هود: آية 8] أي: إلى برهةٍ معينةٍ في عِلْمِنَا من الزمنِ. الإطلاقُ الرابعُ: إطلاقُ الأمةِ على الشريعةِ والدينِ والملةِ. العربُ تقول: «هذه أُمَّتُنَا». أي: دينُنا وشريعتُنا ومِلَّتُنا. ومنه بهذا المعنى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: آية 52] أي: شريعتُكم وطريقتُكم ودينُكم. ¬

(¬1) انظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص (445)، نزهة الأعين النواظر ص (142)، إصلاح الوجوه والنظائر ص (42).

ومنه بهذا المعنى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: آية 23] أي: على شَرْعٍ وَمِلَّةٍ ودينٍ. ومنه بهذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬1): حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لنَفْسِكَ رِيبَةً وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوُ طَائِعُ؟ يعني: أن صاحبَ الدِّينِ والشرعِ لا يأثمُ ويخالفُ دينَه وشرعَه وهو طائعٌ. والإطلاقُ الخامسُ: - الذي قُلْنَا إنه لو زَادَهُ إنسانٌ لكان غيرَ بعيدٍ (¬2) - هو ما جاء في الآيةِ الماضيةِ من إطلاقِ (الأمةِ) على الجنسِ من الحيواناتِ والطيورِ، كما قال تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: آية 38] فقد أطلقَ تعالى على كُلِّ نوعٍ من أجناسِ الدوابِّ والطيورِ اسمَ (الأمةِ). وقولُه هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ} [الأنعام: آية 42] هذه الأممُ هي أممُ بني آدمَ، كما جاء مفصلاً في بعضِ الآياتِ: أَرْسَلَ نوحًا إلى قومِه، وَبَيَّنَ لنا ما قابلوه به، وكذلك فصَّل لنا سيرَ جماعةٍ منهم، كقضيةِ نوحٍ مع قومِه، وهودٍ مع قومِه، وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ وموسى وهارونَ مع فرعونَ، ونحو ذلك مما بَيَّنَهُ القرآنُ. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي: أَرْسَلْنَا رُسُلاً {إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ} أي: من الناس الذين مَضَوْا من قَبْلِكَ، في الزمنِ الماضي، يعني: فَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ؛ لأن اللَّهَ ما أرسلَ رَسُولاً إلى قومٍ إلا كذبوه وأهلكهم اللَّهُ، ¬

(¬1) ديوان النابغة الذبياني ص (55). (¬2) وهو موجود في نزهة الأعين النواظر ص (144)، إصلاح الوجوه والنظائر (44).

ولم يُسْتَثْنَ من هذا أمةٌ إلا أمةَ يونسَ، كما سيأتي في قوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: آية 98] أما غيرُهم من الأممِ فَكُلُّ أمةٍ تُكَذِّبُ رسولَها فيهلكها اللَّهُ، كما قال تعالى في سورةِ قد أفلح المؤمنون: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: آية 44]. وقال هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأنعام: آية 42] أصل (الأخذ) في لغةِ العربِ: هو التناولُ بقوةٍ وشدةٍ (¬1). فَكُلُّ ما تَنَاوَلْتَهُ بقوةٍ وشدةٍ فقد أخذتَه. وأَخْذُ اللَّهِ عظيمٌ، وقد ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ (رضي الله عنه)، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لِمْ يُفْلِتْهُ» ثم تلاَ قولَه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: آية 102] (¬2) و {الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} في هذه الآيةِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} كلاهما مصدرٌ أُنِّثَ بألفِ التأنيثِ الممدودةِ ¬

(¬1) لم أقف على من اعتبر ذلك أصلا لمعنى (الأَخْذ) في كلام العرب. وإنما يُفسِّرون (الأَخْذ) بالتناول وما في معناه. وفسَّره الراغب في المفردات بأنه حَوْزُ الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتناول، وتارة بالقهر. (انظر: المفردات، مادة: أخذ ص 67) وسيأتي قول الشيخ (رحمه الله): «قدمنا أن (الأَخْذ) إذا أُسند إلى الله هو الأخذ بقوة وشدة ... » اهـ عند تفسير الآية رقم (44) من هذه السورة. والذي يظهر أن الشيخ (رحمه الله) قصد الجمع بين المعنين هنا بالنظر إلى السياق، والله أعلم. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى ... } حديث (4686) (8/ 354)، ومسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، حديث (2583) (4/ 1997).

تأنيثًا لَفْظِيًّا، وأكثرُ العلماءِ (¬1) على أن (البأساءَ): هي ما كان من جهةِ الفقرِ، والفاقةِ والجوعِ وضياعِ الأموالِ. وأن (الضراءَ): هي ما كان من قبيلِ أمراضِ الجسومِ وآلامِها وما يقعُ فيها. والمعنى: أَنَّا ابتليناهم بالضرِّ في أموالِهم وفي أبدانِهم فَأَفْقَرْنَاهُمْ، وأعدمنا أموالَهم، حتى صَارُوا في جوعٍ وفي فقرٍ وفي فاقةٍ اختبرناهم بهذا لِيُنِيبُوا إلى اللَّهِ ويبتهلوا إليه، فلم يَنْفَعْ فيهم هذا الاختبارُ بالشَّرِّ، فلما لم يَنْجَحْ فيهم هذا الاختبارُ بالشَّرِّ ابتليناهم بالخيرِ، وَبَدَّلْنَا عنهم السيئةَ بالحسنةِ، فجعلنا لهم مكانَ المرضِ صحةً وعافيةً، ومكانَ الفقرِ غِنًى، ومكانَ الجوعِ شِبَعًا، فلم يَنْفَعْ فيهم هذا أيضًا. والله (جل وعلا) يبتلي خلقَه بالشرِّ والخيرِ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: آية 35] {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: آية 168]. وهذه الآيةُ الكريمةُ - من سورةِ الأنعامِ - بَيَّنَتْ أن اللَّهَ إذا أرسلَ رسولاً إلى قومٍ ابْتَلاَهُمْ أولاً بالشدائدِ، فَسَلَّطَ عليهم الفقرَ والجوعَ والفاقةَ فإذا لم يَنْفَعْ فيهم هذا أزالَ عنهم ذلك وأغناهم وصحَّحهم وأغدقَ عليهم نِعَمَ الدنيا، حتى يُهْلِكَهُمْ وهم في غفلةٍ، فِي أَشَدِّ وَقْتٍ غفلةً وَبَطَرًا - والعياذُ بالله - وقد صَرَّحَ تعالى في سورةِ الأعرافِ أن هذا النوعَ من الابتلاءِ - المبدوءَ بالابتلاءِ بالشرِّ ثم الابتلاءِ بالخيرِ - عَامٌّ في جميعِ الأممِ التي أُرْسِلَتْ إليها الرسلُ، وهنا - في الأنعامِ - لم يأتِ بصيغةٍ عَامَّةٍ، وإنما قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: آية 42] وقوله: {أُمَمٍ} جَمْعٌ مُنَكَّرٌ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (3/ 349 - 350)، (4/ 288)، (11/ 354)، القرطبي (6/ 424).

والتحقيقُ: أن الجموعَ المنكَّرة إذا كانت في سياقِ الإثباتِ ليست من صيغِ العمومِ (¬1)، [وَمَنْ] (¬2) زَعَمَ مِنْ علماءِ الأصولِ: «أن الجمعَ المُنَكَّرَ من صيغِ العمومِ» فهو قولٌ مردودٌ، كما هو معروفٌ في الأصولِ، أما في الأعرافِ فقد بَيَّنَ أن هذه السُّنَّةَ من سُنَنِ اللَّهِ، أنها عامةٌ حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: الآيتان 94، 95] يعني: بَدَّلْنَا مكانَ الجوعِ شِبَعًا، ومكانَ الفقرِ غِنًى، ومكانَ المرضِ صحةً وعافيةً؛ {حَتَّى عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} هذه سُنَّةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ، ذَكَرَهَا هنا في الأنعامِ، وَبَيِّنٌ الشمولُ والعمومُ في الأعرافِ. ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (التضرعُ): التذللُ والخضوعُ لِلَّهِ (¬3)، وكثيرًا ما يَظْهَرُ أثرُ ذلك في الدعاءِ بأن يبتهلَ ذلك الذليلُ الخائفُ من الله يبتهلُ مُتَضَرِّعًا يُنَاجِي رَبَّهُ (جل وعلا). و (الضارعُ): هو الذليلُ الخائفُ، و (الضَّرَاعَةُ): الذلُّ والخشوعُ والخوفُ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، مشهورٌ في كلامِهم، ومنه قولُ الشاعرِ (¬4): ¬

(¬1) في هذه المسألة راجع؛ شرح الكوكب المنير (3/ 139)، شرح مختصر الروضة (2/ 473)، أضواء البيان (1/ 218)، (3/ 321)، (4/ 174). (¬2) في الأصل: «وما». (¬3) انظر: المفردات (مادة: ضرع) (506). (¬4) البيت لنهشل بن حري، أو ضرار بن نهشل، وقيل غير ذلك. وعجره: ومُخْتَبِط مِمَّا تُطيح الطوائح وهو في الكتاب لسيبويه (1/ 288، 366، 398)، المحتسب (1/ 230)، الخصائص (2/ 353)، الخزانة (1/ 147).

لِيُبْكَ يَزِيدٌ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ............................ أي: (ذَلِيل) يبكيه ذليلٌ؛ لأنه ملجأٌ له. وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: المعروفُ في لغةِ العربِ، أن حرفَ (لعل) أنه لِلتَّرَجِّي والتوقعِ، والله عالمٌ محيطٌ عِلْمُهُ بعواقبِ الأمورِ، فكيف يُصرِّحُ بلفظٍ هو يدلُّ على الترجِّي والتوقعِ، وكيف يَصِحُّ في كلامِ اللَّهِ التَّرَجِّي والتوقعُ، وهو القادرُ على كُلِّ شيءٍ، المحيطُ علمُه بعواقبِ الأمورِ؟ هذا وجهُ السؤالِ. وللعلماءِ عن هذا جَوَابَانِ (¬1): أحدُهما: أن (لَعَلَّ) هنا للتعليلِ. والمعنى: أَخَذْنَاهُمْ بالبأساءِ والضراءِ لأجلِ أن يَتَضَرَّعُوا. ولا شكَّ أن (لعلَّ) أنها من حروفِ التعليلِ. وقد سُمِعَ في لغةِ العربِ من كلامِ العربِ الفصحاءِ التعليلُ بـ (لعل). ومن إتيانِ «لعل» للتعليلِ في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬2): فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلاَ مُتَأَلِّقِ فقوله: «كفّوا الحروبَ لعلنا نكف» يعني: كُفُّوا الحروبَ لأجلِ أن نكفَّ عنكم. ومن هنا قال بعضُ العلماءِ: كُلُّ (لعلَّ) في القرآنِ فهي للتعليلِ، إلا التي في سورة الشعراء {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: آية 129] قالوا بمعنى: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ (¬3). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

الوجهُ الثاني: أن (لعل) على بابِها من أنها لِلتَّرَجِّي والتوقعِ، إلا أن معنى الترجي والتوقعِ فيها هو بحسبِ ما يظهرُ للناسِ، أَمَّا اللَّهُ (جل وعلا) فهو عالمٌ بما كان وما يكون. ومما يؤيدُ هذا: أن اللَّهَ عَالِمٌ في أَزَلِهِ بأن فرعونَ شَقِيٌّ يموتُ كافرًا - والعياذُ بالله - وهو يقولُ لموسى وهارونَ: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: آية 44] على تَرَجِّيكُمَا وَتَوَقُّعِكُمَا بحسبِ ما يظهرُ لَكُمَا. أَمَّا عاقبةُ الأمرِ وما يَؤُولُ إليه فهي عندَ اللَّهِ جل وعلا. وهذا معنى قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: آية 42] لأجلِ أن يَتَضَرَّعُوا. أي: لِتَرَجِّي تَضَرُّعِهِمْ بحسبِ ما يَظْهَرُ للناسِ الجاهلين بعواقبِ الأمورِ. ثم قال: {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: آية 43] قد قَدَّمْنَا (¬1) أن لفظةَ (لولا) أصلُها تأتي في اللغةِ العربيةِ وفي القرآنِ مشتركةً بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، إلا أن أحدَ الْمَعْنَيَيْنِ ينقسمُ إلى قِسْمَيْنِ، فتكون أقسامُ (لولا) ثلاثةً في القرآنِ وفي كلامِ العربِ. (لولا) في القرآنِ إِذَنْ تَرِدُ على ثلاثةِ أقسامٍ، بثلاثةِ معانٍ معروفةٍ: الأولُ: هي (لولا) المعروفةُ عند العلماءِ بأنها حرفُ امتناعٍ لوجودٍ، والمعنى: أنها تَدُلُّ على امتناعِ شيءٍ لوجودِ شيءٍ نحو: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: آية 21] يعني: أنه هنا انْتَفَى عدمُ الزكاةِ والطهارةِ لوجودِ فضلِ اللَّهِ. وهذا معروفٌ مشهورٌ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية رقم (37) من هذه السورة.

الثاني: هو (لولا) التحضيضيةُ. ومعنى (لولا) التحضيضيةُ: أن (لولا) حرفٌ يَدُلُّ على طلبِ الفعلِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ؛ ولذا سُمِّيَتْ حرفَ تحضيضٍ. وهذه هي التي تنقسم قسمين؛ لأن لها حالتين: تارةً يكون الفعلُ المطلوبُ فيها بحرفِ التحضيضِ - الذي هو (لولا) - تارةً يكونُ مُمْكِنًا تَدَارُكُهُ مُمْكِنًا فِعْلُهُ، وتارةً يكونُ ذلك الفعلُ لم يبقَ فعلُه مُمْكِنًا؛ لأن فرصتَه ضَاعَتْ وَمَضَتْ، ولم يمكن تَدَارُكُهُ. وإذا كان فِعْلُهُ مُمْكِنًا فهي المعروفةُ بالتحضيضيةِ نحو: {مِّنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي} [المنافقون: آية 10] (لولا) هنا معناه: أَطْلُبُ مِنْكَ يَا رَبِّ بطلبٍ شديدٍ مُحَضِّض عليه، بِحَثٍّ وَحَضٍّ أن تُؤَخِّرَنِي {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ... } الآيةَ. النوعُ الثاني: - ومنه الآيةُ التي بَيْنَ أَيْدِينَا - هي أن يكونَ الفعلُ المطلوبُ بأداةِ الطلبِ التي هي حرفُ التحضيضِ - أعني (لولا) التحضيضيةَ - يكونُ الفعلُ فاتَ تَدَارُكُهُ ولم يَبْقَ مُمْكِنًا أبدًا. فهي في هذا المعنى ينقلبُ تَحْضِيضُهَا إلى التوبيخِ والتنديمِ، تارةً يُوَبَّخُ بها موجودٌ، كقوله للذين تكلموا في عائشةَ وصفوانَ: {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: آية 16] هذا العملُ المطلوبُ بـ (لولا) ضَاعَتْ فرصتُه عليهم؛ لأنهم قد تَكَلَّمُوا بما لا يَلِيقُ، فهي في هذا المعنى ينقلبُ تحضيضُها إلى التوبيخِ والتنديمِ. فكأنه يُوَبِّخُهُمْ وَيُنَدِّمُهُمْ على ما فَرَّطَ منهم. وتارةً يكونُ الْمُوَبَّخُ بها قد مَاتَ ولم يكن موجودًا، كقوله في هذه الآيةِ الكريمةِ: {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: آية 43] لأن وقتَ نزولِ الآيةِ هؤلاء الأممُ قد ماتوا وَانْقَضَوْا في أزمانٍ متناهيةٍ، قد مَضَوْا في الزمانِ الماضي، فلا يمكنُ حصولُ الفعلِ

منهم، وليسوا موجودين حتى يسمعوا التوبيخَ. ولكن المقصودَ من توبيخِ هذا الذي غَابَ ومات ليعتبرَ به غيرُه، فيعلم بأن قصصَ القرآنِ إنما قُصَّتْ علينا لنعتبرَ بها {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: آية 111] ولذا كان من الحسنِ أن يُوَبَّخَ أولئك لنعتبرَ بتوبيخهم فنجتنبَ ذلك الأمرَ الذي استحقوا التوبيخَ مِنْ أَجْلِهِ، هذا معناه؛ ومن هذا المعنى {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ} [هود: آية 16] لأن القرونَ مَضَتْ، فهو توبيخٌ لِغَائِبِينَ، وتنديمٌ لهم؛ ليعتبرَ به الْمُخَاطَبُونَ؛ ولذا قال: {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: آية 43] كان المطلوبُ منهم وقتَ وجودِهم - بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ - أن يتضرعوا، واختبرهم اللَّهُ بالبأسِ أن يتضرعوا. ويُفهم من الآيةِ أن المسلمَ إذا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ بمصائبِ الدنيا من أمراضٍ أو مصائبَ في الأموالِ أو جوعٍ أو نحو ذلك: أن عليه أن يتضرعَ إلى رَبِّهِ (جل وعلا) ليزيلَ عنه ذلك؛ لأنه وَبَّخَ هؤلاء وَذَمَّهُمْ على عدمِ التضرعِ إليه عندَ نزولِ الشدائدِ بهم، وهذا معنى قولِه: {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} ثم قال: ولكنهم لَمْ يَتَضَرَّعُوا {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} لأن القلوبَ القاسيةَ تَشْتَدُّ كما تشتدُّ الحجارةُ، فكما أن الحجرَ الصلبَ القويَّ إذا أَرَدْتَ أن تُدْخِلَ في جوفِه ماءً لا يدخلُ، فكذلك قلبُ الكافرِ لصلابتِه وقسوتِه إذا أَرَدْتَ أن تُدْخِلَ فيه الموعظةَ والفهمَ عن اللَّهِ لا يدخلُ؛ لشدةِ قسوةِ القلبِ والعياذُ بِاللَّهِ. وقولُه: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} اعْلَمْ أن الشيطانَ في لغةِ العربِ (¬1) يُطْلَقُ على كُلِّ ¬

(¬1) في معنى (الشيطان) انظر: تفسير ابن جرير (1/ 11)، المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما، (مادة: شطن) ص 524، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317)، القرطبي (1/ 90)، الدر المصون (1/ 10)، الأضواء (2/ 208).

عَاتٍ متمردٍ كائنًا ما كان. فَكُلُّ عاتٍ متمردٍ فهو (شيطانٌ) في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ، سواء كان من الإنسِ أو من الجنِّ أو من غيرِهما. إلا أن (الشيطانَ) كان بالحقيقةِ العُرفيةِ يَسْبِقُ إلى إبليسَ وذريةِ إبليسَ. أما في الوضعِ اللغويِّ فَكُلُّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ تُسَمِّيهِ العربُ (شَيْطَانًا)، سواءً كان من الإنسِ أو من الْجِنِّ أو من غيرِهما، ومن إطلاقِ (الشيطانِ) على المتمردِ العاتِي من بني آدمَ قولُه تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: آية 14] أي: عُتَاتِهِمُ المتمردين من رؤساءِ الكفرةِ، وقولُه تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: آية 112] وقد جاءَ حديثٌ عن أَبِي ذَرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ مِنَ الإِنْسِ شَيَاطِينَ» (¬1). وَكُلُّ ¬

(¬1) ولفظ الحديث المشار إليه عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فجلست، فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟» قلت: لا، قال: «قم فصل». فقمت فصليت ثم جلست، فقال: «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن». قلت يا رسول الله: وللإنس شياطين؟ قال: «نعم .. » الحديث. وقد أخرجه أحمد (5/ 178، 179)، والنسائي، كتاب الاستعاذة «الاستعاذة من شر شياطين الإنس» حديث: رقم (5507)، (8/ 275)، وابن جرير في التفسير (11/ 53 - 55)، وابن حبان (الإحسان) (1/ 287)، والطيالسي ص 65، والبيهقي في الشعب (7/ 178)، كلهم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وللحديث طرق متعددة لا تخلو من ضعف إلا أن بعضها قد يتقوى ببعض والله أعلم. وهذا الحديث له شاهد من حديث أبي أمامة عند أحمد (5/ 265 - 266)، والطبراني في الكبير (8/ 258)، وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1371).

عَاتٍ متمردٍ من الإنسِ فهو (شيطانٌ)، كما دَلَّ عليه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} ومنه بهذا المعنى قولُ جريرٍ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ - قال (¬1): أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا ومن إطلاقِ (الشيطانِ) على غيرِ الإنسِ والجنِّ حديثُ: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» (¬2). وما جَرَى مَجْرَى ذلك. هذا إطلاقُ (الشيطانِ) في لغةِ العربِ، وهو حقيقةٌ عُرْفِيَّةٌ في إبليسَ وذريتِه؛ لأن ذريةَ إبليسَ شياطينُ، يفعلون كما يفعلُ، كما يأتي في قولِه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: آية 50]. وَاعْلَمْ أن المادةَ التي اشْتُقَّ منها (الشيطانُ) اختلفَ فيها علماءُ العربيةِ على قَوْلَيْنِ (¬3)، أشارَ لكلِّ واحدٍ منهما الشيخُ عمرو - أعني ¬

(¬1) قال ابن كثير بعد أن ساق بعض طرق الحديث: «فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته. والله أعلم» اهـ من التفسير (2/ 166) وانظر: في الكلام على سنده: مجمع الزوائد (1/ 159 - 160)، الفتح الرباني (19/ 29)، تعليق شاكر على ابن جرير (11/ 53 - 54)، ضعيف سنن النسائي ص 242، الجامع لشعب الإيمان (هامش) (7/ 178). () البيت في المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما ص 524، القرطبي (1/ 90)، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317) والمثبت في هذه المصادر: «وهُن يهوينني». (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يستر المصلي حديث (510)، (1/ 365). (¬3) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما. (مادة: شطن) ص 524، وباب الشين والياء وما يثلثهما. (مادة: شيط) ص 545، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317)، (مادة: شيط) (2/ 389)، الدر المصون (1/ 10)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 153.

سِيبَوَيْهِ - في كتابِه (¬1). وباختلافِ القولين يختلفُ وَزْنُ (الشيطانِ) بالميزانِ الصرفيِّ، فجماعةٌ مِنَ العلماءِ - وهو أَصَحُّ القولين - قالوا: إن مادةَ (الشيطانِ) أصلُها من (شَطَنَ)، ففاءُ المادةِ شِينٌ، وعينُها طاءٌ، وَلاَمُهَا نونٌ، (شَطَنَ). ومعنى هذه المادةِ في لغةِ العربِ معناها: البعدُ، فَكُلُّ شيءٍ شَطَنَ فهو بعيدٌ جِدًّا. وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا حَزِينُ «نوى شطون» أي: بعيدةٌ. ومما يدلُّ على أن (الشيطانَ) أصلُه من (شطن) قولُ أُمَيَّةَ بنِ أبي الصلتِ الثقفيِّ - وهو عربيٌّ قُحٌّ - يمدحُ سليمانَ بنَ داودَ (عليهما الصلاةُ والسلامُ وعلى نَبِيِّنَا)، قال في مدحه (¬3): أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالأَكْبَالِ عَبَّرَ عن (الشيطانِ) بالشاطنِ، والشاطنُ: اسمُ فاعلِ (شَطَنَ) بلا خلافٍ، وهذا مما يؤيدُ أن مادةَ (الشيطانِ) من (شَطَنَ) بمعنى بَعُدَ. ¬

(¬1) الكتاب (3/ 217 - 218). (¬2) البيت للنابغة، وهو في ديوانه ص72 والمثبت في الديوان وغيره من المصادر التي وقفت عليها: «رهين» بدلا من: «حزين». (¬3) البيت في المقاييس في اللغة ص 525، ابن جرير (1/ 112)، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317)، القرطبي (1/ 90)، الدر المصون (1/ 10). ومعنى (عكاه) أي: شَدَّه.

ومناسبتُها للتسميةِ هي بُعْدُهُ عن رحمةِ اللَّهِ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - وعلى هذا القولِ أن (الشيطانَ) من مادةِ (شَطَنَ) فوزنُه بالميزانِ الصرفيِّ (فَيْعَال). القولُ الثاني: أن (الشيطانَ) أصلُه من مادةِ (شَاطَ يَشِيطُ) إذا هَلَكَ، والعربُ تقولُ: (شَاطَ يَشِيطُ) إذا هَلَكَ، وعليه فإنما سُمِّيَ شيطانًا لِهَلاَكِهِ - والعياذُ بالله - لأنه هالكٌ مخلدٌ يومَ القيامةِ في عذابِ اللَّهِ. والعربُ تقولُ: (شاطَ يشيطُ). إذا هَلَكَ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الأَعْشَى ميمونِ بنِ قيسٍ (¬1): قَدْ نَخْضِبُ الْعَيْرَ مِنْ مَكْنُونِ فَائِلِهِ (¬2) وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ يعني بقوله: (يشيطُ) أي: يموتُ ويهلكُ. وعلى هذا فَوَزْنُ (الشيطانِ) بالميزانِ الصرفيِّ: (فَعْلاَن) فَعَلَى أنه من (شَاطَ) فوزنُه: (فَعْلاَن)، وعلى أنه من (شَطَنَ) فوزنُه: (فَيْعَال)، هذا وزنُه بالميزانِ الصرفيِّ، واختلافُ العلماءِ في اشتقاقِه وَمَعْنَاهُ. والمرادُ بالشيطانِ هنا: جنسُ الشيطانِ، وهو إبليسُ وذريتُه، والعياذُ بِاللَّهِ مِنْ تَضْلِيلِهِمْ. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الشيطانُ يُزَيِّنُ للكفرةِ والعصاةِ أعمالَهم الخبيثةَ، وذلك التزيينُ إنما هو بالوسوسةِ، يوسوسُ لهم، وينفثُ في قلوبِهم ما يُزَيِّنُ لهم به المعاصيَ والكفرَ - والعياذُ بالله - وهذا معنى قولِه: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ¬

(¬1) البيت في القرطبي (1/ 90)، اللسان (مادة: شيط)، (2/ 393). (¬2) الفائل. عرق في الفخذين يكون في خربة الورك.

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: آية 44]. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} النسيانُ هنا معناه: التَّرْكُ عَمْدًا. وقد بَيَّنَّا أن مادةَ (النسيانِ) تُطْلَقُ في القرآنِ وفي اللغةِ العربيةِ إِطْلاَقَيْنِ (¬1): يطلقُ (النسيانُ) على تركِ الفعلِ عمدًا نحو قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: آية 19] وكقولِه: {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة: آية 14] والله لاَ يَنْسَى أبدًا النسيانَ الذي هو زوالُ العلمِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى} [طه: آية 52] ويقولُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: آية 64] فهذا الاصطلاحُ [معروفٌ] (¬2) تقولُ العربُ: «أمرتُ زيدًا فَنَسِيَ أَمْرِي». يعنونَ تَرَكَهُ عَمْدًا. الثاني: هو (النسيانُ) بمعنى زوالِ العلمِ. كالنسيانِ الاصطلاحيِّ المعروفِ. ومنه قولُه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: آية 63] وقولُه: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: آية 68] {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: آية 19] هذا (النسيانُ) بمعنَى زوالِ العلمِ، والمرادُ في الآيةِ: النسيانُ بمعنى التركِ عَمْدًا، وهو قولُه: {فَلَمَّا نَسُوا} [الأنعام: آية 44] أي: تَرَكُو عَمْدًا {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} ما ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ به من البأساءِ والضراءِ، فلم يتضرعوا في حالةِ الضُّرِّ، ولم يشكروا في حالةِ النعيمِ؛ لأن اللَّهَ بيَّن أن الكافرَ عند حالةِ النعماءِ أنه فَخُورٌ أَشِرٌ بَطِرٌ، وعند حالةِ الضراءِ يَؤُوسٌ قنوطٌ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنعام. (¬2) زيادة ينتظم بها الكلام.

لا يدعو اللَّهَ، ولا يضرعُ إليه، كما قال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: الآيتان 9 - 10] هو فخورٌ فَرِحٌ أَشِرٌ بَطِرٌ وقتَ العافيةِ، يؤوسٌ قنوطٌ وقتَ الشدةِ. وهذا قد اسْتَثْنَى اللَّهُ منه عبادَه المؤمنين، حيث قال في سورةِ هودٍ، لَمَّا ذكرَ هذه الصفاتِ الذميمةَ عن الإنسانِ، اسْتَثْنَى منها المؤمنين الطيبين، قال: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: آية 11] وقد بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الصحيحِ أن المؤمنَ الطيبَ مخالفٌ لهذه الصفاتِ الخبيثةِ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لاَ يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلاَّ كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ» (¬1). المؤمنُ عندما يَأْتِيهِ البأساءُ والضراءُ يَضَّرَّعُ إلى رَبِّ العالمين صابرًا محتسبًا فَيُثِيبُهُ اللَّهُ، وَيُعْظِمُ له الأجورَ، وإذا كان وقت السراءِ وأنعمَ اللَّهُ عليه كان شاكرًا نِعَمَ اللَّهِ، مُرَاعِيًا بذلك حقوقَ اللَّهِ (جل وعلا)، ويكونُ ذلك خيرًا له. وهذا أيضًا خيرٌ له، كما في الحديثِ الصحيحِ. ومعنى قولِه: {فَلَمَّا نَسُوا} أي: تَرَكُوا وَأَعْرَضُوا عما ذُكِّرُوا به من البأساءِ والضراءِ، حَوَّلْنَا لهم البؤسَ إلى نعمةٍ {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قرأَ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ ما عدا الشاميَّ - أعني ابنَ عامرٍ -: {فَتَحْنَا} بتخفيفِ التاءِ. وقرأه ابنُ عامرٍ من السبعةِ ¬

(¬1) أخرجه - بنحوه - مسلم في صحيحه، من حديث صهيب (رضي الله عنه)، كتاب الزهد والرقاق، باب: المؤمن أمره كله خير، حديث رقم (2999)، (4/ 2295).

{فَتَّحْنَا} بتشديدِ التاءِ (¬1). وقولُه: {عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: كيف قال اللَّهُ: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وهو أصدقُ مَنْ يقولُ، مع أن كثيرًا من الأشياءِ لم تُفْتَحْ عليهم أبوابُه، لم تفتح عليهم أبوابُ الْهُدَى، ولا أبوابُ التوفيقِ، ولا أبوابُ طاعةِ اللَّهِ، ولا أبوابُ خيراتِ الجنةِ. ويصدقُ عليها اسمُ (الشيءِ)؟ وللعلماءِ عن هذا جَوَابَانِ (¬2): أحدُهما: ما قاله بعضُ العلماءِ أن المعنَى: فَتَحْنَا عليهم أبوابَ كُلِّ شيءٍ مما كُنَّا أَغْلَقْنَاهُ عليهم أيامَ الابتلاءِ بالشرِّ. يعني فتحنا لهم أبوابَ الصحةِ وقد كانت مغلقةً أيامَ المرضِ، وَفَتَحْنَا لهم أبوابَ الغِنَى بعدَ أن كانت مغلقةً أيامَ الامتحانِ بالشرِّ وهكذا. الوجهُ الثاني: أن هذا من العامِّ المخصوصِ، وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ بأن يذكرَ اللَّهُ (كُلَّ شيءٍ) وهو يُرَادُ به أنه عامٌّ مخصوصٌ. كقولِه في بلقيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: آية 23] مع أن بعضَ الأشياءِ لم تُؤْتَه بلقيسُ. وكقوله في مكةَ المكرمةِ حَرَسَهَا اللَّهُ: {حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: آية 57] مع أن بعضَ الثمارِ لا يُجْبَى إليها. فهذا من العامِّ المخصوصِ، وهو أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، وَتَذْكُرُ العربُ مثلَ هذا تقصدُ به الأغلبيةَ. وهذا معنى قولِه: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 194. (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 358)، القرطبي (6/ 426)، الموافقات (3/ 268 - 286)، قواعد التفسير ص 608.

{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} [الأنعام: آية 44] يعني ولم يَزَلْ ذلك الفتحُ ممتدًا إلى غايةٍ، هي كونُهم فَرِحُوا بما أُوتُوا. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي: ما أُعْطُوا من الصحةِ بدلَ المرضِ، ومن الغِنَى بدلَ الفقرِ، ومن الرِّيِّ والشبعِ بدلَ الجوعِ، فرحوا بهذا فَرَحَ أَشَرٍ وبَطَرٍ، لأنه ما كُلُّ فرحٍ مذمومٌ؛ لأن الفرحَ المذمومَ: هو الفرحُ بالدنيا المحضةِ، والأَشَرُ والبَطَرُ، لا من حيثُ أنها تُقَرِّبُ إلى اللَّهِ ولا تُرْضِيهِ. هذا الفرحُ المذمومُ المصحوبُ بالأَشَرِ والبَطَرِ، وعندما فَعَلُوهُ أهلكهم اللَّهُ. وهذا هو الذي ذَمَّ اللَّهُ به الإنسانَ بقولِه: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: آية 10] أما الْفَرَحُ بالخيرِ، والفرحُ بالدينِ ومعرفةِ القرآنِ فهذا أمرٌ مطلوبٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، كما نصَّ اللَّهُ على ذلك آمِرًا به بالسورةِ الكريمةِ - سورةِ يونسَ - حيث قال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: آية 58] وَلاَمُ الأمرِ في قولِه: {فَلْيَفْرَحُوا} تَدُلُّ على أن ذلك النوعَ من الفرحِ مأمورٌ به من اللَّهِ. والأمرُ إِنْ تَجَرَّدَ من القرائنِ اقْتَضَى الوجوبَ، كما هو معروفٌ في فَنِّ الأصولِ (¬1). وقولُه هنا: {فَرِحُواْ بِمَا أُوتُوا} أَيْ: بما أُعْطُوا من الصحةِ والعافيةِ وَالْغِنَى والأموالِ والدَّعةِ والراحةِ فَرَحَ بَطَرٍ وَأَشَرٍ، حتى إذا حَصَلَ فيهم ذلك: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} قَدَّمْنَا أن (الأخذ) إذا أُسْنِدَ إلى اللَّهِ هو الأخذُ بقوةٍ وَشِدَّةٍ (¬2). كما قال: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 39)، أضواء البيان (1/ 260)، (3/ 222، 357، 442)، (4/ 505)، (5/ 113، 114، 245)، (6/ 216، 231، 253)، قواعد التفسير ص 479. (¬2) مضى قريبا عند تفسير الآية (42).

شَدِيدٌ} [هود: آية 102]. وقولُه: {بَغْتَةً} مصدرٌ مُنَكَّرٌ بمعنى الحالِ (¬1). ومعنى البغتةِ: الفجأةُ. وذلك أَشَدُّ ما يُؤْخَذُ به الإنسانُ؛ لأنه إذا عَلِمَ بالعذابِ قبلَ نُزُولِهِ يكونُ مُتَجَلِّدًا مُسْتَعِدًّا. أما إذا بَغَتَهُ قبلَ استعدادٍ له فهذا أشدُّ وَأَنْكَى؛ ولأجلِ هذا بِعَيْنِهِ أخبرَ اللَّهُ المؤمنين بالبلايا التى تَرِدُ عليهم قبلَ أن تقعَ؛ ليكونوا مُسْتَعِدِّينَ لها، ولئلا تُفَاجِئَهُمْ. حيثُ قال لهم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: آية 155] أَخْبَرَهُمْ بأن الابتلاءَ سيأتيهم؛ لئلا يُبَاغِتَهُمْ، ويكونوا مستعدين له قبل نزولِه، ولذا قال: {أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (الفاء) فاءُ السببيةِ، و (إذا) هي الفجائيةُ (¬2)، و (الْمُبْلِسُونَ): جَمْعُ المُبْلِسِ، والْمُبْلِسُ: اسمُ فاعلِ الإبلاسِ. و (الإبلاسُ) في لغةِ العربِ يُطْلَقُ على معانٍ متقاربةٍ، هو في الحقيقةِ يُرَادِفُ الوجومَ، والوجومُ هو: أن يكونَ الإنسانُ سَاكِتًا منقطعًا لا يقدرُ أن يتكلمَ؛ لشدةِ اليأسِ من الخلاصِ من البلايا والدواهي التي وَقَعَ فيها. ومعنى {مُّبْلِسُونَ}: آيِسُونَ قَانِطُونَ مما وقعوا فيه من عذابِ اللَّهِ - والعياذُ بالله - إياسًا وقنوطًا يمنعهم من أن يتكلموا. فمعناه: ساكتونَ لا يُحِيرُونَ جوابًا من شدةِ اليأسِ والقنوطِ مِمَّا نَزَلَ بهم - والعياذُ بالله - وَكُلُّ مَنْ دَهَاهُ أمرٌ فَتَحَيَّرَ غيرَ قادرٍ أن يتكلمَ لشدةِ الأمرِ الذي دَهَاهُ تقولُ له العربُ: (أَبْلَسَ) (¬3). وهو معنًى معروفٌ في ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 426). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 131)، الدر المصون (4/ 634). (¬3) انطر: ابن جرير (11/ 360 - 363)، القرطبي (6/ 426)، البحر المحيط (4/ 131)، الدر المصون (4/ 635).

كلامِ العربِ، ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ (¬1) في رجزه: يَا صَاحِ هل تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا (¬2) ... قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا أي: تَحَيَّرَ مندهشًا لا يقدرُ أن يتكلمَ. وهذا معنى قولِه: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}. قال بعضُ العلماءِ: اشتقاقُ (إبليسَ) من (الإبلاسِ) (¬3)، وهو اليأسُ الشديدُ، والقنوطُ من الخيرِ، حتى يَبْقَى صاحبُه ساكتًا لا يُحِيرُ جَوَابًا. ثم قال جل وعلا: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: آية 45] (الدابر): اسمُ فاعلِ دَبَرَ القومَ يَدْبُرُهُمْ، العربُ تقولُ: «دَبَرَهُ يَدْبُرُهُ» إذا كان يمشي خلفَه؛ لأنه يمشي عندَ دُبُرِهِ (¬4). كما تقولُ العربُ: «قَفَّاهُ». إذا كان يمشي عند قَفَاهُ {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: آية 87] وأولادُ الناسِ كأنها دابرٌ لهم يَدْبُرُهُمْ ويتبعهم، كُلَّمَا انْقَضَى قَرنٌ دَبَرَهُ قرنٌ. أي: كان ذلك القرنُ تابعًا له، كأنه يَمْشِي عند دُبُرِه كما يمشي التابعُ عندَ دُبُرِ المتبوعِ، فالدابرُ يُقال للخَلَفِ وآخِرِ القومِ كأولادِهم. ومعنى (قُطِعَ دَابِرُهُمْ): استؤصلوا ولم يَبْقَ منهم تابعٌ؛ لإهلاكِ الأولادِ مع الآباءِ، حتى يَنْقَرِضُوا كُلاًّ - والعياذُ بالله ¬

(¬1) البيت في: ابن جرير (1/ 509)، (11/ 363)، القرطبي (6/ 427). (¬2) المكرس: الذي صار فيه الكرس، وهو أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار. (¬3) انظر: ابن جرير (1/ 509)، القرطبي (6/ 427). (¬4) انظر: ابن جرير (11/ 364)، القرطبي (6/ 427)، البحر المحيط (4/ 131).

جل وعلا - وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أميةَ بنِ أبي الصلتِ الثقفيِّ (¬1): فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلاَ انْتَصَرُوا (حَصَّ دَابِرَهُمْ): يعني قَطَعَ دابرَهم، وأهلكَ البقيةَ، فلم يَبْقَ منهم تابعٌ؛ لأن الولدَ كأنه دابرٌ للوالدِ، أي: تابعٌ له يقفوه من بعدِه ويُحيي ذِكْرَه بعد موتِه. ومعنى: (قَطْعُ الدابرِ) أنه هَلَكَ الأولادُ والآباءُ، وانقضى الجميعُ، فلم يَبْقَ منهم تابعٌ. وهذا معنى قولِه: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}. و (الظلمُ) هنا معناه: الشركُ. كقولِه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: آية 106]. ثم قال: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 45] أَثْنَى اللَّهُ (جل وعلا) على نفسِه الكريمةِ بهذا الثناءِ العظيمِ؛ لِيُعَلِّمَ خلقَه أن يحمدوا اللَّهَ (جل وعلا) وَيُثْنُوا عليه عندَ إهلاكِه الظلمةَ الذين ليس فيهم خيرٌ، وليس فيهم إلا الشرُّ للبلادِ والعبادِ، فإراحةُ المسلمين من الظلمةِ الذين ليس فيهم إلا الضررُ، من غيرِ أن يكونَ هنالك نَفْعٌ نعمةٌ من نِعَمِ اللَّهِ، عَلَّمَ اللَّهُ خَلْقَهُ أن يحمدوه عليها. ¬

(¬1) البيت في ابن جرير (11/ 364)، القرطبي (6/ 427)، الدر المصون (4/ 635).

و (الحمدُ) في لغةِ العربِ (¬1): هو الثناءُ (¬2) باللسانِ على المحمودِ بجميلِ صفاتِه، سواء كان من بابِ الإحسانِ أو من بابِ الاستحقاقِ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ. و (الشكرُ) في لغةِ العربِ (¬3): فعلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ الْمُنْعِمِ بسببِ كونِه مُنْعِمًا. إلا أن الشكرَ اصطلاحًا هو الحمدُ لغةً، والحمدُ لغةً هو الشكرُ اصطلاحًا (¬4). [3/ب] والمعنىَ: كُلُّ ثناءٍ جميلٍ ثابتٌ لخالقِ / السماواتِ والأرضِ. فمعنى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أنه سيدُ الخلائقِ وَمُدَبِّرُ شؤونِهم الذي لا يَسْتَغْنُونَ عنه طرفةَ عَيْنٍ، وَكُلُّ مَنْ يُدَبِّرُ الأمورَ وَيَسُوسُهَا تقولُ العربُ له (رَبًّا)، و (الرَّبَابَةُ): سياسةُ الأمورِ وتدبيرُها، تقولُ العربُ: «فلانٌ رَبُّ هذا الْحَيِّ». يَعْنُونَ: أنه هو الْمُدَبِّرُ شؤونَه. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ (¬5)، ومنه قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ (¬6): ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: حمد)، ص 256، المصباح المنير (مادة: حمد) (57 - 58). (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «الحمد: الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها» اهـ (الفتاوى 8/ 378، وانظر: (6/ 259، 266)، واللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب ص 213. (¬3) راجع ما مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬4) انظر: الكليات ص 366، 523، 534، 535، وفي الفرق بينهما راجع (اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب ص 214). (¬5) انظر: المفردات (مادة: رب) ص 336 - 337. (¬6) البيت في المجمل ص 279، المفضليات ص 394، المفردات (مادة: رب) ص 337.

وكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ معنى: (رَبَّتْنِي رُبُوبُ) أي: سَاسَتْنِي ساسةٌ، وملكتني ملوكٌ قَبْلَكَ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ العربُ: «رَبَّه يربُّه»، إذا سَاسَهُ وَدَبَّرَ شأنَه. وقد عَرَفْتُمْ في السيرةِ أن صفوانَ بنَ أميةَ بنِ خلفٍ طَلَبَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مهلةً ينظرُ في نفسِه، واستعارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منه بعضَ السلاحِ والدروعِ، وحضرَ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غزوةَ حُنَيْنٍ، وكان معه رجلُ آخَرُ، فلما وقعَ بالمسلمين ما وَقَعَ، حيث صَلَّوُا الصبحَ في غلسِ الصبحِ تَبَقَّى بقيةٌ من الظلامِ، وانحدروا في وادي حنين، وَوَجَدُوا مالكَ بنَ عوفٍ النصريَّ ألبدَ لهم هوازنَ في مضيقٍ من مضايقِ وَادِي حنين، وَشَدُّوا عليهم شَدَّةَ رجلٍ واحدٍ وهم في غفلةٍ، حتى كانت الرماحُ والسهامُ كأنها مطرٌ تُزَعْزِعُهُ الريحُ، ووقعَ بالمسلمين ما وَقَعَ حيث قال اللَّهُ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: آية 25] فعندَ هذا قال ذلك الرجلُ الذي مع صفوانَ (¬1): الآنَ بَطَلَ سحرُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وظنوا أن الهزيمةَ سَتَسْتَمِرُّ، وأن هوازنَ يغلبونَه ويملكونَ. فقال له صفوانُ بنُ أميةَ - وهو عدوٌّ في ذلك الوقتِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال لذلك الرجلِ: اسْكُتْ فُضَّ فُوكَ، لئن يَرُبَّنِي رجلٌ من قريشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من ¬

(¬1) وهو كلدة بن حنبل، ويقال: ابن عبد الله بن الحنبل، وسماه ابن اسحاق: جبلة بن الحنبل. انظر: السيرة لابن هشام ص 1290، وفي الإصابة (3/ 305): «كلدة بن حسل. ويقال: ابن عبد الله بن الحسل. وعند ابن قانع: كلدة بن قيس بن حسل» اهـ.

هوازنَ (¬1). قوله: «يَرُبَّنِي» يعني: يَسُودُنِي فَيَسُوسُنِي ويدبرُ شؤوني. هذا أصلُه معنى (الرَّبِّ). والربُّ الحقيقيُّ الذي يُدَبِّرُ خلائقَ الكونِ هو خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، لا تقعُ في الدنيا تحريكةٌ ولا تسكينةٌ إلا بمشيئتِه وتدبيرِه. و {الْعَالَمِينَ}: يُطْلَقُ على أهلِ السماواتِ وأهلِ الأرضِ وما بَيْنَهُمَا (¬2)، فَالعَالَمُ اسمٌ لِمَا سِوَى اللَّهِ، وقد دَلَّتْ آيةٌ من سورةِ الشعراءِ أن (العالمين) شاملٌ لأهلِ السماواتِ والأرضِ وما بَيْنَهُمَا، حيث قال اللَّهُ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآيتان 23 - 24] وهذا معنَى قولِه: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: آية 46]. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} {أَرَأَيْتُمْ}: معناه: أَخْبِرُونِي. وقد قَدَّمْنَا (¬3) أن العربَ تُطْلِقُ (أَرَأَيْتَ) بمعنى: أَخْبِرْنِي، وتستعملُها اسْتِعْمَالَيْنِ، إذا جعلتَ معها الكافَ، كقولِه: «أَرَأَيْتُكَ» أو: «أَرَأَيْتُكُمْ» لَزِمَتِ التاءُ الفتحَ، وكانت الكافُ تتغيرُ بحسبِ تغيرِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 128)، والطبري في تاريخه (3/ 128)، وذكره ابن هشام في السيرة ص 1286، 1290، والهيثمي فى المجمع (6/ 179 - 180) وابن كثير في تاريخه (4/ 327) وصححه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص 422، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 143، 163). (¬2) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (40 - 41) من هذه السورة.

المخاطَبِ، وإذا حَذَفُوا منها الكافَ كانت التاءُ تتغيرُ بحسبِ تغيرِ المخاطَبِ، وهي معناها: أَخْبِرْنِي. والمحققونَ من علماءِ العربيةِ: أنها مع تحويلِ معناها إلى (أَخْبِرْنِي) أنها تطلبُ مَفْعُولَيْنِ، وهي وَمَفْعُولاَهَا بمعنَى: أَخْبِرْنِي عن كذا. وعليه فقولُه هنا: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} أَخْبِرُونِي. المفعولُ الأولُ: أرأيتم سَمْعَكُمْ وأبصارَكم إن أَخَذَهَا اللَّهُ مَنْ هُوَ الذي يَأْتِيكُمْ بها؟ فالمفعولُ الأولُ في قولِه: أرأيتُم سَمْعَكُمْ وأبصارَكم إِنْ أَخَذَهَا اللَّهُ، مَنْ هُوَ الذي يَأْتِيكُمْ [بها] (¬1)؟ والمفعولُ الثاني: الجملةُ (¬2). أَوَّلاً: هذه الآيةُ تهديدٌ للخلائقِ، وهو أن اللَّهَ (جل وعلا) أَعْطَاهُمْ هذه العيونَ التي يُبْصِرُونَ بها، وهذه الآذانَ التي يَسْمَعُونَ بها، وهذه القلوبَ المشتملةَ على العقولِ التي يفهمونَ بها، وهذا أَعْطَاهُ لهم لأَجْلِ أن يَعْتَبِرُوا هذه النعمَ فَيَشْكُرُوا لِمَنْ مَنَّ بها فَيُطِيعُوهُ، كما قال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: آية 78] أي: لأَجْلِ أن تَشْكُرُوا له هذه النعمَ فَتُطِيعُوهُ، كأنه يقولُ لهم هنا: هذه النعمُ الجلائلُ التي أَنْعَمْتُ بها عليكم من هذا البصرِ الذي تُبْصِرُونَ به، والسمعِ الذي تَسْمَعُونَ به، والقلبِ الذي تَفْهَمُونَ به، مَنَحْتُكُمْ إياها لِتَشْكُرُونِي {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: آية 78] لَمَّا كَفَرْتُمْ نِعَمِي أَخْبِرُونِي إن ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) قال في الدر المصون (4/ 635): «المفعول الأول محذوف تقديره. أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله. والجملة الاستفهامية في موضع الثاني» اهـ ولأبي حيان نحوه في البحر المحيط (4/ 132).

أخذتُ نِعَمِي، وَسَلَبْتُهَا مِنْكُمْ، فتركتُكم عُمْيًا بعدَ الإبصارِ، وتركتُكم صُمًّا بعد السماعِ، وتركتُكم لا عقولَ لكم بعدَ الإدراكِ، فصرتُم لا بَصَرَ عندكم تُبْصِرُونَ به، ولا سمعَ تسمعونَ به، ولا عقلَ تفهمونَ به، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يَرُدَّ عليكم هذه المنافعَ، ويجعلُكم تسمعونَ وتبصرونَ وتفهمونَ؟! المعنى: لاَ أحدَ يقدرُ أبدًا على ذلك إلا اللَّهُ وحدَه. يعني: لَمَّا كانَ إنعامُ اللَّهِ عليكم بهذه المثابةِ، وقدرتُه على سلبِ إنعامِه عنكم بهذه المثابةِ، ما كان ينبغي لكم أن تَتَمَرَّدُوا وَتَكْفُرُوا وَتَصْرِفُوا نِعَمَهُ (جل وعلا) فيما يُسْخِطُهُ. وهذا في الحقيقةِ أَمْرٌ يَعْرقُ منه الجبينُ، ويخجلُ منه مَنْ لَهُ عقلٌ، أن اللَّهَ مع عظمتِه وجلالِه وكمالِه يَمُنُّ على الواحدِ مِنَّا مع ضَعْفِ المسكينِ وحقارتِه، ويمنُّ عليه بهذه النعمِ، ويفتحُ له هاتين العينين في هذا الوجهِ على هذا الأسلوبِ الجميلِ الغريبِ وَيُعْطِيهِ هذا السماعَ، وَيُعْطِيهِ هذا العقلَ، ثم يصرفُ هذه النعمَ فيما يُسْخِطُ خالَقه (جل وعلا)، فهذا أمرٌ فظيعٌ، يعرقُ منه جبينُ العاقلِ، وَيَسْتَحِي منه مَنْ لَهُ عَقْلٌ. وهذا معنى قولِه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُم} أرأيتُم - أَخْبِرُونِي - أيها الناسُ {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} في أخذِه السمعَ وَجْهَانِ (¬1): أحدُهما: أنه يأخذُ الأُذُنَ بِحَاسَّتِهَا، ولا يتركُ لها أَثَرًا، ويأخذُ العينَ حتى يتركَ الوجهَ مَطْمُوسًا، كما قال: {مِّنْ قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: آية 47]. الوجهُ الثاني: أن المعنَى أنه يأخذُ حَاسَّةَ الإبصارِ والسمعِ والعقلِ وإن كانت الجوارحُ باقيةً؛ لأن صورةَ العينِ إذا نُزِعَ منها ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 428)، البحر المحيط (4/ 132).

الإبصارُ لا فائدةَ فيها، وجرمُ الأُذُنِ إذا نُزِعَ منه السماعُ لا فائدةَ فيه. هذان الوجهانِ مَعْرُوفَانِ. وقولُه: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} {مَّنْ} مُبْتَدَأٌ، و {إِلَهٌ} خبرُه، و {غَيْرُ اللَّهِ} نعتُ للإِلَهِ. والفعلُ في قولِه: {يَأْتِيكُم بِهِ} في مَحَلِّ النعتِ أيضًا. مَنْ إِلَهٌ غيرُ اللَّهِ يَرُدُّهُ عَلَيْكُمْ (¬1)؟ في هذه الآيةِ الكريمةِ سُؤَالاَنِ عَرَبِيَّانِ مَعْرُوفَانِ: أحدُهما: أن اللَّهَ هنا أَفْرَدَ السمعَ، وجمعَ الأبصارَ والقلوبَ، حيثُ قَالَ: {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} فَجَمَعَ الأبصارَ، وجمعَ القلوبَ، وأفردَ السمعَ ولم يَجْمَعْهُ، وهكذا في سائرِ القرآنِ، يَجْمَعُ ما ذُكِرَ مع السمعِ، وَيُفْرِدُ السمعَ، ولا يَجْمَعُهُ في القرآنِ؟ السؤالُ الثاني: أن اللَّهَ ذَكَرَ أشياءَ متعددةً في قولِه: {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم} ثُمَّ رَدَّ عليها ضميرَ اسمِه الواحدِ في قوله: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} بضميرٍ مذكرٍ مفردٍ؟ هذانِ السؤالانِ العربيانِ في هذه الآيةِ الكريمةِ. والجوابُ عنهما معروفٌ مِنْ لغةِ العربِ. أما الجوابُ عن الأولِ - وهو إفرادُ السمعِ في سائرِ القرآنِ - فلعلماءِ العربيةِ فيه وجهانِ مَعْرُوفَانِ: أحدُهما (¬2): أن أصلَ (السمعِ) مصدرٌ، وأنه مصدرُ: سَمِعَهُ، ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 428)، الدر المصون (4/ 636). (¬2) انظر: القرطبي (1/ 190)، (6/ 427)، البحر المحيط (1/ 49)، الدر المصون (1/ 114).

يَسْمَعُهُ، سَمْعًا، والعربُ إذا نَعَتَتْ بالمصدرِ أَلْزَمَتْهُ الإفرادَ والتذكيرَ، كما قال ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ (¬1): وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرَا فالْتَزَمُوا الإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا وقالوا لأجلِ هذا: لم يُجْمَعِ السمعُ في القرآنِ أَبَدًا. الوجهُ الثاني (¬2): هو ما تَقَرَّرَ في علومِ العربيةِ: أن كُلَّ مفردٍ هو اسمُ جنسٍ، فَمِنْ أساليبِ اللغةِ العربيةِ أن يُطْلَقَ مفردُه مُرَادًا به الجمعُ، نظرًا إلى أن أصلَه اسمٌ شاملٌ للجنسِ. وهذا كثيرٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ في حالاتِه الثلاثِ، أعني بِقَوْلِي: «في حالاتِه الثلاثِ» أن يكونَ مُنَكَّرًا، وأن يكونَ مُعَرَّفًا بالأَلِفِ واللامِ، وأن يكونَ مُضَافًا. فمن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ مُنَكَّرٌ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: آية 54] يعني: وأنهارٍ، بدليلِ قولِه: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} الآية. [محمد: آية 15] وكقولِه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: آية 74] يعني: أئمةً، وكقولِه: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: آية 5] يعني: أطفالاً، وكقولِه: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا} [المؤمنون: آية 67] يعني: سَامِرِينَ تَهْجُرُونَ، وكقولِه جل وعلا: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: آية 6] ويعني: إن كُنْتُمْ جنبين أو أجنابًا. وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: آية 69] أي: رفقاءَ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} [النساء: آية 4] ¬

(¬1) الخلاصة ص 45، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 68). (¬2) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 129 - 136)، البحر المحيط للزركشي (3/ 97، 108، 146)، أضواء البيان (1/ 92، 3/ 253)، (4/ 332)، (5/ 29، 776)، (7/ 730)، قواعد التفسير ص553.

أي: أَنْفُسًا. {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: آية 4] مظاهرون. وهو كثيرٌ جِدًّا. ومن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ مُعَرَّفٌ قولُه جل وعلا: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: آية 119] يعني: بالكتبِ كُلِّهَا، بدليلِ قولِه: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: آية 285] {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: آية 15] وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: آية 22] يعني: الملائكةَ، بدليلِ قولِه: {صَفًّا صَفًّا} لأن الملَك الواحدَ لا يكونُ صفًّا صفًّا، وكما يدل عليه قولُه في البقرةِ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: آية 210] وكقولِه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: آية 45] يعني: الأدبارَ، بدليلِ قولِه: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: آية 15] وكقولِه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: آية 75] يعني: الغرفَ، بدليلِ قولِه: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: آية 20] {هُمُ الْعَدُوُّ} يعني: الأعداءُ. وهو كثيرٌ جِدًّا. ومن أمثلتِه واللفظُ مُضَافٌ قولُه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: أوامره، وقولُه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: آية 34] أي: نِعَمَ اللَّهِ، وقولُه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: آية 61] أي: أَصْدِقَائِكُمْ. وهو كثيرٌ في القرآنِ. والشيخُ سيبويه في كتابِه (¬1) يقولُ: «إِنَّ اسمَ الجنسِ إذا كان مُفْرَدًا: يُوجَدُ قَصْدُ الجمعِ به بِقِلَّةٍ»، ونحن نقولُ: بتتبعِ القرآنِ واللغةِ ¬

(¬1) الكتاب (1/ 209 - 210).

العربيةِ فهو بكثرةٍ، عكس ما قاله الشيخُ عمرو سيبويه - رحمه الله - وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ: ما أنشدَه سيبويه في كتابِه من قولِ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ (¬1): بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ يعني: وأما جلودُها فصليبةٌ. وأنشد له أيضا سيبويه قولَ الآخَرِ (¬2): كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعُفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ أنشد له هذين البيتين فقط، وهو في كلامِ العربِ كثيرٌ، ومنه قولُ عقيلِ بنِ عُلفةَ المريِّ (¬3): وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمٍّ ... وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الأَخِينَا يعني بقوله: «شَرَّ عَمٍّ» شَرَّ أَعْمَامٍ. ومنه قولُ العباسِ بنِ مرداسٍ السُّلَمِيِّ (¬4): فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ سَلِمَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ يعني: إنَّا إخوانُكم. ومنه قولُ جريرٍ (¬5): إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ مِنَ الْعِرَابِ ¬

(¬1) البيت في المصدر السابق، المفضليات ص 394، الدر المصون (1/ 114). (¬2) البيت في الكتاب (1/ 209)، المحتسب (2/ 87). (¬3) البيت في الخزانة (2/ 276)، اللسان (مادة: أخا) (1/ 31). (¬4) البيت في ديوانه ص71؛ الخصائص (2/ 422)، الخزانة (2/ 277)، اللسان (مادة: أخا) (1/ 31). (¬5) ديوان جرير ص29.

يعني: وأباؤك. ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ (¬1): مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ ثُمَّ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَيْسَ لَهُمْ دِيْنٌ إِذَا ائْتُمِنُوا قال: «ما بال قوم صديق» يعني: أصدقاءَ. ومن هذا المعنى - بنفسِه - قولُ جريرٍ قال (¬2): نَصَبْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا بِأَعْيُنِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صَدِيقُ يعني: وهن صديقاتٌ. ومن هذا المعنى قولُ الآخَرِ (¬3): يَا عَاذِلاَتِي لاَ تَزِدْنَ مَلاَمَةً إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَيْسَ لِي بِأَمِيرِ وهو كثيرٌ جِدًّا. والقصدُ التمثيلُ، وعلى هذا خرَّج بعضُهم [إفرادَ] (¬4) (السمعِ)؛ لأنه اسمُ جنسٍ أُطْلِقَ وأُرِيدَ به الجمعُ، كما بينَّا نظائرَه في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ. الجوابُ الثاني: عن رجوعِ ضميرٍ مذكرٍ مفردٍ إلى أشياءَ متعاطفةٍ حيث قال: {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} يُجابُ عنه بجوابين (¬5): ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: صدق) (2/ 421)، أضواء البيان (5/ 30) ولفظ شطره الثاني فيهما: ........................ دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا (¬2) ديوان جرير ص315. (¬3) البيت في الخصائص (3/ 174)، مغني اللبيب (1/ 177) ولفظه فيهما: يا عاذلاتي لا تردن ملامتي ... إن العواذل لسن لي بأمير وأما اللفظ الذي ذكره الشيخ هنا فهو المثبت في الأضواء (5/ 30). (¬4) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬5) انظر: ابن جرير (11/ 366 - 367)، القرطبي (6/ 428)، البحر المحيط (4/ 132)، الدر المصون (4/ 636).

أحدُهما: أن قولَه: (به) أي: بما ذُكِرَ، أي: بذلك الشيءِ المأخوذِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ولما قال رؤبةُ بنُ العجاجِ في رجزيته القَافِيَّةِ المشهورةِ، قال فيها (¬1): فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فقال له واحدٌ: لِمَ قلتَ: كأنه بالإفرادِ؟ إذا كنتَ تعني (الخطوطَ) لا بد أن تقولَ: «كأنها»، وإذا كنتَ تعني (السوادَ والبلقَ) لا بد أن تقولَ: «كأنهما»، فَمِنْ أين قلتَ «كأنه» بالإفرادِ؟ قال له: (كأنه) أي: ما ذُكِرَ. الوجهُ الثاني: هو ما عُرِفَ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ أنه قد تأتي المتعاطفاتُ سواء كانت متعاطفاتٍ بـ (واو)، أو متعاطفاتٍ بـ (أو)، أو متعاطفاتٍ بـ (فاء)، ويرجعُ الضميرُ على واحدٍ منها، وتكونُ الأُخَرُ مفهومةً من ذلك (¬2)؛ لأنه لَمَّا رَجَعَ على واحدٍ فُهِمَ أن الباقيَ مثلُه، وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ. فمن أمثلتِه في القرآنِ في العطفِ بـ (أو): {وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: آية 270] وقال جل وعلا: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} [النساء: آية 112] بالإفرادِ، وقال (جل وعلا) في مثلِ هذا: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: آية 11] فَرَدَّهُ إلى التجارةِ دونَ اللهوِ. وفُهِمَ منه أن اللهوَ كذلك انْفَضُّوا إليه أيضا. مع أنه رَبُمَّا رَجَعَ لهما معًا، كقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: آية 135] وهو في العطفِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.

بـ (الواو) - كما هنا - كثيرٌ جِدًّا، ومنه قولُه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: آية 35] وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا} [البقرة: آية 45] وقوله جل وعلا: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: آية 62] وقول جل وعلا: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: آية 20] وهو كثيرٌ في القرآنِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬1): وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لاَهِيَيْنِ بِهَا ... وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ ولم يقل: «يَهْمِمَا». وقولُ الآخَرِ (¬2): إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأَسْـ ... ـوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا ولم يقل: (ما لم يُعَاصَيَا). هذا كثيرٌ في كلامِ العربِ. ومن أمثلتِه في المتعاطفاتِ بالفاءِ: قولُ امرئِ القيسِ في معلقتِه (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬2) البيت لحسان (رضي الله عنه)، وهو في الموضع السابق. (¬3) هذا هو الشطر الأول من البيت، وأما شطره الثاني فقوله: . . . . . . . . . . . . . . . . ... لِمَا نَسَجَتها من جَنُوب وشَمْأَل وقبله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وسقط اللوى: منقطع الرمل، والدخول وحومل. قيل إنهما موضعان في شرق اليمامة. وتوضح والمقراة: قيل إنهما موضعان قريبان من الدخول وحومل. انظر: ديوانه ص110.

فَتُوضِحَ فَالْمِقرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ............................ فَرَدَّ الضميرَ على أحدِهما، وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ. وَأَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ: الأولُ، أن المعنَى {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} أي: بما ذُكِرَ مِمَّا أَخَذَهُ اللَّهُ منكم. كقولِه جل وعلا: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: آية 68] أي: ذلك المذكور، ولم يقل: «ذَلِكُمَا»، ونظيرُه قولُ ابنِ الزبعرى (¬1): إِنَّ لِلشَّرِّ وَلِلْخَيْرِ مَدًى وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ هذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وهذا معنَى قولِه: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} وهذه الآيةُ الكريمةُ ينبغي لِكُلِّ مسلمٍ أن يعتبرَ بها، فيعلمَ أن اللَّهَ شقَّ له في وجهه عَيْنَيْنِ، وصبغَ له بعضَهما بصبغٍ أسودَ، وبعضَهما بصبغٍ أبيضَ، وأعطاه لهما سِلْكًا من جفونِه، وجعلَ لعينيه شحمًا لئلا يُجَفِّفَهَا الهواءُ، وجعلَ ماءَ عينِه مِلْحًا لئلا تُنْتِنَ الشحمةُ، وجعلَ له عقلاً، وهو هذا العقلُ الذي يُمَيِّزُ به بين الأشياءِ، ويفعلُ (¬2) به هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، وأعطاه حاسةَ السماعِ، كُلُّ هذا أعطاه له ليبذلَ هذه النعمَ فيما يُرْضِي رَبَّهُ (جل وعلا)، فلا ينبغي منه ولا يَجْمُلُ به أن يستعينَ بِنِعَمِ رَبِّهِ على معصيةِ خالقِه (جل وعلا)، فهذا عملٌ لا يليقُ بعاقلٍ. ثم إنه يُلاَحِظُ قدرةَ اللَّهِ وعظمتَه وجلالَه، وأنه قادرٌ على أن ينزعَ منه السمعَ والبصرَ والعقلَ فيتركَه كالجمادِ لا يسمعُ شيئًا، ولا يبصرُ شيئًا، ولا يعقلُ شيئًا، فلا ملجأَ له غيرُ اللَّهِ يُزِيلُ ذلك عنه؛ وَلِذَا قال: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عجَّب نَبِيَّهُ من جراءةِ الإنسانِ وجهلِه وإعراضِه عن الحقِّ مع فقرِه وحاجتِه وفاقتِه إلى رَبِّهِ (جل وعلا)، فقال له: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} معنى تصريفِ الآياتِ: هو نقلُها من حالٍ إلى حالٍ بأساليبَ واضحةٍ بينةٍ، تارةً - يعني - بالوعيدِ وتارةً بالوعدِ وتارةً بالابتلاءِ بالسراءِ، وتارةً بالضراءِ بأنواعٍ مختلفةٍ من جهاتٍ مختلفةٍ، ومع هذا {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} بعضُ الْمُحَقِّقِينَ من العلماءِ يقولُ: إن (ثم) في هذا المكانِ (¬1) للاستبعادِ (¬2)، وأن التراخيَ المفهومَ بـ (ثم) أنها للاستبعادِ؛ لأنه يُسْتَبْعَدُ عندَ العقولِ السليمةِ أن يكونَ اللَّهُ مع عظمتِه وجلالِه، ومع ما يُحْسِنُ به إلى الإنسانِ يُصرِّفُ له الآياتِ، ومع هذا هو يصدفُ، أي: يُعْرِضُ. فمعنى قولِه: {يَصْدِفُونَ} أي: يُعْرِضُونَ ويصدون، والعربُ تقولُ: «صَدَفَ عنه، يَصْدِفُ، صَدْفًا وصُدُوفًا»، إذا أَعْرَضَ عنه وَمَالَ (¬3). و (صَدَفَ) تُسْتَعْمَلُ استعمالين (¬4): تستعملُ مُتعديةً للمفعولِ، تقولُ: «صَدَفْتُهُ عن قولِه». أي: صَدَدْتُهُ عنه حتى أعرضَ عنه. وَتُسْتَعْمَلُ لازمةً، صدفَ فلانٌ عن كذا: إذا أَعْرَضَ عنه، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ ابنِ رواحةَ (¬5): ¬

(¬1) في الأصل زيادة: (إنها). (¬2) انظر: تفسير أبي السعود (3/ 134). (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 365 - 366)، القرطبي (6/ 428)، الدر المصون (4/ 636). (¬4) انظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (157) من سورة الأنعام. (¬5) البيت في الدر المنثور (3/ 12)، والأضواء (2/ 283)، وعزاه لأبي سفيان بن الحارث، ولفظ الشطر الثاني فيهما: ........................ ... له صدفنا عن كل حق منزل

عَجِبْتُ لِلُطْفِ اللَّهِ فِينَا وَقَدْ بَدَا لَهُ صَدْفُنَا عَنْ كُلِّ وَحْيٍ مُنَزَّلِ (صَدْفُنَا) أَيْ: إِعْرَاضُنَا. ومن هذا المعنى قولُ ابنِ الرّقاعِ يمدحُ نسوةُ، قال (¬1): إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ جمع صادفةٍ، أي: مُعْرِضَاتٍ صاداتٍ عنه، وهذا يُسْتَبْعَدُ؛ لأن (ثُمَّ) هنا للاستبعادِ كما حَقَّقَهُ بعضُ العلماءِ؛ لأنه يُسْتَبْعَدُ مِمَّنْ صَرَّفَ له خالقُه الآياتِ، وبيَّن له هذا من البيانِ، يستبعدُ منه بعدَ هذا: الإعراضَ والصدودَ عن اللَّهِ جل وعلا. وَمِنْ إتيانِ (ثُمَّ) للاستبعادِ قولُ الشاعرِ (¬2): وَلاَ يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا لأن مَنْ عَايَنَ غمراتِ الموتِ يُسْتَبْعَدُ منه اقتحامُها والوقوعُ فيها. وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: آية 47] {قُلْ} لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: {أَرَأَيْتَكُمْ} أَخْبِرُونِي {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} كان الحسنُ البصريُّ يقولُ: {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} أي: ليلاً أو نهارًا (¬3)، وهذا التفسيرُ ليس كما ينبغي، بل التحقيقُ أن معنَى بغتة: أي: أَتَاكُمُ العذابُ في ¬

(¬1) البيت في ابن جرير (11/ 366)، القرطبي (6/ 428)، البحر المحيط (4/ 117)، الدر المصون (4/ 636)، الأضواء (2/ 283). (¬2) مضى عند تفسير الآية (74) من سورة البقرة. (¬3) انظر: القرطبي (6/ 429).

حالِ كونِه بَاغِتًا. أي: مُفَاجِئًا (¬1) من أن تعلمونَه بأسبابٍ، ولا عِلْمَ لكم به. وقولُه: {جَهْرَةً} أن يَأْتِيَكُمُ العذابُ بعدَ أن تُعَايِنُوا أسبابَه، وتَرَوْا أَوَائِلَهُ، حتى يقعَ بكم {جَهْرَةً} عيانًا وأنتم تنظرون إليه (¬2). هذا التحقيقُ في الفرقِ بين البغتةِ والجهرةِ هنا. إن أتاكم عذابُ اللَّهِ مفاجئًا من غيرِ أن يتقدمَ لكم به علم، أو جهرةً بأن عَايَنْتُمْ مبادئَه، ورأيتم أولَ نزولِه، حتى وقعَ جهارًا وأنتم تنظرونَ. {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} هذا الاستفهامُ بمعنى النفيِ؛ ولذا جَاءَ مُقَابِلاً بـ (إلا) التي تُقَابِلُ النفيَ (¬3). والمعنى: ما يُهْلَكُ إلا القومُ الظالمونَ الكافرونَ. وفي الآيةِ سؤالٌ معروفٌ: جاء في الأحاديثِ الصحيحةِ (¬4) أن العذابَ إذا نَزَلَ بقومٍ كفارٍ شَمِلَ مَنْ فيهم مِنَ المسلمين، وهذه الآيةُ بَيَّنَتْ أنه لاَ يُهْلَكُ إِلاَّ القومُ الظالمون؟ أُجِيبَ عن هذا: بأن العذابَ لو شَمِلَ وَأَهْلَكَ مَنْ هو معهم، أن هذا الهلاكَ تمحيصٌ له، وأنه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ في نعمةٍ من اللَّهِ ورحمةٍ وأجور. وقال بعضُ العلماءِ: لا يتعينُ هذا كما دَلَّتْ عليه قصصُ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 386)، القرطبي (6/ 429). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 386). (¬3) انظر: الدر المصون (4/ 637). (¬4) ورد في هذا المعنى من حديث أم سلمة، وعائشة، وزينب بنت جحش (رضي الله عنهن). انظر: جامع الأصول (2/ 231)، (10/ 415)، (11/ 726).

الرسلِ؛ لأن الغالبَ أن الكلامَ في الأممِ والرسلِ والقرآنِ قد قَصَّ علينا أن كل أمةٍ عَلِمَ اللَّهُ أن الهلاكَ سيأتيها أمرُ نبيها ومن معه فخرجوا منها وَنَجَوْا، كما ذكر أنه نَجَّى هُودًا بقولِه: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: آية 58] {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} [هود: آية 94] {نَجَّيْنَا صَالِحًا} [هود: آية 66] إلى غيرِ ذلك مما جاء مُفَصَّلاً في الآياتِ، وهذا يبين معنى قولِه: {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: آية 47]. {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} [الأنعام: الآيات 48 - 52]. يقول الله جل وعلا: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)} [الأنعام: الآيتان 48 - 49]. كان كفارُ مكةَ يُكْثِرُونَ الاقتراحاتِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وَمِمَّا يقترحونَ عليه أن يقولوا له: سَلْ رَبَّكَ أن ينزلَ علينا كثيرًا من الأرزاقِ من خزائنِ رِزْقِهِ، وأن يُعلمنا بالغيبِ لِنَتَّقِيَ ما يضرُّ ونجتلب ما ينفعُ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (37) من هذه السورة.

ومما اقترحوا إنزالُ الآياتِ كما في قولِه في هذه الآيةِ السابقةِ: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} وقد بَيَّنَ اللَّهُ بعضَ اقتراحاتِهم في سُورٍ من كتابِه، كقولِه في سورةِ بني إسرائيلَ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} قال الله له: قل لهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: الآيات 90 - 93] وَبَيَّنَ في آيةِ الأنعامِ هذه أن اللَّهَ ما أرسلَ المرسلين لتكونَ بيدهم خزائنُ السماواتِ والأرضِ، أو يكونوا ملائكةً، أو يقترحَ عليهم مَنْ شَاءَ كُلَّ ما شاء من التعنتاتِ، لا ليس الأمرُ كذلك: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} لا لأن تكونَ بأيديهم الخزائنُ، ولا ليكونوا ملائكةً، ولا ليقترحَ عليهم كُلُّ متعنتٍ ما شاءَ أن يقترحَ عليهم، لا. {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} صيغةُ الجمعِ في قولِه: {نُرْسِلُ} للتعظيمِ، والمرسلونَ جمعُ (المُرْسَلِ)، والمرادُ بهم هنا: المرسلونَ مِنْ بَنِي آدمَ، مع أن المرسلين يكونون من الآدميين ومن غيرِهم كالملائكةِ، كما يأتي في قولِه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: آية 75]. وقولُه: {إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} حالٌ (¬1)، وقوله: {وَمُنْذِرِينَ} حالٌ معطوفةٌ على حال (¬2). والمعنى: ما نُرْسِلُهُمْ إلا في حالِ كونِهم ¬

(¬1) (2) انظر: الدر المصون (4/ 637). (¬2) انظر: جواهر البلاغة ص251.

مبشرين ومنذرين، وقد حُذِف هنا معمولُ البشارةِ ومعمولُ الإنذارِ، وتقديرُه: إلا مبشرين مَنْ أطاعهم بالجنةِ وما عندَ اللَّهِ من الخيرِ، ومنذرين مَنْ عَصَاهُمْ بالنارِ وما عند الله من النكالِ. فَحَذَفَ المفعولَ والمُتَعَلَّقَ لدلالةِ الكلامِ عليهما. وَقَدْ قَدَّمنا غيرَ ما مرةٍ: أن (المُبشِّرَ) اسمُ فاعلِ (التبشيرِ). والتبشيرُ والبشارةُ: هو الإخبارُ بما يَسُرُّ، قال بعضُ العلماءِ: سُمِّيَ الإخبارُ بما يَسُرُّ (بشارةً): لأن الإنسانَ إذا سَمِعَ خبرًا يَسُرُّهُ أَثَّرَ ذلك في دمِه فجرى دمُه جَرَيَانًا من البشارةِ فظهرَ أثرُ ذلك على بشرتِه، ومنها - قالوا - سَمَّوْهَا (بِشَارَةً). والبشارةُ أغلبُ ما تُطْلَقُ على الإخبارِ بما يَسُرُّ خاصةً، وجاءَ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُها على الإخبارِ بما يَسُوءُ كقولِه: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: آية 21]. والعلماءُ الذين يقولونَ بالمجازِ في القرآنِ، معلومٌ أنهم يُسَمُّونَ مثلَ قولِه: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يجعلونَ هذا مِنْ نوعِ (الاستعارةِ العناديةِ)، و (الاستعارةُ العناديةُ) عندَهم يُقَسِّمُونَهَا إلى: تهكميةٍ، وتمليحيةٍ، كما هو معلومٌ في فَنِّ البيانِ (¬1). ومن منعِ المجازِ في القرآنِ من العلماءِ - وهو الذي نَرَى أنه الأصوبُ - يقولُ: هذا أسلوبٌ من أساليبِ اللغةِ العربيةِ، فالعربُ يستعملونَ البشارةَ غالبًا فيما يَسُرُّ، وربما استعملوها فيما يسوءُ، إذا دَلَّتْ على ذلك قرائنُ تُفْهِمُهُ، والكلُّ أسلوبٌ من أساليبِ اللغةِ ¬

(¬1)

العربيةِ (¬1). ومعلومٌ عن العربِ أنهم يُطْلِقُونَ البشارةَ نادرًا على الخبرِ بما يَسُوءُ، ومن إطلاقِ البشارةِ على الخبرِ السَّيِّئِ قولُ الشاعرِ (¬2): وبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ فجفاءُ الأحبةِ أمرٌ يسوءُ، والبشارةُ به بشارةٌ بسوءٍ، ومنه قولُ الآخَرِ (¬3): يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ هذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، وعلماءُ البيانِ يُسَمُّونَهُ نوعًا من أنواعِ المجازِ، ونوعًا من أنواعِ الاستعارةِ، يسمونَه (الاستعارةَ العناديةَ)، كما بَيَّنَّا أقسامَها عندهم. والقصرُ في قولِه: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} هو الذي يُسَمِّيهِ البلاغيون: قصرًا إضافيًّا (¬4)؛ لأنه يُرْسِلُهُمْ بأعمالٍ أُخَرَ طيبةٍ من تعليمِ الآدابِ والمكارمِ وغيرِ ذلك مما هو زائدٌ على البشارةِ والإنذارِ. والبشارةُ: الإخبارُ بما يَسُرُّ، والإنذارُ: الإعلامُ المقترنُ بتهديدٍ خاصةً (¬5). والإنذارُ أَخَصُّ من مطلقِ الإعلامِ؛ لأن الإنذارَ لا يُطْلَقُ إلا ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 238)، المفردات (مادة: بشر) (124 - 125)، البحر المحيط (1/ 111)، الدر المصون (1/ 209 - 210). (¬2) البيت في البحر المحيط (1/ 111)، الدر المصون (1/ 210)، ولفظه الشطر الثاني هكذا: ........................ ... جفوني وإن الودَّ موعدُهُ الحشر (¬3) البيت في البحر المحيط (1/ 111)، الدر المصون (1/ 209). (¬4) انظر: جواهر البلاغة ص150. (¬5) انظر: المفردات (مادة: نذر) ص 797.

على إعلامٍ مقترنٍ بتهديدٍ. فَكُلُّ إنذارٍ إعلامٌ، وليس كُلُّ إعلامٍ إنذارًا، وهذا معنَى قولِه: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} مَنْ أَطَاعَنَا بالجنةِ، {وَمُنْذِرِينَ} مَنْ عَصَانَا بالنارِ، ثم بَيَّنَ مَنْ هُمُ المُبَشَّرونَ وما صفاتُهم، وَمَنْ هُمُ المُنْذَرُون وما صفاتُهم، فقال مُبَيِّنًا صفاتِ المُبَشَّرين على ما يسمونه: (اللفَّ والنشرَ المرتبَ)، فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحًا فلهم البشارةُ العُظْمَى؛ بأنهم لا خوفَ عليهم ولا هُمْ يحزنونَ، مع ما ينالونَ من النعيمِ. وقولُه: {فَمَنْ آمَنَ} أصلُ الإيمانِ في لغةِ العربِ: التصديقُ (¬1). وهو في اصطلاحِ الشرعِ: التصديقُ التامُّ، أعني: التصديقَ من الجهاتِ الثلاثِ، وهو تصديقُ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ. فالإيمانُ: قولٌ وعملٌ (¬2)، كما عليه مذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ، والآياتُ والأحاديثُ الدالةُ عليه لا تكادُ تُحْصَى. في الحديثِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا» (¬3) فَسَمَّى الصومَ: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة البقرة. (¬2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 830 - 851)، (5/ 885 - 889)، تعظيم قدر الصلاة (1/ 292 - 437)، الإيمان لابن تيمية (112 - 125، 135 - 141، 152، 162، 170، 175، 178 - 181، 190، 207، 245، 274، 275، 281 - 287، 300). (¬3) كلاهما من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، وقد أخرجهما الشيخان. انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان (35)، (1/ 91)، تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، (1/ 92)، باب: صوم رمضان احتسابا من الإيمان (38)، (1/ 92)، وقد أخرجهما في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (1901، 2008، 2009، 2014)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (759، 760)، (1/ 523 - 524).

إيمانًا. «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا» (¬1) فَسَمَّى الصلاةَ: إيمانًا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: آية 143] أي: صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ قبلَ أن تُنْسَخَ. وفي الحديثِ الصحيحِ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ» وفي بعضِ رواياتِه: «وَسَبْعُونَ بِضْعًا، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» (¬2) وفي هذا الحديثِ الصحيحِ أن هذا الفعلَ - الذي هو إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ - يُسَمَّى: إيمانًا كما هو مَعْرُوفٌ. والعادةُ المقررةُ عندَ العلماءِ: أن الإيمانَ إذا جاء مُطْلَقًا ولم يُعْطَفْ عليه العملُ الصالحُ فهو يشملُ الإيمانَ من الجهاتِ الثلاثِ: يشملُ إيمانَ القلبِ بالاعتقادِ، وإيمانَ اللسانِ بالإقرارِ، وإيمانَ الجوارحِ بالعملِ. وإذا عُطِفَ عليه العملُ الصالحُ، كقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [يونس: آية 9] وقولِه هنا: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام: آية 48] انصرفَ الإيمانُ إلى رُكْنِهِ الأكبرِ، وهو الاعتقادُ القلبيُّ (¬3)، وصارَ الإصلاحُ بعدَه يُرَادُ به الأعمالُ، كما قال تعالى هنا: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} آمَنَ قَلْبُهُ وَأَذْعَنَ واعتقدَ ما يجبُ اعتقادُه إثباتًا ونفيًا، وأصلحَ - مع ذلك الإيمانِ القلبيِّ عَمَلَهُ - بجوارحِه {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} آمَنَ قَلْبُهُ، وأصلحَ عَمَلَ جوارحِه، بِأَنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان. حديث رقم (9)، (1/ 51)، ومسلم كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان. حديث رقم (35)، (1/ 63) وقول الشيخ (رحمه الله) هنا: «بضعا» سبق لسان، وإنما الرواية: «شعبة» .. (¬3) انظر: الإيمان الكبير لابن تيمية (1 - 11).

امتثلَ الأوامرَ، واجتنبَ النواهيَ، هذا الْقِسْمُ من الناسِ هم المُبَشَّرونَ الذين فيهم: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} وقال اللَّهُ فيهم: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني يومَ القيامةِ: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. و (الخوفُ) في لغةِ العربِ: هو الغَمُّ من أمرٍ مستقبلٍ خاصةً. و (الحزنُ) في لغةِ العربِ: هو الغمُّ من أمرٍ قد فاتَ وَمَضَى. تقولُ: «فلانٌ أُصِيبَ بالأمسِ، فهو اليومَ حزينٌ» وتقولُ: «فلانٌ خائفٌ» أي: يَغْتَمُّ مِنْ أمرٍ مستقبلٍ. هذا أصلُه معنى (الخوفِ) ومعنى (الحزنِ) (¬1) - أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منهما - وربما وُضِعَ أحدُهما موضعَ الآخَرِ، وربما أَطْلَقَتِ العربُ (الخوفَ) على غيرِ (الحزنِ)، وَمِنْ إطلاقاتِ العربِ الخوفَ: إطلاقُها الخوفَ على العلم (¬2)، تقولُ العربُ: «إِنِّي أخافُ أن يقعَ كذا» بمعنى: أعلمُ أن يقعَ كذا، وقد بَيَّنَّا هذا المعنَى في سورةِ البقرةِ في الكلامِ على قولِه: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: آية 229] قال بعضُ العلماءِ معنَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا} أي: فإن عَلِمْتُمْ ألاَّ يقيما حدودَ اللَّهِ. ومن إطلاقِ (الخوفِ) لاَ بمعنَى (الحزنِ)، بل بمعنَى العلمِ اليقينيِّ: قولُ أبي مِحْجَنٍ الثقفيِّ في بَيْتَيْهِ المشهورين (¬3): إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامِي فِي الْمَمَاتِ عُرُوقُهَا ¬

(¬1) في الفرق بين الخوف والحزن انظر: القرطبي (1/ 329)، الكليات ص 428. (¬2) الكليات ص 429، الخزانة (3/ 550 - 551)، الدر المصون (2/ 264 - 265). (¬3) البيتان في الخزانة (3/ 550)، الدر المصون (2/ 265)، الكامل لابن الأثير (2/ 331)، الإصابة (4/ 175).

وَلاَ تَدْفِنَنِّي بِالْفَلاَةِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَلاَّ أَذُوقَهَا لأنه هو عَالِمٌ بأنه إذا مَاتَ لاَ يشربُ الخمرَ في قبرِه أبدًا، فقوله: «أخاف» أَطْلَقَ الخوفَ في شيءٍ هو عَالِمٌ به علمًا يقينًا؛ ولذا قال هنا: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني: لاَ يَغْتَمُّونَ من أمرٍ مستقبلٍ؛ لأن مستقبلَهم كُلَّهُ طيبٌ، ليس يُترقبُ فيه شيءٌ فيه أَذِيَّةٌ، وإنما فيه الفرحُ والسرورُ، ولا يحزنونَ على شيءٍ فائتٍ؛ لأنهم لم يَفُتْهُمْ شيءٌ إلا وعندهم أضعافُ أضعافِه من أنواعِ النعيمِ، فلا يفوتُهم مطلبٌ يحزنونَ عليهِ، ولا يخافونَ من ضررٍ ولا غَمٍّ مستقبلٍ يخافونَ منه. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ نَحْوِيٌّ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أُهْمِلَتْ (لا) هنا ولم تَعْمَلْ، فَلِمَ لاَ يقولُ: «لاَ خَوْفَ عليهم» كما قال: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: آية 197]؟ والجوابُ عن هذا (¬1): أن (لاَ) لا تعملُ إلا في النكراتِ، سواء قلنا إنها التي لنفيِ الجنسِ، أو قلنا إنها العاملةُ عملَ (ليس)، والجملةُ الأخيرةُ: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} المبتدأُ فيها ضميرٌ، والضمائرُ معارفُ، فلا يجوزُ أن تعملَ فيها (لا) بِكُلِّ حالٍ، فلما مُنِعَ عَمَلُهَا في الجملةِ الثانيةِ لمكانِ الضميرِ وهو مُعَرَّفٌ، وامتنعَ عملُها فيها، أُلغِيَ عملُها في الأُولَى لتنسجمَ الجملتانِ وَتَتَّفِقَا في الإهمالِ دونَ الإعمالِ. [4/أ] / {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: آية 49]. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 329).

هذا هو القِسْمُ الثاني الذي فيه الإنذارُ {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: جحدوا آياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، وزعموا أنه أساطيرُ الأَوَّلِينَ، أو أنه سحرٌ أو شعرٌ أو من كهانةِ الكهانِ. الذين كفروا هذا الكفرَ، وهم أظلمُ الناسِ كما تَقَدَّمَ في قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: آية 21]. {أُولَئِكَ} هؤلاء الذين هذه صفتُهم {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} والمسيسُ معناه: وقوعُ الشيءِ على الشيءِ مباشرةً من غيرِ أن يَحُولَ بَيْنَهُمَا حائلٌ. وَعبَّرَ بالمسيسِ ليبينَ أن حَرَّ ذلك العذابِ وَأَلَمَهُ يباشرهم مباشرةً عظيمةً شديدةً من غيرِ حائلٍ، كما يَأْتِي في قولِه: {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: آية 7] لأنها تُبَاشِرُ الأجسامَ، وتغوصُ فيها حتى تحرقَ سويداءَ القلبِ، وداخلَ جسمِ الإنسانِ؛ ولذا قال: {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: آية 49] أي: عذابُ اللَّهِ، وعذابُ اللَّهِ (جل وعلا) لا يماثلُه عذابٌ {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: الآيتان 25 - 26]. وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الباء) سببيةٌ، و (ما) مصدريةٌ. والمعنى: يَمَسُّهُمُ العذابُ بسببِ كونِهم كانوا فَاسِقِينَ في دارِ الدنيا. و (الفسقُ) في لغةِ العربِ: الخروجُ. وهو في اصطلاحِ الشرعِ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ (¬1).والعربُ كُلُّ ما خرجَ إنسان عن شيء سَمَّتْهُ (فاسقًا). ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ (¬2): يَهْوَيْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

لأنه يذكر مراكبَ ضَلَّتْ طريقَها التي كانت تمشي عليها، فقال: «فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا» أي: خوارجَ عن الطريقِ التي كانت تَقْصِدُهَا. هذا أصلُ (الفسقِ) في لغةِ العربِ. وهو في اصطلاحِ الشرعِ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ. والخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ جنسٌ تحتَه نوعانِ: أحدُهما: الخروجُ الذي هو أكبرُ أنواعِ الخروجِ وأعظمُها، وهو: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ بالكفرِ الصُّراحِ. هذا أكبرُ أنواعِ الفسقِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ في القرآنِ اسمُ (الفسقِ) على هذا؛ لأنه صَرَّحَ بأنهم كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ، وهذا أعظمُ الكفرِ، ثم سَمَّى هذا الكفرَ فِسْقًا بقولِه: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} لأنه أعظمُ أنواعِ الخروجِ عن طاعةِ اللَّهِ. ومنه بهذا المعنى قولُه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: آية 20] هذا الفسقُ بمعنَى الخروجِ الأكبرِ، أي: الخروج عن طاعةِ اللَّهِ بالكفرِ والعياذِ بالله. النوعُ الثاني من أنواعِ الفسقِ: هو خروجٌ دونَ خروجٍ، وفسقٌ دونَ فسقٍ، بأن يخرجَ الإنسانُ عن طاعةِ اللَّهِ إلى المعصيةِ، خروجًا لا ينقلُه من اسمِ الإسلامِ إلى الكفرِ، كارتكابِ الكبيرةِ. ومنه بهذا المعنى قولُه في الْقَاذِفِينَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: آية 4] فهذا القذفُ خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، ولم يبلغ بصاحبِه الكفرَ، بدليلِ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} [النور: آية 11] ولم ينقلهم عن اسمِ المسلمين بسببِ قَذْفِهِمْ. ولا يُقَالُ: إن عبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ منهم، وإنه منافقٌ كافرٌ؛ لأَنَّ دينَ الإسلامِ يحكمُ له بشهادةِ أن

لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ في الظاهرِ، فكانَ يحضرُ جُمُعَاتِ المسلمينَ وجماعاتِهم باسمِ الإسلامِ، فاللَّهُ (جل وعلا) يقبلُ من المنافقين كلمةَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) ظاهرًا، كما أرادوا أن يخدعوه فهو يخدعُهم حيثُ يَقْبَلُهَا منهم ظاهرًا في الدنيا، وهو يُعِدُّ لهم في الآخرةِ الدركَ الأسفلَ من النارِ، كما في قولِه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: آية 142]. ومن هذا النوعِ من الفسقِ الذي لم يُخْرِجْ عن دينِ الإسلامِ: قولُه في قصةِ الوليدِ بنِ عقبةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَمَّا كَذَبَ على بَنِي المصطلقِ (¬1): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية ¬

(¬1) القصة مشهورة، وقد رواها عدد من الصحابة والتابعين، إلا أن جميع طرقها لا تخلو من ضعف. وإليك من نُقلت عنهم هذه القصة على سبيل الاختصار: 1 - الحارث بن ضرار: عند أحمد (4/ 279)، والطبراني في الكبير (3/ 274)، وابن أبي حاتم في التفسير (10/ 3303)، والواحدي في أسباب النزول ص391، وابن عساكر في تاريخ دمشق (مختصر ابن منظور) (26/ 337)، وانظر: الهيثمي في المجمع (7/ 108)، تفسير ابن كثير (4/ 208 - 209)، الكافي الشاف ص156، (وعزاه لأحمد وابن مردويه)، الإصابة (1/ 281)، (3/ 638)، الدر المنثور (6/ 87)، (وعزاه لأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه) تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (3/ 333). 2 - علقمة بن ناجية. عند الطبراني في الكبير (18/ 6 - 7)، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 109 - 110)، الإصابة (2/ 506)، أُسد الغابة (4/ 88)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لابن منده والطبراني وابن مردويه). 3 - جابر بن عبد الله. عند الطبراني في الأوسط (4/ 477 - 478)، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 110)، الكافي الشاف ص156، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (3/ 334)، الدر المنثور (6/ 88)، الفتح السماوي (3/ 1002). 4 - أم سلمة. عند الطبراني في الكبير (23/ 400 - 401)، وراجع (23/ 290)، ... وابن جرير (26/ 123)، وانظر: الهيثمي في المجمع (7/ 110)، تفسير ابن كثير (4/ 209)، الكافي الشافي ص156، (وعزاه لإسحاق والطبراني)، والزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (3/ 332)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لإسحاق بن راهويه وابن جرير والطبراني وابن مردويه)، الفتح السماوى (3/ 1001). 5 - ابن عباس. عند عبد الرزاق في التفسير (2/ 231)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 54)، وابن جرير (26/ 123 - 124)، وانظر: ابن كثير (4/ 209)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وابن عساكر). 6 - مجاهد. عند ابن جرير (26/ 124)، البيهقي في الكبرى (9/ 55)، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 111)، (وعزاه للطبراني)، الاستيعاب (3/ 632)، ابن كثير (4/ 210)، الإصابة (3/ 638)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لآدم وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي). 7 - قتادة عند ابن جرير (26/ 124)، وانظر: الاستيعاب (3/ 632)، تفسير ابن كثير (4/ 210)، الإصابة (3/ 637 - 638)، الدر المنثور (6/ 89)، (وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير). 8 - عكرمة. انظر: الإصابة (3/ 638)، الدر المنثور (6/ 89)، (وعزاه لعبد بن حميد). 9 - ابن أبي ليلى: انظر: الاستيعاب (3/ 632). وهو مروي عن غير هؤلاء مثل: يزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حيان، كما في ابن جرير (26/ 124)، عبد الرزاق في التفسير (2/ 231)، وابن كثير (4/ 210).

[الحجرات: آية 6]. وهذا معنى قولِه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: آية 49] ومسيسُ العذابِ هذا: هو الذي

أَنْذَرَتْهُمُ به الرسلُ في دارِ الدنيا إن لَمْ يُقْلِعُوا عن ذلك التكذيبِ والكفرِ، كما في قولِه هنا: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: آية 48]. {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: آية 50]. أولُ الرسلِ الذين أُرْسِلُوا إلى أهلِ الأرضِ بعدَ أن وقعَ فيهم الكفرُ والشركُ بِاللَّهِ: هو نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ، كما قَدَّمْنَا في قولِه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: آية 163]. فَدَلَّ على أنه أولُ ذلك النوعِ الذي يُرْسَلُ إلى الناسِ بعدَ أن كَفَرُوا، وآخرُهم: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. فَاللَّهُ قال لأَوَّلِهِمْ في سورةِ هودٍ: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: آية 31] ومثلُ هذه القصةِ بعينِها كانت فيما أُنْزِلَ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حيث قَالَ: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [الأنعام: آية 50] قل لهم يَا نَبِيَّ اللَّهِ: لاَ أَدَّعِي لكم دَعْوى بعيدةً ولا كاذبةً، ولا أَخْرُجُ لكم عن طَوْرِي وَحَقِيقَتِي، لا أقولُ لكم: إن عندي خزائنَ اللَّهِ. والخزائنُ: جمعُ الخزانةِ، وهي المحلُّ الذي تُخْزَنُ فيه الأرزاقُ ونحوُها (¬1)، فخزائنُ الملوكِ مثلاً: المحلُّ الذي يجعلونَ فيه العدةَ من الطعامِ والسلاحِ وما جَرَى مجرَى ذلك. وَكُلُّ شيءٍ عندَ اللَّهِ في خزانةٍ؛ [لأن الأشياءَ كُلَّهَا في خزائنِ اللَّهِ] (¬2) ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: خزن) ص 280، القرطبي (6/ 430). (¬2) في الأصل: ((لأن الله جميع الأشياء كلها في خزائنه)).

(جل وعلا)، كما سيأتي في قولِه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: آية 21] لا أقولُ لكم: إِنَّ بِيَدِي الأرزاقُ والآياتُ، وما اقترحتُم من كُلِّ شيءٍ، وخزائنُ الأمورِ ليست بِيَدِي، وإنما هي بيدِ اللَّهِ، وإنما أنا عبدٌ أُرْسِلْتُ إليكم [لأُبَشِّرَ] مَنْ أَطَاعَنِي بالجنةِ، [وَأُنْذِرَ] مَنْ عَصَانِي بالنارِ (¬1)، وأبلغُكم رسالاتِ رَبِّي، وأوضحُ لكم طريقَ الخيرِ والشرِّ، وأقيمُ لكم المعجزاتِ الواضحاتِ التي لا تَتْرُكُ لِمُنْصِفٍ في صِدْقٍ شَيْئًا؛ وَلِذَا قال: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الجمهورُ مِنَ العلماءِ على أن هذا معطوفٌ على ما قَبْلَهُ (¬2)، وأنه من جملةِ مَا أُمِرَ أن يقولَه. وتقريرُ المعنى: قُلْ لهم أيضًا: لا أَعْلَمُ الغيبَ. كما قال اللَّهُ له: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: آية 188] {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} بل أقولُ لكم: إني رجلٌ ابنُ رجلٍ وابنُ امرأةٍ، أذهبُ إلى السوقِ، وأشتري منه حَاجَتِي. لأنهم قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: آية 7] كيف يُرْسِلُ اللَّهُ مَنْ يَأْكُلُ ويشربُ، ويروحُ إلى السوقِ؟ وَاللَّهُ يقولُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: آية 20] {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: آية 8] هذه سنةُ اللَّهِ في رُسُلِهِ. ¬

(¬1) في الأصل: «لأنذر من أطاعني بالجنة، وأبشر من عصاني بالنار» وهو سبق لسان. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 134)، الدر المصون (4/ 638).

وقولُه: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} كان المعتزلةُ يَسْتَدِلُّونَ بظاهرِ هذه الآيةِ على أن الملائكةَ أفضلُ من الآدميين (¬1)؛ لأن هذه كأنها مناصبُ عاليةٌ. لا أقولُ لكم إِنِّي في رتبةٍ إلهيةٍ، بحيثُ تكونُ عندي خزائنُ السماواتِ والأرضِ، وأعلمُ الغيبَ، ولاَ أَدَّعِي لكم الرتبةَ الأُخْرَى الكبيرةَ، التي هي رتبةُ الْمَلَكِ. وأكثرُ العلماءِ على أن خِيارَ الرسلِ من الآدميين أفضلُ مِنَ الملائكةِ (¬2). وهذا النوعُ من الخلافِ والبحثِ مِمَّا فِيهِ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ»؛ لأننا لم نُؤْمَرْ به، ولم نُكَلَّفْ به، والخوضُ فيه لا حاجةَ لنا فيه، ولا لنا من ورائِه نَفْعٌ. وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا: أن أكثرَ العلماءِ على أن أصلَ المادةِ اللغويةِ التي منها (المَلَكُ) (¬3) أنها: (أَلَكَ) ففاءُ الفعلِ همزةٌ، وعينُها لامٌ، ولاَمُهَا كافٌ، (أَلَكَ) وأصلُ هذه المادةِ، مادة (الهمزةِ واللامِ والكافِ) معناها: الرسالةُ. والأَلُوكَةُ: الرسالةُ، وَالْمَالُكَةُ: الرسالةُ. ¬

(¬1) انظر: الكشاف (2/ 15). (¬2) في هذه المسألة انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 387)، القرطبي (1/ 289)، (6/ 430)، (9/ 27)، (10/ 294 - 295)، (11/ 278)، (20/ 145)، مجموع الفتاوى (4/ 350 - 393)، (10/ 300)، بدائع الفوائد (1/ 66)، (3/ 163)، شرح الطحاوية (410 - 423)، البداية والنهاية (1/ 54)، منهج الجدل والمناظرة (1/ 521). (¬3) انظر: ابن جرير (1/ 444 - 447)، القرطبي (1/ 262 - 263)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 84 - 85)، الدر المصون (1/ 249 - 251)، معجم مفردات الإبدال والإعلال (248 - 250).

وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ (¬1) والعربُ تقولُ: (أَلِكْنِي إليها): (احْمِلْ إليها مَأْلَكَتِي) أي: رِسَالَتِي فَبَلِّغْهَا عَنِّي، ومنه قولُ أبِي ذؤيبٍ الْهُذَلِيِّ (¬2): أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو لِ، أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ وعلى هذا فأصلُ المَلَكِ: (مَأْلَك) على وزن (مفْعَل) من (الأَلُوكَة) وهي: الرسالةُ. فَدَخَلَهُ القلبُ الصرفيُّ المعروفُ، وهو جعلُ العينِ مكانَ الفاءِ، والفاءِ مكانَ العينِ، فَجُعِلَتِ الهمزةُ التي كانت موضعَ الفاءِ في موضعِ العينِ، فصارَ: (مَلْأَكَ)، ووزنُ (المَلْأَك) بالميزانِ الصرفيِّ: (مَعْفَل) لأن العينَ جاءت في موضعِ الفاءِ، والفاءَ في موضعِ العينِ. وربما نَطَقَتِ العربُ به على هذا القلبِ بلفظِ (مَلأَك)، كقولِ الشاعرِ (¬3): وَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلأَكٍ تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ فَخُفِّفَتِ همزةُ المَلْأَكِ، وَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ، فقيلَ: (مَلَك).كما تسقطُ في قولِه: (سَلْهُمْ). أصلُها: (اسألهم). ومما ¬

(¬1) البيت للبيد، وهو في ابن جرير (1/ 446)، القرطبي (1/ 262)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 85)، الدر المصون (1/ 250). (¬2) البيت في ابن جرير (13/ 7)، القرطبي (7/ 255)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 85). (¬3) نسبه بعضهم لعلقمة بن عبدة، وبعضهم نسبه إلى غيره. وهو في الكتاب (4/ 380)، المفضليات ص 394، ابن جرير (1/ 333)، القرطبي (1/ 263)، الدر المصون (1/ 250)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 85) ولفظه في بعض هذه المصادر: ولَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لمَلأكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

يدلُّ على أن أصلَه: (مَأْلَك)، وأن الهمزةَ أَصْلُهَا فيه؛ لأنه يُجْمَعُ على (ملائكةٍ) فتأتي الهمزةُ التي خُفِّفَتْ من الأصلِ. هذا أصلُه عند جمهورِ العلماءِ، وَمَنْ يقولُ: إن أصلَه من (المَلَك) قولٌ ضعيفٌ. وعلى هذا الذي قَرَّرْنَا، فَوَزْنُ (الْمَلَكِ) حَالِيًّا: (مَعَل) لأن الفاءَ المزحلقةَ إلى مكانِ العينِ ساقطةٌ منقولةٌ حَرَكَتُهَا. فوزنُه (مَعَل) بإسقاطِ الفاءِ، قالوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَ المَلَك مَلَكًا من (المَأْلُكة) وهي الرسالةُ؛ لأن الملائكةَ عبادُ اللَّهِ الْمُكَرَّمُونَ، الذين يَحْمِلُونَ مَآلِكَ اللَّهِ، أي: رسالاتِه، كما يأتي في قولِه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: آية 5] فمنهم مَنْ يُرْسَلُ لتكثيرِ الريحِ، ومنهم من يُرْسَلُ لتكثيرِ المطرِ، ومنهم من يُرْسَلُ لقبضِ الأرواحِ، ومنهم مَنْ يُرْسَلُ لحفظِ الأعمالِ، ومنهم مَنْ يُرْسَلُ لحفظِ الآدميين لئلا تتخطفَهم الشياطين، كما يأتي، في أحدِ التفسيراتِ في قولِه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد: آية 11]. وقولُه جل وعلا: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (إِنْ) هنا هي النافيةُ. والمعنى: ما أَتَّبِعُ إلا ما أَوْحَاهُ رَبِّي إِلَيَّ، لا أزيدُ عليه، ولا أَخْرُجُ عن طَوْرِي، فأنا رسولٌ كريمٌ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أن أُنْذِرَكُمْ وَأُبَشِّرَكُمْ، وأنا أتبعُ ما يُوحَى إِلَيَّ، فَمَنْ أطاعَني دخلَ الجنةَ، ومن عَصَانِي دخلَ النارَ. وبهذه الآيةِ وأمثالِها في القرآنِ يتمسكُ الظاهريةُ بأن القياسَ لا يجوزُ في الشرعِ (¬1). قالوا: لأن النبيَّ قال: ما أتبعُ إلا مَا يُوحَى ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 171 - 173)، وسيأتي للشيخ (رحمه الله) بحث مطوَّل في هذه المسألة عند الكلام على الآية (12)، من سورة الأعراف.

إِلَيَّ. فحصرَ الاتباعَ في المُوحَى إليه، واللَّهُ يقولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: آية 21] فَعَلَيْنَا أن لا نتبعَ إلا خُصوصَ الوحيِ، ولا نخرج عنه إلى رَأْيٍ. وأمثالُ هذا من الآياتِ التي يستدلُّ بها الظاهريةُ كثيرةٌ جِدًّا (¬1). ونحن نقولُ: إن الجوابَ: أَنَّا لا نخرجُ عمَّا يُوحَى، إلا أَنَّ مَا يُوحَى منه ما هو منصوصٌ به ظاهرٌ، ومنه ما هو مفهومٌ من حُكْمِ المنصوصِ به، ولا خروجَ في هذا عن حُكْمِ الوحيِ؛ لإجماعِ العقلاءِ على أن نظيرَ الحقِّ حق، ونظيرُ الباطلِ باطلٌ، فالشرعُ قد يَذْكُرُ الشيءَ ويسكتُ عن نظيرِه المماثلِ له في علةِ الحكمِ فَيَفْهَمُ العقلاءُ أنه مثلُه، وهذا الجمودُ الذي يَدَّعِيهِ ابنُ حزمٍ متمسكًا بعشراتِ أو مئاتِ الآياتِ من هذا النوعِ، يقول: كُلُّ ما نَصَّ عليه اللَّهُ فحكمُه ظاهرٌ، وما لم يَأْتِ في نَصٍّ مِنْ كتابِ اللَّهِ ولا سُنَّةِ نَبِيِّهِ فهو مسكوتٌ عنه وهو عَفْوٌ، ولا لنا أن نبحثَ عنه، ولا نسألَ عنه؛ لأن اللَّهَ سَكَتَ عنه غيرَ نسيانٍ، بل سَكَتَ عنه رحمةً بنا، فليس لنا أن نبحثَ عنه. هذا الذي يقولُه ابنُ حَزْمٍ، ويستدلُّ عليه بعشراتِ الآياتِ، نحن نقولُ بِمُوجَبِهِ. ومعنى: (نقولُ بمُوجَبِهِ) أننا نقدحُ فيه بالقادحِ المعروفِ في عِلْمِ الأصولِ بـ (القولِ بالمُوجَبِ) (¬2)، وهو أن نقولَ: أنتَ صادقٌ فيما قلتَ، ولكن هذا لا حجةَ لكَ فيه، ولا يقطعُ نزاعَنا معكَ. والمعنَى: نحنُ نُصَدِّقُكَ بأن اللَّهَ أباحَ أشياءَ، وحرَّم أشياءَ، ¬

(¬1) انظر: الإحكام ص 946، المحلى (1/ 56). (¬2) وهو بفتح الجيم وبالكسر، وهو نفس الدليل؛ لأنه الموجِبُ للحكم. وفي الاصطلاح: تسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع في الحكم. انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 339 - 340)، نثر الورود (2/ 541).

وسكتَ عن أشياءَ رحمةً بنا لا نِسْيَانًا، والتي سكتَ عنها ليس لنا البحثُ عنها، وهي عَفْوٌ، ولكن هذا الذي تقولُ أنتَ: إن اللَّهَ سكتَ عنه نحنُ نقولُ: أنتَ في هذا لستَ بِمُصِيبٍ، بل اللَّهُ لم يسكت عنه، بل بَيَّنَ حكمَه بذلك الشيءِ الذي نَصَّ عليه، وأمثالُ هذا كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ وفي سُنَّةِ نَبِيِّهِ، فنحن معاشرَ عامَّةِ المسلمين نعلمُ أن اللَّهَ (جل وعلا) لَمَّا قال في الوالدين: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} ابنُ حزمٍ يقولُ: ضَرْبُ الوالدين مسكوتٌ عنه، ولم تَدُلَّ هذه الآيةُ على مَنْعِهِ (¬1)!! ونحنُ نقولُ: هذا غيرُ صحيحٍ، بل آيةُ: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: آية 23] لَيْسَتْ ساكتةً عن ضربِ الوالدين؛ لأن النهيَ عن التأفيفِ يُفْهَمُ منه قطعًا من دلالةِ هذه الآيةِ أنه أَحْرَمُ وَأَحْرَمُ وَأَحْرَمُ؛ لأنه أشدُّ إيذاءً، كذلك حديثُ أبي بكرةَ الثابتُ في الصحيحين، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» (¬2). صَرَّحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ الصحيحِ أن القاضيَ في وقتِ الغضبِ لا يجوزُ له أن ينظرَ في قضايا الناسِ؛ لأن الغضبَ أمرٌ مُشَوِّشٌ للفكرِ، لا يتمكنُ معه القاضي من استيفاءِ النظرِ في الحقوقِ، فَلَوْ حَكَمَ في ذلك الوقتِ فهو مظنةٌ لضياعِ حقوقِ الناسِ، وسكتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ الصحيحِ عما لو كان القاضي مُشَوَّشَ الفكرِ تَشْوِيشًا أعظمَ مِنَ الغضبِ، كَأَنْ كانَ في حزنٍ أو سرورٍ مُفْرِطَيْنِ، أو كان في جوعٍ ¬

(¬1) انظر: الأحكام لابن حزم ص 932. (¬2) أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ حديث رقم: (7158)، (13/ 136)، مسلم، كتاب: الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان. حديث رقم (1717)، (3/ 1342).

أو عطشٍ مُفْرِطَيْنِ، أو كان في حقنٍ أو حقب مُفْرِطَيْنِ؛ فإنه ينالُ من شدةِ العطشِ، ومن شدةِ الجوعِ، ومن شدةِ الحزنِ، ومن شدةِ السرورِ، ومن شدةِ الحقنِ (وهو - بالنونِ -: مدافعةُ البولِ. والحَقْب - بالباءِ -: مدافعةُ الغائطِ، إذا كان في هيجانٍ شديدٍ للخروجِ). هذه الأشياءُ تشوشُ فكرَ الإنسانِ حتى لا يبقَى له نظرٌ تشويشًا أشدَّ من الغضبِ. فيقولُ ابنُ حزمٍ: هذه مسكوتٌ عنها، فالحكمُ في وقتِها عَفْوٌ!! ونحن نقولُ: لاَ وَاللَّهِ، ليست مسكوتًا عنها؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نَبَّهَ على أن القاضيَ في وقتِ الغضبِ لا يجوزُ له أن يحكمَ عَرَفْنَا أن هذا الحديثَ في معنَى: أن كُلَّ مُشَوِّشٍ للفكرِ يَمْنَعُ من استيفاءِ النظرِ، ويؤدي إلى ضياعِ حقوقِ الناسِ أن الحكمَ في وقتِه ممنوعٌ، كذلك صَحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نَهَى عن البولِ في الماءِ الراكدِ (¬1)، وسكتَ عما لو بالَ في قارورةٍ وَصَبَّهَا في الماءِ من القارورةِ. فَمُقْتَضَى ما يقولُه ابنُ حزمٍ: أنه لو قَطَّرَ فيه قطراتٍ قليلةً من ذَكَرِهِ مباشرةً: هذا منطوقٌ به، ولو صَبَّ فيه مئاتِ الأطنانِ من الأَوَانِي: أن هذا مباحٌ ومسكوتٌ عنه!! وهذا هَوَسٌ لا يقولُه عاقلٌ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما نَهَى عنه لأَنَّ البولَ يُقَذِّرُهُ، وصَبُّهُ فيه من الإناءِ لا فرقَ بينَه وبينَ بولِه فيه مباشرةً. ¬

(¬1) أخرجه الشيخان بألفاظ متقاربة، انظر: البخاري، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، حديث رقم (239)، (1/ 346)، مسلم، كتاب الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، الحديثان (281، 282)، (1/ 235).

مثلاً النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى الإنسانَ عن أن يُضَحِّيَ بالشاةِ العوراءِ (¬1)، ¬

(¬1) جاء ذلك من حديث علي، والبراء، وعتبة بن عبد السلمي (رضي الله عنهم). أما حديث علي (رضي الله عنه) فهو قوله: «أَمَرَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نَسْتَشْرِف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء ولا مُقَابَلَة ولا مُدَابَرَة ولا خَرْقَاء ولا شَرْقَاء». وقد أخرجه أحمد (1/ 80، 801، 95، 105، 125، 132، 149، 152)، والدارمي (2/ 4)، وأبو داود في الضحايا، باب ما يُكره من الضحايا، حديث رقم: (2787)، (7/ 508)، والترمذي في الأضاحي، باب ما يُكره من الأضاحي، حديث رقم: (1498)، (4/ 86)؛ وأخرجه في موضع آخر برقم (1503)، والنسائي في الضحايا، باب المدَابَرة، حديث رقم: (4373)، (7/ 216)، وأخرجه في موضع آخر برقم: (4375)، وابن ماجه في الأضاحي، باب ما يُكره أن يُضَحَّى به، حديث رقم: (3143)، (2/ 1050)، وابن خزيمة (2914، 2915)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 169، 170)، والحاكم (4/ 224، 225) وصححه، والبيهقي (9/ 275). بعضهم يرويه مختصرا فيقتصر على صدر الحديث، وهو قوله: «أَمَرَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نَسْتَشْرِف العين والأذن». وبعضهم يرويه بتمامه (على اختلاف في بعض ألفاظه). وإنما صحَّ من هذا الحديث صدره، دون قوله: «ولا نضحي بعوراء ... ) إلخ. انظر: صحيح أبي داود (2/ 539)، وضعيفه ص 274، صحيح النسائي (3/ 914)، وضعيفه ص 177، 178، وصحيح ابن ماجه (2/ 202)، وضعيفه ص 249، وضعيف الترمذي ص 175 - 176، الإرواء (4/ 362)، التعليق على المشكاة (1463)، التعليق على ابن خزيمة (2915). وأما حديث البراء (رضي الله عنه) فهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بَيِّنٌ عَوَرُها، والمريضة بَيِّنٌ مرضها، والعرجاء بين ظَلَعُها، والكسير التي لا تُنقى». وهو حديث ثابت صحيح أخرجه مالك (1035)، والطيالسي ص 102، وأحمد (4/ 284، 289، 300، 301)، والدارمي (2/ 4)، وأبو داود في الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، حديث رقم: (2785)، (7/ 505)، والترمذي في الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، حديث رقم: (1497)، (4/ 85)، والنسائي في الضحايا، باب ما نُهي عنه من الأضاحي، حديث رقم: (4369)، (7/ 214) وأخرجه في موضعين آخرين برقم: (4370، 4371)، وابن ماجه في الأضاحي، باب ما يُكره أن يُضَحَّى به (2144)، (2/ 1050)، وابن خزيمة (2912)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 168، 169)، وابن حبان (الإحسان): (5889، 5891 - 5892)، والحاكم (1/ 467) وصححه، والبيهقي (5/ 242)، (9/ 274) وابن الجارود (481، 907). وانظر: صحيح أبي داود (2/ 539)، صحيح الترمذي (2/ 88)، صحيح النسائي (3/ 913، 914)، صحيح ابن ماجه (2/ 202)، الإرواء (4/ 360 - 361). وأما حديث عُتْبَة بن عَبْد السلمي (رضي الله عنه) وفيه: «إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُصْفَرَّة والمُسْتَأْصَلَة، والبَخْقَاء، والمُشَيِّعَة، والكَسْرَاء». والبَخْقَاء: هي التي تبخق عينها، أي يذهب بصرها. وقد أخرجه أبو داود في الضحايا، باب ما يُكره من الضحايا، حديث رقم: (2786)، (7/ 506)، والحاكم (4/ 225) وصححه، والبيهقي (9/ 275). وهو ضعيف الإسناد. وانظر: ضعيف أبي داود ص 274.

وسكتَ عن الشاةِ العمياءِ، فلا نقولُ: إن الشاةَ العمياءَ عفوٌ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُضحِّيَ بها؛ لأنّا نقولُ: إن النصَّ المانعَ من التضحيةِ بالعوراءِ يُعْرَفُ منه حكمُ العمياءِ. وهذا - لو تَتَبَّعْنَا - أمثالُه كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَاسْتَدَلَّ بعضُ العلماءِ - من علماءِ الأصولِ - بآيةِ الأنعامِ هذه على أحدِ قَوْلَيْنِ؛ في مسألةٍ اختلفَ فيها العلماءُ؛ لأنه معلومٌ في علمِ الأصولِ أن العلماءَ مُخْتَلِفُونَ: هل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمكنُ أن يجتهدَ في شيءٍ، أو لا يجتهدُ في شيءٍ؟ (¬1). ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 475)، نثر الورود (2/ 629 - 631).

فالذين قالوا: الاجتهادُ ممنوعٌ عليه استدلوا بهذه الآيةِ من سورةِ الأنعامِ، وآيةِ النجمِ وما جرى مَجْرَاهُمَا. قالوا: لأن النبيَّ قال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: آية 50] فَحَصَرَ ما يُتَّبَعُ في الوحيِ، وهذا يمنعُ الاجتهادَ، وأنه لا سبيلَ إلى الاجتهادِ. وآيةُ النجمِ التي أَشَرْنَا إليها هي قولُه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3 - 4]. فَأَجَابُوا عن هذا قَالُوا: وَقَعَتْ وقائعُ تدلُّ على الاجتهادِ في الجملةِ، كما دَلَّتْ عليه آياتٌ من كتابِ اللَّهِ، كقولِه في سورةِ الأنفالِ: قال له اللَّهُ (جل وعلا) لَمَّا اجتهدَ في أُسَارَى أهلِ بدرٍ ولم يَقْتُلْهُمْ، قال اللَّهُ - كأنه لائمٌ له، مُقَرِّعٌ له -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: آية 67] فقولُه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} قالوا: دليلٌ على أنه أَسَرَ الأسارى اجتهادًا منه، ولو كان بِوَحْيٍ لَمَا لاَمَه اللَّهُ هذا اللومَ. وكقولِه في براءة: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: آية 43] فلو كان ذلك العفوُ بِوَحْيٍ لَمَا قال له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قالوا: هذه النصوصُ وأمثالُها معناه: أنه يفعلُ بعضَ الأمورِ من غيرِ وحيٍ صريحٍ، بل باجتهادٍ منه. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: أَمَّا ما يقولُ: إنه يُوحَى إليه، فلا شَكَّ أنه وَحْيٌ من اللَّهِ، وهو الذي فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3 - 4]. وأظهرُ الأقوالِ: أن الشرعَ والتحليلَ والتحريمَ، أنه لا يُحْكَمُ

فيه إلا بالوحيِ، كما جَاءَتْ قصصٌ متعددةٌ أنه إذا جاءَه الأمرُ لا وحيَ فيه: كَفَّ عنه وَأَحْجَمَ، ينتظرُ حكمَ اللَّهِ فيه، حتى يأتيَه الوحيُ فيه، وأن مثلَ الحروبِ كما ذَكَرْنَا في قصةِ بدرٍ، وَمَنْ أُسِرَ منهم هنالكَ، والأمور الدنيوية، أنه ربما يفعلُ فيها الأمرَ، ولا يفعلُه إلا جائزًا؛ لدلالةِ ظواهرِ الشرعِ عليه. إلا أنه رُبَّمَا يكون غيرُه أَوْلَى منه؛ ولهذا يقولُ اللَّهُ: لِمَ فَعَلْتَ كذا؟ من حيثُ إن غيرَه أَوْلَى منه، وإن كان جائزًا. وهذا معنَى قولِه: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}. ثم أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يقولَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: آية 50]. الله (تبارك وتعالى) ذَكَرَ طائفتين من الناسِ، طائفةٌ ذَكَرَهَا في قولِه: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: آية 48] وطائفةٌ ذَكَرَهَا بقولِه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: آية 49] فهؤلاء الذين عَمُوا عن طريقِ الحقِّ حتى دَخَلُوا النارَ، هؤلاء - والعياذُ بالله - عُمْيٌ، وهؤلاء الذين أَبْصَرُوا فَعَمِلُوا لله حتى دَخَلُوا الجنةَ، فهؤلاء هم الْمُبْصِرُونَ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ يضربُ المثلَ بفريقِ الكفارِ وفريقِ المؤمنين: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: آية 24] فالأَعْمَى والأَصَمُّ: هو فريقُ الكفارِ، والسميعُ والبصيرُ: هو فريقُ المؤمنين، كما قال هنا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: آية 50] لاَ وَاللَّهِ لا يستويانِ، فالأَعْمَى هو مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بصيرتَه ولم يُنَوِّرْ قلبَه بنورِ الإيمانِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَمَنْ أَرَادَ أن يعرفَ معنَى هذه الآيةِ {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] فَلْيَنْظُرْ إلى رَجُلَيْنِ يمشيانِ في الطريقِ، أحدُهما: صحيحُ العينين قويُّ البصرِ،

حديدُه جِدًّا، وهو مفقودُ العقلِ. والثاني: أَعْمَى، إلا أنه عَاقِلٌ. فيجدُ ذا العينين الصحيحتين الذي يفقدُ عقلَه، يجدُه يضربُ الجدارَ، ويقعُ على الْحَيَّةِ، ويقعُ على العقربِ، ويسقطُ في البئرِ، ويسقطُ على النارِ، لا يُبْصِرُ شيئًا، ويرى ذلك الكفيفَ الذي عِنْدَهُ عقلُه، عَصَاهُ أَمَامَهُ، يَرُوغُ كَمَا يَرُوغُ الثعلبُ، وَيُحَصِّلُ جميعَ منافعِه، فيعلمُ حقيقةَ قولِه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. إِذَا أَدْرَكَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ (¬1) وذكر غيرُ واحدٍ كابنِ عبدِ البرِّ في استيعابِه، وغيرُ واحدٍ من الْمُؤَرِّخِينَ، أن ابنَ عباسٍ (رضي الله عنهما) أخبرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه سَيَعْمَى في آخِرِ عُمْرِهِ (¬2)، وقال عند ذلك (¬3): إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي عَنْهُمَا نُورُ عَقْلِي ذَكِيٌّ وَقَلْبِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ والحاصلُ أن الأَعْمَى هنا: هو الكافرُ، والبصيرُ: هو المسلمُ المؤمنُ؛ لأن المؤمنَ على نورٍ من رَبِّهِ، وبصيرته يُشِعُّها نورُ الوحيِ. ¬

(¬1) البيت لبشار بن برد، وهو في ديوانه (4/ 51)، وشطره الأول: (إذا أبصر المرء .. ). (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 292)، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 356)، وابن عساكر في تاريخه (مختصر ابن منظور 12/ 295، 299)، والذهبي في السير (3/ 340) وقال: «إسناده لين» اهـ وقال الهيثمي في المجمع (9/ 277) وفيه من لم أعرفه» اهـ. (¬3) البيت في الاستيعاب (2/ 356)، سير أعلام النبلاء (3/ 357)، ولفظ صدر البيت الثاني: قلبي ذكي وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ ... ...........................

والكافرُ - والعياذُ بالله - مطموسُ البصيرةِ، واللَّهُ يقولُ: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. ثم قال (جل وعلا): {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} قد قَدَّمْنَا مرارًا (¬1) أن هذه الهمزةَ التي تأتي في القرآنِ كثيرًا قبلَ أداةِ عطفٍ - كالتي تأتِي قبلَ (الفاءِ) و (الواوِ) و (ثم)، وهي كثيرةٌ في القرآنِ، قد قَدَّمْنَا مرارًا أن فيها للعلماءِ وجهين: أحدُهما - واختارَه غيرُ واحدٍ، وإليه جَنَحَ ابنُ مَالِكٍ في ألفيتِه -: أن الهمزةَ تتعلقُ بجملةٍ محذوفةٍ، والفاءَ أو الواوَ تعطفُ الجملةَ التي صُدِّرَتْ بها على الجملةِ المعطوفةِ التي هي مُتَعَلَّقُ الاستفهامِ، ولا بد أن يكونَ في الجملةِ المذكورةِ ما يدلُّ وَتُفْهَمُ منه الجملةُ المقدرةُ، وعليه فتقديرُه هنا: أفلاَ تتفكرونَ؟ أتغفلونَ عن هذه الأشياءِ، فلا تتفكرونَ حتى تَفْهَمُوهَا؟ وما جَرَى مَجْرَى ذلك. وهذا هو الذي اختارَه ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ حيث قال (¬2): وحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ ............................ وهنالك جماعةٌ آخرونَ يقولونَ: إن همزةَ الاستفهامِ هي في الرتبةِ بعدَ حرفِ العطفِ، إلا أنه لَمَّا كان للاستفهامِ صدرُ الكلامِ تَزَحْلَقَتِ الهمزةُ عن محلِّها، وتقدمت على أداةِ العطفِ، وهي بعدَها في الرتبةِ. وعلى هذا فيكونُ المعنَى: (فألا تتفكرون) فتكونُ الفاءُ عاطفةً للجملةِ المُصَدَّرةِ بالاستفهامِ على ما قَبْلَهَا، كأنه يقولُ: فَأَعْطِفُ على ذلك وَأَذْكُرُ بعدَه توبيخَكم وتقريعَكم أنكم لا تتفكرونَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

حتى تفهموا عن اللَّهِ آياتِه. {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: آية 51]. {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الخطابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأصحُّ الأقوالِ في مرجعِ الضميرِ: أنه راجعٌ للقرآنِ (¬1) المُعبَّرِ عنه بقولِه: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} {وَأَنذِرْ بِهِ} أَنْذِرْ بما يُوحَى إليكَ - الذي لا تتبعُ إلا إياه - أَنْذِرْ به الذين يخافونَ. وفي الآيةِ هنا سؤالٌ، وهو: لِمَ قَصَرَ الإنذارَ على الذين يخافونَ أن يُحْشَرُوا في حالِ كونِهم مُتَجَرِّدِينَ من الأولياءِ والشفعاءِ من دونِ اللَّهِ، مع أن القرآنَ إنذارٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ} عن بكرةِ أَبِيهِمْ {نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1] وكقولِه: {أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} [يونس: آية 2] لِمَ خَصَّ هنا الذين يخافون؟ (¬2). أجابَ بعضُ العلماءِ عن هذا السؤالِ: بأن من أساليبِ القرآنِ العظيمِ، واللغةِ العربيةِ، أن يُقْصَرَ الفعلُ على الذين ينتفعون به؛ لأن غيرَ المنتفعِ به هو في شأنِه كَلاَ شَيْءٍ. ونظيرُ الآيةِ من القرآنِ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] مع أنه تذكيرٌ للأَسْوَدِ والأحمرِ {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: آية 11] وهو منذرٌ للأسودِ والأحمرِ {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ} [فاطر: آية 18] وهو منذرٌ للأسودِ والأحمرِ. أي: بأنهم هم الْمُنْتَفِعُونَ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 430)، البحر المحيط (4/ 134). (¬2) انظر: المصدرين السابقين، والأضواء (6/ 224).

ومعنى: {وَأَنْذِرْ بِهِ} أَعْلِمْهُمْ بما عندَ اللَّهِ في الأوامرِ والنواهِي، مقترنًا ذلك الإعلام بالتهديدِ والتخويفِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ إن لم يَمْتَثِلُوا أمرَه وَيَجْتَنِبُوا نَهْيَهُ. وقولُه: {يَخَافُونَ} هو معنَى الخوفِ على بابِه (¬1). {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} مادة (خاف) تتعدَّى بِنَفْسِهَا، وتتعدَّى بالحرفِ. وهي هنا متعديةٌ بنفسِها، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه: {أَنْ يُحْشَرُوا} في محلِّ نصبٍ معمولٌ به للخوفِ. والمعنَى: يخافونَ الحشرَ إلى رَبِّهِمْ. والحشرُ معناه: جمعُ الناسِ. وقولُه: {لَيْسَ لَهُم مِّنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} هذه الجملةُ الفعليةُ الْمُصَدَّرَةُ بهذا الفعلِ الناقصِ هي في محلِّ الحالِ (¬2). وهذه الحالُ هي التي يَنْصَبُّ عليها الخوفُ. أي: يخافونَ حشرَ الناسِ في حالِ كونِهم ليس لهم من دونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ولا شفيعٌ. ومعنَى: {وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} الوليُّ في لغةِ العربِ (¬3): هو كُلُّ مَنْ يَنْعَقِدُ بينَك وبينَه سببٌ يجعلكَ تُوَالِيهِ وَيُوَالِيكَ؛ وَلِذَا كان كُلُّ قريبٍ للرجلِ مِنْ عَصَبَتهِ يُسَمَّى (وَلِيًّا)، وكلُّ صديقٍ حميمٍ يُسَمَّى (وَلِيًّا)؛ ولهذا كان اللَّهُ وليَّ المؤمنين، والمؤمنون المتقونَ أولياءَ اللَّهِ؛ لأن الإيمانَ سببٌ منعقدٌ بين العبدِ وَرَبِّهِ، يكونُ بسببِه اللَّهُ يُوَالِي العبدَ بالإحسانِ والرحمةِ والجزاءِ، والعبدُ يُوَالِي اللَّهَ بالطاعاتِ ونحوِ ذلك. والمعنَى: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ} يُحْشَرُونَ في حالِ كونِهم وقتَ ذلك ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 135). (¬2) المصدر السابق. (¬3) انظر: المفردات (مادة: ولي) ص 885.

الحشرِ ليس لهم {وَلِيٌّ} أحدٌ بينَهم وبينَه سببٌ يَجْعَلُهُ يُوَالِيهِمْ فيكون وَلِيًّا لهم يمنعُهم مِمَّا أرادَ اللَّهُ أن يفعلَ بهم إذا عَصَوْهُ. وقولُه: {مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} (الشفيعُ) في لغةِ العربِ (¬1): فعيلٌ بمعنى فاعلٍ. أصلُه: (شافعٌ). وأصلُ (الشفاعةِ) مشتقَّةٌ من (الشَّفْعِ) و (الشَّفْع) ضِدُّ الوترِ، وإنما قيل للشفيعِ: (شفيعٌ) لأن صاحبَ الحاجةِ كان فردًا في حاجتِه فَلَمَّا جاءَ إلى من يشفعُ له شَفَعَهً فصارا اثنين في حاجتِه، ومنها قيل له: (شفيعٌ)؛ لأنه من (الشَّفْعِ). والشفاعةُ في الاصطلاحِ (¬2): هي التوسطُ للغيرِ في جلبِ [نفع] (¬3) أو دفعِ ضُرٍّ، وهو على قِسْمَيْنِ: شفاعةٌ في الدنيا وشفاعةٌ في الآخرةِ، أما شفاعةُ الدنيا فهي قد تكونُ عندَ الملوكِ، وعندَ غيرِهم من العظماءِ، وهي نَوْعَانِ (¬4): إذا كان الإنسانُ يشفعُ لينقذَ مظلومًا، أو يحققَّ حَقًّا، أو يبطلَ باطلاً، أو يوصلَ إنسانًا إلى حَقِّهِ الممنوعِ منه فهذه الشفاعةُ طيبةٌ، صاحبُها مأجورٌ عليها، وهي التي قال فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الصحيحِ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» (¬5). وتارةً تكونُ الشفاعةُ هي التوسطُ في أمرٍ خبيثٍ لاَ يجوزُ، كأن يتوسطَ رجلٌ لرجلٍ في امرأةٍ لِتُمَكِّنَهُ من نفسِها، أو يتوسط له عند سلطانٍ لينزعَ حقَّ رجلٍ آخَرَ، وما جرى مجرَى ذلك من الشفاعةِ، أو يشفع ليسقطَ حَدًّا من حدودِ اللَّهِ. وهذه الشفاعةُ ¬

(¬1) المصدر السابق (مادة: شفع) ص 457. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬3) في الأصل: مكروه. (¬4) راجع ما سبق عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬5) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

خبيثةٌ قبيحةٌ صاحبُها يُؤْزَرُ عليها، وهي من عظائمِ الذنوبِ، وقد أشارَ اللَّهُ إلى هذا التفصيلِ في سورةِ النساءِ في قولِه: {مَّنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء: آية 85]. أما الشفاعةُ في الآخرةِ فَكُلُّهَا لله جل وعلا {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: آية 44] لا شافعَ ذلك اليومَ إلا بإذنِ اللَّهِ. والشفاعةُ يومَ القيامةِ قِسْمَانِ: شفاعةٌ باطلةٌ مردودةٌ، وهي التي كان يفهمُها الكفارُ، وهي من أنواعِ الكفرِ بِاللَّهِ، وهي: ادعاءُ الكفارِ أن الأصنامَ تشفعُ لهم بلا إذنٍ من اللَّهِ (جل وعلا)، إِذْ من المعلومِ أن الأوثانَ لاَ تشفعُ بإذنِ اللَّهِ كما قال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: آية 18] وهذا النوعُ من الشفاعةِ سَمَّاهُ اللَّهُ في سورةِ يونسَ: (شِركًا) حيثُ قال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهذا النوعُ إنما سَمَّاهُ اللَّهُ (شِرْكًا) - وله المثلُ الأعلى - لأن فيه نوعًا من القَدْحِ في عظمةِ الربوبيةِ. وَضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا: - وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى - ترى أكبرَ جَبَّارٍ طَاغٍ في الدنيا يتقطعُ غَيْظًا على مُجْرِمٍ، ونيتُه أنه يُقَطِّعَ ذلك المجرمَ عضوًا عضوًا، فيمكنُه اللَّهُ من ذلك المجرمِ ويقعُ في قبضتِه، ونيتُه أن يُنَكِّلَهُ أعظمَ نكالٍ، فيأتي واحدٌ من عظماءِ دولتِه - رجلٌ له عظمةٌ وجاهٌ، وله شعبيةٌ عظيمةٌ - ويتجرأُ على ذلك الملكِ رغمَ أَنْفِهِ، ويقولُ لَهُ: باركَ اللَّهُ فيكَ شَفِّعْنِي في هذا المجرمِ!! فينظرُ ذلك الملكُ يقولُ: إذا رَدَدْتُ شفاعةَ هذا العظيمِ قد يكونُ ضِدًّا عَلَيَّ، وحربًا عَلَيَّ، فقد يَأْتِينِي بغائلةٍ!! فيخافُ المسكينُ، ويضطرُّ إلى أن يُشَفِّعَهُ رغمَ أنفِه.

فخالقُ السماواتِ والأرضِ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يُدِلُّ عليه بعظمةٍ ولا جاهٍ، ولا يخافُ من أحدٍ أن يُدَبِّرَ عليه شيئًا؛ وَلِذَا يقولُ مُخَاطِبًا لخلقِه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية 255] الجوابُ: لا أحدَ يمكنُ أن يتجاسرَ على ذلك أبدًا؛ لأن هذا مَلِكُ الملوكِ الذي لا يخافُ من أحدٍ، ولا يمكن أحدا أن يُدَبِّرَ شيئًا ضِدَّهُ؛ وَلِذَا قَالَ: {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبا: آية 23]. فالحاصلُ أن الشفاعةَ يومَ القيامةِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مَقْبُولٌ، وقسمٌ مردودٌ، ولقبولِه شَرْطَانِ إذا حَصَلاَ كانت الشفاعةُ شرعيةً واقعةً، وإذا فُقِدَا أو واحدٌ منهما فالشفاعةُ ممنوعةٌ شرعًا. أما هذان الأصلانِ: فأحدُهما: أن يكونَ المشفوعُ له مُسْلِمًا؛ لأن الله (جل وعلا) لا يقبلُ شفاعةً لكافرٍ أَلْبَتَّةَ، كما قَالَ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: آية 48] {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: آية 28] مع أنه يقولُ: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: آية 7]. الثاني: أن يأذنَ خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، فإذا أَذِنَ اللَّهُ في الشفاعةِ، وكان المشفوعُ له مُؤْمِنًا. بهذين الشَّرْطَيْنِ تكونُ شفاعةً مقبولةً واقعةً في الشرعِ، دَلَّ عليها كتابُ اللَّهِ وسنةُ نَبِيِّهِ. ومما يُوَضِّحُ هذا المعنَى: أن سيدَ الخلائقِ على الإطلاقِ - نبيَّنا محمدًا صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - عِنْدَهُ وعدٌ صادقٌ من اللَّهِ في دارِ الدنيا، كما يأتيكم في تفسيرِ قولِه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: آية 79] عنده وعدٌ من الله بالشفاعةِ الكبرى، وهو عَالِمٌ أن اللَّهَ لا يُخْلِفُ وعدَه، فإذا وقعَ الناسُ في مأزقٍ يومَ القيامةِ، وجاؤوا إلى آدمَ، وقال كلامَه المعروفَ، ثم جاؤوا إلى

نوحٍ، ثم إبراهيمَ، ثم موسى، ثم عيسى، حتى إذا بَلَغُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: «أَنَا لَهَا» (¬1). لأنه عَالِمٌ بالوعدِ الصادقِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ، ومع علمِه بالوعدِ، وَعِظَمِ جاهِه، ومكانتِه عندَ اللَّهِ، لم يَتَجَرَّأْ أن يشفعَ من غيرِ إِذْنٍ؛ بل خَرَّ سَاجِدًا، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ (جل وعلا) من المحامدِ ما لم يُلْهِمْهُ لأحدٍ قَبْلَهُ ولاَ بعدَه، ولم يَزَلْ ساجدًا حتى قيلَ له: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّع. هذا مصداقٌ لقولِه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية 55] الجوابُ: لاَ أَحَدَ، فالشفاعةُ للكفارِ ممنوعةٌ بتاتًا، والشفاعةُ بغيرِ إذنِ اللَّهِ ¬

(¬1) حديث الشفاعة رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم: 1 - أبو هريرة، عند البخاري في الأنبياء، باب قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} حديث رقم (3340)، (6/ 371)، وطرقه (3361، 4712). ومسلم في الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. حديث رقم (194)، (1/ 184). 2 - أنس، عند البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} حديث رقم (7410)، (13/ 392)، ومسلم في الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. حديث رقم (193)، (1/ 180). 3 - أبو هريرة وحذيفة، عند مسلم (الموضع السابق) حديث رقم (195)، (1/ 186). 4 - أبو بكر الصديق، عند أحمد (1/ 4)، والدارمي في الرد على الجهمية ص 57، 88، وابن أبي عاصم في السنة (751، 812)، وأبي يعلى (56، 57)، وابن حبان (الإحسان (8/ 134)، والدولابي في الكنى (2/ 155). 5 - ابن عباس، عند أحمد (1/ 281، 295)، وأبي يعلى (4/ 213)، والطيالسي ص 353.

ممنوعةٌ بتاتًا. وقد دَلَّتِ السنةُ الصحيحةُ على أن الشفاعةَ للكفارِ خرج منها فردٌ واحدٌ لاَ نظيرَ له، وهو ما ثَبَتَ في الصحيحين: أن شفاعةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَعَتْ أَبَا طَالِبٍ، مع أنه ماتَ كافرًا. إلا أن هذا النفعَ لهذا الكافرِ الذي هو وحيدٌ لم يكن له نَظِيرٌ، إنما كان في نَقْلٍ من موضعٍ من النارِ إلى موضعٍ آخَرَ أَخَفَّ منها؛ وَلِذَا ثَبَتَ في الصحيحين: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، لَهُ نَعْلاَنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» (¬1). والعياذُ بالله جل وعلا. فهذه شفاعةٌ خاصةٌ نَفَعَ اللَّهُ بها كافرًا نفعًا مخصوصًا، وهو نقلُه من مَحَلٍّ من النارِ إلى مَحَلٍّ أخفَّ منه من النارِ والعياذُ بالله جل وعلا. وهذا معنى قولِه: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} الشفيعُ المنفيُّ هنا: هو الشفيعُ الذي يشفعُ لكافرٍ، أو يشفعُ بغيرِ إِذْنِ اللَّهِ (جل وعلا). أما الذي يشفعُ بإذنِ اللَّهِ للمؤمنِ فهذا ثابتٌ كِتَابًا وَسُنَّةً. وأنواعُ الشفاعةِ كثيرةٌ، وليست مخصوصةً بالأنبياءِ، بل يشفعُ الصالحونَ والمؤمنونَ وغيرُهم مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أن يُشَفِّعَهُ فيمن شَاءَ من خَلْقِهِ. قولُه: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} في (لعل) هنا وَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا: أحدُهما: أنها للتعليلِ (¬2)، وعليه فالمعلل هو الإنذارُ المذكورُ في قولِه: {وَأَنذِرْ بِهِ} أي: أَنْذِرِ الذين يخافونَ، أَنْذِرْهُمْ لأَجْلِ أن يتقوا. أي: لأَجْلِ أَنْ يُؤَثِّرَ فيهم ذلك الإنذارُ ويخوفهم فيتقونَ اللَّهَ جل وعلا. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

وأصلُ الاتقاءِ في لغةِ العربِ (¬1): هو اتخاذُ الوقايةِ التي تَقِيكَ من المكروهِ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ أي: جَعَلَتْ يَدَهَا وقايةً بيننا وبينها حَيْثُ جَعَلَتْهَا دونَ وجهِها لئلا نَرَاهُ. هذا أصلُ (الاتقاءِ) تقول العربُ: «اتقيتُ السيوفَ بمجنِّي»، و «اتقيتُ الرمضاءَ بنعلي». هذا أصلُ (الاتقاءِ)، وهو في اصطلاحِ الشرعِ (¬3): اتخاذُ العبدِ وقايةً تَقِيهِ مِنْ عذابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ. وهذه الوقايةُ مُرَكَّبَةٌ من شيئين هما: امتثالُ أمرِ اللَّهِ، واجتنابُ نَهْيِ اللَّهِ. ومعلومٌ أن مادةَ (الاتقاءِ) أصلُها مِنْ (وَقَى) ففاءُ المادةِ واوٌ، وعينها قافٌ، ولامُها ياءٌ، فهي مما يُسَمِّيهِ الصَّرْفِيُّونَ: (اللفيفَ المفروقَ). فأصلُ الاتقاءِ من الوقايةِ: (و. ق. ى). إلا أنها دَخَلَهَا (تاءُ) الافتعالِ، كما تقولُ في (قَرب): اقترب، وفي (كسب): اكتسب، وفي (قطع): اقتطع، وفي (وقى): اوْتَقَى. والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن كُلَّ فعلٍ واويِّ الفاءِ إذا دخله (تاءُ) الافْتِعَالِ أُبْدِلَتِ الفاءُ التي هي الواوُ تاءً، وَأُدْغِمَتْ في التاءِ، فقيل فيه: (اتَّقَى). فهذا التشديدُ مُرَكَّبٌ من حرفين: الأولُ منهما أصلُه واوٌ في محلِّ فاءِ الكلمةِ. والثاني: تاءُ الافتعالِ الزائدةُ. هذا أصلُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقره. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

المادةِ (¬1). ومعنَى {يَتَّقُونَ}: يجعلونَ وقايةً بينهم وبينَ عذابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ، هذه الوقايةُ هي امتثالُ أَمْرِهِ بإخلاصٍ على الوجهِ الذي شَرَعَ، واجتنابُ نَهْيِهِ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. [4/ب] / {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: آية 52]. {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا ابنَ عامرٍ: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه: {بالغُدوَةِ والعشي} بِضَمِّ الغينِ، والواوِ المفتوحةِ. وهما قراءتانِ صحيحتانِ (¬2)، ولغتانِ فصيحتانِ. وسببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ: أن عظماءَ الكفارِ - بعضُ الرواياتِ: كفار قريشٍ (¬3)، وفي بعضِها: عظماءُ غيرِهم من العربِ، كالأقرعِ بنِ حابسٍ مِنْ ساداتِ تميمَ وعيينةَ بنِ حصنٍ من ساداتِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص 194. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه)، حديث رقم (2413)، (4/ 1878)، من حديث سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه). وقد جاء من حديث ابن مسعود (رضي الله عنه) عند أحمد حديث رقم (3985)، والطبراني في الكبير، حديث رقم (1052)، (10/ 268)، وابن جرير (11/ 374 - 375)، والواحدي في أسباب النزول ص217. وورد أيضا من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) عند ابن جرير (11/ 375)، كما ورد عن عدد من التابعين مرسلا، انظر: ابن جرير (11/ 378 - 380) الواحدي في أسباب النزول ص 218.

الفزاريين (¬1). وأشهرُ الرواياتِ وَأَوْلاَهَا بالصوابِ: أن الكفارَ الذين قالوا هذا كفارُ مكةَ؛ لأن الأقرعَ بنَ حابسٍ وعيينةَ بنَ حصنٍ إنما جاؤوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المدينةِ بعدَ الهجرةِ، وهذا مما يُؤَيِّدُ الرواياتِ الواردةَ بأنهم عظماءُ الكفارِ مِنْ أهلِ مكةَ - كانوا يَأْتُونَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيجدون معه ضعفاءَ المسلمين الفقراءَ، كخَبَّابٍ، وَعَمَّارٍ، وصهيبٍ، وبلالٍ، وما جرى مَجْرَى ذلك. وفي بعضِ الرواياتِ الثابتةِ أن مِنَ الذين قالوا فيه ذلك من الفقراءِ: سعدَ بنَ أبي وقاصٍ وجماعةً معه. قالوا للنبيِّ: نحن كبارُ رؤساءِ العربِ، وإن اتبعناكَ اتبعكَ الناسُ، ونحن لاَ نَرْضَى أن نجالسَ هؤلاء الأَعْبُدَ، وَيُؤْذِينَا نَتَنُ جِبَابِهمْ - لأنهم كانوا يَلْبَسُونَ جِبَابًا من الصوفِ ليس لهم غَيْرُهَا، فيكونُ فيها ريحُ العرقِ - اطْرُدْ عَنَّا هؤلاء النَّتْنَى لنجلسَ معكَ وَنُكَلِّمَكَ. وفي بعضِ الرواياتِ أنهم قالوا له: إِنْ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا حتى نقولَ لكَ ما نشاءُ، وإن خَرَجْنَا فإن شئتَ فَاقْعُدْ معهم. وفي بعضِ الرواياتِ: أنه - صلى الله عليه وسلم - همَّ بأن يجعلَ للعظماءِ الرؤساءِ مَجْلِسًا ليس فيه أولئك. وذكروا أنه دَعَا عَلِيًّا (رضي الله عنه)، وأخذَ الصحيفةَ ليكتبَ فيها عَلِيٌّ؛ لأنهم قالوا له: اكْتُبْ لنا ذلك. فجاءَه جبريلُ وأنزل اللَّهُ عليه: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ ألقى الصحيفةَ وامتنعَ مِنْ طَرْدِهِمْ، وكان يجلسُ معهم، فإذا أرادَ القيامَ قامَ عنهم قبلَ أن يقوموا فأنزلَ اللَّهُ عليه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء، حديث رقم (4127)، (2/ 1382)، والبيهقي في الدلائل (1/ 352)، وابن جرير (11/ 376 - 377)، والواحدي ص 217، وانظر: صحيح ابن ماجه (2/ 396 - 397).

آية 28] فكانوا إذا جاء وقتُ قيامِه يقومونَ لِيُفْسِحُوا له في القيامِ؛ لأنهم يعرفونَ أنهم إن لَمْ يقوموا لا يُمْكِنُهُ أن يقومَ. هذا سببُ نزولِ الآيةِ. والمعنى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: آية 52] يعني: لأَجْلِ أن الكفارَ الفجرةَ يُحِبُّونَ ذلك وَيَرْغَبُونَ فيه، كما قال له: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: آية 28]. {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يدعونه معناه: يَعْبُدُونَه ويتضرعون إليه. وَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أن المرادَ بالدعاءِ هنا: الصلاةُ (¬1)؛ لأنها أعظمُ العباداتِ، وهي فيها دعاءٌ. يقول المصلي فيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: آية 6] ثم يقول: آمين. ففيها أعظمُ دعاءٍ، وقد ثَبَتَ في حديثِ مسلمٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ: أن المسلمَ إذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيمَ} قال اللَّهُ: «هَذِهِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» (¬2). كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. وعلى هذا فقولُه: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} يعني بـ (الغداةِ): صلاةُ الصبحِ، وبـ (العشي): صلاةُ العصرِ. وقال بعضُ العلماءِ: الآيةُ أَعَمُّ من الصلاةِ. وهو الظاهرُ؛ لأنهم يَدْعُونَ اللَّهَ ويعبدونَه بأنواعِ العباداتِ من صلاةٍ وغيرِها، أولَ النهارِ وَآخِرَهُ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 381 - 388). (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم (395)، (1/ 296).

وفي تخصيصِ الغداةِ والعشيِّ للعلماءِ أَوْجُهٌ (¬1): أَحَدُهَا: أن العربَ إذا أَرَادَتِ الدوامَ أَطْلَقَتِ الليلَ والنهارَ والغداةَ والعشيَّ. يَعْنُونَ أنهم دائمونَ على ذلك. القولُ الثاني: أن أولَ النهارِ وآخِرَهُ من أفضلِ الأوقاتِ التي تُنْتَهَزُ فيها فرصةُ العباداتِ. وقولُه: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إذا جاء في القرآنِ العظيمِ {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} معناه: أن ذلك العملَ بإخلاصٍ لِلَّهِ (جل وعلا)، ليس فيه رياءٌ ولا سُمْعَةٌ، ولا طلب غرضٍ من أغراضِ الدنيا. وصفةُ (الوجهِ) صفةٌ من صفاتِ اللَّهِ (جل وعلا) أَثْبَتَهَا لنفسِه، وَأَثْنَى على هذه الصفةِ ثَنَاءً خاصًّا لم يُثْنَ به على صفةٍ غيرِها حيث قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: آية 27]. ونحن في هذه الدروسِ القرآنيةِ مِرَارًا (¬2) نقولُ لكم: إن الطريقَ السليمةَ - التي إِنْ مُتُّمْ عليها ولقيتُم اللَّهَ عليها في هذا المأزقِ الذي ضَلَّ فيه الآلافُ [فإنكم تَلْقَوْنَ ربَّكم بعقيدةٍ صحيحةٍ في هذا البابِ] (¬3) - أنها مُرَكَّزَةٌ على ثلاثةِ أُسُسٍ، كُلُّ واحدٍ منها في ضوءِ القرآنِ العظيمِ بغايةِ الوضوحِ، مَنْ لَقِيَ اللَّهَ على اعتقادِ هذه الأسسِ الثلاثةِ لَقِيَهُ سَالِمًا، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها دخلَ في مهواةٍ، قد لا يتخلصُ منها. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 432)، البحر المحيط (4/ 135). (¬2) للشيخ (رحمه الله) محاضرة في موضوع الصفات، وقد طُبعت بعنوان (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات)، وانظر: الأضواء (2/ 304 - 321). (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

أولُ هذه الأسسِ الثلاثةِ هو - أيها الإخوانُ - أن تُلْزِمُوا قلوبَكم بالطهارةِ من أقذارِ التشبيهِ، وتُنَزِّهُوا خالقَ الكونِ (جل وعلا) عن أن يُشْبِهَهُ شيءٌ مِنْ خلقِه في أي صفةٍ من صفاتِه، كائنةً ما كَانَتْ، وَمَنِ الخلقُ حتى يشبهوا خالقَ السماواتِ والأرضِ؟ كيف يشبهونه وهم أثرٌ من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ فالأثرُ لا يُشَابِهُ مُخْتَرِعَهُ. وهذا الأصلُ هو الأساسُ الأكبرُ فِي معرفةِ اللَّهِ، والحجرُ الأساسيُّ لصلةِ العبدِ بربِّه صلةً صحيحةً على أساسٍ صحيحٍ، وهو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ. وهذا الأساسُ منصوصٌ في قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: آية 4] {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74] لأنه لا مثيلَ له ولا شبيهَ. وهذا الأصلُ هو الأصلُ الأعظمُ في التوحيدِ، وهو أساسُ الصلةِ الصحيحةِ بَيْنَ العبدِ وَرَبِّهِ، فَمَنْ حَقَّقَ هذا الأصلَ قرب من الخيرِ، ومن لم يُحَقِّقْ هذا الأصلَ جَرَّهُ إلى تشبيهاتٍ وإلى مَعَانٍ لا خلاصَ منها. فإذا حققَ العبدُ هذا الأصلَ، وألزمَ قلبَه بأن يَعْلَمَ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأكبرُ وأنزهُ وَأَجَلُّ من أن يُشْبِهَهُ شيءٌ مِنْ خَلْقِهِ بأيِّ صفةٍ من صفاتِهم [فإنه يكونُ قد طَهَّرَ قلبَه مِنْ دَنَسِ التعطيلِ وأقذارِ التَّشْبِيهِ] (¬1). والأساسُ الثاني: هو أن يصدقَ الله بما وَصَفَ به نفسَه، ويصدق رسولَه بما وَصَفَ به رَبَّهُ تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ، على غرارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق.

[الشورى: 11] فلا يَتَنَطَّعُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وينفي عن اللَّهِ وصفًا مدحَ اللَّهُ به نفسَه، أو مَدَحَهُ به مَنْ قال في حَقِّهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3 - 4] إِذْ لا يصفُ اللَّهَ أعلمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: آية 140] ولا يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أعلمُ باللَّهِ من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الأصلُ الثاني عَلَّمَنَاهُ خالقُ الكونِ (جل وعلا) تعليمًا سَمَاوِيًّا أَعْظَمَ، لا يقعُ في الحقِّ بعدَه لَبْسٌ، وذلك قولُه جل وعلا: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإتيانُه بقولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه سرٌّ أعظمُ، وَمَغْزًى أكبرُ، وتعليمُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وإيضاحُه لهذه العقائد إيضاحًا كالشمسِ. والمعنى: لا تَتَنَطَّعْ يا عَبْدِي، يا مسكينُ، اعْرَفْ قَدْرَكَ، ولا تَنْفِ عَنِّي صفةَ سَمْعِي وَبَصَرِي مُدَّعِيًا أنكَ إن أَثْبَتَّ لِي سَمْعِي وَبَصَرِي شَبَّهْتَنِي بالحيواناتِ التي تسمعُ وتبصرُ، لا، ما هكذا الأمرُ. المعنَى: أَثْبِتْ لِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَرَاعِ في ذلك الإثباتِ قولي قبلَه مقترنًا به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فأولُ الآيةِ تنزيهٌ كاملٌ من غيرِ تعطيلٍ، وآخِرُهَا إيمانٌ بالصفاتِ إيمانًا تَامًّا من غيرِ تشبيهِه ولا تمثيلٍ، فعلينا أن نُنَزِّهُ خالقَنا (جل وعلا) بقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأن نُثْبِتَ له ما أَثْبَتَ لنفسِه، ولا نقول إذا أَثْبَتْنَاهُ: كُنَّا مُشَبِّهِينَ؛ لأن الحيواناتِ تتصفُ بهذا!! ولأجلِ هذا وَصَفَ نفسَه بالسمعِ والبصرِ، مع أنهما من حيث هُمَا سمعٌ وبصرٌ يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ، فَكُلُّ الحيواناتِ تسمعُ وتبصرُ؛ ولذا وصفَ نفسَه بالسمعِ والبصرِ بعدَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يعني: لا تَنْفِ عَنِّي سَمْعِي وَبَصَرِي بدعوى

أنكَ إن أَثْبَتَهُمَا كنتَ مُشَبِّهًا لي بالحيواناتِ التي تسمعُ وتبصرُ، لا. أَثْبِتْ لِي صفةَ سَمْعِي وبصري إثباتًا مُرَاعًى فيه قَوْلِي قَبْلَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ولأجلِ هذه الحكمةِ قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. فأولُ هذين الأَصْلَيْنِ - الذي هو الأساسُ الأكبرُ للتوحيدِ والصلةِ بِاللَّهِ صلةً صحيحةً -: تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا مِنْ خَلْقِهِ بِأَيِّ شيءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ. الأساسُ الثاني: هو أن لا تتنطعَ - أيها المسكينُ - وتنفيَ عن اللَّهِ وصفًا مَدَحَ به نفسَه، أو أَثْنَى عليه به رسولُه، بل أَثْبَتَ له هذا الوصفَ مُرَاعِيًا في ذلك أنه (جل وعلا) ليس كمثلِه شيءٌ، كما قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. فعلينا أن نُنَزِّهَ اللَّهَ عن مُشَابَهَةِ الخلقِ، وعلينا أن نُصَدِّقَ اللَّهَ بما وَصَفَ به نفسَه، ونُصَدِّقَ رسولَه بما وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ، ولا يخطرُ في عُقُولِنَا التشبيهُ بصفاتِ المخلوقين. ومَنْ المخلوقون حتى تُشْبِهَ صفاتُهم صفاتِ خالقِهم؟ أليسوا أثرًا مِنْ آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ وكيف تُشْبِهُ الصنعةُ صانعَها؟ ولو تَنَطَّعَ مُتَنَطِّعٌ وقال: نحن ما عَرَفْنَا صفةَ سمعٍ ولا بصرٍ مُنَزَّهَةً عن صفةِ الخلقِ، وما عَلِمْنَا صفةَ وجهٍ منزهة عن صفاتِ الخلقِ، وما عَلِمْنَا كيفيةَ صفةِ استواءٍ منزهةً عن استواءاتِ الْخَلْقِ، فَبَيِّنُوا لنا كيفيةَ هذه الصفاتِ حتى نعقلَ كيفيةً منزهةً نَعْتَقِدُهَا. فنقول في هذا: قال مالكُ بنُ أنسٍ: السؤالُ عن هذا

بدعةٌ (¬1). ولكن نَتَنَزَّلُ معه ونقولُ: أيها المتنطعُ: هَلْ عَرَفْتَ كيفيةَ الذاتِ الكريمةِ المقدسةِ المتصفةِ بهذه الصفةِ؟ فلا بد أن يقولَ: لا، فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الاتصافِ بهذه الصفاتِ متوقفةً على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ. هذانِ أَصْلاَنِ: الأولُ منهما: تنزيهُ خالقِ السماواتِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا مِنْ خَلْقِهِ. الثاني: تصديقُه فيما وَصَفَ به نفسَه، وعدمُ تكذيبِه، وتصديقُ رسولِه بما وَصَفَ به رَبَّهُ تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] فأولُ الآيةِ تنزيهٌ من غيرِ تعطيلٍ، وآخِرُهَا إثباتٌ للصفاتِ من غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، وإن كانت الحيواناتُ تسمعُ وَتُبْصِرُ. الأصلُ الثالثُ: هو أن نقطعَ طَمَعَنَا عن إدراكِ كيفيةِ صفاتِ اللَّهِ (جل وعلا). وَاللَّهُ قد نَصَّ على عجزِ الخلقِ عن الإحاطةِ بإدراكِ كيفياتِه. أَشَارَ إلى ذلك في السورةِ الكريمةِ - سورةِ طه - حيث قَالَ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: آية 110]. هذه الأصولُ الثلاثةُ: الأولُ: تنزيهُ اللَّهِ. ¬

(¬1) الرد على الجهمية للدارمي ص 33، البيهقي في الأسماء والصفات ص 515، اللالكائي رقم (664)، شرح السنة (1/ 171)، مختصر العلو رقم (208)، فتح الباري (13/ 406 - 407).

الثاني: الإقرارُ بصفاتِ اللَّهِ مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ على غِرَارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. الثالثُ: قَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفيةِ. وأنا أُؤَكِّدُ لكم - أيها الإخوانُ - أَنَّا جميعًا سننتقلُ من هذه الدارِ إلى القبورِ، وننتقلُ سريعًا من القبورِ إلى عَرَصَاتِ القيامةِ. ولا شَكَّ أننا هناك نُناقَشُ عَنْ كُلِّ ما قَدَّمْنَا، وما أَسْلَفْنَا من خيرٍ أو شَرٍّ، ومما يسألنا اللَّهُ عنه: هل ما مدحتُ به نفسي وأثنيتُ به على [نفسي] (¬1) أو أَثْبَتَهُ لِي [رَسُولِي يُعَدُّ تَشْبِيهًا؟ لو مُتُّمْ يا إخواني وأنتم على هذا الْمُعْتَقَدِ، أترون اللَّهَ يومَ القيامةِ يقولُ لكم: لِمَ نَزَّهْتُمُونِي عن مشابهةِ الخلقِ؟ ويلومُكم على ذلك؟ لا وكلاَّ، وَاللَّهِ لا يلومُكم على ذلك. أترونَ أنه يلومُكم على أنكم آمَنْتُمْ بصفاتِه، وَصَدَّقْتُمُوهُ فيما أَثْنَى به على نفسِه، ويقولُ لكم: لِمَ آمَنْتُمْ بِمَا أَثْبَتُّ لنفسي .. ] (¬2) ولا بما قد نَصَّ رسولي - صلى الله عليه وسلم - فيما أَثْنَى به عَلَيَّ، تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ. لاَ وكلاَّ، أبدًا، فهو طريقُ سلامةٍ محققةٌ، ولا يقولُ له: لِمَ لاَ تَدَّعِي أن عقلَك المسكينَ القصيرَ محيطٌ بكيفياتِ صِفَاتِي؟ لا أبدًا. فهذه طريقُ سلامةٍ محققةٌ، وهي التي سارَ عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والسلفُ الصالحُ، والقرونُ المشهودُ لهم بالخيرِ، بيضاءَ ليلُها كنهارِها؛ لأنَّ على العبدِ أن يُنَزِّهَ خالقَه عن مشابهةِ الخلقِ، وأن يؤمنَ ¬

(¬1) في هذين الموضعين انقطع الصوت في التسجيل. وقد استدركتُ النقص من المواضع التي تكلم فيها الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة بنحو هذا الكلام، كما في محاضرة الصفات ص44 - 45، ومن كلامه في هذا التفسير كما في الأنعام عند الآيتين (103، 158)، الأعراف (54، 99، 144)، التوبة (21). (¬2) نفس المصدر السابق.

بصفاتِ رَبِّهِ، ولا يُكَذِّبَ رَبَّهُ، ولا نَبِيَّهُ، إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، ويعرف قَدْرَ عقلِه، ويعلمَ أنه عاجزٌ عن الإحاطةِ بكيفياتِ خالقِ السماواتِ والأرضِ. الأصلُ الأولُ بقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والثاني بقولِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعدَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والثالثُ بقولِه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} فَعَلَيْنَا - معاشرَ المؤمنين - أن نُمِرَّ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها، ونصدقَ اللَّهَ بما مَدَحَ به نفسَه، ونعلمَ أنه لا يمدحُ نفسَه بنقصٍ ولا باطلٍ، ولا يُثْنِي على نفسِه إلا بكمالٍ وجلالٍ، ونُنَزِّهَ ربَّنا عن صفاتِ المخلوقين، فبالتنزيهُ نَسْلَمُ من ورطةِ التشبيهِ، وبالإيمانِ والتصديقِ بصفاتِ اللَّهِ نَسْلَمُ من ورطةِ التعطيلِ ونكون مؤمنين موحدين منزهين، لسنا مُرْتَطِمِينَ في تشبيهٍ، ولسنا مرتطمين في تعطيلٍ، هذا هو الوجهُ فيما جاءَ من هذه الصفاتِ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ. فالمعنَى: أن ذلك العملَ خالصٌ لِلَّهِ، لا يشوبُه رياءٌ ولا سُمْعَةٌ ولا غَرَضٌ من أغراضِ الدنيا. وهذا معنى قولِه: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. وقولُه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 52] هذه الآيةُ والآياتُ التي نَزَلَتْ مثلها في قضيةِ نوحٍ في سورةِ هودٍ (¬1)، وفي سورةِ ¬

(¬1) وهي قوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [هود: آية 29] وقوله في الآية بعدها: {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [هود: آية 30] وذلك بعد قولهم له: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: آية 27].

الشعراءِ (¬1)، معناها: أن الكفارَ قالوا له: هؤلاء الضعافُ النَّتْنَى الذين مَعَكَ، ليس لهم إيمانٌ، ولا معرفةٌ بالله، ولا التجاءٌ إلى الله، وإنما هم يقولونَ هذا الكلامَ لِتَسْمَعَهُمْ وتعطيَهم شيئًا يأكلونه ويشربونه، فَهُمْ يراؤونَ لأجلِ الطعامِ. اللَّهُ (جل وعلا) بَرَّأَهُمْ من هذه الدعوى، وَبَيَّنَ أنهم مُخْلِصُونَ لِلَّهِ، وقال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ثم قال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} يعني: عَمَلُهُمْ لهم، صَالِحُهُ لهم وَطَالِحُهُ عليهم، ولستَ مأخوذًا بالتنقيبِ عنهم: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ} يعني: لستَ مُحَاسَبًا بما يفعلونَ، وليسوا مُحَاسَبِينَ بما تفعلُ، فعليكَ أن تأخذَ بالظاهرِ من أحوالِهم - الإيمان - مع أن الله نَصَّ له على أن باطنَهم سليمٌ، وأن نِيَّتَهُمْ صحيحةٌ، وأنهم بَرِيئُونَ مما قَالَ الكفارُ حيث قال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. ثم قال: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} قال بعضُ العلماءِ (¬2): الفاءُ الأُولَى: {فَتَطْرُدَهُمْ} في جوابِ النفيِ، والفاءُ الأُخْرَى من جوابِ النهيِ. والمعنى: لا تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فتكونَ من الظالمين، ما عَلَيْكَ من حسابِهم من شيءٍ فَتَطْرُدَهُمْ. أي: لو كان حسابُهم عليكَ، لو كانوا فَعَلُوا في الباطنِ شيئًا أَمْكَنَ أن تطردَهم؛ لئلا يكونَ فَعَلُوهُ في الباطنِ (¬3). لكن لو فَرَضْنَا أنهم فَعَلُوا في الباطنِ غيرَ طَيِّبٍ فَحِسَابُهُمْ عليهم لا عليكَ، فَأَيُّ موجب تطردُهم ¬

(¬1) وهي قوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء. آية 114]. (¬2) انظر: القرطبي (6/ 434)، البحر المحيط (4/ 138)، الدر المصون (4/ 645). (¬3) المعنى المُراد تقريره هو: لو كان حسابهم موكلا بك فوقع منهم شيء في الباطن فلك أن تطردهم لأجل ما وقع منهم في الباطن.

عليه، فعلى كُلِّ حالٍ فقولُه: {فَتَطْرُدَهُمْ} قولاً واحدًا منصوبٌ في جوابِ النفيِ؛ لأنها فاءُ السببيةِ بعدَ النفيِ نحو: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (¬1) [فاطر: آية 36] {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ}. وقولُه: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} فيه وَجْهَانِ: أحدُهما: أنه معطوفٌ عليه: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} بسببِ طَرْدِهِمْ. الثاني: أنه في جوابِ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} فتكونَ من الظالمين. وأن الجملةَ اعتراضيةٌ بين هذا وهذا. والطردُ: الإبعادُ. والظالمونَ: قَدْ قَدَّمْنَا أن معناهُ وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِهِ (¬2). وَمَنْ طَرَدَ مُسْلِمًا طَيِّبًا كَرِيمًا يستحقُ التقديرَ والإحسانَ على خَاطِرِ خَبِيثٍ خَسِيسٍ - يستحقُّ الطردَ - فقد وَضَعَ الأمرَ في غيرِ مَوْضِعِهِ، حيث طَرَدَ مَنْ يَسْتَحِقُّ القُرْبَ على خاطرِ مَنْ يستحقُّ البُعْدَ؛ ولذا قال: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}. (¬3) وهذه القضيةُ أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بأن الرؤساءَ يقولون للأنبياءِ: اطْرُدُوا هؤلاءِ النَّتْنَى الضعافَ، لا نؤمنُ بكم ومعكم هؤلاء. والدليلُ على هذا: أن نُوحًا - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه وعلى نَبِيِّنَا - أولَ الأنبياءِ، قالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 296). (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬3) مضى قريبا.

هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: آية 27] وَطَلَبُوا منه أَنْ يَطْرُدَهُمْ؛ ولذا قَالَ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْما تَجْهَلُونَ} [هود: آية 29] وقال في شَأْنِهِمْ: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدتُّهُمْ} [هود: آية 30] وقال في هذا في سورةِ الشعراءِ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: آية 111] وَبَيَّنُوا له أن أعمالَهم رياءٌ - كما قال هؤلاء في أصحابِ النبيِّ - فقال نوحٌ: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)} [الشعراء: الآيتان 112 - 113] ليس عَلَيَّ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، ولا عليهم من حِسَابِي مِنْ شَيْءٍ، ثم قال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء. آية 114] لا أَطْرُدُهُمْ أبدًا. فالقصةُ شبيهةٌ بالقصةِ؛ ولذا قال هنا: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}. [5/أ] / {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام: الآيات 53 - 55]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: آية 53]. قولُه: {كَذَلِكَ} أي: وكذلك الفتونُ المتقدمُ الذي فَتَنَ اللَّهُ فيه أغنياءَ العربِ ورؤساءَهم فَتَنَهُمْ بضعفاءِ المسلمين حيث احتقروهم، وَأَبَوْا أن يُجَالِسُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهم مَعَهُ في المجلسِ، وقالوا له: اطْرُدْهُمْ عَنَّا، فَإِنَّا لاَ نرضى أن نجلسَ معهم. حتى أنزلَ اللَّهُ في ذلك ما أَنْزَلَ. {وَكَذَلِكَ} أي: كما فَتَنَ هؤلاء الأغنياءَ بهؤلاء الفقراءِ، كذلك

فَتَنَّا بعضَهم ببعضٍ، فاللَّهُ يَفْتِنُ بعضَ الناسِ ببعضٍ، يفتنُ الغنيَّ بالفقيرِ، والفقيرَ بِالْغَنِيِّ. وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا أن الفتنةَ أُطْلِقَتْ في القرآنِ ثلاثةَ إطلاقاتٍ، وبعضُهم يقولُ: أربعةُ إطلاقاتٍ (¬1)، أما الإطلاقاتُ الثلاثُ التي لم يُخَالِفْ فيها أَحَدٌ: فمنها إطلاقُ الفتنةِ على (الاختبارِ)، وهو أشهرُها في القرآنِ. ومنها إطلاقُ الفتنةِ على (الإحراقِ بالنارِ)؛ لأن العربَ تقولُ: فَتَنْتُ الذهبَ، إذا سَبَكْتَهُ في النارِ وَأَذَبْتَهُ، أي: لِيَتَبَيَّنَ أخالصٌ هو أم زَائِفٌ. ومن إطلاقِ الفتنةِ على مُطْلَقِ الوضعِ في النارِ قولُه تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: آية 13] أي: يُحْرَقُونَ بالنارِ - والعياذُ بِاللَّهِ - وقولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: آية 10] أي: أَحْرَقُوهُمْ بنارِ الأخدودِ على أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ. وكذلك تُطْلَقُ الفتنةُ على نتيجةِ الاختبارِ إن كانت سيئةً خاصةً، كالمعاصِي والكفرِ، فإن الكفارَ والعصاةَ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بالأوامرِ والنواهِي، فكانت نتيجةُ الاختبارِ فيهم غيرَ محمودةٍ حيث كَفَرُوا وَعَصَوْا؛ وَلِذَا يُطْلَقُ اسمُ (الفتنةِ) على الكفرِ والمعاصِي، ومنه قولُه تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: آية 193] أي: حَتَّى لا يَبْقَى شِرْكٌ. وهذا أَصَحُّ التفسيرين، والدليلُ على صحةِ هذا التفسيرِ: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (¬2). ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: فتن) ص623، نزهة الأعين النواظر ص477، إصلاح الوجوه والنظائر ص347. (¬2) جاء ذلك في عدد من الأحاديث رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: 1 - ابن عمر (رضي الله عنه)، عند البخاري في الإيمان، باب: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] رقم (25)، (1/ 75)، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. حديث رقم (22)، (1/ 53). 2 - أبو هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة، حديث رقم (1399)، (3/ 262)، ومسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. حديث رقم (20، 21)، (1/ 51، 52). 3 - جابر (رضي الله عنه)، عند مسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ورقمه في الباب (35)، (1/ 53). 4 - أنس (رضي الله عنه)، عند البخاري في الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة، حديث رقم (392)، (1/ 497). ... 5 - النعمان بن بشير (رضي الله عنه)، عند النسائي في تحريم الدم، حديث رقم (3979)، (7/ 79 - 80). 6 - أوس بن حذيفة (رضي الله عنه)، عند النسائي في تحريم الدم الأحاديث (3980 - 3983)، (7/ 80 - 81).

فغايةُ «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» في هذا الحديثِ الصحيحِ يُفَسِّرُ الغايةَ في قولِه: {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: لاَ يَبْقَى أحدٌ إلا وهو يشهدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ على أظهرِ التفسيرين، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ بعدَ القرآنِ: السنةُ الصحيحةُ؛ لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قِيلَ له: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: آية 44] فالسنةُ بيانٌ للقرآنِ. الرابعُ: إطلاقُ الفتنةِ بمعنَى (الحجةِ)، كما قالَه بعضُ العلماءِ في قولِه المتقدمِ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: آية 23] أي: حُجَّتُهُمْ {إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} على القولِ بذلك. والمرادُ بالفتنةِ في هذه الآيةِ التي نحن بِصَدَدِهَا: الاختبارُ والابتلاءُ. أي: {فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} أَيِ: اخْتَبَرْنَا وَابْتَلَيْنَا بعضَهم

ببعضٍ. فالأغنياءُ يُبْتَلَوْنَ بالفقراءِ، والفقراءُ يُبْتَلَوْنَ بالأغنياءِ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الفرقانِ: أن هذا الابتلاءَ يحتاجُ إلى صبرٍ، وأن لله فيه حكمةً كما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: آية 20] غالبًا الأغنياءُ يُبْتَلَوْنَ وَيُفْتَنُونَ بما يُعْطِيهِ اللَّهُ للفقراءِ من الدِّينِ والإيمانِ بِاللَّهِ (جل وعلا)، والفقراءُ غَالِبًا يُبتلون بما يعطيه اللَّهُ للأغنياءِ من الدنيا، فيقولُ الفقراءُ: كيف أُعْطِيَ هؤلاء الغنَى والدنيا، ونحن خيرٌ منهم ولم نُعْطَهَا؟ وَيَحْسُدُونَهُمْ على غِنَاهُمْ، كما أن الأغنياءَ يَقُولُونَ: كيف يكونُ هؤلاء الفقراءُ على حَقٍّ وَدِينٍ ويكونون أفضلَ منا ونحن خيرٌ منهم؟ وهذا النوعُ من الابتلاءِ هو المقصودُ هنا. أي: جَعَلْنَا فقراءَ المسلمين ابتلاءً وامتحانًا لأغنياءِ الكفارِ، حيث قالوا: هؤلاءِ الضعفاءُ كيف يَعْبَأُ اللَّهُ بهم وهم لا جَاهَ لهم ولا مَكَانَةَ؟ وَاللَّهِ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بهم، ولو كان ما هم عليه فيه خيرٌ لَكُنَّا سابقين إليه؛ لأَنَّا أفضلُ منهم وَأَوْلَى منهم بِكُلِّ خيرٍ. كما قال تعالى عن الكفارِ في هذا الموضوعِ: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: آية 11] وكما قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: آية 73] أَيُّنَا أحسنُ مجالسَ وأكثرُ غِنًى وأثاثًا؟ يَعْنُونَ: أَنَّا أفضلُ منكم، ولو لم نكن أفضلَ عند اللَّهِ منكم في الآخرةِ لَمَّا فَضَّلَنَا عليكم في الدنيا!! يَقِيسُونَ الدنيا على الآخرةِ، ويحتقرون المسلمين، ويحلفونَ أن هؤلاء الضعفاءَ لا يرحمهم اللَّهُ، ولا يَعْبَأُ بهم لسقوطِ مكانتِهم فيما يَظُنُّونَ. كما يأتي في الأعرافِ في قولِه: {أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: آية 49] وكانوا إذا رَأَوْهُمْ

يحتقرونهم، ويسخرونَ منهم، ويغمزُ بعضُهم بعضًا فيقولون: هؤلاءِ الضعفاءُ الفقراءُ، والأعبُدُ الْمَوَالِي الذين لا يَعْبَأُ بهم أَحَدٌ هم الذين يقولُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -: إن لهم عندَ اللَّهِ المكانةَ العظيمةَ، وأنهم خيرٌ منا، كما قال اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: آية 30] أي: يغمزُ بعضُهم بعضًا احتقارًا لضعفاءِ المؤمنين، كانوا يسخرونَ منهم في دارِ الدنيا، ويتغامزونَ عليهم، ثم إنه يومَ القيامةِ يكونُ أولئك الضعفاءُ في أَعْلَى عِلِّيِّينَ، ويسخرونَ في ذلك الوقتِ مِنَ الذين كانوا يَسْخَرُونَ منهم، كما في قولِه: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: آية 212] وقد نَصَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى في السورةِ الكريمةِ - سورةِ الصافاتِ - على أن أهلَ الجنةِ يمكنُهم أن ينظروا أهلَ النارِ، وقد يتكلمونَ مع بعضِهم، كما جاءَ في قصةِ ذلك الرجلِ المقصوصِ خبرُه في الصافاتِ، وذلك كما بَيَّنَهُ المفسرون (¬1): أنه كان رَجُلاَنِ شريكين في تجارةٍ كثيرةٍ، ثم اقْتَسَمَا، وَأَخَذَ كُلٌّ منهما نصيبَه، وأحدُهما مؤمنٌ، والثاني كافرٌ، وكان المؤمنُ ينصحُ الكافرَ لِلدِّينِ، والكافرُ يرشدُ المؤمنَ إلى الكفرِ وإنكارِ البعثِ - والعياذُ بالله - فتزوجَ الشريكُ الكافرُ امرأةً حسنةً جميلةً، وأعطاها مالاً طائلاً، فقال شريكُه المؤمنُ: اللَّهُمَّ إن فلانًا تَزَوَّجَ امرأةً جميلةً، وَأَعْطَاهَا كذا وكذا، وإني أَخْطُبُ إليكَ من نساءِ الجنةِ بمثلِ المهرِ الذي تَزَوَّجَ به، وَتَصَدَّقَ بقدرِ ذلك المهرِ. ثم إن فلانًا - الكافرَ - اشترى بساتينَ وَضِيَاعًا، فقال أيضا صاحبُه: اللهم إن فلانًا اشترى كذا وكذا بكذا، وإني ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (23/ 59)، وأورد السيوطي في الدر (5/ 275 - 276) روايات متعددة في هذا المعنى.

أشتري منكَ في الجنةِ بذلك الثمنِ، فَتَصَدَّقَ بالثمنِ على الفقراءِ والمساكين. حتى افْتَقَرَ ذلك المؤمنُ، وجاء لشريكِه الكافرِ يطلبُ أن يكونَ عندَه أجيرًا، فامتنعَ أن يُشَغِّلَهُ، ولاَمَه وَوَبَّخَهُ، فدخلَ ذلك المؤمنُ الجنةَ وذلك الكافرُ النارَ، وكان ذلك المؤمنُ يتحدثُ [مع] جلسائِه [في] (¬1) الجنةِ، وقال لهم: كان لي في الدنيا صديقٌ صاحِبٌ من أمرِه كيت وكيت، فاطَّلِعوا معي لِنَرَى حالَه وما هو عليه في النارِ، فَأَخْبَرُوهُ أنهم لا يعرفونَه معرفةً سابقةً، ولا حاجةَ لهم فيه، وأنه هو إن شَاءَ يَطَّلِعُ لِيَنْظُرَ إليه، فَاطَّلَعَ فرآه في النارِ، وقال له ذلك الكلامَ الذي ذَكَرَهُ اللَّهُ في الصافاتِ، أشار اللَّهُ إلى هذه القصةِ بقولِه في أهلِ الجنةِ: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} إِنْكَارًا للبعثِ {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} إِنَّا لَمُجَازَوْنَ؟ لا يكونُ ذلك. إِنْكَارًا منه للبعثِ {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} [الصافات: الآيات 48 - 57]. ومعنى قولِه (جل وعلا) هنا: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي: جَعَلْنَا بعضَهم فتنةً لبعضٍ، كما جَعَلَ اللَّهُ فقراءَ المسلمين الضعفاءَ الذين ليس لهم مالٌ ولا جاهٌ في ذلك الوقتِ كبلالٍ وعمارٍ وصهيبٍ وما جرى مَجْرَى ذلك من الفقراءِ الذين لَيْسُوا أصلاً من قريشٍ ولا مالَ عندهم فَتَنَ اللَّهُ بهم أولئك الأغنياءَ. كأن اللَّهَ (جل وعلا) قال: إنه من حكمتِه أن يَفْتِنَهُمْ بهم ليقولوا هذا القولَ مُحْتَقِرِينَ ¬

(¬1) في الأصل: «في جلسائه في الجنة». وهو سبق لسان.

لهؤلاء، ليسوا عارفينَ بحقيقةِ الأمرِ: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} لأَجْلِ أن يقولوا. أي: أن يقولَ أولئك الأغنياءُ محتقرين لأولئك الفقراءِ إنكارًا: {أَهَؤُلاَءِ} يَعْنُونَ: أهؤلاءِ المساكينُ الفقراءُ الذين لاَ يُعْبَأُ بهم {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فَأَعْطَاهُمُ المنَّة العظمى، وهي التوفيقُ والإيمانُ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ جل وعلا، والفضل برضا اللَّهِ (جل وعلا) عَنْهُمْ، إنكارًا لهم أن اللَّهَ يَمُنُّ على الضعفاءِ في زعمِهم أنهم أَحَقُّ بذلك منهم، وأن الذي هم عليه لو كان حَقًّا لكان أولئك الأغنياءُ سابقين إليه. كما قال عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: آية 11] وقال الواحدُ منهم: {وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: آية 50] {وَلَئِن رُّدِدْتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: آية 36] {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم: آية 77] هذا كُلُّهُ جهلٌ منهم، يظنونَ أن اللَّهَ ما أعطاهم الغنَى والجاهَ في الدنيا إلا لأنهم يستحقونَ ذلك، وأن لهم مكانةً عِنْدَ اللَّهِ وشرفًا استحقوا به ذلك، واللَّهُ (جل وعلا) كَذَّبَهُمْ مِرَارًا في هذه المقالةِ الكاذبةِ، قال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ} يعني: التي تفتخرونَ بها في الدنيا وَتَقِيسُونَ عليها الآخرةَ {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: آية 37] وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: الآيتان 55 - 56] وَبَيَّنَ أن ذلك استدراجٌ من اللَّهِ، كما قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: الآيتان 182 - 183] {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: آية 178] وَلِذَا قال هنا: {لِّيَقُولوا} مُحْتَقِرِينَ ضعفاءَ المسلمين {أَهَؤُلاَءِ} الضعفاء الذين لا مكانةَ لهم،

ولا مالَ ولا جاهَ {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي: أَعْطَاهُمُ الْمِنَّةَ العظمى برضاه ودِينِه وَهُدَاهُ {مِّنْ بَيْنِنَا} أي: لم يُعْطِنَا نحن ذلك؟ كما قال قومُ صالحٍ عنه: {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: آية 24] إلى أن قالوا: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: آية 25] أجاءه الوحيُ من اللَّهِ مِنْ بَيْنِنَا، ولم يكن أَفْضَلَنَا ولا أَغْنَانَا؟ هذا لا يمكنُ أبدًا!! كما قال كفارُ مكةَ: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: آية 31] صاحبِ مالٍ وجاهٍ؛ لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ عندَه الغنَى، وقد رَدَّ اللَّهُ عليهم بقولِه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: آية 32] لاَ وَكَلاَّ؛ ولذا قال هنا: {لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} واللامُ هنا (لامُ كَيْ)، وهي للتعليلِ، وَاللَّهُ يبتلي الخلقَ ليقعَ منهم ما يشاء اللَّهُ من خيرٍ وَشَرٍّ، وله في ذلك حكمةٌ، وَبَيَّنَ أنه يبتلي لينجحَ بعضُ الناسِ في ذلك الامتحانِ، ويسقطَ بعضُهم في ذلك الامتحانِ، أوضحَ ذلك في سورةِ المدثرِ، حيث قال (جل وعلا) - لأنه لَمَّا جاء في القرآنِ أن خَزَنَةَ جهنمَ تسعةَ عشرَ مَلَكًا، كان هذا فتنةً للكفارِ، حيث قالوا: كيفَ ونحنُ الآلافُ المؤلفةُ يَقْهَرُنَا تسعةَ عشرَ شخصًا؟ فقال لهم واحدٌ منهم كان قَوِيًّا: أنا أكفيكم منهم كذا وكذا - قدرَ سبعَ عشرةَ - وأنتم تقتلون الباقيَ فَنَحْتَلُّ الجنةَ، وندخلُها قَهْرًا (¬1)!! ولذا قال اللَّهُ -: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} ثم بَيَّنَ نتيجةَ هذه الفتنةِ وهذا الاختبارِ، وَصَرَّحَ بأن قومًا ناجحونَ فيه، وقومًا بعكسِ ذلك. قال: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ثم قال في غيرِ الناجحين: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (29/ 159 - 160).

مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} كذلك قولُه هنا: {لِّيَقُولوا} محتقرين ضعفاءَ المسلمين: {أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا} لا يمكنُ ذلك؛ [لأنه لو كان ما أعطاهم اللَّهُ خيرًا لأعطانا] (¬1)؛ لأنَّا أَوْلَى منهم وَأَعْظَمُ وأحقُّ بالخيرِ {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: آية 11] رَدَّ اللَّهُ عليهم هنا بقولِه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} هذا النوعُ من الاستفهامِ هو الاستفهامُ الْمُسَمَّى بـ (استفهامِ التقريرِ) والمقصودُ من استفهامِ التقريرِ ليس السؤالَ عن شيءٍ يفهمُه السائلُ، بل المرادُ به: حَمْلُ الْمُخَاطَبِ على أن يُقِرَّ فيقولَ: «بلى»، ولا يكونُ استفهامُ التقريرِ إلا في شيءٍ لاَ يمكنُ أن يُنَازَعَ فيه، وإن كان يمكنُ فيه النزاعُ فَالْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ الْمُخَاطِبُ أنه لاَ ينازعُ في ذلك الشيءِ، وأنه مُقِرٌّ به. فمثالُ الذي لا يمكنُ أن يكونَ فيه نزاعٌ قولُه هنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الجوابُ: بلى، هو واللَّهِ أَعْلَمُ. ولا يمكن جوابٌ غير هذا لأحدٍ. أما الجوابُ الذي يمكنُ الخلافُ فيه، إلا أن المخاطِبَ يعلمُ أن المخاطَبَ مُقرٌّ به ويكفيه ذلك عن غيرِه: فَكَقَوْلِ جريرٍ يمدح عبدَ الملكِ بنَ مروانَ (¬2): أَلَسْتُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ فهو يعلمُ أن الممدوحَ يعتقدُ هكذا، وإن كان غيرُه قد يخالفُ ويقولُ: ليسوا أَنْدَى الناسِ بطونَ راح. وقولُه: {بِالشَّاكِرِينَ} هذه (الباءُ) التي تأتي بعدَ (ليس) وبعدَ (ما) النافيةِ باطرادٍ إنما فائدتُها أنها تدلُّ على توكيدِ النفيِ، فالنفيُ الذي تدخلُ فيه هذه (الباءُ) أَوْكَدُ من غيرِه، فإن هذه (الباءَ) ¬

(¬1) في الأصل: ((لأن الله لو كان ما أعطاهم خيراً لأعطانا)) .. (¬2) انظر: الخصائص (2/ 463)، (3/ 269)، مغني اللبيب (1/ 16).

تُؤَكِّدُ الإسنادَ الخبريَّ في حالةِ السلبِ، كما يُؤَكَّدُ الإسنادُ الخبريُّ بـ (إن) و (اللام) في حالةِ الإثباتِ. {الشَّاكِرِينَ} جمعُ الشاكرِ. و (الشاكرُ): اسمُ فاعلِ الشكرِ، و (الشكرُ) أصلُه في لغةِ العربِ: الظهورُ (¬1). ومنه: ناقةٌ شكورٌ. يظهرُ عليها السِّمَنُ، ومنه سَمَّتِ العربُ (العُسْلُوج) الذي ينبتُ في الشجرةِ التي كانت مقطوعةً إذا ظَهَرَ فيها غصنٌ جديدٌ بعدَ أن لم يَكُنْ، قالوا: (شَكِيرٌ)؛ لأنه يظهرُ بعدَ أن لم يكن ظاهرًا. هذا أصلُه في اللغةِ. وهو في القرآنِ (¬2) يُطْلَقُ من الربِّ لعبدِه، ومن العبدِ لِرَبِّهِ، كما قال في شكرِ الربِّ لعبدِه: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 158] {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: آية 34] وقال في شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ هنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: آية 53] {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: آية 3]. قال بعضُ العلماءِ: معنى شُكْرِ اللَّهِ لعبدِه: هو إثابتُه الثوابَ الجزيلَ من عَمَلِهِ القليلِ. ومعنى شكرِ العبدِ لِرَبِّهِ: هو أن يصرفَ العبدُ نِعَمَ رَبِّهِ فيما يُرْضِي رَبَّهُ. فعلينا جميعًا أن نصرفَ نِعَمَ رَبِّنَا فيما يُرْضِيهِ، فهذه العيونُ التي فتحَ لنا في أَوْجُهِنَا على هذا الشكلِ الغريبِ شُكْرُهَا عندَ اللَّهِ أن لاَ ننظرَ بها في شيءٍ إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بها (جل وعلا). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

وهذه اليدُ التي فَرَّقَ اللَّهُ أصابَعَها، وشدَّ رؤوسها بالأظفارِ، شُكْرُ نعمةِ مَنْ أنعمَ بها أن لاَ نَمُدَّهَا ولا نبطشَ بها إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بِهَا. وهذه الرِّجْلُ التي جَعَلَهَا اللَّهُ للإنسانِ يمشي عليها إلى حيثُ يشاءُ، شُكْرُ نِعْمَتِهَا أن لا يمشيَ بها الإنسانُ إلا إلى شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بها. وهكذا، فالجاهُ إذا مَنَّ اللَّهُ على إنسانٍ بجاهٍ وقبولِ كلمةٍ فشُكْرُ هذا أن لا يستغلَّ ذلك الجاهَ والنفوذَ إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهُ وَمَنَّ به، وكذلك الأموالُ، شُكْرُ المالِ أن لا يصرفَه العبدُ ولا يفعلَ فيه إلا شيئًا يُرْضِي خَالِقَهُ (جل وعلا) الذي مَنَّ به. وفي (¬1) الحقيقةِ أن الإنسانَ يفعلُ أمورًا يعرقُ منها الجبينُ، ويخجلُ منها العاقلُ؛ لأن هذا الإنسانَ المسكينَ الضعيفَ يمنُّ عليه هذا الخالقُ الجليلُ العظيمُ بهذه النِّعَمِ، ثم يصرفُ هذه النعمَ أمامَ رَبِّهِ فيما يُسْخِطُ رَبَّهُ (جل وعلا) وَيُغْضِبُهُ، فهذا أمرٌ يعرقُ منه الجبينُ، وهو عظيمٌ جِدًّا، فعلى المسلمِ أن يستحييَ من رَبِّهِ الذي خَلَقَهُ وَأَنْعَمَ عليه، ويحترزُ من أن يصرفَ نعمةً من نِعَمِ خالقِه إلا في شيءٍ يُرْضِي خَالِقَهُ (جل وعلا)، وعلى الأقلِّ إلا في شيءٍ لا يُسْخِطُ مَنْ خَلَقَهُ (جل وعلا) وَيُغْضِبُهُ عليه. هذا أصلُ شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ كما قالَه العلماءُ. وقد قَدَّمْنَا معنى الشكرِ لغةً (¬2). ومادةُ «شَكَرَ» لها حَالَتَانِ (¬3): قد تَتَعَدَّى إلى النعمةِ، وَتَعَدِّيهَا إلى النعمةِ تتعدى إليها بنفسِها بلا حرفٍ بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، كأن تقولَ: «شكرتُ نعمةَ زيدٍ». ومنه قولُه جل وعلا: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬3) انظر: بصائر ذوي التمييز (3/ 334)، الدر المصون (1/ 357)، (2/ 184).

{أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: آية 19] أما إذا أوقعتَ الشكرَ على نفسِ الْمُنْعِمِ، كأن يُنْعِمَ عليك إنسانٌ فتقول له: «أنا أشكرُ لكَ». فاللغةُ العربيةُ الفصحى هي تَعْدِيَتُهُ باللامِ، ولا تكادُ العربُ تُعَدِّيهِ بنفسِه، تقولُ: «شكرتُ لكَ، وشكرَ اللَّهُ لكَ». ولا تقول: «شَكَرْتُكَ». وتقول: «أَحْمَدُ اللَّهَ وأشكرُ له». ولا تقولُ: «أشكرُه». فاللغةُ الفصحى هي تعديةُ (شَكَرَ) إلى المنعمِ باللامِ لا بالفعلِ بنفسِه. [هذه] (¬1) هي لغةُ القرآنِ، وهي اللغةُ الفصحى بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، ولم يأتِ في القرآنِ مادةُ (الشكر) مُعَدًّاة إلى المنعمِ إلا باللامِ، نحو قولِه: {أَنِ اشْكُرْ لِي} ولم يقل: «أَنِ اشْكُرْنِي» {وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: آية 14] {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: آية 152] ولم يَقُلْ: «واشكروني» فَيُعَدِّيهَا للمفعولِ. وَظَنَّ قومٌ أن تعديةَ (شكر) إلى المنعمِ بالفعلِ نفسِه لاَ بالحرفِ أنها لحنٌ، وقالوا: (أشكره) لحنٌ، و (شكرتُك) لحنٌ. والتحقيقُ: أنه ليس بلحنٍ، وأنه لغةٌ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، إلا أن تعديتَه باللامِ أجودُ. ومن إطلاقِ مادةِ (الشكرِ) متعديةً إلى المنعمِ بنفسِها لا باللامِ قولُ أَبِي نُخَيْلَةَ (¬2): شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي فإن هذا الشاعرَ العربيَّ قال: «شكرتُك». ومن هذا المعنَى قولُ جميلِ بنِ معمرٍ الشاعرِ المشهورِ، قال (¬3): ¬

(¬1) في الأصل: هذا. (¬2) البيت في عيون الأخبار (3/ 165)، اللسان (مادة: شكر) (2/ 344). (¬3) ديوان جميل بن معمر ص102.

خَلِيْلَيَّ عُوْجَا الْيَوْمَ حَتَّى تُسَلِّمَا عَلَى عَذْبَةِ الأَنْيَابِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُمَا لِي سَاعَةً شَكَرْتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي قَبْرِي فقولُه: «شكرتُكما» لم يقل: «شكرتُ لَكُمَا» على هذه اللغةِ القليلةِ. وهذا معنى قولِه: {لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: آية 54]. {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في هذين الْحَرْفَيْنِ (¬1) ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات (¬2): قرأه ابنُ عامرٍ وعاصمٌ: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بفتحِ همزةِ الْحَرْفَيْنِ، وَوَافَقَهُمَا نافعٌ في فتحِ الحرفِ الأولِ، وَخَالَفَهُمَا فَكَسَرَ الثانيَ، وباقي السبعةِ يكسرُها في الحرفين {كتب ربكم على نفسه الرحمة إِنَّهُ من عمل منكم} ثم يقرؤون: {فَإِنَّهُ غفور رحيم} وَهُمْ: ابنُ كثيرٍ، ¬

(¬1) المراد بالحرفين: الهمزة في قوله {أَنَّهُ مَن عَمِلَ} والهمزة كذلك في قوله {فَأَنَّهُ غَفُورٌ}. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص194 - 195.

وأبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ, هذه هي قراءةُ السبعةِ في هذين الحرفين. ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} جمهورُ المفسرين (¬1) على أن المرادَ بـ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} هُمُ الفقراءُ، فقراءُ المؤمنين الذين طَلَبَ الكفارُ طَرْدَهُمْ وإبعادَهم وقتَ مُجَالَسَتِهِمْ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجمعَ اللَّهُ لهم بين ثلاثةِ أشياء تدلُّ على عِظَمِ مكانتِهم، وعِظَمِ منزلتِهم عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا)، وَإِنِ احْتَقَرَهُمُ الكفرةُ الفجرةُ: الأولُ: هو نَهْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عن أن يَطْرُدَهُمْ. وشهادةُ اللَّهِ لهم بالإخلاصِ والعبادةِ حيث قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. وَنَهَى النبيُّ عن طردِهم: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ} ثم في سورةِ الكهفِ أَمَرَهُ بالصبرِ معهم، وأن لا يقومَ حتى يقوموا {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ونهاه أن يطيعَ الكفرةَ فيهم {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: آية 28] ثُمَّ هنا أَمَرَهُ إذا جاؤوا أن يَتَلَقَّاهُمْ، ويُسلِّمَ عليهم، وَيُخْبِرَهُمْ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 376 - 380) (ولم يرجح هذا القول). وابن عطية (6/ 59) (وعزاه للجمهور) والقرطبي (6/ 435)، البحر المحيط (4/ 139) والشوكاني (2/ 124).

بسعةِ رحمةِ اللَّهِ (جل وعلا)؛ لتطمئنَ قلوبُهم، وَيُسَرُّوا بذلك. وعلى هذا فالمعنَى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} أي: وهم {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إذا جاؤوكَ {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} فَابْتَدَرَهُمْ وَسَلَّمَ عليهم. وقولُه: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ (¬1): أشهرُها: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ بأن يُسلمَ عليهم مبتدئًا إياهم بالسلامِ. القولُ الثاني: {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ مِنْ رَبِّكُمْ. وعلى هذا التفسيرِ فاللَّهُ يُقْرِئُهُمُ السلامَ على لسانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا احتقرهم أعداءُ اللَّهِ. الوجهُ الثالثُ: أن السلامَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنه رَدٌّ لسلامِهم عليه، وهذا لم يَقُمْ ما يدلُّ عليه، فأشهرُها: أن النبيَّ أُمِرَ بالتسليمِ عليهم. ومعنَى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} {سَلاَمٌ} هنا مبتدأٌ، و {عَلَيْكُمْ} خبرُه، وإنما سَوَّغَ الابتداءَ به وهو نكرةٌ: أنه مُشَمٌّ رائحةَ الدعاءِ (¬2)، وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ: أن النكرةَ إن كان فيها معنَى الدعاءِ بِخَيْرٍ، نحو: (سلام)، أو بِشَرٍّ، نحو: (ويل لهم)، أنها يجوزُ الابتداءُ بها (¬3). و {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} معناه: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الآفاتِ والمحذورِ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 435)، البحر المحيط (4/ 140). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 140)، الدر المصون (4/ 649). (¬3) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 169).

وهذه تحيةُ الإسلامِ، هي أكملُ تحيةٍ وأفضلُها؛ لأن معنَى (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ): سَلَّمَكُمُ اللَّهُ (جل وعلا) من الآفاتِ ومما يُؤْذِيكُمْ. وهي أحسنُ من تحيةِ الجاهليةِ الذين كانوا يقولونَ: (حَيَّاكَ اللَّهُ) فـ (السلامُ عليكم) أفضلُ من (حَيَّاكَ اللَّهُ)، وإنما كانت أفضلَ منها لأن معنَى (السلام عليكم): سَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ ما يُؤْذِي ومن جميعِ الآفاتِ. ومعنَى (حَيَّاكَ اللَّهُ) لا تزيدُ (حَيَّاكَ اللَّهُ) على معنى أطالَ اللَّهُ حياتَك؛ وهذا الدعاءُ لا يستلزمُ الفائدةَ؛ لأنه كَمْ مِنْ إنسانٍ تكونُ حياتُه ويلاً عليه، وضررًا عليه، ويكونُ يتمنى الموتَ. وما كُلُّ حياةٍ مرغوبة ولا مرغوب فيها، بَلْ رُبَّ حياةٍ الموتُ خيرٌ منها، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وقد سَمِعْتُمْ بعضَ الناسِ من المتأخرين، وإن كان مثلُه يُذْكَرُ للمثالِ لا للاستدلالِ يقولُ (¬1): أَلاَ مَوْتٌ يُبَاعُ فَأَشْتَرِيهِ فَهَذَا الْعَيْشُ مَا لاَ خَيْرَ فِيهِ أَلاَ رَحِمَ الْمُهَيْمِنُ نَفْسَ حُرٍّ تَصَدَّقَ بِالْوَفَاةِ عَلَى أَخِيهِ فهذا الذي يطلبُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عليه بالموتِ لا يرغبُ فِي [الحياةِ] (¬2) فلو قلتَ له: «حَيَّاكَ اللَّهُ» لقال لكَ - البعيدُ -: «لاَ حَيَّانِي اللَّهُ»!! لأنه يرغبُ في الموتِ، بخلافِ (السلامُ عليكم) فليسَ هذا معناه، ومن هذا المعنى قولُ الأَعْشَى أو غيرِه في الأبياتِ التي اخْتُلِفَ ¬

(¬1) الأبيات للوزير المهلبي وهو في زهر الآداب (1/ 139 - 140)، صبح الأعشى (1/ 41)، قصص العرب (3/ 264)، معجم الأدباء (3/ 977)، وفيه بين البيتين بيت آخر وهو قوله: إذا أبصرتُ قبرا من بعيد ... وددتُ لو أنني فيما يليه (¬2) في الأصل: (الموت) وهو سبق لسان.

في قَائِلِهَا (¬1): الْمَرْءُ يَرْغَبُ فِي الْحَيَا ... ةِ وَطُولُ عَيْشٍ قَدْ يَضُرُّهْ تَفْنَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْـ ... ـقَى بَعْدَ حُلْوِ الْعَيْشِ مُرُّهْ وَتَسُوؤُهُ الأَيَّامُ حَتَّـ ... ـى مَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهْ فَمَنْ كان بهذه المثابةِ لا خيرَ له في الحياةِ. وقولُه في هذه الآيةِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ليس يمكنُ لأحدٍ أن يُلْزِمَ اللَّهَ شيئًا، ولكن اللَّهَ يُلْزِمُ نفسَه ما شَاءَ، ومعنى إلزامِه: أن يُخْبِرَ به، ووعدُه (جل وعلا) صادقٌ لا يتخلفُ، فما وَعَدَ اللَّهُ به فهو واجبُ الوقوعِ لازمُه محتومٌ؛ لأن اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الميعادَ، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحِ من حديثِ أبي هريرةَ ما يدلُّ على أن اللَّهَ (جل وعلا): كَتَبَ في كتابٍ فهو عندَه فوقَ عرشِه: «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» (¬2)، وسيأتي في قولِه جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: آية 156] فرحمةُ اللَّهِ (جل وعلا) وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ولا يَهْلَكُ على اللَّهِ إلا هَالِكٌ. ألا تَرَوْنَ ما يدلُّ على نظائرَ كثيرةٍ من هذا في القرآنِ؟ تعلمونَ أنه لا أحدَ أشنعُ قولاً من الذين قالوا: إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ، ومع هذه الفريةِ ¬

(¬1) هذه الأبيات نسبها بعضهم لمضرس بن ربعي، كما في (المعمرون والوصايا) لأبي حاتم كما تُنسب لأبي العتاهية وهي في ديوانه ص 104 وهي في الحماسة للبحتري ص 95 مع بعض الاختلاف في اللفظ. (¬2) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ... } حديث رقم (3194)، (6/ 287)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث: (7404، 7422، 7453، 7553، 7554)، ومسلم، كتاب التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى. حديث رقم (2751)، (4/ 2107).

الْعُظْمَى والوقوعِ في جَنَابِ اللَّهِ (جل وعلا) بهذا الأمرِ الهائلِ العظيمِ، فَاللَّهُ مع هذا يستعطفُهم ويتلطفُ بهم للتوبةِ: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: آية 74] ويأمرُ نَبِيَّهُ أن يخاطبَ الكفرةَ الفجرةَ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: آية 38] وَمِنْ أَصْرَحِ ذلك: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} هذا خطابٌ مُوَجَّهٌ بخصوصِ الْمُسْرِفِينَ على أنفسِهم دونَ غيرِهم، يقولُ لهم اللَّهُ: {لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: آية 53] فَأَمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من خالقِ السماوات والأرض أن يُوَجِّهَ هذا الخطابَ العظيمَ لخصوصِ المسرفين يدلُّ على سَعَةِ رحمةِ اللَّهِ جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} لم يَقُلْ: «الذين آمنوا»، ولا «الذين أَخْلَصُوا». خَصَّ به المسرفين على أنفسِهم {لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآيةَ؛ وَلِذَا قال: {كَتَبَ رَبكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: آية 54] على قراءةِ مَنْ قَرَأَ: {أَنَّهُ} بفتحِ (أنه) هنا، وهي في هذا الحرفِ قراءةُ ابنِ عامرٍ وعاصمٍ ونافعٍ. فالمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها يُعْرَبُ بدلاً من الرحمةِ (¬1). والمعنَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ على نفسِه الرحمةَ. معنى هذه الرحمةِ: هي غفرانُه لمن عَمِلَ منكم سوءًا. فقولُه: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا} مُفسِّرٌ لتلك الرحمةِ مُبَيِّنٌ لها، فهو بدلٌ منها، وعلى قراءةِ مَنْ قَرَأَ: {إِنَّهُ من عمل منكم سوءا} فهو على الاستئنافِ قُطِعَ مِمَّا قَبْلَهُ، وكان مُسْتَأْنَفًا، و (إِنَّ) إذا كانت في ابتداءِ الْجُمَلِ الاستئنافيةِ كُسِرَتْ. والضميرُ في (إنه) ضميرُ الشأنِ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 436)، البحر المحيط (4/ 141)، الدر المصون (4/ 650).

وقولُه: {مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} قال بعضُ العلماءِ: {مِّنْ عَمَلِ} هنا شرطيةٌ، وجوابُها مقترنٌ بالفاءِ. وقال بعضُهم: هي موصولةٌ، والمبتدأُ إذا كان موصولاً اقترنَ خبرُه بالفاءِ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وقولُه: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا} السوءُ: هو كُلُّ ما يسوءُ صاحبَه إذا رآه في صحيفتِه. والأعمالُ قد دَلَّ الكتابُ وَالسُّنَّةُ على أنها أربعةُ أنواعٍ (¬1)، كُلُّهَا إذا عَمِلَهَا الإنسانُ على غيرِ الوجهِ المشروعِ كان عاملاً سوءًا، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: آية 30] أي: لكراهتِها إياه. العملُ على أربعةِ أنواعٍ، هي التي إذا عَمِلَهَا الإنسانُ على غيرِ الوجهِ المشروعِ كان عملُه عملَ سوءٍ: منها: فعلُه - المعروفُ - الزنى والسرقةُ. الثاني: فعلُ اللسانِ، فهو عملٌ، والدليلُ على أن قولَ اللسانِ من الأفعالِ: أن اللَّهَ صَرَّحَ أن قولَ اللسانِ من الأفعالِ في سورةِ [الأنعام] (¬2)، في قولِه جل وعلا: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: آية 112] فأطلقَ على زخرفِ القولِ اسمَ (الفعلِ)، فدلَّ على أن قولَ اللسانِ فِعْلٌ. هذان قِسْمَانِ: الفعلُ - المعروفُ - بأحدِ الجوارحِ، وفعلُ اللسانِ. ¬

(¬1) انظر: نثر الورود (1/ 78)، مذكرة أصول الفقه ص 38 - 40. (¬2) في الأصل: (الأعراف) وهو سبق لسان.

الثالثُ: العزمُ المُصَمِّمُ (¬1)؛ لأن عزمَ الإنسانِ المُصَمِّم دَلَّتِ السُّنَّةُ الصحيحةُ على أنه من الأفعالِ السيئةِ التي تُدْخِلُ صاحبَها النارَ، والدليلُ على ذلك: ما ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أبي بكرةَ (رضي الله عنه): «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ قد عرفنا القاتلَ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (¬2). فقولُهم: ما بالُ المقتولِ؟ سؤالٌ من الصحابةِ واستفهامٌ عن إبرازِ السببِ الذي دَخَلَ به المقتولُ النارَ، فَبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جوابًا مُطَابِقًا للسؤالِ أن حرصَه وعزمَه المُصَمِّمَ على قتلِ أخيه هو السببُ الذي أَدْخَلَهُ النارَ. أما الهمُّ الذي لم يكن عزمًا مُصَمِّمًا، فليس من الأفعالِ، كما قال جل وعلا: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} [آل عمران: آية 122] وإتباعُه لذلك بقولِه: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} دَلَّ على أنه هَمٌّ لم يَسْتَقِرَّ، ولم يكن عَزْمًا مُصَمِّمًا حتى يُعَدَّ من الأفعالِ، ومن ذلك الهمِّ - الذي ليس من العزمِ المُصَمِّمِ الذي هو من الأفعالِ - ما في الحديثِ: «وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» (¬3) وإنما كُتِبَتْ له حسنةٌ؛ لأنه تَرَكَهَا لوجهِ اللَّهِ (جل ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (10/ 720)، فتح الباري (11/ 324 - 329)، (12/ 197)، نثر الورود (1/ 78)، مذكرة أصول الفقه ص 39. (¬2) البخاري، كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا ... } حديث رقم (6875)، (12/ 192)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، حديث رقم (2888)، (4/ 2213). (¬3) هذه الجملة رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة من الصحابة: الأول: أنس بن مالك (رضي الله عنه) في حديث الإسراء الطويل الذي أخرجه الشيخان وغيرهما. إلا أن هذه الجملة لم ترد في لفظ البخاري وإنما هي في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات، وفرض الصلوات، حديث رقم (162)، (1/ 145). الثاني: حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} حديث رقم (7501)، (13/ 465)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كُتبت، وإذا هم بسيئة لم تُكتب، حديث رقم (128 - 130)، (1/ 117 - 118). الثالث: حديث ابن عباس (رضي الله عنه) عند البخاري، كتاب الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة حديث رقم (6491)، (11/ 323)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كُتبت، وإذا هم بسيئة لم تُكتب. حديث رقم (131)، (1/ 118).

وعلا)، فكان تركُه إياها امتثالاً لأمرِ اللَّهِ، وكانت بذلك حسنةً، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: الآيتان 40 - 41]. الرابعُ: هو التركُ، والتركُ من الأفعالِ الحقيقيةِ، فهو فعلٌ على التحقيقِ (¬1)، وإن خَالَفَ فيه مَنْ خَالَفَ، فَمَنْ تركَ الصلاةَ حتى ضاعَ وقتُها فقد عَمِلَ بهذا التركِ عملاً سَيِّئًا يدخلُ به النارَ، وكان ابنُ السبكيِّ في بعضِ تآليفِه في الأصولِ يقولُ: طالعتُ كتابَ اللَّهِ لأجدَ فيه آيةً تدلُّ على أن التركَ فعلٌ فما وجدتُ فيه شَيْئًا يدلُّ على أن التركَ فعلٌ إلا شيئًا يُفْهَمُ من آيةٍ في سورةِ الفرقانِ هي قولُه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: آية 30] قال: الاتخاذُ أصلُه من الأخذِ، والأخذُ: التناولُ. فقال: تَنَاوَلُوهُ ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (14/ 282 - 285)، القواعد والفوائد الأصولية ص 62، المسودة ص80، المستصفى (1/ 90)، شرح مختصر الروضة (2/ 242 - 247)، شرح الكوكب المنير (1/ 491)، نثر الورود (1/ 78)، مذكرة أصول الفقه ص 38 - 40، أضواء البيان (6/ 317).

مهجورًا. فَدَلَّ على أن الهجرَ فِعْلٌ. ونحن نقولُ: إِنَّا باتباعِ كتابِ اللَّهِ وَجَدْنَا آياتٍ صريحةً من كتابِ اللَّهِ تدلُّ بصراحةٍ لا شكَّ فيها على أن التركَ من الأفعالِ، منها: آيتانِ في سورةِ [المائدة] (¬1)، ذَكَرْنَاهُمَا فيما مَضَى، إِحْدَاهُمَا قولُه تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: آية 63] فَسَّمَى عدمَ نهيهِم وتركهِم للأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ سَمَّاهُ: (صُنْعًا)، والصُّنعُ أَخَصُّ من مطلقِ الفعلِ، ومنه قولُه تعالى في المائدةِ أيضًا: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} ثم قال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: آية 79] يعني به تركَهم للتناهِي عن المنكرِ، سَمَّاهُ (فعلاً) وأنشأَ له الذمَّ بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. هذه الأقسامُ الأربعةُ هي الأفعالُ، واللغةُ العربيةُ تَدُلُّ على أن التركَ من الأفعالِ، وقد قال بعضُ الصحابةِ لَمَّا أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند أولِ مجيئِه لهذه المدينةِ مُهَاجِرًا عند بنائِه هذا المسجدَ الكريمَ، كانوا يحملون المؤونةَ لِيَبْنُوهُ، وواحدٌ جالسٌ، فرأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يعملُ معهم، فقال رَاجِزًا (¬2): لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ فَسَمَّى تركَهم للعملِ سَمَّاهُ (عَمَلاً مُضَلَّلاً) وبهذا يُعْلَمُ أن قولَه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا} أن عَمَلَ السوءِ قد يكونُ بفعلِ أحدِ الجوارحِ، وقد يكونُ بفعلِ اللسانِ، وقد يكونُ ¬

(¬1) في الأصل: (الأنعام) وهو سبق لسان. (¬2) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/ 522)، نثر الورود (1/ 79).

بالعزمِ المصممِ، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (¬1). وقد يكونُ بتركِ ما أَوْجَبَهُ اللَّهُ جل وعلا. هذه الأعمالُ التي يعملها الإنسانُ سيئةٌ. وقولُه: {مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا} السوءُ: كُلُّ عملٍ يسوءُ صاحبَه إذا رآه في صحيفتِه يومَ القيامةِ. وقولُه: {بِجَهَالَةٍ} الجارُّ والمجرورُ في منزلةِ الحالِ. أي: حال كونِه متصفًا بالجهالةِ. ولا يَعْصِي اللَّهَ أحدٌ إلا هو متصفٌ بجهالةٍ؛ لأن المعاصيَ غالبًا لا تُحْمَلُ عليها إلا أغراضٌ دنيويةٌ عاجلةٌ، وَمَنْ آثَرَ هذا الغرضَ الدنيويَّ العاجلَ على ما عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا) فهو جاهلٌ، وإن كان في الجملةِ يعلمُ أن فعلَه هذا حرامٌ، وأنه عَالِمٌ بما يأتي، فلا بُدَّ أن يكونَ جاهلاً من تلك الحيثيةِ، وَكُلُّ مَنْ وقعَ في أمرٍ لا ينبغي تقول له العربُ: «جاهلٌ» (¬2)، و «وَقَعَ فيه بِجَهْلٍ»، وهو كلامٌ معروفٌ في كلامِ العربِ الذين نزلَ القرآنُ بلغتِهم، ومن هذا المعنى قولُ الشاعرِ (¬3): عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا جَهِلْتَ عَلَى عَمْدٍ وَلَمْ تَكُ جَاهِلاَ تعني أنه فعلَ ما لا ينبغي أن يفعلَ، وهذا معنى قولِه: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ}. {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ مِنْ بعدِ ذلك العملِ الذي عمل به السوءَ بجهالةٍ {تَابَ وَأَصْلَحَ}. ¬

(¬1) مضى تخريجه قريبا. (¬2) مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة. (¬3) البيت في مشاهد الإنصاف ص 93.

قولُه: {وَأَصْلَحَ} دليلٌ على أن التوبةَ ليست قولاً باللسانِ مع الرجوعِ للمعاصِي، هذا ليس كما ينبغي، بل يتوبُ توبةً نصوحًا، ثم بعدَ ذلك يُصْلِحُ ولا يرجعُ لِمَا كان يعملُ من السوءِ، وَحَذَفَ مفعولَ (أصلح) لقصدِ التعميمِ، وأصلحَ جميعَ أقوالِه وأفعالِه وَنِيَّاتِهِ وقصدِه، فلم يَفْعَلْ إلا طَيِّبًا. والتوبةُ عندَ العلماءِ تتركزُ على ثلاثةِ أُسُسٍ (¬1)، إذا اجتمعت كُلُّهَا فالتوبةُ نصوحٌ، وإذا اخْتَلَّ واحدٌ منها فليست بتوبةٍ نصوحٍ: أولُها: أن يُقْلِعَ عن الفعلِ إن كان مُتْلَبِسًا به. والثاني: أن يندمَ على الفعلِ الذي صَدَرَ منه ندمًا شديدًا وَيَأْسَفَ. والثالثُ: أن ينويَ أن لا يعودَ إلى الذنبِ حتى يعودَ اللَّبَنُ في الضرعِ. ومعلومٌ أن التوبةَ واجبةٌ بإجماعِ المسلمين من كُلِّ ذنبٍ يَجْتَرِمُهُ الإنسانُ، وتأخيرُها ذنبٌ يحتاجُ إلى توبةٍ، واللَّهُ أَمَرَ بها أمرًا صَارِمًا، قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: آية 31] وقولُه: {تُوبُوا} صيغةُ أَمْرٍ واجبةٌ، فالتوبةُ واجبةٌ من كُلِّ ذنبٍ بإجماعِ المسلمين. وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أنها مظنةٌ لغفرانِ الذنوبِ حيث قال جل وعلا: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} وَأَتْبَعَ ذلك بقولِه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: آية 8] فـ (عَسَى) من الله عظيمةٌ تدلُّ على أن مَنْ تَابَ توبةً نصوحًا كَفَّرَ اللَّهُ عنه سيئاتِه. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (5/ 91).

وَاعْلَمُوا أن العلماءَ مُطْبِقُونَ على أن التوبةَ تتركزُ على هذه الأشياءِ الثلاثةِ: الإقلاعِ عن الذنبِ إن كان مُتْلَبِسًا به، والندمِ على فعلِ الذنبِ، ونيةِ أن لا يعودَ إلى ذلك الذنبِ. ومعروفٌ أن في أركانِ التوبةِ - هذه - إشكالاتٌ وسؤالاتٌ معروفةٌ عند العلماءِ (¬1)، منها: أن الندمَ ركنٌ من أركانِ التوبةِ بالإجماعِ، والتوبةُ واجبةٌ بالإجماعِ، وَرُكْنُ الواجبِ واجبٌ، فالندمُ على الذنبِ واجبٌ إِجْمَاعًا، وهذا مِمَّا لا خلافَ فيه، وَمَحَلُّ الإشكالِ في هذا الركنِ من أركانِ التوبةِ هو أن يقولَ المُسْتَشْكِلُ: أما الندمُ فإنه ليس من أفعالِ الإنسانِ الاختياريةِ، وإنما هو انفعالٌ وَتَأَثٌّرٌ نفسانيٌّ، والانفعالاتُ والتأثراتُ النفسانيةُ ليست تحتَ قدرةِ البشرِ، وليست من أفعالِ البشرِ، وليست مِنْ عَمَلِ البشرِ باختيارِهم حتى يُطلقَ عليها أنها واجبةٌ، ونحن نشاهدُ هذا، ترى الرجلَ البائعَ المغبونَ إذا باعَ وغُبِنَ في بيعِه غَبْنًا شديدًا تراه في شدةِ الندمِ، وهو يتجلدُ ويحاولُ أن يدفعَ الندمَ عن نفسِه فلا يستطيعُ، فهذا يُبَيِّنُ أن الندمَ ليس من الأفعالِ الاختياريةِ، وإنما هو انفعالٌ، وتأثرٌ نفسانيٌّ، وترى الرجلَ - والعياذُ بالله - إذا كان يعشقُ امرأةً جميلةً بارعةً في الجمالِ، إذا نال منها قُبْلَةً، إذا أراد أن يتندمَ يتخيلُ له خيالُ ذلك الجمالِ فينبسطُ إليه قلبُه، ولا يستطيعُ الندمَ؛ فَلِذَا كُنَّا نعاينُ الرجلَ قد يريدُ أن يندمَ ولا يندمُ، وقد يريدُ أن لا يندمَ فيندمُ، فالندمُ انفعالٌ نفسانيٌّ، وتأثرٌ ليس من الأفعالِ الاختياريةِ، فكيف نقولُ: إنه واجبٌ، وإنه ركنٌ للواجبِ؟ هذا السؤالُ الأولُ. ¬

(¬1) انظر: الأضواء (6/ 206).

والجوابُ عن هذا هو ما حَقَّقَهُ بعضُ العلماءِ من أن الندمَ لا يعجزُ عنه الإنسانُ إلا إذا كان مُسْتَرْسِلاً مع النفسِ، مُحَابِيًا لها فيما [لا] ينبغي (¬1)؛ لأن أسبابَ الندمِ قائمةٌ بكثرةٍ، متوفرةٌ كُلَّ التَّوَفُّرِ، وَمَنْ أَخَذَ بالأسبابِ كان في استطاعتِه حصولُ المسببِ (¬2)، ذلك لأن عامةَ العقلاءِ يُطْبِقُونَ على أن الإنسانَ إذا قُدِّمَ إليه شرابٌ في غايةِ الحلاوةِ واللذاذةِ، لا يوجدُ شرابٌ أَحْلَى منه، ولا أَلَذَّ، إلا أن هذا الشرابَ فيه سُمٌّ قَاتِلٌ فَتَّاكٌ، فعامةُ العقلاءِ لاَ يَسْتَحْلُونَ حلاوةَ هذا الشرابِ، ولا يَلْتَذُّونَ بِلَذَّتِهِ؛ لِمَا فيه من السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وحلاوةُ المعاصي - أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منها - تَنْطَوِي على السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وهو سخطُ رَبِّ العالمين وغضبِه (جل وعلا)؛ لأن الإنسانَ لا يدري إذا سَخِطَ عليه رَبُّهُ أن يهلكَه في وقتِه، ثم يجعله في عذابٍ، فإذا عَرَفَ الإنسانُ أن حلاوةَ المعاصِي تنطوي على السمِّ القاتلِ الفتاكِ مِنْ سَخَطِ رَبِّ العالمين، وألزمَ نفسَه بالحقائق، وعرفَ أنه تَعَرَّضَ لسخطِ خالقِ السماواتِ والأرضِ بلذةٍ فانيةٍ، تَنْطَوِي على السمِّ الفتاكِ من سخطِ رَبِّ العالمين، فالعاقلُ إذا أَخَذَ هذه الأسبابَ على حقيقتِها، ولم يُجَامِلْ نفسَه، ولم يُحَابِهَا، لا بد أن يندمَ، فبسببِ كونِ أسبابِ الندمِ متيسرةً، متوفرةً قائمةً، وأن مَنْ أَخَذَ بالأسبابِ غالبًا يُحَصِّلُ المُسَبَّبَ، من هنا قِيلَ: إن الندمَ واجبٌ من هذه الحيثيةِ. الثاني: أن الإنسانَ قد يتوبُ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا، ويحاولُ الإقلاعَ عن الذنبِ، ولكنه يكونُ تمادي فعله الأول متماديا (¬3) لا يقدرُ ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: البرهان للزركشي (2/ 203 - 204)، قواعد التفسير (2/ 784). (¬3) أي: أن تأثيره باق مستمر.

على نزعِه، فهل يكون تائبًا؛ لأنه فَعَلَ مَقْدُورَهُ، أو لا يكون تائبًا؛ لأنه لم يُقْلِعْ (¬1)؟ ومن أمثلةِ هذا عند العلماءِ: رجلٌ كان مُبْتَدِعًا، وَبَثَّ بدعتَه في الناسِ، حتى طارَ بها أتباعُه في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وجنوبِها وشمالِها، وَبَقَوْا على ذلك البدعةِ، ومعلومٌ أن مَنْ سَنَّ سُنةً سيئةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها، وأعمالُ أولئك من ذنوبِه؛ لأنه سَنَّهَا لهم، وَاللَّهُ يقولُ في رؤساءِ الضلالِ الذين يَسُنُّونَ البدعَ والضلالاتِ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: آية 13] ويقولُ فيهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: آية 25] هذا المبتدعُ الذي طارت بدعتُه في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، ففسادُها منتشرٌ، إذا عرفنا أنه كان مبتدعًا وراجعَ التوبةِ، هل نقولُ: هو تائبٌ توبةً مستكملةَ الشروطِ؛ لأنه فَعَلَ قدرَ ما يقدرُ عليه؟ أو نقولُ: ليس بتائبٍ؛ لأنه لم يُقْلِعْ؛ لأن شَرَّ فِعْلِهِ باقٍ مُتَمَادٍ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها؟ ومن هذا المعنى: إذا غَصَبَ الرجلُ أرضًا نحو عشرين كيلاً مُرَبَّعًا، ثم نَدِمَ على الغصبِ وأرادَ أن يخرجَ منها، لو أَدْرَكَهُ الموتُ وهو ماشٍ خَارِجًا منها، هل نقولُ: ماتَ تَائِبًا؛ لأنه فَعَلَ قَدْرَ ما يستطيعُ؟ أو نقولُ: لم يَمُتْ تائبًا؛ لأنه أَخَذَ الأرضَ بغيرِ وجهٍ شَرْعِيٍّ، وماتَ وجرمُه باقٍ فيها: سَالِبٌ أَرْضًا لغيرِه؟ وكذلك الإنسانُ، إذا رَمَى إنسانًا بسهمٍ من بعيدٍ، فَلَمَّا فارقَ السهمُ الرميةَ تابَ وأقلعَ قبلَ أن يصيبَ السهمُ الْمَرْمِيَّ، فلو فَرَضْنَا أن هذا الإنسانَ عندما رَمَى السهمَ، والسهمُ في الهواءِ، وأقلعَ وتابَ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا، فأخذه أحدٌ وَقَطَعَ رأسَه قبلَ أن يصلَ السهمُ إلى المرمي، فنقول: هل ماتَ تائبًا؛ لأنه فَعَلَ ¬

(¬1) انظر: الموافقات (1/ 231)، نثر الورود (1/ 215) ..

قدرَ ما يَقْدِرُ عليه؟ أو نقول: لم يَتُبْ؛ لأنه لم يُقْلِعْ؛ لأن شَرَّ فِعْلِهِ بَاقٍ مُتَمَادٍ؟ ولهذا نظائرُ كثيرةٌ. للعلماءِ في هذا الأخيرِ وَجْهَانِ، كما هو مقررٌ في الأصولِ، وأظهرُ القولين وَأَجْرَاهُمَا على قواعدِ الشرعِ: أنه تائبٌ، وأن توبتَه كاملةٌ؛ لأنه فَعَلَ قَدْرَ طاقتِه، وما عَجَزَ عنه فهو مَعْفُوٌّ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬1). والله يقولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: آية 16] هذا هو الظاهرُ. وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} إصلاحُه لعملِه يأتي بثلاثةِ أشياء (¬2)، إذا تَحَصَّلَتْ هذه الأشياءُ كان عَمَلُهُ صالحًا، وإذا اختلتْ أو واحدٌ منها كان العملُ غيرَ صالحٍ. أولُها: أن يكونَ عملُه مطابقًا لِمَا جاءَ به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن اللَّهَ مَلِكٌ لا يقبلُ أن يُتَقَرَّبَ إليه إلا تَقَرُّبًا مُطَابِقًا لِمَا شَرَعَ، وَاللَّهُ يقولُ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: آية 21] ويقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: آية 7] {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: آية 80] {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية [آل عمران: آية 31] هذا هو الأولُ من الثلاثةِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم (7288)، (13/ 251)، ومسلم، كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم (1337)، (2/ 975)، وفي كتاب الفضائل، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ورقمه في كتاب الفضائل (130)، (4/ 1830 - 1831). (¬2) انظر: أضواء البيان (3/ 352 - 353).

الثَّانِي: أن يكونَ العبدُ الذي جاءَ بذلك العملِ - مطابقًا لِمَا جَاءَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أن يكونَ - فيما بينَه وبينَ اللَّهِ - في نيتِه التى لا يَطَّلِعُ عليها إلا اللَّهُ. أن يكونَ مُخْلِصًا لِلَّهِ؛ لأن اللَّهَ يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5] ويقولُ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: آية 11] فَمَنْ عَبَدَ بغيرِ إخلاصٍ جاءَ بما لم يُؤْمَرْ به؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5]. الثالثُ: من هذه الأمورِ الثلاثةِ: أن يكونَ ذلك العملُ - الذي وقعَ بإخلاصٍ مُطَابِقًا للشرعِ - أن يكونَ مَبْنِيًّا على أساسِ التوحيدِ والإيمانِ الصحيحِ والعقيدةِ الصحيحةِ؛ لأن العقيدةَ كالأساسِ، والعملَ كالسقفِ، فإذا وَجَدَ السقفُ أساسًا ثَبَتَ عليه، وإن لم يَجِدْ أساسًا انْهَارَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: آية 124] فجعلَ الإيمانَ قَيْدًا في ذلك العملِ، وَبَيَّنَ مفهومَ قولِه: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أن العاملَ لو كان غيرَ مؤمنٍ فعملُه لا فائدةَ فيه، كما قال في أعمالِ غيرِ المؤمنين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: آية 23] {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: آية 18] {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور: آية 39] وقولُه جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: آية 16] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وهذا معنَى قولِه: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: آية 54] على قراءةِ: {فَإِنَّهُ غفور رحيم} (¬1) فالهمزةُ مكسورةٌ للاستئنافِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53 - 54) من سورة الأنعام.

وعلى قراءةِ: {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وتقريرُ المعنى: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ} أي: فَلَهُ غفرانُ اللَّهِ (جل وعلا)؛ لأن المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتَها يُسْبَكُ من لفظٍ باسم المُسْتَقِلَيْنِ فيها، أي: الفعل، فمعنى {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فغفرانُ اللَّهِ، أي: فَلَهُ غفرانُ اللَّهِ ورحمتُه (جل وعلا)، وهذا أظهرُ الْوَجْهَيْنِ، واختارَه سيبويه، خلافًا لمن قَدَّرَهُ مبتدأً لخبرٍ محذوفٍ؛ لأن حذفَ المبتدأِ أكثرُ من حذفِ الخبرِ. وَغَلِطَ مَنْ قال: إنه معطوفٌ على (أنه) الأُولَى؛ لأن العطفَ لا يصحُّ هنا؛ لأن بينهما أداةَ شرطٍ، ولو قلنا إن (مَنْ) مَوْصُولَةٌ، وجعلناه معطوفًا، لم يَبْقَ هنالك خبرٌ للمبتدأِ الذي هو (مَنْ)، فكونُه عطفًا على (أن) الأُولَى لا يصحُّ، وإن غَلِطَ فيه جماعةٌ (¬1). ومعنى قولِه: {غَفُورٌ} أي: كثيرُ المغفرةِ لعبادِه {رَّحِيمٌ} يرحمُ عبادَه (جل وعلا)، والرحيمُ: مختصٌّ بالمؤمنين في الآخرةِ، كما بَيَّنَّاهُ في البسملةِ (¬2)، وكما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: آية 43]. {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: آية 55] في هذا الحرفِ ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ (¬3): قرأه مِنَ القراءِ نافعٌ وحدَه: {ولِتَسْتَبينَ سبيلَ المجرمين} بالتاءِ في {وَلِتَسْتَبِينَ} ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 436)، البحر المحيط (4/ 141)، الدر المصون (4/ 650 - 654). (¬2) انظر: الأضواء (1/ 40). (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص 195، حجة القراءات ص 253، تفسير ابن جرير (11/ 395).

ونَصْبِ (سبيلَ المجرمين)، وعلى هذه القراءةِ فـ {وَلِتَسْتَبِينَ} تَاؤُهُ تاءُ خطابٍ والفاعلُ محذوفٌ لُزُومًا، تقديرُه: أنتَ. وعليه فالمعنى: ولتستبينَ أنتَ يا نَبِيَّ اللَّهِ سبيلَ المجرمين. وقرأه حمزةُ والكسائيُّ وشعبةُ عن عاصمٍ: {وليستبينَ سبيلُ المجرمين} بالياءِ وَضَمِّ (السبيلُ)، على أن (السبيلَ) مذكرٌ {وليستبينَ سبيلُ المجرمين} و (السبيلُ) يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (¬1)، وتذكيرُه لغةُ التميميين وغيرِهم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. وعلى لغةِ التذكيرِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ وشعبةَ عن عاصمٍ في قولِه هنا: {وليستبينَ سبيلُ المجرمين} أي: يظهرُ ويتضحُ طريقُ المجرمين. ومن تذكيرِ (السبيلِ) قولُه في الأعرافِ: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: آية 146] بتذكيرِ (السبيلِ). وقرأ باقِي السبعةِ وَهُمْ: ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ وحفصٌ عن عاصمٍ، قرأ هؤلاء: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} بالتاءِ في (تستبين) ورفعِ (السبيلُ)، على أن {سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} فاعلُ (تستبين) وَأَنَّ (السبيل) مؤنثةٌ، وتأنيثُ (السبيل) كهذه القراءةِ كقولِه في سورةِ يوسفَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: آية 108] ولم يَقُلْ: هذا سبيلي. فَتَحَصَّلَ أن قراءةَ التاءِ: {وَلِتَسْتَبِينَ} رَفَعَ بعدَها - غيرَ نافعٍ - (السبيل) فقالوا: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي: لتظهرَ وتتضحَ طريقُ الْمُجْرِمِينَ. والتاءُ في قراءةِ هؤلاء: هي تاءُ المؤنثةِ، كما ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 396)، القرطبي (6/ 437)، الدر المصون (4/ 655)، بصائر ذوي التمييز (3/ 185).

تقولُ: «تَسْتَبِينُ هِنْد وتقوم فلانةُ». و «تستبين السبيلُ» على أنها مؤنثةٌ. أما على قراءةِ نافعٍ: فالتاءُ في (تستبين) تاءُ خطابٍ ليست تاءَ تأنيثٍ، والفاعلُ غيرُ (السبيل) مضمرٌ، أي: ولتستبين أنتَ يا نَبِيَّ اللَّهِ سبيلَ المجرمين. و (اسْتَبَانَ) تأتي لازمةً ومتعديةً (¬1)، (اسْتَبَانَ) و (أَبَانَ) و (تَبَيَّنَ) هذه الأفعالُ الثلاثةُ من المزيدِ من (بَانَ) تأتي في لغةِ العربِ لازمةً ومتعديةً، أما (اسْتَبَانَ) فقد جاءت لازمةً على قراءةِ الجمهورِ، مَنْ قَرَؤُوا: {وليستبينَ سبيلُ المجرمين} ومَنْ قرؤوا {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} على قراءتِهم كلهم فـ (تستبين) هنا لازمةٌ، و (سبيل المجرمين) فاعلٌ، ولا مفعولَ للفعلِ، أما على قراءةِ نافعٍ: ففعلُ الاستبانةِ هنا مُتَعَدٍّ إلى المفعولِ؛ لأن المعنَى: ولتستبينَ أَنْتَ سبيلَ الْمُجْرِمِينَ، أي: تَتَبَيَّنَهَا وتعرفَها. فهاتانِ القراءتانِ فيهما مثالٌ للزومِ (استبان) وَلِتَعَدِّيهَا. ونحو (اسْتَبَانَ): (أَبَانَ) و (بَيَّن) فالعربُ أيضا تستعملُ (أبان) لازمةً، تقول: «أبانَ هذا الأمرُ وَاتَّضَحَ». بمعنى: ظَهَرَ. وتستعملها متعديةً للمفعولِ، تقولُ: «أبانَ زيدٌ كَلاَمَهُ، وأبانَ اللَّهُ الأمرَ الفلانيَّ». كما هو معروفٌ، ومن إتيانِ (أبان) لازمةً: يَكْثُرُ في القرآنِ اسمُ فاعلِها {كِتَابٍ مُّبِينٍ} [المائدة: آية 59] و (الكتابُ المبينُ) هو مِنْ (أَبَانَ) اللازمةِ. ومن إتيانِ فاعلِ (أبان) اللازمةِ: قولُ كعبِ بنِ زهيرٍ في بَانَتْ سُعَادُ (¬2): ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (4/ 655)، الأضواء (6/ 224). (¬2) شرح قصيدة كعب بن زهير، لابن هشام ص210.

قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ (مبين): اسمُ فاعلِ (أبانَ) اللازمةِ، بمعنى: بَيِّنٌ ظَاهِرٌ. ومن إتيانِ (أبان) لازمةً: قولُ عمرَ بنِ أَبِي ربيعةَ المخزوميِّ (¬1): لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي ... جِلْدِهَا لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ يعني: لَظَهَرَ مِنْ آثارِ النملِ حُدُورٌ، أي: ورمٌ. و (أبان) لازمةٌ، وفاعلُها: الحدورُ، ولا مفعولَ لها، ومنه قولُ جريرٍ (¬2): إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ (¬3) مِنَ الْعِرَابِ (¬4) أي: ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ المقرفات من العِرابِ، وكذلك (بَيَّنَ) تأتي لازمةً في كلامِ العربِ، ومنه المثلُ: (قد بَيَّنَ الصبحُ لذي عينين) (¬5) معناه: بَيَّنَ الصبحُ، أي: بَانَ وظهرَ وَتَبَيَّنَ. ومنه بهذا المعنى قولُ قيسِ بنِ ذُريحٍ في روايةِ الجمهورِ (¬6): وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تَبَيَّنُ بِالْفَتَى ... شُحُوبٌ وَتَعْرَى مِنْ يَدَيْهِ الأَصَابِعُ (¬7) فروايةُ الجمهورِ فيمن رَوَى بيتَ ابنِ ذُريحٍ هذا يَرْوِيهِ: ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: بين) (1/ 302). (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬3) جمع (مُقْرِف) وهو من الفرس وغيره: ما يُداني الهُجْنَة، أي أُمه عربية لا أبوه. انظر: القاموس (مادة: القِرْف) (1091). (¬4) العراب: هي التي عتقت وسلمت من الهُجنة. انظر: القاموس (مادة: العُرب) (145). (¬5) انظر: الأمثال لأبي عبيد ص59، معجم الأمثال العربية (3/ 260). (¬6) البيت في اللسان (مادة: بين) (1/ 302). (¬7) في اللسان: الأشاحم.

(شُحوبٌ) بالضمِّ، والمعنى: وللحبِّ آياتٌ تَبَيَّنُ بالفتِى، أي: تَظْهَرُ وتلوحُ بالفتَى. ما هذه الآياتُ؟ شحوبٌ وَتَعْرَى من يديه الأصابعُ. وَرَوَى بيتَ ابنِ ذريحٍ هذا ثعلبٌ، رواه ثعلبٌ: وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْفَتَى شُحُوبًا ................ بالنصبِ (¬1) وعلى هذه الروايةِ فلا شاهدَ في البيتِ. ومن إتيانِ (بَيَّنَ) لازمةً قولُ جريرٍ (¬2): رَأَى النَّاسُ الْبَصِيرَةَ فَاسْتَقَامُوا وَبيَّنَتِ الْمِرَاضُ مِنَ الصِّحَاحِ يعني: ظَهَرَتْ وَتَبَيَّنَتْ. وقولُه يهجو الفرزدقَ (¬3): وُجُوهُ مُجَاشِعٍ طُلِيَتْ بِلُؤْمٍ ... يُبَيِّنُ فِي الْمُقَلَّدِ وَالْعِذَارِ ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} وكذلك التفصيلُ الذي فَصَّلْنَا لكَ فيه آياتِ هذه السورةِ الكريمةِ مِمَّا كُنَّا نُفَصِّلُ، كذلك التفصيلَ والبيانَ الواضحَ نُفَصِّلُ آياتِ القرآنِ في كُلِّ ما يحتاجُ إليه الخلقُ من أمورِ دينِهم وَفِي كُلِّ إبطالِ المقالاتِ الباطلةِ التي يأتي بها الخصومُ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: آية 33]. وقولُه: {وَلِتَسْتَبِينَ} - على قراءةِ الجمهورِ من (اسْتَبَانَ) اللازمةِ - معناه: ولتظهرَ طريقُ المجرمين. و (المجرمون) جمعُ (المجرمِ)، و (المجرمُ): اسمُ فاعلِ (الإجرامِ)، و (الإجرامُ): ارتكابُ الجريمةِ، و (الجريمةُ): الذنبُ العظيمُ الذي يستحقُّ صاحبُه ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق. (¬2) ديوان جرير (1/ 90)، الأضواء (6/ 225). (¬3) ديوان جرير ص 146، الأضواء (6/ 225).

النكالَ، تُسْتَعْمَلُ مادتُه رباعيةً وثلاثيةً، تقولُ: «أَجْرَمَ»، كقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: آية 29] وتقول: «جَرَمَ الذَّنْبُ، فَهُوَ جَارِمٌ» ففاعلُ الثلاثيةِ: (جارم) على القياسِ، وفاعلُ الرباعيةِ (مجرمٌ) على القياسِ، ومن إطلاقِه ثلاثيًّا قولً الشاعرِ (¬1): ونَنْصُرُ مَوْلاَنَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا النَّاسِ مَجْرومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ لأن (المجرومَ) و (الجارمَ) اسمُ مفعولٍ، واسمُ فاعلٍ لجرم الثلاثيةِ إذا ارتكبَ الجريمةَ (¬2). وقولُه هنا: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي: ولتظهر طريقُ المجرمين، وعلى قراءةِ نافعٍ: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ} لتستبينَ يا نَبِيَّ اللَّهِ طريقَ المجرمين وَتَتَبَيَّنَهَا وتعلمها. والنبيُّ وإن كان عَالِمًا بسبيلِ المجرمين فإنه يُشَرَّعُ على لسانِه لأُمَّتِهِ، فَيُخَاطَبُ ليشرعَ على لسانِه لأُمَّتِهِ كما بَيَّنَّا (¬3). وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالانِ معروفانِ: أحدُهما: في الواوِ، واوِ {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} علامَ عُطِفَ، وَبِمَ يَتَعَلَّقُ (¬4)؟ الثاني: لِمَ خَصَّ سبيلَ المجرمين، ولم يَذْكُرْ سبيلَ المؤمنين (¬5)؟ ¬

(¬1) البيت لعمرو بن براقة. وهو في الأمالي (2/ 122). (¬2) انظر: اللسان (مادة: جرم) (1/ 445)، المصباح المنير (مادة: جرم) ص 38. (¬3) انظر: القرطبي (6/ 437)، البحر المحيط (4/ 141) وانظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (90) من هذه السورة. (¬4) المصدران السابقان، الدر المصون (4/ 656). (¬5) المصادر السابقة.

الجوابُ عن الأولِ: أن الواوَ في قولِه: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} تتعلقُ بمحذوفٍ، واختلفوا في تقديرِه، قال بعضُهم: هو مُقَدَّرٌ بعدَها، وتقريرُ المعنى: ولأَجْلِ أن تستبينَ سبيلُ المجرمين فَصَّلْنَا لكَ هذا التفصيلَ. أي: ولأَجْلِ استبانتِها فَصَّلْنَا. وقال بعضُ العلماءِ: هو معطوفٌ على عِلَّةٍ محذوفةٍ، فدل المقامُ عليه: وكذلك نفصلُ الآياتِ لنبينَ لكم، ولتستبينَ سبيلُ المجرمين. أما الجوابُ عن السؤالِ الثاني: وهو لِمَ خَصَّ سبيلَ المجرمين؟ فللعلماءِ عَنْهُ جَوَابَانِ: أحدُهما: أن سبيلَ المجرمين إذا عُرِفَتْ عُرِفَتْ منها سبيلُ المسلمين؛ لأن الأشياءَ تُعْرَفُ بأضدادِها، وإذا عَرَفَ الإنسانُ الشرَّ عرفَ أن مُقَابِلَهُ هو الخيرُ، وكان حذيفةُ بنُ اليمانِ (رضي الله عنه) - كما ثَبَتَ عنه في الصحيحين - يسألُ عن الشرِّ لِيَعْرِفَهُ، ومعرفةُ الشرِّ على هذا طَيِّبَةٌ يعلمُها الناسُ لِيَتَجَنَّبُوهَا ويعلموا أن ما سواها هو الخيرُ، كما ثَبَتَ في الصحيحين عن حذيفةَ (رضي الله عنه): كان الناسُ يسألون رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الخيرِ، وكنتُ أسألُه عن الشرِّ مخافةَ أن يُدْرِكَنِي (¬1). قال بعضُ العلماءِ: في الآيةِ هنا حذفُ الواوِ وما عَطَفَتْ، أي: ¬

(¬1) أخرجه البخاري مختصرا، كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، حديث رقم (525)، (2/ 8)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (1435، 1895، 3586، 7096)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث رقم (1847)، (3/ 1475).

لتستبينَ سبيلُ المجرمين وسبيلُ المؤمنين. قالوا: ومنه: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: آية 81] أي: والبردَ {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ} [الأنعام: آية 13] أي: [وما تَحَرَّكَ] (¬1)، وحَذْفُ الواوِ وما عَطَفَتْ إن دَلَّ المقامُ عليه معروفٌ في كلامِ العربِ، وإليه أشارَ ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقولِه (¬2): وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ وَالْوَاوُ إِذْ لاَ لَبْسَ ..... يعني: وكذلك الواوُ تُحْذَفُ مع ما عَطَفَتْ كالفاءِ إن لم يَكُنْ هنالك لَبْسٌ. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: الآيات 56 - 59]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: آية 56]. ¬

(¬1) في الأصل: «والنهار». وهذا سبق لسان أو وهم من الشيخ - رحمه الله - لأن النهار مذكور في الآية. وإنما الذي يذكره العلماء عند هذه الآية هو ما أثبته أعلى، والله أعلم. انظر: قواعد التفسير (1/ 374). (¬2) مضى عند تفسير الآية (42) من هذه السورة، وبقية البيت: «وهي انفردت».

كان الكفارُ يقولونَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اعْبُدْ معنا آلِهَتَنَا مرةً، ونعبدُ معكَ إلهكَ مرةً أُخْرَى!! فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يقولَ لهم: إنه لا يعبدُ ما يَدَّعُونَ من دونِ اللَّهِ، قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: {إِنِّي نُهِيتُ} أي: نَهَانِي رَبِّي {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} والمعنَى: نَهَانِي أن أعبدَ الأصنامَ التي تعبدونَها من دونِ اللَّهِ، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه: {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مجرورٌ بحرفٍ محذوفٍ؛ لأن (نهى) تَتَعَدَّى بـ (عن) تقولُ: «نَهَانِي رَبِّي عن كذا». كما تقدمَ في قولِه: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: آية 26] لأن (نَهَى) تتعدى بـ (عن)، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها يَطَّردُ جَرُّهُ بحرفِ الجرِّ المحذوفِ، كما هو معروفٌ (¬1)، وتقريرُ المعنى: نَهَانِي رَبِّي عن أن أعبدَ الذين. وسَبْكُ المصدرِ: نَهَانِي رَبِّي عن عبادةِ الذين تدعونَ من دونِ اللَّهِ، وهذا نَهْيٌ عظيمٌ، ومعلومٌ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يعبدُ شيئًا من دُونِ اللَّهِ؛ إلا أن اللَّهَ يأمرُه وينهاهُ لِيُشَرِّعَ على لسانِه لأُمَّتِهِ. إذا عَرَفْتُمْ أن المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتِها في قولِه: {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ} مجرورٌ بـ (عن) محذوفةٍ، فَاعْلَمُوا أن علماءَ العربيةِ مختلفونَ في المصدرِ المنسبكِ من (أن) وصلتِها المجرورِ بحرفٍ محذوفٍ، هل مَحَلُّهُ الجرُّ أو محلُّه النصبُ (¬2)؟ وفائدةُ هذا الخلافِ تظهرُ فيما لو عَطَفْتَ عليه اسمًا خَالِصًا، فعلى أن محلَّه النصبَ يُنْصَبُ المعطوفُ بعدَه، وعلى أن محلَّه الخفضَ يُخْفَضُ المعطوفُ عليه، وكبراءُ النحويين - منهم الخليلُ والكسائيُّ فمن حاذاهم - يقولون: ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (4/ 656). (¬2) مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة.

إن مَحَلَّهُ النصبُ، وخالفَهم في هذا الأخفشُ الصغيرُ - عَلِيُّ بنُ سليمانَ النحويُّ المشهورُ - قال: مَحَلُّهُ الخفضُ؛ لأنه مخفوضٌ بالحرفِ المحذوفِ. قال: والدليلُ على ذلك أَنَّا وَجَدْنَا في كلامِ العربِ الفصحاءِ خفضَ المعطوفِ عليه، كقولِ الشاعرِ (¬1): وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ فالروايةُ: «ولا دَيْنٍ» بالخفضِ وهو معطوفٌ على مصدرٍ مُنْسَبِكٍ من (أن) وصلتِها، مجرورٌ بحرفٍ محذوفٍ، وهو: «أن تكونَ» في قولِه: «وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً» أي: لكونِها حبيبةً، ولا لِدَيْنٍ. وقد أَجَازَ سيبويه الوجهين، واحتجَّ جماهيرُ النحويين عن هذا البيتِ - الذي أنشده الأخفشُ مُدَّعِيًا به أن المصدرَ المنسبكَ من «أن» وصلتِها المجرورَ بحرفٍ محذوفٍ، أن محلَّه الخفضُ - أجابوا عن ذلك: بأن محلَّه النصبُ، وأن خفضَ «ولاَ دَيْنٍ» - بالجرِّ - أنه من نوعِ العطفِ المعروفِ بعطفِ التوهمِ، وعطفُ التوهمِ معروفٌ عند النحويين، وهو أن تكونَ الكلمةُ منصوبةً أو مرفوعةً، إلا أنها يجوزُ فيها أن تُجَرَّ فيتوهمون أنها مجرورةٌ، يتوهمون الوقوعَ من مطلقِ الجوازِ، ويعطفون عليها بالجرِّ، ومنه قولُ زهيرٍ وهو عربيٌّ قُحٌّ جَاهِلِيٌّ (¬2): بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى وَلاَ سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا فإن الروايةَ بنصبِ (مُدْرِكَ)، وخفضِ (سابقٍ)؛ لأن «لستُ مُدْرِكَ مَا مَضَى» يجوزُ جرُّه بالباءِ؛ لأن خبرَ ليس يجوزُ جرُّه بالباءِ، ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

فَتَوَهَّمُوا أنها مجرورةٌ من جوازِ دخولِ الباءِ عليها، فَعُطِفَ عليها بالجرِّ، ونظيرُه قولُ الآخَرِ (¬1): مَشَائيِمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً وَلاَ نَاعِبٍ إِلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا فعطفَ (ناعب) بالجرِّ على (مصلحين) وهو منصوبٌ لِتَوَهُّمِ دخولِ الباءِ. وقولُه جل وعلا: {نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ} أي: نَهَانِي رَبِّي عن عبادةِ الأوثانِ والأصنامِ والمعبوداتِ التي تَعْبُدُونَهَا من دونِ اللَّهِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ لنبيه في هذا المنوالِ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي بَلِ اللَّهَ وحدَه {فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: الآيتان 65، 66]. هذا معنى قولِه: {إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} أي: تعبدونَ من دونِ الله (جل وعلا) من جميعِ أنواعِ العباداتِ، قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: {لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} الأهواءُ: جمعُ (هَوًى)، بِفَتْحَتَيْنِ، و (الهوى): مَيْلُ النفسِ، وأكثرُ ما يُطْلَقُ في الشرعِ: إلى مَيْلِهَا إلى ما [لا] (¬2) ينبغي (¬3). و (الهوى): هو مَيْلُ النفسِ إلى ما لا ينبغي هنا. فـ {أَهْوَاءَكُمْ} يعني: مهوياتكم التي تميلُ إليها نفوسُكم باتباعِ الهوى والباطلِ، كما قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) انظر: المفردات (مادة: هوى) ص849، المصباح المنير (مادة: هوى) ص246، جامع العلوم والحكم (2/ 438)، الدر المصون (4/ 499)، الكليات ص962.

آية 23] وهمزةُ (الأهواءِ) مُبْدَلَةٌ من (ياءٍ)، على القياسِ المعروفِ: أن كُلَّ واوٍ أو ياءٍ تَطَرَّفَتْ بعد ألفٍ زائدةٍ وَجَبَ إبدالُها همزةً. وأصلُ الهوى: (هَوَيٌ) بفتحتين (¬1). والمادةُ مما يُسَمِّيهِ علماءُ الصرفِ: اللفيفَ المقرونَ (¬2). عينها واو، ولامها ياء، قُلِبَتِ الياءُ في محلِّ اللامِ أَلِفًا، فقيل لها: «هوى» وَأُبْدِلَتْ عند التكسيرِ همزةً، كما هو معروفٌ في فَنِّ الصرفِ (¬3)، والمعنى: لا أَتَّبِعُ أهواءَكم الباطلةَ في عبادةِ الأصنامِ والإشراكِ بِاللَّهِ (جل وعلا)؛ لأني لا أَتَّبِعُ الهوى، ولا أتبعُ إلا الحقَّ، كما يأتي في كونِه على بينةٍ مِنْ رَبِّهِ. وهذا من جملةِ ما أَمَرَهُ رَبُّهُ أن يقولَ. {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} قُرِئَ بإدغامِ الدالِ في الضادِ {قَد ضَّللتُ إِذًا} وقرأه بعضُ السبعةِ بالإظهارِ (¬4) {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا}. {إِذًا} معناه: إِنِ اتَّبَعْتُ أهواءَكم فقد ضَلَلْتُ ولم أكن من المهتدين. والمعنى: لا أَضِلُّ، ولا أخرجُ عن طريقِ الْهُدَى، ولا أتبعُ أهواءَكم أبدًا. وهذه الآيةُ تدلُّ على أن مَنِ اتَّبَعَ هواه بغيرِ علمٍ ولا دليلٍ أنه ضَالٌّ، وأنه ليس من المهتدين. ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص478، التوضيح والتكميل (2/ 482). (¬2) انظر: الكليات ص798. (¬3) انظر: شرح الكافية (4/ 2129 - 2130)، الدر المصون (1/ 499)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص271، التوضيح والتكميل (2/ 482) .. (¬4) انظر: النشر (2/ 3).

[6/أ] / {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: آية 57]. {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نِبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أن يقولَ للكفارِ: إنه لا يعبدُ معبوداتِهم، ولا يتبعُ أهواءَهم، وأنه لو فَعَلَ ذلك كان ضَالاًّ غيرَ مُهْتَدٍ، أَمَرَهُ أن يقولَ لهم: إنه على بينةٍ من أَمْرِهِ {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ} البينةُ: هي البيانُ والدليلُ القاطعُ، الذي لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا (¬1). وأصلُه صفةٌ مشبهةٌ من (بَانَ يَبِينُ)، إذا ظَهَرَ، فهو (بَيِّنٌ). وإنما أُنِّثَتِ (البينةُ) لأنها كأنها تُضَمَّنُ معنَى الحجةِ الواضحةِ التي يُعَضِّدُهَا الدليلُ القاطعُ، الذي لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا {عَلَى بَيِّنَةٍ} أي: بيانٍ وبرهانٍ وعلمٍ ويقينٍ من رَبِّي، وليس لِي في الحقِّ شكٌّ معه، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، كُلُّ أَمْرٍ واضح لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا يسمونه: (بينةً)؛ ولأجلِ هذا أُطْلِقَتِ (البيناتُ) على معجزاتِ الرسلِ {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} [الأعراف: آية 101] أي: بالمعجزاتِ؛ لأنها لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): أَبَيِّنَةٌ تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ ... وَقَوْلِ سُوَيْدٍ: قَدْ كَفَيْتُكُمُ بِشْرَا يعني: هذا أمرٌ واضحٌ في البيانِ، لا يُحْتَاجُ معه إلى ما يُبَيِّنُ الحقيقةَ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 397)، القرطبي (6/ 438)، المفردات (مادة: بان) ص157. (¬2) البيت في ابن جرير (11/ 398).

وقولُه: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} ذَكَّرَ الضميرَ مع أن (البينةَ) مؤنثةٌ لفظًا نظرًا إلى المعنى؛ لأن (البينةَ) معناها البيانُ والبرهانُ واليقينُ {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي: ذلك البرهانُ واليقينُ الذي أنا عليه، الْمُعَبَّرُ عنه بالبينةِ، وهذا هو الظاهرُ، خلافًا لمن قال: إن الضميرَ عائدٌ إلى الله، أي: كَذَّبْتُمْ بِاللَّهِ (جل وعلا) أنه المعبودُ وحدَه جل وعلا (¬1). {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} كان الكفارُ يقولون للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هذا الذي تُهَدِّدُنَا به من عذابِ اللَّهِ، إن كنتَ صادقًا، إن كنتَ نَبِيًّا فَعَجِّلْهُ علينا الآنَ (¬2). كما بَيَّنَ اللَّهُ ذلك عنهم في آياتٍ من كتابِه، كقولِه: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: آية 16] والقِطُّ في لغةِ العربِ: أصلُه كتابُ الجائزةِ الذي يكتبُه الْمَلِكُ (¬3). فالملكُ إذا أرادَ أن يُجِيزَ الوفودَ كَتَبَ لِكُلِّ رئيسٍ جائزةً معينةً في صَكٍّ، وذلك الصكُّ يُسَمَّى: (القِط). وعليه فقولُهم: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} معناه: عَجِّلْ لنا نصيبَنا من مَلِكِ السماواتِ والأرضِ الذي تقولُ إنه نصيبُنا منه، وهو العذابُ في الدنيا والآخرةِ، كما قال الشاعرُ، وهو نابغةُ ذبيانَ (¬4): ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 438)، البحر المحيط (4/ 142)، الدر المصون (4/ 657). (¬2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص219. (¬3) انظر: اللسان (مادة: قطط) (3/ 117). (¬4) البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص118، ولفظه في الديوان: وَلاَ الملكُ النعمانُ يَوْمَ لَقِيتَه ... بِإِمّتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ ويَأفِقُ وقوله: (بإمته) أي: نعمته.

وَلاَ الْمَلِكُ النُّعْمَانُ حِينَ لَقِيتَهُ عَلَى مُلْكِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ ومعنى (يَأْفِقُ) أي: يُفَضِّلُ في العطاءِ بعضَهم على بعضٍ {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: آية 32] {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: آية 8] أَيُّ شيء يحبسُ العذابَ ويؤخرُه، ولِمَ لا تُعَجِّلُهُ؟ وَاللَّهُ يقولُ: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [العنكبوت: آية 45] {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: آية 18] ونحو ذلك من الآياتِ الدالةِ على استعجالِهم العذابَ (¬1)، وقالوا له: إِنْ كنتَ نَبِيًّا حَقًّا فَعَجِّلْ لنا العذابَ الذي تُهَدِّدُنَا به، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أن يقولَ لهم: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} (ما) وهو الاسمُ المبهمُ الموصولُ واقعةٌ على العذابِ، والمعنَى: ليس بِيَدِي العذابُ الذي تطلبونَ استعجالَه عليكم {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: آية 16] لَيْسَ بِيَدِي، وإنما هو بِيَدِ اللَّهِ. {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} قرأ هذا الحرفَ قارئُ أهلِ المدينةِ، وقارئُ أهلِ مكةَ - أعني: نافعًا وابنَ كثيرٍ - وقرأ معهما عاصمٌ من الكوفيين، هؤلاء الثلاثةُ من القراءِ السبعةِ - أعني: نافعاً وابنَ كثيرٍ وعاصمًا - قرؤوا: {يَقُصُّ الْحَقَّ} بِضَمِّ القافِ، وصادٍ مهملةٍ مضمومةٍ. وقرأ باقي السبعةِ - وهم: أبو عمرو وابنُ عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ - قرؤوا: {يقْضِ الحق} بسكونِ القافِ والضادِ المكسورةِ (¬2). ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 194، 490)، (3/ 78)، (5/ 716)، (7/ 23). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص 195.

وعلى قراءةِ الحَرَمِيَّيْنِ وعاصمٍ - أعني: نافعًا وابنَ كثيرٍ، وعاصم - فمعنَى: {يَقُصُّ الْحَقَّ} أي: يَتْلُو علينا في كتابِه الحقَّ الواضحَ، الذي لاَ لَبْسَ فيه، كما قالَ تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: آية 3] وعلى هذا فإعرابُ (الحقِّ) واضحٌ؛ لأنها مفعولٌ به لـ (يقص). وأما على قراءةِ البصريِّ والشاميِّ والاثنين من الكوفيين (¬1) {يَقضِ الحق} ففي إعرابِ (الحقِّ) إشكالٌ، وبِمَ نُصِبَتْ؟ وفي إعرابِه للعلماءِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ: أحدُها: أنه نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: ما نابَ عن المطلقِ. والمعنى: يَقْضِي القضاءَ الْحَقَّ، الذي لا جَوْرَ فيه ولا حَيْفَ. الثاني: أنه منصوبٌ بنزعِ الخافضِ. أي: يقضي بالحقِّ، فَحُذِفَ حرفُ الجرِّ فَنُصِبَ الاسمُ. ومما يدلُّ على هذا قولُه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: آية 20]. الوجهُ الثالثُ: أن (يقضي) معناه: يصنعُ. أي: يصنعُ الحقَّ؛ لأن كُلَّ أعمالِه التي يَعْمَلُهَا، من تشريعٍ وإثابةٍ وعقابٍ كُلُّهُ حقٌّ واقعٌ موقعَه منه (جل وعلا). والعربُ تُطْلِقُ (القضاءَ) وتريدُ (الصُّنْعَ) وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ (¬2)، ومنه قولُ أبي ذؤيبٍ ¬

(¬1) البصري: أبو عمرو، والشامي: ابن عامر، والكوفيان هنا: حمزة والكسائي. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 143)، الدر المصون (4/ 657 - 659).

الْهُذَلِيِّ (¬1): وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ قضاهما: يعني صَنَعَهُمَا. وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (إن) هي النافيةُ، والألفُ واللامُ في (الحكمِ) هي للاستغراقِ، والعبرةُ بعمومِ الألفاظِ لا بخصوصِ الأسبابِ (¬2)؛ لأن سببَ نزولِ الآيةِ في الحكمِ الكونيِّ القدريِّ، حيث قالوا له: عَجِّلْ لنا العذابَ، وَأَنْزِلْ علينا الآياتِ. فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أن ذلك الحكمَ الكونيَّ القدريَّ من تعجيلِ العذابِ وإنزالِ الآياتِ إنما هو لِلَّهِ وَحْدَهُ، هو الذي بيدِه ذلك، وعمومُ الآيةِ يقتضي أن الحكمَ من حيث هو: هو لِلَّهِ (جل وعلا) وحدَه، كذلك الحكمُ الشرعيُّ له وحدَه. ويدلُّ على دخولُ الحكمِ الشرعيِّ: أنه قَالَ في الآيةِ: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} لأن (الفاصلين) جمعُ (الفاصلِ)، وهو الذي يَفْصِلُ الخصومَ، وينصف بينها، وَيُحَقِّقُ الحقَّ بينها. ولا شَكَّ أن الحكمَ من حيث هو حكمٌ سواء كان شَرْعِيًّا أو قَدَرِيًّا فإنه لِلَّهِ وَحْدَهُ، فالأحكامُ القدريةُ له، لا يقعُ تحريكٌ ولا تسكينٌ، ولا خيرٌ ولا شَرٌّ، ولا شيءٌ كائنٌ ما كان إلا بِحُكْمِهِ (جل وعلا) وقدرتِه ومشيئتِه. وكذلك الأحكامُ الشرعيةُ لا تشريعَ لأحدٍ ولا تحليلَ لأحدٍ إلا لَهُ (جل وعلا) وحدَه، فالحلالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ؛ لأنه من المعلومِ أنه لا تشريعَ إلا للسلطةِ العليا، ¬

(¬1) البيت في البحر المحيط (4/ 143)، الدر المصون (2/ 86). (¬2) انظر: البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 198، 210، 220)، شرح الكوكب المنير (3/ 177)، قواعد التفسير (2/ 593).

والسلطةُ الحاكمةُ على السماواتِ والأرضِ هي التي لَهَا الأمرُ والنهيُ والتشريعُ. فالتشريعُ لِرَبِّ العالمين {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: آية 12] {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57] {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26] فالحاكمُ هو اللَّهُ، والتشريعُ تشريعُ اللَّهِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُبَلِّغٌ عن اللَّهِ شَرْعَهُ لخلقِه، والمشرعُ هو الخالقُ جل وعلا. وَيُفْهَمُ من هذا أن مَنْ زَيَّنَ لَهُ الشيطانُ أن يكونَ مُشرِّعًا يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ، ويضعُ النُّظُمَ والقوانين لِيُحَكِّمَهَا في دماءِ الناسِ وأموالِ الناسِ وأعراضِهم وعقولِهم: أن هذا متمردٌ على نظامِ السماءِ، يُحَاوِلُ أن يجعلَ لنفسِه خصوصيةَ خالقِ السماواتِ والأرضِ، عُتُوًّا وَتَمَرُّدًا على اللَّهِ، فهو كافرٌ، وقد دَلَّ القرآنُ العظيمُ في آياتٍ كثيرةٍ أن مَنْ يَتَّبِعُ نُظُمًا وقوانين وضعيةً شَرَّعَهَا الشيطانُ على ألسنةِ أوليائِه مُدَّعِيًا أن تشريعَ خالقِ السماواتِ والأرضِ لا يصلحُ لتنظيمِ الْعَالَمِ، ولا يُسَايِرُ التطورَ، فمن يرى هذا ويرى نظامَ إبليسَ هو الذي يقومُ بمصالحِ البشرِ، ونظامَ خالقِ السماواتِ والأرضِ - الذي خَلَقَ هذا الكونَ وهو أعلمُ بِمَصَالِحِهِ - أنه لاَ يُسَايِرُ التطورَ، ولا يُنَظِّمُ علاقاتِ الدنيا على الوجهِ الذي ينبغي: فهذا لا شَكَّ بين أهلِ العلمِ في أنه كافرٌ كُفْرًا بواحًا مُخْرِجًا عن دينِ الإسلامِ (¬1)، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على هذا كثيرةٌ جِدًّا، من ذلك ما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا: أن إبليسَ عليه لعنةُ اللَّهِ لَمَّا جاء تلامذتُه وإخوانُه من أهلِ مكةَ، وأرادَ أن يُهَيِّئَ لهم وحيَ الشياطين ليجادلوا به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال لهم: سَلُوا مُحَمَّدًا ¬

(¬1) انظر: الأضواء (7/ 162).

عن الشاةِ تُصْبِحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا أخبرَهم أن اللَّهَ هو الذي قَتَلَهَا، قالوا له من وحيِ الشيطانِ: ما ذَبَحْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ - يعنونَ المذكاةَ - تقولونَ: حلالٌ وطاهرٌ وطيبٌ مُسْتَلَذٌّ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ - يَعْنُونَ الميتةَ، أن اللَّهَ قَتَلَهَا - تقولونَ: هو حرامٌ ميتةٌ مُسْتَقْذَرٌ فَأَنْتُمْ إذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ!! وأنزلَ اللَّهُ في وَحْيِ الشياطين جوابًا لِنَبِيِّهِ عنه (¬1) قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] يعنِي الميتةَ، وَإِنْ زَعَمَ أولياءُ الشيطانِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: وإن أَكْلَ الميتةِ لَفِسْقٌ، وخروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، ثم قال - وهو مَحَلُّ الشاهدِ - {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وإن أطعتموهم في تحليلِ الميتةِ إنكم لَمُشْرِكُونَ. اعْلَمْ أن تحليلَ الميتةِ وتحريمَها ليس عقيدةً من العقائدِ، ولا أصلاً من الأصولِ، وإنما هو فرعٌ من الفروعِ. مُضْغَةُ لَحْمٍ شَرَّعَ اللَّهُ على لسانِ نَبِيِّهِ تحريمَها؛ لأنها مَاتَتْ ولم يُذْكَرِ عليها اسمُ اللَّهِ، وَشَرَّعَ إبليسُ على لسانِ أوليائِه تَحْلِيلَهَا، فهذا نظامُ إبليسَ، وهو تحليلُ الميتةِ، وهذا نظامُ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ. اللَّهُ يقول: هذه مَاتَتْ حتفَ أَنْفِهَا، وَلَمْ تُذَكَّ ولم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليها. والشيطانُ يُشَرِّعُ بفلسفتِه ويقولُ: هذه ذبيحةُ اللَّهِ، وما ذبحَ اللَّهُ أطهرُ وَأَحَلُّ مِمَّا ذَبَحْتُمُوهُ بأيدِيكم، وَاللَّهُ يقولُ بالمقارنةِ بينَ تشريعِ الشيطانِ وتشريعِ اللَّهِ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إن أطعتموهم في تحليلِ الميتةِ الذي هو تشريعُ إبليسَ، تَارِكِينَ تحليلَ وتشريعَ اللَّهِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 77 - 82) الأضواء (7/ 169). وسيأتي تخريجه عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام ..

- وهو تحريمُها - إنكم لَمُشْرِكُونَ. وهذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنعامِ هي عندَ علماءِ العربيةِ (¬1) مثالٌ لِحَذْفِ لامِ توطئةِ القسمِ، قالوا: والأصلُ: (ولئن أطعتموهم) فَحُذِفَتِ اللامُ الموطئةُ للقسمِ. قالوا: والقرينةُ على لامِ القسمِ: أنه لو كان الشرطُ وحدَه ليس مَعَهَ قَسَمٌ لاَقْتَرَنَتِ الجملةُ بالفاءِ، لقال: «وإن أطعتموهم فإنكم لمشركون» فَلَمَّا لم تَقْتَرِنْ بالفاءِ عَلِمْنَا أن عدمَ اقترانِها بالفاءِ لأنها جوابُ القسمِ المقدرِ المحذوفةُ لامُه، لقرينةِ عدمِ الفاءِ؛ ولأن الشرطَ إذا جاء معه القسمُ - يكون القسمُ قَبْلَهُ - ويكونُ الجوابُ والقسمُ، وَيُحْذَفُ جوابُ الشرطِ، كما هو معروفٌ في علمِ النحوِ (¬2). وإذا تَقَرَّرَ هذا فقد أقسمَ اللَّهُ - كما قُلْنَا - في هذه الآيةِ الكريمةِ على أَنَّ مَنْ أطاعَ الشيطانَ وَاتَّبَعَ تحليلَه مُخَالِفًا لتشريعِ اللَّهِ أنه مُشْرِكٌ، وهذا الشركُ شركُ ربوبيةٍ؛ لأن التشريعَ، والأمرَ والنهيَ للربِّ الخالقِ، فالشيطانُ أرادَ أن يشاركَ اللَّهَ في السُلطةِ العليا والأمرِ والنهيِ فَمَنِ اتَّبَعَهُ فكأنه جَعَلَهُ رَبًّا، وهذا الشركُ في قولِه: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} هو شركٌ أكبرُ مُخْرِجٌ عن ملةِ الإسلامِ، وَسَيُوَبِّخُ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 213)، الدر المصون (5/ 132)، الأضواء (7/ 170). (¬2) المراد: أنه إذا اجتمع شرط وقسم، وكان القسم سابقا على الشرط، فالجواب للقسم، وجواب الشرط يكون محذوفا؛ لأن الجواب في هذه الحالة للسابق منهما. انظر: البحر المحيط (4/ 345)، ضياء السالك (4/ 53)، التوضيح والتكميل (2/ 321)، النحو الوافي (4/ 486)، الدر المصون (5/ 385).

اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ على رؤوسِ الأشهادِ، كما بَيَّنَهُ اللَّهُ في سورةِ يس في قولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] عبادتُهم للشيطانِ التي عَهِدَ اللَّهُ إليهم في دارِ الدنيا النهيَ عنها ليس معناها أنهم يَسْجُدُونَ للشيطانِ، ولا يركعونَ له ولا يصومونَ ولا يُصَلُّونَ له، وإنما هو اتِّبَاعُهُمْ تشاريعَه وَنُظُمَهُ، تَارِكِينَ تشريعَ اللَّهِ ونظامَه؛ وَلِذَا قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي} وَاتَّبِعُوا تَشْرِيعِي {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: الآيتان 60، 61] ثم بَيَّنَ (جل وعلا) كثرةَ مَنِ اتَّبَعَ نظامَ الشيطانِ واختارَ تشريعَه ودينَه عن تشريعِ اللَّهِ، وَبَيَّنَ مصيرَهم، قال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: آية 62] أليست عندكم عقولٌ تعلمونَ أن التشريعَ هو تشريعُ اللَّهِ الذي خَلَقَكُمْ فَتَمْتَثِلُوا أَوَامِرَهُ، وتجتنبوا نواهيَه، وتتركوا تشريعَ الشيطانِ؛ لأن كُلَّهُ كفرٌ وَمَعَاصٍ - والعياذُ بالله - ثم بَيَّنَ مصيرَ مَنْ كان يتبعُ نظامَ الشيطانِ ويتركُ نظامَ اللَّهِ فقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيتان 63 - 65] إلى آخِرِ الآياتِ؛ ولأَجْلِ هذا المعنَى قال نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ الخليلُ الذي قال له اللَّهُ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: آية 124] وَشَهِدَ له في قولِه: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: آية 37] وبقولِه له: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: آية 124] قال لأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: آية 44] عبادتُه للشيطانِ التي يَنْهَاهُ عنها ليست السجودَ له ولا الركوعَ ولا الصيامَ وإنما هي اتباعُ نظامِه من عبادةِ الأصنامِ

ومعاصِي الله (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: لا يَعْبُدُونَ إلا الشيطانَ؛ لأن اتباعَهم لتشريعِه ونظامِه وتركَهم تشريعَ اللَّهِ ونظامَه هو عبادتُهم له؛ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ (تبارك وتعالى) في هذه السورةِ - سورةِ الأنعامِ - سَمَّى فيها الذين يُطَاعُونَ في معاصِي اللَّهِ، سَمَّاهُمْ (شركاءَ) حيث قال: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: آية 137] فَسَمَّاهُمْ (شركاءَ) لَمَّا زينوا لهم الحرامَ واتبعوهم فيه. وقد صَحَّ عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ (رضي الله عنه) أنه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن آيةِ التوبةِ - وكان عَدِيٌّ هذا نَصْرَانِيًّا - قال له: يا نَبِيَّ اللَّهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: آية 31] كيف اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ يعني أنهم لم يَسْجُدُوا ولم يَرْكَعُوا لهم ولم يصوموا لهم. قال له - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَهَمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، فَاتَّبَعُوهُمْ؟» قال: بَلَى. قال: «بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في التفسير، باب: ومن سورة التوبة .. حديث رقم (3095)، (5/ 278)، وعقَّبه بقوله: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغُطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث» اهـ. كما أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 106)، والطبراني في الكبير (17/ 92)، والببهقي في السنن (10/ 116)، وابن جرير (14/ 209 - 211)، وقال عنه شيخ الإسلام (وهو حديث حسن طويل) (الإيمان ص 64)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 56)، وغاية المرام ص 19، والحديث له شواهد بتقوى بها، والله أعلم.

وهو نَصٌّ في أن مَنْ يتبعُ تشريعَ الشيطانِ تاركًا تشريعَ اللَّهِ أنه اتخذَ الشيطانَ رَبًّا، ومعنى هذا واضحٌ؛ لأن الأمرَ والنهيَ والتحليلَ والتحريمَ لا يكونُ إلا للأعظمِ الذي بيدِه كُلُّ شيءٍ، فإذا جَعَلَهُ لغيرِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْطَى منصبَ الربوبيةِ الكاملَ لغيرِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَجَعَلَهُ رَبًّا غيرَ اللَّهِ، وَبَيَّنَ اللَّهُ (تعالى) في سورةِ النساءِ أن الذي يريدُ أن يُحَكِّمَ قوانينَ الشيطانِ دونَ نظامِ اللَّهِ ويَدَّعي مع ذلك أنه مؤمنٌ، أن دَعْوَاهُ هذه كاذبةٌ بعيدةٌ، تستحقُّ أن يُتَعَجَّبَ منها، والآية التي بَيَّنَ اللَّهُ بها هذا هي قولُه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: آية 60] والتحاكمُ إلى الطاغوتِ يشملُ كُلَّ تَحَاكُمٍ إلى غيرِ ما أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فقولُه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} صيغةٌ يُعجِّبُ اللَّهُ بها نَبِيَّهُ، يقولُ: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} كيف يزعمونَ الإيمانَ، ومع ذا يُرِيدُونَ التحاكمَ للطاغوتِ، فهذا شيءٌ لا يَجْتَمِعُ!! ولذا عَجَّبَ اللَّهُ مِنْهُ نَبِيَّهُ. ثم خَتَمَ الآيةَ بقولِه: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} فالواقعُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ له الحكمُ كُلُّهُ، له الحكمُ الكونيُّ القدريُّ، وله الحكمُ الشرعيُّ، فهو الذي يفعلُ ما يشاءُ، ولا يكونُ خيرًا ولا قَدَرًا إلا ما شاءه (جل وعلا). وكذلك له الحكمُ الشرعيُّ، فهو الذي يَأْمُرُ، وهو الذي يَنْهَى، وهو الذي يُحَلِّلُ، وهو الذي يُحَرِّمُ، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، فليس لأحدٍ تحليلٌ ولا تحريمٌ، ولاَ شرعُ دينٍ ولا نظامٍ. وقد بَيَّنَّا أن مَنِ ادَّعَى أنه يَمْلِكُ هذه السلطةَ - وهي سلطةُ التشريعِ - أنه جَعَلَ نفسَه له أن يأخذَ حقوقَ اللَّهِ الخالصةَ له؛ لأجلِ ربوبيتِه فيجعلُها لِنَفْسِهِ.

وهذا الذي ذَكَرْنَا - أن اتباعَ نظامِ إبليسَ، وَتَرْكَ نظامِ خالقِ السماواتِ والأرضِ - أنه كُفْرٌ، قد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا أن النظمَ ليست كُلُّهَا على وتيرةٍ واحدةٍ، بل هي نَوْعَانِ: نظامٌ إداريٌّ، ونظامٌ شَرْعِيٌّ. أما النظامُ الإداريُّ الذي لا يخالف نصوص الشرع، بل قد تشهد أصول الشرع للمصلحة فيه، فهذا ليس أحد يقول: إنه كفر، ولا حرام، والصحابة (رضي الله عنهم) جعلوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أشياء كثيرة من هذا، ولم يقع بينهم فيها خلافٌ، بَيَّنَّا بَعْضَ أمثلتِها، من ذلك أنه في زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وزمنِ أبي بكرٍ لم يَكُنِ الْجُنْدُ مكتوبًا في ديوانٍ، فَمَنْ أرادَ أن يتخلفَ قد يتخلفُ ولاَ يُطَّلَعُ على تَخَلُّفِهِ إلا بعدَ زمنٍ؛ ولأَجْلِ ذلك ثَبَتَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا تَخَلَّفَ عنه - في غزوةِ تبوكَ - كعبُ بنُ مالكٍ (رضي الله عنه) لم يَتَفَقَّدْ كَعْبًا، ولم يسأل عنه حتى وَصَلَ تَبُوكَ (¬1)، ولم يَدْرِ أهو موجودٌ في الجيشِ أو غيرُ موجودٍ فيه؛ لأنهم لم يَكُنْ عندهم ديوانٌ، وكذلك زَمَنَ أبي بكرٍ، فلما كانت الخلافةُ إلى عمرَ كَتَبَ أسماءَ الْجُنْدِ في ديوانٍ، فَدَوَّنَ جميعَ أسماءِ الْمُقَاتِلِينَ في ديوانٍ (¬2)، فصارَ إذا تَخَلَّفَ واحدٌ عُرِفَ مِنْ وقتِه أنه ¬

(¬1) قصة تخلف كعب (رضي الله عنه) أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب: إذا تصدق أو وقف بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز. حديث رقم (2757)، (5/ 386)، وأخرجها في مواضع متفرقة. انظر: الأحاديث (2947) , (2948) , (2949) , (2950) , (3088) , (3556) , (3889) , (3951) , (4418) , (4673) , (4676) , (4677) , (4678) , (6255) , (6690) , (7225) , ومسلم, كتاب التوبة, باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه, حديث رقم: (2769) , (4/ 2120). (¬2) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (18/ 319)، التراتيب الإدارية (1/ 225) ..

تَخَلَّفَ، وَعُرِفَ مُقَاتِلَةُ كُلِّ جهةٍ من الجهاتِ، وَجُعِلَ كُلُّ جهةٍ في جهتِهم يَحْمُونَهَا مما يكون إليهم، وَصَارَتْ كُلُّ جهةٍ أهلُها أَهْلُ ديوانٍ، فكتبَ أسماءَ الجندِ في ديوانٍ. هذا نظامٌ عسكريٌّ لَمْ يَفْعَلْهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكرٍ، ولكنها مصلحةٌ محضةٌ لا تُخَالِفُ نَصًّا من كتابِ اللَّهِ ولا سنةِ نَبِيِّهِ، فهي مصلحةٌ عَمِلَهَا عمرُ بنُ الخطابِ، ولم يُخَالِفْ أحدٌ من الصحابةِ مع كثرتِهم وَعِلْمِهِمْ. ومن هذا المعنى: أن زمنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وزمنَ أبي بكرٍ لم يكن عندَ المسلمين سجنٌ يقفون فيه الجُناةَ، ولا يسجنونَ فيه، فَلَمَّا كانت الخلافةُ لعمرَ (رضي الله عنه) اشترى دارَ صفوانَ بنِ أميةَ في مكةَ، وَجَعَلَهَا سجنًا يقفُ فيه الناسُ حتى ينظرَ في أمورِهم، وربما سُجِنَ به بعضُ الْمُذْنِبِينَ (¬1). فهذا السجنُ هو مصلحةٌ إداريةٌ لم تَكُنْ في زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أبي بكرٍ، والقصدُ مطلقُ التمثيلِ. فهذا النوعُ من ضبطِ الأمورِ وتنظيمِ الإدارةِ بما لا يخالفُ نَصًّا من كتابِ اللَّهِ ولا سنةِ نَبِيِّهِ، فهذا لا نقولُ: إنه كُفْرٌ، ولا نقول: إنه حَرَامٌ. وهو من المصالحِ المرسلةِ التي عَمِلَ بها الصحابةُ، ولم يُخَالِفْ منهم أَحَدٌ، وكان مالكٌ يجعلُ هذا النوعَ أصلاً من أصولِ مَذْهَبِهِ (¬2)، وهو (الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ) قال: لأن الصحابةَ أَجْمَعُوا عليه؛ لأن أفضلَ الصحابةِ بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، عَمِلَ بالمصلحةِ المرسلةِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوفاةُ - يعني باحتضارِ الوفاةِ، في ذلك الوقتِ ¬

(¬1) انظر: البخاري، الخصومات، باب الربط والحبس في الحرم، (5/ 75)، تغليق التعليق (3/ 326)، أخبار مكة للأزرقي ج (2/ 165، 263)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 122)، التراتيب الإدارية (1/ 298). (¬2) انظر: نثر الورود (2/ 505).

يتوبُ المجرمُ، وينيبُ الظالمُ، أَحْرَى أبو بكر (رضي الله عنه)، فهذا فرعونُ الذي كان يقولُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: آية 24] لَمَّا عَايَنَ الغرقَ قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: آية 90] {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [غافر: آية 84] أَحْرَى أبو بكر في آخِرِ لحظةٍ من حياتِه - عن عائشةَ (رضي الله عنها) قالت: كَتَبَ أبي وصيتَه في سطرين: هذا ما أَوْصَى ابنُ أَبِي قحافةَ: إني استخلفتُ عليكم عمرَ بنَ الخطابِ، فإن يَعْدِلْ فذلكَ ظَنِّي به، وإن يَجُرْ فلاَ أعلمُ الغيبَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: آية 222] (¬1). لم تَرِدْ آيةٌ في كتابِ اللَّهِ، ولا نَصٌّ من سنةِ رسولِ اللَّهِ لأَبِي بكرٍ أن ينيبَ عمرَ على الناسِ، ولكن رَأَى المصلحةَ تَقْتَضِي ذلك، فَفَعَلَ هذه المصلحةَ، ولم يُنْكِرْ عليه أحدٌ من الناسِ، فتوليتُه له من المصلحةِ المرسلةِ (¬2)، لا من قياسِ العهدِ على العقدِ، كما قال به بعضُ الناسِ. والحاصلُ أن النظامَ نوعانِ: نظامٌ لا يَتَعَرَّضُ لقواعدِ الشرعِ، وإنما هو تنظيمٌ مَصْلَحِيٌّ لاَ يتعرضُ للقواعدِ، فهذا هو الذي ذَكَرْنَا أنه لاَ بَأْسَ به، وأن الصحابةَ فَعَلُوهُ. والثاني: نظامٌ تَشْرِيعِيٌّ، وهو الذي كُنَّا نتكلمُ عليه وَنُورِدُ فيه الآياتِ، كالذي يقولُ: إن الأُنْثَى تَمُتُّ بالقرابةِ التي يَمُتُّ بها الذَّكَرُ، فتفضيلُه عليها ظلمٌ وَجَوْرٌ. وكالذي يقولُ: إن تعددَ الزوجاتِ يجعلُ الرجلَ دَائِمًا فِي شَغَبٍ، ولو أَخَذَ واحدةً لكانَ معها في خفضٍ وَدَعَةٍ، ¬

(¬1) الطبقات الكبرى (3/ 142)، عيون الأخبار (1/ 14)، مختصر تاريخ دمشق (13/ 120). (¬2) انظر: نثر الورود (2/ 506 - 507).

وأن الشغبَ دائمٌ لا يزولُ، وأن هذا أمرٌ لا يصلحُ في الاجتماعِ. والذي يقول: إِنَّ قَطْعَ اليدِ عملٌ وَحْشِيٌّ لا ينبغي أن يكونَ في النظمِ التي يُعَامَلُ بها الإنسانُ. وما جرى مَجْرَى ذلك، مع أن كُلَّ هذه الأمورِ حِكْمَتُهُ بالغةٌ، وَسَنُبَيِّنُ - إن شاء الله - حِكَمَ الجميعِ إن مَرَرْنَا على الآياتِ التي هي بِهَا. فهذا النوعُ من النظامِ هو الضلالُ والكفرُ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ أن مَنْ يقول: إن الأُنْثَى كالذكرِ في الميراثِ أَنَّهُ ضَالٌّ، كما قال (جل وعلا) في آيةِ الصيفِ، الآية الأخيرة من سورةِ النساءِ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ثم أَتْبَعَهُ بقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: آية 176] يبينُ لكم هذا البيانَ كراهةَ أن تقولوا: هُمَا سواءٌ في الميراثِ فَتَضِلُّوا. وهذا معنَى قولِه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}. {يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام: آية 57]: يَقُصُّ الحقَّ كقولِه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: آية 3] و {يَقْضِ الحقَّ} كقولِه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [غافر: آية 20] {وَهُوَ} (جل وعلا) {خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} الذين يَفْصِلُونَ بَيْنَ الخصومِ، وسيفصلُ بينَ الخلائقِ يومَ القيامةِ، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: آية 25]. {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: آية 58]. هذا أَمْرٌ من اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أن يقولَ للكفارِ الذين يستعجلونَ بالعذابِ

ويقولونَ له: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: آية 16] {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: آية 32]، {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: آية 8] قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لهؤلاء المتمردين الْمُتَعَنِّتِينَ، الذين يستعجلونَ بالعذابِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا: {لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي: العذاب الذي تستعجلونَ به، لو كان بِيَدِي لَعَجَّلْتُهُ عليكم، وَقُضِيَ الأمرُ بيني وبينَكم، وَسَلِمْتُ من ذلك لأَنَّنِي على حَقٍّ، وَأَهْلَكَكُمُ العذابُ هلاكَ استئصالٍ، وَاسْتَرَحْتُ مِنْكُمْ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالانِ لطالبِ الْعِلْمِ أن يسألَ عنهما: أحدُهما نَحْوِيٌّ، والثاني وَحْيِيٌّ (¬1). أما النحويُّ فهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: همزةُ (أن) إذا فُتِحَتْ ¬

(¬1) لم يذكر السؤال الثاني هنا، وقد ذكره في أضواء البيان (2/ 194) حيث قال: تنبيه: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ} الآية، صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم، مع أنه ثبت في الصحيحين من حديث عائشة (رضي الله عنها): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل الله إليه ملك الجبال، وقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين - وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها - فقال - صلى الله عليه وسلم -: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا». والظاهر في الجواب: هو ما أجابه به ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية، وهو أن هذه الآية دلّت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم تعجيله لعجله عليهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره ..

دَلَّتْ على مصدرٍ، فهي في مَحَلِّ اسمٍ مُفْرَدٍ؛ لأنها إن فُتِحَتْ سَدَّتْ مَسَدَّ مصدرٍ، وهذا المصدرُ - طَبْعًا - معروفٌ أنه اسمٌ، و (لو) حرفَ شرطٍ، وَحُرُوفُ الشروطِ لا تَتَوَلَّى إلا الجملَ الفعليةَ، فَلِمَ تَوَلَّى حرفُ الشرطِ اسْمًا، وهو هذا المصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها؟ هذا وجهُ السؤالِ. والجوابُ عنه: هو ما حَقَّقَهُ علماءُ العربيةِ: أن المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتِها فاعلُ فِعْلٍ محذوف، والفعلَ المضمرَ هو الذي يَلِي حرفَ الشرطِ، وتقديرُ المعنى: لو ثَبَتَ كونُ ما ستطلبونَه عندي لَعَجَّلْتُهُ عليكم. ولم يكن بعدَه إلاَّ فِعْلٌ، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها فاعلُ الفعلِ. هكذا يقولون (¬1). {لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ} قضاءُ الأمرِ هنا كنايةٌ عن إنزالِ العذابِ عليهم واستراحتِه منهم. وَمَنْ قَالَ: «إن قضاءَ الأمرِ هنا معناه ذبحُ الموتِ» (¬2). فهو غلطٌ وَوَهْمٌ منه، لأن ذلك الذي معناه ذبحُ الموتِ هو في آيةِ مريمَ، وليس في هذه الآيةِ، وهو قولُه (جل وعلا) في أُخْرَيَاتِ مريمَ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: آية 39] فقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تفسيرُ آيةِ مريمَ (¬3) هذه: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ ¬

(¬1) انظر: ضياء السالك (4/ 66). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 400). (¬3) البخاري، كتاب التفسير، باب (وأنذرهم يوم الحسرة) حديث رقم (4730)، (8/ 428)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، حديث رقم (2849)، (4/ 2188)، وانظر: حديث رقم (2850) ولفظه عند البخاري: عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤتى بالموتِ كهيئةِ كبش أملَحَ، فيُنادي منادٍ: يا أهل الجنة فيَشرئِبُّون ويَنظُرون، فيقول: هل تَعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلُّهم قد رآه. ثم يُنادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلُّهم قد رآه. فيُذبَح. ثم يقول: يا أهلَ الجنة، خلودٌ فلا مَوت. ويا أهلَ النار، خلودٌ فلا موت. ثم قرأ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وهؤلاء في غفلةِ أهل الدنيا {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.

قُضِيَ الْأَمْرُ} قال: إِذْ ذُبِحَ الْمَوْتُ {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أَنْذِرْهُمْ وَهُمْ في غفلةٍ {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} وَذُبِحَ الموتُ. ولا يَصِحُّ في آيةِ الأنعامِ هذه هذا التفسيرُ؛ لأن المعنَى هنا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لَعَجَّلْتُ لكم العذابَ الذي تطلبونَه فَهَلَكْتُمْ، وَنَفَذَ القضاءُ بَيْنِي وبينَكم. ونفوذُ القضاءِ: هو إهلاكُ الظالمِ وبقاءُ المطيعِ سَالِمًا، وهذا معنَى قولِه: {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. {وَاللَّهُ} جل وعلا {أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} أي: الْكَافِرِينَ الذين يَتَعَنَّتُونَ ويستعجلونَ، هو أعلمُ بهم، عَالِمٌ مَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ فيتوب، ومن يَخْذُلُهُ فلاَ يتوبُ، وعالمٌ بالوقتِ الذي يَأْتِيهِمْ فيه العذابُ، وعالمٌ بما يستحقونَ من العذابِ، ووقتِ مَجِيئِهِ لهم، وسيكونُ ذلك على حسبِ مَا سَبَقَ في عِلْمِهِ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}. قال بعضُ العلماءِ: صيغةُ التفضيلِ هنا لَيْسَتْ على بَابِهَا؛ لأن الْمُقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ: أن صيغةَ التفضيلِ تَدُلُّ على مشاركةٍ بَيْنَ المُفَضَّلِ والمُفَضَّلِ عليه، إلا أن المُفَضَّلَ أكثرُ في المصدرِ مِنَ المُفضَّلِ عليه (¬1). و (زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو) يَدُلُّ على أنهما مشتركانِ ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 126).

في العلمِ، إلا أن المُفَضَّلَ يَفْضُلُ فيه المُفَضَّلُ عليه. وَالْعِلْمُ بالظالمين: بأحوالِهم وما يَؤُولُونَ إليه، ووقتِ نزولِ العذابِ عليهم، هذا لا يُشَارِكُ اللَّهَ فيه أَحَدٌ، وهذا إنما يعلمُه اللَّهُ وحدَه؛ وَلِذَا يقولونَ: إنَّ صيغةَ (أَفْعَل) هنا بِمَعْنَى (الوصفِ) بِمَعْنَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، كقولِه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} لأَنَّ هذه لا يُشَارِكُهُ فيها غيرُه، وقد تَقَرَّرَ في علمِ العربيةِ: أن صيغةَ (أَفْعَل) قد تأتي مُرَادًا بها الوصفُ من غيرِ إرادةِ التفضيلِ (¬1) وشواهدُ ذلك كثيرةٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشَّنْفَرَى (¬2): وَإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ يعني بـ (أجشع القوم): هو العَجِلُ منهم، وقولُ الفَرَزْدَقِ (¬3): إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ يعني عزيزةً طويلةً. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ. يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 59]. ذَكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ أن سَبَبَ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جاءه بَدَوِيٌّ فقال له: إِنِّي تَرَكْتُ امْرَأَتِي حُبْلَى، وتركتُ قَوْمِي في جَدْبٍ، فَأَخْبِرْنِي عَمَّا فِي بَطْنِ امْرَأَتِي: أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ وَأَخْبِرْنِي عن الوقتِ الذي يأتِي فيه الغيثُ لِقَوْمِي فإنهم مُجْدِبُونَ. ثم ¬

(¬1) المصدر السابق (2/ 133). (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق (2/ 134)، خزانة الأدب، (3/ 486)، وفيه: (سمك السماء).

قال له: ولقد عرفتُ الوقتَ الذي وُلِدْتُ فيه، فَأَخْبِرْنِي عن الوقتِ الذي أموتُ فيه. فأنزلَ اللَّهُ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (¬1). ومفاتحُ الغيبِ المذكورةُ في هذه الآيةِ هي المذكورةُ في أُخْرَيَاتِ سورةِ لقمانَ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: آية 34]. وتفسيرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمفاتحِ الغيبِ هنا بأنها الخمسُ المذكورةُ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخِرِهَا، ثَبَتَ في الصحيحِ عن [6/ب] أَبِي هريرةَ (¬2) وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ (¬3)، وجاء بأسانيدَ لا بأسَ عليها عن / قومٍ آخَرِينَ من الصحابةِ، منهم بُرَيْدَةُ (¬4)، وابنُ مسعودٍ (¬5)، وابنُ عَبَّاسٍ (¬6)، وصحابيٌّ مِنْ ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (21/ 87)، وابن أبي حاتم (9/ 3101)، عن مجاهد مرسلا، وعزاه في (¬2) (الدر) إلى الفريابي، وابن أبي حاتم. وأورده الواحدي في أسباب النزول بغير سند ص347. وذكر في (الدر) نحوه عن عكرمة، وعزاه إلى ابن المنذر. انظر: الدر المنثور (5/ 169). () البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام .. حديث رقم (50)، (1/ 114)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: الحديث (4777)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان .. الأحاديث (8 - 10)، (1/ 36 - 40). (¬3) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب لا يدرى متى يجيء المطر إلا الله. حديث رقم (1039)، (2/ 524)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (4627، 4697، 4778، 7379). (¬4) أخرجه أحمد في المسند (5/ 353). (¬5) أخرجه ابن جرير (21/ 89)، وانظر: الدر المنثور (5/ 169). (¬6) أخرجه أحمد (1/ 319).

بَنِي عَامِرٍ (¬1): أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ مفاتحَ الغيبِ المذكورةَ هنا بأنها المذكورةُ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬2)؛ لأَنَّ هذه الخمسَ أمهاتٌ عظيمةٌ لها أهميتُها من أمهاتِ علمِ الغيبِ، فَفَسَّرَ النبيُّ بها هذه الآيةَ؛ لأن الساعةَ هي أفظعُ أَمْرٍ وَأَهَمُّ أمرٍ يُوجَدُ، لَيْسَ عِلْمُهَا إِلاَّ عند اللَّهِ وحدَه، كما قَالَ: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: آية 187] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)} [النازعات: الآيات 42 - 44] وَلَمَّا سَأَلَهُ جبريلُ في حديثِه المشهورِ عن الساعةِ. قَالَ لَهُ: ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائلِ. وَبَيَّنَ له شيئًا من أَمَارَاتِهَا (¬3). هذه هي مفاتحُ الغيبِ، فالوقتُ الذي تقومُ فيه الساعةُ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّهُ وحدَه (جل وعلا)، لا يعلمُه أحدٌ {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: آية 187] {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الوقتُ الذي يَنْزِلُ فيه المطرُ لاَ يعلمُه إلا اللَّهُ وحدَه {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الذي هو في رَحِمِ أُمِّهِ لا يَعْلَمُ حقيقتَه إلا اللَّهُ، أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ قبيحٌ أو جميلٌ؟ شَقِيٌّ أو سَعِيدٌ؟ لا يَدْرِي الإنسانُ ماذا يَكْسِبُ غَدًا. والمرادُ بـ (ما يَكْسِبُ غَدًا): من خيرٍ أو شَرٍّ، ما يكسبُ مِنَ الْحَسَنَاتِ التي تُقَرِّبُهُ لِلَّهِ، وما يَكْسِبُ من السيئاتِ التي تُبْعِدُهُ عن اللَّهِ (جل وعلا)، ويدخلُ في ذلك: مَا يَكْسِبُهُ من مالٍ ونحوِه؛ لأَنَّ اللَّهَ قد يُغْنِيهِ من حيثُ لاَ يشعرُ، ¬

(¬1) أحمد في المسند (4/ 129، 164)، وانظر: الدر المنثور (5/ 169، 170) من حديث أبي عامر الأشعري رضي الله عنه. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 195). (¬3) هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) وقد مضى عند تفسير الآبة (58) من سورة البقرة.

وقد يُفْقِرُهُ من حيثُ لاَ يَشْعُرُ؛ لأن اللَّهَ بيدِه كُلُّ شَيْءٍ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لا يعرفُ الإنسانُ المحلَّ الذي فيه قَبْرُهُ، وإن كان سَاكِنًا في محلٍّ وإذا كتبَ اللَّهُ أجلَه في محلٍّ لاَ بُدَّ أن تكونَ له حاجةٌ إلى ذلك المحلِّ، فيذهبُ إليه لِيُدْرِكَهُ أَجَلُهُ فيه، وينفذَ قضاءُ اللَّهِ كما سَبَقَ في عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ، وجاء بذلك حديثٌ عن جماعةٍ من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن اللَّهَ إذا كَتَبَ أن يموتَ رجلٌ في محلٍّ، لا بد أن يجعلَ له حاجةً إلى ذلك المحلِّ حتى يذهبَ إليه ويدركَه أَجَلُهُ فيه (¬1). هذه مفاتحُ الغيبِ الخمسُ التي بَيَّنَ النبيُّ أنها معنَى هذه الآيةِ، وَخَيْرُ التَّفْسِيرِ تَفْسِيرُهُ - صلى الله عليه وسلم -. وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في آيةٍ عَامَّةٍ أن الغيبَ كُلَّهُ لاَ يعلمُه إِلاَّ اللَّهُ، كما قال تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: آية 65] وقد بَيَّنَّا فيما مَضَى أمثلةً لمصداقِ هذه الآياتِ، وَبَيَّنَّا أن أعظمَ الخلقِ: الملائكةُ والرسلُ، والملائكةُ لَمَّا قَالَ لَهُمُ اللَّهُ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ}؟ أَجَابُوا بِأَنْ قالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: آية 32] وقولُه: {لاَ عِلْمَ لَنَا} النكرةُ فيه مَبْنِيَّةٌ مع (لا) والنكرةُ لاَ تُبْنَى على الفتحِ مع ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 227)، والترمذي في السنن، كتاب القدر، باب: ما جاء أن النفس تموت حيث ما كُتب لها. حديث رقم (2146)، (4/ 452)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وانظر: صحيح الترمذي (2/ 227)، المشكاة (1/ 39). وأخرجه الترمذي أيضا من حديث أبي عزة (رضي الله عنه). انظر: السنن، حديث رقم (2147)، (4/ 453)، وابن أبي حاتم (4/ 1303 - 1304)، (9/ 3102) وانظر: صحيح الترمذي (2/ 227) ولفظ الحديث عند الترمذي: «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة».

(لا) إلا التي هي لنفيِ الجنسِ. فمعنَى الآيةِ: أنهم نَفَوْا جنسَ العلمِ مِنْ أصلِه عن أنفسِهم إلا شَيْئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ. وهؤلاء الرسلُ الكرامُ (عليهم صلواتُ اللَّهِ وسلامُه) مع ما أَعْطَاهُمُ اللَّهُ من العلمِ والمكانةِ يقولونَ: إنهم لا يعلمونَ من الغيبِ إِلاَّ مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ. هذا سَيِّدُهُمْ وَخَاتَمُهُمْ - صلى الله عليه وسلم - قد بَيَّنَّا أن اللَّهَ أَمَرَهُ قال: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: آية 5] وَأَمَرَهُ أيضًا فى سورةِ الأعرافِ أَنْ يقولَ: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: آية 188] وقد قال في أُخْرَيَاتِ أيامِ حياتِه صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» (¬1). كما هو معروفٌ. وقد بَيَّنَّا أن نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا ذَكَرَ اللَّهُ عنه في سورةِ هودٍ: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: آية 31] وقد بَيَّنَّا أمثلةً من هذا، فهذا سيدُ ولدِ آدمَ على الإطلاقِ، وأفضلُ الرسلِ، وأعلمُ الناسِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، رُمِيَتْ أَحَبُّ أزواجِه بأعظمِ فِرْيَةٍ، أُمُّ المؤمنين عائشةُ لَمَّا رَمَوْهَا ¬

(¬1) قطعة من حديث جابر (رضي الله عنه) عند البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلَّها إلا الطواف بالبيت .. حديث رقم (1651)، (3/ 504)، وأطرافه في: (1568، 1570، 2506، 4352، 7230، 7367)، ومسلم، كتاب الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. حديث رقم (1213، 1216، 1218)، (2/ 881 - 885). وقد روى هذا الحديث أيضا البراء بن عازب (رضي الله عنه) عند أبي داود، والنسائي. وأخرج الشيخان نحوه من حديث أنس ولفظه: «لولا أن معي الهدي لأحللت».

بصفوانَ بنِ المُعَطلِ في غزوةِ بني المُصْطَلقِ، كما قَصَّ اللَّهُ القصةَ مُوضحةً في سورةِ النورِ، كان (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) مع ما آتَاهُ اللَّهُ من العلمِ والمكانةِ العظيمةِ لاَ يَدْرِي أَحَقٌّ ما قالوا عن زوجتِه أَمْ كَذِبٌ، وكان يقولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» وفَقَدَتْ منه العطفَ الذي كَانَتْ تَجِدُهُ إذا مَرِضَتْ، وكان يقولُ لها غيرَ دَارٍ بالحقيقةِ: «يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي، وَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ». ولم يَعْلَمْ بالحقيقةِ حتى أخبرَه عَالِمُ الغيبِ والشهادةِ {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ} [النور: آية 11] فَسَمَّاهُ: إِفْكًا، ثم قال في آخِرِ الآياتِ: {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: آية 26] فَلَمْ يَعْلَمِ الحقيقةَ إلا بعد أن عَلَّمَهُ اللَّهُ إياها. وَلَمَّا نَزَلَتْ عليه آياتُ بَرَاءَتِهَا في بيتِ أبي بكرٍ وسُرِّيَ عنه وهو يَتْبَسِمُ، وقال: «أَمَّا أَنْتِ يَا عَائِشَةُ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ». فقالت لها أُمُّهَا أُمُّ رُومَانَ: «قُومِي إليه فَاحْمَدَيْهِ». قالت لها: «وَاللَّهِ لا أحمدُه، ولا أحمدُ اليومَ إلا اللَّهَ؛ لأنه لم يُبَرِّئْنِي، وإنما بَرَّأَنِي اللَّهُ» (¬1). وهذا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ، وهو هو، ذَبَخَ عِجْلَهُ، وتعبَ هو وامرأتُه بإنضاجِ العجلِ وحَمْلِهِ، كما قال اللَّهُ: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: آية 69] ولم يدرِ أن الذين يُنْضِجُ لهم عجلَه أنهم ملائكةٌ كرامٌ لا يأكلونَ! ولأجلِ عدمِ عِلْمِهِ بذلك لَمَّا لم يأكلوا خافَ منهم {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: آية 70] وما هذا إلا لأنه لا يعلمُ بحقيقتِهم، وما دَرَى عن الأمرِ حتى أَخْبَرُوهُ! سألَهم: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}؟ [الحجر: آية 57] ¬

(¬1) البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا. حديث رقم (2661)، (5/ 269)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، حديث رقم (2770)، (4/ 2129).

{قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: آية 70] وَلَمَّا ارتحلوا من عنده وَنَزَلُوا على نَبِيِّ اللَّهِ لوطٍ وكانوا في صفةِ شبابٍ مُرْدٍ حَسَنَةٌ ثيابُهم، حسنةٌ رِيحُهُمْ، خافَ عليهم أن يفعلَ بهم قومُه فاحشةَ اللواطِ، فَحَزِنَ أَشَدَّ الحزنِ؛ وَلِذَا قال تعالى عنه: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77] وما سببُ مُسَاءَتِهِ بهم وضيقِه ذرعًا بهم - كقولِه: إن ذلك يومٌ عصيبٌ - إلا لعدمِ عِلْمِهِ بحقيقةِ الواقعِ، حتى قال ذاك الكلامَ المؤسفَ المحزنَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: آية 80] ولم يَعْلَمْ بحقيقةِ الأمرِ حتى أَخْبَرُوهُ، وقالوا له: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} الآيات [هود: آية 81]. وقال الْمُفَسِّرُونَ (¬1): عند ذلك نَشَرَ جبريلُ أجنحتَه عليه وِشَاحه، وَضَرَبَ أوجهَهم بريشةٍ من جَنَاحِه، فتركها ليس فيها محلُّ العيونِ، لا أثرَ فيها للعيونِ، كأن وجوهَهم لم تكن بها عيونٌ أصلاً!! كما أَشَارَ اللَّهُ إلى ذلك في سورةِ القمرِ بقولِه في قصةِ لوطٍ والملائكةِ وقومِ لوطٍ: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} والعياذُ بِاللَّهِ {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: آية 37]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ يعقوبُ قال اللَّهُ فيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] مَدَحَهُ اللَّهُ بالعلمِ الذي عَلَّمَهُ، ومع هذا فَوَلَدُهُ يوسفُ كان في مصرَ، ما بينَه وبينَه ثمان مراحلَ، لا يعلمُ عن أمرِه شيئًا {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: آية 84] يقولُ لأولادِه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ} [يوسف: آية 87] يطلبُ من أولادِه التحسسَ لِيَعْثُرُوا له على خَبَرٍ، وهو لا يَدْرِي عنه حقيقةً حتى ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (27/ 105 - 106).

جَاءَ البشيرُ بالقميصِ، كما هو مُبَيَّنٌ في سورةِ [يوسفَ] (¬1). وهذا نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ، وهو هو، لَمَّا قال له رَبُّهُ: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: آية 27] ظَنَّ أن ولدَه الفاجرَ أنه مِنْ أَهْلِهِ، ولم يَدْرِ أنه ليسَ من أهلِه حتى قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: آية 45] ولم يَعْلَمْ بحقيقةِ الأمرِ حتى قال له عَالِمُ الغيبِ والشهادةِ: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: آية 46] كان جوابُه أن قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: آية 47]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ سليمانُ أَعْطَاهُ اللَّهُ الريحَ، غُدُوُّهَا شهرٌ، ورواحُها شهرٌ، وَسَخَّرَ له مَرَدَةَ الشياطين مع قدرتِهم على الطيرانِ في آفاقِ الأرضِ، ما كان يَدْرِي عن قصةِ ( ... ) (¬2) بِلْقِيسَ وجماعتِها حتى جاءَه الهدهدُ الضعيفُ المسكينُ، وكان قد خَرَجَ بغيرِ إِذْنٍ، وكان نَبِيُّ اللَّهِ سليمانُ يتهددُه ويتوعدُه على الخروجِ بِلاَ إِذْنٍ، كما قَصَّ اللَّهُ في سورةِ النملِ: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} [النمل: الآيتان 20، 21] فَعَلِمَ مِنْ تاريخِ اليمنِ، ومن جغرافيةِ اليمنِ، ما لَمْ يَعْلَمْهُ سليمانُ (عليه السلامُ)!! وهذا العلمُ الضيئلُ البسيطُ - علمُ تاريخٍ وجغرافيةٍ - أَعْطَى هذا الضعيفَ قوةً، وكان له سلاحًا، وَقَوَّاهُ على سليمانَ، حيث كان هو يَعْلَمُ شيئًا يجهلُه ¬

(¬1) في الأصل: (هود). وهو سبق لسان. (¬2) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. ولعلها: «أهل مأرب» والكلام مستقيم بدونها ..

سليمانُ؛ ولذا قام غَيْرَ مُبَالٍ بالوعيدِ، مع أن سليمانَ مَلِكٌ نَبِيٌّ، له هيبةُ الملكِ، وهيبةُ النبوةِ، ومع هذا وَقَفَ ذلك الهدهدُ بين يديه وقفةَ البطلِ غيرَ مكترثٍ بالوعيدِ، وإنما قوَّاه أنه عَلِمَ شيئًا من جغرافيةِ اليمنِ وتاريخِهم لم يَعْلَمْهُ سليمانُ، وَنَسَبَ الإحاطةَ إلى نفسِه، وَنَفَاهَا عن سليمانَ، وقال له: إِنِّي {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: آية 22] وهذا النبأُ بَيَّنَ فيه بعضَ تاريخهم، أنهم كفرةٌ يسجدونَ للشمسِ، وأن ملكتَهم امرأةٌ، قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: الآيتان 23، 24] وعندَ خَبَرِ الهدهدِ إياه لم يَعْلَمْ أيضا حقيقةَ الأمرِ؛ لأنه [ما كان يعلم صِدْقَ] (¬1) الهدهدِ؛ وَلِذَا قال مُخَاطِبًا له: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: آية 27] ثم أَرْسَلَهُ بكتابٍ كما في هذه الآياتِ من سورةِ النملِ، كُلُّ هذه الأمورِ من [عدمِ] (¬2) علمِ الأنبياءِ الكرامِ والملائكةِ الكرامِ، هذه الأمورُ من الغيبِ كُلُّهُ مصداقٌ لقولِه: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (¬3) [النمل: آية 65] وقولُه هنا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: آية 59]. وَاللَّهُ (جل وعلا) يُطْلِعُ رسلَه على ما شَاءَ من غَيْبِهِ، وَيُطْلِعُ ملائكتَه على ما شاءَ من غَيْبِهِ، كما بَيَّنَهُ في آياتٍ من كتابِه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ¬

(¬1) في الأصل كلمتان غير واضحتين، وما بين المعقوفين زيادة ينتظم بها الكلام. (¬2) زيادة يقتضيها السياق .. (¬3) انظر: الأضواء (2/ 196).

[الجن: الآيتان 26، 27]، وكقولِه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: آية 179] أي: فَيُطْلِعُ مَنِ اجْتَبَى من رسلِه على ما شاءَ من غَيْبِهِ، وقد أَطْلَعَ نَبِيَّنَا - صلى الله عليه وسلم - على أمورٍ كثيرةٍ، أَخْبَرَ بكثيرٍ منها، منه ما حَفِظَهُ الناسُ حتى وَقَعَ، ومنه ما نَسُوهُ. وهذه الآيةُ الكريمةُ وأمثالُها في القرآنِ العظيمِ أجمعَ العلماءُ على أنه أكبرُ واعظٍ وأعظمُ زَاجِرٍ نَزَلَ من السماءِ إلى الأرضِ، فهي أعظمُ موعظةٍ تُلْقَى يتعظُ بها الناسُ. إلا أنَّهُ مع الأسفِ تَمُرُّ على آذانِهم ولم تَكُنْ في قلوبِهم!! وهذا أكبرُ وَاعِظٍ؛ لأنه أَطْبَقَ العلماءُ على أن أعظمَ المواعظِ، وأعظمَ الزواجرِ، هو واعظُ المراقبةِ والعلمِ. وَضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا (¬1) - ولله المثلُ الأَعْلَى -: لو فَرَضْنَا أن هذا البراحَ من الأرضِ، فيه مَلِكٌ قَتَّالٌ للرجالِ إن انْتُهِكَتْ حرماتُه، سفَّاكٌ للدماءِ إن انتُهكت حرماتُه، ذو قوةٍ وعزةٍ ومَنَعَةٍ، وحولَه جيوشُه، وحولَ هذا الملكِ بناتُه ونساؤُه وجواريه، أَيَخْطُرُ في بالِ أحدٍ أن أولئك الحاضرين مجلسَ هذا الملكِ الجبارِ يقومُ واحدٌ منهم بغمزةِ عَيْنٍ إلى حَرَمِ ذلك الملكِ أَوْ رِيبَةٍ؟ لاَ وَكَلاَّ، كُلُّهُمْ خاضعونَ خاشعةٌ عيونُهم، خاشعةٌ جوارحُهم، غايةُ أمانيهم السلامةُ!! ولا شَكَّ أن خالقَ الكونِ - وله المثلُ الأَعْلَى - أعظمُ بَطْشًا، وأشدُّ نَكَالاً إن انْتُهِكَتْ حرماتُه، وَحِمَاهُ في أرضِه مَحَارِمُهُ. ولو قيل لأهلِ بلدٍ: إن أميرَ ذلك البلدِ يَبِيتُ عَالِمًا بِكُلِّ ما يفعلونَه في الليلِ من الخسائسِ والدسائسِ لَبَاتُوا مُتَأَدِّبِينَ، لا يفعلونَ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (3/ 10).

إلا شيئًا طَيِّبًا!! وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ، الْمَلِكُ الجبارُ، يُخْبِرُهُمْ في آياتِ كتابِه، لاَ تكادُ تَقْلِبُ ورقةً واحدةً من أوراقِ المصحفِ الكريمِ إلا وجدتَ فيها هذا الواعظَ الأكبرَ والزاجرَ الأعظمَ {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} الآيات [الأنعام: آية 59] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: آية 16] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: آية 235] {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: آية 61] فَيَنْبَغِي علينَا جميعًا أن نعتبرَ بهذا الزاجرِ الأكبرِ، والواعظِ الأعظمِ، وأن لا نَتَنَاسَاهُ؛ لئلاَّ نُهْلِكَ أنفسَنا، ونعتقدَ أَنَّا لو كُنَّا في حضرةِ مَلِكٍ جَبَّارٍ من ملوكِ الدنيا يموتُ ويأكلُه الدودُ، أَنَّا بحضرتِه وملاقاتِه لا يُمْكِنُنَا أن نفعلَ إلا شيئًا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ، فعلينا أن نعلمَ أننا بينَ يَدَيْ مَلِكِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، وأنه أعظمُ بطشًا وأفظعُ نكالاً إِنِ انْتُهِكَتْ حرماتُه، وأنه عَالِمٌ بِكُلِّ ما نُسِرُّ وما نُعْلِنُ، فعلينا أن نعتبرَ هذا لنتعظَ، فقد بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ جبريلَ المشهورِ (¬1) ( ... ) (¬2) أن جبريلَ أَرَادَ أن يُبَيِّنَ هذا الواعظَ الأكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ لأصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا لَمْ يَنْتَبِهُوا له. وإيضاحُ ذلك: أن الله بَيَّنَ لنا في آياتٍ من كتابِه أن الحكمةَ التي خَلَقَ من أَجْلِهَا الخلقَ والسماواتِ والأرضَ، وخلقَ مِنْ أَجْلِهَا الموتَ والحياةَ، هي أن يَبْتَلِيَ خَلْقَهُ، أي: يختبرهم بنقطةٍ واحدةٍ، هي نقطةُ العملِ، مَنْ يُحْسِنُ عملَه فيأتِي به حَسَنًا كما يَنْبَغِي، وَمَنْ لاَ يُحْسِنُهُ؛ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬2) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها.

وَلِذَا قال في أولِ سورةِ هودٍ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ثم بَيَّنَ الحكمةَ والعلةَ الغائيةَ قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] ولم يَقُلْ: أَيُّكُمْ أكثرُ عملاً، وقال في أولِ سورةِ الكهفِ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بَيَّنَ الحكمةَ في ذلك قال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: آية 7] وقال في أولِ سورةِ الْمُلْكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثُمَّ بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] ولم يَقُلْ: أكثرُ عملاً، فَدَلَّتْ هذه الآياتُ القرآنيةُ أَنَّا خُلِقْنَا لِنُخْتَبَرَ وَنُبْتَلَى في شيءٍ هو إحسانُ العملِ، وَلاَ شَكَّ أن العاقلَ يقولُ: إذا كان رَبِّي (جل وعلا) خَلَقَ الخلائقَ والسماواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ؛ لأجلِ الابتلاءِ في إحسانِ العملِ، يا لَيْتَنِي عَرَفْتُ الطريقَ إلى إحسانِ العملِ لأَنْجَحَ بهذا الاختبارِ. وجاء جبريلُ يُبَيِّنُ هذا المغزَى الأكبرَ والمقصدَ الأعظمَ لأصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا مُحَمَّدُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ - المعنَى الذي خُلِقَ الخلقُ لأجلِ الاختبارِ فيه - فَبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه لا طريقَ إلى الإحسانِ الذي خُلِقْنَا من أجلِه إلا باعتبارِ هذا الزاجرِ الأكبرِ والواعظِ الأعظمِ، وهو مراقبةُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والعلمُ بأنه رَقِيبٌ، عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ ولذا قال له: «الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». ولاَ شَكَّ أن مَنْ عَبَدَ اللَّهَ كأنه يَرَى اللَّهَ، وإذا تَنَزَّلَ فقال: لا أَرَى اللَّهَ، فهو عَالِمٌ أن اللَّهَ يَرَاهُ، مُطَّلِعٌ عليه، من كان يعملُ أمامَ الملكِ الجبارِ، وهو مطلعٌ عليه، ناظرٌ إليه، لا يمكنُ أن يسيءَ العملَ، فلا بُدَّ أن يحسنَ العملَ {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا

غَائِبِينَ} [الأعراف: آية 7] في هذه الآياتِ القرآنيةِ زاجرٌ أعظمُ، وواعظٌ أكبرُ. وإذا عَلِمْتُمْ من هذا أن الغيبَ لا يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ، كما قال هنا: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: آية 59] وقال: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: آية 65] فَاعْلَمُوا أن كُلَّ طريقٍ يفعلُها الإنسانُ ليصلَ بها إلى شيءٍ من الغيبِ أنها طريقٌ باطلةٌ، وبعضُها يكونُ كُفْرًا؛ لأن الغيبَ من خصائصِ اللَّهِ التي اخْتَصَّ بِعِلْمِهَا، ولا يعلمُ الناسُ إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ؛ ولأَجْلِ ذلك لا يجوزُ اتخاذُ شيءٍ يَدَّعِي صاحبُه أنه يصلُ به إلى الغيبِ، فَكُلُّ ذلك حرامٌ، كالطَّرْقِ (¬1)، والزَّجْرِ (¬2)، والعِيَافَةِ (¬3)، وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الأمورِ التي يُرَادُ بها الاطلاعُ على الغيبِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» (¬4). هذا لفظُ مسلمٍ في ¬

(¬1) الطرق: ضرب الكاهن بالحصى. انظر: القاموس (مادة: طرق)، (1166)، وانظر: الأضواء (2/ 199). (¬2) قال في القاموس: الزجر: «العيافة والتكهن» القاموس (مادة: زجر) (511)، وفي المعجم الوسيط: «زَجَر الطير: أثارها ليتيمن بِسُنُوحِها أو يتشاءم ببروحها» اهـ (المعجم الوسيط (مادة: زجر) (1/ 389)، وانظر: الأضواء (2/ 199). (¬3) عيافة الطير: زجرها. والمقصود الاعتبار بأسمائها ومساقطها وأصواتها، فيتفاءل بذلك أو يتشاءم، والعائف هو المتكهن بالطير أو غيرها. انظر: القاموس (مادة: عاف) (1086)، وانظر: الأضواء (2/ 199). (¬4) مسلم، كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2230) (4/ 1751)، وفيه (ليلة) بدل (يوما).

صحيحِه، والمرادُ بِالْعَرَّافِ: هو مَنْ يَدَّعِي أنه يعرفُ موضعَ الضالةِ، وموضعَ الشيءِ المسروقِ وما جَرَى مَجْرَى ذلك، مع أن العَرَّافَ قد يدخلُ فيه الكاهنُ وَالْحَازِي وَالزَّاجِرُ (¬1). وهذه أمورٌ كلها حرامٌ، وهي من أمورِ الشرِّ، فبعضُها يَكُونُ كُفْرًا. وما تجري به العادةُ في هذه البلادِ من أن الواحدَ يأتي للواحدِ هنا ويقولُ: ضَاعَتْ لنا شاةٌ أو جَفْرَةٌ، فَاعْرِفْ لي محلَّها بعرافةٍ أو بشيءٍ!! هذا من كبائرِ الذنوبِ، وصاحبُه لن تُقْبَلَ له صلاةٌ أربعينَ ليلةً على لسانِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كما ثَبَتَ عنه في صحيحِ مسلمٍ. والسائلُ والمسؤولُ كِلاَهُمَا في غايةِ الضلالِ. فهذه أمورٌ لا تجوزُ، وكل هذا يدخلُ في الكهانةِ. فالكهانةُ والطَّرْقُ والزَّجْرُ والعرافةُ وما جَرَى مَجْرَى ذلك، كُلُّ هذا حَرَامٌ (¬2)، ولا يجوزُ منه شيءٌ الزجرُ ولاَ العيافةُ. وَالْمُرَادُ بالعيافةِ: زَجْرُ الطيرِ، وادعاءُ أهلِها الَّذِينَ يَزْجُرُونَهَا أنهم يَعْرِفُونَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَيَطَّلِعُونَ على الأمورِ من أحوالِ طيرانِ الطيورِ من أسمائِها وألوانِها وجهاتِها ومواقعِها التي تقعُ عليها. وهذا النوعُ من العيافةِ كان موجودًا عِنْدَ العربِ، ومما اشْتُهِرَ به من قبائلِ العربِ: بَنُو لِهْبٍ، حتى كان الشاعرُ يقولُ فيهم (¬3): خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلاَ تَكُ مُلْغِيًا مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ والطَّرْقُ بعضُ العلماءِ يقولُ: هو الخطُّ الرَّمْلِيُّ الذي يَخُطُّونَهُ، وَيَدَّعُونَ به الاطلاعَ على الغيبِ. وبعضُهم يقولُ: هي حجارةٌ كان ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 3)، الأضواء (2/ 198). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 197). (¬3) البيت في ضياء السالك (1/ 136)، وانظر: المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية (1/ 146)، وهو في الأضواء (2/ 199).

يَرْمِي بها النساءُ، ويزعمونَ أنهم يَطَّلِعُونَ بها على الغيبِ. وقد صَدَقَ لَبِيدٌ حيث قال (¬1): لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلاَ زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ والذي يعملُ هذه العلومَ الشَّرِّيَّةَ ويقولُ: «عرفتُ منها غَيْبًا». فهو ضَالٌّ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: إنه في [مسائلَ منها] (¬2) كافرٌ. قالوا: فَمَنْ قَالَ: «أنا أعلمُ الوقتَ الذي يأتِي فيه المطرُ، وأعلمُ ما في بطنِ هذه المرأةِ هل هو ذَكَرٌ أو أُنْثَى». جَزَمَ ابنُ العربيِّ المالكيُّ في أحكامِ القرآنِ (¬3)، والزجاجُ (¬4) أَنَّ مَنْ يقولُ هذا أنه كَافِرٌ. اللَّهُمَّ إلا إذا ادَّعَى أنه يستندُ لعاداتٍ وَأُمُورٍ، كالذي يقولُ: إذا اسْوَدَّتْ حَلَمَةُ ثَدْيِ المرأةِ الأيمنِ فهو ذَكَرٌ، وإذا اسودت حلمةُ الثديِ الأيسرِ فهو أُنْثَى (¬5) والظاهرُ أن هذه عوائدُ أَجْرَاهَا اللَّهُ بمشيئتِه وَقَدَرِهِ، فهذا قد لاَ يُكَفَّرُ عندَ مَنْ قالوا هذا، ولكنهم يقولونَ: يُنْهَى. وكذلك الذي يقولُ: العادةُ جَرَتْ بأن الحاملَ إن كانت تَرَى جَنْبَهَا الأيمنَ أثقلَ فهو ذَكَرٌ، وإن كانت تَرَى جَنْبَهَا الأيسرَ أثقلَ فهو أُنْثَى (¬6). هذه كُلُّهَا أمورٌ باطلةٌ. وَمَنِ ادَّعَى أن السحابةَ [تُمْطِرُ] (¬7) بِعِلَّةٍ: أن اللَّهَ رَبَطَ بمجارِي ¬

(¬1) البيت في الدر المصون (10/ 751)، الأضواء (2/ 199). (¬2) في هذا الموضع كلمة غير واضحة في الأصل، وهي شبيهة بما أَثْبَتُّ. (¬3) أحكام القرآن (2/ 738)، وانظر: القرطبي (7/ 2)، الأضواء (2/ 197). (¬4) معاني القرآن وإعرابه (4/ 202). (¬5) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 738)، والقرطبي (7/ 2)، إكمال إكمال المُعْلم (1/ 76)، الأضواء (2/ 197). (¬6) نفس المصدر السابق. (¬7) في الأصل كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.

عادتِه أن النوعَ الفلانيَّ يُنْزِلُ اللَّهُ عندَه [المطرَ] (¬1) نَاسِبًا الأمرَ لِلَّهِ، وأنها عاداتٌ رَبَطَهَا اللَّهُ وإن شَاءَ خَرَمَهَا. مِثْلُ هذا لا يُكَفَّرُ صاحبُه، ولكنه يُنْهَى. ولو قال: إن عندَه مقدماتٍ يَعْلَمُهَا هو مِنْ نَفْسِهِ يعلمُ بها أَذَكَرًا هو أَمْ أُنْثَى، ويعلمُ بها أن المطرَ سَيَنْزِلُ. فهذا الذي جَزَمَ ابنُ العربيِّ بِكُفْرِهِ والزجاجُ وغيرُ واحدٍ من العلماءِ، والذين كَفَّرُوهُ قالوا: لأنه كَذَّبَ كلامَ اللَّهِ، وَعَارَضَ كلامَ اللَّهِ الصريحَ: أن هذا لا يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ، أما الذين يقولونَ: إن في اليومِ الفلانيِّ سَتُكْسَفُ الشمسُ وَيُخْسَفُ القمرُ. وَعَامَّةُ العلماءِ على أن هؤلاء لا يُكَفَّرُونَ؛ لأن هذا شيءٌ قَدْ يُدْرَكُ بالحسابِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ في قضيةِ القمرِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: آية 39] ويقولُ فيه: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: آية 5] إِلاَّ أن علماءَ المالكيةِ مَنَعُوا على مَنْ عَلِمَ هذا بالحسابِ أن يبوحَ به. قالوا: ولو تَكَلَّمَ به لَوَجَبَ على الإمامِ تعزيرُه وحبسُه. قالوا: لأَنَّهُ يشوشُ على الجهلةِ الذين لا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الأمورِ الغيبيةِ، وبينَ ما جَعَلَ اللَّهُ له منها علاماتٍ يُعْرَفُ بها، وما لم يَجْعَلْ له علاماتٍ وَاخْتَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهِ (¬2). وعلى كُلِّ حَالٍ فهذه الأمورُ، قولُ إنسانٍ لإنسانٍ: «فَتِّشْ لِي بعلمِ غيب القراءة على محلِّ الضَّالَّةِ». هذا - والعياذُ بالله - ضلالٌ كبيرٌ، من كبائرِ الذنوبِ. ولو جاءَ واحدٌ وقال لإنسانٍ: «افْعَلْ لِي هذا»، أو سَأَلَهُ عن شيءٍ: «أين ضَالَّتِي؟» أو شيئًا من المسروقِ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أربعينَ ليلةً، كما صَرَّحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك. هذا السائلُ فكيفَ بالذي يفعلُ ذلك وَيَتَعَاطَاهُ؟ وقد أَجْمَعَ ¬

(¬1) في الأصل: «السحاب» وهو سبق لسان. (¬2) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 739)، القرطبي (7/ 3)، الأضواء (2/ 198).

العلماءُ أن ما يُدْفَعُ للكاهنِ من الحلوانِ وللعرافِ أنه مِمَّا لاَ يجوزُ، كُلُّ تلك المكاسبِ بإجماعِ العلماءِ (¬1) باطلةٌ، كالذي يُعْطَى للكاهنِ لكهانتِه وَيُسَمَّى حلوانًا، والذي يُعْطَى للنائحِ في نياحتِه، والذي يُعْطَى للمُغَنِّي في غِنَائِهِ، والذي يُعْطَى لِكُلِّ مُبْطِلٍ وَلَهْوٍ، والذي يُعْطَى لاطِّلاَعِ الغيبِ، كُلُّ ذلك من المكاسبِ السيئةِ التي هي حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ العلماءِ، لا يجوزُ شيءٌ منها. ومعنى قولِه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} {وَعِندَهُ} أي: عِنْدَ اللَّهِ وحدَه جل وعلا {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} في مفردِ المفاتحِ هنا وَجْهَانِ معروفانِ عندَ العلماءِ (¬2): أحدُهما: أن مُفْرَدَ الْمَفَاتِحِ هنا (مَفتح) بفتحِ الميمِ، و (المَفتح) بفتحِ الميمِ هو الخزانةُ. وعلى هذا فالقولُ {وَعِندَهُ} جل وعلا {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} أي: خزائنُ الغيبِ، يعلمُ كُلَّ ما يغيبُ مِمَّا يَجْهَلُهُ خَلْقُهُ. وهذا مَرْوِيٌّ عن ابنِ عباسٍ، وَجَزَم به السديُّ. القولُ الثاني: أن واحدَ المفاتحِ في هذه الآيةِ أنه (مِفْتَح) بكسرِ الميمِ. و (المِفتحُ) بكسرِ الميمِ هو المفتاحُ. وقد تقررَ في فَنِّ التصريفِ أن (المِفْعَل) وزنٌ قياسيٌّ لآلاتِ الفعلِ، و (المفْتَح): آلةُ الفتحِ، فهو أَمْرٌ قِيَاسِيٌّ، بحسبِ الميزانِ الصرفيِّ (¬3) أن يكونَ على (مِفْعَل) ويأتِي على مفتاح (مِفْعَال) أيضا. ¬

(¬1) انظر: الكافي لابن عبد البر ص191، القرطبي (7/ 3)، الأضواء (2/ 198) .. (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 401)، القرطبي (7/ 1)، البحر المحيط (4/ 144)، الدر المصون (4/ 659)، أضواء البيان (2/ 195). (¬3) انظر: ضياء السالك (3/ 48).

قال بعضُ العلماءِ (¬1): (المِفْتَح) أفصحُ من (المِفتاحِ). والذين قالوا: إن (المفاتح) جمعُ (مفتاح)، وأنها قُصِرَتْ، وأن القياسَ (المفاتيح)؛ لأن المفردَ (مفتاح) إلا أنها قُصِرَتْ، كما قالوا في القطرِ: قَوَاطِر، وقالوا في المحرابِ: محارِب، هذا لا يُحْتَاجُ إليه؛ لأن (المفتاحَ) فيه لغةٌ فصيحةٌ هي (المِفْتَح) بلا أَلِفٍ. وعليها فتكونُ (مفاتح) جَمْعًا لـ (المفتاح) قِيَاسِيًّا. وعلى كُلِّ التَّقْدِيرَيْنِ فالمعنَى: إنما خزائنُ الغيبِ ومفاتُحه التي يُفْتَحُ بها ويظهرُ كُلُّ هذا عند اللَّهِ وحدَه، لا يعلمُها إلا هُوَ وحدَه (جل وعلا)، ولا ينافِي ذلك أن اللَّهَ يُعَلِّمُهَا لِمَنْ شَاءَ. المعنَى أنه ليس عندَ أحدٍ قدرةٌ وَلاَ اكتسابٌ يكتسبُ هذه، ولا مانعَ مِنْ أن يُعَلِّمَ اللَّهُ ما شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فقد يَعْلَمُ الملاَئِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بالسحابِ الوقتَ الذي تَنْزِلُ فيه السحابُ؛ لأن اللَّهَ يقولُ لهم: احْمِلُوا هذا المطرَ حتى تُنْزِلُوهُ في وقتِ كَذَا، في موضعِ كَذَا، فهم يَعْلَمُونَ هذا بتعليمِ اللَّهِ قبلَ أن يعلمَه غيرُهم، وكذلك الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بالرحمِ، كما ثَبَتَ في حديثِ ابنِ مسعودٍ الصحيحِ (¬2): أنه يقولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فيخبرُه اللَّهُ وهو في بطنِ أُمِّهِ قبلَ أن يعلمَ به الآخَرُونَ. وهكذا. وهذا معنَى قولِه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ثم ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 1)، البحر المحيط (4/ 144). (¬2) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، حديث رقم (3208) (6/ 303)، وأخرجه في مواضع أخرى من صحيحه، انظر: الأحاديث (3332، 6594، 7454)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه ... حديث رقم (2643)، (4/ 2036).

قال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يعني يعلمُ ما يختصُّ بِعِلْمِهِ، ويعلمُ كُلَّ شيءٍ، الذي يعلمُه الخلقُ هو يعلمُه، والذي لاَ يعلمُه إلاَّ هو وحدَه فقد اسْتَأْثَرَ بعلمِه جل وعلا. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} والتحقيقُ أن البرَّ ضِدُّ البحرِ (¬1)، والمرادُ بـ {مَا فِي الْبَرِّ} أي: جميعُ ما فِي [الْبَرِّ] (¬2). [7/أ] قال اللَّهُ تعالى: / {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: الآيات 74 - 82]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: آية 74]. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 145). (¬2) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين في الأصل: «البحر» , وهو سبق لسان.

قرأ هذا الحرفَ نافعٌ وأبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ (¬1) {إِنِّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقرأه الباقون من السبعةِ: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وهما قراءتانِ سبعيتانِ، ولغتانِ فصيحتانِ. ووجهُ مناسبةِ هذه الآيةِ الكريمةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا التي كُنَّا نُفَسِّرُهَا: أن الكفارَ قالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه: ارْجِعُوا إلى دِينِنَا، فَاعْبُدُوا معنا معبوداتِنا، وأنزلَ اللَّهُ في ذلك: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام: آية 71] (¬2) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ أنهم دَعَوْهُمْ إلى عبادةِ الأوثانِ، وأنهم لا يمكنُ أن يَرْجِعُوا إِلَى [الكفرِ] (¬3) بعدَ أن عَلَّمَهُمُ اللَّهُ الدينَ، وَعَلَّمَهُمْ تَوْحِيدَهُ الصحيحَ {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} هذا لا يكونُ، بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآيةِ سفاهةَ عقولِ مُشْرِكِي مكةَ، وهم يقولونَ إن إبراهيمَ جَدُّهُمْ، وإنه على دِينٍ صحيحٍ، وَمِلَّةٍ حنيفيةٍ سَمْحَةٍ!! فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يذكرَ لهم قصةَ إبراهيمَ مع أَبِيهِ وقومِه، وتفنيدِه لعبادةِ الأوثانِ، وتحذيرِهم من ذلك؛ لِيَعْلَمُوا أن الذي يَدْعُونَكُمْ إليه أنه كُفْرٌ وَضَلاَلٌ وَسَفَهٌ، وأنه مخالفٌ لِمِلَّةِ إبراهيمَ التي يُقِرُّونَ بأنها حَسَنَةٌ (¬4). ¬

(¬1) انظر: النشر (2/ 163 - 164) (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 452). (¬3) في هذا الموضع يوجد مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬4) انظر: البحر المحيط (4/ 163).

ومعنَى قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} وَاذْكُرْ يا نَبِيَّ اللَّهِ {إِذْ} أي: حِينَ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} جَرَتْ عادةُ العلماءِ أَنْ يُقَدِّرُوا الناصبَ لـ (إذْ) يُقَدِّرُوهُ: (اذكر) (¬1). ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: أين القرينةُ على أن العاملَ في هذا الظرفِ الذي هو (إِذْ) أنه لفظةُ (اذكر)، أين قرينةُ ذلك؟ الجوابُ: أن العلماءَ فَهِمُوا ذلك مِنَ استقراءِ القرآنِ، وأن اللَّهَ فِي القصصِ يأتِي بلفظةِ (اذْكُرْ) عاملةً فِي (إذْ) هذه ونحوِها، كقولِه: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: آية 21] {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ} [الأنفال: 26] {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: آية 86] ونحو ذلك في القرآنِ، كذلك قولُه هنا: وَاذْكُرْ {إِذْ قَالَ} أي: حينَ قال نَبِيُّ اللَّهِ وخليلُه إبراهيمُ قال: {لأَبِيهِ آزَرَ} التحقيقُ الذي لاَ شَكَّ فيه أن (آزَرَ) بَدَلٌ، أو عطفُ بيانٍ من الأبِ (¬2)، وأنه أَبُوهُ، وإن كان عامةُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أَبَا إبراهيمَ اسمُه (تارح). وقد أجابَ عن هذا ابنُ جريرٍ وغيرُه (¬3)، قالوا: لاَ أصدقَ من اللَّهِ، وَذَكَرَ هنا أن أَبَاهُ (آزَرَ)، وقد يكونُ له اسمانِ، أي: اسمٌ ولقبٌ، أحدُهما: (تارح)، والثاني: (آزر). وهذه قراءةُ السبعةِ، وجماهير القراء (¬4)، وهناك قراءاتٌ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) في سورة البقرة. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 163). (¬3) انظر: تفسير ابن جرير (11/ 468)، القرطبي (7/ 22)، البحر المحيط (4/ 163)، ابن كثير (2/ 150)، كلمة الحق للشيخ أحمد شاكر ص302. (¬4) انظر: المبسوط لابن مهران ص196.

شَاذَّةٌ (¬1): منها مَنْ قَرَأَ: {وَإِذْ قال إبراهيم لأَبِيهِ آزرُ} بضمِّ الراءِ. وعلى هذا فالمعنى: يا آزرُ أَتَتَّخِذُ أصنامًا آلهةً. ومنهم من يقولُ: إن (آزرَ) ليس اسمَ أَبِيهِ، إنما هو اسمُ صنمٍ (¬2). والذين قالوا: هو اسمُ صنمٍ، قالوا: كَثُرَتْ عبادتُه لذلك الصنمِ، وملازمتُه إياه حتى نُبِزَ به، كما قيلَ في ابنِ قيسِ الرُّقَيَّاتِ (¬3)؛ لأنه تَشَبَّبَ بنساءٍ متعددات، كُلُّهُنَّ تُسَمَّى (رقيةَ)، فنبزوه بها. وفيه قراءاتٌ شاذةٌ غيرُ هذا، وأقوالٌ أُخَرُ لاَ مُعَوَّلَ عليها. وَاعْلَمُوا أن قصةَ أَبِي إبراهيمَ هذه ذَكَرَهَا اللَّهُ مِرَارًا كثيرةً في سورٍ متعددةٍ من كتابِه، وَكُلُّهَا صريحٌ في أنه أَبُوهُ لاَ عمَّه، ولم يَرِدْ في كتابِ اللَّهِ ولا في سنةِ رسولِ اللَّهِ حرفٌ واحدٌ يدلُّ على أنه عمُّه، إلا أن أهلَ السِّيَرِ أُولِعُوا بأن قالوا: أَبُوهُ: عمُّه. والذي يَجِبُ علينا جميعًا هو تصديقُ اللَّهِ، وأن لاَ نُحَرِّفَ كلامَ اللَّهِ، ولا نفسرَه بغيرِ معناه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه مِنْ كتابٍ أو سُنَّةٍ، فاحترامُ اللَّهِ واجبٌ، واحترامُ كتابِه واجبٌ، وَمَنْ أَوْجَبِ احترامِه: أَنْ لاَ نُحَرِّفَهُ، ولا ننقلَ لَفْظًا (¬4) منه عن ظاهرِه الْمُتَبَادَرِ منه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه، لاَ سيما وَاللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه جَاءَ بالقصةِ بعباراتٍ مختلفةٍ، منها ما هو في الخطابِ، ومنها ما هو في غيرِه، كُلُّهَا صريحةٌ فِي أنه أَبُوهُ لاَ عمَّه. ¬

(¬1) انظر: المحتسب (1/ 223)، ابن جرير (11/ 467). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 467)، القرطبي (7/ 22)، ابن كثير (2/ 149). (¬3) هو عبيد الله بن قيس، أحد بني عامر بن لؤي. انظر: الشعر والشعراء ص366. (¬4) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.

والأبُ إِذَا أَطْلَقَتْهُ العربُ انْصَرَفَ إلى أَبِ الرجلِ الذي وَلَدَهُ، ولا يجوزُ أن يُحْمَلَ على أنه عَمُّهُ إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه، لا سيما لو كَثُرَ ذِكْرُهُ في القرآنِ بعباراتٍ كثيرةٍ مختلفةٍ، على أنحاءَ مختلفةٍ، كُلُّهَا صريحٌ في أنه أَبُوهُ، فَنَقَلَهَا إلى عَمِّهِ من غيرِ دليلٍ من كتابٍ وَلاَ سُنَّةٍ تَجَرُّؤٌ على اللَّهِ وعلى كتابِه بما لا يجوزُ. وَأَهَمُّ شيءٍ في التعظيمِ والاحترامِ: كلامُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والحذرُ مِنْ أَنْ يُبَدَّلَ أو يُحَرَّفَ، اللَّهُ قال هنا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: آية 74] وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ في سورةِ الأنبياءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: الآيتان 51، 52] وقال في الشعراءِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)} [الشعراء: الآيتانِ 69، 70] وقال في سورةِ مريمَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} إلى آخِرِ الآياتِ. [مريم: الآيات 41 - 43]. وقال في براءة: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [براءة: آية 114] وهذا كثيرٌ في القرآنِ، وكذلك قال نفس إبراهيم: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: آية 86] فجاءَ مِرَارًا كثيرةً بكلامِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وليس لنا أَنْ نُحَرِّفَ كلامَ اللَّهِ، ولا أن نَحْمِلَهُ على غيرِ معناهُ إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه من كتابٍ وَسُنَّةٍ، وكونُه أَبَاهُ لو كان فيه منقصةٌ أو مَضَرَّةٌ على إبراهيمَ لَمَا كان إبراهيمُ يقولُ: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: آية 86] {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: آية 114] فَشَرَفُ إبراهيمَ

وجلالتُه ومكانتُه هِيَ هِيَ، لا يُنْقِصُهَا شيءٌ من ذلك، وعلى كُلِّ حالٍ فَعَلَيْنَا أن نُصَدِّقَ اللَّهَ، ولاَ نُحَرِّفَ كلامَه، ونحملَه على غيرِ معناهُ افتراءً على اللَّهِ من غيرِ برهانٍ من كتابٍ وَلاَ سُنَّةٍ. ومعنَى قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} وَاذْكُرْ {إِذْ قَالَ} نَبِيُّ اللَّهِ {إِبْرَاهِيمُ} وخليلُه {لأبِيهِ آزَرَ} وكان في قومٍ يعبدونَ الكواكبَ السَّيَّارَةَ السبعةَ، ويعبدونَ تماثيلَ أصنامٍ أرضيةٍ، فَلَهُمْ معبوداتٌ أرضيةٌ، ومعبوداتٌ سماويةٌ، معبوداتُهم الأرضيةُ: أصنامٌ وتماثيلُ يزعمونَ أنهم يجعلونَ صُوَرَهَا وأشكالَها على هيئةِ الملائكةِ، وَيَعْبُدُونَهَا لِتَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وكذلك يعبدونَ الكواكبَ السيارةَ التي هي الشمسُ، والقمرُ وزحلُ والمشتري والزهرةُ وعطاردُ والمريخُ كما هي معروفةٌ. قال لَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ مُوَبِّخًا لهم مُسَفِّهًا أحلامَهم: قال لأَبِيهِ (آزَرَ) مُنْكِرًا عليه بهمزةِ الإنكارِ: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} المعنَى: أَتَتَّخِذُ تماثيلَ مصورةً من حجارةٍ، أو من غيرِها من الأجسامِ، تتخذُها آلهةً تعبدُها من دونِ اللَّهِ، وتصرفُ لها حقوقَ اللَّهِ، مع أنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ؟ هذا مِمَّا لا يليقُ!! كما قال له: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: آية 42] وقد أَفْحَمَهُمْ بالحجةِ في سورةِ الأنبياءِ، ذلك كما قَصَّهُ اللَّهُ في الأنبياءِ (¬1)، والصافاتِ (¬2)، أنه ما كان يجدُ فرصةً يَكْسِرُ أصنامَهم فيها؛ لأنه إِنْ كسرهم وهم ينظرونَ أَهَانُوهُ وَآذَوْهُ، وكان يرتقبُ فرصةً يكسرهم فيها، حتى جاءَ يومُ عيدِهم، فَجَاؤُوا بطعامِهم وشرابِهم ¬

(¬1) كما في قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} والآيات بعدها. (¬2) كما في قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} والآيات بعدها.

وَوَضَعُوهُ عندَ الأصنامِ، وقالوا للأصنامِ: اجْعَلُوا لنا البركاتِ والخيراتِ في هذا الطعامِ والشرابِ حتى نرجعَ مِنْ عِيدِنَا، وقالوا لإبراهيمَ: اخْرُجْ مَعَنَا إلى عِيدِنَا. {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}. يريدُ أن يتخلصَ منهم ليكسرَ الأصنامَ، فَلَمَّا خَرَجُوا جاءَ إلى الأصنامِ وبيدِه الفأسُ، فوجدَ الطعامَ عندَهم {فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ} مُسْتَهْزِئًا بهم، لِمَ لا تَأْكُلُونَ من الطعامِ؟ كما قالَ في الصافاتِ: {فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ} [الصافات: آية 91] {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: آية 93] يَضْرِبُهُمْ ويُكَسِّرُهُمْ بيمينِه بالفأسِ، فَلَمَّا كَسَّرَهُمْ تركَ كَبِيرَهُمْ، وهو أعظمُ صنمٍ عندَهم، يقولونَ: إنه مُرَصَّعٌ بالجواهرِ، وأن عليه ياقوتتين. علق الفأسَ في عنقِه (¬1)، فلما جَاؤُوا من عيدِهم وَجَدُوا الأصنامَ مُكَسَّرَةً، والفأسَ مُعَلَّقًا في عُنُقِ الكبيرِ، فقالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَا؟ فَدُلُّوا على إبراهيمَ، كما فَصَّلَهُ اللَّهُ في سورةِ الأنبياءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ (54)} [الأنبياء: الآيات 51 - 54] وكما قال هنا في الأنعامِ: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 74] فَأَجَابُوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} [الأنبياء: آية 55] فَأَجَابَهُمْ أنه جَاءَ بالحقِّ: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: آية 56] ثم قَالَ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} يعني بِكَيْدِهَا: أن يكسرَها من حيثُ لا يحضر أحدٌ يَرَاهُ {بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} وفي القراءةِ الأُخْرَى: ¬

(¬1) انظر: تاريخ ابن جرير (1/ 122)، البداية والنهاية (1/ 145) ..

{جِذاَذًا} (¬1) أي: كَسَّرَهُمْ {إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} فَلَمَّا رجعوا {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} يَعِيبُهُمْ ويقولُ: إنه يكيدُهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)} يشهدونَ عليه أنه الذي فَعَلَ هذا، فَاسْتَنْطَقُوهُ وقالوا: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}؟ {هَذَا} يعني: جَعْلهم جذاذًا، قال إبراهيمُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: الآيات 57 - 63] إلى أَنْ قَالُوا لَهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: آية 65] أَنْتَ تعرفُ أن هؤلاءِ جَمَادٌ، ما عِنْدَهُمْ نُطْقٌ، ولا يتكلمونَ. وكان هذا هو قَصْدُهُ، فقال: {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: آية 67] فَلَمَّا أَفْحَمَهُمْ بالحجةِ والبرهانِ والدليلِ لَجَؤُوا إلى القوةِ {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: الآيات 68 - 70] هذه القصةُ مكررةٌ في القرآنِ، ومما بَسَطَهَا اللَّهُ فيه: سورةُ الأنبياءِ، وذلك معنَى قوله هنا في الأنعامِ: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 74] أي: في ذَهَابٍ عن طريقِ الحقِّ بَيِّن واضح لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ، كيف تتركونَ عبادةَ الخالقِ الرازقِ النافعِ الضَّارِّ الْمُحْيِي المميتِ وتعبدونَ جماداتٍ لا تنفعُ وَلاَ تَضُرُّ، ولاَ تسمعُ ولاَ تُبْصِرُ؟!! هذا هو الضلالُ المبينُ الواضحُ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 302 ..

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] الإشارةُ في قولِه: {كَذَلِكَ} كَمَا بصَّرنا إبراهيمَ العقيدةَ الصحيحةَ، وَعَرَّفْنَاهُ إخلاصَ العبادةِ لِلَّهِ، حيثُ وَبَّخَ المشركينَ، وَبَيَّنَ لهم أنهم في الضلالِ المبينِ، كذلك التبصيرُ والتعريفُ بالدينِ الصحيحِ، وإخلاصُ العبادةِ لِلَّهِ، كذلك التعريفُ والتبصيرُ نُرِيهِ - أيضا - ملكوتَ السمواتِ والأرضِ؛ ليكونَ من الْمُوقِنِينَ في عقيدتِه وَدِينِهِ (¬1)، و (الملكوتُ): أصلُه مصدرُ الملكِ، إلا أنه تُزَادُ فيه الواوُ والتاءُ، كالرَّهَبُوتِ، والرَّحَمُوتِ والرَّغَبُوتِ في: الرحمةِ والرهبةِ والرغبةِ وهي مصادرُ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، نَزَلَ بها القرآنُ العظيمُ (¬2). {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: مُلْكَ السمواتِ والأرضِ، وما أَبْدَعَ اللَّهُ في مُلْكِهِ في السماواتِ والأرضِ من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه؛ ليكونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. وفي {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في هذه الآيةِ الكريمةِ وَجْهَانِ لعلماءِ التفسيرِ مَعْرُوفَانِ (¬3): قالت جماعةٌ كثيرةٌ من العلماءِ: إن اللَّهَ فتحَ له السماواتِ فَنَظَرَ كُلَّ ذلك، حتى إلى العرشِ، وأنه شقَّ له الأَرَضِينَ، وَأَطْلَعَهُ حتى الأرض السفلى. وهذا قال به جمعٌ كثيرٌ من العلماءِ، ولكن التحقيقَ في الآيةِ: أَنَّ {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} التي أَرَاهُ ليكونَ بها من الْمُوقِنِينَ هو الظاهرُ من غرائبِ صنعِ اللَّهِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 470)، الدر المصون (5/ 5). (¬2) ابن جرير (11/ 470)، ابن عطية (6/ 88)، القرطبي (7/ 23)، البحر المحيط (4/ 165)، الدر المصون (5/ 6). (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 470 - 475)، القرطبي (7/ 23 - 24).

وعجائبِه، مِمَّا أَبْدَعَ فِي أرضِه وسمائِه حيث جَعَلَ السماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا، تَمُرُّ عليه آلافُ السنينَ لا يَتَفَطَّرُ ولا يَتَشَقَّقُ، ولا يحتاجُ إلى ترميمٍ، مرفوعًا على غيرِ عَمَدٍ: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك: الآيتان 3، 4] أي: ذَلِيلاً مِنْ عِظَمِ ما رَأَى، وجلالةِ ذلك الصُّنْعِ، وكذلك الأرضُ بما أَوْدَعَ اللَّهُ فيها من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه مِنْ أنواعِ الثمارِ والجبالِ وألوانِها والحيواناتِ والناسِ واختلافِ ألسنتِهم، وما أَوْدَعَ فيها من المنافعِ والمعادنِ والثمارِ مِمَّا هو آياتٌ تُبْهِرُ العقولَ، كما قَالَ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} مُخَاطِبًا لِكُلِّ الناسِ الذين لم يَشُقَّ لهم السماواتِ ولا الأرضَ {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: آية 185] وَقَالَ: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: آية 101] {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: آية 105] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً} [ق: الآيات 6 - 8] هذه (التبصرةُ) المذكورةُ هنا هي (الإيقانُ) المذكورُ في قولِه: {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] هذا هو القولُ الصحيحُ الذي دَلَّ عليه استقراءُ القرآنِ (¬1)، لا ما زَعَمُوا مِنْ أَنَّهُ شُقَّتْ له السماواتُ إلى العرشِ، وأنه شُقَّتْ له الأرضونَ إلى السُّفْلَى، وأن اللَّهَ (جل وعلا) رفعَه حتى اطَّلَعَ على أعمالِ بَنِي آدَمَ، وَكُلَّمَا رَأَى ¬

(¬1) وهو ما رجحه ابن جرير (رحمه الله) .. انظر: جامع البيان (11/ 475)، وابن كثير، كما في التفسير (2/ 150).

إنسانًا على فاحشةٍ دَعَا عليه فَهَلَكَ، وأن اللَّهَ نَهَاهُ عن ذلك، وأخبرَه أن مِنْ أَسْمَائِهِ الصبورَ. كُلُّ هذه مقالاتٌ ذَكَرَهَا كثيرٌ من علماءِ السلفِ من أكابرِ الْمُفَسِّرِينَ (¬1). والظاهرُ أن التحقيقَ خلافُ ذلك كُلِّهِ، وهو ما ذَكَرْنَا، وهو أن ملكوتَ السماواتِ والأرضِ: ما أَوْدَعَ اللَّهُ فيهما من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِها مِمَّا يدلُّ العقلاءَ على أَنَّ مَنْ صَنَعَهَا هو العظيمُ القادرُ على كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وحدَه، كما قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ} [آل عمران: آية 190] وأمثالُ ذلك من الآياتِ. هذا معنَى قولِه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} الظاهرُ أن {نُرِي} هنا من (رَأَى) البصريةِ. وقال بعضُ العلماءِ: مِنْ (رَأَى) الْعِلْمِيَّةِ. و {نُرِي} عُدِّيَ، أصلُه مضارعُ (أَرَيْنَا) بهمزةِ التعديةِ؛ وَلِذَا كانت (رَأَى) بَصَرِيَّةً، فَعَدَّتْهَا إلى المفعولين (¬2). وقولُه جل وعلا: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فيه الوجهانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا في قولِه: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (¬3) [الأنعام: آية 55] أحدُهما: وليكونَ من الْمُوقِنِينَ أَرَيْنَاهُ ذلك. والمعنَى: ولأَجْلِ أن يكونَ من الْمُوقِنِينَ أَرَيْنَاهُ ملكوتَ السماواتِ والأرضِ. وَقَالَ بعضُ العلماءِ: نُرِي إبراهيمَ ملكوتَ السماواتِ والأرضِ ليُحَاجِجَ قومَه، وليكونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. والمعنَى مُتَقَارِبٌ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 472 - 473). (¬2) انظر: ابن عطية (6/ 88)، البحر المحيط (4/ 165)، الدر المصون (5/ 5). (¬3) راجع ما سبق عند تفسير الآية المشار إليها. وفي هذه الآية انظر: ابن كثير (2/ 150 - 151)، البحر المحيط (4/ 165)، الدر المصون (5/ 7).

و (الْمُوقِنُونَ) جَمْعُ (الْمُوقِنِ)، و (الْمُوقِنُ) اسمُ فاعلِ (الإيقانِ)، وَوَاوُهُ مبدلةٌ من ياءٍ، أصلُه (مُيْقِن) (مُفْعِل) من (اليقينِ) (¬1). و (اليقينُ) هو العلمُ الذي لا تَتَطَرَّقُهُ الشكوكُ ولا الأوهامُ، لا يقبلُ التغيرَ بحالٍ (¬2). وهذا معنَى قولِه: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: آية 76]. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} العربُ تقولُ: «جَنَّ عليه الليلُ، وجنَّه الليلُ، وأَجَنَّ عليه الليلُ، وأَجَنَّهُ الليلُ». فإذا قالت: «أَجَنَّ» رباعيةً كان قولُها: «أَجَنَّهُ الليلُ» أَفْصَحُ من «أَجَنَّ عليه الليلُ». وإذا قالت: «جَنَّ عليه الليلُ» فهو أَفْصَحُ من «جَنَّهُ الليلُ» والكلُّ معروفٌ في لغةِ العربِ (¬3). ومن تعديةِ (جَنَّ) - ثلاثيةً - قَوْلُ الْهُذَلِيِّ (¬4): وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الْكَرَى وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأَدْهَمُ وَأَصْلُ مادةِ (الجيمِ، والنونِ، والنونِ) (جَنَنَ) أصلُ هذه المادةِ في جميعِ تصرفاتِها معناها: الاستتارُ ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال، ص295. (¬2) انظر: المفردات (مادة: يقن) 892، التعريفات للجرجاني 316. (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 478 - 479)، الدر المصون (5/ 8). (¬4) البيت في ابن جرير (11/ 479)، البحر المحيط (4/ 162)، الدر المصون (5/ 7). والسَّدَف: الظُلْمة من أول الليل، أو آخره عند اختلاط الضوء. والأدهم: الضارب إلى السواد.

والتغطيةُ (¬1)، ومنه (الجِنَّةُ) وهم - مثلاً - إبليسُ وَجُنْدُهُ؛ لأَنَّا لا نَرَاهُمْ. ومنه: (الجنينُ)؛ لأنه مُسْتَتِرٌ في بطنِ أُمِّهِ، ومنه: (الجُنَّةُ) للدَّرَقَةِ؛ لأنها تَسْتُرُ صاحبَها وتغطيهِ عن السهامِ، ومنه: (جَنَانُ الليلِ). أي: ظلامُه وادْلِهْمَامُهُ. وهذا معروفٌ، كما قال الشاعرُ دُريدُ بنُ الصُّمَّةِ (¬2): وَلَوْلاَ جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا بِذِي الرَّمْثِ وَالأَرْطَى عِيَاضَ بْنُ نَاشِبِ هذا أصلُ المادةِ، ومعنَى {جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَظْلَمَ عليه الليلُ، وَأَرْخَى سدولَه، حتى غَطَّى الأجرامَ بسوادِه؛ لأنه عندَ ذلك الوقتِ تظهرُ الكواكبُ نَيِّرَةً؛ لأنه قبلَ ادْلِهْمَامِ الليلِ وظلامِه لَمْ تُنِرِ الكواكبُ. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَظْلَمَ وَادْلَهَمَّ وَغَطَّى الأجرامَ بظلامِه. {رَأَى كَوْكَبًا} {رَأَى} معناه: أَبْصَرَ بِعَيْنِهِ {كَوْكَبًا} والكوكبُ: النجمُ الكبيرُ، وعلماءُ التفسيرِ يقولون: إن ذلك الكوكبَ الذي رَآهُ هو الكوكبُ الْمُسَمَّى بالزُهرةِ (¬3). وهو من الإسرائيلياتِ، وغايةُ ما دَلَّ عليه القرآنُ أنه رَأَى نَجْمًا كبيرًا، وهو مُرادُهُ بقولِه: {كَوْكَبًا} وكان ¬

(¬1) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الجيم، باب: ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم. ص200، المجمل، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب أوله جيم في المضاعف والمطابق، ص120، المفردات (مادة: جن) 203. (¬2) البيت في مجاز القرآن (1/ 198)، الأصمعيات ص112، إصلاح المنطق ص211. (¬3) انظر: القرطبي (7/ 25)، البحر المحيط (4/ 166)، البداية والنهاية (1/ 143)، الدر المنثور (3/ 25).

أَبُوهُ وقومُه يعبدونَ معبوداتٍ أرضيةً ومعبوداتٍ سماويةً، منها الكواكبُ السبعةُ (¬1). قال: {هَذَا رَبِّي}، قولُ إبراهيمَ: {هَذَا رَبِّي} في رؤيتِه للكوكبِ ورؤيتِه للقمرِ ورؤيتِه للشمسِ أصلُه فيه بحثٌ معروفٌ للعلماءِ، غَلِطَ جماعةٌ في هذا المقامِ من العلماءِ، منهم العالمُ الكبيرُ ابْنُ جريرٍ الطبريُّ، فَزَعَمَ أن إبراهيمَ قال هذا ناظرًا لاَ مُنَاظِرًا، وأنه قال هذا قبل أن يتيقنَ الدليلَ، يَظُنُّ أن الكوكبَ رَبُّهُ. هذا قاله (¬2) ونقلَه عن ابنِ عباسٍ (¬3)، واستدلَّ عليه بقولِه: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: آية 77] قال: فَقَوْلُهُ: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} هذا يدلُّ على أنه قَالَ هذا قبلَ أن يتيقنَ الحقيقةَ، وقبلَ أن يتمَّ له النظرُ، فبعدَ أن تَمَّ نظرُه وعلم الحقَّ، قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: الآيتان 78، 79]. والتحقيقُ بدلالةِ القرآنِ والسنةِ: أن هذا القولَ لهذه الطائفةِ من العلماءِ، منهم كبيرُ الْمُفَسِّرِينَ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وَرَوَاهُ عن ابنِ عباسٍ، أن هذا القولَ غلطٌ لا شَكَّ فيه، وأن إبراهيمَ لَمْ يَظُنَّ يومًا في ربوبيةِ كوكبٍ، ولم يشكَّ يومًا واحدًا في ربوبيةِ اللَّهِ، هذا التحقيقُ الواجبُ اعتمادُه، الذي دَلَّ عليه كتابُ اللَّهِ وسنةُ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، أما ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 140). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 483 - 485). (¬3) المصدر السابق (11/ 480). (¬4) انظر: معاني القرآن للزجاج (2/ 266)، القرطبي (7/ 25)، ابن كثير (2/ 151)، البداية والنهاية (1/ 142)، فتح الباري (6/ 391).

القرآنُ: فقد دَلَّ على هذا في مواضعَ كثيرةٍ: منها: أنه أَوَّلاً قال رافعًا لهذا الاحتمالِ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] فلما أَثْبَتَ له اليقينَ قال بَعْدَ ذلك مرتِّبًا عليه بالفاءِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76]. والثانيةُ: أن اللَّهَ ذَكَرَ أنه قال هذا في سبيلِ المناظرةِ وَالْمُحَاجَّةِ، لا في سبيلِ النظرِ بنفسِه، حيثُ قال: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80]، وقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: آية 83] وَمِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في هذا: أن اللَّهَ نَفَى عن إبراهيمَ كونَ الشركِ في مَاضِي الزمنِ مُطْلَقًا، حيث قال في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: آية 123] ونَفْيُ الكونِ الماضِي يستغرقُ الكونَ في جميعِ الزمنِ كائنًا مَا كَانَ، وكذلك قولُه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: آية 67] هذا جاءَ في آياتٍ كثيرةٍ، ونفيُ الإشراكِ عنه في الكونِ الماضِي يَدُلُّ بدلالةِ القرآنِ - دلالةِ المطابقةِ - على أَنَّهُ لم يَتَقَدَّمْ له كونُ إشراكٍ أَلْبَتَّةَ. واللَّهُ يقولُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ} [الأنبياء: آية 51] فَعِلْمُ اللَّهِ به وبصلاحِه يدلُّ على ذلك، هذا هو الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه. ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: قَرَّرْتُمْ لنا أن إبراهيمَ لا يعتقدُ ربوبيةَ الكوكبِ، وأن القرآنَ دَلَّ على ذلك، ومن السنةِ الصحيحةِ الدالةِ عليه: ما ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أَبِي هريرةَ (رضي الله عنه) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ، اثْنَتَيْنِ مِنْهَا فِي

ذَاتِ اللَّهِ .. » الحديثَ (¬1). وهذا حديثٌ صحيحٌ متفقٌ عليه، وهذه الكذباتُ الثلاثُ التي قالها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعني أنها في الصورةِ كصورةِ الكذبِ، وهي في نفسِ الأمرِ لَيْسَتْ من حقيقةِ الكذبِ (¬2)، بدليلِ أنه قال: «اثْنَتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ» وكيفَ يكونُ الكذبُ في ذاتِ اللَّهِ؟ فالذي يأتِي في ذاتِ اللَّهِ هو أَحَقُّ الْحَقِّ، وأصدقُ الصدقِ. والكذباتُ الثلاثُ التي يَعْنِيهَا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أَبِي هريرةَ المتفقِ عليه: أحدُها: قولُه لقومِه لَمَّا أرادوا أن يخرجَ معهم إلى عِيدِهِمْ، وهو يريدُ أن يتخلفَ عنهم لِيَتَسَنَّى له تكسيرُ الأصنامِ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} [الصافات: الآيات 88 - 93] فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} - وهو صحيحٌ - قال بعضُ العلماءِ (¬3): يريدُ أَنِّي سقيمٌ عليكم، سقيمُ القلبِ لخساسةِ عقولِكم، وأنكم تَعْبُدُونَ مع اللَّهِ جماداتٍ، وأنكم ذَاهِبُونَ بفعلِكم إلى النارِ. أو: إِنِّي سقيمٌ في المستقبلِ؛ لأن الإنسانَ لاَ بُدَّ أن يمرضَ فَيَأْتِيهِ الموتُ. وفِي الْمَعَارِيضِ مَنَادِحُ كثيرةٌ عن الكذبِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}. حديث رقم: (3357،3358) (6/ 388)، وأطرافه: (2217، 2635، 5084، 6950) ومسلم في الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم: (2371) (4/ 1840). (¬2) انظر: الفتح (6/ 391). (¬3) انظر: الفتح (6/ 391).

الثانيةُ: هي قولُه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: آية 63] وبعضُ العلماءِ يقولُ: إنه قَالَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} قَصَدَهُ لِيُلْجِئَهُمْ إلى الإقرارِ؛ لأن كبيرَهم لا يفعلُ، وأنه جَمَادٌ لاَ يفعلُ شيئًا، فكأنه يُعْرِضُ ويقول: أنتم تَعْبُدُونَ ما لاَ ينفعُ ولا يَضُرُّ، إلى غيرِ ذلك من الأجوبةِ (¬1). أما الثالثةُ: فهي أنه لَمَّا هَاجَرَ من بلادِ قومِه، لَمَّا أَنْجَاهُ اللَّهُ من النارِ مَرَّ على ذلك الْجَبَّارِ فِي القصةِ المشهورةِ الثابِتِ فِي الصحيحين (¬2)، وكانت امرأتُه - سارةُ - من أجملِ النساءِ، فَعَلِمَ بها ذَاكَ الجبارُ فَطَلَبَهَا، وَلَمَّا قال له: مَا هِيَ مِنْكَ؟ قال: هِيَ أُخْتِي. ولم يَقُلْ: هِيَ زَوْجَتِي. خوفَ أن يغارَ عليه فَيَلْحَقَهُ منه بَأْسٌ، وَجَاءَهَا وقال لها: يا سارةُ، إني قلتُ لهذا الجبارِ: إِنَّكِ أُخْتِي، وأنتِ أُخْتِي في الدِّينِ، ليس هُنَا مَنْ يَدِينُ بِدِينِ الإِسْلاَمِ إلا أَنَا وَأَنْتِ، فأنتِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ، فلاَ تُكَذِّبِينِي. في القصةِ المشهورةِ الثابت في الصحيحِ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عليه وَأَرَادَ أن يتناولَها بسوءٍ أُخِذَ، فقال لَهَا: ادعِي اللَّهَ لِي ولاَ أعودُ، فَدَعَتْ له فَبَرِئَ، فَهَمَّ أن يعودَ فَأُخِذَ أشدَّ من الأولِ، فقال لِخَدَمِهِ: ما أَتَيْتُمُونِي بإنسانٍ، وإنما أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ!! وأَخْدَمَهَا هاجرَ التي أَعْطَتْهَا لإبراهيمَ، فتسرَّاها وَكانتْ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ. ويذكرونَ في التاريخِ - وقد دَلَّ عليه بعضُ الأحاديثِ - أن هاجرَ أَصْلُهَا بِنْتُ مَلِكِ القبطِ - مَلِكِ مصرَ - أَخَذَهَا منه هذا الملكُ الجبارُ (¬3). ¬

(¬1) المصدر السابق (6/ 391 - 392)، وانظر: البداية والنهاية (1/ 145). (¬2) مضى تخريجه في الصفحة السابقة. (¬3) انظر: الفتح (6/ 394).

هذه الثلاثُ محلُّ الشاهدِ من هذا الحديثِ الصحيحِ: [ولو كان المعنى: أن إبراهيم كان يعتقد] (¬1) أن الكوكبَ رَبٌّ، وأن القمرَ رَبٌّ، وأن الشمسَ رَبٌّ لكان هذا أعظمَ فِرْيَةٍ، وأعظمَ كَذِبٍ. فلم يَقُلِ النبيُّ: إنه لم يَكْذِبْ إلا هذه الكذباتِ، وإن كانت في نفسِ الأمرِ ليست بكذباتٍ، إلا أن صورتَها كأنها صورةُ الكذبِ، وهي في الحقيقةِ بعيدةٌ من الكذبِ، لطالبِ العلمِ أن يقولَ: قد قَرَّرْتُمْ لنا أن قولَ إبراهيمَ: {هَذَا رَبِّي} في الكوكبِ وفي القمرِ وفي الشمسِ ليس يُظَنُّ أن الكوكبَ رَبٌّ، ولا يَشُكُّ في ذلك، ولكن إذًا فَمَا معنَى قولِه: {هَذَا رَبِّي}؟ وأينَ نَصْرِفُ هذا اللفظَ عن الاعترافِ بربوبيةِ الكوكبِ، والقمرِ والشمسِ؟ الجوابُ: أن العلماءَ خَرَّجُوا هذا على وَجْهَيْنِ (¬2)، كِلاَهُمَا قد يُغْنِي عن الآخَرِ: الأولُ: الذي عليه الجمهورُ: أن الْمُنَاظِرَ إذا أرادَ أن يُفْحِمَ خَصْمَهُ سلَّم له مقدمةً تسليمًا جَدَلِيًّا لِيُمْكِنَهُ أن يَفْحَمَهُ؛ لأنه إذا نَفَى المقدمةَ لا يُمْكِنُ أن يفحمَه. فالمعروفُ في فنونِ الجدلِ: أنه لا بُدَّ للخصمين من أن يَتَّفِقَا على قاعدةٍ، وإن اختلفا مِنَ الأول لا يمكن أن يفحمه. وعليه فالمعنَى: {هَذَا رَبِّي} على التسليمِ الْجَدَلِيِّ، وفي زَعْمِكُمُ الكافرِ الفاسدِ كما قال اللَّهُ جل وعلا: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: آية 27] فَنَسَبَ إلى نفسِه الشركاءَ {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} وليس له شريكٌ (جل وعلا) لِيُقَرِّعَهُمْ، ¬

(¬1) في الأصل: ((أن إبراهيم لوكان معناه ... )). (¬2) انظر: معاني القرآن للزجاج (2/ 266)، القرطبي (7/ 25)، ابن كثير (2/ 151)، البداية والنهاية (1/ 142)، فتح الباري (6/ 391)، القاسمي (6/ 589 - 590).

وَيُوَبِّخَهُمْ، كأنه يقولُ: هذا رَبِّي على التسليمِ الجدليِّ وَالتَّنَزُّلِ، وفَرْضِ الْمُحَالِ، وتسليمِ الْمُحَالِ، على قولِكم الكاذبِ الفاسدِ، فكيفَ يكونُ الرَّبُّ وهو يأفلُ ويسقطُ؟ فمقصودُه بهذا ليُفْحِمَهُمْ، فلو قال لهم عندَ أولِ وَهْلَةٍ: الكوكبُ مخلوقٌ مُسَخَّرٌ، لاَ يمكنُ أن يكونَ رَبًّا. لقالوا له: أنتَ كَذَّابٌ، الكوكبُ رَبٌّ لاَ محالةَ. فَلَمَّا تَنَزَّلَ معهم، وَسَلَّمَ لهم الكذبَ والمحالَ أَمْكَنَهُ أن يُفْحِمَهُمْ، وعلى هذا فمعنَى قولِه: {هَذَا رَبِّي} أي: في زَعْمِكُمْ الكافرِ الفاسدِ. فَمِنْ أينَ يكونُ الربُّ وهو يَأْفُلُ؟ أي يَسْقُطُ. الوجهُ الثاني: هو ما قَالَهُ بعضُ العلماءِ: مِنْ أن المقررَ في علومِ العربيةِ أن الجملةَ إذا صُدِّرَتْ بهمزةِ استفهامٍ أو همزةِ تسويةٍ، وكان المقامُ يَدُلُّ عليها، أن حذفَها جائزٌ، وعليه فالمعنَى: أَهَذَا رَبِّي؟! إنكارًا لهم. وحَذَفَ همزةَ الاستفهامِ. قالوا: وحَذْفُ همزةِ الاستفهامِ إذا دَلَّ المقامُ عليه ذَهَبَ غيرُ واحدٍ من علماءِ العربيةِ إلى أنه جائزٌ، وقال بِاطِّرَادِهِ جماعةٌ من النحويين، منهم: الأخفشُ، واعتمدَه ابنُ مالكٍ في شرحِ الكافيةِ، وقال به غيرُ وَاحِدٍ (¬1). وإذا نَظَرْتَ كلامَ الربِّ وَجَدْتَهُ كَثِيرًا فيه، فائضًا فيه، كثرةً تُعْرَفُ منها أنه جَائِزٌ. وهو يُوجَدُ في كلامِ العربِ على ثلاثة أنحاءَ - أَعْنِي حذفَ همزةِ الاستفهامِ إذا دَلَّ المقامُ عليها -: يوجدُ بدونِ (أَمْ)، وبدونِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 484)، الكتاب (3/ 174)، الصاحبي 296، الخصائص (2/ 281)، شرح الكافية لابن مالك (3/ 1215 - 1217)، الخزانة (4/ 447 - 450)، القرطبي (7/ 26)، الدر المصون (5/ 12)، التوضيح والتكميل (2/ 177)، ضياء السالك (3/ 197).

ذِكْرِ الجوابِ، ويوجدُ بدونِ (أَمْ) مع ذِكْرِ الجوابِ. وهو مع (أَمْ) كثيرٌ مُطَّردٌ شائعٌ. فمثالُ وجودِه دونَ (أَمْ) ودونَ ذِكْرِ الجوابِ: قولُ أَبِي خراشٍ الْهُذَلِيِّ - وَاسْمُهُ خويلدُ (¬1) -: رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ يعني: أَهُمُ هُمُ؟ فحذفَ همزةَ الاستفهامِ، وَمِنْ هَذَا المعنَى قولُ الكُمَيْتِ (¬2): طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَلاَ لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ؟ يعني: أَوَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ؟! فحذفَ همزةَ الاستفهامِ. ومنه دونَ (أَمْ) مع ذكرِ الجوابِ على التحقيقِ: قولُ عمرَ بنِ أَبِي ربيعةَ المخزوميِّ (¬3): أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبٍ أَتْرَابِ ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا؟ قُلْتُ بَهْرًا عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ فقوله: «تُحِبُّهَا»، يعني: أَتُحِبُّهَا؟؟ وإتيانُه مع (أَمْ) لا تكادُ تُحْصِيهِ في كلامِ العربِ وأشعارِهم، فَمِنْ حَذْفِ همزةِ الاستفهامِ قبلَ ¬

(¬1) البيت في: الخصائص (1/ 247)، (3/ 337)، الصاحبي 296، ابن جرير (11/ 484)، الخزانة (1/ 211). (¬2) البيت في: الخصائص (2/ 281)، شرح الكافية (1/ 399)، (3/ 1217)، الخزانة (4/ 448). (¬3) هذان البيتان يفصل بينهما نحو ستة أبيات من القصيدة. وهما في ديوانه 59 - 60، الخصائص (2/ 281) والمثبت فيهما: «عدد القطر».

(أَمْ) قولِ عمرَ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ (¬1): بَدَا لَِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ... وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ ... بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يَعْنِي: أبسبعٍ أَمْ بِثَمَانِ. ومنه بهذا المعنَى قولُ الأَخْطَلِ (¬2): كَذَبَتْكَ عَينُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ يعني: أَكَذَبَتْكَ، بحذفِ الهمزةِ. كما جَوَّزَهُ سيبويه في كتابِه خلافًا للخليلِ (¬3). ومنه بهذا المعنَى قولُ الأسودِ بنِ يعفرَ التميميِّ (¬4): فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... شُعَيثُ بُنْ سَهْمٍ أَمْ شُعيْثُ بْنُ مِنْقَرِ يعني: أَشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ؟ ومنه بهذا المعنَى قولُ أُحيحةَ بنِ الجُلاحِ الأنصاريِّ المشهور (¬5): وَمَا تَدْرِي وَإِنْ ذَمَّرْتَ سَقْبًا ... غَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيلُ يعني: أَلِغَيْرِكَ. ¬

(¬1) البيت في: الكتاب (3/ 175)، الصاحبي 297، شرح الكافية (3/ 1215)، الخزانة (4/ 447). (¬2) البيت في ديوانه 245، الكتاب لسيبويه (3/ 174)، الخزانة (4/ 452). (¬3) انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 174). (¬4) البيت في الكتاب (3/ 175)، الخزانة (4/ 448 - 450) شرح الكافية (3/ 1213)، وشطره الأول هكذا: (لعمرك ما أدري ... ) إلخ. (¬5) البيت من قصيدة لأُحيحة بن الجلاح الأوسي الجاهلي كما في ديوانه، ص75.

وقولُ الخنساءِ الشاعرةِ (¬1): قَذًى بِعَيْنَيْكَ أَمْ بِالْعَيْنِ عُوَّارُ أَمْ خِلْتَ إِذْ أَقْفَرتْ مِنْ أَهْلِهَا الدَّارُ وقولُ امْرِئِ الْقَيْسِ (¬2): تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَوْ تَبْتَكِرْ وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِرْ؟ وهو كثيرٌ شائعٌ، قالوا: فَعَلَى هذا فيكونُ الْمَعْنَى: أَهَذَا رَبِّي؟ فَحُذِفَتْ أداةُ الاستفهامِ، وعلى هذا القولِ فالقرينةُ على أداةِ الاستفهامِ: إيقانُ إبراهيمَ المذكورُ قبلَه في قولِه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] وتصريحُ اللَّهِ بأنه مُحَاجٌّ وَمُنَاظِرٌ لاَ ناظر بقولِه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80] وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: آية 83] قالوا: وَمِنْ حذفِ الاستفهامِ في القرآنِ قولُه تعالى: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: آية 74] لأَنَّ المعنَى: أَفَئِنْ مِتَّ أَفَهُمُ الخالدونَ بعدَ موتِكَ؟ في نظائرَ ذَكَرُوهَا. هذانِ الوجهانِ في قولِه: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76]. وقولُه: {فَلَمَّا أَفَلَ} أُفُولُ النجمِ هو سقوطُه وغيبوبتُه، إذا طَلَعَ النجمُ تقولُ العربُ: طَلَعَ، وتقولُ في القمرِ والشمسِ: بَزَغَ. فإذا غابَ تقولُ العربُ: أَفَلَ، فالأُفُولُ: الغيبوبةُ (¬3)، ومنه قولُ العربِ: أينَ أَفَلْتَ عنَّا؟ أَيْنَ غِبْتَ عَنَّا؟ فلمَّا أَفَلَ ذلك النجمُ - أي: غَابَ - ¬

(¬1) شرح ديوان الخنساء 38 ولفظه في الديوان: قذى بِعَينِكِ أمْ بالعَينِ عُوَّارُ ... أمْ ذَرَفَتْ إذْ خَلَتْ من أهلها الدارُ (¬2) ديوان امرئ القيس 67. (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 485).

قال إبراهيمُ: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} يعني بقولِه: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} لا أحبُّ أن أعبدَ هذا الساقطَ المُتَغَيِّرَ المُسَخَّرَ؛ لأنه لا يمكنُ أن يكونَ هو الْمُدَبِّرَ لشؤونِ هذا الْعَالَمِ، الذي بِيَدِهِ النفعُ والضرُّ، فَمَنْ يتصفُ بصفةِ الأفولِ والغيبوبةِ والسقوطِ لا يحبُّ عبادتَه؛ لأنه ليس مُتَّصِفًا بصفاتِ الربِّ؛ لأن صفاتِ الربِّ: العظمةُ، والقدرةُ الكاملةُ، وهذا متصفٌ بصفةِ نقصٍ وتغيرٍ، لا يصلحُ أن يكونَ رَبًّا. قال بعضُ العلماءِ: ووافقَ هذا أن في مُعْتَقَدِهِمْ أن الكواكبَ التي يَعْبُدُونَهَا أنها وَقْتَ أُفُولِهَا يسقطُ تأثيرُها في ذلك الوقتِ، وأنها تضعفُ حتى ترجعَ طالعةً، فيرجعَ لها ما كان لها من [7/ب] التأثيرِ في زَعْمِهِمْ / فوافقَ هذا أُفُولَهُ؛ ولذا قال لهم: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ}. فكأنه هنا اسْتَنْتَجَ لهم إنتاجًا واضحًا أن الكوكبَ لاَ يمكنُ [أن يكونَ] (¬1) رَبًّا من مُقَدِّمَتَيْنِ: أحدُهما: أنه آفِلٌ، وكونُه آفلاً يدلُّ على أنه مُسَخَّرٌ، أنه جرمٌ مُسَخَّرٌ بقدرةِ وإرادةِ غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ: هي أنه لا يُحِبُّ الآفِلِينَ، فكأنه يقول: هذا آفِلٌ، وَكُلُّ آفِلٍ كائنًا ما كَانَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ النقصِ لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا، فهذا لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا. ثم قال جل وعلا: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 77] أَصْلُ البزوغِ: أولُ الطلوعِ، لَمَّا رَآهُ طَالِعًا في أولِ طلوعِه قال: {هَذَا رَبِّي} على ما بَيَّنَّا في غيرِه. ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق.

{فَلَمَّا أَفَلَ} أي: غَابَ القمرُ وَذَهَبَ. {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}. العلماءُ قالوا: قولُه: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي} فيه وجهانِ من التفسيرِ (¬1): أحدُهما: أنه تَوَاضُعٌ مِنْ إبراهيمَ، كقولِه هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: آية 128] يطلبُ اللَّهَ أن يجعلَه مِنْ جُمْلَةِ المسلمين تَوَاضُعًا لِلَّهِ (جل وعلا). وكقولِه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: آية 35] كُلُّ هَذَا تواضعٌ من الأنبياءِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم)، وإظهارُهم للفقرِ والعجزِ بين يَدَيِ اللَّهِ (جل وعلا)، ولذا قال: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: آية 77]. الثَّانِي: هو ما قَالَ بعضُ العلماءِ: أن هذا تعريضٌ بقومِه، يعنِي مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فإنه ضَالٌّ، فكيفَ تَضِلُّونَ وَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أجرامًا لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، وليس بيدِها شيءٌ؟ والمعنَى: مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلاَ هاديَ لَهُ، فهو ضَالٌّ، كأنه تعريضٌ بقومِه على هذا القولِ. ثم لَمَّا رَأَى الشمسَ {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} أي: طَالِعَةً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 78] والمعنَى: هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي، فَعَبَّرَ عنها بالمعنَى، هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي (¬2). قال بعضُ العلماءِ (¬3): وَوَجْهُ تذكيرِه لأنه لاَ ينبغي أن يُطْلَقَ على الرَّبِّ اسمُ أُنْثَى، ولو على لَفْظِهِ؛ وَلِذَا قال: {هَذَا رَبِّي} هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي. ¬

(¬1) انظر: القاسمي (6/ 591). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 486)، البحر المحيط (4/ 167)، ابن كثير (2/ 151). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 167)، الدر المصون (5/ 14)، القاسمي (6/ 591).

ثم قال: {هَذَا أَكْبَرُ} هذا مِنَ التَّنَزُّلِ كالأولِ، يعني: هذا أكبرُ من الكوكبِ ومن القمرِ، فَحَذَفَ (مِنْ) وما بَعْدَهَا (¬1)، هذا أكبرُ من الكوكبِ ومن القمرِ، ومقصودُه بـ {هَذَا أَكْبَرُ} هو إسقاطُ الشمسِ أيضًا؛ لأن الأكبرَ الأعظمَ إذا كان يتصفُ بصفةِ النقصِ فصفةُ النقصِ أعظمُ في الكبيرِ الجليلِ منها في الصغيرِ الحقيرِ. {فَلَمَّا أَفَلَتْ} أي: غَابَتِ الشمسُ {فَلَمَّا أَفَلَتْ} أَقَامَ عليهم الحجةَ ثلاثَ مراتٍ، فأظهرَ حقيقةَ أمرِه، وقد قَضَى وَطَرَهُ مِنَ التَّنَزُّلِ لهم حتى أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ، فَصَرَّحَ لهم بعقيدتِه، قال لهم: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} أَبْرَأُ إلى اللَّهِ مِمَّا تعبدونَ مِنْ دُونِهِ. ثم قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: آية 79] أي: أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي وَقَصْدِي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} للقادرِ النافعِ الضارِّ الذي هو الخالقُ الرازقُ. وقولُه: {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} يُشِيرُ به إلى أن علامةَ استحقاقِ العبادةِ شيءٌ واحدٌ، العلامةُ لِمَنْ يستحقُّ العبادةَ شيءٌ واحدٌ، وهو أنه الذي يَخْلُقُ وَيُبْرِزُ من العدمِ إلى الوجودِ، فَمَنْ يُبْرِزُكَ من العدمِ إلى الوجودِ هذا رَبُّكَ الذي يستحقُّ أن تعبدَه، وَمَنْ لاَ يَقْدِرُ على إبرازِك من العدمِ إلى الوجودِ فهو عبدٌ مربوبٌ محتاجٌ إلى خالقٍ يعبدُه مثلُك؛ وَلِذَا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: آية 21] وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: آية 16] لا وَاللَّهِ {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: آية 16] وخالقُ كُلِّ شيءٍ هو المعبودُ وحدَه. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 486).

ومعنَى: {فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: آية 79] فَطَرَهُمَا يَعْنِي: خَلَقَهُمَا وَاخْتَرَعَهُمَا على غيرِ مثالٍ سابقٍ. فـ (الفَطْرُ) معناه: الاختراعُ والابتداعُ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أنه قال: ما كنتُ أتحققُ حقيقةَ معنَى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: آية 14] حَتَّى اختصمَ إِلَيَّ أعرابيانِ في بِيرٍ، فقال أحدُهما: إِنَّهَا بِيرِي، وأنا الذي فَطَرْتُهَا (¬1). يعني: اخْتَرَعْتُهَا، وَابْتَدَأْتُ حَفْرَهَا. فعلمتُ أن العربَ تُطْلِقُ هذا على اختراعِ الفعلِ وابتدائِه. وهذا معنَى قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي: أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي وَقَصْدِي للذي خَلَقَ السمواتِ والأرضَ. {فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا بما فيهما. {حَنِيفًا} أي: حالَ كَوْنِي حَنِيفًا، أي: مائلاً عن الدينِ الباطلِ إلى دينِ الحقِّ، أصلُ الحنيفِ: (فَعِيْل) من (الحَنَف) بفتحتين، ¬

(¬1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 174)، وفي غريب الحديث له (4/ 373)، وابن جرير (11/ 283)، والبيهقي في الشعب (4/ 316)، وفي الأسماء والصفات له ص44، وابن عبد البر في الاستذكار (8/ 384)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (انظر: مختصره لابن منظور (13/ 313))، وذكره السيوطي في الدر (3/ 7)، وعزاه لأبي عبيد، وابن جرير، وابن الأنباري في الوقف والابتداء. ومداره على إبراهيم بن مهاجر، وهو البجلي. قال عنه في التقريب (ص 256): «صدوق لين الحفظ» اهـ. وانظر: ترجمته في تهذيب الكمال (2/ 211). قال الحافظ في الكافي الشاف (ملحق بالكشاف (4/ 61)): «بإسناد حسن ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر» اهـ. وانظر: تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزيلعي (1/ 434).

و (الحَنَفُ) أصلُه في لغةِ العربِ أن يميلَ مقدمُ الرجلِ اليمنى إلى جهةِ الرِّجْلِ اليُسْرَى، ويميلُ مقدمُ الرجلِ اليُسْرَى إلى جهةِ الرِّجْلِ اليُمْنَى، فيقال للرجلِ: (أحنفُ)، وللمرأةِ: (حَنْفَاء). وقد كان كذلك الأحنفُ بنُ قيسٍ المشهورُ، وقد قالت أُمُّهُ تُرقِّصُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ (¬1): وَاللَّهِ لَوْلاَ حَنَفٌ برِجْلِهِ مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ فهذا الميلُ صارَ حقيقةً عُرفيةً في الميلِ عن الدينِ الباطلِ إلى دينِ الحقِّ، فمعنَى {حَنِيفًا}: مائلاً عن كُلِّ دينٍ باطلٍ إلى دينِ اللَّهِ الصحيحِ (¬2). {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 79] يعنِي في قولِه: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] لستُ أُشْرِكُ بِرَبِّي شيئًا، ولا أعتقدُ رُبُوبِيَّةَ كوكبٍ ولاَ شمسٍ ولاَ قَمَرٍ. هذا هو الظاهرُ في هذه الآياتِ الكريمةِ أن نَبِيَّ اللَّهِ إبراهيمَ مُنَاظِرٌ لا نَاظِرٌ، وأنه يريدُ بهذا التَّنَزُّلِ: التوصلَ إلى إفحامِ خصومِه بدليلِ قولِه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80] حَاجَّهُ: أصلُه (حَاجَجَهُ) من (الْمُحَاجَجَةِ)، بأن يُدْلِي كُلٌّ منهما بحجتِه ضِدَّ الآخَرِ، وَكُلُّ كلامٍ يُدْلِي به خصمٌ ضِدَّ آخَرَ يُسَمَّى: (حجةً) ولو كان في غايةِ البطلانِ، كما قال تعالى في قومٍ أَدْلَوْا بكلامٍ باطلٍ: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: آية 16] فهو يُطْلَقُ على كُلِّ ما أَدْلَى به خصمٌ ضِدَّ آخَرَ، تقولُ له العربُ: (حجة) (¬3)، و (المُفَاعَلَةُ): (حَاجَّ) أصلُها: (حَاجَجَ)، على وزنِ ¬

(¬1) البيت في القرطبي (2/ 140)، الدر المصون (2/ 137). (¬2) انظر: ابن جرير (3/ 104)، المفردات (مادة: حنف) 260، القرطبي (2/ 139 - 140)، الدر المصون (2/ 137). (¬3) مضى عند تفسير الآية (76) من سورة البقرة.

(فَاعَلَ) أُدْغِمَتْ إحدى الْجِيمَيْنِ في الأُخْرَى. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} قومُ الرجلِ أصلُهم: جماعتُه، و (القومُ) في وضعِ اللسانِ العربيِّ يُطْلَقُ على الذكورِ خاصةً، وربما دَخَلَ فيهم الإناثُ بِحُكْمِ التَّبَعِ (¬1). فالدليلُ على إِطْلاَقِهِ على الذكورِ خاصةً في الوضعِ العربيِّ قولُه تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} ثم قال: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} [الحجرات: آية 11] فَعَطْفُ النساءِ عليهم يدلُّ على اختصاصِ اسمِ (القومِ) بالذكورِ دونَ الإناثِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى (¬2): وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْري أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ والدليلُ على دخولِ النساءِ في اسمِ (القومِ) بحكمِ التبعِ قولُه تعالى في بلقيسَ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: آية 43] دَخَلَتْ بالتبعِ، بدليلِ قرينةِ السياقِ. ومعنى محاجةِ قومِه له: أنهم قالوا له: كَيْفَ تَدَّعِي أن المعبودَ واحدٌ، وأن العَالَمَ كُلَّهُ يُدَبِّرُ شؤونَه ويسمعُ نداءَه معبودٌ واحدٌ؟ هذا لا يمكنُ!! كما قال قومُ نَبِيِّنَا له: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: آية 5] فقالوا له: مَنْ يَعْبُدُ آلهةً متعددةً خيرٌ مِمَّنْ يقتصرُ على واحدٍ؛ لأن هؤلاء المتعددين تَتَكَرَّرُ بهم الشفاعةُ من جهاتٍ، وهذا واحدٌ. ومحاججتُهم له في توحيدِ اللَّهِ؛ وَلِذَا قال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: آية 80] دَلَّ ذلك على أن محاججتَهم فِي ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: قوم) 693، اللسان (مادة: قوم) (3/ 195)، الكليات 728. (¬2) البيت في اللسان: (مادة: قوم) (3/ 195)، الدر المصون (1/ 360).

اللَّهِ وَفِي عبادتِه، قال مُنْكِرًا عليهم: {أَتُحَاجُّونِّي} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ، ما عدا نَافِعًا وحدَه، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ - بخلافٍ عنه - قَرَأَهُ كُلُّهُمْ: {أَتُحَاجُّونِّي} بتشديدِ النونِ، وقرأَه نافعٌ بروايةِ ورشٍ وقالونَ وهشامٍ - بخُلف عنه - عن ابنِ عامرٍ كذلك {أَتُحَاجُّونِي} بتخفيفِ النونِ. والياءُ مثبتةٌ عِنْدَ جميعِ القراءِ، فَهُمَا قراءتانِ سَبْعِيَّتَانِ (¬1) {أَتُحَاجُّونِّي} وهذه قراءةُ الجمهورِ، وقراءةُ نافعٍ وهشامٍ - في إحدى الروايتين -: {أَتُحَاجُّونِي} بنونٍ بعدَها ياءٌ، نونٌ مُخَفَّفَةٌ. أما قراءةُ الجمهورِ فلا إشكالَ في الآيةِ عليها، أصلُها تأتي هنا نونانِ، النونُ الأُولَى: نونُ الرفعِ، والثانيةُ: نونُ الوقايةِ، فأُدْغِمَتْ إحدى النُّونَيْنِ في الأُخْرَى، وهذا لا إشكالَ فيه (¬2). أما على قراءةِ نافعٍ: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ} وقرأ بها هشامٌ عن ابنِ عامرٍ - في إحدى الرِّوَايَتَيْنِ - {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ} فقد اسْتَشْكَلَهَا بعضُ العلماءِ، وذُكِرَ عن بعضِ علماءِ العربيةِ أنه قال: قراءةُ نافعٍ في هذا لَحْنٌ (¬3)!! وهذا خطأٌ، بل هي قراءةٌ فصيحةٌ، ولغةٌ عربيةٌ فُصْحَى، قرأ بها نافعٌ في حروفٍ كثيرةٍ من القرآنِ، في قولِه هنا في الأنعامِ: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ} وفي قولِه في الزمرِ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: آية 64] وفي قولِه في النحلِ: {أَيْنَ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 197. (¬2) انظر: حجة القراءات 257، القرطبي (7/ 29)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 15). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 29)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 19).

شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: آية 27] وفي قولِه في الحجرِ: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: آية 54] بكسرِ النونِ. كُلُّ هذه الحروفِ قَرَأَهَا نافعٌ على هذه الوتيرةِ. والتحقيقُ في هذا: أن هذه لغةٌ فُصْحَى، كما جَزَمَ به سيبويه (¬1) أن من عادةِ العربِ إذا اجتمعَ مِثْلاَنِ أن يُخَفِّفُوا وَيَحْذِفُوا أحدَ الْمِثْلَيْنِ، وأنشدَ له سيبويه قولَ عمرِو بنِ مَعْدِي كَرِبَ الزبيديِّ (¬2): تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا ... يَسُوءُ الْفَالِيَاتِ إِذَا فَلَيْنِ قال: الأصلُ: فَلَيْنَني. فَلَمَّا اجتمعَ نونانِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا (¬3). والتحقيقُ المقررُ في علومِ العربيةِ: أن نونَ الرفعِ المعروفةَ في الأفعالِ الخمسةِ أنها لها حالاتٌ متعددةٌ - لها تقريبًا خمسُ حالاتٍ - في ثلاثِ حالاتٍ يجبُ حذفُها بقياسٍ مُطَّرِدٍ، وهذه الثلاثُ التي يجبُ فيها حذفُ نونِ الرفعِ (¬4): أَوَّلُهَا: ما إذا دَخَلَ عليها جَازِمٌ. والثانيةُ: إذا دَخَلَ عليها ناصبٌ. وقد جَمَعَهُمَا قولُه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: آية 24]. ¬

(¬1) انظر: الكتاب (3/ 519). (¬2) البيت في: الكتاب (3/ 520) وحجة القراءات 258، القرطبي (7/ 29)، الدر المصون (5/ 18). والثغام: نبت له نور أبيض يُشَبَّه به الشيب. ويُعلْ: أي: يطيب شيئا بعد شيء. (¬3) انظر: حجة القراءات 258. (¬4) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 60 - 61).

الثالثةُ (¬1): إذا دَخَلَتْ عليها نونُ التوكيدِ الثقيلةُ نحو: {لَتُبْلَوُنَّ} فإنها يجبُ حَذْفُهَا فِي هذه الأمورِ الثلاثةِ بقياسٍ مُطَّرِدٍ. ما إذا تَقَدَّمَهَا جَازِمٌ، أو تَقَدَّمَهَا ناصبٌ، أو دَخَلَتْ عليها نونُ التوكيدِ الثقيلةُ. فَتُحْذَفُ نونُ الرفعِ باطرادٍ، وبقاؤُها مع الجازمِ أو الناصبِ لغاتٌ قليلةٌ مسموعةٌ، وبقاؤُها مع الجازمِ كقولِ الشاعرِ (¬2): لَوْلاَ فَوَارِسُ مِنْ نُعْمٍ وَأُسْرَتِهِمْ يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لِمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ فهذه لغةٌ قليلةٌ تُحْفَظُ وَلاَ يُقَاسُ عليها. وكبقائِها مع الناصبِ، كقولِ الشاعرِ (¬3): أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلاَمَ وَأَنْ لاَ تُشْعِرَا أَحَدَا هذا أيضًا كذلك. أما الموضعُ الرابعُ: فهو يجوزُ فيه حذفُها وإبقاؤُها بقياسٍ مُطَّرِدٍ، كأن تجتمعَ نونُ الرفعِ مع نونِ الوقايةِ - كهذه الآياتِ التي ذَكَرْنَا - فإنها يجوزُ إثباتُ نونِ الرفعِ كقراءةِ الجمهورِ، ويجوزُ حذفُها كقراءةِ نافعٍ، وقد غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أن النونَ المحذوفةَ أنها نونُ الوقايةِ، فالمحذوفةُ نونُ الرفعِ (¬4). ¬

(¬1) انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 519)، المصدر السابق (2/ 258 - 259). (¬2) البيت في المحتسب (2/ 42)، الخصائص (1/ 388)، الخزانة (3/ 626). والصُّليفاء: مصغَّر صلفاء، وهي الأرض الصلبة. ويوم الصلفاء: من أيام العرب. وقد صغّره الشاعر هنا. وهو لهوازن على فزارة وعبس. (¬3) انظر: الخصائص (1/ 390)، أوضح المسالك (3/ 166)، الخزانة (3/ 559). (¬4) انظر: القرطبي (7/ 29)، الدر المصون (5/ 16).

الْمَوْضِعُ الخامسُ: هو أَنْ تُحْذَفَ نونُ الرفعِ لغيرِ واحدٍ من الأسبابِ الأربعةِ - لأَنْ لاَ يدخلَ عليها نَاصِبٌ وَلاَ جَازِمٌ، ولاَ تكونُ مع نونِ التوكيدِ الثقيلةِ، وَلاَ مَعَ نونِ الوقايةِ - فَحَذْفُهَا في مثلِ هذا شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلاَ يُقَاسُ عليه، كقولِ الراجزِ (¬1): أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي فالتحقيقُ أن قراءةَ نافعٍ في هذا الحرفِ وفي غيرِه أنها على لغةٍ عربيةٍ فُصْحَى. ومعنى الآيةِ الكريمةِ: أَتُحَاجُّونَنِي، أَتُجَادِلُونَنِي في اللَّهِ، وأني لا أعبدُه وحدَه، والحالُ قد هَدَانِي رَبِّي، وَشَرَحَ صَدْرِي بما أَوْحَى إِلَيَّ، وبما أَرَانِي من ملكوتِ السمواتِ والأرضِ حتى صرتُ من الْمُوقِنِينَ، أَبَعْدَ هذا من العلمِ واليقينِ الذي أَعْطَانِي اللَّهُ تُحَاجُّونَنِي وَتُجَادِلُونَنِي في اللَّهِ، في أنه المعبودُ وحدَه؟ هذا مما لا يكونُ ولا يصحُّ. ثم إنهم قالوا له على عادةِ الكفارِ: تَرَى أَنَّكَ عِبْتَ آلِهَتَنَا وأصنامَنا، وَعِبْتَهَا وكسرتَها، وقلتَ: إنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. ترى أنها ستصيبُك ببرصٍ أو جُذَامٍ أو تُخَبِّلُكَ فَتُجَنّنكَ (¬2)!! وهذه عادةُ الكفارِ، يخوفونَ أنبياءَ اللَّهِ من أصنامِهم. فأجابَهم إبراهيمُ قال لهم: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} قال لهم: لا أخافُ ما تشركونَ به؛ لأنه لا ينفعُ ولا يَضُرُّ، ولا يُتَرَقَّبُ منه خوفٌ ولا نفعٌ، فلا أخافُه أَبَدًا. ¬

(¬1) البيت في الخصائص (1/ 388)، الخزانة (3/ 525)، الدر المصون (5/ 17). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 489).

والتحقيقُ في الاستثناءِ في قولِه: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} أنه استثناءٌ منقطعٌ. هذا هو التحقيقُ (¬1)، والمعنَى: لكن إن شاءَ رَبِّي أمرًا مَخُوفًا أَوْقَعَنِي فيه، أَمَّا أصنامُكم فليس منها خوفٌ، وليس منها نَفْعٌ؛ لأنها جماداتٌ لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. وهذا هو التحقيقُ، خلافًا لقومٍ زَعَمُوا أن الاستثناءَ مُتَّصِلٌ، وقالوا: لا أَخَافُ من معبوداتِكم إلا أن يشاءَ اللَّهُ أن يجعلَ لِي منها ضررًا، كأن يُسْقِطَ عَلَيَّ قطعةً من القمرِ الذي تعبدونَ، أو من الشمسِ الذي تعبدونَ، وأن يخلقَ في الحجارة عقولاً وقوةً تبطشُ بِي بها (¬2). هذا كُلُّهُ خلافُ التحقيقِ. والتحقيقُ أن الاستثناءَ منقطعٌ، وأن المعنَى: ولا أخافُ ما تشركونَ به شيئًا، فلا أخافُ ما تشركونَ به، ثم إنه لَمَّا نَفَى الخوفَ عن نفسِه اسْتَثْنَى مشيئةَ اللَّهِ، إلا أن يشاءَ اللَّهُ أن يُخَوِّفَنِي بما شاءَ، فَلَهُ في ذلك ما شَاءَ، والاستثناءُ استثناءٌ منقطعٌ، والتحقيقُ: أن الاستثناءَ المنقطعَ جائزٌ في لغةِ العربِ، وفي كلامِ العربِ، خلافًا للمقررِ في ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 489)، القرطبي (7/ 29)، ابن كثير (2/ 152)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 20). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 170).

أصولِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ، فالمقررُ في الأصولِ (¬1) عند ثلاثةٍ من الأئمةِ: مالكٍ، والشافعيِّ، وأبِي حنيفةَ، أن الاستثناءَ المنقطعَ صحيحٌ، وأنه جائزٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، خلافًا لِلْمُقَرَّرِ في أصولِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ أن الاستثناءَ المنقطعَ لا يجوزُ؛ لأن غيرَ ما دَخَلَ لا يمكنُ أن يُخْرَجَ بالاستثناءِ، وحجةُ الجمهورِ وُرُودُ الاستثناءِ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، وَمِنْ ورودِ الاستثناءِ المنقطعِ في القرآنِ: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: آية 157] فاتباعُ الظَّنِّ ليس من جنسِ العلمِ، وكقولِه: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20)} [الليل: الآيتان 19، 20]. فليس من جنسِ نعمةٍ لأحدٍ عندَه، وكقولِه: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} {إِلاَّ سَلَامًا} [الواقعة: الآيتان 25، 26] فالسلامُ ليس من جنسِ اللغوِ. وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلاَنًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا، وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ فالأَوَارِيُّ التي هي مرابطُ الخيلِ لَيْسَتْ من جنسِ الأحدِ. وكقولِ الراجزِ (¬3): وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلاَّ الْيَعَافِيرُ وَإِلاَّ الْعِيسُ ¬

(¬1) في هذه المسألة راجع: ابن جرير (2/ 264)، (8/ 136، 137)، (9/ 31)، البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 277)، شرح الكوكب المنير (3/ 286)، المذكرة في أُصول الفقه 226، نثر الورود (1/ 281)، أضواء البيان (4/ 336 - 339). (¬2) البيت الثاني مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة، وهما في ديوان النابغة ص9. وقوله: (أصيلاناً) أي: عند الأصيل. و (عيت جوابا) أي: عجزت عن الإجابة. و (الأواري) مفردها الآري، وهي الآخية التي تشد بها الدابة. و (اللأي) الشدة. و (النؤي) ما يُحفر حول الخيمة لعدم تسرب الماء أو غيره بداخلها. و (المظلومة الجلد) أي: الأرض الشاقة التي أُقيم فيها حوض على غير استحقاق منها لذلك. (¬3) البيت لجران العود. وهو في الخزانة (4/ 197)، الدر المصون (11/ 33) واليعافير: جمع يعفور، وهو الظبي بلون التراب، أو عام.

وذلك ليس من جنسِ الأنيسِ. وقول الفرزدقِ (¬1): وَبِنْتُ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خَاطِبٌ إِلاَّ السِّنَانَ وَعَامِلَهْ فالسنانُ ليس من جنسِ الخاطبِ. وَيَنْبَنِي في الأصولِ على الخلافِ في الاستثناءِ المنقطعِ: ما لو قال رجلٌ في إقرارِه: أُقِرُّ لزيدٍ أن له عَلَيَّ ألفَ دينارٍ إلا ثوبًا. فالذين قالوا بجوازِ الاستثناءِ المنقطعِ قالوا: تسقطُ قيمةُ الثوبِ من الألفِ. وعلى مذهبِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ - المانعُ للاستثناءِ المنقطعِ - لا يسقطُ من الألفِ شيءٌ؛ لأن الثوبَ ليس من جنسِ الدنانيرِ التي أَقَرَّ بها. وعلى هذا فالمعنَى: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} لا أخافُ الأصنامَ التي تُشْرِكُونَهَا بِاللَّهِ (جل وعلا). فالتحقيقُ في الضميرِ في (به) أنه عائدٌ إلى اللَّهِ (¬2). (تشركونها بالله) أي: به (جل وعلا). لا أخافُها لأنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. ثم استثنَى وقال: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} لكن إن شَاءَ رَبِّي مَخُوفًا أن يوقعَني فيه فَلَهُ (جل وعلا) ما شَاءَ، فالاستثناءُ منقطعٌ، وليس المرادُ أنه اسْتَثْنَى مخافةً من الأصنامِ أبدًا؛ لأنها جمادٌ لا ينفعُ ولا يَضُرُّ، والاستثناءُ منقطعٌ، كما جَزَمَ به غيرُ واحدٍ من الْمُحَقِّقِينَ، وقد غَلِطَ من جعلَه متصلاً، كمن قال: إن اللَّهَ قادرٌ على أن يخلقَ في الأصنامِ عقولاً وبطشًا تضرُّه به، وقادرٌ على أن يُسْقِطَ عليه فلقةً من القمرِ الذي يعبدونَ فتضره!! هذا بعيدٌ من ¬

(¬1) البيت في المقاصد النحوية (3/ 110). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 29)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 20).

كلامِ العربِ، والظاهرُ ما ذَكَرْنَا. وهذا معنَى قولِه: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} يُخَوِّفُنِي به فمشيئةُ اللَّهِ نافذةٌ كائنةٌ ما كَانَتْ. {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} {عِلْمًا} تمييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ (¬1). والمعنَى: وَسِعَ علمُه كُلَّ شيءٍ، فهو عَالِمٌ بِكُلِّ شيءٍ، وعلمُه المحيطُ بِكُلِّ شيءٍ إذا أحاطَ بأنه يَجْعَلُنِي في مخافةٍ فذلك حقيقٌ، فلما نَفَى الخوفَ من الأصنامِ تداركَ وقال: لا يُمْكِنُنِي أن أنفيَ الخوفَ، بل أُنِيطُهُ بمشيئةِ اللَّهِ، إذا شاءَ أن يُخِيفَنِي أَخَافَنِي، وإلا فَلاَ. هذا معنَى الكلامِ. ثُمَّ قَالَ: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أفلاَ تَتَّعِظُونَ وتعلمونَ أَنَّنِي لا ينبغي لي أن أخافَ من جماداتٍ لا تَنْفَعُ مع أنكم لا تَخَافُونَ من شديدِ البطشِ، ملكِ السماواتِ والأرضِ، حيثُ تكفرونَ به، وتصرفونَ حقوقَه لغيرِه؛ وَلِذَا أتبعَه بقولِه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام: آية 81] في غايةِ الإنكارِ، كيفَ أخافُ هذه الجماداتِ التي أَشْرَكْتُمُوهَا بِاللَّهِ، لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنتم لا تخافونَ جبارَ السماواتِ والأرضِ، حيث تَكْفُرُونَ به، وَتُشْرِكُونَ به غيرَه؟ {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} (ما) موصولةٌ، وهي في محلِّ المفعولِ لـ: {أَشْرَكْتُمْ} (¬2) أي: أشركتُم بِاللَّهِ الشيءَ الذي لم يُنَزِّلْ به سلطانًا. أي: حُجَّةً. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 170)، الدر المصون (5/ 21). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 21).

وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن نفيَ الشيءِ لا يدلُّ على إمكانِه؛ لأن نفيَ السلطانِ عن الآلهةِ لا يدلُّ على إمكانِه، كقولِه: {وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة: آية 57] فَنَفْيُهُ ظُلْمَهُمْ عنه لا يدلُّ على إمكانِه (¬1)، فهذا يدلُّ على أن نفيَ الفعلِ لا يدلُّ على إمكانِه، كما قال جل وعلا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: آية 117] فنفيُ البرهانِ لا يدلُّ على إمكانِ البرهانِ؛ إِذْ لا يقومُ عليه برهانٌ أبدًا. وهذا معنَى قولِه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: آية 81] أي: حجةً واضحةً. ثم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} أَيُّ الفريقين أحقُّ بالأمنِ، أهو الفريقُ الذي يعبدُ اللَّهَ، ويوحدُ اللَّهَ، ويطيعُ اللَّهَ، الذي بيدِه النفعُ والضرُّ، وَيُرْقَبُ وَيُرْجَى مِنْ قِبَلِهِ كلُّ شيءٍ، أو هذا الذي يكفرُ باللَّهِ ويغضُبه ويسخطُه ويصرفُ حقوقَه للجماداتِ؟ أَيُّ هذين الفريقين أَحَقُّ بالأمنِ والسلامةِ من الآخَرِ؟ الجوابُ: أن فريقَ اللَّهِ الذي يعبدُه ويوحدُه ويطيعُه لاَ شَكَّ أنه أَحَقُّ بالأمنِ؛ وَلِذَا قال: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنعام: آية 82] وهم إبراهيمُ {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} أي: لم يَخْلِطُوا إيمانَهم بشرك {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ، في تفسيرِ هذه الآيةِ الكريمةِ أنه لَمَّا نَزَلَ قولُه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذلك على أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الَّذِي تُرِيدُونَ». ثم تَلاَ قوله: «{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬2) ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

[لقمان: آية 13]» وَبَيَّنَ لهم أن المرادَ بالظلمِ هنا: الشركُ. وكان الزمخشريُّ يقولُ: لاَ يمكنُ أن يُفَسَّرَ الظلمُ هنا بالشركِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} لأن الشركَ لا يختلطُ مع الإيمانِ؛ لأنهما ضِدَّانِ (¬1). وهذا في الحقيقةِ أمرٌ غيرُ صحيحٍ؛ لأن اللَّهَ يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: آية 106] فإنهم يؤمنونَ بربوبيةِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَبِأَنَّهُ النافعُ الرازقُ، ويشركونَ معَه غيرَه في عبادتِه، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} وقد جاء في بعضِ الأحاديثِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ في سفرٍ من أسفارِه من المدينةِ، ثم بعدَ ذلك لَحِقَ بهم بَدَوِيٌّ راكبًا على بعيرٍ، وقد قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إني أتيتُك من بلادِي وَتِلاَدِي، أُرِيدُ أن تعلمنَي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وأدخلَ في دِينِكَ، فَعَلَّمَهُ النبيُّ شرائعَ الإسلامِ، وَآمَنَ على يدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا صحيحًا، وفي ذلك الوقتِ سَقَطَتْ يدُ بعيرِه في جُحْرٍ في الليلِ، فانكسرَ عُنُقُهُ فماتَ، فقال لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ». لأنه عندمَا آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا نَقِيًّا أَخَذَهُ اللَّهُ إليه. وفي بعضِ الرواياتِ: فيه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: «إِنَّهُ رَأَى مَلَكًا يَدُسُّ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ؛ لأَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا». جاء هذا في أحاديثَ مرفوعةٍ، اللَّهُ أعلمُ بأسانيدِها (¬2). ¬

(¬1) عبارة الكشاف: «أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر لفْظُ اللَّبْس» اهـ. الكشاف (2/ 25). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 357، 358، 359)، والطبراني في الكبير (2/ 319 - 320)، والبيهقي في الشعب (8/ 254)، وفي الحلية (4/ 203)، وابن عدي في الكامل (5/ 1814)، وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 41)، وابن كثير في التفسير (2/ 153)، والسيوطي في الدر (3/ 27)، وعزاه لأحمد، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب. من حديث جرير (رضي الله عنه) مع شيء من التفاوت في لفظه، حيث يرويه بعضهم بمثل السياق الذي ذكره الشيخ هنا، وبعضهم يرويه مختصرا. وللحديث طرق لا تخلو من ضعف ولا يتقوى الحديث بمثلها، والله أعلم. وقد أخرج ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1334) نحوه من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما)، ومن طريقه أورده ابن كثير في التفسير (2/ 153)، والسيوطي في الدر (3/ 27) وعزاه للحكيم الترمذي وابن أبي حاتم.

وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: لم يَخْلِطُوا إيمانَهم بشركٍ {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} كإبراهيمَ وَمَنْ سَارَ على سَيْرِهِ. {وَهُم مُّهْتَدُونَ} على طريقٍ صحيحةٍ. يُفْهَمُ من مفهومِ مخالفةِ الآيةِ: أن الذين لم يؤمنوا وكانوا يلبسون كُلَّ شيءٍ بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وعبادتِهم للأصنامِ لاَ أَمْنَ لهم في الدنيا ولا في الآخرةِ، وليسوا مُهْتَدِينَ. هذا معنَى الآيةِ الكريمةِ. [8/أ] / قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: الآيات 83 - 90]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: الآية 83].

في هذا الحرفِ قراءتانِ سبعيتانِ (¬1): قَرَأَهُ أربعةٌ من السبعةِ: نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ: {نَرْفَعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ} غيرَ مُنَوَّنٍ مُضافًا إلى (مَنْ)، وقرأهُ الكوفيون - عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ - {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء} بتنوينِ درجاتٍ، وإدغامِ نونِ التنوينِ في الميمِ. ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} اختلفَ العلماءُ في المشارِ إليه بقولِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} فَعَنْ مُجَاهِدٍ: أن الحجةَ الْمُشَارَ إليها بقولِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} أنها قولُ نبيِّ اللَّهِ إبراهيمَ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: آية 81]. قال: لَمَّا خوَّفوه أَصْنَامَهُمْ، وزعموا أنها تُخَبِّلُهُ وتستجلبُ له البرصَ ونحوَه، قال لهم: كيف أخافُ أصنامًا لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنتم تشركونَ مع اللَّهِ غيرَه ولا تخافونَه؟ قال مجاهدٌ وغيرُه: هذه هي حجةُ اللَّهِ التي آتَاهَا إبراهيمَ (¬2). والظاهرُ أن الإشارةَ في قولِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} راجعةٌ إلى المناظرةِ كُلِّهَا (¬3)، من قولِه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76]. كَمَا جَزَمَ به غيرُ واحدٍ وهو الصوابُ، أما عدمُ الخوفِ من الأصنامِ، فهذا أمر حجته أُعْطِيَتْ لجماعةٍ من الرسلِ، ولم يُخَصَّ بها إبراهيمُ، ألا ترى أن قومَ هودٍ قالوا له: إِنَّ بعضَ آلهتِهم اعْتَرَاهُ بسوءٍ، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في قولِه: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} [هود: ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 198. (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 505). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 30)، البحر المحيط (4/ 171 - 172)، أضواء البيان (2/ 202)، آداب البحث والمناظرة (2/ 82).

آية 54]. قولُهم: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} يَعْنُونَ: أنَّ بعضَ معبوداتِهم مَسَّ نَبِيَّ اللَّهِ هودًا بسوءٍ، حتى جَعَلَهُ مجنونًا مُخْتَبَلاً، يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ، اعْبُدُوا اللَّهَ، اعْبُدُوا اللَّهَ. كأن هذا عندَهم هذيانٌ وجنونٌ، وأن آلهتَهم خَبَّلَتْهُ، حتى صارَ يقولُ هذا. فأجابَهم نبيُّ اللَّهِ هودٌ: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: الآيات 54 - 56] وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الزمرِ أنهم خَوَّفُوا نَبِيَّنَا - صلى الله عليه وسلم - بآلهتِهم، ثم أَمَرَهُ أن يقولَ: إنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، لا تكشفُ ضُرًّا ولا تستجلبُ نفعًا. وذلك في قولِه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: آية 36] يعني يُهَدِّدُونَكَ بالأصنامِ أن تَضُرَّكَ كما خَوَّفُوا بها إبراهيمَ وهودًا على الجميعِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه. ثُمَّ إن اللَّهَ أمرَ نَبِيَّهُ أن يبينَ أنها لا تنفعُ ولا تضرُّ، في قولِه بعدَ الآيةِ التي ذَكَرْنَا: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} الآية. [الزمر: آية 38]. وهذا مِمَّا يبين أن الحجةَ التي آتَاهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ إبراهيمَ هي إفحامُه الخصومَ، ومناظرتُه لهم جميعًا؛ ذلك أنهم كانوا يعبدونَ كواكبَ مسخرةً، ويعبدونَ أصنامًا أرضيةً، وأجرامًا سماويةً، فقال لهم في الأجرامِ الأرضيةِ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: آية 95] {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: آية 67] {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: الآيتان 72 - 73] {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: آية 42] هذا في الأجرامِ الأرضيةِ، وهي أصنامُهم،

وقد أَشَارَ له في هذه الآياتِ بقولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 74] حيث تعبدونَ ما لاَ ينفعُ ولا يَضُرُّ، وتتركونَ عبادةَ الخالقِ الرازقِ النافعِ الضارِّ. ثم نَاظَرَهُمْ في عبادتِهم الأجرامَ السماويةَ، فَلَمَّا رأى كوكبًا: {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: آية 76] فَكَأَنَّهُ يَتَنَزَّلُ لهم في المناظرةِ ويُسلِّمُ لهم مقدمةً باطلةً، هي مقدمة كفر، يُسلِّمُها لهم على زَعْمِهِمُ الفاسدِ الكافرِ (¬1)؛ لِيُمْكِنَهُ إفحامُهم، ويبين لَهُمْ أن الأُفولَ صفةُ نقصٍ محققةٌ، تُنَافِي صفاتِ الربوبيةِ، فاتصافُه بالأفولِ يُنَافِي كونَه رَبًّا، كما بَيَّنَهُ، وكأنها نتيجةٌ تَرَتَّبَتْ على مُقَدِّمَتَيْنِ: إحداهُما: كونُ ذلك المزعومِ معبودًا، كونُه آفِلاً. وهذه في قولِه: {فَلَمَّا أَفَلَ} لأَنَّ أصلَ المعنَى: رَأَى كَوْكَبًا فَأَفَلَ {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} بحذفِ الفاءِ وَمَا عُطِفَتْ عليه. فقولُه {فَلَمَّا أَفَلَ} تَضَمَّنَتْ مقدمةً معناها: هذا الجرمُ آفِلٌ. ثم رَتَّبَ المقدمةَ الأُخْرَى: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} لاَ أُحِبُّ أَنْ أعبدَ مَنْ يَتَّصِفُ بصفةِ الأُفولِ والغيبوبةِ؛ لأنها صفةُ نقصٍ، تَدُلُّ على النقصِ والتسخيرِ، فَمَنْ كَانَ كذلك لاَ يستحقُّ أن يكونَ رَبًّا. فهذا نَظَرٌ عَقْلِيٌّ صحيحٌ، واستنتاجٌ صحيحٌ، وقد تقررَ عند عامةِ النظارِ أن الاستنتاجَ العقليَّ إذا كان على طَرِيقِهِ الصحيحةِ أنه أَمْرٌ صحيحٌ. وقالوا: نَوَّهَ اللَّهُ بشأنِه حيثُ جَعَلَهُ حجةً أَضَافَهَا لنفسِه، وَآتَاهَا إبراهيمَ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 201).

على قَوْمِهِ (¬1)، حيث قَالَ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: آية 83]. ومعلومٌ أن النظرَ العقليَّ أنه محصورٌ في أربعةِ أنواعٍ؛ لأَنَّ المُسْتَدَلَّ به: إمَّا وجودٌ، وإمَّا عدمٌ. والمُسْتَدَلَّ عليه: إما وجودٌ، وإما عدمٌ. فَتَضْرِبُ حَالَتَيِ الدليلِ في حَالَتَيِ المدلولِ، اثنين باثنين: بأربعةٍ. بَسْطُهَا وتَصْطِيْحُهَا: استنتاجُ وجودٍ من وجودٍ، واستنتاجُ عدمٍ من عدمٍ، استنتاجُ عدمٍ من وجودٍ، واستنتاجُ وجودٍ من عدمٍ. هذا معروفٌ. مثالُ استنتاجِ الوجودِ من الوجودِ: هو استنتاجُ وجودِ خالقِ هذا الكونِ من وجودِ هذا الكونِ على هذه الأساليبِ الغريبةِ العجيبةِ، الدالةِ على أن له خَالِقًا مدبرًا هو الربُّ المعبودُ وحدَه، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ} [آل عمران: أية 190] فَبَيَّنَ أَنَّ وجودَ هذا الكونِ دليلٌ على وجودِ صانعِه، فهو وجودٌ يَلْزَمُ منه عقلاً وجودُ خالقٍ مُدَبِّرٍ، هو الربُّ المعبودُ. ومثالُ استنتاجِ العدمِ من العدمِ: قولُه تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: آية 22] فَهُنَا: عدمُ فسادِ السماواتِ والأرضِ يستلزمُ عدمَ تعددِ الآلهةِ. فهو عدمٌ يُنْتِجُ عَدَمًا، كما في قولِه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فعدمُ الفسادِ المشاهَدُ يلزمُه عدمُ تعددِ الآلهةِ. وكذلك رُبَّمَا يُسْتَنْتَجُ عدمٌ من وجودٍ - كما في هذه الآيةِ - فإن ¬

(¬1) انظر: آداب البحث والمناظرة (2/ 83).

أُفُولَ الكوكبِ صفةٌ وجوديةٌ عَايَنُوهَا بالحسِّ فيه، اسْتَنْتَجَ منها عدمَ الربوبيةِ، حيث قال: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: آية 76]. وأما استنتاجُ الوجودِ من العدمِ: فهو معروفٌ باستنتاجِ عدمِ النقيضِ من وجودِ نقيضِه، أو مُسَاوِي نقيضِه، كما هو معروفٌ. والشاهدُ أن نَبِيَّ اللَّهِ إبراهيمَ نَاظَرَ قومَه مناظرةً عقليةً، بَيَّنَ لهم فيها أن هذه المعبوداتِ التي يَزْعُمُونَهَا أَرْبَابًا هي آفِلَةٌ، وهذه المقدمةُ - التي كَوْنُ تلك المعبوداتِ آفلةً - مُقَدِّمَةٌ قطعيةٌ؛ لأنها تُدْرَكُ بالحواسِّ، فهم يشاهدونَ أُفُولَهَا بأعينِهم، فهي مقدمةٌ لا يمكنُ إنكارُها. ثم رَتَّبَ لهذه المقدمةِ المحسوسةِ مقدمةً عقليةً ضَمَّهَا معها، أشارَ لها بقوله: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} هي أن الأُفولَ صفةُ نقصٍ لاَ شَكَّ فيها، تَدُلُّ على حدوثٍ وتسخيرٍ، وهذه تُنَافِي صفاتِ الربوبيةِ، فالآفلُ لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا. ثم قال لهم مثلَ هذا في الشمسِ والقمرِ، حتى أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ (¬1). ثم بعدَ ذلك بَيَّنَ لهم معتقدَه، وأظهرَ حقيقتَه، وقال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: الآيتان 78 - 79] وكان اللَّهُ (جل وعلا) أَعْطَى إبراهيمَ حُسْنَ الْحُجَجِ والمناظرةِ، واللطفَ فيها. من ذلك أنه لَمَّا نَاظَرَ نَمْرُود، وهو الذي بُعِثَ إبراهيمُ في زمنِ ولايتِه، وكان مَلِكًا جَبَّارًا طَاغِيًا، نمرودُ بنُ كنعانَ بنِ سِنْجَارِي بنِ كُوشَ بنِ سامِ بنِ ¬

(¬1) في هذا الموضوع انظر: آداب البحث والمناظرة (2/ 78، 82 - 83).

نوحٍ (¬1)، الفاجرُ المعروفُ، لَمَّا قال له: مَنْ رَبُّكَ الذي تَدْعُونَا إليه؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: آية 258] وكان نمرودُ جاهلاً، فَأَخَذَ رَجُلَيْنِ، أحدُهما كان محكومًا عليه بالقتلِ فأطلقَه، وأخذ آخَرَ بريئًا فَقَتَلَهُ، فقال: هذا كان حَيًّا فأنا أَمَتُّهُ، وهذا كان سيموتُ الآنَ فأنا أَحْيَيْتُهُ (¬2)!! فَلِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ من الحجةِ وحسنِ المناظرةِ لم يَقُلْ له: هذه ليست الحياةَ التي أُرِيدُ، ولا الموتَ الذي أُرِيدُ. بل تَرَكَ له هذا كُلَّهُ، ولم يُجِبْهُ بشيءٍ منه، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فَزَعَمُوا في قصتِه أنه أَوَّلاً أرادَ أن يكذبَ وأن يقولَ: أنا هو الذي آتِي بها من المشرقِ، فَقُلْ لِرَبِّكَ يأتِي بها من المغربِ!! فَنَظَرَ فإذا في المجلسِ رجالٌ كبارُ السِّنِّ، يعلمونَ الشمسَ تطلعُ من المشرقِ، يُطْلِعُهَا اللَّهُ قبلَ أن يولدَ نمرود، فَخَافَ أن يُكَذِّبُوهُ فيفتضحُ في المجلسِ، فَبُهِتَ الذي كَفَرَ. هذه المناظراتُ التي يُفْحَمُ بها الخصومُ، كما في آيةِ الأنعامِ هذه، هي التي نَوَّهَ اللَّهُ بشأنِها، وأضافَها إلى نفسِه، وقال: إنه آتَاهَا إبراهيمَ، مُعَظِّمًا نفسَه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} تلك الحجةُ التي أَفْحَمَ بها الخصومَ ¬

(¬1) في تاريخ ابن جرير (1/ 147): «نمروذ بن كنعان بن حام بن نوح». وفي التفسير (5/ 430): «نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح». وانظر: البداية والنهاية (1/ 148). تنبيه: هناك شيء من الاختلاف بين هذه المصادر في بعض هذه الأسماء، بل هذا الاختلاف موجود في المصدر الواحد في المواضع المتعددة، فـ (فالخ) في بعض المصادر: (فالح)، وفي بعضها: (فالغ). وهكذا (شالخ) فهو في بعضها: (صالح)، وفي بعضها: (شالح). (¬2) انظر: ابن جرير (5/ 433، 436 - 437).

حُجَّتُنَا، أضافَها اللَّهُ لنفسِه تشريفًا وَإِعْظَامًا. {آتَيْنَاهَا} أي: أَعْطَيْنَاهَا {إِبْرَاهِيمَ}، فَهَّمْنَاهُ إِيَّاهَا، وَأَلْهَمْنَاهُ إِيَّاهَا {عَلَى قَوْمِهِ}، هذه الحجةُ يَحْتَجُّ بها على قومِه الكفرةِ الذين يجادلونَه، كما قال: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80] حتى يُفْحِمَهُمُ ويلقمَهم الحجرَ. ثم قال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: آية 83] هذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْحُجَجَ، ومناظراتِ الخصومِ التي يُثْبِتُ بها التوحيدَ، ويدفعُ بها شُبَهَ المُبْطِلِينَ، أن هذا رَفْعٌ من اللَّهِ في درجاتِه، حيث أَتْبَعَ قولَه: {حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} أَتْبَعَهُ بقولِه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} أي: كما رَفَعْنَا درجةَ إبراهيمَ بِمَا آتَيْنَاهُ من تلك الحجةِ التي صَدَعَ بها بالحقِّ، وَقَهَرَ بها الخصومَ. أما على قراءةِ الجمهورِ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاءُ} بالإضافةِ، فالدرجاتُ: مفعولٌ به لـ {نَرفَعُ} و {مَّن نَّشَاءُ} مضافٌ إليه ما قَبْلَهُ. وَمَنْ رُفِعَتْ درجاتُه فَقَدْ رُفِعَ (¬1)، كقولِه: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} وفي الحديثِ: «اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ» (¬2) والدرجةُ: المرتبةُ والمنزلةُ، فَإِنَّ مَنْ رُفِعَتْ درجتُه ومنزلتُه فقد رُفِعَ، وعلى هذا فمعناهُ: نَرْفَع رُتَبَ وَمَنَازِلَ مَنْ نشاءُ أن نرفعَ رتبتَه ومنزلتَه. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 30)، البحر المحيط (4/ 172)، الدر المصون (5/ 26). (¬2) قطعة من حديث أم سلمة عند مسلم (في وفاة أبي سلمة رضي الله عنه). كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر. حديث (920) (2/ 634).

أما على قراءةِ الكوفيين - عاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ - (¬1): {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} فـ {مَّن} الموصولةُ هي مفعولٌ {نَرْفَعُ} أي: نرفعُ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ، نرفعُه درجاتٍ. وفي إعرابِ {دَرَجَاتٍ} على هذه القراءةِ أَوْجُهٌ معروفةٌ للعلماءِ (¬2): أحدُها: أنها ما نَابَ عن المطلقِ؛ لأن معنَى نرفعُ مَنْ نَشَاءُ درجاتٍ أي: رفعاتٍ عاليةً، فالدرجةُ في معنَى الرفعِ، فَهِيَ في معنَى المفعولِ المطلقِ لاَ بِلَفْظِهِ. وقومٌ قالوا: هي منصوبةٌ بنزعِ الخافضِ. أي: نرفعُه في درجاتٍ. إلى غيرِ ذلك من الأعاريبِ. ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، (نرفعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَ دَرَجَاتِهِ). أو: (نرفعُ درجاتٍ مَنْ نشاءُ رَفْعَهُ). فعلى الإضافةِ: فالتقديرُ: (نَرْفَعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَ درجاتِه). وعلى التنوينِ: فالتقديرُ: (نرفعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ). هذا مَعْنَاهُ. {إِنَّ رَبَّكَ} جل وعلا {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الحكيمُ في الاصطلاحِ: هو من يضعُ الأمورَ في مواضعِها، وَيُوقِعُهَا في مواقعِها. فَاللَّهُ (جل وعلا) حكيمٌ لا يضعُ أمرًا إلا في موضعِه، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه، ولا يأمرُ إلا بما فيه الخيرُ، ولا يَنْهَى إلا عَمَّا فيه الشرُّ، ولا يعذبُ إلا مَنْ يَسْتَحِقُّ، وهو (جل وعلا) ذو الحكمةِ البالغةِ، له الحجةُ والحكمةُ البالغةُ. وأصلُ (الحكيمِ): هو المتصفُ بالحكمةِ. ¬

(¬1) مضت هذه القراءات عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 172)، الدر المصون (5/ 26).

وَأَصْلُ (الحكمةِ): (فِعْلة) من الْحُكْمِ. وأصلُ مادةِ (الحُكْمِ) في لغةِ العربِ (¬1): أصلُها معناها (المَنْعُ). تقولُ العربُ: «حَكَمَهُ وأَحْكَمَهُ» إذا مَنَعَهُ. أَبَنِي حَنَيْفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا (¬2) لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ (¬3) هذا أصلُ (الحكمِ): المنعُ، وَمِنْهُ: (حَكَمَةُ الدَّابَّةِ). لأنها تمنعُها من الجريِ على غيرِ مرادِ صاحبِها. والحِكْمةُ: (فِعْلة) من (الحُكم) بمعنَى: المنعِ. وأظهرُ تفسيراتِها: أنها العلمُ النافعُ؛ لأن العلمَ النافعَ هو الذي يَحْكُمُ الأقوالَ والأفعالَ. أي: يمنعُها أن يعتريَها الخللُ. فَمَنْ كان عندَه العلمُ الكاملُ كان لا يضعُ الأمرَ إلا في موضعِه، ولا يوقعُه إلا في موقعِه؛ لأن كُلَّ إخلالٍ في الإحكامِ إنما هو من الجهلِ بعاقبةِ الأمورِ، فَتَرَى الرجلَ الحاذقَ القُلَّبَ البصيرَ يفعلُ الأمرَ يظنُّ أنه في غايةِ الإحكامِ، ثم ينكشفُ الغيبُ عن أن فيه هلاكَه، فيندمُ حيث لا ينفعُ الندمُ، ويقولُ: ليتني لَمْ أَفْعَلْ، ولو فَعَلْتُ لكانَ كَذَا!! كما قال الشاعرُ (¬4): أُلاَمُ عَلَى لَوٍّ وَلَوْ كُنْتُ عَالِمًا ... بِأَذْنَابِ لَوٍّ لَمْ تَفُتْنِي أَوَائِلُهْ ¬

(¬1) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الحاء، باب الحاء والكاف وما يثلثهما ص277. (¬2) البيت لجرير، وهو في المقاييس في اللغة ص277، الدر المصون (1/ 267). (¬3) البيتان لحسان بن ثابت (رضي الله عنه) وهما في ديوانه، ص20. (¬4) البيت في الكتاب لسيبويه (3/ 262)، ما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج، ص66، فتح الباري (13/ 226).

يقولونَ لِي: لو فَعَلْتَ كذا لكانَ خَيْرًا!! أنا لو كنتُ عالِمًا بما يصيرُ إليه الأمرُ لفعلتُه من أول. فَرَبُّ السماواتِ والأرضِ وحدَه لاَ يَجْرِي عليه: لَوْ فَعَلْتُ كذا لكانَ أحسنَ؛ لأنه عَالِمٌ بعواقبِ الأمورِ، وما تصيرُ إليه، وَعَالِمٌ بما كانَ وما يكونُ، فلا يضعُ أمرًا إلا في موضعِه، وَمُحَالٌ عن أن ينكشفَ الغيبُ عن أن ذلك الأمرَ على خلافِ الصوابِ؛ لأنه عَالِمٌ بعاقبةِ الأمرِ، وما يؤولُ إليه، كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. والعَليمُ: صيغةُ مبالغةٍ؛ لأن عِلْمَ اللَّهِ (جل وعلا) محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، يعلمُ خَطَرَاتِ القلوبِ، وخائنةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصدورُ، حتى قَدَّمْنَا أنه من إحاطةِ علمِه: يعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في علمِه أنه لا يوجدُ، هو عَالِمٌ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ؛ لشدةِ إحاطةِ عِلْمِهِ بالموجوداتِ والمعدوماتِ. وقد بَيَّنَّاهُ في هذه السورةِ الكريمةِ؛ لأَنَّ أهلَ النارِ لَمَّا عَايَنُوا النارَ ورأوا الحقيقةَ وَنَدِمُوا تَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى دارِ الدنيا مرةً أُخْرَى لِيُصَدِّقُوا الرسلَ، ورَدُّهُمْ ذلك الذي تَمَنَّوْهُ: اللَّهُ عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ بأن ذلك الردَّ - الذي هو عَالِمٌ أنه لا يكونُ - صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، حيث قَالَ: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ هو عَالِمٌ أنه لَنْ يكونَ، ثم صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أَنْ لَوْ كَانَ كيف يكونُ، حيث قال بعدَه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والْمُتَخَلِّفُونَ عن غزوةِ تبوكَ لا يحضرونَها أبدًا؛ لِمَا سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ من تَثْبِيطِهِمْ عَنْهَا، وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عنها بإرادتِه لحكمةٍ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} وَخُرُوجُهُمْ إلى

غزوةِ تبوك، الذي ثَبَّطَهُمْ عنه، وسبقَ في علمِه أنه لا يكونُ، صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كانَ كيف يكونُ، حيث قَالَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الآيةَ [التوبة: الآيتان: 46، 47]. وأمثالُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ. اللَّهُ (جل وعل) محيطٌ علمُه بِكُلِّ شيءٍ. وفي اسْمَيْهِ: (الحكيمُ، العليمُ) أكبرُ مدعاةٍ للعبادِ أن يُطِيعُوهُ وَيَتَّبِعُوا تشريعَه؛ لأن بحكمتِه يعلمونَ أنه لاَ يأمرُهم إلاَّ بِمَا فيه الخيرُ، ولا ينهاهُم إلا عَمَّا فيه الشرُّ، فلاَ يُوقِعُ لهم أَمْرًا إلا في موقعِه، ولا يضعُه إلا في موضعِه، وبإحاطةِ علمِه: يعلمونَ أنه ليس هنالك غَلَطٌ في ذلك الفعلِ، ولا عاقبةٌ تنكشفُ عن غيرِ مَا أَرَادَ، بل هُوَ في غايةِ الإحاطةِ والإحكامِ. وإذا كان مَنْ يَأْمُرُكَ عليمٌ لا يَخْفَى عليه شيءٌ، حكيمٌ في غايةِ الإحكامِ، لاَ يأمرُك إلا بما فيه الخيرُ، ولا يَنْهَاكَ إلا عَمَّا فيه الشرُّ، فإنه يَحِقُّ لكَ أن تُطِيعَ وَتَمْتَثِلَ. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: آية 84]، صيغةُ الجمعِ في قولِه: {وَوَهَبْنَا} للتعظيمِ، ومعنَى {وَهَبْنَا لَهُ}: أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُمَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أن هبتَه إياه إسحاقَ كانت على كِبَرٍ عَظِيمٍ منه، وعلى كِبَرٍ من امرأتِه، بحيثُ لا يحملُ مِثْلُهَا عادةً، وأن الرسلَ الذين بُعِثُوا إلى قومِ لوطٍ لَمَّا نزلوا عندَه، وذبحَ لهم عِجْلَهُ وَأَنْضَجَهُ ونَكِرَهُم لَمَّا رَأَى أيديَهم لا تَصِلُ إليه وَخَافَ منهم، في ذلك الوقتِ بَشَّروهُ بإسحاقَ، وَمِنْ وراءِ إسحاقَ: يعقوبَ، بَشَّرُوهُ بأن امرأتَه تَلِدُ إسحاقَ، وأنه يُولَدُ له يعقوبُ، حتى تَقَرَّ به أعينُهما وَهُمَا حَيَّانِ، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ هودٍ: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}

[هود: آية 71] حتى إن امرأتَه لشدةِ تَعَجُّبِهَا مِنْ أنها تَلِدُ وهي عجوزٌ فانيةٌ صَرَخَتْ، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، كما قال تعالى في الذارياتِ: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: آية 29] يعني: في صَيْحَةٍ وَضَجَّةٍ: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} لاستعجابِها واستغرابِها من هذا الخبرِ، وكذلك قال عنها في سورةِ هودٍ: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: آية 72]. أما إسماعيلُ فقد أَعْطَاهُ اللَّهُ إياه قبلَ ذلك مِنْ سُرِّيتِهِ هَاجَرَ، كما هو مشهورٌ في التاريخِ، ولم يُعْطِهِ إسماعيلَ أيضًا إلا بعدَ أن كَبِرَ وَطَعَنَ في السِّنِّ، كما نَصَّ عليه في سورةِ إبراهيمَ الخليلِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: آية 39]. إِلاَّ أن وقتَ بشارتِه بإسحاقَ كان كبيرًا كِبَرًا شديدًا، وامرأتُه عجوزٌ فانيةٌ، أكبرُ مِنْ زَمَنِ إيتائِه إسماعيلَ، وإن كَانَ كبيرًا عند الْوَقْتَيْنِ. وهذا معنَى قولِه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: آية 84]. وآية هودٍ هذه من النصوصِ الدالةِ على أنَّ الذبيحَ: إسماعيلُ، وليسَ بإسحاقَ؛ لأن ذلك دَلَّ عليه القرآنُ في مَوْضِعَيْنِ، وهو الصحيحُ. إلا أن الإِسْرَائِيلِيِّينَ يَحْكُونُ إسرائيلياتٍ كثيرةً في أنه إسحاقُ، اغْتَرَّ بها بعضٌ من علماءِ المسلمينَ، فَظَنَّ أنه إسحاقُ، وهو غَلَطٌ، والتحقيقُ أن الذبيحَ: إسماعيلُ، وأن آيةَ هودٍ التي ذَكَرْنَا هي دليلٌ قَوِيٌّ على ذلك، كما دَلَّتْ عليه آيةُ الصافاتِ. أما وجهُ دلالةِ آيةِ هودٍ لأَنَّ اللَّهَ قال، وهو أصدقُ مَنْ يقولُ {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: آية 71] أي: وَبَشَّرْنَاهَا بِأَنَّ إسحاقَ - وهو ولدُها - يَلِدُ يعقوبَ، وهو ولدُ وَلَدِهَا، فبعدَ البشارةِ بالوحيِ الصادقِ أن إسحاقَ

لَنْ يموتَ حتى يَلِدَ يعقوبَ فليس من المعقولِ يُؤْمَرُ بذبحِه وهو صغيرٌ!! وهذا مَعْرُوفٌ. أما الآيةُ الأُخْرَى التي هِيَ في الصافاتِ فهي واضحةٌ جِدًّا في ذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: آية 102] حتى جَاءَ بقصةِ إسماعيلَ الذبيحِ تَامَّةً، قال بَعْدَهَا لَمَّا أَنْهَاهَا: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ (113)} [الصافات: الآيتان 112، 113]. فَصَارَ صريحُ القرآنِ أَنَّ الذبيحَ غيرُ إسحاقَ، حيثُ قَالَ في ذلك الغلامِ: {بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: الآيتان 101، 102] حَتَّى انْتَهَى من قصتِه، وَجَاءَ بقصةِ إسحاقَ مستقلةً بَعْدَهَا، حيثُ قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} ... [الصافات: الآيتان 112، 113]. وهذه الآيةُ الكريمةُ يُفْهَمُ منها معنًى أَوْضَحَهُ اللَّهُ في سورةِ مريمَ؛ ذلك أنه قال هنا إِنَّ إبراهيمَ سَفَّهَ أَحْلاَمَ قومِه، وَعَادَاهُمْ وَكَفَّرَهُمْ وَضَلَّلَهُمْ، حتى اضطره ذلك إلى الخروجِ عنهم، والهجرةِ إلى بلادِ الشامِ، كما يأتِي في قولِه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: آية 26] وَكَانَ فِي قريةٍ بسوادِ العراقِ تُسَمَّى (كوثى) (¬1). لَمَّا هَجَرَ قومَه وخرجَ من الوطنِ في اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ عنهم قرةَ عينٍ تُؤْنِسُهُ، وهي الأولادُ الصالحونَ الكرامُ، يَخْلُفُونَ له الوطنَ والأقاربَ؛ لأنه لَمَّا ذَكَرَ قِصَّتَهُ معهم هنا قال بعدَها: {وَوَهَبْنَا لَهُ ¬

(¬1) انظر: تاريخ ابن جرير (1/ 119).

إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} [الأنعام: آية 84] فهذا يَدُلُّ على أن إقرارَ عينِه بالذريةِ الصالحين؛ لأنه هَجَرَ الْوَطَنَ، وَخَرَجَ عن القرباءِ والأحباءِ في اللَّهِ، وقد أَوْضَحَ اللَّهُ هذا في سورةِ مريمَ حيث قال: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: آية 49]. وَيُفْهَمُ من هذه الآياتِ أَنَّ مَنْ هَجَرَ الأوطانَ والأقاربَ لِلَّهِ أَقَرَّ اللَّهُ عينَه مِنْ ظَهْرِهِ بما يُسَلِّيهِ عَنْهُمْ (¬1)؛ وَلِذَا قَالَ هُنَا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} [الأنعام: آية 84] نونُ التنوينِ عِوَضٌ عن كلمةٍ، أي: كُلُّ واحدٍ منهم هَدَيْنَا، و {كُلاًّ} مفعولٌ به لـ {هَدَيْنَا}. وهذا تمامُ إقرارِ العينِ؛ لأَنَّ الولدَ إذا كان غيرَ صالحٍ لم يَكُنْ قُرَّةَ عَيْنٍ، فَهِبَتُهُ والنعمةُ به إنما تَتِمُّ إذا كان مَهْدِيًّا، لاَ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَهْدِيٍّ؛ وَلِذَا قال: {كُلاًّ هَدَيْنَا}. ثم قال: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} لَمَّا كَانَتْ قصةُ نوحٍ شبيهةً بقصةِ إبراهيمَ ذَكَرَهُ مَعَهُ؛ لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا نَشَأَ في قومٍ يعبدونَ الأصنامَ، وهو أولُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ لقومٍ يعبدونَ الأصنامَ، وَجَادَلُوهُ جِدًّا في الأوثانِ {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: الآيتان 23، 24] وَكَانَ يُجَادِلُهُمْ فِي عبادةِ الأصنامِ حتى قالوا له: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: آية 32] وكان إبراهيمُ نَشَأَ في قومٍ يعبدونَ أجرامَ السماءِ وأجرامَ الأرضِ كذلك، وَخَاصَمَهُمْ مثلَ مخاصمةِ نُوحٍ، بَيَّنَ أنه هَدَى نُوحًا مِنْ قَبْلِ إبراهيمَ، كما هَدَى ¬

(¬1) في هذا المعنى انظر: البداية والنهاية (1/ 146)، تفسير ابن كثير (2/ 154)، (3/ 124).

إِبْرَاهِيمَ، وهذا معنَى قولِه: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: آية 84]. (نوح): يُسَمُّونَهُ (آدمَ الصغيرَ)؛ لأنه ليس على الأرضِ إنسانٌ إِلاَّ وهو مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كما قال اللَّهُ جل وعلا: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} [الصافات: آية 77] وَنَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ لم يكن بعدَه نَبِيٌّ إلا وهو من ذُرِّيَّتِهِ، فالأنبياءُ الذين ليسوا من ذُرِّيَّتِهِ: إما مَنْ سَبَقَهُ، وَإِمَّا مَنْ كَانَ مُعَاصِرًا له، كلوطٍ ابنِ أَخِيهِ، أما مَنْ بَعْدَهُ فهم جميعُهم مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فالأنبياءُ مِنْ ذريةِ نوحٍ وإبراهيمَ، فالذي لم يَكُنْ مِنْ ذريةِ إبراهيمَ فهو من ذريةِ نوحٍ، وإبراهيمُ مِنْ ذريةِ نوحٍ، كَمَا قال جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: آية 26] وقال في سورةِ العنكبوتِ في إبرإهيمَ: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} الآيةَ [العنكبوت: آية 27] وَلِذَا قَالَ: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}، {نُوحًا}: مفعولٌ به لـ {هَدَيْنَا} مُقَدَّمًا عليه. وَأَهْلُ التاريخِ يَزْعُمُونَ أن (نوحًا) أنه: ابنٌ لمك بنِ متوشَلَخَ بنِ خَنُوخَ (¬1). ويزعمونَ أن خنوخَ هو إدريسُ (¬2). هكذا يقولونَ. ويزعمونَ أن إبراهيمَ بنَ تارحَ. هذا المعروفُ في التاريخِ، يقولونَ: إنه ابنُ تارحَ بنِ ناحورَ بنِ أَرْغُو بنِ فالغَ بنِ عابرِ بنِ شالخَ بنِ قينانَ بنِ أرفخشدَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ (¬3). هكذا يقولُ الْمُؤَرِّخُونَ، وهي أمورٌ تُذْكَرُ ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 100)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/ 190). (¬2) انظر: البداية والنهاية (1/ 100)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/ 190). (¬3) في تاريخ ابن جرير (1/ 119): «إبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح». وهو في البداية والنهاية (1/ 139) مع بعض الاختلافات (إبراهيم بن تسارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح) وانظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (3/ 344). وراجع التنبيه المذكور سابقا في الحاشية عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

في التاريخِ شِبْهَ الإسرائيلياتِ، لَمْ يَقُمْ على ضَبْطِهَا وتحقيقِها دليلٌ. وهذا معنَى قولِه: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}. قولُه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داودَ. فهذا معطوفٌ على معمولِ {هَدَيْنَا}. أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ. واختلفَ العلماءُ في الضميرِ في قولِه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} (¬1) قال بعضُهم: هو راجعٌ إلى إبراهيمَ؛ لأنه هو الْمُحَدَّثُ عنه (¬2)، وهذا في حِجَاجِهِ مع قومِه، والآياتُ كُلُّهَا فيه. وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ راجعٌ إلى نوحٍ. والذين قالوا: «يَرْجِعُ إِلَى نُوحٍ» عَضَّدُوهُ بِأَمْرَيْنِ: أحدُهما: أنه هو أقربُ مذكورٍ، والضميرُ يرجعُ لأقربِ مذكورٍ (¬3). الثاني: أن هؤلاء الرسلَ الذين قِيلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ذُكِرَ فيهم لوطٌ، ولوطٌ ليس من ذريةِ إبراهيمَ؛ لأنه ابنُ أَخِيهِ، وَذُكِرَ فيهم يونسُ، وأكثرُ المؤرخين أن يونسَ ليس من ذريةِ إبراهيمَ، وَإِنْ زعمَ قومٌ أنه منه، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 507)، القرطبي (7/ 31)، البحر المحيط (4/ 173)، الدر المصون (5/ 27). (¬2) انظر: قواعد الترجيح (2/ 603). (¬3) المصدر السابق (2/ 621).

ولا يكادُ يختلفُ المؤرخونَ أن لوطًا ليس ابنَ إبراهيمَ، وإنما هو ابنُ أَخِيهِ؛ لأَنَّ لوطَ بنَ هارانَ بنِ تارحَ ابنَ أَخِي إبراهيمَ (¬1). قالوا: لو كان الضميرُ لإبراهيمَ لَمَا ذَكَرَ لُوطًا؛ لأنه ليس من ذُرِّيَّتِهِ. واختارَ أن الضميرَ راجعٌ إلى نوحٍ، اختارَه ابنُ جريرٍ (¬2) لِذِكْرِ لوطٍ. ولأَنَّ نوحًا أقربُ إلى الضميرِ مِنْ إبراهيمَ. وعن ابنِ عباسٍ: أن الضميرَ لإبراهيمَ (¬3)، وأن يونسَ من أنبياءِ بَنِي إسرائيلَ، أو مِنْ ذريةِ إبراهيمَ، خلافَ ما يَزْعُمُهُ أكثرُ الْمُؤَرِّخِينَ، وأن لوطًا جُعِلَ من ذُرِّيَّتِهِ تَغْلِيبًا؛ لأنه ابنُ أَخِيهِ، فَجُعِلَ من ذُرِّيَّتِهِ تَغْلِيبًا؛ كما جُعِلَ إسماعيلُ أَبًا لَهُ تَغْلِيبًا، لما ذُكِرَتْ آبَاؤُهُ، وهو عَمُّهُ. هكذا يقولونَ (¬4). {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. أي: إبراهيمَ، أو نوحًا على الخلافِ الذي ذَكَرْنَا. {دَاوُودَ} هو نَبِيُّ اللَّهِ داودُ، وهو أولُ مَنْ جَمَعَ مِنْ أنبياءِ بَنِي إسرائيلَ بَيْنَ الْمُلْكِ والنبوةِ. وهو داودُ بنُ إيشى، يزعمونَ أنه ابنُ إيشى بنِ عوبد. على كُلِّ حالٍ لهم أسماءُ يختلفُ فيها الْمُؤَرِّخُونَ (¬5)، ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري (1/ 150). (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (11/ 507). (¬3) ذكره في الدر المنثور (3/ 28) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) انظر: القرطبي (7/ 31). (¬5) في تاريخ ابن جرير (1/ 247) «داود بن إيشى بن عوبد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمى نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم». وانظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (8/ 105). وفي البداية والنهاية: (2/ 9) «داود بن ايشا بن عوبد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب ... ».

عجميةٌ، وعلى كُلِّ حَالٍ داودُ يقولونَ: هو داودُ بنُ إيشى بنِ عوبد. يزعمونَ أنه مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا. هكذا يقولونَ: {وَسُلَيْمَانَ} وَلَدُهُ. وقولُه: {وَأَيُّوبَ} أكثرُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أيوبَ بنَ موص، وأنه مِنْ ذُرِّيَّةِ عيصَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ. وفيه غيرُ ذلك (¬1). {وَيُوسُفَ}: هو يوسفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ. {وَمُوسَى وَهَارُوُنَ} معروفانِ، أبناءُ عِمْرَانَ، وَعِمْرَانُ: - يزعمونَ - ابنُ يصهرَ بنِ قاهثَ بنِ لاوي بنِ يعقوبَ (¬2). ويعقوبُ: بنُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ. كما هُوَ معروفٌ. وهؤلاء الأنبياءُ - كُلُّ هؤلاءِ المذكورين - لهم قِصَصٌ معروفةٌ في القرآنِ، بَيَّنَهَا اللَّهُ جل وعلا. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} كَمَا هَدَيْنَا هؤلاءِ الرسلَ الكرامَ، وَوَفَّقْنَاهُمْ لطريقِ الصوابِ: كذلك الجزاءُ نَجْزِي المحسنين، فَنَهْدِيهِمْ وَنُوَفِّقُهُمْ إِلَى ما يُرْضِينَا. والمحسنونَ: جَمْعُ الْمُحْسِنِ، وهو اسمُ فاعلِ الإحسانِ. والإحسانُ هو: الإتيانُ بالعملِ حَسَنًا. وطريقُ الإتيانِ بالعملِ حسنًا بَيَّنَهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قولِه: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ ¬

(¬1) في تاريخ ابن جرير (1/ 165): «أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم» وذكر قولين آخرين. وانظر: تفسير ابن جرير (11/ 508) البداية والنهاية (1/ 220) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (5/ 105). (¬2) انظر: تاريخ الطبري (1/ 198)، وكذا التفسير له (11/ 508)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (25/ 300). وفي البداية والنهاية (1/ 237): «موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب».

لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1). والآيةُ تَدُلُّ على أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ العملَ لِلَّهِ زَادَهُ اللَّهُ هُدًى؛ لأَنَّ التشبيهَ في قولِه: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي} عائدٌ إلى الْهُدَى في قولِه: {كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا}. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذريتِه داودَ. كذلك الْهُدَى والتوفيقُ نَجْزِي ذلك الجزاءَ الحسنَ {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} مثلَ ذلك الجزاءِ؛ لأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وأحسنَ العملَ زَادَهُ اللَّهُ هدًى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: آية 17]. {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: آية 85] يعني: وَهَدَيْنَا أيضًا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى. قَرَأَهُ أكثرُ القراءِ: {وزكريآءَ ويحيى} بهمزةٍ. وَقَرَأَهُ بعضُ الكوفيين {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى} بِلاَ همزةٍ. وَهُمَا قراءتانِ سبعيتانِ معروفتانِ (¬2). وأكثرُ المؤرخينَ يقولونَ: إن زَكَرِيَّا بن برخيا (¬3). وهو مِنْ ذريةِ سليمانَ بنِ داودَ (عليهم وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ). قَصَّ اللَّهُ قصصَه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬2) انظر: الكشف لمكي (1/ 341 - 342)، الإقناع في القراءات السبع (2/ 619)، النشر (2/ 239). (¬3) في تفسير ابن جرير (11/ 508): «زكريا بن إدُّو بن برخيَّا». وفي مختصر تاريخ دمشق (9/ 54): «زكريا بن حنا. ويقال: زكريا بن دان. ويقال: زكريا بن أدن بن مسلم بن صدوف». وقيل: زكريا بن برخيا. انظر: البداية والنهاية (6/ 47).

في سورةِ مريمَ (¬1)، وسورةِ آلِ عمرانَ (¬2)، والأنبياءِ (¬3)، وغيرِها. {وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} يَحْيَى: هو ابنُ زَكَرِيَّا، وقصتُه معروفةٌ بَيَّنَّاهَا في آلِ عمرانَ، وستأتِي فِي سورةِ مريمَ. وَعِيسَى: هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وذِكْرُ عِيسَى هنا أَخَذَ العلماءُ منه حُكْمًا فِقْهِيًّا معروفًا، وهو أنه إذا قال رجلٌ: «هذا وَقْفٌ على ذُرِّيَّتِي». أو أَوْصَى لِذُرِّيَّتِهِ أَنَّ أولادَ البناتِ يدخلونَ؛ لأَنَّ عيسى ولدُ بنتٍ؛ لأنه لاَ يُدْلِي إلى إبراهيمَ - الذي إليه الضميرُ في قولِه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} (أو نوحٍ، على القولِ بأن [8/ب] الضميرَ لَهُ) (¬4). لا يُدْلِي بواحدٍ منهما - إلا بِبِنْتِهِ مريمَ؛ لأَنَّهُ لاَ أَبَ لَهُ./ فَاللَّهُ (جل وعلا) أَدْرَجَهُ في اسمِ الذريةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ أولادَ البناتِ مِنَ الذريةِ، وهذه المسألةُ التي هَدَّدَ الحجاجُ عليها يَحْيَى بنَ يَعْمُرَ، قال له: أَتَقُولُ إن الحسنَ والحسينَ (رضي الله عنهما) من ذُرِّيَّةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نَعَمْ. وأنه قَالَ له: إِنْ لَمْ تَجِئْنِي بدليلٍ من كتابِ اللَّهِ فَعَلْتُ بِكَ وَفَعَلْتُ. قال: أتقرأُ في سورةِ الأنعامِ؟ قال: نَعَمْ، قال: قَالَ اللَّهُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} ثُمَّ إلى أن قَالَ ¬

(¬1) كما في الآية (2) من سورة مريم. وهي قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} والآيات بعدها. (¬2) كما في الآية (38) من سورة آل عمران وهي قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} والآيات بعدها. (¬3) كما في الآية (89) من سورة الأنبياء وهي قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} والآيات بعدها. (¬4) انظر: القرطبي (7/ 31 - 32)، ابن كثير (2/ 155)، البحر المحيط (4/ 173).

{وَعِيسَى} وَعِيسَى ابنُ بِنْتٍ (¬1). وهذا صريحٌ في دخولِ ابنِ البنتِ في الذريةِ، وعلى هذا أكثرُ العلماءِ (¬2). على أنه لَوْ أَوْصَى للذريةِ أو وَقَفَ عليهم أن أولادَ البناتِ يدخلونَ لهذه الآيةِ. وَاخْتَلَفُوا في البنينَ والأولادِ (¬3)، لو قال: «هَذَا وَقْفٌ عَلَى بَنِيَّ، أو عَلَى وَلَدِي». قال جماعةٌ: يدخلُ أولادُ البناتِ في لفظِ الأبناءِ؛ لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتَ عنه في الصحيحِ أنه قَالَ في الحسنِ بْنِ عَلِيٍّ (رضي الله عنه): «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِي». الحديث المشهور (¬4). قالوا: سَمَّاهُ ابْنًا، وهو ابنُ بِنْتٍ. وقال بعضُ العلماءِ: تسميتُه هنا ابنًا ليست على حقيقتِها؛ لأَنَّ اللَّهَ يقول: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: آية 40] فَاللَّهُ نَفَى هذه البنوةَ، فَدَلَّ على أنها كقولِ الرجلِ للقريبِ: «يَا بُنَيَّ». وكذلك لو قَالَ: «وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي». أو أَوْصَى لولدِه. أكثرُ العلماءِ على أن أولادَ البناتِ لا يدخلونَ؛ لأن الشاعرَ ¬

(¬1) هذا الأثر أخرجه ابن أبي حاتم (4/ 1335) ونقله ابن كثير (2/ 155)، وهو في الدر المنثور (3/ 28). (¬2) في هذه المسألة: انظر: المدونة (6/ 103)، كتاب الوقوف للخلال (1/ 407 - 412)، المجموع (15/ 352)، المغني (8/ 202)، الإنصاف (7/ 79) 0 القرطبي (4/ 104) (7/ 32)، ابن كثير (2/ 155)، البحر المحيط (4/ 173). (¬3) راجع الحاشية السابقة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي (رضي الله عنهما): «إن ابني هذا سيد ... »، حديث (2704) (5/ 306). وأخرجه في مواضع أخرى من الصحيح، انظر: الأحاديث: (3629، 3746، 7109).

يقول (¬1): بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ ولإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ من العلماءِ في قولِه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: آية 11] أنه لم يَقُلْ أحدٌ إنه يدخلُ فيها أولادُ البناتِ فيكونونَ عَاصِبِينَ كأولادِ الذكورِ. ومن هنا قالوا: لَمَّا قال اللَّهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} ولم يَدْخُلْ في الميراثِ أولادُ البناتِ في هذه الآيةِ: عُرِفَ أنه إذا قال: «وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي، أو: أَوْلاَدِي». لَمْ يَدْخُلْ فيه أولادُ البناتِ، كما هو معروفٌ. وقولُه: {عِيسَى} هو عِيسَى ابنُ مريمَ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ بقدرتِه مِنْ غَيْرِ أَبٍ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: آية 59]. {وَإِسْمَاعِيلَ} إسماعيلُ على التحقيقِ: هو نَبِيُّ اللَّهِ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، جَدُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال قومٌ: هو نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي إسرائيلَ (¬2). والذين قالوا هذا قد غَلِطُوا. والتحقيقُ أنه إسماعيلُ، وأنه رسولٌ كريمٌ، كما قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا} [مريم: آية 54]. والمؤرخونَ يقولونَ: إنه أُرْسِلَ إلى قبيلةِ جُرْهُمَ مِنَ الْعَرَبِ البائدةِ (¬3). ¬

(¬1) البيت في حماسة الخالديين ص98، الخزانة (1/ 213).ونسبه بعضهم للفرزدق. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 174). (¬3) انظر: البداية والنهاية (1/ 193).

وقولُه: {وَإِلْيَاسَ} المؤرخونَ يقولونَ إنه: إلياسُ بنُ ياسينَ بنِ فنحاصَ بنِ العيزارِ بنِ هارونَ بنِ عمرانَ أخي مُوسَى (¬1). هكذا يقولونَ، وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. وقد ذَكَرَ اللَّهُ قصتَه في آياتٍ من كتابِه، وَبَيَّنَ أنه رسولٌ كريمٌ، وَبَيَّنَ في سورةِ الصافاتِ محاجتَه لقومِه في قولِه: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الصافات: الآيات 123 - 126] إلى غيرِ مَا ذَكَرَ مِنْ خَبَرِهِ. وقولُه: {كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} يعنِي: {كُلٌّ} مِنْ هؤلاءِ الأنبياءِ الذين هَدَيْنَاهُمْ من ذريةِ إبراهيمَ أو مِنْ ذريةِ نُوحٍ {مِّنَ الصَّالِحِينَ}. والصالحونَ جمعُ الصالحِ، وهو مَنْ كانت أعمالُه ونياتُه صالحةً لِلَّهِ (جل وعلا). والصلاحُ يتفاوتُ تفاوتًا كثيرًا. {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 86] {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا حمزةَ، والكسائيَّ: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ}. وَقَرَأَهُ حمزةُ والكسائيُّ: {وَإِسْمَاعِيلَ واللَّيْسَعَ} بتشديدِ اللامِ وسكونِ الياءِ وَهُمَا قراءتانِ سبعيتانِ معروفتانِ (¬2). أي: وَهَدَيْنَا إسماعيلَ، وَهَدَيْنَا اللَّيْسَعَ، وَهَدَيْنَا الْيَسَعَ. بعضُ العلماءِ يقولُ: اليسعُ هو يوشعُ بنُ نون. وأكثرُ المؤرخين ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري (1/ 239)، والتفسير له (11/ 509)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (5/ 23). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران 198.

يقولونَ: إنه اليسعُ بنُ أخطوبَ بنِ العجوزِ (¬1). وَاللَّهُ (جل وعلا) ذَكَرَهُ في مواضعَ من كتابِه في جملةِ الأنبياءِ. وقولُه: {وَيُونُسَ} هو نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ بنُ مَتَّى، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إلى مئةِ ألفٍ أو يزيدونَ، في بَلَدِ (نِيْنَوَى) من بلادِ الموصلِ. وقصتُه مشهورةٌ، ذَكَرَهَا اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه. أرسلَه اللَّهُ إلى مئةِ ألفٍ أو يزيدونَ، ولم يُرْسِلِ اللَّهُ نَبِيًّا لقومٍ إلا كَذَّبُوهُ وَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بعذابٍ مُسْتَأْصِلٍ، وَلَمْ يُسْتَثْنَ من هذا أحدٌ إلا الجماعة الذين أُرْسِلَ إليهم نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ بنُ مَتَّى (عليه وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ). سَيَأْتِيكُمْ في مواضعَ في الصافاتِ، وفي القلمِ، وغيرِها: أن نَبِيَّ اللَّهِ يونسَ لَمَّا كَذَّبَهُ قومُه وَعَدَهُمْ بالهلاكِ، وأن العذابَ يَنْزِلُ عليهم، وَخَرَجَ عنهم، وسافرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يأذنَ لَهُ رَبُّهُ، كأنه ضَجِرَ منهم وَعَجِلَ. وذلك الضجرُ والعجلةُ هو الذي نَهَى اللَّهُ عنه نَبِيَّنَا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في سورةِ القلمِ، مُؤَدِّبًا له بِالتَّأَنِّي والحَمْلِ والصبرِ، قَالَ: {وَلاَ تَكُنْ كصَاحِبِ الْحُوتِ} يَعْنِي يونسَ بنَ مَتَّى {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: آية 48] حَيْثُ ضَجِرَ وَعَجِلَ. زَعَمَ بعضُ المفسرين أنه كان شَرْعُهُمْ ونظامُهم أَنْ مَنْ جُرِّبَ عليه الكذبُ أنهم يقتلونَه. هكذا زَعَمُوا، وأن نَبِيَّ اللَّهِ يونسَ وَعَدَهُمْ بالعذابِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) جَاءَهُمْ بالعذابِ، فَلَمَّا أَظَلَّهُمْ وَعَايَنُوا أوائلَه خَافُوا خَوْفًا عظيمًا، وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ إنابةً صادقةً، وتوبةً عظيمةً، وَضَجُّوا جَمِيعُهُمْ، وَفَرَّقُوا بينَ الأمهاتِ والأولادِ من الآدَمِيِّينَ ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (11/ 510)، البداية والنهاية (2/ 4) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (28/ 37).

والحيواناتِ، وصارَ الجميعُ يَضِجُّ مبتهلين إلى اللَّهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ عنهم العذابَ، ولم يُوجَدْ هذا لناسٍ غيرِهم أبدًا، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ يونسَ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: آية 98] فقولُه هُنَا: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الظاهرُ أنه ما كَشَفَ عنهم خزيَ العذابِ في الحياةِ الدنيا إلا وهو يكشفُه عنهم في الآخرةِ إِذَا دَامُوا وَلَمْ يَنْكُثُوا (¬1). ويدلُّ عليه الإطلاقُ في الصافاتِ في قولِه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} [الصافات: الآيتان 147، 148] فَلَمَّا سَلِمُوا وَلَمْ يأتِهم العذابُ كان نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ زَعَمَ أنه إن رَجَعَ إليهم قالوا: قُلْتَ: إِنَّا نُهْلَكُ بالعذابِ وَلَمْ نُهْلَكْ، فقد جَرَّبْنَا عليكَ الكذبَ. فَخَرَجَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، فدخلَ في البحرِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَعَهُمْ فِي البحرِ وَقَفَتِ السفينةُ ولم تَمْشِ، فقالوا: لَعَلَّ فيها عَبْدًا آبق على رَبِّهِ، هنا عَبْدٌ آبِقُ عَلَى رَبِّهِ، فَاجْعَلُوا القرعةَ نَقْتَرِعْ، فَإِنْ سَقَطَتِ الْقُرْعَةُ على واحدٍ أَلْقَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ، فهو العبدُ الآبِقُ عَلَى رَبِّهِ. فَصَارُوا كُلَّمَا اقْتَرَعُوا تسقط القرعةُ على يونسَ. فقالوا: هذا العبدُ آبِقٌ على رَبِّهِ؛ لأنه خَرَجَ بغيرِ إِذْنٍ (¬2). كما قال تعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: الآيتان 140، 141] يعنِي كانَ سهمُه دَاحِضًا؛ لأنه هو الذي تأتِي القرعةُ أنه يُرْمَى في البحرِ. فَرَمَوْهُ في البحرِ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: الآيات 142 - 144] كما قَصَّ اللَّهُ قصتَه في آياتٍ من كتابِه، وهو نَبِيُّ اللَّهِ ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (2/ 433)، البداية والنهاية (1/ 232). (¬2) انظر: تاريخ ابن جرير (2/ 43).

يونسُ بنُ مَتَّى. والمؤرخونَ لاَ يكادونَ يَصِلُونَ له نَسَبًا إلى محلِّه، وهو ابنُ مَتَّى كـ (حَتَّى) أُرْسِلَ لجماعةٍ فِي (نِينَوَى) من بلادِ الموصلِ، هكذا يقولونَ. وقولُه: {وَلُوطًا} هو نَبِيُّ اللَّهِ لوطُ ابنُ أَخِي إبراهيمَ، وقد هَاجَرَ مَعَهُ من بلادِ العراقِ إلى بلادِ الشامِ، مُهَاجَرَ إبراهيمَ، كما قَالَ اللَّهُ جل وعلا: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: آية 26] بعضُ المؤرخين يقولونَ: هَاجَرَ مَعَهُ (¬1)، وبعضُهم يقولُ: لم يُهَاجِرْ مَعَهُ. وَاسْتَدَلَّ بما ثَبَتَ في الصحيحِ أنَّ إبراهيمَ قال لِسَارَّةَ: ليس على وجهِ الأرضِ مسلمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ (¬2). وعلى كُلِّ حالٍ: اللَّهُ بَيَّنَ أَنَّ لُوطًا آمَنَ بإبراهيمَ. والمعروفُ في التاريخِ أنه هَاجَرَ معه إلى الشامِ، ثم إن اللَّهَ أرسلَ لوطًا إلى قُرَى (سدوم)، كما هو معروفٌ. {وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} وكلاًّ من أولئك الأنبياءِ فَضَّلْنَا على العالمين، عَالَمَيْ زَمَانِهِمْ (¬3)، فلا يلزمُ من ذلك تفضيلُهم على مَنْ بَعْدَهُمْ كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أَفْضَلُهُمْ. وكان بعضُ العلماءِ (¬4) يقولُ: آيةُ الأنعامِ هذه مِمَّا اسْتَدَلَّ به العلماءُ على أن الأنبياءَ من الآدميين أفضلُ من الملائكةِ؛ لأَنَّ الملائكةَ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ: {الْعَالَمِينَ}، بدليلِ قولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري (1/ 150)، البداية والنهاية (1/ 150). (¬2) مضى تخريجه عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 512). (¬4) انظر: البحر المحيط (4/ 174).

وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآبتان 23، 24] قالوا: وَاللَّهُ فَضَّلَهُمْ على العالمين، والتفضيلُ بَيْنَ الرُّسُلِ والملائكةِ معروفٌ عِنْدَ العلماءِ (¬1)، ولم يَقُمْ عليه دليلٌ قَاطِعٌ، ولا حاجةَ لنا فيه. لو لَقِيَ الإنسانُ رَبَّهُ وهو لم يَبْحَثْ في التفضيلِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَسْأَلْهُ عن ذلك، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ. وهذا معنَى قولِه: {وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}. {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: آية 87] قولُه: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} معطوفٌ على معمولِ (هَدَيْنَا) أي: وَهَدَيْنَا أيضًا مِنْ آبائِهم وذرياتِهم. وَدَلَّ بـ (مِنْ) على أن مفعولَ (الهدايةِ) البعضُ. أي: وَهَدَيْنَا أيضًا بعضَ ذرياتِهم. {وَإِخْوَانِهِمْ} لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ هؤلاءِ الرسلَ الكرامَ ذَكَرَ أنه هَدَى بعضَ أصولِهم وفروعِهم، وبعضَ حواشِيهم. فبعضُ الأصولِ كآدمَ وإدريسَ، وبعضُ الفروعِ كأولادِهم من الطَّيِّبِينَ، وبعضُ الحواشِي كإخوةِ يوسفَ وَمَنْ جَرَى مَجْرَى ذلك. أي: وَهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرياتِهم وإخوانِهم. {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} أي: اجْتَبَيْنَا هؤلاءِ الرسلَ الْمَذْكُورِينَ. والاجتباءُ: الاصطفاءُ والاختيارُ. أي: اخْتَرْنَاهُمْ وَاصْطَفَيْنَاهُمْ {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. أي: وَفَّقْنَاهُمْ وَأَرْشَدْنَاهُمْ إلى صراطٍ مستقيمٍ. والصراطُ في لغةِ العربِ: الطريقُ الواضحُ (¬2). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من هذه السورة. (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

والمستقيمُ: الذي لاَ اعوجاجَ فيه (¬1) وَمِنْهُ قولُ جريرٍ يمدحُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ (¬2): أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ وهذا الصراطُ المستقيمُ، أي: الطريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاجَ فيه: طريقُ دينِ الإسلامِ، دينِ الحنيفيةِ السمحةِ، التي بَعَثَ اللَّهُ بها إبراهيمَ، وَحَاصِلُهَا: اعتقادٌ نَافِعٌ، اعتقادٌ بجميعِه لِلَّهِ (جل وعلا) وَمَا يَجِبُ اعتقادُه، مع امتثالِ الأمرِ، واجتنابِ النهيِ بإخلاصٍ، مُطَابِقًا للوجهِ الذي شَرَعَهُ اللَّهُ (جل وعلا). {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: آية 88] ذلك الْهُدَى الذي هَدَى اللَّهُ به هؤلاءِ الأنبياءَ الكرامَ المذكورين فِي سورةِ الأنعامِ هو هُدَى اللَّهِ، ولا هُدًى إلا هُدَى اللَّهِ، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: آية 120]. {يَهْدِي بِهِ} أي: بِهُدَاهُ مَنْ يَشَاءُ أن يَهْدِيَهُ من عبادِه. ومفهومُ مخالفةِ الآيةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَهْدِيَهُ فلاَ هاديَ له؛ لأَنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هاديَ لَهُ. فالهدايةُ والإضلالُ كُلُّهَا بمشيئتِه وحدَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ومفعولُ {يَشَاءُ} محذوفٌ. أي: مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ. ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (1/ 170)، المحتسب (1/ 43)، الدر المصون (1/ 64).

ثم قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} هؤلاء الرسلُ الكرامُ الذين هَدَاهُمُ اللَّهُ لَوْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غيرَه، وَعَبَدُوا معَه غيرَه، كما كان أبو إبراهيمَ يُرَاوِدُ إبراهيمَ أن يَرْجِعَ لعبادةِ الأصنامِ، لو أَشْرَكُوا مع اللَّهِ غيرَه لَحَبِطَ عنهم ما كانوا يعملونَ، فَبَطَلَ جميعُ ما عَمِلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ لأَنَّ الشركَ كفرٌ يُبْطِلُ جميعَ الحسناتِ، كما قال تعالى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّنَا وغيرِه من الأنبياءِ في سورةِ الزمرِ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: آية 65]، وهذه الآيةُ الكريمةُ تَدُلُّ على أن الشركَ - والعياذُ بالله - مَحْبَطَةٌ للعملِ، وأنه يُبْطِلُ جميعَ أعمالِ الإنسانِ (¬1). وَمِنْ هذه الآيةِ الكريمةِ أَخَذَ الإمامُ مالكُ بنُ أَنَسٍ (رحمه الله) فَرْعًا فِقْهِيًّا، قال: إن الرجلَ إذا ارْتَدَّ بَانَتْ منه زوجتُه (¬2). تارةً يقولُ: بفسخٍ، وتارةً يقول: بطلقةٍ بَائِنَةٍ؛ لأَنَّ ذلك النكاحَ الذي عَمِلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَقَدْ أَشْرَكَ، وَإِذَا أَشْرَكَ حَبِطَ جميعُ ما كانَ يعملُ، حتى مُعَاشَرَتُهُ؛ لأنه أَخَذَ تلك المؤمنةَ بكلمةِ اللَّهِ، وبكتابِ اللَّهِ (جل وعلا)، والشركُ يُحْبِطُ ذلك (¬3). وهنا بَحْثٌ أُصُولِيٌّ؛ لأن القاعدةَ المقررةَ في الأصولِ: أنه إذا جاءَ في كتابِ اللَّهِ نَصٌّ مُطْلَقٌ، ثم جَاءَ في موضعٍ آخَرَ مُقَيَّدًا، فالجماهيرُ على أنه يُحْمَلُ المطلقُ على الْمُقَيَّدِ (¬4). وإحباطُ الشركِ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 7، 202). (¬2) المصدر السابق (2/ 67). (¬3) انظر: القرطبي (3/ 48)، (15/ 277). (¬4) انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 416)، أضواء البيان (1/ 196، 197، 264، 281، 2/ 7، 30، 127، 138)، وغير ذلك من المواضع.

للأعمالِ جاءَ مُطْلَقًا في آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، وجاءَ مُقَيَّدًا في آيةٍ أُخْرَى، فَمِنَ الآياتِ المطلقاتِ: قولُه هنا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقولُه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: آية 65] وقولُه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: آية 5] هذه الآياتُ تَدُلُّ على أن الكفرَ بِاللَّهِ يُحْبِطُ العملَ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ. وهذا إذا كان مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ. وقد بَيَّنَ في موضعٍ مِنْ سورةِ البقرةِ أَنَّ مَحَلَّ إحباطِ الإشراكِ والرجوعِ للكفرِ بعدَ الإيمانِ، محلُّ إحباطِه للعملِ ما إذا ماتَ على ذلك، حَيْثُ قَالَ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: آية 217] فَقُيَدَّ بقولِه: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}. وَذَهَبَ مالكٌ في جماعةٍ من العلماءِ إلى أن الآياتِ المطلقةَ هنا على بَابِهَا، قال: إذا ارْتَدَّ الإنسانُ حَبِطَ جميعُ عملِه، وَبَطَلَتْ حَجَّةُ الإسلامِ - إن كان حَجَّهَا - وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ. وإذا رَاجَعَ الإسلامَ ليس عليه قضاءُ فَائِتٍ مِنْ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ؛ لأَنَّ جميعَ أعمالِه حَبَطَتْ. وَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ، منهم محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ (رحمه الله)، إلى أن الكفرَ بعدَ الإيمانِ، والإشراكَ بعدَ الإسلامِ لاَ يُحْبِطُ جميعَ عملِه إلا إذا مَاتَ على الكفرِ (¬1). بدليلِ القيدِ الذي في قولِه: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}. وقولُ الشافعيِّ في هذه المسألةِ أجرى على الأصولِ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أنه إذا جَاءَ نَصٌّ من كتابِ اللَّهِ عَامًّا أو مُطْلَقًا، ¬

(¬1) انظر: القرطبي (3/ 48)، (15/ 277).

وجاء مُقَيَّدًا في موضعٍ آخَرَ، فَلَهُ عِنْدَ العلماءِ حالاتٌ (¬1): تارةً يكونُ الحكمُ والسببُ واحدًا، وتارةً يكونُ الحكمُ واحدًا دونَ السببِ، وتارةً يكونُ السببُ واحدًا دونَ الحكمِ، وتارةً لاَ يَتَّحِدُ حكمٌ وَلاَ سَبَبٌ. فَإِذَا كان الحكمُ والسببُ مُتَّحِدَيْنِ فجمهورُ العلماءِ على أن المطلقَ يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ، وأنه يُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ؛ ولأجلِ هذا فقد جاءت في تحريمِ الدمِ أربعُ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، ثلاثٌ منها مُطْلَقَاتٌ، وواحدةٌ مُقَيَّدَةٌ: أَمَّا المُطْلَقَاتُ: فقولُه في سورةِ النحلِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: آية 115] وقولُه في سورةِ البقرةِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: آية 173] وقولُه في سورةِ المائدةِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: آية 3] فالدمُ في آيةِ النحلِ، وآيةِ البقرةِ، وآيةِ المائدةِ، مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدٍ. وقد جَاءَ في سورةِ الأنعامِ هذه مُقَيَّدًا بالمسفوحيةِ، في قولِه: {لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: آية 145] وجماهيرُ العلماءِ على ¬

(¬1) في هذه المسألة راجع: البحر المحيط (3/ 416)، شرح مختصر الروضة (2/ 635)، شرح الكوكب (3/ 395)، المذكرة في أصول الفقه 232، نثر الورود (1/ 323).

أن القيدَ بالمسفوحيةِ في الأنعامِ يُقَيَّدُ به إطلاقُ الآياتِ في النحلِ والبقرةِ والمائدةِ؛ وَلِذَا أطبقَ مَنْ يُعْتَدُّ به مِنَ العلماءِ على أن الْحُمْرَةَ التي تعلو الْقِدْرَ من أَثَرِ تقطيعِ اللحمِ أنها لا تُنَجِّسُهُ؛ لأن ذلك الدمَ غيرُ مسفوحٍ، خارجٌ بقيدِ المسفوحيةِ في قولِه: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [البقرة: آية 145] وهذا يدلُّ على أن العلماءَ يحملونَ المطلقَ على المقيدِ، ولو كان المقيدُ هو السابقَ نزولاً؛ لأَنَّ القيدَ في آيةِ الأنعامِ، وهي نازلةٌ قبلَ البقرةِ، وقبلَ المائدةِ، وقبلَ النحلِ. أما نزولُها قبلَ المائدةِ والبقرةِ فهو معروفٌ؛ لأن سورةَ الأنعامِ نازلةٌ قَبْلَ الهجرةِ بِلاَ خلافٍ، إلا آياتٍ معروفةً منها (¬1). والمائدةُ والبقرةُ من القرآنِ الْمَدَنِيٍّ بالإجماعِ، نَزَلَتَا في المدينةِ بعدَ الهجرةِ، والمائدةُ مِنْ آخِرِ ما نَزَلَ، وفيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: آية 3] بَقِيَتِ: النحلُ والأنعامُ، هما مكيتان على التحقيقِ، إلا أن القرآنَ دَلَّ في مَوْضِعَيْنِ على أن سورةَ الأنعامِ نازلةٌ قبلَ سورةِ النحلِ، وهي التي فيها القيدُ، والموضعانِ الذي دَلَّ القرآنُ فيهما على أن الأنعامَ نازلةٌ قبلَ النحلِ: أن اللَّهَ قال في سورةِ النحلِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: آية 118] وهذا الْمُحَرَّمُ المحالُ، الْمَقْصُوصُ عليه من قبلُ، في سورةِ الأنعامِ بِلاَ خِلاَفٍ في قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآيةَ [الأنعام: آية 146]. الْمَوْضِعُ الثاني: أن اللَّهَ قال في سورةِ الأنعامِ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: آية 148] فَبَيَّنَ أنهم سَيَقُولُونَ هذا في المستقبلِ، وأنهم لم يَقُولُوهُ فِعْلاً. وَبَيَّنَ في سورةِ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (6/ 382)، ابن كثير (2/ 122)، مصاعد النظر (2/ 115).

النحلِ أن ذلك القولَ الموعودَ به في المستقبلِ أنه وَقَعَ فعلاً في قولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا} الآية. [النحل: آية 35] فهذا دَلَّ على أن النحلَ بعدَ الأنعامِ. والمائدةَ والبقرةَ بعدَها بِلاَ نِزَاعٍ. فَتَبَيَّنَ أن المطلقَ يُحْمَلُ على المقيدِ، ولو كان المقيدُ سابقًا نُزُولاً. هذا هو المعروفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. أما إذا اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا واختلفَ سببُهما: فكثيرٌ من العلماءِ - منهم أكثرُ الشافعيةِ والحنابلةِ وجماعةٌ مِنَ المالكيةِ - أن المطلقَ يُحْمَلُ على المقيدِ في هذه. ومثالُ ما اتَّحَدَ حُكْمُهُ واختلفَ سَبَبُهُ: قولُه (جل وعلا) في كفارةِ القتلِ خَطَأً: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: آية 92] فَقَيَّدَ الرقبةَ بالإيمانِ، وَأَطْلَقَهَا عن قيدِ الإيمانِ في كفارةِ اليمينِ، وكفارةُ الظهارِ حيثُ قال في كفارةِ اليمينِ في سورةِ المائدةِ: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: آية 89] وَلَمْ يَقُلْ: مؤمنةٍ. وقال في الظهارِ في سورةِ المجادلةِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّنْ قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: آية 3] ولم يَقُلْ: مؤمنةٍ. فالحكمُ هنا واحدٌ، وهو التكفيرُ بتحريرِ رقبةٍ، والسببُ مختلفٌ؛ لأَنَّ الْمُقَيَّدَ سببُه: القتلُ خَطَأً، والمطلقُ سببُه: إما حِنْثٌ في يمينٍ، وإما ظهارٌ. وأكثرُ العلماءِ من الشافعيةِ والمالكيةِ والحنابلةِ يقولونَ: يُحْمَلُ المطلقُ هنا على المقيدِ، فَيُشْتَرَطُ في كفارةِ الظهارِ وكفارةِ اليمينِ الإيمانُ. خِلاَفًا للإمامِ أَبِي حنيفةَ - رحمةُ اللَّهِ عَلَى الجميعِ - قال في مثلِ هذه: لاَ يُحْمَلُ، ولو أَعْتَقَ الحانثُ في اليمينِ أو المظاهرُ رقبةً غيرَ مؤمنةٍ لأَجْزَأَتْهُ؛ لأن القيدَ في كفارةِ القتلِ خطأً، وهذه مُطْلَقَةٌ.

ومثالُ عكسِ هذا: وهو ما إذا اتَّحَدَ السببُ واختلفَ الحكمُ، في مِثْلِ هذه يخالفُ الحنابلةَ ويقولونَ: لاَ حَمْلَ في هذه. وَيَبْقَى المالكيةُ والشافعيةُ يقولونَ: فيها الْحَمْلُ. وَمَثَّلَ الحنابلةُ لهذا قالوا: اللَّهُ (جَلَّ وَعَلاَ) في كفارةِ الظهارِ قَيَّدَ بِكَوْنِهَا قبلَ المسيسِ بالعتقِ والصومِ، قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: آية 3] وقال في الصومِ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: آية 4] وَأَطْلَقَ الإطعامَ عن كونِه قبلَ المسيسِ، معَ أن السببَ في الجميعِ واحدٌ، وهو الحنثُ في الظهارِ، والحكمُ مختلفٌ؛ لأن هذا عِتْقٌ، وهذا إطعامٌ، وهذا صومٌ، فَلاَ يُحْمَلُ المطلقُ على المقيدِ، فيجوزُ أن يُعْطِيَ الطعامَ بعدَ المسيسِ، ولا يشترطُ في الطعامِ أن يُقالَ فيه: مِنْ قَبْلِ أن يَتَمَاسَّا. وقال غيرُهم: إن هذا يُحْمَلُ فيه المطلقُ على المقيدِ. قالوا: ومثالُه قولُه في سورةِ المائدةِ قال اللَّهُ جل وعلا: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة: آية 89] فَقَيَّدَ الإطعامَ بكونِه مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ، ثم قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وَلَمْ يُقَيِّدِ الكسوةَ بكونِها مِنْ أوسطِ ما تَكْسُونَ أهليكم. قالوا: فَنَحْمِلُ المطلقَ على المقيدِ ونقولُ: إِنَّ الكسوةَ مِنْ أوسطِ ما تَكْسُونَ أهليكم. كما قاله جماعةٌ من العلماءِ. والحكمُ هنا مختلفٌ؛ لأَنَّ الْمُطْلَقَ: كسوةٌ، والمقيدُ: إطعامٌ، إلا أن السببَ واحدٌ، وهو الحنثُ في كفارةِ اليمينِ. وَمَحَلُّ هذه الأقوالِ ما إذا كان المُقَيَّدُ واحدًا، أما إذا كان هناكَ مطلقٌ وهناك مُقَيَّدَانِ بِقَيْدَيْنِ مختلفين، فَلَهُمَا حالتانِ (¬1): إن كان ¬

(¬1) انظر: مذكرة أصول الفقه 234، نثر الورود (1/ 327).

المُقَيَّدَانِ بِقَيْدَيْنِ مختلفين ليس أحدُهما أقربَ لِلْمُطْلَقِ، فَلاَ يُحْمَلُ على واحدٍ منهما. وإن كان أحدُهما أقربَ للمطلقِ، فَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أَنَّ المطلقَ يُحْمَلُ إلى أقربِ المُقَيَّدَيْنِ له، وَيُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ. مثالُ ما إذا كان أحدُهما أقربَ: أن اللَّهَ (تبارك وتعالى) ذَكَرَ صومَ أيامِ اليمينِ، قال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: آية 89] وأيامُ اليمينِ لَمْ يُقَيِّدْهَا بتتابعٍ ولا بتفريقٍ، مع أنه جَاءَ هنالك صومٌ مُقَيَّدٌ بالتتابعِ، وهو صومُ الظهارِ في قولِه: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: آية 4] وَجَاءَ هناك صومٌ آخَرُ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ، وهو صومُ التمتعِ؛ لأَنَّ اللَّهَ قَيَّدَهُ بالتفريقِ، حيث قال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: آية 196] فَقَيَّدَ صومَ الظهارِ بالتتابعِ، وَقَيَّدَ صومَ التمتعِ بالتفريقِ، وَأَطْلَقَ صومَ كفارةِ اليمينِ، لَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَتَابُعٍ ولاَ بِتَفْرِيقٍ. وقراءةُ ابنِ مسعودٍ: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} (¬1) لم تَثْبُتْ قُرْآنًا. وإذا لم يَأْتِ بها إلا على أنها قرآنٌ، وَبَطَلَ كونُها قُرْآنًا بَطَلَ الاحتجاجُ بها عندَ مَنْ يقولُ بذلك، خِلاَفًا لجماعةٍ آخَرِينَ (¬2). قال بعضُ العلماءِ في هذه: نَحْمِلُ الإطلاقَ في كفارةِ اليمينِ على أَقْرَبِهُمَا لَهَا، والظهارُ أقربُ ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (10/ 559 - 560). (¬2) في هذه المسألة راجع: المستصفى (1/ 102)، تفسير القرطبي (1/ 47)، الفتاوى (13/ 394، 397)، (20/ 260)، البحر المحيط للزركشي (1/ 475)، النشر (1/ 53 - 54)، شرح الكوكب المنير (2/ 13، 136)، أضواء البيان (5/ 248)، المذكرة في أصول الفقه 56، قواعد التفسير (1/ 92).

لليمينِ من التمتعِ؛ لأَنَّ الظهارَ واليمينَ كِلاَهُمَا كفارةٌ، والتمتعُ أبعدُ منهما. ومثالُ ما لم يَكُنْ أقربَ لواحدٍ منهما: أن اللَّهَ قَيَّدَ صومَ الظهارِ بالتتابعِ، وَقيَّدَ صومَ التمتعِ بالتفريقِ، وَأَطْلَقَ قضاءَ رمضانَ، ولم يُقَيِّدْهُ بتتابعٍ ولاَ تفريقٍ قال: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: آية 184] ولم يُقَيِّدْ قضاءَ صومِ رمضانَ الفائتِ بمرضٍ أو سَفَرٍ، لم يُقَيِّدْهُ بتتابعٍ ولا تفريقٍ، حيث قال: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، من غيرِ أن يقولَ: متتابعاتٍ، ولا متفرقاتٍ، مع أن صومَ الظهارِ مقيدٌ بالتتابعِ. وصومَ التمتعِ مُقَيَّدٌ بالتفريقِ. فنقولُ: قضاءُ رمضانَ الذي هو المطلقُ عن قيدِ التتابعِ أو قيدِ التفريقِ ليس أقربَ إلى الظهارِ ولاَ إلى التمتعِ، فليس بأقربَ لهذا وهذا، فلا نُقَيِّدُهُ بقيدِ التفريقِ ولا نُقَيِّدُهُ بقيدِ التتابعِ، فَيَبْقَى مُطْلَقًا، مَنْ شَاءَ تَابَعَهُ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، إلا أن جماعةً من العلماءِ قالوا: يُنْدَبُ تَتَابُعُهُ. وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: آية 89] قَرَأَهُ أكثرُ القراءِ {وَالنُّبُوَّةَ} بالإدغامِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ: {والنبؤة} بتحقيقِ الهمزةِ (¬1). الإشارةُ في قولِه {أُوْلَئِكَ} إلى الأنبياءِ الكرامِ الْمَذْكُورِينَ في قولِه: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} ¬

(¬1) انظر: السبعة لابن مجاهد (157 - 158)، الإقناع لابن الباذش (1/ 403)، النشر (1/ 383)، الموضح لابن أبي مريم (1/ 278)، الكشف لمكي (1/ 243 - 245)، إتحاف فضلاء البشر (1/ 395 - 360).

[الأنعام: آية 84] إلى آخِرِ مَنْ عَدَّ منهم. أولئك الرسلُ الكرامُ: نوحٌ وإبراهيمُ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} أي: أَعْطَيْنَاهُمُ {الْكِتَابَ} أي: جِنْسَ الكتابِ، الصادقَ بصحفِ إبراهيمَ، وتوراةِ موسى، وإنجيلِ عيسى، وزبورِ داودَ، ونحوِ ذلك. وهذا معنَى قولِه {أُولَئِكَ} الرسلُ المذكورونَ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} أي: أَعْطَيْنَاهُمُ {الْكِتَابَ} أي: جِنْسَهُ الصادقَ بالكتبِ المنزلةِ عليهم. وقولُه: {وَالْحُكْمَ} قال بعضُ العلماءِ: الحكمُ هو الْفَهْمُ في الدينِ، والفصلُ بَيْنَ الخصومِ. ومعنَى الحكمِ على هذا: هو فَهْمُ الكتابِ، والاطلاعُ على دَقَائِقِهِ (¬1)، والعملُ بما فيه. وقولُه: {وَالنُّبُوَّةَ} هو مصدرٌ مَعْنَوِيٌّ، معناه: أن اللَّهَ جَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ. و (النبوةُ) أصلُها مِنَ (النَّبَأِ)، و (النبأُ) في لغةِ العربِ: الخبرُ الذي له شَأْنٌ وَخَطْبٌ. لا تكادُ العربُ تُطْلِقُ (النبأَ) إِلاَّ على الخبرِ الذي له شَأْنٌ. تقولُ: «جاءنا نبأُ الأميرِ». ولا تقولُ: «جاءنا نَبَأُ حِمَارِ الحجامِ»؛ لأَنَّ هذا لا شأنَ له ولا خَطْبَ. فالنبأُ أخصُّ من الخبرِ؛ لأَنَّ كُلَّ نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خَبَرٍ نبأً؛ لاختصاصِ (النبأِ) عادةً بالخبرِ الذي له شَأْنٌ؛ وذلك لأَنَّ الأنبياءَ يُخْبِرُهُمُ اللَّهُ عن طريقِ الوحيِ أخبارًا لها شأنٌ وَأَمْرٌ عظيمٌ، خِلاَفًا لِمَنْ زَعَمَ أن (النبوةَ) و (النبيَّ) أنها من (النَّبْوَةِ) بمعنَى: الارتفاعِ؛ لارتفاعِ شأنِهم بما أَوْحَاهُ اللَّهُ إليهم. وهذا معنَى قولِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}. ثم قَالَ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ} الضميرُ في قولِه: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ} قال بعضُ العلماءِ: عائدٌ إِلَى النبوةِ؛ لأَنَّهَا أقربُ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 514).

مَذْكُورٍ (¬1). فَإِنْ يَكْفُرْ بالنبوةِ، كنبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، التي هي مِنْ جِنْسِ نبوتِهم، كما صَرَّحَ به فِي قولِه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: آية 163] وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ فِي {بِهَا} راجعٌ إلى المذكوراتِ الثلاثِ، وهي: النبوةُ والحكمُ والكتابُ (¬2). {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ} بالثلاثةِ {هَؤُلاَءِ} يعني: كفارَ مكةَ، الذين كَذَّبُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ولا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أعطاهُ النبوةَ، وأعطاهُ الحكمَ، وأعطاهُ الكتابَ. فإن كَفَرُوا بنبوتِه وحكمِه وكتابِه: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي: بالنبوةِ أو بالمذكوراتِ {قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} كأن معنَى الآيةِ: يقولُ اللَّهُ: إِنْ كان هؤلاءِ تَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رُسُلِي وَكَفَرُوا بِي وَلَمْ يَعْبُدُونِي فَلِي قومٌ آخَرُونَ غيرهم يَعْبُدُونَنِي وَيُوَحِّدُونَنِي كما ينبغي. وقولُه: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي: وَفَّقْنَاهُمْ للإيمانِ بها. أي: بالنبوةِ. أو: النبوةِ والْحُكْمِ والكتابِ. ومعنىَ وَكَّلْنَاهُمْ بها: أي: وَفَّقْنَاهُمْ لَهَا، وَهَيَّأْنَاهُمْ لَهَا، حتى كانوا يقومونَ بها، ويحافظونَ عليها، كما يقومُ الوكيلُ بما أُسْنِدَ إليه. وهذا معنَى قولِه: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} بل هم مؤمنونَ بها بقلوبِهم وألسنتِهم وجوارحِهم. وهؤلاء القومُ المؤمنونَ- الذين هم لَيْسُوا بها بكافرينَ، الذين وَكَّلَهُمُ اللَّهُ بالإيمانِ بها- للعلماءِ فيهم أَوْجُهٌ مِنَ التفسيرِ، لا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا (¬4). ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (2/ 155). (¬2) المصدر السابق. (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 515)، ابن كثير (2/ 155). (¬4) انظر: ابن جرير (11/ 515 - 518).

أظهرُها: أَنَّهُمْ الأنبياءُ المذكورونَ. يعنِي: إِنْ كَفَرَ هؤلاءِ الكفرةُ، وَكَفَرُوا بالنبوةِ فَلَنَا مِنْ صفوةِ خَلْقِنَا أناسٌ طَيِّبُونَ يؤمنونَ كَمَا يَنْبَغِي، وَيُعَظِّمُونَ اللَّهَ كما ينبغي، تظهرُ بإيمانِهم حكمةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ الْخَلْقَ؛ لِيَعْبُدُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ. وعلى هذا فالقومُ في قولِه: {قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} الأنبياءُ المذكورونَ. وَيَدُلُّ عليه: أنه قَالَ بعدَه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]. وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بهؤلاءِ القومِ الذين وُكِّلُوا بها، وليسوا بها بكافرينَ: المؤمنونَ من المهاجرينَ والأنصارِ، حيث تَلَقَّوْهُ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ. وقال بعضُ العلماءِ: هي تشملُ كُلَّ مُؤْمِنٍ آمَنَ بِاللَّهِ (جل وعلا). وعليه فَالْمَعْنَى: إِنْ كَفَرَ بعضُ خَلْقِي وَتَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رُسُلِي فَلِي بَعْضٌ آخَرُ من الناسِ الطيبين وَفَّقْتُهُمْ للعملِ والإيمانِ، يحصلُ بهم غرضُ التشريعِ، وَخَلْقُ الْخَلْقِ؛ لأَنَّ الغرضَ الأكبرَ من خلقِ الناسِ: أن يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ (جل وعلا)، وَيُحْسِنُوا العملَ له، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: آية 56] فهؤلاءِ الطيبونَ تَحْصُلُ بهم الحكمةُ المرادةُ في قولِه: {لِيَعْبُدُونِ} ويحسنونَ العملَ لِلَّهِ، فيحصلُ بهم المعنَى المرادُ في قولِه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7]، وهذا معنَى قولِه: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}. [9/أ] / {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 90].

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قَرَأَ هذا الحرفَ حمزةُ والكسائيُّ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ} في الصلةِ بلا هاءٍ، وَقَرَأَهُ غيرُهما وغيرُ ابنِ عامرٍ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} بهاءِ السَّكْتِ وَصْلاً وَوَقْفًا، وَقَرَأَهُ ابنُ عامرٍ من روايةِ هشامٍ: {اقتدهِ} بكسرةٍ مُخْتَلَسَةٍ، وَقَرَأَهُ ابنُ عامرٍ من روايةِ ابنِ ذَكْوَانَ: {اقْتَدِهي} بكسرةٍ مُشْبَعَةٍ. فَتَحَصَّلَ أن القراءاتِ فيه متعددةٌ (¬1)، قراءةُ الجمهورِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} بهاءِ السكتِ الساكنةِ وَصْلاً وَوَقْفًا، وقرأه حمزةُ والكسائيُّ: {اقْتَدِ} بِلاَ هاءٍ في حالةِ الوصلِ. {اقْتَدِهْ} بالهاءِ فِي حالةِ الوقفِ، وقرأه ابنُ عامرٍ بهاءٍ مكسورةٍ تُخْتَلَسُ كسرتُها في روايةِ هشامٍ عنه، وتُشْبَعُ كسرتُها في روايةِ ابنِ ذكوانَ عنه. هذه هي القراءاتُ: {اقْتَدِ} وَصْلاً {اقْتَدِهْ} وَقْفًا {اقْتَدِه} وَصْلاً وَوَقْفًا {اقْتَدِهي} وَصْلاً {اقْتَدِهِ} وَصْلاً، هذه قراءاتُ القراءِ السبعِ في هذا الحرفِ. و {اقْتَدِ} معناه: فِعْلُ أَمْرٍ من الاقتداءِ، والاقتداءُ معناه: الائْتِسَاءُ والاتباعُ في العملِ. يقولُ العربُ: «اقْتَدَى بِهِ». إذا ائْتَسَى به وَتَبِعَهُ في عَمَلِهِ. وقال قومٌ: إن قراءةَ ابنِ عامرٍ هنا {اقْتَدِهِي} {اقْتَدِهِ} زَعَمَ قومٌ أنها لَحْنٌ لاَ تجوزُ؛ لأن هاءَ السكتِ لا يجوزُ كَسْرُهُ (¬2). وهذا غَلَطٌ؛ لأن قراءةَ ابنِ عامرٍ قراءةٌ صحيحةٌ متواترةٌ، والعلماءُ خَرَّجُوهَا على أن الهاءَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ- في حرفِ هشامٍ وابنِ ذكوانَ - ليست هاءَ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 198. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 36)

السكتِ؛ لأن هاءَ السكتِ ساكنةٌ على كُلِّ حَالٍ (¬1)، وإنما هي ضميرٌ راجعٌ إلى المصدرِ. ومعنَى {اقْتَدِهِي} أي: الاقتداء فيكونُ بمعنَى اقْتَدِ اقْتِدَاءً بهم. هذا تخريجُ قراءةِ ابنِ عَامِرٍ (¬2). ومعنَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} اقْتَدِ بِهُدَاهُمْ، وَافْعَلْ كَمَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْهُدَى. وهذه الآيةُ الكريمةُ هي التي أَخَذَ منها جماهيرُ العلماءِ - هي وأمثالُها في القرآنِ - أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لَنَا إِنْ ثَبَتَ في شرعِنا إِلاَّ بدليلٍ يدلُّ على أنه ليسَ شَرْعًا لنا. وهذه مسألةٌ معروفةٌ في الأصولِ (¬3). اعْلَمْ أَوَّلاً: أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا له ثلاثُ حالاتٍ: تارةً يكونً شَرْعًا لنا بِلاَ خِلاَفٍ، وتارةً يكونُ غيرَ شرعٍ لَنَا بِلاَ خِلاَفٍ، وتارةً يكونُ مَحَلَّ خِلاَفٍ، هو الذي فيه كلامُ العلماءِ؛ لأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا واسطةٌ وَطَرَفَانِ: طرفٌ هو شَرْعٌ لَنَا إِجْمَاعًا، وطرفٌ لَيْسَ شَرْعًا لنا إِجْمَاعًا، وواسطةٌ هِيَ مَحَلُّ بحثِ العلماءِ وَخِلاَفُهُمْ. أما الطرفُ الذي هو شَرْعٌ لَنَا إِجْمَاعًا: وهو ما وَرَدَ في شرعِنا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ جَاءَنَا في شرعِنا أنه مشروعٌ لنا - كقتلِ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 176). (¬2) انظر: حجة القراءات 260. (¬3) انظر: إحكام الفصول للباجي 327 - 332، القرطبي (7/ 35)، البحر المحيط (6/ 41 - 47)، شرح الكوكب المنير (4/ 412)، المذكرة في أصول الفقه 161، الأضواء (2/ 63).

النفسِ بالنفسِ قِصَاصًا، فإن قتلَ النفسِ بالنفسِ قِصَاصًا كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، كما نَصَّ اللَّهُ عليه بقولِه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: آية 45]،. ثُمَّ إن اللَّهَ بَيَّنَ في كتابِنا أنه شرعٌ لنا، حيثُ قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: آية 178]، وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: آية 179]، وقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: آية 33]، - فمثلُ هذا الطرفِ هو شرعٌ لنا بِإِجْمَاعٍ. الطرفُ الثاني: يكونُ شرعُ مَنْ قَبْلَنَا ليسَ بشرعٍ لنا إجماعًا، وهذا الطرفُ له صُورَتَانِ: إحدَاهُمَا: ألا يُثْبَتَ بشرعِنا أَصْلاً، بِأَنْ لاَ يوجدَ دليلٌ من كتابٍ ولا سُنَّةٍ على أنه كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، وإنما تُلِقِّيَ عن الإسرائيلياتِ. فهذا لا يكونُ شَرْعًا لنا بالإجماعِ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا عَنْ تصديقِ الإسرائيلياتِ وتكذيبِها (¬1) ما لَمْ يَقُمْ دليلٌ على صِدْقِهَا أو كَذِبِهَا. وما ¬

(¬1) ورد هذا النهي في عدة أحاديث منها: 1 - حديث أبي هربرة (رضي الله عنه) بلفظ:» لا تصدقوا أهل الكتب ولا تكذبوهم ... » الحديث وقد أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب التفسير، باب: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} حديث رقم: (4485)، (8/ 170) وأطرافه (7362، 7542). 2 - حديث أبي نملة الأنصاري (رضي الله عنه) بلفظ: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ... » الحديث. وقد أخرجه عبد الرزاق (6/ 111)، (10/ 314)، (11/ 109 - 110)، وأحمد (4/ 136)، وأبو داود في السنن، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب. حديث رقم: (3627)، (10/ 76)، والدولابي في الكنى (1/ 58)، وابن حبان (الإحسان 8/ 51 - 52)، والطبراني (22/ 349 - 351)، والبيهقي في السنن (2/ 10)، وفي الشعب (9/ 420 - 421)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 801 - 802)، والخطيب في الجامع (2/ 115)، والبغوي في شرح السنة (1/ 268) والآحاد والمثاني (4/ 140)، وفي التفسير (3/ 470)، وابن الأثير في أُسد الغابة (6/ 315)، والمزي في تهذيب الكمال (34/ 354). وهو في ضعيف الجامع (5054). 3 - عن عطاء بن يسار مرسلاً. أخرجه عبد الرزاق (6/ 111)، (10/ 312)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 803).

نُهِينَا عَنْ تَصْدِيقِهِ لا يُمْكِنُ أن يكونَ شَرْعًا لنا. الثاني من هذا الطَّرَفِ: هو ما ثَبَتَ في شَرْعِنَا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، إلا أنه نُصَّ لنا في شَرْعِنَا أنه غيرُ مشروعٍ لنا. ومثالُ هذا كالآصَارِ والأغلالِ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا، فإن اللَّهَ بَيَّنَ لنا في كتابِنا أنه رَفَعَهَا عَنَّا، كما قَالَ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: آية 157] ومن هذه الآصارِ: ما جَاءَ في سورةِ البقرةِ من أَنَّ عَبَدَةَ العجلِ لَمَّا أَرَادُوا أن يَتُوبُوا إلى اللَّهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ حَتَّى قَدَّمُوا أنفسَهم للقتلِ، كما تَقَدَّمَ في قولِه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: آية 54]، لأَنَّ اللَّهَ وَضَعَهَا عَنَّا بِنَصِّ قولِه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: آية 157]، وَالإِصْرُ فِي اللغةِ: الأثقالُ. والمرادُ به: الأثقالُ الشَّاقَّةُ فِي التكاليفِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ ابنِ عباسٍ وَأَبِي هريرةَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَرَأَ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: آية 286]. أَنَّ اللَّهَ قال: «نَعَمْ». في روايةِ

أَبِي هريرةَ: قال اللَّهُ: «نَعَمْ». وفي روايةِ ابنِ عباسٍ: قال اللَّهُ: «قَدْ فَعَلْتُ» (¬1). وهو حديثٌ صحيحٌ، يُصَرِّحُ بِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عنا الآصَارَ والأثقالَ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا. بَقِيَتْ واسطةٌ هِيَ مَحَلُّ الخلافِ بَيْنَ العلماءِ، وهي ما ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، ولم يَثْبُتْ فِي شَرْعِنَا أنه شرعٌ لنا، ولا غيرِ شَرْعٍ لَنَا. هذا محلُّ الخلافِ، وجمهورُ العلماءِ - وهو المشهورُ عن الأئمةِ الثلاثةِ، مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا الثابتَ بِشَرْعِنَا يكونُ شَرْعًا لَنَا، إلا لدليلٍ يَدُلُّ على أنه منسوخٌ عَنَّا. وعن الشافعيِّ في أَصَحِّ الرواياتِ في أصولِه: أنه لاَ يكونُ شَرْعًا لَنَا إِلاَّ بدليلٍ منفصلٍ. واحتجَّ الشافعيُّ بقولِه تعالى فِي الأنبياءِ والرسلِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: آية 48] قال: لِكُلِّ نَبِيٍّ شِرْعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَمِنْهَاجٌ مُسْتَقِلٌّ. واستدلَّ الجمهورُ على أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا - إِنْ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا - شَرْعٌ لنا بأدلةٍ كثيرةٍ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ (¬2). قَالُوا: اللَّهُ (جل وعلا) لَمَّا ذَكَرَ الأنبياءَ فِي سورةِ الأنعامِ قَالَ لِنَبِيِّنَا وهو قُدْوَتُنَا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، وَأَمْرُ القدوةِ أَمْرٌ لأَتْبَاعِهِ. قالوا: وَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ أنه مَا قَصَّ علينا قصصَهم إلا لنعتبرَ بها، فنتباعدُ عَنْ مُوجبِ الهلاكِ، ونتسارعُ إلى موجبِ النجاةِ، كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق. حديث (125، 126) (1/ 115 - 116). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 63).

لِّأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: آية 111] فَصَرَّحَ بأنه يَقُصُّ قصصَهم للاعتبارِ والعملِ بما تَضَمَّنَتْهُ قصصُهم، وَوَبَّخَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذلك، قال في قومِ لوطٍ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (138)} [الصافات: الآيتان 137، 138]، وبَّخَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ عن اللَّهِ وقائعَه في الأممِ الماضيةِ ليعتبرَ بها. وفائدةُ ذلك العملِ وهو أن يَكُفَّ عن أسبابِ الهلاكِ الذي هَلَكَ بها الْهَالِكُونَ، وَيُسَارِعَ إلى أسبابِ النجاةِ. وقال جل وعلا: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: آية 13]، وقال في التوراةِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: آية 44] والموجودُ مِنَ النَّبِيِّينَ عِنْدَ نزولِ الآيةِ: مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَهُ. وكان الإمامُ الشافعيُّ (رحمه الله) يقولُ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية90]، المرادُ بِالْهُدَى هنا في قولِه: {فَبِهُدَاهُمُ} والمرادُ بالدينِ في قولِه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} خصوصُ العقائدِ والأصولِ لا الفروعِ العمليةِ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال في الفروعِ العمليةِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: آية 48]. وَنَحْنُ نقولُ: إن هذا الذي يُذْكَرُ عن الإمامِ الشافعيِّ (رحمه الله)، وإن كان هُوَ هُوَ فِي الجلالةِ، إلا أن هذا الكلامَ غيرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِمَا ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن مجاهدٍ في تفسيرِ سورةِ (ص) أنه سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي (ص) سَجْدَةٌ؟ يعني: وَمِنْ أَيْنَ أُخِذَتِ السجدةُ فِي (ص)؟ فقال له ابنُ عَبَّاسٍ: أَوَمَا تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} ثم قَالَ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وكان دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أن يقتديَ به، فَسَجَدَهَا داودُ، فَسَجَدَهَا رسولُ اللَّهِ

- صلى الله عليه وسلم - (¬1). هذا حديثٌ ثابتٌ في صحيحِ البخاريِّ عن ابنِ عباسٍ، صَرَّحَ فيه ابنُ عباسٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اقْتَدَى بِدَاوُدَ في سجدةِ تلاوةٍ، وسجودُ التلاوةِ فرعٌ من الفروعِ كَمَا هو معلومٌ، لا أَصْلٌ مِنَ الأُصُولِ. وكذلك كَانَ الإمامُ الشافعيُّ (رحمه الله) يقولُ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} هذا الأمرُ الخاصُّ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَشْمَلُ الأُمَّةَ. هذا الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ. قال: الأوامرُ الخاصةُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ تَشْمَلُ أحكامُها الأمةَ إِلاَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. قال: لأَنَّ اللفظَ الخاصَّ بالرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَشْمَلِ الأمةَ بحسبِ الوضعِ وَمُقْتَضَى الصيغةِ، وَإِدْخَالُنَا في كتابِ اللَّهِ شَيْئًا لم يَتَنَاوَلْهُ اللفظُ لا يجوزُ إلا بدليلٍ منفصلٍ. وقد بَيَّنَّا فيما مَضَى أن جماهيرَ العلماءِ على أن الخطاباتِ الخاصةَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنها تشملُ أحكامُها الأُمَّةَ، وإن كان اللفظُ لاَ يتناولُ الأمةَ لأدلةٍ خارجيةٍ عن مادةِ اللفظِ (¬2)، مِنْهَا: أنه هو القدوةُ الْمُشَرِّعُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وَأَمْرُ القدوةِ أَمْرٌ لأَتْبَاعِهِ، وَاللَّهُ يقولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: آية 21]، أي: اقتداءٌ كريمٌ. وذلك الاقتداءُ في أفعالِه وأقوالِه وتقريراتِه - صلى الله عليه وسلم -. وَاللَّهُ جل وعلا يقولُ: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: آية 80]، {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: آية 31]، وَاتِّبَاعُهُ يَقْتَضِي في كُلِّ شيءٍ مِمَّا أُمِرَ به، ¬

(¬1) البخاري، كتاب التفسير، (سورة ص) حديث (4807) (8/ 544). (¬2) في هذه المسألة انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 186 - 188)، شرح الكوكب المنير (3/ 218)، نهاية السول (2/ 101)، شرح مختصر الروضة (2/ 411)، الفتاوى (14/ 274، 275)، (15/ 81 - 82، 444 - 445)، (22/ 322)، أضواء البيان (1/ 219)، (2/ 64 - 67، 285)، (3/ 494، 495، 634) وغير ذلك من المواضع. وراجع ما سبق عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

ولو بأوامرَ خاصةٍ. وَثَبَتَ عن عائشةَ (رضي الله عنها) أنها رَدَّتْ على مَنْ زَعَمَ أن تخييرَ الزوجةِ طلاقٌ لها: بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ أزواجَه فَاخْتَرْنَهُ، فلم يَعُدَّ ذلك طَلاَقًا (¬1) مع أن الصيغةَ خاصةٌ به - صلى الله عليه وسلم - في قولِه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: الآية 28]. وقد بَيَّنَّا مِرَارًا أن القرآنَ دَلَّ باستقرائِه أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُ نَبِيَّنَا بصيغةٍ خاصةٍ به - صلى الله عليه وسلم -، ثم يُبَيِّنُ لنا أن مرادَه بالصيغةِ الخاصةِ أن يشملَ حُكْمُهَا الأسودَ والأحمرَ. هذا كثيرٌ في القرآنِ، يُورِدُ اللَّهُ الخطابَ خَاصًّا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يُبَيِّنُ أن مرادَه عمومُ حكمِ ذلك الخطابِ الخاصِّ، كقولِه في صدرِ سورةِ الطلاقِ بخطابٍ خَاصٍّ بِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ثم قَالَ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ} بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ، {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق: آية1] فلو لَمْ يكن قولُه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} يُقْصَدُ منه شمولُ الحكمِ لجميعِ الأمةِ لأَفْرَدَ الخطاباتِ بَعْدَهُ، وَلَقَالَ: (إذا طَلَّقْتَ النساءَ فَطَلِّقْهُنَّ لعدتهن وَأَحْصِ) (وَاتَّقِ اللَّهَ) (لا تُخرج) فلما جاء بها مجموعةً تَبَيَّنَ أنه أَرَادَ إدخالَ الأمةِ تحتَ خطابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ونظيرُ هذا أيضًا في سورةِ التحريمِ، في قولِه بخطابٍ خَاصٍّ به - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: آية 1]، ثم بَيَّنَ قصدَ شمولِ الخطابِ للجميعِ حيث قال بعدَه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: آية 2] بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ. ونظيرُه أيضًا قولُه في صدرِ سورةِ الأحزابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الطلاق، باب من خيَّر أزواجه، حديث (5262، 5263)، (9/ 367)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية، حديث: (1477)، (2/ 1103).

الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ} [الأحزاب: الآيتان 1، 2]. كُلُّ هذه خطاباتٌ خاصةٌ به - صلى الله عليه وسلم -. ثم قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للجميعِ، فَدَلَّ على أن المرادَ شمولَ الجميعِ بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} وَمِنْ ظَوَاهِرِ هذا في القرآنِ قولُه في سورةِ يُونُسَ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} ثم قال بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للجميعِ: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: آية 61] وقد بَيَّنَّا أن مِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في هذا آيَتَيِ الأحزابِ وآيةَ الرومِ. أما آيَتَا الأحزابِ: فالأُولَى منهما قولُه تعالى في قصةِ زواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - زينبَ بنتَ جَحْشٍ (رضي الله عنها): {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فكافُ الخطابِ في قولِه: {زَوَّجْنَاكَهَا} خاصةٌ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه هو وحدَه الذي زُوِّجَهَا في ذلك الوقتِ، ثُمَّ بَيَّنَ أن هذا الخطابَ الخاصَّ به - صلى الله عليه وسلم - أنه يُرَادُ تعميمُ حُكْمِهِ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ حيث قال بعدَه: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: آية 37]، وَآيَةُ الأحزابِ الثانيةُ: قولُه تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} ثم قال: {خَالِصَةً لَّكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: آية50]. أي: هذا الحكمُ يَخُصُّكَ دونَ أُمَّتِكَ. والخطابُ أَوَّلُهُ: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فلو لم تَكُنِ الأُمَّةُ داخلةً حُكْمًا تحتَ اسمِ (النبي) لَمَا كان لقولِه: {خَالِصَةً لَّكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فائدةٌ، ولَمَا كانت إليه حَاجَةٌ. وأما آيةُ الرومِ: فقولُه تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ

أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: الآيتان 30، 31] فقولُه: {مُنِيبِينَ} حالٌ من ضميرِ الفاعلِ، الْمُخَاطَبُ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قولِه: {فَأَقِمْ} أنتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ {وَجْهَكَ} في حالِ كَوْنِكُمْ {مُنِيبِينَ} فلو لَمْ تَدْخُلِ الأمةُ تحتَ الخطابِ بقولِه: {فَأَقِمْ} لَقَالَ: مُنِيبًا إليه وَاتَّقِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} وقد أجمعَ أهلُ اللسانِ العربيِّ على أن الحالَ الحقيقيةَ - أعني الحالَ التي لَمْ تَكُنْ سَبَبِيَّةً (¬1) - تَجِبُ مطابقتُها لصاحبِها في الإفرادِ والجمعِ والتثنيةِ والتأنيثِ والتذكيرِ فلا يقولُ: «جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكِينَ». ولا يجوزُ أن تقولَ: «ادْخُلِ الدارَ قَائِمِينَ». كُلُّ هذا لا يجوزُ (¬2). فَلَمَّا قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} في حالِ كَوْنِكُمْ {مُنِيبِينَ} عَرَفْنَا شمولَ الصيغةِ الخاصةِ به لجميعِ الأُمَّةِ. ومن هنا نعرفُ أن قولَه: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، أنه خطابٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأن الخطابَ الخاصَّ به يشملُ حُكْمُهُ أُمَّتَهُ، كما دَلَّ عليه استقراءُ القرآنِ. ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 66) وقد جرت العادة على ذكر هذا التقسيم عند الكلام على النعت، فيقولون: هو حقيقي وسببي. فالحقيقي: هو الذي يدل على صفة في المتبوع نفسه. ومن علامته أن يرفع الضمير المستتر. مثل: جاءني زيد العالم. والسببي: هو الذي يدل على صفة في اسم ظاهر بعده متعلق بالمنعوت. وعلامته أن يرفع الاسم الظاهر المشتمل على ضمير يعود على المنعوت. مثل: جاءني زيد العالم أبوه. وعلى ضوء ما سبق تعرف الفرق بين نوعي الحال هنا، والله أعلم. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 144 - 145)، توضيح النحو (4/ 8).

وهنا مسألةٌ تَخْطُرُ في ذهنِ طالبِ العلمِ، يقولُ: اللَّهُ أَمَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيةِ من سورةِ الأنعامِ أن يقتديَ بهؤلاءِ الرسلِ الكرامِ، وهو سيدُ الرسلِ وخيرُهم وأفضلُهم، فكيف يأمرُ الأفضلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِمَنْ هو [أَقَلُّ] (¬1) مِنْهُ؟ الجوابُ عن هذا (¬2): أن اقتداءَه بهم أَعْلَى لظهورِ فضيلتِه وأوضحُ لذلك؛ لأنه إِنِ اقْتَدَى بهم شَارَكَهُمْ في كُلِّ ما كانوا عليه من الْهُدَى والخيرِ، وَزَادَ عليهم بأمورٍ عظيمةٍ خَصَّهُ اللَّهُ بها لم تَكُنْ لَدَيْهِمْ. وإذا كان مُشَارِكًا لهم بِمَا عندهم، زَائِدًا عليهم بما ليسَ عندهم ظَهَرَ بذلك الفضلُ، كما هو مَعْرُوفٌ. والحاصلُ أن أكثرَ العلماءِ على أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لنا، وأن مِنْ أَدِلَّتِهِ: هذه الآيةُ الكريمةُ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال لِنَبِيِّنَا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، وما أَنْزَلَهُ اللَّهُ عليهم كُلُّهُ هُدًى، إلا ما ثَبَتَ نَسْخُهُ، ولم يَزَلِ العلماءُ يَسْتَدِلُّونَ بقصصِ الأممِ الماضيةِ عَمَلاً بهذه الآيةِ وأمثالِها في القرآنِ من جميعِ المذاهبِ وفقهاءِ الأمصارِ؛ وَمِنْ هُنَا كان علماءُ المالكيةِ يقولونَ: إن القرينةَ إذا قَوِيَتْ رُبَّمَا قامت مقامَ البينةِ (¬3)؛ ولأَجْلِ هذا لَمَّا سُئِلَ مالكُ بْنُ أَنَسٍ (رحمه الله) عن رجلٍ استُنْكِهَ فَشُمَّ مِنْ فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ!! أَفْتَى بِجَلْدِهِ؛ ¬

(¬1) في الأصل: أفضل. (¬2) انظر: التفسير الكبير (13/ 70 - 71)، محاسن التأويل (6/ 618). (¬3) في العمل بالقرائن انظر: الكافي في فقه أهل المدينة 478، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1077، 1085)، تفسير القرطبي (9/ 149، 174)، الطرق الحكمية ص4 فما بعدها. الإثبات بالقرائن 77 وما بعدها، الأضواء (2/ 69).

لأَنَّ رِيحَ الْخَمْرِ قرينةٌ جازمةٌ على أنه شَرِبَ الخمرَ؛ إِذْ لو لم يَشْرَبْهَا لَمَا كانت رِيحُهَا في فِيهِ (¬1). قالوا: لأَنَّ اللَّهَ دَلَّ في القصصِ الماضيةِ - بَيْنَ مَا يَدُلُّ - على أن القرائنَ الجازمةَ رُبَّمَا قَامَتْ مقامَ البيناتِ؛ ذلك لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ لَمَّا بَهَتَتْهُ امرأةُ العزيزِ وَقَالَتْ {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: آية 25]، وَاضْطُرَّ نَبِيُّ اللَّهِ يوسفُ إلى الدفاعِ فقال: {قالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: آية 126] وَلَمْ تَكُنْ هناك بينةٌ ولا شيءٌ يُصَدِّقُهُ أو يُصَدِّقُهَا، فجاءَ ذلك الشاهدُ وقال لَهُمْ: هذا أمرٌ يقومُ مقامَ البينةِ، وهي قرينةٌ تُبَيِّنُ الحقيقةَ تَرْكَنُ إليها النفسُ كما تَرْكَنُ لِلْبَيِّنَةِ. قال: انْظُرُوا إلى قميصِ الرجلِ: فَإِنْ كَانَ مَشْقُوقًا مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ فهو يَرْكُضُ على المرأةِ، والمرأةُ تَدْفَعُهُ عن نفسِها، وإن كان القميصُ مَشْقُوقًا من الوراءِ فهو هاربٌ وَهِيَ تَنْتَاشُهُ من وراء. قال الله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} يعني مِنَ الأَمَامِ {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف: آية 26،27] وَمَحَلُّ الشاهدِ قولُه: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} لَمَّا وَجَدُوا القميصَ مَشْقُوقًا مِنْ دُبُرٍ جَزَمُوا بأنها كاذبةٌ وَأَلْزَمُوهَا، وقالوا: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: آية 28]، وَاللَّهُ (جل وعلا) ما ذَكَرَ هذه القصةَ في معرضِ الاستحسانِ والتسليمِ مُبرِّئًا بها ساحةَ نَبِيِّهِ يوسفَ إلا أن مِثْلَ هذا يجوزُ أن يُعْتَمَدَ عليه إذا كانت القرائنُ واضحةً بَيِّنَةً لاَ تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا (¬2). وقد أَخَذَهَا العلماءُ بالإجماعِ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 69) (3/ 70). (¬2) انظر: القرطبي (9/ 150)، الأضواء (3/ 69).

في بعضِ الأفرادِ. أجمعَ العلماءُ في أقطارِ الأرضِ أن الرجلَ يتزوجُ المرأةَ ولم يَرَ وَجْهَهَا قَطُّ ولم يَعْرِفْهَا، وإنما يسمعُ أن عندَ فلانٍ ابنةً فَيَخْطِبُهَا، ويتزوجُها من غيرِ أن يَرَاهَا. ثم إِنَّهَا وقتَ الزفافِ تَزُفُّهَا إليه ولائدُ وإماءٌ لاَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ حقيرٌ ولا جليلٌ، فقد أجمعَ العلماءُ على أن لَهُ بِأَنْ يُجَامِعَهَا، وليس عليه أن يتوقفَ حتى تقومَ بينةٌ عدولٌ تشهدُ أن هذه عينُ فلانة ابنةِ فلانٍ التي وَقَعَ عليها العقدُ؛ لأن قرينةَ العقدِ ودَفْعَ الصداقِ والتهيؤَ للزفافِ قرائنُ قامت مقامَ البينةِ في هذا الموضوعِ (¬1). وَالرَّجُلُ ينزلُ عِنْدَ القومِ فيأتيه الولدُ والجاريةُ بطعامِ القومِ، والطعامُ مالٌ معصومٌ محترمٌ، وليس عليه أن يَتَثَبَّتَ حتى تقومَ بَيِّنَةٌ على أَنَّهُمْ أَذِنُوا له في الأَكْلِ؛ لأَنَّ القرينةَ تقومُ مقامَ ذلك (¬2). وقد أَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم من قصةِ يعقوبَ وأولادِه أن القرينةَ تَبْطُلُهَا قرينةٌ أَقْوَى منها (¬3). وهو أَخْذٌ صحيحٌ من كتابِ اللَّهِ، ذلك أن أولادَ يعقوبَ لَمَّا أَرَادُوا أن يَجْعَلُوا يوسفَ في غيابةِ الْجُبِّ ذَبَحُوا سخلةً، وَلَطَّخُوا قميصَه بدمِ السخلةِ؛ ليكونَ الدمُ قرينةً لهم على صِدْقِهِمْ بأن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ، وَنَسُوا أَنْ يَشُقُّوا القميصَ!! فلما جَاؤُوا بالليلِ إلى يعقوبَ بالقميصِ عليه الدمُ تَأَمَّلَ فِي القميصِ، فإذا هو ليس فيه شَقٌّ وهو صحيحٌ سَلِيمٌ، فقال: سبحانَ اللَّهِ!! مَتَى كانَ الذئبُ حَلِيمًا كَيِّسًا؟ يقتلُ يوسفَ ولا يَشُقُّ قميصَه؟! فَجَزَمَ بأنهم ¬

(¬1) انظر: قواعد الأحكام (2/ 136 - 139)، الأضواء (2/ 69)، (3/ 70). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 69)، (3/ 70). (¬3) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1077)، القرطبي (9/ 149)، الأضواء (2/ 69) (3/ 70).

كاذبونَ. كما نَصَّ اللَّهُ عنه في قولِه: {وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: آية 18]، وَحَكَى غيرُ واحدٍ إجماعَ العلماءِ (¬1) على أن مستندَ يعقوبَ في قولِه: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} أنه عدمُ شَقِّ القميصِ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ الذئبَ لو كَانَ أَكَلَهُ لاَ بُدَّ أَنْ يكونَ في القميصِ شَقٌّ مِنْ نَابِهِ أَوْ ظُفْرِهِ، كما هو مَعْرُوفٌ. وكذلك أخذَ المالكيةُ ضمانَ الغُرْمِ من قولِه في قصةِ يوسفَ وإخوتِه: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوف: آية 72] (¬2). وأخذ بعضُ الشافعيةِ - مع أنهم يقولونَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا ليسَ شَرْعًا لَنَا - أَخَذُوا ضمانَ الوجهِ المعروفِ في الاصطلاحِ بـ (الكفالةِ) مِنْ قَوْلِ يعقوبَ لأولادِه: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} [يوسف: آية 66] (¬3). وَأَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم أن القاضيَ إذا تَوَجَّهَ حُكْمُهُ إلى أحدِ الْخَصْمَيْنِ لا بُدَّ أن يُعْذِرَ إليه بـ: (أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ)؟ أُخِذَ هذا من قولِه في قصةِ الهدهدِ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: آية 21] أي: مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مدْفَعٌ وَعُذْرٌ يَدْفَعُ به عَنْ نَفْسِهِ (¬4). ¬

(¬1) نقله القرطبي (9/ 150) وانظر: الأضواء (3/ 71). (¬2) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1096)، القرطبي (9/ 233)، الأضواء (2/ 70). (¬3) انظر: القرطبي (9/ 225)، الأضواء (2/ 70). (¬4) انظر: الأضواء (2/ 70).

وَأَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم أن القاضيَ إذا انْتَهَتِ الآجالُ والتّلَوُّماتُ للخصومِ ينبغي له أن يستظهرَ لِمَنْ تَوَجَّهَ عليه الحكمُ بثلاثةِ أيامٍ، أَخْذًا من قولِه في قصةِ صَالِحٍ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: آية 65] (¬1). وَأَخَذَ علماءُ الحنابلةِ جوازَ طولِ مدةِ الإجارةِ من قولِه في مُوسَى وصهرِه شعيبٍ أو غيرِه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} الآياتِ [القصص: آية 27] (¬2). أما الذين قَالُوا: إِنَّ شرعَ مَنْ قبلَنا ليس شَرْعًا لنا - وهو أَصَحُّ الرواياتِ في الأصولِ عن الإمامِ الشافعيِّ - فَتَمَسَّكُوا بظاهرِ قولِه تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: آية 48]، وَفِي الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ» (¬3). وأولادُ الْعَلاَّتِ: هُمْ أولادُ الرجلِ الواحدِ إذا كانت أمهاتُهم شَتَّى مُخْتَلِفَةً. يعني أن العقيدةَ والأصلَ واحدٌ، والفروعُ تختلفُ، أما اختلافُ الفروعِ الذي أَشَارَ إليه النبيُّ بقولِه: (أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ) وَبَيَّنَهُ اللَّهُ بقولِه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فهو لاَ يُنَافِي ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) انظر: المغني (8/ 10)، حاشية الروض المربع لابن قاسم (5/ 316)، الأضواء (2/ 70). (¬3) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]. حديث (3442)، (6/ 477)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى (عليه السلام)، حديث (2365)، (4/ 1837).

ما ذَكَرْنَا؛ لأَنَّ بعضَ الشرائعِ يكونُ فيها نسخٌ لم يكن فيما قَبْلَهَا، وَيُزَادُ في بعضِ الشرائعِ أحكامٌ لَمْ تَكُنْ موجودةً فيما قَبْلَهَا، وبواسطةِ نسخِ بعضِ الأحكامِ السابقةِ، وزيادةِ بعضِ الأحكامِ التي لَمْ تَكُنْ تَخْتَلِفُ الشرائعُ بهذا الاعتبارِ، ويكونُ لِكُلٍّ شَرِيعَةٌ وَمِنْهَاجٌ؛ لأَنَّهَا لم تَتَّحِدْ في كُلِّ شَيْءٍ. وهذا معنَى قولِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، العائدُ إلى الصلةِ هنا محذوفٌ، والأصلُ: أولئك الذين هَدَاهُمُ اللَّهُ، فَحَذَفَ الضميرَ العائدَ على الصلةِ (¬1) لأنه منصوبٌ بِفِعْلٍ، وإذا كان مَنْصُوبًا بفعلٍ أو وَصْفٍ فَحَذْفُهُ مُطَّرِدٌ، كما هو مَعْرُوفٌ. {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 90] قُلْ لهم يَا نَبِيَّ اللَّهِ: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ} أَيْ: لاَ أطلبُ منكم {عَلَيْهِ} أي: على هذا التبليغِ الذي بَلَّغْتُكُمْ به ما فيه لكم خيرُ الدنيا والآخرةِ، لاَ أَطْلُبُ منكم في مقابلتِه جُعْلاً، ولا أجرةً أنتفعُ بها في الدنيا، لاَ وَكَلاَّ، إنما أَجْرِي في ذلك على اللَّهِ، وهذه عادةُ كُلِّ الأنبياءِ، يُبَلِّغُونَ العلمَ من غيرِ أن يَأْخُذُوا عليه جُعْلاً {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: الآيتان 20، 21] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: آية 47] وقد ذَكَرَ اللَّهُ قصصَ الأنبياءِ في سورةِ الشعراءِ (¬2)، قصةَ نُوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 109] وَذَكَرَ فِي (هودٍ) عَنْ نُوحٍ: {وَيَا قَوْمِ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 31). (¬2) كما في الآيات (109، 127، 145، 164، 180) ..

لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود: آية 29] وهذه عادةُ الرسلِ يُبَلِّغُونَ وَيَبْذُلُونَ العلمَ والنصائحَ والخيرَ مَجَّانًا من غيرِ عِوَضٍ في ذلك، وهذا معنَى قولِه: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} لاَ أَطْلُبُ منكم جُعْلاً في مقابلةِ هذا الذي أَتَيْتُكُمْ به، كما قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: آية 46] وَاللَّهُ (جل وعلا) مَنَعَ على الأنبياءِ أن يأخذوا جُعْلاً في مقابلةِ التبليغِ؛ لأنهم لو أَخَذُوهُ لكانوا يتهمونهم ويقولونَ: يَأْتِي بهذه الدعوى التي جَاءَ بها لأَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ؛ ولئلاَّ تثقل الناس من المغارمِ؛ لأَنَّ النفوسَ مَجْبُولَةٌ على بُغْضِ الْمَغْرَمِ، كما قال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: آية 46]، {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: آية 47]، أما قَوْلُهُ: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: آية 23] فالتفسيرُ الصحيحُ الذي عليه جمهورُ الْمُفَسِّرِينَ، وأكثرُ علماءِ السلفِ (¬1): أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - له في كُلِّ فَخِذٍ مِنْ قريشٍ قرابةً. ومعنَى الآيةِ: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ} على هذا الذي جِئْتُكُمْ به من الفضلِ {أَجْرًا}، جُعْلاً وَلاَ شَيْئًا {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} إِلاَّ أَنْ تَوَدُّونِي في قَرَابَتِي منكم، وَتُرَاعُوا فِيَّ حَقَّ القرابةِ، فلاَ تُؤْذُونِي. وهذا مضمونٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ. وفي الآيةِ أقوالٌ: مِنْهَا ما رُوِيَ عن جماعةٍ مِنْ آلِ البيتِ، وجماعةٍ من العلماءِ، أن المعنَى: إلا أَنْ تُوَدُّونِي في قَرَابَتِي، فَتُرَاعُونِي فِيهِمْ (¬2). هذا الوجهُ الآخَرُ في الآيةِ، والأولُ هو المشهورُ، وبقيةُ الأوجهِ ضعيفةٌ. وإذا كان لا يَطْلُبُ أَجْرًا إلا الشيءَ المبذولَ للأَسْوَدِ والأحمرِ من مودةِ كُلِّ قريبٍ لِقَرِيبِهِ تُبَيِّنُ أنه لا يطلبُ أَجْرًا، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (25/ 23). (¬2) انظر: القرطبي (16/ 21)، الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ص258.

كما قال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: آية 47]، وهذا معنَى قولِه: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 90]، يعنِي: {إِلاَّ ذِكْرَى} (ذكرى): اسمُ مصدرٍ بمعنَى التذكيرِ، مُؤَنَّثٌ بألفِ التأنيثِ المقصورةِ تَأْنِيثًا لَفْظِيًّا. فما هو إِلاَّ ذِكْرَى. أي: تَذْكِيرٌ وَعِظَةٌ للعالمين، يتذكرونَ ويتعظونَ بما فيه مِنَ الغرائبِ والعجائبِ والمواعظِ، وما كانَ بهذه المثابةِ لاَ يَحْسُنُ وَلاَ يَجْمُلُ أَنْ يُؤْخَذَ عليه جُعْلٌ أَوْ أَجْرٌ، لاَ وَكَلاَّ (¬1). {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} [الأنعام: آية 91]. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في مالكِ بنِ الصيفِ، وهو حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ اليهودِ، ذَكَرُوا في قصتِه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَاشَدَهُ: «أَوَجَدْتَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ؟» وأنه قال: نَعَمْ. وأنهم قالوا له: أَنْتَ حَبْرٌ سَمِينٌ!! فَغَضِبَ، وقال: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» (¬2). مع أن أَثَرَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» لَمْ يَثْبُتْ من طريقٍ صحيحٍ، إلا أن هذا ذَكَرَهُ بعضُ العلماءِ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ. والذين قالوا هذا قالوا: هذه آيةٌ مدنيةٌ مِنْ سورةٍ مكيةٍ؛ لأَنَّ سورةَ الأنعامِ مكيةٌ نَزَلَتْ قبلَ الهجرةِ ¬

(¬1) انظر: القاسمي (6/ 619 - 622). (¬2) أخرجه ابن جرير (11/ 521)، وابن أبي حاتم (4/ 1342)، والواحدي في أسباب النزول ص 220 من طريق سعيد بن جبير مرسلا. وعزاه في الدر (3/ 29) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. وفي سنده - إضافة إلى الإرسال - (يعقوب القمي) و (جعفر بن أبي المغيرة) وكلاهما قال عنه الحافظ في التقريب (ص201، 1088): «صدوق يهم» اهـ.

إلا أن فيها آياتٍ مدنيةً، منهن عندَ بعضِ العلماءِ هذه الآيةُ (¬1). قالوا: نَزَلَتْ في مالكِ بنِ الصيفِ اليهوديِّ، والتي بَعْدَهَا نَزَلَتْ في مُسَيْلِمَةَ والأسودِ العنسيِّ. أَعْنِي قولَه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: آية 93] وَأَنَّ آخِرَهَا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: آية 151] أنه مِمَّا نَزَلَ فِي المدينةِ، هكذا قالَ بعضُ العلماءِ. والمعنَى كما ذَكَرَهُ المفسرونَ: أن هذا اليهوديَّ لَمَّا قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ من شيءٍ. وقال قومٌ: هذه المقالةُ لكفارِ مكةَ، والآيةُ مكيةٌ من سورةٍ مكيةٍ (¬2). وعلى كُلِّ حالٍ فالذين قالوا هذه المقالةَ سواءً قُلْنَا إنه مالكُ بنُ الصيفِ، أو غيرُه من اليهودِ، أو كفارِ مكةَ الذين قالوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، هؤلاءِ: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} يَعْنِي ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: ما عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تعظيمِه، ولا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حيث نَفَوْا إنزالَ اللَّهِ الكتبَ السماويةَ على الأنبياءِ. ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: إذا نَفَوْا عن الأنبياءِ إنزالَ شيءٍ، فَأَيُّ شيءٍ في هذا من عدمِ تعظيمِ اللَّهِ؟ الجوابُ: أن هذا نَزَّهَ اللَّهُ نفسَه عنه في سورةِ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وَبَيَّنَ أنه لا يَلِيقُ به؛ لأَنَّ الحكيمَ الخبيرَ خَلَقَ هَذَا الْخَلْقَ، وَأَبْدَعَ هذا الكونَ، كيف يفعلُ هذا إِلاَّ لِحِكَمٍ بَالِغَةٍ؟ وهو أنه يَمْتَحِنُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ، ويكلفُهم ويجازيهم. فهذا هو الذي نَزَّهَ اللَّهُ عنه نفسَه؛ إِذْ ¬

(¬1) انظر: القاسمي (6/ 624، 627). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 524)، ابن كثير (2/ 156).

لو كان يخلقُ الخلقَ ولا يُكَلِّفُهُمْ ولاَ يُجَازِيهِمْ كَانَ خَلْقُهُ إياهم كأنه مِنَ الْعَبَثِ، وَمَنْ ظَنَّ أن اللَّهَ يفعلُ هذا لاَ لِحِكْمَةٍ فَوَيْلٌ لَهُ مِنَ النَّارِ، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: آية 27] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الدخان: الآيتان 38، 39] وقال جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: آية 115] ثُمَّ نزَّه نفسَه عن هذا - وهو محلُّ الشاهدِ - فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: آية 116] تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عن أن يخلقَ هذا العالمَ عَبَثًا من غيرِ تكليفٍ ولاَ جزاءٍ، لا يكونُ ذلك أبدًا. وَمِنْ هنا لَمَّا قالوا: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وليست هنالك كُتُبٌ على ضَوْئِهَا التكاليفُ والجزاءُ، بَيَّنَ اللَّهُ أنهم ما قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَلاَ عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حيث يتركُ هذا العَالَمَ سُدًى عَبَثًا: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: آية 36] لاَ وَكَلاَّ. ثم قَالَ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى} وفي القراءةِ الأُخْرَى: {يُمْنَى} (¬1) {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: الآيات 36 - 38] فهؤلاء الذين نَفَوْا إنزالَ الكتبِ على الرسلِ وتكليفَ الخلائقِ ومجازاتِهم، هؤلاء ظَنُّوا باللَّهِ أنه خَلَقَ الخلقَ عَبَثًا، ولم يَخْلُقْهُ لِلْحِكَمِ البالغةِ، فما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، ولا عَرَفُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ {إِذْ قَالُوا} حِينَ قَالُوا: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 91] المعروفُ عندَ جماعةِ المفسرين: أن مالكَ بنَ الصيفِ لَمَّا قال: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} قالوا: إِنَّ قَوْمَهُ قالوا: كيفَ تُنْكِرُ إنزالَ شيءٍ على أحدٍ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 453 ..

من البشرِ وأنتَ تعلمُ أن التوراةَ أُنْزِلَ على مُوسَى (¬1)؟ يَذْكُرُونَ في قصتِه أنه كانَ حَبْرَهُمْ، وأنهم خَرَّجُوهُ بسببِ هذا، وَوَضَعُوا بعدَه كعبَ بنَ الأشرفِ، أو عبدَ اللَّهِ بْنَ صُورِيَا الأعورَ، كما هو مذكورٌ في التاريخِ. والعلماءُ في هذا يقولونَ: إن مناظرةَ هذا اليهوديِّ أو غيرِه أنها متطبقةٌ على المناظرةِ الاصطلاحيةِ تَمَامًا؛ لأَنَّ هذا اليهوديَّ قال: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} فهذه المقدمةُ التي جاء بها هي التي تُسَمَّى في الاصطلاحِ: (كُلِّيَةٌ سَالِبَةٌ). وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ حَذَفَ مقدمةً أُخْرَى، وأنه يَقْصِدُ: أنتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جُمْلَةِ البشرِ، والبشرُ جَمِيعُهُمْ - بالعنوانِ الأَعَمِّ الذين أنتَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ - ما أَنْزَلَ اللَّهُ عليهم مِنْ شَيْءٍ. ينتجُ من ذلك: أنتَ لَمْ يُنْزَلْ عليكَ شيءٌ، حيثُ كنتَ داخلاً في جملةِ البشرِ، وحيثُ إن البشرَ بالعنوانِ الأَعَمِّ حُجِبَ عن جميعِهم إنزالُ شيءٍ. ينتظمُ مِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: أنتَ لَمْ يُنْزَلْ عليك شَيْءٌ!! وقد تَقَرَّرَ في فنونِ المناظرةِ: أن (السالبةَ الكليةَ) إنما تَنْقُضُهَا (مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ). فَالْخَصْمُ إذا أَرَادَ نقضَ كلامِ خَصْمِهِ؛ إذا كان مَبْنَى كلامِ خَصْمِهِ على (سَالِبَةٍ كُلِّيَّةٍ)؛ إنما يَنْقُضُهَا بـ (مُوْجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ)، كما هو معروفٌ. قالوا: وَلِذَا قال اللَّهُ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} أَنْتَ قُلْتَ: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} مَنْ هو الذي أَنْزَلَ الكتابَ الذي هو التوراةُ على مُوسَى؟! فهذا في قوةِ: مُوسَى بَشَرٌ، وأنتم يا يهودُ تُسَلِّمُونَ بشريةَ مُوسَى، مُوسَى أُنْزِلَ عليه الكتابُ، وهو التوراةُ، فَأَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ بَشَرِيَّتَهُ، ونزولَ الكتابِ عليه. ينتجُ: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 522).

بعضُ البشرِ - وهو مُوسَى - أُنْزِلَ عليه الكتابُ (¬1). إلا أَنَّ هذا في الاصطلاحِ يَتَطَرَّقُهُ سُؤَالٌ، قد يكونُ بعضُ الحاضرينَ لا يَفْهَمُهُ؛ لأنه يُقَالُ: هذا اليهوديُّ بَنَى دَلِيلَهُ على (كُلِّيَّةٍ سَالِبَةٍ) {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وأن اللَّهَ لَمَّا نَقَضَ عليه، كان النقضُ في قوةِ (مُوْجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ)؛ لأَنَّ معنَى قولِه: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: آية 91] هو في قوةِ: مُوسَى بَشَرٌ، مُوسَى أُنْزِلَ عليه كِتَابٌ. ينتجُ: بعضُ البشرِ أُنْزِلَ عليه كِتَابٌ. العارفُ باصطلاحاتِ هذه الفنونِ يقولُ: هذا الميزانُ من الشكلِ المعروفِ بـ: (الشكلِ السالبِ) وأهلُه يشترطونَ فيه كُلِّيَّةِ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهُمَا هُنَا: شَخْصِيَّتَانِ. والجوابُ عن هذا هو: ما هو مُقَرَّرٌ: أن كُلَّ ما تُنتج فيه الكليةُ تُنتج فيه الشخصيةُ؛ لأَنَّ المرادَ أن لاَ يَبْقَى شيءٌ مِنْ أَفْرَادِ الموضوعِ الداخلةِ تحتَ العنوانِ، سواء حَصَرَهَا سُورٌ أو حَصَرَهَا مُجَرَّدُ الْوَضْعِ (¬2). وعلى كُلِّ حَالٍ فَهَذَا اليهوديُّ أو غيرُه قَالَ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} فَاللَّهُ أَلْزَمَ اليهودَ، وقال لهم: مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ عَلَى مُوسَى؟ [9/ب] / وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ ببشريةَ مُوسَى، أنه بَشَرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عليهِ الكتابَ، يَلْزَمُ مِنْ ذلك أن بعضَ البشرِ أُنْزِلَ عليه الكتابُ. وهو نقضٌ لِمَقَالَتِهِمْ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ في قولِهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} أي: وهو التوراةُ. ¬

(¬1) انظر: آداب البحث والمناظرة (2/ 78 - 80). (¬2) المصدر السابق (2/ 79 - 80).

وقولُه: {نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} قولُه: {نُورًا وَهُدًى} كِلاَهُمَا حَالٌ. أي: جَاءَ به مُوسَى في حالِ كونِه نُورًا يكشفُ ظلامَ الجهلِ وَالشَّكِّ والشركِ {وَهُدًى} يُهْتَدَى بِهِ مِنَ الضَّلاَلِ. الجوابُ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جل وعلا)، وَاللَّهُ (جل وعلا) لم يَكِلْ هذا إليهم؛ لأنه قَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: آية 91] قُلْ لَهُمْ يا نَبِيَّ اللَّهِ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ. وهو محلُّ الشَّاهِدِ. وإذا كان الجوابُ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ على مُوسَى. أَيْ: هذا الكتابُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على مُوسَى، وهو بَشَرٌ، تَبَيَّنَ كَذِبُ مَقَالَتِهِمْ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وهذا معنَى قولِه: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ {الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى} في حالِ كونِه {نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} هذا السؤالُ في قولِه: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ}. أمر الله نبيه أن يجيب بقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {قُلِ اللَّهُ} معناه: قُلْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ جل وعلا {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}. وقولُه جل وعلا: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} فيه قراءتانِ سبعيتانِ (¬1)، قَرَأَهُ أكثرُ السبعةِ: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}. وَقَرَأَهُ بعضُ السبعةِ: {يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا} أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ: {تَجْعَلُونَهُ} فهو خطابٌ لليهودِ (¬2). وسياقُ الكلامِ يُعَيِّنُ أن الآيةَ نَازِلَةٌ في اليهودِ لاَ في مُشْرِكِي مكةَ، كما قَالَهُ بعضُ العلماءِ. ومعنَى: {يَجْعَلُونَهُ} أي: اليهودُ. أو {تَجْعَلُونَهُ} أَنْتُمْ أَيُّهَا اليهودُ. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 198. (¬2) انظر: حجة القراءات 261، القرطبي (7/ 37).

وقولُه: {قَرَاطِيسَ} (القراطيس) جمعُ (قِرْطَاسٍ)، و (القرطاسُ): الورقةُ. كما هو معروفٌ؛ لأَنَّ نُسْخَةَ التوراةِ الكبيرةَ كُلَّهَا فيها الحقُّ، فإذا أَرَادُوا التحريفَ أَخَذُوا أوراقًا مُفَرَّقَةً، وَكَتَبُوا فيها أشياءَ متعددةً مِمَّا يريدونَ أن يُحَرِّفُوهُ، وَتَرَكُوا نسخةَ الكتابِ الكبيرةَ غيرَ حاضرةٍ، فإذا أَرَادُوا التحريفَ قالوا: هذا القرطاسُ نَقَلْنَا فيه مِنْ محلِّ التوراةِ فِي المحلِّ الفُلاَنِيِّ كذا وكذا، وهذا نَصُّهُ!! وهو مُحَرَّفٌ، وَلَمْ يَأْتُوا بِأَصْلِ الْكِتَابِ؛ لأَنَّهُ لو جَاءَ لَظَهَرَتِ الحقيقةُ فيه. وهذا معنَى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا} أي: القراطيسَ المحرفةَ على أهوائِكم {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} وَجَعْلُهُ بهذه القراطيسِ لِيَسْتَعِينُوا بها عَلَى إخفاءِ ما يُحِبُّونَ وإبداءَ ما يُحِبُّونَ؛ لأنه لو جَاءَتْ نسخةُ الكتابِ كاملةً لَعُرِفَ الحقيقةُ فيه؛ ولذلك يَكْتُبُونَهَا كُتُبًا مُحَرَّفَةً، كما قال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: آية 79] وقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: آية 78] وهذا معنَى قولِه: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا} محرفةً للناسِ {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} في النسخةِ الكبيرةِ لاَ تُظْهِرُونَهُ. كانوا يُخْفُونَ صفاتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيجدونَه في التوراةِ: (أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ)، فيكتبونَ لونًا غيرَ ذلك. يَجِدُونَ: (رَبْعَةً)، يكتبونَ: (طَوِيلاً مُشَذَّبًا). (جَعْدَ الشَّعَرِ): يكتبونَ: (سَبْطَ الشَّعَرِ) ويغيرونَ الحقائقَ؛ وَلِذَا قال تعالى: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}. ثم قال جل وعلا: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} أَظْهَرُ

الأقوالِ فيها: أَنَّ المرادَ بِهِمُ اليهودُ الذين أُنْزِلَ عليهم التوراةُ، أن الله عَلَّمَهُمْ بواسطةِ القرآنِ من غرائبِ ما في التوراةِ وعجائبِه ما كانوا جَاهِلِينَ به؛ لأَنَّ القرآنَ مُهَيْمِنٌ على الكتبِ، وَكَانَتْ أشياءُ غامضةً عليهم لا يَعْرِفُونَهَا، فَبَيَّنَهَا القرآنُ حتى عَرَفُوهَا، وَعَلِمُوا بِوَاسِطَةِ الْقُرْآنِ مِنْ أَسْرَارِ التوراةِ ما لَمْ يكونوا يَعْلَمُونَهُ، كما قال جل وعلا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: آية 76] وقال اللَّهُ جل وعلا: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: آية 15] إلى غَيْرِ ذلك. وهذا معنَى قولِه: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا} أَيْ: وعُلِّمْتُمْ الشيءَ الذي لم تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ وَلاَ آباؤكم من قبلُ، عَلَّمَكُمُ اللَّهُ إياه بواسطةِ القرآنِ العظيمِ؛ لأَنَّهُ مهيمنٌ على الكتبِ يُبَيِّنُ مَا فِيهَا، كما قَالَ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: آية 76] مِمَّا كَانُوا لا يَعْلَمُونَهُ. ثم قال جل وعلا: {قُلِ اللَّهُ} قولُه: {قُلِ اللَّهُ} جوابٌ للاستفهامِ في قولِه: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} قُلْ لَهُمْ: مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ الذي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للناسِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بالجوابِ: قُلْ لَهُمْ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جل وعلا). ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تُفْحِمَهُمْ {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {ذَرْهُمْ} معناه: اتْرُكْهُمْ. وَمَعْنَى: {فِي خَوْضِهِمْ} أي: فِي خَوْضِهِمْ في الباطلِ والكفرِ والتكذيبِ بآياتِ اللَّهِ {يَلْعَبُونَ} يتخذونَ ذلك لَعِبًا واستهزاءً.

وهذا الأمرُ قَالَ بعضُ العلماءِ: هِيَ مُتَارَكَةٌ مَنْسُوخَةٌ (¬1)؛ لأَنَّ أهلَ الكتابِ كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَأْمُورًا بِتَرْكِهِمْ، حيث قال: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: آية 109] ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: آية 29]. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: آية 92] لَمَّا قَالَ اليهودُ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وأن اللَّهَ (جل وعلا) كَذَّبَهُمْ تَكْذِيبَتَيْنِ: الأُولَى: قولُه: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ثم قَالَ في جوابِ هذا الاستفهامِ: {قُلِ اللَّهُ} اللَّهُ أَنْزَلَهُ. وهذا تكذيبٌ صريحٌ لقولِهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ من شيءٍ. ثُمَّ كَذَّبَهُمُ التكذيبةَ الأُخْرَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أعظمَ كتابٍ، وهو الكتابُ المباركُ، حيث قال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهذا أيضًا كتابٌ آخَرُ غيرُ الذي أُنْزِلَ على مُوسَى، أَنْزَلْنَاهُ عَلَى بَشَرٍ تَكْذِيبًا لِقَوْلِكُمْ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وصيغةُ الجمعِ في قولِه: {أَنزَلْنَاهُ} للتعظيمِ؛ لأَنَّ مُنْزِلَ هذا الكتابِ عظيمٌ جِدًّا، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّعْظِيمِ. وقولُه: {مُبَارَكٌ} أَيْ: كثيرُ البركاتِ والخيراتِ، فهذا القرآنُ كُلُّهُ بركاتٌ وَخَيْرَاتٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال إنه مُبَارَكٌ. والمباركُ: كثيرُ البركاتِ؛ لأَنَّ فيه خيرَ الدنيا والآخرةِ، يعتقدُ الإنسانُ عقائدَه، وَيُحِلُّ حَلاَلَهُ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَهُ، ويتأدبُ بِآدَابِهِ، ويعتبرُ بأمثالِه وقصصِه، ¬

(¬1) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 321).

فيكونُ على أكملِ حالٍ في الدنيا والآخرةِ. فهو فيه البركاتُ والخيراتُ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ - للعملِ به - (جل وعلا)؛ وَلِذَا بَيَّنَّا مِرَارًا أنه أعظمُ نعمةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ على خَلْقِهِ؛ وَلِذَا عَلَّمَهُمْ أن يَحْمَدُوهُ على هذه النعمةِ والبركاتِ في هذا القرآنِ العظيمِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: آية 1] وَبَيَّنَ أن إِيرَاثَهُ علامةُ الاصطفاءِ، وَبَيَّنَ أن ذلك فضلٌ كبيرٌ من اللَّهِ حيث قَالَ في (فاطر): {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فَبَيَّنَ أن إيراثَ هذا الكتابِ أنه لاَ يكونُ إلا لِمَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. ثم قال في مَعْرِضِ التنويهِ به: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: آية 32] أي: إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ هو الفضلُ مِنَ اللَّهِ الكبيرُ عليهم، كما قال هنا إِنَّهُ: {مُبَارَكٌ}. وقولُه: {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مَعْنَاهُ: أن القرآنَ العظيمَ مصدقٌ للكتبِ السماويةِ التي قَبْلَهُ، وتصديقُه لها مِنْ جِهَاتٍ متعددةٍ منها (¬1): أنه لا يُخَالِفُهَا. أن العلاماتِ التي قَامَتْ عن النبيِّ وعن كتابِه الذي يُنَزَّلُ عليه جاءت كُلُّهَا مُطَابِقَةً، وأن ما تَدْعُو إليه الكتبُ السماويةُ من التوحيدِ وطاعةِ اللَّهِ ومكارمِ الأخلاقِ كذلك جاءَ القرآنُ آمِرًا به. وَمِنْ تَصْدِيقِهِ لِلْكُتُبِ السماويةِ: أنه يُهَيْمِنُ عليها ويمنعُها من التحريفِ، كُلَّمَا أَرَادُوا أن يُحَرِّفُوا مَنَعَهُمُ القرآنُ، كما قال: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: آية 48] وَبَيَّنَ اللَّهُ ذلك في مواضعَ من كتابِه حيث قال: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: آية 15] وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: آية 160] قال اليهودُ: لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا إِلاَّ ما كانَ مُحَرَّمًا من الطعامِ على أَبِينَا إِسْرَائِيلَ. وهو ¬

(¬1) انظر: القاسمي (2/ 115).

يعقوبُ. فالقرآنُ كَذَّبَهُمْ وَأَلْقَمَهُمُ الحجرَ حيث قَالَ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: آية 93] (¬1). وَالْمُفَسِّرُونَ يقولونَ: إن هذا الذي حَرَّمَ على نفسِه هو لبنُ الإبلِ وَلَحْمُهَا. قالوا: إنه أَصَابَهُ مرضُ (عِرقِ النِّسَا) وأنه نَذَرَ لِلَّهِ إن شَفَاهُ اللَّهُ ليُحَرِّمَنَّ لِلَّهِ أَحَبَّ الطعامِ والشرابِ إليه، وأن ذلك كان جائزًا في شَرْعِهِ، فشفاه اللَّهُ، فَحَرَّمَ لبنَ الإبلِ ولحمَها. هكذا يَقُولُونَ (¬2). ومحلُّ الشاهدِ قولُه: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: آية 93] فهذا إلقامُ الحجرِ أنهم كاذبونَ على كتابِ اللَّهِ؛ وَلِذَا قال هنا: {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}. وقولُه: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} يقولُ بعضُ العلماءِ (¬3): المُعَلَّلُ محذوفٌ {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أَنْزَلْنَا إليكَ هذا الكتابَ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هو معطوفٌ على معنَى مَا قَبْلَهُ. والمعنَى: كتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليكَ لأَجْلِ البركاتِ المشتملِ عليها؛ ولتصديقِ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ؛ ولتنذرَ أُمَّ الْقُرَى. وأكثرُ العلماءِ على أن الْمُعَلَّلَ محذوفٌ، والمعنَى: ولتنذرَ أُمَّ القرى أَنْزَلْنَاهُ إليكَ. و (أُمُّ الْقُرَى) هي مكةُ المكرمةُ حَرَسَهَا اللَّهُ. ومعنَى {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} لتنذرَ أَهْلَهَا. وقولُه: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني: وَمَنْ حَوْلَ أُمِّ الْقُرَى. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (7/ 7). (¬2) انظر: ابن جرير (7/ 13 - 15). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 179).

وبقولِه: {وَمَنْ حَوْلَهَا} تَمَسَّكَ جماعاتٌ من اليهودِ، قالوا: لَمْ يُرْسَلْ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ إِلَى جزيرةِ الْعَرَبِ؛ لأنه قال لَهُ: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} في مَوْضِعَيْنِ (¬1). وقد أَجْمَعَ العلماءُ، وَدَلَّ القرآنُ العظيمُ، وَالسُّنَّةُ الصحيحةُ، وإجماعُ العلماءِ، أن رسالةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - شاملةٌ عامةٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ (¬2). وعليه يقولُ السائلُ: ما الجوابُ عن قولِه: {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} والاقتصارُ على هذا هنا، وفي قولِه: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}؟ للعلماءِ عنه جَوَابَانِ (¬3): أحدُهما: أَنَّ {وَمَنْ حَوْلَهَا} صادقٌ بالدنيا كلها؛ لأن الدنيا عِنْدَ اللَّهِ شيءٌ بسيطٌ كأنها نقطةٌ. وقال بعضُ العلماءِ: غَايَةُ ما في البابِ أن هذه الآيةَ الكريمةَ اقْتَصَرَتْ على إنذارِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَسَكَتَتْ عَمَّا سوى ذلك، وَجَاءَتْ آياتٌ أُخَرُ صَرَّحَتْ في الإنذارِ بالتعميمِ، كقولِه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: آية 158] وقال جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: آية 28] ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق. (¬2) انظر: ابن كثير (2/ 156 - 157)، القاسمي (6/ 629). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 179)، ابن كثير (2/ 156)، فتح القدير (2/ 139)، القاسمي (6/ 629)، أضواء البيان (7/ 158)، دفع إيهام الاضطراب (مطبوع في آخر الأضواء (9/ 119).

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1]. والآيةُ على هذا الوجهِ الأخيرِ الذي ذَكَرْنَا كقولِه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: آية 214] فليس لنا أن نقولَ: ليس مُرْسَلاً إِلاَّ لعشيرتِه الأَقْرَبِينَ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} لأَنَّهُ في هذه الآيةِ أَمَرَهُ أن ينذرَ عشيرتَه، وَعَمَّمَ الإنذارَ في آياتٍ أُخَرَ، كذلك في هذه الآيةِ: {لِّتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: آية 92] وَعَمَّمَ الإنذارَ في آياتٍ أُخَرَ. ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: آية 92] وفي بعضِ القراءاتِ: {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (¬1). {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} قد بَيَّنَّا مِرَارًا أن معنَى (الآخرةِ) أنها لاَ دَارَ بَعْدَهَا يُنْتَقَلُ إليها؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ (آخِرَةً). والإنسانُ قَبْلَ أن يصلَ إليها ينتقلُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ. وقد بَيَّنَّا أن رحلةَ الإنسانِ يجبُ عليه النظرُ فيها؛ لأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بذلك. وأن مبدأَ رحلةِ الإنسانِ أنه ترابٌ بَلَّهُ اللَّهُ بِمَاءٍ، ثم صارَ طِينًا، ثم ذَكَرَ عن هذا الطينِ أطوارًا صَارَ فِيهَا حَمَأً مَسْنُونًا، ثم يُبِّسَ فصارَ صَلْصَالاً كالفخارِ، ثم إن اللَّهَ بقدرتِه خَلَقَ من هذا الطينِ بَشَرًا سَوِيًّا في غايةِ الجمالِ، اسْمُهُ آدَمُ، ثم خَلَقَ مِنْ ضِلْعِهِ امرأةً، ثم كان بَيْنَ هذا الرجلِ والمرأةِ ما يكونُ بينَ الرجلِ والمرأةِ. فَالطَّوْرُ لنا جَمِيعًا: هو ذلك الترابُ، والطَّورُ الثاني: هو تلك النطفةُ الأمشاجُ من ماءِ الرجلِ وماءِ المرأةِ. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 180).

والطَّورُ الثالثُ: هو الدمُ الجامدُ الْمُعبَّرُ عنه بـ (العَلَقَةِ)، والطَّورُ الذي بَعْدَ ذلك: هو طَورُ (الْمُضْغَةِ)، وهو استحالةُ الدمِ مضغةً، قطعةَ لَحْمٍ، ليس فيها تَخْطِيطٌ وَلاَ تَشْكِيلٌ ولاَ رأسٌ ولاَ يَدٌ ولاَ رِجْلٌ، ثم إن اللَّهَ (تبارك وتعالى) يُقَلِّبُ تلكَ المضغةَ هيكلَ عِظَامٍ، وَاللَّهُ (جل وعلا) يُرَتِّبُ تلك العظامَ بعضَها ببعضٍ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ، في غايةٍ من الإحكامِ، ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) بعدَ أن يصنعَ هيكلَ العظامِ يَكْسُوهُ اللَّحْمُ، ويجعلُ فيه العروقَ، فَيُفَصِّلُهُ وَيُخَطِّطُهُ، ويفتحُ فيه الْعَيْنَيْنِ، والأنفَ والفمَ والأُذُنَيْنِ، ويجعلُ فيه الأعضاءَ، ويضعُ كُلَّ عضوٍ في مَحَلِّهِ، ويضعُ الكبدَ في مَحَلِّهِ، والطحالَ وَالْكُلْيَتَيْنِ، إلى غيرِ ذلك، ويجعلُ الإنسانَ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ الهائلِ، الذي لو شُرِّحَ منه عضوٌ واحدٌ لَحَارَتْ عقولُ العقلاءِ بما أَبْدَعَ اللَّهُ فيه من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه، فليس في بدنِ الواحدِ منا مَوْضِعُ إبرةٍ إلا وَاللَّهُ أَوْدَعَ فيه من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، وَكُلُّ هذا فَعَلَهُ فينا لم يَشُقَّ أُمَّهَاتِنَا، لَمْ يَشُقَّ طَبَقَةَ بَطْنِهَا السُّفْلَى وَلاَ الْوُسْطَى ولا الْعُلْيَا وَلَمْ يَخُطَّهَا، ولم يُبَنِّجْهَا، وَلَمْ يُنَوِّمْهَا في صِحِّيةٍ. يفعلُ في بطنِها هذه الأفعالَ الهائلةَ الغريبةَ العجيبةَ وهي لاهيةٌ تَفْرَحُ وَتَمْرَحُ، لاَ تَدْرِي عَنْ شيءٍ من ذلك، بكمالِ قدرتِه وَصُنْعِهِ. وَاللَّهُ يُلْفِتُ أنظارَنا إلى هذا ونحن نُلْفِتُ أنظارَ إخوانِنا إليه دائمًا؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] يعني: بعدَ النطفةِ علقةً، وبعدَ خلقِ العلقةِ مضغةً، وبعدَ خلقِ المضغةِ عظامًا، إلى آخِرِهِ. وهو يقولُ: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} يعنِي: ظلمةَ البطنِ، وظلمةَ الرحمِ، وظلمةَ المشيمةِ التي هي على الولدِ في داخلِ

الرحمِ. لم يَحْتَجْ إلى أن يُزِيحَهَا أو يسلطَ عليها أشعةً كهربائيةً. الْعِلْمُ وَالْبَصَرُ نافذٌ لهذا الصنعِ الغريبِ العجيبِ في بَطْنِ أُمِّهِ {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: آية 6] وَلِذَا لَمَّا قَالَ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ}. قَالَ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ثُمَّ قَالَ - وهو مَحَلُّ الشَّاهِدِ -: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: آية 6] أَيْنَ تُصْرَفُونَ؟ أين تذهبُ عقولُكم عن هذه الغرائبِ والعجائبِ التي يَفْعَلُهَا فيكم خالقُ السماواتِ والأرضِ؟ ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) يُخْرِجُهُ من بطنِ أُمِّهِ، وَيُسَهِّلُ له طريقَ الخروجَ: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: آية 20] ويكونُ في هذه المحطةِ التي نَحْنُ فيها، فَكُلُّ ما قَبْلَهَا جَاوَزْنَاهُ، ثم إنه عَنْ قريبٍ ينتقلُ الجميعُ من هذه المحطةِ إلى محطةِ القبورِ، فَيَمْكُثُونَ فيها ما شَاءَ اللَّهُ، ثم يُنَادِي خَالِقُ السماواتِ والأرضِ أَنْ يَرْحَلُوا من القبورِ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: آية 25] فَيُجِيبُونَ دَاعِيَ اللَّهِ مُهْطِعِينَ إلى الدَّاعِي، فَيَجْمَعُهُمْ في صعيدٍ واحدٍ، صعيدِ الْمَحْشَرِ، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، ثُمَّ يَمْكُثُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثم يتفرقونَ كما قَالَ: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة: آية 6] مُتَشَتِّتِينَ مُتَفَرِّقِينَ، وهذه الأشتاتُ في سورةِ الزلزلةِ أَوْضَحَهَا اللَّهُ في سورةِ الرومِ: {يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: الآيات 14 - 16] فَبَعْدَ ذلك يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، وعندَ ذلك تُلْقَى عَصَى التَّسْيَارِ، وَيُذْبَحُ الْمَوْتُ، ويقولُ:

يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ. وهو معنَى قولِه: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم: آية 39]. بهذا تَعْرِفُونَ حقيقةَ معنَى (الآخرةِ)؛ لأَنَّ الأطوارَ قَبْلَهَا كُلَّهَا ينتقلُ من طورٍ إلى طورٍ، بعدَ الترابِ نطفةً، وبعدَ النطفةِ علقةً، وبعدَ الدنيا قبرٌ، وبعدَ القبرِ بَعْثٌ. أَمَّا فِي الآخرةِ فالدارُ التي يَحِلُّهَا الإنسانُ ليسَ بعدَها انتقالٌ آخَرُ إلى شيءٍ، ومن هنا قِيلَ لَهَا (الآخرةُ)؛ لأَنَّهَا ليس بعدَها شيءٌ، والمنزلُ في ذلك إِمَّا غرفة مِنْ غُرَفِ الجنةِ، وإما سِجْنٌ مِنْ سُجُونِ النارِ. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: آية 92] بهذا القرآنِ العظيمِ. كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ باليومِ الآخِرِ يُؤْمِنُ بهذا القرآنِ العظيمِ، لوضوحِ أَدِلَّتِهِ. أَمَّا الذي لاَ يُؤْمِنُ باليومِ الآخِرِ فَهُوَ لاَ يخافُ مِنْ عِقَابٍ، وَلاَ يَرْجُو ثَوَابًا، فَلاَ يُؤْمِنُ بِشَيْءٍ. ثم خَصَّ الصَّلاَةَ لِعِظَمِ مَكَانَتِهَا (¬1)، قال: {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}. يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: آية 93]. نَزَلَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنعامِ في مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 179).

وكذابِ صنعاءَ: الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ (¬1)، كُلٌّ مِنْهُمَا ادَّعَى أنه نَبِيٌّ كَذِبًا وافتراءً على اللَّهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أنه لاَ أحدَ أظلمَ مِمَّنْ يَفْتَرِي الكذبَ على اللَّهِ، أو يَدَّعِي أن اللَّهَ أَوْحَى إليه وهو لَمْ يُوحَ إليه. وقولُه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الاستفهامُ إنكاريٌّ. والمعنَى: لاَ أحدَ أظلمُ {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}. وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أَنَّ مثلَ هذه الآيةِ فيه سؤالٌ معروفٌ؛ لأَنَّ مَعْنَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} {فَمَنْ أَظْلَمُ} معناهُ: لاَ أحدَ أظلمُ. وإذا كانَ المعنَى في قولِه هنا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} لاَ أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا. فَإِنَّ هَذَا تُشْكِلُ عليه آيَاتٌ أُخَرُ كقولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: آية 114] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: آية 57] إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: لاَ أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى، لاَ أَحَدَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، لاَ أحدَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فأعرضَ عنها. فَيَنْشَأُ من هذا سؤالٌ، فيقولُ طالبُ العلمِ: كيفَ يقولُ: لاَ أحدَ أظلمُ من هذا، ثُمَّ يقولُ في موضعٍ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 533)، أسباب النزول للواحدي 220، الدر المنثور (3/ 30). قال ابن عاشور تعقيبا على هذا القول: «وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادعى النبوة قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة؛ لأن السورة مكية. والصواب: أن مسيلمة لم يدَّع النبوة إلا بعد أن وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قومه - بني حنيفة - بالمدينة سنة تسع طامعا في أن يجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بعده، فلمَّا رجع خائبا ادعى النبوة في قومه. وفي تفسير ابن عطية أن المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسود العنسى المتنبئ بصنعاء. وهذا لم يقله غير ابن عطية، وإنما ذكر الطبري الأسود تنظيرا مع مسيلمة. فإن الأسود العنسى ما ادعى النبوة إلا في آخر حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» اهـ التحرير والتنوير (7/ 375).

آخَرَ: لا أحدَ أظلمُ من هذا، في شَيْءٍ آخَرَ؟ وللعلماءِ عن هذا السؤالِ أجوبةٌ معروفةٌ (¬1)، أشهرُها اثنانِ، فيهما الكفايةُ: أَحَدُهُمَا: أنه لاَ معارضةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الآياتِ، وأن هؤلاء المذكورينَ لا يوجدُ أحدٌ أظلمُ منهم، وهم مُتَسَاوُونَ في مرتبةِ الظلمِ، فَلاَ يكونُ هنالكَ تعارضٌ، كما لو قُلْتَ: لاَ أَحَدَ أعلمُ في هذا البلدِ مِنْ زَيْدٍ، ولا أحدَ أعلمُ فيه من عمرٍو. فيكونُ زيدٌ وعمرٌو مُسْتَوِيَيْنِ في العلمِ، ولا يَفُوقُهُمَا أحدٌ فيه، فيكونُ كِلاَ الْمَقَالَيْنِ حَقًّا. الوجهُ الثاني: أن هذه المواضعَ تتخصصُ بِصِلاَتِهَا. ومعنَى (تتخصصُ بِصِلاَتِهَا): أَنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُهُ صلةُ مِوْصُولِهِ، فيكونُ المعنَى هنا: لاَ أحدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، ولاَ أحدَ مِنَ الْمُعْرِضِينَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عنها إلى آخِرِهِ. وقولُه: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} افتراءُ الكذبِ: اختلاقُه. والكذبُ في أَصَحِّ مَعَانِيهِ: هو عدمُ مطابقةِ الخبرِ للواقعِ (¬2)، فالكفارُ كَذَّابُونَ، خَبَرُهُمْ لاَ يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وإن ظَنُّوا في نفسِ الأمرِ أنه خيرٌ وَسَدَادٌ، كما قال جل وعلا: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: آية 30] وقال جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط لأبي حيان (1/ 357، 415)، البرهان للزركشي (4/ 74 - 75)، أضواء البيان (4/ 143 - 144)، دفع إيهام الاضطراب (ملحق في آخر الأضواء 9/ 25)، قواعد التفسير (2/ 528). (¬2) انظر: التعريفات للجرجاني 234.

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: آية 103، 104] فقولُه: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} كَمَنِ ادَّعَى لِلَّهِ الشركاءَ، أو ادَّعَى له الأولادَ، أو ادَّعَى أنه حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، أو أَحَلَّ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ، أو قال: أُوحِيَ إِلَيَّ. هذا دَاخِلٌ في افتراءِ الكذبِ، إلا أنه عَطَفَهُ عليه بـ (أو) لأَنَّهُ من أعظمِ أنواعِ الافتراءِ، كأنه لِعِظَمِهِ صارَ قِسْمًا مُقَابِلاً للافتراءِ وهو من أشنعِ أنواعِ الافتراءِ. {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ} أي: قَالَ: إن اللَّهَ أَوْحَى إليه، كمسيلمةَ الكذابِ (رَحْمَنِ الْيَمَامَةِ)، وكالأسودِ العنسيِّ (صاحبِ صنعاءَ)، وَيَدْخُلُ في حُكْمِهْمْ غيرُهم من الْمُتَنَبِّئِينَ، حيثُ قال كُلُّ مِنْ هَؤُلاَءِ: إنه أُوحِيَ إِلَيَّ. وَذَكَرُوا في تاريخِ مسيلمةَ أنه أرسلَ رسولاً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُذْكَرُ أنه ابنُ النواحةِ الذي قَتَلَهُ بعد ذلك ابنُ مسعودٍ، أَرْسَلَهُ إليه - بكتابٍ فيه: «مِنْ مسيلمةَ رسولِ اللَّهِ، إلى محمدٍ رسولِ اللَّهِ، إن الأرضَ نِصْفَانِ، نِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لَكَ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قومٌ يَعْتَدُونَ». فأجابَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ مُحَمِّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (¬1). ومعلومٌ أن ما يَدَّعِي أَنَّهُ قرآنٌ بَالِغٌ من التفاهةِ والسقوطِ مَا لاَ يَخْفَى على أَحَدٍ، كقولِه: «والطاحناتِ طحنًا، والعاجناتِ عجنًا، والخابزاتِ خبزًا، فالفارداتِ فردًا، فاللاقماتِ لقمًا». وغير ذلك من التُّرَّهَاتِ والخرافاتِ. ¬

(¬1) انظر: السيرة لابن هشام (4/ 1456 - 1457)، زاد المعاد (3/ 611).

الذين يَدَّعُونَ النبوةَ - كمسيلمةَ والأسودِ العنسيِّ - لا أحدَ أظلمُ منهم، حيث قالوا: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إليهم - ولم يُوحَ إليهم - ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. وهذا معنَى قولِه: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} والحالُ: {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} (من) في قولِه: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} هذا كُلُّهُ معطوفٌ على المجرورِ في قولِه: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ قال: أُوحِيَ إِلَيَّ [وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ] (¬1)، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وقولُه: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} هذه نَزَلَتْ في عبدِ اللَّهِ بنِ سعدِ بنِ سَرْحٍ، على قولِ أكثرِ المفسرين (¬2). أسلمَ أَوَّلاً، وكانَ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سورةِ (قد أفلح المؤمنون): {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: الآيات 12 - 14] عَجِبَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سعدِ بنِ أَبِي سرحٍ من تفصيلِ اللَّهِ هذا لخلقِ الإنسانِ فقال: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أحسنُ الخالقين» فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَشَكَّ فِي كلامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ مثلَ ما أُوحِيَ إليه، إن كان صادقًا فقد أُوحِيَ إلي مثلَ ما أُوحِيَ إليه، وإن كان كَاذِبًا فقد جئتُ بمثلِ ما جاءَ به. وَارْتَدَّ عن الإسلامِ - والعياذُ بالله (¬3) - وهو مِمَّنْ أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقتلِهم يومَ فتحِ مكةَ، ¬

(¬1) مابين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: المستدرك (3/ 45)، ابن جرير (11/ 533 - 534)، أسباب النزول للواحدي 220، لباب النقول 119، الدر المنثور 3/ 30. (¬3) هذا الخبر بهذا التفصيل لم أقف عليه بسند صحيح. وإنما ورد في بعض الروايات الضعيفة، وعامتها من المراسيل. فالله تعالى أعلم. قال ابن عاشور معقبا على القول بأنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح: «وهذا أيضا مما لا ينثلج له الصدر؛ لأن عبد الله بن أبي السرح ارتد بعد الهجرة ولحق بمكة، وهذه السورة مكية» اهـ التحرير والتنوير (7/ 375) ..

وكانَ أَخًا لعثمانَ بنِ عفانَ (رضي الله عنه) مِنَ الرضاعةِ، فَأَخْفَاهُ عثمانُ عندَه حتى سَكَنَتِ الحركةُ وَاسْتَأْمَنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَهْ فَأَمَّنَهُ (¬1)، وحَسُنَ إسلامُه، وكانَ وَالِيًا لعثمانَ على جهةِ مصرَ، وهو الذي فَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ، وقتلَ مَلِكَهَا (جرجير)، والذي تَوَلَّى قتلَه عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ كما هو معروفٌ في التاريخِ (¬2). أَنْزَلَ اللَّهُ فيه عندمَا ارْتَدَّ: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 93] ونظيرُه قولُ بعضِ الكفارِ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال: آية 31]. ثُمَّ إن اللَّهَ (جل وعلا) لَمَّا بَيَّنَ أنواعَ الكفرةِ الظالمين باجترائِهم على الكذبِ، كادعائِهم لِلَّهِ الأولادَ والشركاءَ، وكقولِ بعضِهم: إِنَّهُ أُوحِيَ إليه، وكقولِ بعضِهم: إنه قادرٌ على أن يُنْزِلَ مثلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ. بَيَّنَ وَعِيدَهُ لهؤلاء الكفرةِ، قال: {وَلَوْ تَرَىَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ {إِذِ الظَّالِمُونَ} حِينَ الظالمونَ كالذين يفترونَ على اللَّهِ الكذبَ، ويقولونَ: إنهم أُوحِيَ إليهم. أو يقولونَ: سَنُنْزِلُ مثلَ ما أنزلَ اللَّهُ. لو تَرَى حِينَ الظالمونَ أمثالُ هؤلاءِ حينَ هُمْ: {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} غمراتُ ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، حديث (4336، 4337)، (عون المعبود) (12/ 12 - 13)، النسائي في تحريم الدم، باب: توبة المرتد، حديث (4069) (7/ 107)، والحاكم (3/ 45). وانظر: صحيح سنن أبي داود (3/ 823 - 824)، صحيح سنن النسائي (3/ 853). (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 34، 371).

الموتِ: سكراتُه وشدائدُه وكرباتُه. وأصلُ (الغَمْرَةِ) هي مَا يَغْمُرُ الشيءَ، كالماءِ الذي يغمرُ الواديَ فَيُغَطِّيهِ، كُلُّ ما غَمَرَ شَيْئًا حتى غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ (¬1). المصدرُ من ذلك: (غَمْرًا) والمرادُ بـ (غمراتِ الموتِ): شدائدُه وسكراتُه وكرباتُه، حين هُمْ في سكراتِ الموتِ وشدائدِه وكرباتِه. والحالُ: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} بَاسِطُو أيديهم: يعني بَاسِطُوهَا إليهم بالضربِ الوجيعِ، والأَذَى الفظيعِ. والعربُ تُكَنِّي عن السوءِ بـ (بَسْطِ اليدِ)، كقولِه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ} [المائدة: آية 28] وكقولِه: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: آية 2] والدليلُ على أن بسطَ الملائكةِ أيديَهم إليهم أنه للأَذَى والضربِ الوجيعِ: آياتٌ جَاءَتْ بِذَلِكَ، كقولِه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: آية 50] فضَرْبُهُمْ هَذَا لِوُجُوهِهِمْ وَأَدْبَارِهِمْ هو الذي بَسَطُوا إليهم أيديَهم بِهِ فِي قولِه: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} هذا هو الأظهرُ (¬2)، خلافًا لِمَنْ قال: إنهم يَمُدُّونَ أيديَهم إليهم ليأخذُوا أنفسَهم وأرواحَهم من أبدانِهم، كما يَمُدُّ الغريمُ يدَه لغريمِه ليأخذَ حَقَّهُ عليه بِشِدَّةٍ وَعُنْفٍ. وقولُه: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} أَخْرِجُوا أنفسَكم: فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ (¬3): أحدُهما: أن المعنَى: أَخْرِجُوا أيها المُحتضَرونَ أنفسَكم من ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 538)، القرطبي (7/ 41)، الدر المصون (5/ 41). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 538 - 539)، القرطبي (7/ 41)، الأضواء (2/ 203) .. (¬3) انظر: القرطبي (7/ 42).

هذه الكرباتِ إن كانت لَكُمْ قُدْرَةٌ. والمعنَى: لاَ تَقْدِرُونَ على الخروجِ عَمَّا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يفعلَه فيكم. القولُ الثاني: أن روحَ الكافرِ إذا عَلِمَتْ بما لها عِنْدَ اللَّهِ من العذابِ الشديدِ تَفَرَّقَتْ فِي جسدِه وَامْتَنَعَتْ مِنَ الخروجِ، فَهُمْ يقولونَ: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} قَدِّمُوا أَرْوَاحَكُمْ وَأَخْرِجُوهَا مِنْ أَبْدَانِكُمْ لِنَأْخُذَهَا. ثم قال: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} الْهُونُ: هو أَشَدُّ الهوانِ، وهو الذُّلُّ والخزيُ - والعياذُ بِاللَّهِ - وإنما أضافَ العذابَ إلى (الهونِ) لأَنَّهُ عذابٌ موصوفٌ بأن صاحبَه يقعُ عليه أعظمُ الهوانِ وأشدُّه، كَقَوْلِكَ: رَجُلٌ سُوءٌ، وَعَذَابٌ هُونٌ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك (¬1). وقولُه: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أن الذين يفترونَ على اللَّهِ الكذبَ لاَ أحدَ أظلمُ منهم في قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. ثم بَيَّنَ أنهم عندَ الاحتضارِ تَتَوَفَّاهُمُ الملائكةُ، ويبسطونَ أيديَهم إليهم بضربِ الوجوهِ والأدبارِ. ثم بَيَّنَ عِلَّةَ ذلك: {بِمَا كُنْتُمْ} في دارِ الدنيا: {تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} كَادِّعَائِكُمْ لَهُ الأولادَ والشركاءَ، وأنه حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَأَحَلَّ ما لم يُحَلِّلْهُ، وكقولِ بعضِكم إنه أُوحِيَ إليه ولم يُوحَ إليهِ شيءٌ، وكقولِ بعضِ الكفارِ: إنه سَيُنْزِلُ مثلَ ما أنزلَ اللَّهُ. كُلُّ هذا من افتراءِ الكذبِ على اللَّهِ، الذي بَيَّنَ اللَّهُ أنه سببٌ لعذابِه وضربِ الملائكةِ إِيَّاهُ، حيثُ بَيَّنَ العلةَ بقولِه: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} مِنَ افْتِرَاءِ الكذبِ بادعاءِ الأولادِ والشركاءِ، وما ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 43).

جَرَى مَجْرَى ذلك: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} وَكُنْتُمْ عن آياتِه (جل وعلا) إِذَا تُلِيَتْ عليكم تَسْتَكْبِرُونَ، تتكبرونَ عنها وتأنفونَ مِنَ اتِّبَاعِهَا؛ لأَنَّ قادةَ الكفارِ ورؤساءَهم كانوا إِذَا تُلِيَ عليهم القرآنُ وَدُعُوا إلى الدِّينِ قالوا بِجَهْلِهِمْ: نحنُ الآنَ رؤساءُ مَتْبُوعُونَ، كيف نتنازلُ ونكونُ أتباعًا مأمورينَ مَرْؤُوسِينَ؟ لا يكونُ ذلك!! وَلِذَا أَجْرَى اللَّهُ العادةَ أن مَنْ يُنَاصِبُ الرسلَ بالعداوةِ هو أَشْرَافُ الناسِ والمترفونَ منهم، كما صَرَّحَ اللَّهُ به في آياتٍ من كتابِه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: آية 34] وفي حديثِ هرقلَ مع أَبِي سفيانَ الثابتِ في الصحيحِ: أن مَلِكَ الرومِ (هرقلَ) لَمَّا سَأَلَ أَبَا سفيانَ: أَأَشْرَافُ الناسِ يَتَّبِعُونَهُ أم ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قالَ: بَلْ ضعفاؤُهم. قال: أولئك أتباعُ الأنبياءِ (¬1). أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بذلك، وَمِمَّا يوضحُ هذا أن أولَ الأنبياءِ الذين بُعِثُوا إلى الأرضِ بعدَ أن وَقَعَ الكفرُ والإشراكُ بِاللَّهِ: هو نوحٌ (عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ)، كان أتباعُه مِنْ ضُعَفَاءِ قَوْمِهِ؛ وَلِذَا قال له قومُه: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: آية 111] وقالوا لَهُ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: آية 27] وَآخِرُهُمْ نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم -. كذلك قَدَّمْنَا في هذه السورةِ الكريمةِ العظيمةِ - سورةِ الأنعامِ - أن رؤساءَ الكفرةِ قالوا له: لاَ نُجَالِسُكَ حتى تَطْرُدَ عنا هؤلاء النَّتْنَى، يَعْنُونَ ضعفاءَ المسلمين. وقد مَرَّ معنا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فيهم في قولِه: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ¬

(¬1) أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب (6)، حديث رقم: (7)، (1/ 31)، ومسلم في الجهاد والسير، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام. حديث رقم: (1773)، (3/ 1393).

[الأنعام: آية 52] وأنه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ كانَ يجلسُ مَعَهُمْ، فإذا كَانَتْ لَهُ الحاجةُ قَامَ عنهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: آية 28] حتى صَارُوا يقولونَ: قُومُوا عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِيُمْكِنَهُ أن يقومَ لحاجتِه. وَلَمَّا أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بِأَنَّ أولَ مَنْ يُكَذِّبُ الرسلَ وَيُنَاصِبُهُمْ بالعداوةِ الرؤساءُ المترفونَ قال هُنَا فيهم: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}. [10/أ] / {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُم مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: آية 94]. لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه الآياتِ من سورةِ الأنعامِ أنه لا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ ادَّعَى الوحيَ كَذِبًا، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ ادَّعَى أنه قادرٌ على إنزالِ مثلِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أن هؤلاءِ الظالمينَ الذين قالوا هذه المقالاتِ أنهم إذا حَضَرَتْهُمُ الوفاةُ بَسَطَتِ الملائكةُ أيديَهم إليهم بالعذابِ والنكالِ، وقالوا لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: آية 93] بَيَّنَ حالتَهم التي يُبْعَثُونَ عليها، وشدةَ ضَعْفِهِمْ وعدمَ قُوَّتِهِمْ التي كانت هي سببَ تمردِهم فِي الدنيا. وقولُه في هذه الآياتِ: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} يَدْخُلُ في معناه: مَنِ ادَّعَى أنه يُنَظِّمُ للبشريةِ ما يُغْنِيهَا عَنْ نِظَامِ اللَّهِ (جل وعلا) الذي وَضَعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ هذا - والعياذُ بِاللَّهِ - فَقَدِ اتَّبَعَ أحدًا لاَ أظلمَ في الدنيا مِنْهُ - والعياذُ بِاللَّهِ - فالذي يُنْزِلُهُ اللَّهُ لاَ يقدرُ أحدٌ على أن ينزلَ مثلَه. وَمَنِ ادَّعَى أنه ينزلُ مثلَه صَرَّحَ اللَّهُ في هذه الآياتِ الكريمةِ أنه لاَ أحدَ أَلْبتَّةَ أَظْلَمُ منه.

وبهذا تعلمونَ أن الذين يَتَنَطَّعُونَ وَيَدَّعُونَ أنهم يُنَظِّمُونَ للبشريةِ نظامًا أحسنَ مِمَّا أنزلَ اللَّهُ، أنهم يدخلونَ في هذه الآيةِ، وَأَنَّ الملائكةَ سَتَضْرِبُهُمْ عِنْدَ الموتِ. ستضربُ وجوهَهم وأدبارَهم، وتقولُ لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: آية 93] ومعلومٌ أنه لا تشريعَ إلا للسلطةِ الْعُلْيَا. فالسلطةُ العليا الحاكمةُ على كُلِّ شيءٍ هي التي لَهَا الأَمْرُ وَالنَّهْيُ. فهؤلاءِ الذين يَتَمَرَّدُونَ على نظامِ السماءِ، ويحاولونَ قَلْبَ الحكمِ السماويِّ لو جاءَ أحدٌ يريدُ أن يَقْلِبَ الحكمَ عليهم ويحكمَ بغيرِ ما شَرَّعُوا لَقَتَلُوهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، مع أنهم يتجاهرونَ بأن نظامَ خالقِ السماواتِ والأرضِ الحكيمِ الخبيرِ، الذي نَظَّمَ فيه علاقاتِ الدنيا، وَأَوْضَحَ فيه طُرُقَ الخيرِ في الدنيا والآخرةِ، وَأَتْبَعَ فيه متطلباتِ الروحِ بالتربيةِ والتهذيبِ، ومتطلباتِ الجسمِ على الوجوهِ الشرعيةِ، يقولونَ: إِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ، ولاَ يُنَظِّمُ الحياةَ، ولا يسايرُ التطورَ الْحَالِيَّ للحياةِ. الذين يقولونَ هذا والذين يَتَّبِعُونَهُمْ، لاَ شَكَّ أنهم دَاخِلُونَ في هذا الوعيدِ في قولِه: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ}. لأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ ما أنزلَه اللَّهُ: وَضْعُ النظامِ البشريِّ الذي يَمْشِي عليه البشرُ لِيُؤَاخِيَ بينهم، وينشرَ بينهم العدالةَ والطمأنينةَ والرخاءَ والمساواةَ في الحقوقِ الشرعيةِ. قَدْ قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا كثيرةً (¬1): أَنَّ مَنِ ادَّعَى أن هنالك تَنْظِيمًا ينظمُ الحياةَ البشريةَ في الدنيا مثلَ تنظيمِ اللَّهِ أو أحسنَ من تنظيمِ اللَّهِ، أن هذه الدَّعْوَى كُفْرٌ بَوَاحٌ، لاَ يَشُكُّ فيه مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ، والآياتُ المُصَرِّحةُ بذلك بإيضاحٍ كثيرةٌ في القرآنِ العظيمِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من هذه السورة.

(¬1)، منها: أن الشيطانَ لَمَّا جاءَ تلامذتُه مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وجاءهم بوحيِ الشياطين، وقال لهم: سَلُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - عن الشاةِ تُصْبِحُ مَيِّتَةً، مَنْ هُوَ الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا أَجَابَ وَقَالَ: «اللَّهُ قَتَلَهَا». أَوْحَى إليهم الشيطانُ أن قالوا: مَا ذَبَحْتُمُوهُ بأيديكم - يَعْنُونَ الْمُذَكَّى - تقولونَ: حَلاَلٌ. وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ - يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ - تقولونَ: هُوَ حَرَامٌ؟ فَأَنْتُمْ إِذًا أحسنُ مِنَ اللَّهِ؛ حيث كانت ذبيحتُكم أَحَلَّ من ذبيحتِه (¬2)!! فهذه قضيةٌ اخْتَلَفَ الحقُّ والباطلُ فيها في مضغةِ لحمٍ، شاةٌ مَاتَتْ وَلَمْ تُذَكَّ، فجاء تشريعُ الشيطانِ بأنها: حَلاَلٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ذَبَحَهَا، وجاءَ نظامُ الإسلامِ، وتشريعُ السماءِ، على لسانِ سَيِّدِ الخلقِ: أنها حرامٌ؛ لأَنَّهَا لَمْ تُذَكَّ، ولم يُذْكَرْ عليها اسمُ اللَّهِ، فَصَرَّحَ اللَّهُ (جل وعلا) بأن الذين يَتْبَعُونَ قانونَ إبليسَ، ونظامَ الشيطانِ، وَيُحَلِّلُونَ لحمَ الميتةِ الذي حَرَّمَهُ نظامُ السماءِ، أنهم كفرةٌ مُشْرِكُونَ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ جل وعلا: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يعنِي الميتةَ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} يُجَادِلُوهُمْ بوحيِ الشيطانِ: ما ذَبَحْتُمُوهُ حلالٌ وما ذَبَحَهُ اللَّهُ حرامٌ، فَأَنْتُمْ إِذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ. هذا معنَى قولِه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}. ثُمَّ قَالَ - وهو محلُّ الشاهدِ -: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] وإن أَطَعْتُمُوهُمْ في نظامِ إبليسَ في تحريمِ تلك اللحمةِ التي حَلَّلَهَا إبليسُ على لسانِ أَتْبَاعِهِ - بِدَعْوَى شبهةِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وَحَرَّمَهَا اللَّهُ في تشريعِه السماويِّ على لسانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرَّحَ اللَّهُ بأن مَنِ اتَّبَعَ نظامَ إبليسَ وَأَحَلَّ تِلْكَ الميتةَ، وَتَرَكَ نظامَ اللَّهِ الذي هو تحريمُها: أنه مُشْرِكٌ بِاللَّهِ، ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (3/ 439). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 78)، ابن كثير (2/ 171).

كما قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} لأَنَّ الرَّبَّ هو الذي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ، فَمَنِ اتَّبَعْتَ تَحْرِيمَهُ وَتَحْلِيلَهُ فَقَدْ جَعَلْتَهُ رَبَّكَ. وهذا الشركُ: شركُ طاعةٍ ونظامٍ، وقانونٌ في التحريمِ والتحليلِ، وَسَيُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبِيهِ يومَ القيامةِ على رؤوسِ الأشهادِ، وَيُبَيِّنُ مصيرَهم الفظيعَ الشنيعَ من النارِ؛ وذلك أَنَّ اللَّهَ يقولُ لِمَنْ كانوا يَتَّبِعُونَ نُظُمَ الشيطانِ وقوانينَه التي شَرَعَهَا على ألسنةِ أوليائِه، تَارِكِينَ نظامَ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ خالقُ الخلقِ على لسانِ نَبِيِّهِ، يقولُ اللَّهُ لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: الآية 60] يعني: باتباعِ نظامِه وتشريعِه وقانونِه: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} والجِبِلُّ الكثيرُ الذي أَضَلَّهُ: هم الذين يَتَّبِعُونَ تَزْيِينَهُ فِي المعاصِي وتشريعِه ونظامِه المخالفِ لتشريعِ السماءِ ونظامِ خالقِ الكونِ: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} لا عقولَ لكم حيث تَتَّبِعُونَ نظامَ إبليسَ، وتتركونَ نظامَ خالقِكم (جل وعلا)، ثُمَّ قال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 60 - 65] وَقَالَ اللَّهُ (جل وعلا) عن نَبِيِّهِ إبراهيمَ أنه يقولُ لأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} يعني بقولِه: {لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} لا تَتَّبِعْ نظامَه وتشريعَه بالكفرِ والمعاصِي {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: آية 44]. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ (جل وعلا) الذين يُطَاعُونَ في معصيةِ اللَّهِ، سَمَّاهُمْ (شركاءَ) في هذه السورةِ الكريمةِ، سورةِ الأنعامِ، في قولِه جل وعلا: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: آية 137] فَسَمَّاهُمْ (شركاءَ) لَمَّا

أَطَاعُوهُمْ في التحليلِ من قتلِ الأولادِ، وقال جل وعلا: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا. وعبادتُهم له هي: اتباعُ تشريعِه، وقد بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا البيانَ لَمَّا سَأَلَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ (رضي الله عنه) عن قولِه تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] قَالَ عَدِيُّ للنَّبِيِّ: كيفَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ قال: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟» قال: بَلَى، قال: «بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا» (¬1). وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ (جل وعلا) في سورةِ النساءِ أن مَنْ يَدَّعِي الإسلامَ ويزعمُ أنه مؤمنٌ، ثم يريدُ التحاكمَ إلى الطاغوتِ مِنْ تشاريعِ الشيطانِ، أن دَعْوَاهُ للإيمانِ مع ذلك بالغةٌ مِنَ الكذبِ والبطلانِ ما يَسْتَوْجِبُ التعجبَ منها، وذلك في قولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: آية 60]. والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ، وعلى كُلِّ حالٍ فَعَلَيْنَا جميعًا نحنُ المسلمينَ أن نعرفَ ونعتقدَ أنه لا تشريعَ إلا لخالقِ السماءِ والأرضِ، فالحلالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، والأمرُ أَمْرُ اللَّهِ، والنهيُ نَهْيُ اللَّهِ، وِالْحَسَنُ مَا حَسَّنَهُ اللَّهُ، والقبيحُ مَا قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ نِظَامٍ وَتَشْرِيعٍ غَيْرِ تَشْرِيعِ السماءِ وبالٌ وويلٌ على صاحبِه - والعياذُ بِاللَّهِ جل وعلا - وَلِذَا أولئك يدخلونَ في قولِه هنا: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 93]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ، أن أولئك الْمُسْتَكْبِرِينَ في دارِ الدنيا، الذين يستكبرونَ عَنْ آياتِه، الذين كان لَهُمْ في الدنيا خَدَمٌ وَحَشَمٌ وَأَتْبَاعٌ، وَأُبَّهَةٌ، أنهم يومَ القيامةِ يُبْعَثُونَ وَيُعْرَضُونَ إلى رَبِّهِمْ لاَ أَتْبَاعَ لَهُمْ، ولاَ حَشَمَ وَلاَ خَدَمَ حتى وَلاَ نِعَالَ وَلاَ ثِيَابَ، كُلُّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: آية 111] {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: آية 94] لأَنَّ الإنسانَ يَخْرُجُ مِنْ بطنِ أُمِّهِ وحيدًا فريدًا، لاَ مالَ لهُ حَافِيًا عَارِيًا لاَ نِعَالَ لَهُ وَلاَ لِبَاسَ، غَيْرُ مَخْتُونٍ، لاَ خدمَ لَهُ، ولاَ حَشَمَ، كذلك يخرجُ مِنْ قَبْرِهِ وحيدًا فريدًا متجردًا مِنَ الأُبَّهَةِ التي كَانَ فِيهَا، ليس معَه خادمٌ، ولا وزيرٌ، ولا مالٌ، ولا نعلٌ، ولا لباسٌ، يُحْشَرُونَ يومَ القيامةِ حفاةً عُراةً غُرْلاً. أي: غَيْرَ مَخْتُونِينَ؛ وَلِذَا يقولُ اللَّهُ لِلَّذِينَ يستكبرونَ ويكفرونَ - كانوا يَجْمَعُونَ في دارِ الدنيا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: التكبرُ، والتعاظمُ، وعدمُ الإذعانِ لآياتِ اللَّهِ والإيمانِ به، ويزعمونَ أن الأصنامَ التي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهَا تشفعُ لهم يومَ القيامةِ، وَتُنَجِّيهِمْ من كرباتِ يومِ القيامةِ، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ العظيمَ - قال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} هُوَ مَجِيئُهُمْ يومَ القيامةِ مَحْشُورِينَ مَعْرُوضِينَ على خَالِقِهِمْ (جل وعلا) {فُرَادَى} الفُرَادَى: جَمْعُ فَرْدٍ أو فَرَدٍ. خلافًا لِمَنْ قال: إِنَّ وَاحِدَهُ (الفَرْدَان) كالسكرانِ والسكارى. وَوَاحِدُهُ في الحقيقةِ: الفَرْدُ والفَرَدُ، وتقولُ: هو فَرْدٌ وفَرَدٌ، إذا كان واحدًا (¬1). وَرُبَّمَا قيل فيه: فَرِدٌ، وَيُرْوَى بهما معًا قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 204). (¬2) مضى عند تفسير الآية (71) من سورة البقرة.

كَأَنَّ رَحْلِي وقَدْ زَالَ النَّهارُ بِنَا بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنَسٍ وَحَدِ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٌّ أَكَارِعُهُ طَاوِي الْمُصَيْرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ وَيُرْوَى: الفَرِدِ (¬1)، وَالْفَرَدُ: هو الوحيدُ الذي لا شيءَ مَعَهُ، {جِئْتُمُونَا فُرَادَى} كُلُّ وَاحِدٍ منكم فَرْدًا بمفردِه، ليس مَعَهُ مالٌ، ولا ولدٌ، ولاَ حشمٌ، ولاَ خَدَمٌ، حتى إنه حَافٍ عَارٍ لَيْسَ بِمَخْتُونٍ (¬2). وهذا معنَى: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. وفي إعرابِ (الكافِ) من (كَمَا خَلَقْنَا) وجهانِ مِنَ الإِعْرَابِ (¬3): أحدُهما: أنه في مَحَلِّ نصبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ. والمعنَى: جِئْتُمُونَا مجيئًا مُشَابِهًا لِخَلْقِنَا لكم أَوَّلاً في التجردِ عن المالِ والأعوانِ والحشمِ والخدمِ. الثاني: أنه في مَحَلِّ الحالِ. أي: جِئْتُمُونَا فُرَادَى في حالِ كونِكم مُشَابِهِينَ حالتَكم الأُولَى التي وُلِدْتُمْ عليها؛ لأَنَّ الواحدَ منكم يخرجُ من بطنِ أُمِّهِ فَرْدًا لاَ مالَ له، ولا ولدَ، ولا حشمَ ولا خدمَ. وهذا معنَى: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} العربُ تقولُ: «خَوَّلَهُ» إذا أَعْطَاهُ وَأَنْعَمَ عليه، {مَّا خَوَّلْنَاكُمْ}: أَيْ: ما أَعْطَيْنَاكُمْ، وَأَنْعَمْنَا عليكم بِهِ مِنَ المالِ والخَوَلِ والخدمِ تَرَكْتُمُوهُ وراءَكم، أي: خَلْفَكُمْ، حيث مُتُّمْ عنه ولم يَأْتِ مَعَكُمْ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 543 - 544)، المفردات (مادة: فرد) 629، القرطبي (7/ 42)، الدر المصون (5/ 44 - 45). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 543)، البحر المحيط (4/ 182)، القرطبي (7/ 42 - 43)، الأضواء (2/ 204). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 182)، الدر المصون (5/ 45).

ثُمَّ قَالَ: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} الشفعاءُ الذين كُنْتُمْ تزعمونَ أنهم شركاءُ لنا فيكم، وَأَنَّ نصيبًا لهم مِنْ حُقُوقِنَا، وتعبدونَهم معنا، وتزعمونَ أنهم يشفعونَ لكم، ما نَرَاهُمْ معكم. وهذا توبيخٌ لهم - والعياذُ بِاللَّهِ - كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: آية 18]. وقولُه: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فيه قِرَاءَتَانِ (¬1): {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}، {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنُكُمْ} فَعَلَى قراءةِ: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنُكُمْ} فـ (البَيْنُ) من الأضدادِ يُطْلَقُ على البُعْدِ وعلى الوصلِ. والمعنَى: تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ، والوصالاتُ: الاتصالاتُ التي كانت بينَكم، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: آية 166]، الوصلاتُ التي كانت بينَهم في الدنيا تَنْقَطِعُ يومَ القيامةِ، كما قَالَ اللَّهُ في سورةِ العنكبوتِ: {مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفي القراءةِ الأُخْرَى: {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} [العنكبوت: آية 25] (¬2). وعلى قراءةِ: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فبعضُ العلماءِ يقولُ: فاعلُ الفعلِ هو المصدرُ (لَقَدْ تَقَطَّعَ هُوَ) أي: التقطعُ، أي: وَقَعَ التقطعُ بينَكم، وبعضُ العلماءِ يقولُ: أَصْلُهُ (لقد تقطع ما بينَكم)، وهو في بعضِ القراءاتِ الشاذةِ (¬3). ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 199. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص344. وفي الآية قراءات أخرى غير ما ذُكر. (¬3) انظر: حجة القراءات 261 - 262، ابن جرير (11/ 549)، القرطبي (7/ 43)، البحر المحيط (4/ 172)، الدر المصون (5/ 48).

ومعنَى القراءتين واحدٌ (¬1)؛ ذلك لأَنَّ الْعَابِدِينَ والمعبودين يومَ القيامةِ يَتَعَادَوْنَ غايةَ المعاداةِ (¬2)، كما قال الله جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: الآيتان 81، 82] وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: الآيتان 5، 6] وهذا هو معنَى قولِه هنا: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُم مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}. قد بَيَّنَّا مِرَارًا (¬3) أن (الضلالَ) في القرآنِ وفي لغةِ العربِ يُطْلَقُ على معانٍ متعددةٍ، منها: يُطْلَقُ الضلالُ على (الغَيْبُوبَةِ والاضمحلالِ)، كما هنا. فَكُلُّ ما غَابَ واضمحلَّ تقولُ العربُ فيه: (ضَلَّ). ومنه قولُه هنا: {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي: غابَ واضمحلَّ، ولم يُوجَدْ معكم، كما قال: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] يَعْنُونَ: أن الأرضَ أَكَلَتْ عظامَهم فَاخْتَلَطَتْ بها، فَذَهَبَتْ بها، وَاضْمَحَلَّتْ فيها، كما تقولُ العربُ: ضَلَّ السَّمْنُ في الطعامِ. وهو معنًى مشهورٌ فِي كلامِ العربِ، ومنه قولُ الأَخْطَلِ (¬4): كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبدٍ ... قَذَفَ الأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلاَلاَ أَيْ غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنهُ تقولُ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 549)، القرطبي (7/ 43). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 204) .. (¬3) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬4) مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.

العربُ للدفنِ إِضْلاَلاً، تقولُ: أَضَلُّوهُ إِذَا دَفَنُوهُ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجَوْلاَنِ حَزْمٌ وَنَائِلُ وقولُه: {وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي: غَابَ، وَذَهَبَ وَاضْمَحَلَّ عَنْكُمْ، مَا كُنْتُمْ تفترونَه من أن هذه الأصنامَ أنها تشفعُ لكم، وتنقذُكم من كرباتِ يومِ القيامةِ. وهذا توبيخٌ من اللَّهِ (جل وعلا)، وهذا التوبيخُ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بمثلِه في سورةِ الكهفِ، وَزَادَ توبيخَهم بأنهم كانوا يُنْكِرُونَ هذا البعثَ، كما قال: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} [الكهف: آية 48]. ثم بَيَّنَ أنه إِذَا جَمَعَهُمْ فُرَادَى يَجِدُونَهُ مَحْصِيًّا عليهم جميعَ أعمالِهم، كما قال بعدَه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: آية 49] فالناسُ يومَ القيامةِ يُحْشَرُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بمفردِه، لا مالَ معه، ولاَ خدمَ، ولاَ حشمَ، والدليلُ على أَنَّ (الفُرَادَى) وَاحِدُهُ فَرْدٌ أو فَرَدٌ: قولُه في سورةِ مريمَ: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: آية 95]، دَلَّ ذلك على أنه وَاحِدُ قولِهِ هنا: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، والعربُ تقولُ: تَرَكْتُ هذا وراءَ ظَهْرِي. يعني: خَلْفِي. أي: تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْنَاكُمْ خَلْفَكُمْ، أي: وراءَ ظهورِكم حيث ارْتَحَلْتُمْ عنه في الدنيا، فَعَلَى الإنسانِ أن لا يتركَ - أَعْنِي خلفَ ظهرِه - ما خَوَّلَهُ اللَّهُ، وأن ما أعطاهُ اللَّهُ يقدمُه لآخِرَتِهِ بِصَرْفِهِ فِي وُجُوهِ الخيرِ، والاستعانةِ بِهِ على ما يُرْضِي اللَّهَ جل وعلا. ¬

(¬1) السابق.

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)} [الأنعام: الآيات 95 - 97]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: الآيتان 95، 96]. بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه الآياتِ عجائبَ صُنْعِهِ الدالةَ على أنه المعبودُ وَحْدَهُ، القادرُ على كُلِّ شَيْءٍ. وهذه مع أنها آياتٌ، فهي نِعَمٌ عِظَامٌ، فهو يُذَكِّرُ الخلقَ بنعمِه العِظَامِ، وآياتِه العظامِ. وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: آية 95] الفَلْقُ في لغةِ العربِ معناهُ: الشّقُّ (¬1). وفي هذه الآيةِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ معروفة من التفسيرِ (¬2): أَشْهَرُهَا وعليه الجمهورُ، وهو ظاهرُ القرآنِ العظيمِ الذي دَلَّ عليه بعضُ القرائنِ أن معنَى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} إن اللَّهَ (جل وعلا) فَالِقُ الْحَبِّ، يفلقُ حَبَّ القمحِ - مثلاً - إذا بُذِرَ في الأرضِ يفلقُه ويشقُّه عن سنبلةٍ فيها مئاتُ الْحَبِّ، ويفلقُ النواةَ. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: فلق) 645، الدر المصون (5/ 56). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 550)، القرطبي (7/ 44)، البحر المحيط (4/ 184).

{وَالنَّوَى} جمعُ نواةٍ، وقيل: هو اسمُ جمعٍ (¬1) للنواةِ (¬2)، كَنَوَى التمرِ وغيرِه، فَكُلُّ ثَمَرٍ في داخلِه عجمٌ يُسَمَّى: نَوًى. فإن الإنسانَ يَبْذُرُ النواةَ فِي الأرضِ - نواةَ النخلةِ مثلاً، وهي صلبةٌ قاسيةٌ - فيشقُّها اللَّهُ، وَيُخْرِجُ منها هذه النخلةَ، هذه الشجرةَ العظيمةَ، ذاتَ الخوصِ، وذاتَ العيدانِ، وَيُنْبِتُ من تلك النخلةِ تَمْرًا أيضًا، فالذي يشقُّ الحبةَ إذا بُذِرَتْ في الأرضِ، ويُخْرِجُ منها سنبلةً، ويشقُّ النواةَ، وَيُخْرِجُ منها نخلةً، أو شجرةً أخرى - إذا كانت نواةً غيرَ نواةِ النخلِ - مَنْ يفعلُ هذه الأفعالَ التي تشاهدونَها فهو العظيمُ القادرُ على كُلِّ شَيْءٍ، وهو الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا)، فَعَلَى هذا الوجهِ الذي عليه جمهورُ المفسرين يُذَكِّرُنَا اللَّهُ بعظمتِه، وكمالِ قدرتِه، حيث يُنْبِتُ السنبلةَ من الحبةِ، والنخلةَ من النواةِ، فَمَنْ يفعلُ هذا فهو عظيمٌ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، وكأنه يشيرُ إلى أن ذلك السنبلَ الذي يُفْلَقُ عنه الْحَبَّةُ هو معيشتُنا التي لا نَسْتَغْنِي عنها، فكما أنه من باهرِ آياتِه فهو من نِعَمِهِ العُظْمَى علينا، وقد أَوْجَبَ اللَّهُ على كُلِّ إنسانٍ مِنَّا أن ينظرَ في هذا؛ لأَنَّ اللَّهَ قال بصيغةِ أَمْرٍ تقتضي الوجوبَ، في سورةِ عبسَ قال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: آية 24] فأوجبَ على الإنسانِ بصيغةِ الأمرِ النظرَ إلى طعامِه، ومعناه: كأنه يقولُ: أيها الإنسانُ انْظُرْ إلى طعامِك، انْظُرْ إلى الخبزِ الذي تأكلُه، مَنْ هو الذي خَلَقَ الماءَ الذي أَنْبَتَهُ اللَّهُ بسببِه؟ أَيَقْدِرُ أحدٌ غيرُه على أن يخلقَ الماءَ؟! لاَ، هَبْ أن الماءَ خُلِقَ، مَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه على هذا ¬

(¬1) في عمدة الحفاظ (599) والدر المصون (5/ 57): (اسم جنس). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 550)، القرطبي (7/ 44)، الدر المصون (5/ 57)، عمدة الحفاظ (مادة: نوى) 599.

الأسلوبِ العجيبِ رشاشا يَسْقِي الأرضَ من غيرِ أن يَضُرَّ بأحدٍ، لا يقدرُ على هذا إلا اللَّهُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ} يعني المطرَ {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43] مِنْ فُتُوقِ السحابِ ومخارجِه رشاشًا؛ لأنه لو نَزَلَ مُجْتَمِعًا لأَهْلَكَ ما سَقَطَ عليه. هَبْ أن الماءَ خُلِقَ، وأنه أُنْزِلَ إلى الأرضِ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ حتى شَرِبَتِ الأرضُ وَرَوِيَتْ، مَنْ هو الذي يقدرُ على شَقِّ الحبةِ عن السنبلةِ أَوَّلاً، ثم على شَقِّ الأرضِ وإخراجِ مسمارِ النباتِ منها؟ هَبْ أن مسمارَ النباتِ خُلِقَ؟ مَنْ هو الذي يقدرُ أن يُخْرِجَ منه السنبلةَ؟ هَبْ أن السنبلةَ خَرَجَتْ، مَنْ هو الذي يقدرُ على تنميةِ حَبِّهَا؟ وَنَقْلِهِ من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ، حتى يصيرَ صَالِحًا مُدْرِكًا، صَالِحًا للأَكْلِ؟ {انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 99] هذا ذَكَرَهُ اللَّهُ بقولِه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}. وفي القراءةِ الأُخْرَى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (¬1) [عبس: الآيتان 24، 25] يعني: فَسَقَيْنَا به الأرضَ، ثم شَقَقْنَا الأرضَ عن النباتِ شَقًّا بعدَ أن شَقَقْنَا الحبةَ عن السنبلةِ، كما قال هنا: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} هذه غرائبُ صنعِ اللَّهِ وعجائبُه يُبَيِّنُهَا لِخَلْقِهِ، ويذكرُهم بنعمتِه ليعلموا عظمةَ من خلقِهم (جل وعلا) فيعبدوه وَيُنِيبُوا إليه. هذا معنَى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ} يعني: فالقُ الْحَبِّ عن السنبلِ، وفالقُ النَّوَى عن الشجرِ، كالنخلِ مثلاً. هذا مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وعجائبِ قدرتِه، وَمِنْ نِعَمِهِ الْعُظْمَى عليكم، حيثُ أَنْبَتَ لكم الحبوبَ والثمارَ لِتَأْكُلُوا منها. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 462.

وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} هذا التفسيرُ هو الذي عليه جمهورُ المفسرين، وهو المعروفُ عن علماءِ السلفِ والخلفِ، وفي الآيةِ قولانِ آخَرَانِ: أحدُهما: أن معنَى كونِه فالقَ الحبِّ والنَّوَى: أن حبةَ القمحِ مثلاً فيها شِبْهُ شَقٍّ فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا، والنواةُ فيها شَقٌّ في جَانِبِهَا، أنه هو الذي جَعَلَ ذلك الشقَّ في الْحَبِّ، وجعلَه في النَّوَى لِيُرِيَ الناسَ كمالَ قُدْرَتِهِ. الوجهُ الثاني: هو ما ذَكَرَهُ بعضُ أهلِ العلمِ: أن الفلقَ والفطرَ والخلقَ كُلُّهَا مترادفةٌ. فمعنَى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أي: خالقُ الْحَبِّ والنوى وغير ذلك. والأولُ هو أَشْهَرُهَا. وقولُه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} فقولُه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالتفسيرِ لقولِه: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} لأَنَّ الحبةَ اليابسةَ كأنها مَيِّتَةٌ، وَكُلُّ شيءٍ يَنْمُو ويتزايدُ تُسَمِّيهِ العربُ حَيًّا؛ وَلِذَا يُسَمُّونَ النباتَ حَيًّا؛ لأنه ينمو، وَيُسَمُّونَ اليابسَ منه - الذي لاَ يَنْمُو - يُسَمُّونَهُ مَيْتًا. ومن هنا كانوا يقولونَ للأرضِ الجدبةِ القاحلةِ: مَيْتَةً؛ لأَنَّ نَبَاتَهَا يابسٌ لاَ يَنْمُو، فإذا نَبَتَ فيها النباتُ الأخضرُ النَّامِي سَمَّوْهَا: حيةً. كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس: الآيات 33 - 35]. وَلِذَا قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الْحَيُّ هنا: هو السنبلُ الأخضرُ النَّامِي، والنخلُ والشجرُ الأخضرُ النامي يُخْرِجُهُ اللَّهُ من

ذلك الميتِ اليابسِ الذي لاَ يَنْمُو، وهو الْحَبُّ اليابسُ، أو النَّوَى اليابسُ، وكذلك يُخْرِجُ اللَّهُ النطفةَ - وهي ميتةٌ - يُخْرِجُهَا من الْحَيِّ الذي هو الإنسانُ، والبيضةَ من الدجاجةِ. فقولُه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي يُخْرِجُ الناميَ من النباتِ والحيواناتِ من الميتِ وهو بِذْرُ النباتِ اليابسِ الذي لاَ يَنْمُو بِذَاتِهِ، وكذلك ما يَخْرُجُ من الإنسانِ، كالنطفةِ فإنها لا تَنْمُو بنفسِها إلا أن اللَّهَ (جل وعلا) يُخْرِجُ منها الْحَيَّ، كما قال: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} المعنَى: أن اللَّهَ (جل وعلا) يُخْرِجُ الْحَيَّ الناميَ كالنخلةِ، والسنبلةَ من الحبةِ، والنَّوَى، ويخرجُ الإنسانَ من النطفةِ، والدجاجةَ من البيضةِ مثلاً، كما أنه يُخْرِجُ الميتَ من الحيِّ، يُخْرِجُ أيضًا ذلك الزرعَ الميتَ من الحيِّ الذي هو النباتُ، ويخرجُ الثمرَ من الشجرِ الذي هو النَّامِي، كما يُخْرِجُ أيضًا النطفةَ والبيضةَ من الحيِّ الذي هو الإنسانُ والدجاجةُ. هذا معنَى قولِه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} وهذا هو الذي عليه جمهورُ المفسرين، خِلاَفًا لِمَنْ قال: إنه يُخْرِجُ الكافرَ من المؤمنِ، والمؤمنَ مِنَ الكافرِ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك (¬1). القولُ الأولُ هو المشهورُ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عَرَبِيٌّ: وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} بصيغةِ المضارعِ، وَعَطَفَ عليه قولَه: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} بصيغةِ اسمِ الفاعلِ، فما النكتةُ العربيةُ في عطفِ اسمِ الفاعلِ هنا على المضارعِ؟ وَلِمَ لاَ يُعطف عليه مضارعا آخر؟ كما فَعَلَ في سورةِ آلِ عمرانَ حيث قال: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 553)، القرطبي (4/ 56)، (7/ 44).

وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران: آية 27]. عن هذا السؤالِ للعلماءِ وَجْهَانِ (¬1): أحدُهما: أن قولَه: {وَمُخْرِجُ} معطوفٌ على اسمِ الفاعلِ، وعليه فالمعنَى: إِنَّ اللَّهَ فالقُ الْحَبِّ والنوى، ومخرجُ الميتِ من الحيِّ. فهو اسمُ فاعلٍ معطوفٌ على اسمِ فاعلٍ؛ لأَنَّ قولَه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كأنه تفسيرٌ لقولِه: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} فجاءَ باسمِ الفاعلِ في {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} وَفَسَّرَهُ بأن معناه: يُخْرِجُ الحيَّ من الميتِ. أي: يخرجُ النخلةَ التي هي ناميةٌ حَيَّةٌ من النواةِ التي هي ميتةٌ، والسنبلةَ التي هي ناميةٌ حَيَّةٌ من الحبةِ التي هي ميتةٌ. وإذا كان قولُه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالتفسيرِ لقولِه: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} يكونُ قولُه: {وَمُخْرِجُ} عطفًا عَلَى {فَالِقُ} فهو اسمُ فاعلٍ معطوفٌ على اسمِ فاعلٍ. وعلى هذا فالتقديرُ: إن اللَّهَ فالقُ الحبِّ وَالنَّوَى. أَيْ: مُخْرِجُ الحيِّ من الميتِ، ومخرجُ الميتِ مِنَ الْحَيِّ. الوجهُ الثاني: هو أن عطفَ اسمَ الفاعلِ على الفعلِ، وعطفَ الفاعلِ على الاسمِ المشتقِّ، كلها أساليبُ معروفةٌ في القرآنِ وَفِي لغةِ العربِ. ومن أمثلةِ عَطْفِ الفعلِ على اسمِ الفاعلِ: قولُه جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: آية 19] لَمْ يَقُلْ: وقابضات، وقولُه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} [العاديات: الآيات 1 - 4] وَلَمْ يَقُلْ: ¬

(¬1) انظر: ملاك التأويل (1/ 295)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 57).

فالمثيرات. وكذلك عَكْسُهُ، وهو: عطفُ الاسمِ على الفعلِ - اسمُ الفاعلِ على الفعلِ - أَمْرٌ معروفٌ موجودٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ (¬1): بَاتَ يُغَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرٍ يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرُ فقوله: «جائر» معطوف على «يقصد» بمعنَى: قاصدٍ وجائرٍ. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ. {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} ثم إِنَّ اللَّهَ لَمَّا نَبَّهَنَا على عظمتِه وكمالِ قدرتِه، وأنكَ أيها الإنسانُ [تشاهدُ أَنَّكَ] (¬2) تبذرُ حبةً في الأرضِ، فيُخرجها لكَ سنبلةً خضراءَ فيها مئاتُ الْحَبِّ، وتبذرُ نواةً في الأرض فيُخرج لكَ منها نخلةً ذاتَ أغصانٍ، وذاتَ خُوصٍ وَجَرِيدٍ، وذاتَ ثَمَرٍ، وهذا من أبدعِ صُنْعِهِ (جل وعلا)، دَالٌّ على أنه الربُّ وحدَه. قال بعدَ هذه الآياتِ: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْنَ تُصْرَفُونَ عن النظرِ في هذا؟ كيف تُشَاهِدُونَ غرائبَ صُنْعِهِ وعجائبِها الدالةِ على كمالِ قدرتِه، وَتُسَوُّونَ به غيرَه، وتعبدونَ معه ما لاَ ينفعُ ولا يَضُرُّ؟ أين تصرفون؟ وأين تذهبُ عقولُكم عن أفعالِ رَبِّكُمُ العظيمةِ الدالةِ على أنه المعبودُ وحدَه؟ و {تُؤْفَكُونَ} مضارعٌ مبنيٌّ للمفعولِ، من (أَفَكَه يَأْفِكُهُ) إذا قَلَبَهُ، العربُ تقولُ: «أَفَكَ الأَمْرُ يَأْفِكُه» إذا قَلَبَهُ، ومنه قِيلَ لِقُرَى قومِ لوطٍ: (المؤتفكات) لأَنَّ جبريلَ أَفَكَهَا، أي: قَلَبَهَا فجعلَ عاليَها سافلَها، ومن هنا قيل للكذبِ: إِفْكٌ؛ لأَنَّ الإفكَ أسوأُ الكذبِ، لأَنَّهُ صَرْفٌ للكلامِ عن وَجْهِهِ الحقيقيِّ إلى وَجْهِهِ الباطلِ. فمعنَى: ¬

(¬1) البيت في البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (3/ 178). (¬2) في الأصل: "تشاهدك".

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أين تُصْرَفُونَ وتقلبونَ عن هذه البراهين والآياتِ العظيمةِ الدالةِ على عظمةِ رَبِّكُمْ وجلالِه، وأنه المعبودُ وحدَه جل وعلا. [10/ب] / {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: آية 96]. {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} قرأ هذا الحرفَ القراءُ السبعةُ ما عدا الكوفيين: {وجاعِلُ الليل سكنًا} وَقَرَأَهُ الكوفيون - حمزةُ والكسائيُّ وعاصمٌ-: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} بصيغةِ الفعلِ الماضي (¬1). وإعرابُ {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} فيه للعلماءِ ثلاثةُ أوجهٍ لاَ يُكَذِّبُ بعضُها بَعْضًا (¬2): أحدُها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٌ. أي: هو (جل وعلا) فالقُ الإصباحِ. الثاني: أنه نَعْتٌ لِلرَّبِّ في قولِه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} اللَّهُ فالقُ الإصباحِ. فهو نعتٌ لاسمِ الجلالةِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو خَبَرٌ آخَرُ لقولِه: {إِنَّ} {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} والخبرُ يتعددُ للمبتدإِ، وإذا دَخَلَتْ (إن) على مبتدإٍ متعددِ الخبرِ: تَعَدَّدَتْ الأخبارُ لها، والمعنَى كُلُّهُ على هذه الأعاريبِ الثلاثةِ معنًى وَاحِدٌ. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران 199. (¬2) انظر: فتح القدير (2/ 143).

ومعنَى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} الإصباحُ: أصلُه مصدرُ (أَصْبَحَ يُصْبِحُ إِصْبَاحًا)، إذا جاء ضوءُ النهارِ مِنْ بَعْدِ ظَلاَمِ اللَّيْلِ (¬1). وعامةُ القراءِ السبعةِ قرؤوا: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} بكسرِ الهمزةِ. مصدرُ (أَصْبَحَ، يُصْبِحُ، إِصْبَاحًا). وهو مصدرٌ سُمِّيَ به، [والعربُ] (¬2) تقولُ للصبحِ: إصباحًا، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ امرئِ القيسِ (¬3): أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِ بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ فَبَيَّنَ أنه يقصدُ بالإصباحِ: الصبحَ، فأصلُه مصدرُ (أَصْبَحَ، يُصْبِحُ، إِصْبَاحًا). وهناك قراءةٌ شاذةٌ قرأ بها الحسنُ وغيرُه: (فالقُ الأصباحِ وجاعلُ الليلِ سكنًا) هذه شاذةٌٌ غيرُ سبعيةٍ, هي معروفةٌ عن الحسنِ وغيرِه (¬4). القراءةُ: (الأصباح) بفتحِ الهمزةِ جَمْعُ (صبح)، والعربُ تقولُ: «أصباحٌ، وأَمْساء». جَمْعُ (صبح، ومساء). و «إصباح وإمساء»، مصدرُ (أصبح، وأمسى) وهو كلامٌ معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ (¬5): ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 554)، القرطبي (7/ 44)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 58). (¬2) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها المعنى. (¬3) ديوان امرئ القيس، ص117. (¬4) انظر: ابن جرير (11/ 557)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 58). (¬5) البيت في البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 59) وشطره الأول فيهما هكذا: «أفنى رياحا وبني رياح».

أَرْبَى رَبَاحًا وَبَنِي رَبَاحِ ... تَنَاسُخُ الأَمْسَاءِ وَالأَصْبَاحِ وَيُرْوَى: . . . . . . . . . . . . . . . ... تَنَاسُخُ الإِمْسَاءِ وَالإِصْبَاحِ وعلى قراءةِ الجمهورِ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} معناها: مُبْدِي ضَوْءِ الصبحِ بعدَ ظلامِ الليلِ. وفي هذا المعنَى سؤالٌ معروفٌ، لطالبِ العلمِ أن يقولَ: اللَّهُ ذَكَرَ هنا أن الإصباحَ هو الذي يفلقُه اللَّهُ. والذي يُفْلِقُ في الحقيقةِ: الظلامُ، هو الذي يُفْلِقُ وَيُشق عن نورِ الصباحِ، أما كونُ نورِ الصباحِ هو الذي يُفلق ويُشقُّ فهذا فيه إشكالٌ، فيه سؤالٌ معروفٌ للعلماءِ. وللعلماءِ عن هذا السؤالِ أَجْوِبَةٌ (¬1): منها قولُ بعضِهم: الكلامُ على حذفِ مُضَافٍ: فالقُ ظلمةِ الإصباحِ. وأنه حَذَفَ المضافَ إليه، ولا يَخْلُو مِنْ بُعْدٍ؛ لأَنَّ هذا المضافَ لَمْ تَحْتَفَّ بِهِ قَرِينَةٌ. وقال بعضُ العلماءِ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} لأَنَّ الإصباحَ يبدأُ شعاعُ الصبحِ أَوَّلاً وتحتَه ظلامٌ، وَلَمْ يُسْفِرْ إِسْفَارًا تَامًّا يكشفُ الظلامَ كَشْفًا كُلِّيًّا، ثم ينصدعُ ذلك الإصباحُ انصداعًا كُلِّيًّا عن ضوءِ النهارِ كما ينبغي، وهذا معروفٌ ومنه قولُ أَبِي تَمَّامٍ (¬2): وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أَبْيَضِهِ وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطَرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 60). (¬2) البيت في مشاهد الإنصاف (ملحق بالكشاف 4/ 11)، الدر المصون (5/ 60).

فعلى هذا القولِ: أن الإصباحَ يَبْدُو أَوَّلاً وهو مختلطٌ بِغَلَسِ الظَّلاَمِ، ثم إن اللَّهَ يشقُّ ذلك الإصباحَ الذي بَدَأَتْ أوائلُه مختلطةً بالظلامِ شَقًّا واضحًا عَنْ وَضَحِ النهارِ، وهذا هو المعروفُ، أن الظلامَ سواء كان ظلامًا دَامِسًا، أو ظَلاَمًا مختلطًا ببعضِ ضوءِ الصبحِ، هو الذي يُشقُّ عن الصباحِ كما هو معروفٌ، ومنه قولُ أَبِي نواس (¬1): تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَى عَنْ أَدِيمِهَا تَفرِّيَ لَيْلٍ عَنْ ضِيَاءِ نَهَارِ هذا هو المعروفُ، وهم إما يُقَدِّرونَ مضافًا فيقولونَ: فَالِقُ ظلمةِ الإصباحِ. أي: شَاقُّهَا بضوءِ الصبحِ، أو {فَالِقُ الإِصْبَاحِ}. أي: أوائلُ الإصباحِ المختلطةِ بغَلَسِ الظلامِ، فَالِقُهَا وَشَاقُّهَا عن النورِ، نورِ النهارِ الحقيقيِّ. وقولُه: {وجاعِلُ الليلِ سكنًا} على قراءةِ: {وجَاعِلُ الليلِ سكنًا} فلاَ إشكالَ، اسمُ فاعلٍ معطوفٌ على اسمِ فاعلٍ. وعلى قراءةِ: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} (¬2) هو مِمَّا كُنَّا نقولُ: إن الاسمَ إذا كان مُشْتَقًّا - كاسمِ الفاعلِ هنا - يُعْطَفُ عليه الفعلُ، وَيُعْطَفُ هو على الفعلِ، كما قال في الخلاصةِ (¬3): وِاعْطِفْ عَلَى اسْمٍ شِبْهِ فِعْلٍ فِعْلاَ ... وَعَكْسًا اسْتَعْمِلْ تَجِدْهُ سَهْلاَ ¬

(¬1) البيت في مشاهد الإنصاف (ملحق بالكشاف 4/ 45)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 60) وفي هذه المصادر: «عن بياض .... » إلخ. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران 199، حجة القراءات 262، ابن جرير (11/ 556)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الدر المصون (5/ 60). (¬3) الخلاصة ص 48، وانظر: شرحه في التوضيح والتكميل (2/ 189).

ومثالُه في القرآنِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: آية 19] وقولُه جل وعلا: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} - إلى قولِه - {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} [العاديات: الآيات 1 - 4] كما قال هنا: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}. قولُه: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فيه للعلماءِ وجهانِ (¬1): أحدُهما: أنه جَعَلَهُ سَكَنًا أي: شيئًا يسكنُ الناسُ فيه؛ لأَنَّ الناسَ في النهارِ يَكْدَحُونَ في أعمالِهم، ثم يَرُوحُونَ في تَعَبٍ، فيجدونَ ظلامَ الليلِ مناسبًا للهدوءِ والراحةِ. وعلى هذا فهو من السكونِ الذي هو ضِدُّ الحركةِ. يَسْكُنُونَ فيه وينامونَ لينقطعَ عنهم تعبُ الكدَّ بالنهارِ، كما في قولِه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان: آية 47] من (السَّبْتِ) بمعنَى القطعِ. يعني: يقطعُ عنهم تعبَ الكدِّ في النهارِ، وَمِمَّا يدلُّ على هذا: أن اللَّهَ في سورةِ القصصِ لَمَّا بَيَّنَ أن الليلَ والنهارَ آيتانِ من آياتِ اللَّهِ العظامِ، بَيَّنَ أيضًا أنهما نعمتانِ من نِعَمِ اللَّهِ العظامِ، وَجَعَلَ السُّكْنَى في الليلِ من ذلك الإنعامِ حيث قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يعني في الليلِ {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: الآيات 71 - 73] مِنْ طَلَبِ حوائجِكم وأرزاقِكم بالنهارِ، وهذه الآيةُ تُبَيِّنُ أن ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 557)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الأضواء (2/ 204

السكنَ هنا: أَيْ مَحَلاًّ تسكنونَ فيه مُلاَئِمًا لِلسُّكْنَى؛ لأَنَّ الليلَ ظرفٌ مناسبٌ للسُّكْنَى. وعلى هذا: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} جَعَلَهُ سَاجِيًا مظلمًا مُنَاسِبًا لِلسُّكْنَى، كما قال: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: آية 2] أي: إذا صَارَ سَاجِيًا مُظْلِمًا، صَالِحًا لِلسُّكْنَى، ملائمًا للهدوءِ وعدمِ الحركةِ. وقال بعضُ العلماءِ (¬1): السكنُ في لغةِ العربِ: هو كُلُّ ما ترتاحُ إليه وتحبُّه فتسكنُ إليه؛ وَلِذَا قيل لامرأةِ الرجلِ: (سَكَنُهُ) لأنه يَأْوِي إليها، وَكُلُّ شيءٍ أَوَيْتَ إليه وَارْتَحْتَ إليه فهو سَكَنٌ لَكَ. والمعنَى: شيءٌ يستريحونَ إليه، وَيَأْوُونَ إليه، لمناسبتِه للراحةِ والهدوءِ. وهذا معنَى قولِه: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} {وجاعِلُ الليل سكنًا}. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} الحُسْبَانُ هنا: هو من (الحِسَابِ) على أشهرِ التفسيراتِ. قال بعضُ العلماءِ (¬2): هو جَمْعُ حِسَابٍ، كشهابٍ وَشُهْبَانٍ، وحِسَاب وحُسْبَان. وقال بعضُ العلماءِ (¬3): هو مصدرُ (حَسَب) بفتحِ السينِ، ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 186). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 559)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الدر المصون (5/ 64). (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 559)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الدر المصون (5/ 64).

(يَحْسِب) [بكسرها] (¬1)، (حِسَابًا وحِسَابَةً وحُسبانًا)، إذا عَدَّ الشيء، والمعنَى: جَعَلَ الشمسَ والقمرَ حُسْبَانًا يعنِي: خَلَقَهُمَا بحُسْبَانٍ، يحسب حركتِهما وَسَيْرِهِمَا بأسلوبٍ مُتْقَنٍ لاَ يتغيرُ في السَّنَةِ؛ لتعلموا بذلك الحسابِ عددَ السنين والأَشْهُرِ والأيامِ. وهذه من نتائجِ الشمسِ والقمرِ التي ذَكَرَهَا اللَّهُ (جل وعلا)؛ لأنهم يعرفونَ بها الشهورَ والأيامَ والأعوامَ، فيعرفونَ من ذلك شهرَ الصومِ، وشهرَ الحجِّ، ويعرفونَ عِدَدَ النساءِ، وآجالَ الديونِ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، هذه من فوائدِ الشمسِ والقمرِ التي أَكْثَرَ اللَّهُ (جل وعلا) مِنْ ذِكْرِهَا. ومعلومٌ أن أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما قَدَّمْنَاهُ في هذه الدروسِ في سورةِ البقرةِ - أنهم تَاقَتْ نفوسُهم إلى هيئةِ القمرِ، فقالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما بَالُ الهلالِ يبدُو دَقِيقًا ثُمَّ لم يَزَلْ يكبرُ حتى يستديرَ بَدْرًا (¬2)؟ وهذا سؤالٌ عن هيئةِ القمرِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُرْسِلَ ليبينَ للناسِ ¬

(¬1) في الأصل: (بفتحها). وهو سبق لسان. (¬2) الروايات الواردة في أن الآية نزلت بسبب سؤالهم عن الأهلة متعددة، ومن ذلك: 1 - ما أورده الواحدي في أسباب النزول ص53 - من غير إسناد - أن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويُكثرون مسألتنا عن الأهلة، فأنزل الله ... الحديث. وذكره الحافظ في العُجَاب (1/ 453) وقال ص454: «لم أر له سندا إلى معاذ، ويُحتمل أن يكون اختصره أولا، ثم أورده مبسوطا» اهـ. 2 - ما أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 269)، وابن عساكر في تاريخه (مختصر ابن منظور 1/ 25) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن عَنَمَة - وهما رجلان من الأنصار - قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال ... فنزلت ... الحديث. وقد أورده ابن الأثير في أُسد الغابة (1/ 292)، والسيوطي في الدر (1/ 302) وقال: «أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس ... إلخ. كما أورده لُبَاب النقول ص 28 وعزاه لأبي نعيم، وابن عساكر. وقد أورده الواحدي في أسباب النزول ص 53 - من غير إسناد - والحافظ في الإصابة (1/ 201) عن الكلبي من غير ذكر الواسطة، وهما: أبو صالح الذي يرويه عن ابن عباس. كما أورده الحافظ في العُجاب (1/ 455) وقال: «وأما أثر الكلبي فلعله في تفسيره الذي يرويه عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد وجدتُ مثله في تفسير مقاتل بن سليمان بلفطه، فلعله تلقاه عنه». اهـ وقال المُناوي في الفتح السماوي (1/ 232): «إسناده واه» اهـ. 3 - ما أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1/ 322)، وابن جرير (3/ 554) من طريق العوفي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة، فنزلت ... الحديث. وقد أورده السيوطي في الدر (1/ 203)، ولُباب النقول ص 28 وإسناده ضعيف أيضا. 4 - ما أخرجه ابن جرير (3/ 553) عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في أسباب النزول ص53 - من غير إسناد - والسيوطي في الدر (1/ 203) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (1/ 322) كما أورده الحافظ في العُجَاب (1/ 453) وقال (ص454): «أخرجه يحيى بن سلاَّم عن شعبة عنه بهذا اللفظ، وأخرجه الطبري ... » اهـ. 5 - ما أخرجه ابن جرير (3/ 553) عن الربيع بن أنس مرسلا. وذكره الحافظ في العُجَاب (1/ 454)، والسيوطي في الدر (1/ 203). 6 - ما أخرجه ابن جرير (3/ 554) عن ابن جُريج مرسلا. وذكره الحافظ في العُجاب (1/ 454). 7 - ما أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 322) عن الربيع عن أبي العالية مرسلا. وذكره الحافظ في العُجاب (1/ 455)، والسيوطي في الدر (1/ 203)، ولُباب النقول ص28. وقد رُوي عن جماعة غير هؤلاء كعطاء، والضحاك، والسدي، كما أشار لذلك ابن أبي حاتم في التفسير (1/ 322). قال الحافظ في العُجاب (1/ 455): «وقد توارد من لا يد لهم في صناعة الحديث على الجزم بأن هذا كان سبب النزول مع وهاء السند فيه، ولا شعور عندهم بذلك، بل كاد يكون مقطوعا به لكثرة من ينقله من المفسرين وغيرهم» اهـ.

كُلَّ ما لهم فِيهِ فَائِدَةٌ، وما يحتاجونَ إلى بيانِه من آياتِ اللَّهِ وغرائبِه وعجائبِ صُنْعِهِ، فأنزلَ اللَّهُ جوابًا لسؤالهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: آية 189] فَبَيَّنَ أنها مواقيتُ، وهذه المواقيتُ إنما كانت مَوَاقِيتَ لأَنَّهَا بحسابٍ معينٍ مقدرٍ نَظَّمَهُ العزيزُ العليمُ (جل وعلا). ومشارقُ الشمسِ ومغاربُها معروفةٌ في كُلِّ يومٍ من السَّنَةِ، وكذلك منازلُ القمرِ مَعْرُوفَةٌ، وفي هذه المشارقِ والمغاربِ - التي تُشْرِقُ منها الشمسُ وتغربُ، ومنازلُ القمرِ - يعرفُ الناسُ بها عددَ السنينَ والشهورِ والحسابِ، ويعرفونَ شهرَ صومِهم، وشهرَ حَجِّهِمْ، وعِدَدَ نِسَائِهِمْ، وآجالَ دُيُونِهِمْ، وما جرى مَجْرَى ذلك. أما غيرُ ذلك، فقد بَيَّنَ القرآنُ أنه مِمَّا ليس لهم فيه جَدْوَى ولا فائدةٌ. ومعلومٌ أن القرآنَ العظيمَ يُبَيِّنُ للناسِ كُلَّ ما يحتاجونَ إليه، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ كُلَّ ما يُحْتَاجُ إليه. ونحنُ نقولُ هذا، ونقولُ: إن اللَّهَ (جل وعلا) لم يَجْعَلْ لِخَلْقِهِ في القمرِ أشياءَ غيرَ ما هو مُشَاهَدٌ من عددِ السنينَ والحسابِ، وَمِمَّا جَعَلَ اللَّهُ في الشمسِ والقمرِ بمجارِي عادتِه وقدرتِه من المنافعِ للنباتاتِ والثمارِ والمعادنِ وغيرِ ذلك. نحن نتكلمُ على هذا القرآنِ ولاَ نَرْضَى لأحدٍ أن يُؤَوِّلَهُ بغيرِ

تأويلِه، وَلاَ أَنْ يَعْطِفَهُ على آراءِ الكفرةِ الفجرةِ، في الوقتِ الذي نعلمُ فيه أن دينَ الإسلامِ يأمرُ بالتقدمِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. دِينُ الإسلامِ يَأْمُرُ المجتمعَ بالتقدمِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. والإخلادُ إلى الأرضِ والتواكلُ والكسلُ: مُخَالَفَةٌ للأمرِ السماويِّ الذي يَأْمُرُ به خالقُ السماواتِ والأرضِ، لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] فهذا أَمْرٌ. فالمتواكلُ الْمُخْلِدُ إلى العجزِ والاستسلامِ، وَلَمْ يُعِدَّ مَا يُسْتَطَاعُ من قوةٍ، فهو مخالفٌ لأَمْرِ اللَّهِ في قولِه: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} وبهذا يُعْلَمُ أن التقدمَ والكفاحَ والإعدادَ للقوةِ: كُلُّ هذا أوامرُ القرآنِ العظيمِ، ونظامُ السماءِ، وأن العاجزَ المتكاسلَ المخلدَ إلى الأرضِ مُخَالِفٌ لأوامرِ اللَّهِ، واللَّهُ يقولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: آية 63] وعلى كُلِّ حَالٍ فَلاَ شَكَّ أَنَّ دِينَ الإسلامِ، وهذا القرآنَ العظيمَ، يُنَظِّمُ للإنسانِ جميعَ ميادينِ الحياةِ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، هذا هو الحقُّ. ودينُ الإسلامِ دينُ تَقَدُّمٍ، ودينُ كفاحٍ فِي الميدانِ، ودينُ قوةٍ، وإذا قَرَأْتُمْ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ عرفتُم ذلك واضحًا، إذا قَرَأْتُمْ مثلاً آيَتَيْنِ من سورةِ النساءِ يقولُ اللَّهُ فيهما: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: آية 102] هذا وقتُ التحامِ الكفاحِ المسلحِ، والمفروضُ أن الرجالَ تَنْزِلُ رؤوسُهم عن أعناقِهم، والقرآنُ في هذا الوقتِ الضنكِ الْحَرِجِ، تَرَوْنَهُ يُنَظِّمُ الخطةَ العسكريةَ على أحسنِ الوجوهِ وأبدعِها، وأحصنِها

من العدوِّ في الوقت الذي يَأْمُرُ فيه بالاتصالِ (¬1) بخالقِ هذا الكونِ، والتأدبِ بالآدابِ الروحيةِ السماويةِ، التي هي الصلاةُ في الجماعةِ، هكذا أوامرُ القرآنِ، الاتصالُ بالله، وتربيةُ الأرواحِ وتهذيبُها على ضوءِ النورِ السماويِّ، مع القوةِ الجسميةِ الماديةِ في جميعِ مظاهرِها مَهْمَا تَطَوَّرَتْ، وتسمعونَ اللَّهَ يقولُ في سورةِ الأنفالِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: آية 45] قولُه: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} يعنِي: إذا الْتَقَى الصفانِ وقتَ التحامِ الكفاحِ المسلحِ، وقولُه: {فَاثْبُتُوا} هذا تعليمٌ عسكريٌّ سماويٌّ عظيمٌ، معناه: الصمودُ في الخطوطِ الأماميةِ من خطوطِ النارِ، عند التقاءِ الصَّفَّيْنِ، وفي هذا الوقتِ يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} وهذا مِمَّا يَدُلُّ أن دينَ الإسلامِ دينُ كفاحٍ، ودينُ قوةٍ، ودينُ عظمةٍ وَتَقَدُّمٍ في الميدانِ، ودينُ تربيةِ الأرواحِ على ضوءِ تعاليمِ خالقِ هذا الكونِ، والاتصالِ بخالقِ هذا الكونِ (جل وعلا)؛ لأَنَّ الإنسانَ المسكينَ إذا فَقَدَ حَظَّهُ من رَبِّهِ خَسِرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا لَهُ فِي الحياةِ فَائِدَةٌ. فعلينا جميعًا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن الدينَ - ديننَا - أنه تراثٌ سَمَاوِيٌّ عظيمٌ، وأنه يأمرُ بالتقدمِ والقوةِ في كُلِّ الميادين، وأن الإخلادَ إلى العجزِ والضعفِ خلافُ أوامرِ القرآنِ، وأنه مع هذا يُهَذِّبُ أرواحَنا على ضوءِ تعليمِ السماءِ، ويقربُنا من رَبِّنَا (جل وعلا). وقد بَيَّنَ لنا القرآنُ في مواضعَ منه: أن مَنْ كان متمسكًا بهذا الدينِ كما ينبغي، وكانت صِلَتُهُ بالله قويةً كما ينبغي، ذَا روحٍ مُرَبًّى على ضوءِ ¬

(¬1) في الأصل: على الاتصال.

نورِ القرآنِ، أنه ولو بَلَغُوا من القلةِ لاَ يمكنُ أن تقهرَهم قوةٌ، وَلاَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ غالبٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ الذي اعْتَمَدُوا إليه، وَصَارُوا من حِزْبِهِ: قَوِيٌّ قاهرٌ، لا يغلبُه شيءٌ. ونضربُ لكم بعضَ الأمثالِ بهذا: أنتم تعلمونَ في التاريخِ، وتاريخِ القرآنِ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه عام غزوةِ الأحزابِ - غزوةِ الخندقِ - لَمَّا حَاصَرَهُ المشركونَ ذلك الحصارَ العسكريَّ التاريخيَّ العظيمَ، الذي نَوَّهَ اللَّهُ به مُعَظِّمًا أَمْرَهُ: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: الآيتان 10، 11] هذا لقوةِ ذلك الحصارِ العسكريِّ، وهم في ذلك الوقتِ، جميعُ مَنْ فِي الأرضِ يُقَاطِعُونَهُمْ في السياسةِ، والاقتصادِ، ليس بينَهم رَوَابِطُ سياسيةٌ، ولاَ اقتصاديةٌ مع أحدٍ، وهم في فَقْرٍ وَقِلَّةٍ وجوعٍ، وسيدُ الخلقِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) فِي ذلك الوقتِ يَطْوِي حِزَامَهُ على الحجارةِ من الجوعِ، هُمْ في هذا الوقتِ من الجوعِ وشدةِ الأعداءِ، وقوةِ الحصارِ العسكريِّ، وَكُلُّ مَنْ في الأرضِ أعداءٌ لهم يُقَاطِعُونَهُمْ سِيَاسَةً، واقتصادًا، ما العلاجُ؟ وما قاوموا به هذا الأمرَ العظيمَ، وهذا الحصارَ العسكريَّ؟ الجوابُ: أنه قوةُ الإيمانِ بِاللَّهِ، وصدقُ الالتجاءِ لخالقِ هذا الكونِ، كَمَا نَصَّ اللَّهُ على ذلك في قولِه: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: آية 22] هذا الإيمانُ والتسليمُ لِلَّهِ، وقوةُ الإيمانِ به، والاستسلامُ له (جل وعلا)، كَانَ من نتائجِه ما قَصَّ اللَّهُ علينا في سورةِ الأحزابِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى

اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} أي: مِنْ حُصُونِهِمْ {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: الآيات 25 - 27] يعني: إِنْ كُنْتُمْ ضِعَافًا عاجزين فَمَنْ تَوَكَّلْتُمْ عليه وآمَنْتُمْ به وَكُنْتُمْ عبادَه حَقًّا ليس بعاجزٍ، بل هو قَادِرٌ على كُلِّ شيءٍ؛ وَلِذَا ختمَ القصةَ بقولِه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}. ونظيرُ ذلك ما قَصَّهُ اللَّهُ في سورةِ (الفتحِ) عامَ الحديبيةِ، لَمَّا نَزَلَتْ سورةُ (إنا فتحنا) عامَ ستٍّ من الهجرةِ، رجوعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من عمرةِ الحديبيةِ، لَمَّا عقدَ الصلحَ مع قريشٍ، وأنزلَ اللَّهُ عليه سورةَ (الفتحِ). كان لَمَّا بَلَغَهُمْ أن قريشًا قتلوا عثمانَ بنَ عفانَ (رضي الله عنه)، وَبَايَعُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تحتَ سمُرةٍ من شجرِ الحديبيةِ، بَايَعُوهُ بيعةَ الرضوانِ، عندَ هذه البيعةِ عَلِمَ اللَّهُ من قلوبِهم الإخلاصَ، والإيمانَ الكاملَ، والصدقَ كما ينبغي، وَنَوَّهَ بإيمانِهم الذي عَلِمَهُ في قلوبِهم قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: آية 18] فَنَوَّهَ عن إيمانِهم بالاسمِ الْمُبْهَمِ الموصولِ. أي: ما فِي قلوبِهم من الإيمانِ بِاللَّهِ (جل وعلا) كما يَنْبَغِي، عَدَّدَ نتائجَ هذا الإيمانِ الخالصِ الكاملِ، عَدَّدَ نتائجَه عليهم، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ نَتَائِجِهِ أَنْ قَالَ: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} فَصَرَّحَ بأن إمكانياتِهم العدديةَ والعُدديةَ لَمْ تُقْدِرْهُمْ عليها. ثُمَّ قَالَ: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} فَأَقْدَرَكُمْ عليها. وقال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: آية 21] كما قال في (الأحزاب). يعنِي: إِنْ كُنْتُمْ في ضَعْفٍ فَهُوَ قَوِيٌّ قَادِرٌ.

وعلى هذا تعلمونَ أن دينَ الإسلامِ أَوَّلاً يأمرُ بالقوةِ والتقدمِ في كُلِّ الميادينِ، وَقَهْرِ الكفارِ، والعظمةِ والقوةِ في كُلِّ الميادين، مع أن أهلَه منصورونَ من خالقِ السمواتِ والأرضِ (جل وعلا)، فالإسلامُ هُوَ هُوَ، وصلتُه بِاللَّهِ هِيَ هِيَ، وقوتُه [هِيَ هِيَ, إلا أن أعداءَ الإسلامِ عَمِلُوا على التفريقِ بين هذه العقيدةِ] (¬1) وأهلِها، فَنَجَحُوا في ذلك بعدَ عشراتِ القرونِ، نَجَحُوا فيه عن طريقِ تعليمِ النشءِ، يأخذونَ أولادَ المسلمين ويغرسونَ في قلوبِهم ما شَاؤُوا من الكفرياتِ والإلحادياتِ وتصويرِ الإسلامِ ورجالِ الإسلامِ العظامِ بصورٍ مُشوَّهةٍ مُنَفِّرَةٍ، بعيدةٍ من الحقيقةِ بُعْدَ الشمسِ من اللمسِ. واليومَ نَجَحُوا نجاحًا باهرًا، فصارَ جميعُ شبابِ المسلمين - إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ - ينظرونَ إلى الإسلامِ بعينٍ عوراءَ لا تعرفُ الحقيقةَ، يتصورونَه بصورةٍ مشوهةٍ خسيسةٍ، بعيدةٍ عَنِ الحقائقِ كُلَّ البعدِ - والعياذُ بالله - وبهذا فَصَلُوا المسلمين عن شَرْعِهِمْ وَتُرَاثِهِمْ، حتى صَارُوا يُحَكِّمُونَ قوانينَ إبليسَ، وَفَصَلُوهُمْ عَنْ مَجْدِهِمْ، وعن قُوَّتِهِمْ باللَّهِ جل وعلا. ونحنُ دائمًا نَذْكُرُ أمثالَ هذا لنُوَجِّهَ المسلمين إلى قوةِ الإسلامِ، وقوةِ صلتِه بِاللَّهِ، وأن أعداءَ اللَّهِ إنما تَوَصَّلُوا لإهانتِهم وَتَشْتِيتِهِمْ بعدَ أن حَالُوا بينَهم وبينَ الدِّينِ بِكُلِّ الوسائلِ. فعلى المسلمينَ أن يَعْلَمُوا أن خالقَ السماواتِ والأرضِ هو الذي له التشريعُ، وأن تشريعَه هو التشريعُ الذي يقومُ بالمصالحِ ¬

(¬1) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل. وللشيخ رحمه الله كلام بنحو هذا في تفسير سورة الأنعام، الآيات (115، 155)، الأعراف (3، 38)، الأنفال (30، 45، 60)، التوبة (30)، وفي الرحلة الى إفريقيا. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.

البشريةِ في الدنيا، يُرَبِّي الأَرْوَاحَ، وَيُعْطِي الأجسامَ حقوقَها، وينيرُ الطريقَ للإنسانِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ الدنيا، والحياةِ الأُخْرَوِيَّةِ. والمسلمونَ إذا أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ الرجوعَ إلى دينِهم ذَلَّ لهم كُلُّ شيءٍ، وَخَضَعَتْ لهم رقابُ كُلِّ جبارٍ في الدنيا؛ لأَنَّ دينَ الإسلامِ دينٌ لاَ يُغْلَبُ المتمسكُ بِهِ حقيقةً وَلاَ يُقْهَرُ؛ وَلِذَا كان مِنْ عَلاَمَاتِ دينِ الإسلامِ: أن الطائفةَ الضعيفةَ القليلةَ المتمسكةَ به تغلبُ الطائفةَ القويةَ الكثيرةَ التي لَمْ تَتَمَسَّكْ به؛ ولأجلِ هذا سَمَّى اللَّهُ (يومَ بدرٍ) سَمَّاهُ (فُرْقَانًا)، وَسَمَّاهُ (بَيِّنَةً)، وَسَمَّاهُ (آيةً)؛ لأنه برهانٌ فارقٌ بينَ الحقِّ والباطلِ. قال تعالى في سورةِ الأنفالِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: آية 41] يعني بقولِه: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}: يومَ بدرٍ؛ لأنه يومٌ فَرَّقَ اللَّهُ فيه بينَ الحقِّ والباطلِ؛ لأَنَّ الفئةَ الضعيفةَ القليلةَ لا يمكنُ أَنْ تَقْهَرَ الفئةَ القويةَ الكثيرةَ إلا بتوفيقٍ ونصرٍ مِنَ اللَّهِ. وقال (جل وعلا) في يومِ بدرٍ: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: آية 42] وقال في يومِ بدرٍ أيضًا في سورةِ آلِ عمرانَ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: آية 13] وهذه الآيةُ - التي هي لَهُمْ - والعبرةُ: أن الفئةَ القليلةَ الضعيفةَ غَلَبَتِ الفئةَ القويةَ الكثيرةَ، وهذا لا يكونُ إلا بنصرِ اللَّهِ كما قال الله جل وعلا. {ذَلِكَ} (¬1) المذكورُ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ عن السنبلِ، والنَّوَى عَنِ النخلِ مثلاً، وفَلْقِ الإصباحِ عن ضوءِ النهارِ، وجَعْلِ الليلِ ساجيًا مُظْلِمًا ملائمًا للسكونِ، وَتَسْيِيرِ الشمسِ والقمرِ بحسابٍ مُتْقَنٍ، وليعرفَ الناسُ بها عددَ السنينَ والحسابَ، وغيرَ ذلك من الحِكَمِ، ¬

(¬1) هذا رجوع إلى تفسير الآية (96) من سورة الأنعام.

كُلُّ هذه الغرائبِ والعجائبِ {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} تقديرُه الذي قَدَّرَ هذا؛ لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عندَه (جل وعلا) بِمِقْدَارٍ. و {الْعَزِيزِ}: معناه الغالبُ الذي لا يَغْلِبُهُ شيءٌ؛ لأَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ على هذه الأفعالِ العظيمةِ إِلاَّ الغَالِبُ القاهرُ الذي لاَ يَغْلِبُهُ شيءٌ. والعزَّةُ في لغةِ العربِ: الغَلَبَةُ. ومنه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: الغَلَبَةُ، وفي الذِّكْرِ الحكيمِ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي: ظَلَمَنِي في المخاصمةِ. وَمِنْ أَمْثَالِ العربِ: (مَنْ عَزَّ بَزَّ) (¬1) يَعْنُونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. ومنه قولُ الخنساءِ الشاعرةِ (¬2): كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا وَرُبَّمَا أَطْلَقَتِ العربُ نادرًا العزةَ على (قلةِ الوجودِ وصعوبتِه)، فيقولونَ: «الشيءُ الفلانيُّ عزيزٌ». أي: قليلُ الوجودِ وصعبُ المنالِ، إلا أن (العزيزَ) في أسمائِه (جل وعلا) معناه: الغالبُ الذي لاَ يَغْلِبُهُ شيءٌ. وقولُه: {الْعَلِيمِ} المحيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شيءٍ (جل وعلا)؛ لأَنَّ اللَّهَ (جل وعلا) عِلْمُه محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، وَمَنْ أَرَادَ أن يعلمَ عظمةَ عِلْمِ اللَّهِ (جل وعلا) فَلْيَنْظُرْ إلى الحُجَّاجِ يومَ جمرةِ العقبةِ، يَجِدُ هذا الْعَالَمَ على اختلافِ ألوانِه وأشكالِه وَنَوَاحِيهِ وألسنتِه يجده كُلَّهُ مَصْبُوبًا صبةً واحدةً، الأنفُ مجعولٌ هنا، والعينانِ هنا، والفمُ هنا، ومع هذا لم يَضِقِ العلمُ حتى يكونَ اثنانِ مَصْبُوبَيْنِ في قَالَبٍ وَاحِدٍ، كُلُّ واحدٍ منهما مُغايَرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الآخَرِ، لا يلتبسُ منهم اثنانِ، حتى إن آثارَهم ¬

(¬1) انظر: الأمثال لأبي عبيد، ص113. (¬2) ديوان الخنساء، ص59 وفيه: «حِمىً يُتَّقَى».

في الأرضِ، وبصماتِهم في الأوراقِ، وأصواتَهم، كُلُّ هذا لا يَشْتَبِهُ منه شَيْءٌ، وكل هذا أحاطَ به العلمُ قبلَ أن يوجدَ!! فعِلْمُ اللَّهِ محيطٌ بهذا قبلَ أن يوجدَ، وكلٌّ يُوضَعُ ويُطْبَعُ وَيُخْلَقُ على ما سبقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، فاللَّهُ (جل وعلا) عِلْمُهُ محيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ. وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا: أن اللَّهَ (جل وعلا) يحيطُ علمُه بالشيءِ وغيرِ الشيءِ؛ لأَنَّ (الشيءَ) لا يُطْلَقُ في الاصطلاحِ إلا عَلَى (الموجودِ)، في مذهبِ أهلِ السنةِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: آية 9] فقولُه: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} دليلٌ على أن العدمَ ليسَ بشيءٍ (¬1). وقد دَلَّتْ على هذا آياتٌ أُخَرُ، وَاللَّهُ (جل وعلا) يعلمُ المعدومَ الذي هو ليسَ بشيءٍ، وقد بَيَّنَّا في هذه السورةِ الكريمةِ فيما مَضَى أمثلةً كثيرةً من ذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ قال في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ -: {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} فالكفارُ إِذَا رَأَوُا العذابَ يومَ القيامةِ وَعَايَنُوا الحقيقةَ نَدِمُوا على تكذيبِ الرسلِ، وَتَمَنَّوُا الردَّ مرةً أُخْرَى إلى الدنيا فقالوا {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} يَعْنُونَ إلى الدنيا: {وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] يعني: لَيْتَنَا رُدِدْنَا ونحنُ نصدقُ الرسلَ ولاَ نُكَذِّبَهُمْ كالمرةِ الأُولَى. هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ: اللَّهُ (جل وعلا) عَالِمٌ بأنه لاَ يكونُ، ومع عِلْمِهِ بأنه لاَ يكونُ فقد صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كانَ كيفَ يكونُ، حيث قَالَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا: أن المتخلفين عن غزوةِ تبوكَ من المنافقين لَنْ يَحْضُرُوهَا أبدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ثَبَّطَهُمْ عنها بإرادتِه لحكمةٍ، كما قال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا ¬

(¬1) انظر: شرح الطحاوية ص118.

لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: آية 46] وَخُرُوجُهُمْ هذا الذي كَرِهَهُ وثبطهم عنه هو عَالِمٌ بأنه لا يكونُ، ومع ذلك صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أَنْ لو كان كيفَ يكونُ، حيثُ قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: آية 47] إلى آخِرِ الآيَاتِ. والآياتُ القرآنيةُ كثيرةٌ دَالَّةٌ على هذا. فَاللَّهُ يعلمُ الجائزاتِ والواجباتِ والمستحيلاتِ المعدوماتِ والموجوداتِ ويعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في علمِه أنه لاَ يكونُ، يعلمُ أن لو كان كيف يكونُ، يعلمُ ما تُخْفِي الضمائرُ، ويعلمُ خطراتِ القلوبِ، وكيفَ يجهلُ خطراتِ القلوبِ خالقُ خطراتِ القلوبِ؟ {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: آية 14] وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: آية 16]. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: آية 97] {وَهُوَ} أي: اللَّهُ جل وعلا. {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} أي: خَلَقَ لكم النجومَ. {لِتَهْتَدُوا بِهَا} كُلُّ هذا من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه؛ لأَنَّ النجومَ يَهْتَدِي بها الناسُ في ظلماتِ الليلِ، سواءً كانوا في بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، وقد يكونُ الناسُ مُلَجَّجِينَ في البحرِ لا يعرفونَ جهةَ قصدِهم إلا بالنجومِ، وكذلك تَأْتِيهُمُ الظلماتُ في فَيَافِي الأرضِ الواسعةِ فيستدلونَ بالنجومِ، وربما كانوا في مسافةٍ بعيدةٍ إذا جَاءَهُمْ غَيْمٌ هَلَكُوا، فإذا رَأَوُا النجومَ فَرِحُوا كُلَّ الفرحِ؛ لأنهم يَعْرِفُونَ بها الجهاتِ، وَيَسْتَدِلُّونَ

بها على قصدِ الطريقِ، كما قال الشاعرُ (¬1): يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ يذكرُ فيفاءَ من الأرضِ إذا رأى رُكْبَانُهَا الفرقدَ بعدَ أن غابَ عنهم: أَهَلُّوا يصيحونَ بالفرقدِ فَرَحًا منهم أنهم رَأَوْهُ؛ لأنهم يهتدونَ به، كما قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: آية 16]. وقد بَيَّنَ القرآنُ العظيمُ ثلاثًا مِنْ حِكَمِ خلقِ النجومِ، ثلاثةَ أشياءَ (¬2): منها: أنها يَهْتَدِي بها الضَّالُّونَ فِي ظلماتِ البرِّ والبحرِ، يعني: ظلماتِ الليلِ الكائنةَ بَرًّا أو بَحْرًا كما قاله غيرُ واحدٍ. الثاني: أن اللَّهَ زَيَّنَ بها السماءَ كما قال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: آية 5]. الثالثُ: أنها تُرْجَمُ بها الشياطينُ كما قال: {رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: آية 5]. هذه الحِكَمُ الثلاثُ: مِنْ رَجْمِ الشياطين بالنجومِ، وتزيينِ السماءِ الدنيا بها، واهتداءِ الناسِ بها في ظلماتِ البرِّ والبحرِ، هي حِكَمٌ ثلاثٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ من حِكَمِ خَلْقِهِ للنجومِ. والنجومُ: هي الكواكبُ التي تُرَى في السماءِ. قِيلَ: سُمِّيَ ¬

(¬1) البيت لابن أحمر، وهو في القرطبي (2/ 224). (¬2) انظر: ابن كثير (2/ 159)، فتح القدير (2/ 143)، معارج القبول (1/ 428)، الأضواء (2/ 205).

النجمُ نَجْمًا لأَنَّهُ يَطْلُعُ، والعربُ تُسَمِّي الطلوعَ نَجْمًا، تقول: «نَجَمَ النَّبَاتُ». إذا طَلَعَ (¬1). وهذا معنَى قولِه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إنما أَضَافَ الظلماتِ إلى البرِّ والبحرِ لأَنَّ المسافرين قَدْ يكونونَ فِي ظلماتِ الليلِ تارةً فِي بَرٍّ، وتارةً في بَحْرٍ، فأضافَ الظلماتِ إلى مكانِها من بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ للملابسةِ بينهما (¬2). ثم قال تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ} أي: الدلالاتِ الواضحةَ على قُدْرَتِنَا وَكَمَالِنَا، وأنه ليسَ لأحدٍ أن يَعْبُدَ غَيْرَنَا. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وهذه الآياتُ التي فَصَّلَ كما ذَكَرَ من أنه يفلقُ الْحَبَّ عن السنبلِ، وَالنَّوَى عن النخلِ، وأنه (جل وعلا) يأتي بالليلِ بدلَ النهارِ، والنهارَ بدلَ الليلِ، وأنه (جل وعلا) يُسَخِّرُ الشمسَ والقمرَ، وأنه (جل وعلا) خَلَقَ النجومَ، وَبَيَّنَ من حِكَمِهَا: اهتداءَ الخلقِ بها، هذه الآياتُ الباهرةُ القاهرةُ قَدْ فَصَّلْنَاهَا لقومٍ يعلمونَ. وإنما خَصَّ القومَ الذين يعلمونَ لأنهم هُمُ المنتفعونَ بها (¬3)، وَمِنْ أساليبِ القرآنِ العظيمِ: أَنْ يُخَصِّصَ بالكلامِ المُنْتَفِعِ به (¬4)، كقولِه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] وهو مُذكِّرٌ ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: نجم) 791. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 188). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 46)، البحر المحيط (4/ 188) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬4) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

للأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ، وكقولِه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} [يس: آية 11] وهو مُنْذِرٌ للأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: آية 45] ونحو ذلك. وقد بَينَّا فِيمَا مَضَى (¬1) أن (الآياتِ) جمعُ (آيةٍ)، وأنها عندَ الْمُحَقِّقِينَ من علماءِ العربيةِ، أصلُها: (أَيَيَة) على وزنِ (فَعَلَة). وَقَعَ الإعلالُ بموجبِه الأولِ، فَأُبْدِلَتِ الياءُ الأُولَى أَلِفًا، فقالوا: (آية). إطلاقين، أَمَّا الإِطْلاَقَانِ في لغةِ العربِ فأشهرُهما: أن العربَ تُطْلِقُ (الآيةَ) على (العلامةِ)، تقولُ: «آيةُ كَذَا»، أي: علامتُه. ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: آية 248] أي: علامةُ أَنَّ اللَّهَ مَلَّكَ طالوتَ عليكم: أن يأتيكَم التابوتُ. وهذا أشهرُ اصطلاحِ الآيةِ. وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ جَاهِلِيٌّ - تفسيرُ الآيةِ بالعلامةِ، حيث قال (¬2): تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ [ثم بَيَّنَ] (¬3) أن مرادَه بالآياتِ: علاماتُ الدارِ وآثارُها، حيث قال (¬4): رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلمُ خَاشِعُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬3) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وقد أتممتُ النقص من كلام الشيخ - رحمه الله - عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف. (¬4) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

المعنَى الثاني من إطلاقِ الآيةِ في اللغةِ: أن العربَ تُطْلِقُ الآيةَ على الجماعةِ، تقولُ: جاءَ القومُ بآيتِهم، أَيْ: بِجَمَاعَتِهِمْ. ومنهُ قولُ بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ (¬1): خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا ... بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلاَ أي: بِجَمَاعَتِنَا. إذا عَرَفْتُمْ أن (الآيةَ) في لغةِ العربِ تُطْلَقُ على (العلامةِ)، وَتُطْلَقُ على (الجماعةِ)، فَاعْلَمُوا أن (الآيةَ) في القرآنِ تُطْلَقُ إِطْلاَقَيْنِ (¬2): أحدُهما: الآيةُ الكونيةُ الْقَدَرِيَّةُ. الثاني: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ. أما الآيةُ الكونيةُ القدريةُ فَهِيَ العلامةُ التي نَصَبَهَا اللَّهُ كونًا وَقَدَرًا، لِيُبَيِّنَ بها لِخَلْقِهِ أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، كَفَلْقِهِ الحَبَّ عَنِ السُّنْبُلِ، والنَّوَى عن النخلِ، وكإتيانِه بالليلِ بدلَ النهارِ، والنهارِ بدلَ الليلِ، وكتسخيرِه الشمسَ والقمرَ، وكخلقِه النجومَ لِيُهْتَدَى بها، هذه آياتٌ كونيةٌ قَدَرِيَّةٌ، وَضَعَهَا خالقُ هذا الكونِ كَوْنًا وَقَدَرًا، جَعَلَهَا علامةً لِخَلْقِهِ أنه القادرُ على كُلِّ شَيْءٍ، المعبودُ وَحْدَهُ، والآيةُ الكونيةُ القدريةُ في القرآنِ هِيَ مِنَ الآيةِ اللغويةِ التي بمعنَى (العلامةِ) لاَ غير. الثاني مِنْ إِطْلاَقَيِ الآيَةِ فِي القرآنِ: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

كقولِه: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: آية 11] أَيْ آياتِه الشرعيةَ الدينيةَ، كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ. أما الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ فقد قال بعضُ العلماءِ: هِيَ مِنَ (العَلاَمَةِ) لغةً أيضا؛ لأَنَّهَا علاماتٌ على صدقِ مَنْ جَاءَ بِهَا لِمَا فيها من الإعجازِ. وقال بعضُ العلماءِ: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ من الإطلاقِ اللغويِّ الآخَرِ، أي: بمعنَى الجماعةِ؛ لأَنَّ الآيةَ: جماعةٌ مِنْ كَلِمَاتِ القرآنِ اشْتَمَلَتْ على بعضِ ما اشتملَ عليه القرآنُ من الإعجازِ والعقائدِ والحلالِ والحرامِ (¬1). وهذا معنَى قولِه: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. أما القومُ الذين لا يعلمونَ فتفصيلُ هذه الآياتِ لاَ ينفعُ فيهم؛ لأَنَّهُمْ لاَ يفهمونَ عَنِ اللَّهِ شيئًا، فَهُمْ كالأنعامِ؛ لأَنَّ الْحَمِيرَ والبغالَ والبعيرَ لاَ يفهمونَ هذه الآياتِ عن اللَّهِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) فَضَّلَ عليهم الأنعامَ، قال: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: آية 179] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ} [الفرقان: آية 44] فالكفارُ - والعياذُ بِاللَّهِ - أَنْزَلُ درجةً من الأنعامِ، وإيضاحُ ذلك: أن البغلَ - مثلاً - والبعيرَ، البغلةُ التي تُعْطِيهَا الشعيرَ وَتُعْلِفُهَا إذا رَأَتْكَ صَهَلَتْ إليكَ، وَظَهَرَ عليها الفرحُ إذا رَأَتْكَ، الكافرُ يُغْدِقُ اللَّهُ عليه نِعَمَهُ، وهو يرتكبُ مَسَاخِطَهُ وَيُنَاصِبُهُ بالعداءِ جل وعلا!! ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

[11/أ] / {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: الآيتان 98، 99]. يقول الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} [الأنعام: آية 98]. هذه الآياتُ من سورةِ الأنعامِ بَيَّنَ اللَّهُ فيها براهينَ العقائدِ العقليةَ الدالةَ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، ومن ذلك أنه خَلَقَ جميعَ الآدَمِيِّينَ من نفسٍ واحدةٍ، أَبُوهُمْ رجلٌ واحدٌ، وَأُمُّهُمْ امرأةٌ واحدةٌ، مع اختلافِ أشكالِهم، وألوانِهم وَأَلسنتِهم، وذلك دليلٌ على إبداعٍ عظيمٍ. وَاللَّهُ (جل وعلا) يُنَبِّهُنَا في القرآنِ العظيمِ في آياتٍ كثيرةٍ على ما أَوْدَعَ في أَنْفُسِنَا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه الدالةِ على أنه وحدَه هو الربُّ، وهو المعبودُ وحدَه جل وعلا. وقولُه هنا: {وَهُوَ} أي: اللَّهُ الذي أدعوكم إلى توحيدِه وطاعتِه، {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} أصلُ الإنشاءِ: الإبرازُ من العدمِ إلى الوجودِ (¬1) والمرادُ بهذه النفسِ الواحدةِ: أَبُونَا آدمُ، كما أَطْبَقَ عليه العلماءُ (¬2). ¬

(¬1) انظر ابن جرير (11/ 562). (¬2) السابق.

وإنما قال: {وَاحِدَةٍ} بالتاءِ الفارقةِ بين الذكرِ والأنثى مع أن آدمَ ذَكَرٌ (¬1) لأنه أَطْلَقَ عليه اسمَ النفسِ، فهو تَأْنِيثٌ لفظيٌّ لاَ حقيقيٌّ، كقولِ الشاعرِ (¬2): أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيْفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ هذه النفسُ الواحدةُ هي: آدمُ. واللَّهُ (جل وعلا) أَرْشَدَنَا في هذه الآيةِ إلى أَنْ نتأملَ وَنَتَعَقَّلَ مِمَّ خُلِقْنَا، وما العنصرُ والأصلُ الذي خُلِقْنَا منه؛ لنعرفَ أقدارَنا، ونعرفَ عظمةَ ربنا، فأولُ مَنْشَئِنَا تُرابٌ بَلَّهُ اللَّهُ (تبارك وتعالى) بماءٍ، هذا الأصلُ الأولُ لنا، كما قال: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الحج: آية 5]، أَخَذَ اللَّهُ تُرَابًا فَبَلَّه بماءٍ، فَلَمَّا بُلَّ وَعُجِنَ بالماءِ صارَ طينًا؛ وَلِذَا قال تارةً: {خَلَقَكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الروم: آية 20]، وتارةً: {مِّنْ طِينٍ} [الأنعام: آية 2]. ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) ذَكَرَ أحوالَ ذلك الطينِ، مرةً قَالَ: {مِّنْ طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: آية 11] يَلْزَقُ باليدِ إذا مَسَّهُ الإنسانُ، بَيَّنَ أنه: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: آية 26]، ثم بَيَّنَ أن ذلك الطينَ يبسَ فصارَ صلصالاً كالفخارِ، تسمعُ له صلصلةً إذا قَرَعَهُ شيءٌ، ثم خَلَقَ من ذلك الطينِ -الذي أصلُه ماءٌ وترابٌ، خَلَقَ منه- بَشَرًا سَوِيًّا، ذا لحمٍ وعظامٍ وَدَمٍ، هو أَبُونَا (آدمُ) المرادُ بقولِه هنا: {أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: آية 98]، ثم خَلَقَ من آدمَ امرأتَه (حواءَ) أُمَّنَا، خَلَقَهَا من زوجِها آدَمَ، وقد نَصَّ على ذلك في آياتٍ كثيرةٍ (¬3) كقولِه في أولِ سورةِ النساءِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) انظر: الأضواء (2/ 205).

وَاحِدَةٍ} هي آدمُ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: آية 1]، يعني حواءَ، وكقولِه في سورةِ الأعرافِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: آية 189]. وقولِه في سورةِ الزمرِ: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: آية 6] وهذا مِنْ غرائبِ صنعِه وعجائبِه، حيث كان العنصرُ الأولُ: الماءَ والترابَ، وَخَلَقَ منه رَجُلاً جميلاً في غايةِ الحسنِ والجمالِ، ثم خَلَقَ من نفسِ الرجلِ امرأةً أُنْثَى. وهذا أحدُ القسمةِ الرباعيةِ، لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ نوعَ الإنسانِ على قسمةٍ رباعيةٍ: قِسْمٌ منه خَلَقَهُ من ذَكَرٍ دونَ أُنْثَى، وَقِسْمٌ منه خَلَقَهُ من أنثى دونَ ذَكَرٍ، وقسمٌ منه خَلَقَهُ بلاَ أُنْثَى ولا ذَكَرٍ، وقسمٌ منه خَلَقَهُ من أُنْثَى وَذَكَرٍ. أما الذي خُلِقَ من دونِ الأُنْثَى وَمِنْ دونِ الذكرِ: فهو أَبُونَا آدَمُ؛ لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ من ترابٍ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: آية 59]. والذي خُلِقَ من ذكرٍ دونَ أنثى: هو حواءُ، خلقَها اللَّهُ من آدمَ دونَ أُنْثَى. والذي خُلِقَ من أُنْثَى دونَ ذَكَرٍ: هو نَبِيُّ اللَّهِ عيسى، أَوْجَدَهُ اللَّهُ من أُمِّهِ مريمَ بلا ذَكَرٍ. والذي خُلِقَ من ذكرٍ وأنثى: هو سائرُ جنسِ الإنسانِ. وهذه غرائبُ وعجائبُ تَدُلُّ على كمالِ قدرةِ خالقِ هذا الكونِ، إن شاءَ خَلَقَ دونَ أنثى ودونَ ذَكَرٍ، وإن شاء خلق من ذكرٍ دونَ أُنْثَى، وإن شاءَ خلقَ من أنثى دونَ ذَكَرٍ، وإن شاءَ خلقَ من أنثى وذكرٍ. ثم إن اللَّهَ أشارَ إلى الطَّوْرِ الثاني من أطوارِ الإنسانِ؛ لأن الطورَ

الأولَ من أطوارِ الإنسانِ: الماءُ والترابُ، والطورَ الثاني: هو النُّطفةُ. أشار الله إلى بعضِ تلك الأطوارِ بقولِه: {أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ثم أَتْبَعَهُ بقولِه: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} على قراءةِ: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (¬1) وبعضُهم قَرَأَ: {فَمُسْتَقِرٌّ} بكسرِ القافِ، أما: {وَمُسْتَوْدَعٌ} فجميعُ السبعةِ قرؤوها بفتحِ الدالِ، وأما: {مُسْتَقَرٌّ} ففيها قراءتانِ سبعيتانِ: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} {فَمُسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (¬2). أما على قراءةِ: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (¬3) فالأظهرُ أنهما اسْمَا مكانٍ. أي: مكانُ استقرارٍ، ومكانُ استيداعٍ. وقيل: هما مصدرانِ مِيمِيَّانِ. أي: فاستقرارٌ واستيداعٌ. أما على قراءةِ: {فَمُسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} {فَمُسْتَقِرٌّ}: اسمُ فاعلٍ، و {وَمُسْتَوْدَعٌ} اسمُ مفعولٍ. كما يأتي شرحُه. وقد تَقَرَّرَ في فَنِّ العربيةِ: أن الفعلَ إذا زادَ ماضيه على ثلاثةِ أحرفٍ فإن اسمَ مكانهِ، واسمَ زمانِه، ومصدرَه الميميَّ كلها بصيغةِ وزنِ اسمِ المفعولِ، كما هو معروفٌ في فَنِّ الصَّرْفِ (¬4). وأكثرُ علماءِ التفسيرِ أن المرادَ بـ: (المُستَقَرّ): المُسْتَقَرُّ في ¬

(¬1) في هذا الموضع وقع وهم للشيخ (رحمه الله) استدركه بعده بأسطر، وقد حذفت الكلام الذي وقع فيه الوهم هنا وأثبت الكلام على وجهه بعد استدراك الشيخ رحمه الله. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص 199. (¬3) في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات 262 - 263، ابن جرير (11/ 562 - 572)، القرطبي (7/ 46) البحر المحيط (4/ 188)، الدر المصون (5/ 66). (¬4) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 83، 84).

الأرحامِ، والمرادَ بـ (المُسْتَوْدَع): المُستَقَر في الأصلابِ. يعني أولَ نَشْأَتِكُمْ من نفسٍ واحدة، ثم صار بعد ذلك النُطف يُقِرُّهَا اللَّهُ في الأصلابِ، ثم ينقلها فتستقرُّ في الأرحامِ، فَيُخْرِج منها بشرًا سَوِيًّا، وهذا عليه أكثرُ المفسرين، أن (المُستَقَر): هو استقرارُ الجنينِ في الرحمِ، و (المُسْتَوْدَع): هو استيداعُ اللَّهِ للنطفةِ الذي خُلِقَ منها في أَبِيهِ (¬1). وكان بعضُ العلماءِ يختارُ: أن (المُسْتَقَر): الاستقرارُ على وجهِ الأرضِ أيامَ الحياةِ، وأن (المُسْتَوْدَعَ): الاستيداعُ في بَطْنِ الأرضِ في القبورِ (¬2). وبعضُ العلماءِ يقولُ: المُسْتَقَر في الأصلابِ، والمُسْتَوْدَعُ في الأرحامِ (¬3). عكس ما ذَكَرْنَا. والذي عليه أكثرُ المفسرين: أنها تُشِيرُ إلى بعضِ أطوارِ الإنسانِ؛ لأن اللَّهَ (تبارك وتعالى) نَبَّهَ الإنسانَ على أنه نَقَلَهُ من حالٍ إلى حالٍ، وَجَعَلَ خلقَه طورًا بعد طورٍ كقولِه: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: الآيتان 13، 14]، أي: خلقكم على طَورٍ ثم نقلكم من ذلك الطورِ إلى طَورٍ آخَرَ. وقال جل وعلا: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6]، بعد أن كُنْتُمْ نُطَفًا تصيرونَ عَلَقًا، ثم مُضغًا، ثم عِظَامًا. وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) هذه المراتبَ بيانًا شافيًا في آياتٍ كثيرةٍ مِنْ أَوْضَحِهَا آيةُ: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 563) القرطبي (7/ 46)، البحر المحيط (4/ 188). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 564)، البحر المحيط (4/ 188). (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 565)، البحر المحيط (4/ 188).

{قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُوْنَ} لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فيها الأطوارَ التي مَرَّ بالإنسان عليها إلى حالتِه هذه؛ حيث قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: الآيات 12 - 16]. وعلى هذا: فالمُستقَر: هو القرارُ المكينُ الذي يَجْعَلُ اللَّهُ فيه الإنسانَ في رحمِ أُمِّهِ بعدَ أن خَلَقَ آدمَ من ترابٍ، كما قال في آيةِ (قد أفلح) هذه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)} يعني: رَحِمَ أُمِّهِ. وهذا نبهنا الله عليه، وَحَذَّرَنَا أن ننصرفَ عن هذا، وأن نغفلَ عنه؛ لأنكم كُلَّكُمْ تعلمونَ أن الواحدَ منا لم يدخل رحمَ أمه مُخَطَّطًا، وليس فيه يَدٌ ولا رِجْلٌ ولا رأس ولا عَيْنٌ، بل يدخل رحمَ أمه وهو نطفةٌ من مَنِيٍّ، ثم إن الخالقَ (جل وعلا) ينقلُ بقدرتِه تلك النطفةَ فيجعلُها دَمًا جَامِدًا، وهو الْمُعَبَّرُ عنه بـ (العلقةِ)، ثم يقلبُ ذلك الدمَ مضغةَ لَحْمٍ ليس فيها تخطيطٌ، ولا رِجْلٍ ولا يَدٍ، ثم إنه يقلبُ تلك المضغةَ هيكلَ عظامٍ، ويرتبُ هذه العظامَ بعضَها ببعضٍ هذا الترتيبَ المُحْكَمَ المتقنَ الذي يجدُه الواحدُ منكم، فيرتبُ السُّلاَمِيَّاتِ في السُّلامياتِ، والمفاصلَ بالمفاصلِ، وَفَقَارَى الظَّهْرِ بِفَقَارَى الظَّهْرِ، ويجعلُ هذه العظامَ على أُمِّ الدماغِ، فيجعلُ له دماغَه في هذا الغلافِ الذي هو أُمُّ الدماغِ، ويفتحُ في وجهِه العينين، ويصبغُ بعضَهما بصبغٍ أسودَ وبعضهما بصبغٍ أبيضَ، ويزينها بِشَعْرِ الحواجبِ والجفونِ، ويجعلُ فيهما حاسةَ البصرِ، ويفتحُ له الأنفَ، ويجعل فيه حاسةَ الشَّمِّ، ويفتحُ له الفمَ، ويجعلُ فيه

اللسانَ لِيَرُدَّ به شاردَ الطعامِ على أضراسِه عند المضغِ، وَيُبِينُ به الكلامَ، حتى يقضيَ حاجتَه من بَنِي الإِنْسَانِ، ثم إنه (جل وعلا) يضعُ الكبدَ في مَحَلِّهِ، وَالْكُلْيَتَيْنِ في محلهما، وكلُّ موضعٍ في محله، وَيُوَكِّلُهُ بوظيفتِه في تدبيرِ الجسمِ، ويفتحُ الشرايينَ ليدورَ الدمُ، ويفتحُ مجاريَ البولِ والغائطِ. ولو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ من أعضاءِ الإنسانِ تَشْرِيحًا حَقِيقيًّا لَبَهَرَ العقولَ ما أَوْدَعَ اللَّهُ (جل وعلا) فيه من غرائبِ صنعِه وعجائبِه، فليس في الواحدِ مِنَّا مَوْضِعُ رأسِ إبرةٍ إِلاَّ وفيه من غرائبِ صنعِ خالقِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ لو فَكَّرَ (¬1). وأنا أُؤَكِّدُ لكم أن هذه العملياتِ الهائلةَ التي تُفْعَلُ في الواحدِ منا، العليمُ القديرُ الذي فَعَلَهَا لم يَحْتَجْ إلى أن يَشُقَّ بطنَ أُمِّ الواحدِ مِنَّا، وَلَمْ يُبَنِّجْهَا، ولم يُنَوِّمْهَا في صحية، بل فعل فيها هذه الأعمالَ الهائلةَ العجيبةَ الغريبةَ من حيثُ لاَ تشعرُ، وهي لاهيةٌ تَفْرَحُ وتمرحُ، لا تَدْرِي عَمَّا يُفْعَلُ في بطنِها من غرائبِ الصُّنعِ وعجائبِه، مع أن الجنينَ الذي يُفْعَلُ فيه هذا من الغرائبِ والعجائبِ هو مندرجٌ في ثلاثِ ظلماتٍ: ظلمةِ بطنِ أُمِّهِ، وظلمةِ رَحِمِهَا داخلَ البطنِ، وظلمةِ المشيمةِ التي على الولدِ؛ لأنه في داخلِ الرحمِ يكونُ عليه المشيمةُ، والسَّلاَ يُغَطِّيهِ، فالله (جل وعلا) عِلْمُهُ نَافِذٌ، وبصرُه نافذٌ، لا يحتاجُ إلى كهرباء، ولا إلى نورٍ يكشفُ به تلك الظلماتِ، بل علمُه وقدرتُه نافذةٌ، فيفعل في الإِنْسَانِ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ويرتبُ بعضَه مع بعضٍ، ويخلقُه هذا الخلقَ العجيبَ. ¬

(¬1) للاستزادة في هذا الموضوع انظر مثلاً: مفتاح دار السعادة (1/ 187، 255) فما بعدها، أقسام القرآن 295 فما بعدها.

ونحن دائمًا نذكر هذا لأَنَّ الله يُنَبِّهُنَا عليه، وينكرُ علينا أن نغفلَ عنه؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ في السورةِ الكريمةِ- سورةِ الزمرِ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} ثم قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ثم قال: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: آية 6]، أينَ تُصْرَفُونَ وتروحُ عقولُكم عن فِعْلِ خالقِكم فيكم؟ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عَمَّا يفعلُ اللَّهُ (جل وعلا) فيكم؟ هذه غرائبُ صُنْعِ رَبِّنَا وعجائبُه، حتى إنه من شدةِ لطفهِ وحكمتِه: أن ما يحتاجُ الِإنسانُ إلى تقصيرِه دائمًا، كشعرِه وأظفارِه: نَزَعَ منه روحَ الحياةِ، إِذْ لو جعلَ الحياةَ في الشعرِ والظفرِ لَمْ يَحْلِقِ الإِنْسَانُ، ولم يُقَصِّرْ، ولم يُقَلِّمْ أظفارَه إلا وهو مُنَوَّمٌ في صحية بعمليةٍ. هذا من غرائبِ صُنعِه وعجائبِه (جل وعلا) ولطفِه بخلقِه؛ ولذا نَبَّهَنَا على هذا حيث قال: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} كما قال جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: الآيتان 20، 21] وقال هنا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} فلكم بعدَ إنشاءِ تلك النفسِ، وإنشاءِ زَوْجِهَا منها، لكم بعدَ ذلك {فَمُسْتَقَرٌّ} في الأرحامِ، تُنْقَلُونَ فيها من طَوْرِ النطفةِ إلى طَورِ العَلَقَةِ، وَمِنْ طَورِ العَلَقَةِ إلى طَوْرِ المُضْغَةِ إلى آخِرِ الأطوارِ. {وَمُسْتَوْدَعٌ}: نُطَفًا في أصلابِ الآباءِ. هذا قولُ أكثرِ المفسرين. وبعضُ العلماءِ عَكَسَ، قال: الاستيداعُ في بطنِ الأمهاتِ، والاستقرارُ في أصلابِ الرجالِ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: مُسْتَقَرٌّ على ظَهْرِ الأرضِ، ومُسْتَودَعٌ في

بطنِها في القبورِ وأنتم أمواتٌ، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات: الآيتان 25، 26]، الكِفَاتُ هنا: مَحَلُّ الكَفْتِ. والكَفْتُ في اللغةِ: معناه الضَّمُّ (¬1). أي: محلاًّ يضمُهم أحياء على ظَهْرِهَا، ويضمُهم أمواتًا في بطنِها. وهذا معنَى قولِه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} وَلِذَا قال: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ} التفصيلُ: البيانُ والإيضاحُ وإزالةُ الإجمالِ. والمرادُ بالآياتِ: آياتُ هذا القرآنِ العظيمِ مع ما تَضَمَّنَتْهُ من آياتِه الكونيةِ (جل وعلا)، الدالةِ على كمالِ قُدْرَتِهِ. وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: قال في الآيةِ الأُولَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ثم قال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)} [الأنعام: آية 97]، وهنا قال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} [الأنعام: آية 98]، فما الحكمةُ في تلوينِ الكلامِ، والتعبيرِ في الأولِ بـ (قوم يعلمون) وفي الثاني بـ (قوم يفقهون) (¬2)؟ قال بعضُ العلماءِ: إنما قال بعدَ ذِكْرِهِ الاهتداءَ بالنجومِ: {قَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لأَنَّ ذلك أمرٌ يَعْلَمُهُ جُلُّ الناسِ. وقال هنا: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} لأَنَّ أسرارَ نقلِ الإنسانِ من هذه الأطوارِ وإيجادِه الأولِ لاَ يُدْرِكُ حقائقَها وما انْطَوَتْ عليها من الغرائبِ والعجائبِ إلا الذين يفقهونَ. أي: لهم فِقْهٌ وَفَهْمٌ دقيقٌ في الأمورِ. ¬

(¬1) انظر المفردات: (مادة: كفت) 713. (¬2) في الإجابة على هذا السؤال انظر: درة التنزيل وغرة التأويل ص68، البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني ص 65، مِلاَك التأويل (1/ 462)، البحر المحيط (4/ 188) الدر المصون (5/ 67).

وهذا معنَى قولِه: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}. وهذه الآياتُ الكريمةُ قد بَيَّنَّا مِرَارًا أنها تشيرُ إلى براهينِ البعثِ الثلاثةِ الكثيرةِ في القرآنِ؛ لأَنَّ الله تَبَارَكَ وتعالى أَجْرَى العادةَ بأنه يُكْثِرُ في القرآنِ العظيمِ من ثلاثةِ براهينَ على البعثِ، ذَكَرَهَا كُلَّهَا في هذه الآياتِ من سورةِ الأنعامِ. وهذه البراهينُ الثلاثُ: منها: إِيجَادُنَا أولاً؛ لأن مَنْ خَلَقَنَا أولاً من ترابٍ، ثم من نفسٍ واحدةٍ، ثم خَلَقَ من تلك النفسِ زَوْجَهَا، ثم صَارَ يجعلُ نُطَفَنَا مستودعةً في أصلابِ آبائِنا، ثم ينقلُ منها ويجعلُ لنا قَرَارًا في أرحامِ أُمَّهَاتِنَا، وينقلُنا في تلك الأطوارِ إلى أن نكونَ بَشَرًا ننتشرُ في الأرضِ، مَنْ قَدَرَ على هذا الإيجادِ الأولِ فلا شَكَّ أنه قادرٌ على البعثِ مرةً أخرى بعدَ الموتِ؛ لأن عامةَ العقلاءِ مُتَّفِقُونَ على أن إعادةَ الفعلِ أسهلُ من ابتدائِه، وَاللَّهُ (جل وعلا) كُلُّ شَيْءٍ عندَه سَهْلٌ. والآياتُ الدالةُ على أن الإيجادَ الأولَ برهانٌ عقليٌّ قاطعٌ على الإيجادِ الثاني - الذي هو البعثُ - كثيرةٌ جِدًّا في هذا القرآنِ العظيمِ، كقولِه جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: آية 27]، وكقولِه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: آية 104]، وكقولِه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ (62)} [الواقعة: آية 62]، وتتعظونَ بأن مَنْ أَنْشَأَ أولاً قادرٌ على أن يُنْشِئَ ثانيًا، وكقولِه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: آية 5]، إلى أن قال في آخِرِ آياتِ الحجِّ هذه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: الآيتان

6، 7]، بهذه الدلائلِ العظيمةِ؛ لأَنَّ البعثَ والإيجادَ بعدَ عدمٍ لاَ يمكنُ أن يكونَ أعظمَ من الإيجادِ الأولِ من الترابِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الحج: آية 5]، فَعَيْنُ المقدمةِ التي تُنْكِرُونَ: هي المقدمةُ التي أنتم موجودونَ بها، مُقِرُّونَ بها، وكقولِه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الآيتان 78، 79]، وكقولِه جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى} (¬1) وفي القراءةِ الأُخْرَى: {مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: الآيات 37 - 40] بَلَى وَاللَّهِ هو قادرٌ على ذلك. وهذا كثيرٌ في القرآنِ؟ ولأَجْلِ هذا قال الله جل وعلاَ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [الآيات 1 - 4]، ثم بَيَّنَ أن مرادَه بالقَسَمِ على أنه خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ ليقيمَ بذلك البرهانَ القاطعَ على البعثِ بعد الموتِ. وَلِذَا أَتْبَعَهُ بقولِه: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)} [التين: آية 7]، أَيُّ شيءٍ يَحْمِلُكَ على التكذيبِ بالبعثِ والجزاءِ، وقد علمتَ أني أَوْجَدْتُكَ أولاً، وليس الإيجادُ الأخيرُ بأصعبَ من الإيجادِ الأولِ؟ ولأجلِ هذا بَيَّنَ اللَّهُ تعالى أنه لا يُنْكِرُ الإيجادَ الثانيَ - الذي هو البعثُ بعدَ الموتِ - إلا مَنْ نَسِيَ الإيجادَ الأولَ حيث قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: آية 78]؛ إذ لو تَذَكَّر خَلْقَهُ الأولَ لَمَا أَمْكَنَهُ أن ينكرَ خلقَه الثانيَ. وكما قال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ ¬

(¬1) وهي قراءة أكثر السبعة: انظر: المبسوط لابن مهران 453 ..

لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: الآيات 66 - 68]، وهذا كثيرٌ. وهذا البرهانُ القطعيُّ على البعثِ أشارَ له بقولِه هنا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: آية 98]. البرهانُ الثاني: خلقُه السماواتِ، وَتَزْيِينُهَا بالنجومِ، وخلقُه الأرضَ، وأشار له هنا بقولِه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} [الأنعام: آية 97]، والنجومُ زُيِّنَتْ بها السماءُ. وَمَنْ خَلَقَ هذا العالمَ العلويَّ والسفليَّ فهو قادرٌ على بعثِ الإنسانِ الصغيرِ المسكينِ؛ لأَنَّ مَنْ خلقَ الأكبرَ الأعظمَ فهو قادرٌ على خلقِ الأصغرِ من بابِ أَوْلَى؛ ولأَجْلِ هذا كَثُرَ في القرآنِ العظيمِ الاستدلالُ على البعثِ بإيجادِ السماواتِ والأرضِ المشارِ لها بإيجادِ النجومِ والاهتداءِ بها في العالَم العلويِّ، كقولِه تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: آية 57]، أي: وَمَنْ قَدَرَ على خلقِ الأكبرِ فهو قَادِرٌ على خلقِ الناسِ الذين هم أَصْغَرُ. وكقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [الأحقاف: آية 33]، وكقولِه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: آية 99]، وكقولِه جل وعلا: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)} [النازعات: الآيات 27 - 32]، والجوابُ: السماءُ أشدُّ خَلْقًا مِنَّا، أي: فَمَنْ قَدَرَ على خلقِ الأَشَدِّ فهو قادرٌ على خلقِ الأضعفِ الأصغرِ. والآياتُ في مثلِ هذا كثيرةٌ. البرهانُ الثالثُ: إحياءُ الأرضِ بعدَ موتِها، المشارُ إليه بقولِه

هنا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 99]، لأَنَّ مَنْ يُحْيِي الأرضَ، ويُخرجُ النباتَ بعد الانعدامِ قَادِرٌ - بِلاَ شَكٍّ - على أن يُحْيِيَ الأنفسَ الإنسانيةَ بعدَ العدمِ؛ لأَنَّ الكلَّ من بابٍ واحدٍ، كُلُّهُ جرمٌ خَلَقَهُ اللَّهُ أولاً وانقرضَ وَانْمَحَى. وقد عَايَنَّا أنه يُعيدُ النباتاتِ، فتجدُ الأرضَ بِحُلِيِّهَا وَحُلَلِهَا من أنواعِ النباتِ، ثم يَيْبَسُ، وَتَذْرُوهُ الريحُ، ويصيرُ هَشِيمًا، ثم إن الله يُوجِدُ في الأرضِ شَيْئًا كثيرًا بعد فنائِه. فَمَنْ أَحْيَا الأرضَ وأنبتَ النباتَ بعدَ أَنِ انْعَدَمَ: فلا شَكَّ أنه قادرٌ على خلقِ الإنسانِ، وإنباتِ الآدميين بعدَ أن أَكَلَتْهُمُ الأرضُ. والآياتُ الدالةُ على هذا البرهانِ كثيرةٌ، كقولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: آية 39]، وكقولِه جل وعلا: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: آية 57]، أي: فَإِخْرَاجُنَا للنباتِ بعدَ الانعدامِ كذلك إِخْرَاجُنَا لِلْمَوْتَى بعدَ أن أَكَلَتْهُمُ الأرضُ. وكقولِه جل وعلا: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} [الروم: آية 50] وكقولِه تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} [الروم: الآيات 17 - 19]، أي: مِنْ قبورِكم أحياءً بعد الموتِ، وكقولِه تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ

بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق: الآيات 9 - 11] أي: كخروجِ النباتِ الذي تُشَاهِدُونَ: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي: خروجُكم من قبورِكم أحياءً بعدَ الموتِ. والآياتُ الدالةُ على هذا كثيرةٌ جِدًّا كما قال جل وعلا: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف: آية 57]، كذلك الإخراجُ نُخْرِجُ الْمَوْتَى؛ وَلِذَا قال (جل وعلا) هنا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: آية 99]، الله (جل وعلا) يُنْزِلُ الماءَ من السماءِ؛ لأَنَّ إنزالَ الماءِ من السماءِ فيه غرائبُ وعجائبُ، يجبُ على الإنسانِ تَأَمُّلُهَا؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس: آية 24]، وقوله: {فَلْيَنظُرِ} صيغةُ أمرٍ تَدُلُّ على الوجوبِ، فإذا لم يَنْظُرِ الإنسانُ إلى طعامِه كان مُخَالِفًا للأمرِ السماويِّ من خالقِ السماواتِ والأرضِ. وما يُدْرِيهِ أن اللَّهَ يقولُ له كما قال لإبليسَ: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12]، ما مَنَعَكَ ألا تنظرَ إلى طعامِك إِذْ أَمَرْتُكَ؟ وهذا النظرُ المأمورُ به إلى الطعامِ كأن اللَّهَ يقولُ لكَ: انْظُرْ يا عَبْدِي لتعلمَ عَظَمَتِي وَقُدْرَتِي، وتعرفَ قَدْرَكَ، وَضَعْفَكَ وَعَجْزَكَ، انْظُرْ إلى الخبزِ الذي تَأْكُلُهُ، وتُقِيمُ به أَوَدَكَ، مَنْ هو الذي خَلَقَ الماءَ الذي نَبَتَ بِسَبِبِهِ؟ أيقدرُ أحدٌ غير اللَّهِ أن يخلقَ هذا الجرمَ اللطيفَ الذي يُحْيِي به اللَّهُ الأجسامَ، وينبتُ به النباتاتِ؟ لاَ وَاللَّهِ لاَ يَقْدِرُ على خَلْقِهِ إِلاَّ اللَّهُ. هَبْ أَنَّ الماءَ خُلِقَ، فَمَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه، وَسَقْيِ الأرضِ به مع سعةِ رقعتِها؟ مَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه على هذا الأسلوبِ الغريبِ

العجيبِ الذي ينزلُ رَشَاشًا؟ فلو كَانَ مُنْزِلُهُ أخْرَقَ لأَنْزَلَهُ قطعةً واحدةً مُتَّصِلاً بعضُه ببعضٍ. ولو نَزَلَ المطرُ الغزيرُ قطعةً واحدةً لأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ سَقَطَ عليه، وَتَرَكَ الخلقَ أَثَرًا بعدَ عَيْنٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى بَيَّنَ كيفيةَ إنزالِه إياه، وما في ذلك مِنَ الغرائبِ والعجائبِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43]، الوَدْقُ: المطرُ يخرجُ من خلالِ السحابِ، أي: مِنْ فتوقِ الْمُزْنِ وثقوبِه التي جَعَلَهَا اللَّهُ فيه، وهو إنما يأتي به قَادِرٌ يُصَرِّفُهُ كيفَ شَاءَ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ في السورةِ الكريمةِ - سورةِ الفرقانِ - أنه يُنْزِلُ الماءَ هذا الإنزالَ الهائلَ الغريبَ العجيبَ، وأن كَثِيرًا من الناسِ يَأْبَى في هذه الغرائبِ والآياتِ إِلاَّ الْكُفْرَ - والعياذُ بالله -؛ لأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: الآيات 48 - 50]، يعني: صَرَّفْنَا الماءَ بينَ الناسِ، تارةً نُغْدِقُ المطرَ على قومٍ لِتُخْصِبَ أرضَهم، وَتُنْبِتَ زُرُوعَهُمْ، ويكثر خيرُ مواشيهم، اختبارًا لهم وابتلاءً هل يشكرونَ نِعَمَنَا؟ ونَصْرِفُهُ عن قومٍ كانوا في خِصْبٍ حتى يُجْدِِبوا؛ لنختبرهم بذلك الجدبِ والفقرِ وهلاكِ المواشي والزروعِ: أيتعظون، وَيُنِيبُونَ إلينا؟ وَلَمَّا قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} قال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: آية 50]، وَمِنَ الناسِ الذين أَبَوْا إِلاَّ كُفُورًا: الكفرةُ وأذنابُ الكفرةِ الذين يزعمونَ أن السحابَ لَمْ يُنْزِلُهُ مَلَكٌ مُقْتَدِرٌ، وإنما هي طبائعُ، وأن الماءَ تَتَفَاوَتُ عليه درجاتُ الشمسِ، أو احتكاكُ الهواءِ حتى يتبخرَ وتتصاعدَ أبخرتُه، فتتجمعُ ثم تُلاَقِي هواءً حارًّا، ثم تُزَعْزِعُهَا الريحُ فَتُفَرِّقُهَا، وأن هذا ليس فعلَ فاعلٍ!! هؤلاء الذين يقولُ اللَّهُ فيهم:

{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تلك السحابةِ - التي أَنْزَلَهَا اللَّهُ ليلاً - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَسَمِعْتُمْ مَا قَالَ رَبُّكُمُ الْبَارِحَةَ؟ قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَهَذَا مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَهُوَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» (¬1). ومثلُه الذي يقولُ: مُطِرْنَا ببخارِ كذا!! لأن السحابَ يُنْزِلُهُ مَلَكٌ مُقْتَدِرٌ، يخلق ماءَه أَوَّلاً. وَبين خلقَه قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي: يَسُوقُهُ: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يَضُمُّ بعضَه إلى بعضٍ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} مُتَرَاكِبًا يَعْلُو بعضُه فوقَ بعضٍ {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43]، جَمْعُ خَلَلٍ، أي: مِنْ ثُقُوبِ الْمُزْنِ وفروجِه: ينزل منها؛ لأنه يجعلُ وعاءَه كالغرابيلِ؛ ينزلُ منها المطرُ، على قَدْرِ ما يشاءُ اللَّهُ جل وعلا: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (50)} [الفرقان: آية 50]. هَبْ أن الماءَ خُلِقَ، وأن المطرَ أُنْزِلَ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يشقَّ الأرضَ وَيُخْرِجَ منها مسمارَ النباتِ؟ هَبْ أَنَّ مسمارَ النباتِ خَرَجَ، مَنْ هُوَ الذي يَقْدِرُ أن يشقَّه ويخرجَ منه السنبلةَ؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلَّمَ. حديث (846)، (2/ 333) وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (1038، 4147، 7503)، ومسلم، كتاب الإيمان؛ باب بيان كفر من قال مُطِرْنا بالنوء. حديث رقم: (71)، (1/ 83).

هَبْ أن السنبلةَ وُجِدَتْ، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يخرجَ حَبَّهَا وَيُنَمِّيَهُ، وينقلَه من طَورٍ إلى طَورٍ حتى يصيرَ صَالِحًا مُدْرِكًا نافعًا للأَكْلِ؟ كما يُنَبِّهُنَا اللَّهُ على هذا في هذه الآيةِ التي نَحْنُ عندَها في قولِه: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: آية 99]، انْظُرُوا الثمرَ عندما يَبْدُو، وَانْظُرُوهُ عندما يُدْرِكُ نَاضِجًا صَالِحًا للأكلِ، تعلمونَ أن الذي نَقَلَهُ منذ تلك الحالِ الأُولَى إلى حالةِ الانتفاعِ هذه، أنه رَبٌّ قادرٌ عظيمٌ، هو الخالقُ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 99]، الباءُ: سَبَبِيَّةٌ، واللَّهُ (جل وعلا) يُسَبِّبُ ما شاء على ما شاءَ من الأسبابِ، ولو شاءَ أن تنخرمَ الأسبابُ لاَنْخَرَمَتْ، فهو (جل وعلا) يفعلُ كيفَ يشاءُ، ويسببُ ما شَاءَ مِنَ المُسَبَّباتِ، على ما شاء من الأسبابِ، ويبينُ لنا في كتابِه غرائبَ وعجائبَ وَعِبَرًا نعلمُ بها أنه لاَ تأثيرَ إلا لِلَّهِ وحدَه، وأنه لو شاءَ أن لا تؤثرَ الأسبابُ لَمْ تُؤَثِّرْ، ومن ذلك ما قَصَّ علينا في سورةِ الأنبياءِ وغيرِها من سورِ القرآنِ أنه أُلْقِيَ إبراهيمُ في نارِ نمرودَ وقومِه، أُلْقِيَ إبراهيمُ في نارٍ تَضْطَرِمُ، تأكلُ الحطبَ حتى تتركَه رَمَادًا، أُلْقِيَ فيها إبراهيمُ والحطبُ، فَأَكَلَتِ الحطبُ بحرارتِها فَتَرَكَتْهُ رَمَادًا، وصارت بَرْدًا على إبراهيمَ. ولو لم يَقُلِ اللَّهُ: {كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا} [الأنبياء: آية 69]، لو لم يَقُلْ: {وَسَلاَمًا} لأَهَلْكَهُ بردُها، والنارُ لا عَقْلَ لها ولا إدراكَ تحرقُ به الحطبَ وتتركُ إبراهيمَ. وذلك يُبَيِّنُ أن الفاعلَ هو الخالقُ (جل وعلا)، وأنه يسببُ ما شاءَ على ما شاءَ مِنَ الْمُسَبَّباتِ. ويوضحُ لنا هذا: أن السببَ تَارَةً يكونُ مُنَاقِضًا للمُسبَّبِ وينتجُ الشيء من نقيضِه، كما قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ في

قصةِ قتيلِ بَنِي إسرائيلَ (¬1)؛ لأنه لَمَّا أرادَ اللَّهُ أن يُحْيِيَهُ قال لهم: اذْبَحُوا بَقَرَةً، فَذُبِحَتِ البقرةُ، وصارت ميتةً، وَقُطِعَتْ منها وصلةٌ وهي ميتةٌ، قطعةٌ مِنْ بقرةٍ [11/ب] ميتةٍ، ليس فيها من الحياةِ شيءٌ، فضربوه بها فَحَيِيَ، / وأخبرَهم بقاتلِه!! لو ضَرَبُوهُ بالبقرةِ حيةً لربما قال جاهلٌ: قَدِ اسْتَفَادَ الحياةَ منها، وَسَرَتْ حياتُها فيه!! أما هو فقد أَمَرَهُمْ أن يُمِيتُوهَا وَيَذْبَحُوهَا ويضربوه بقطعةٍ منها فَحَيِيَ!! فَمِنْ أَيْنَ وُجِدَتْ هذه الحياةُ من هذا الضربِ بقطعةٍ من بقرةٍ ميتةٍ؟ وذلك برهانٌ قاطعٌ على أن اللَّهَ يسببُ ما شاءَ على ما شاءَ من الأسبابِ؛ وَلأَجْلِ هذا قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بِسَبَبِهِ {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}. قولُه: {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: جميعَ أصنافِ النباتاتِ مِمَّا يأكلُه الناسُ والأنعامُ، كما قال جل وعلا: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: آية 54]، فَيُنْبِتُ للناسِ أنواعَ النباتِ مما هو قوتٌ كالقمحِ والشعيرِ ونحوِهما، وَمِمَّا هو فاكهةٌ، وينبتُ لهم المرعى لحيواناتهم؛ لأن الحيواناتِ إذا أَكَلَتِ المرعى المليءَ كَثُرَتْ ألبانُها وأزبادُها وأسمانُها ولحومُها وَكَثُرَتْ جُلُودُهَا وأصوافُها وأوبارُها وأشعارُها، إلى غيرِ ذلك من منافعِها بسببِ الماءِ؛ ولذا قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}. {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} أي: من نباتِ كُلِّ شَيْءٍ. {خَضِرًا} الخَضِرُ: هو صفةٌ مشبهةٌ من (خَضِرَ) فهو (خَضِرٌ وأَخضَرُ). والمرادُ بالخَضِرِ هنا: الذي يَنْبُتُ أخضرَ كالبقولِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة ..

ونحوِها (¬1)؛ لأن القمحَ والشعيرَ وما جَرَى مجراهما ينبتُ أولاً نبات البقولِ. ثم قال: {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي: من ذلك الخَضِرِ النابتِ. {حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} يَعْلُو بعضُه بَعْضًا كالسنبلِ، فإنكَ تجدُ السنبلةَ يتراكبُ فيها الْحَبُّ ويعلو بعضُه بعضًا (¬2). وهذا معنى قولِه: {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا}. وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} قراءةُ الجمهورِ (¬3) {النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ} بالنصبِ؛ لأَنَّ الكسرةَ علامةٌ هنا للنصبِ. وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} النخلُ: من جنسِ المُنْبَتِ بهذا الماءِ، إلا أن اللَّهَ قَطَعَهُ، وجاء به في صيغةِ جُمْلَةٍ مُسْتَأنَفَةٍ من مبتدأٍ وخبرٍ تَنْوِيهًا بشأنِ النخلِ (¬4) لأن النخلَ كُلَّهُ مَنَافِعُ. وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ: أنه إِذَا ذَكَرَ الإنعامَ بالتمرِ ذَكَرَهُ باسمِ شجرتِه التي هي النخلةُ، وإذا ذَكَرَ الإنعامَ باسمِ العنبِ ذَكَرَهُ باسمِ الثمرةِ التي هي العنبُ. هذه قاعدةٌ مطردةٌ في القرآنِ. قال بعضُ العلماءِ: إنما ذَكَرَ شجرةَ التمرِ التي هي النخلةُ؛ لأن النخلةَ كُلَّهَا منافعُ، فتمرها بعضُ منافِعها (¬5). فلو عَبَّرَ بالتمرِ لأَهْمَلَ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 573)، القرطبي (7/ 47)، الدر المصون (5/ 69). (¬2) انظر: ابن جرير (11/ 573)، القرطبي (7/ 47)، البحر المحيط (4/ 189). (¬3) والقراءة الأخرى: برفع «جناتٌ». انظر: المبسوط لابن مهران، ص199. (¬4) انظر: البحر المحيط (4/ 189). (¬5) انظر تفصيل ذلك في مفتاح دار السعادة (1/ 230).

منافعَ النخلِ الكثيرةِ؛ لأن النخلَ كُلَّهَا منافعُ؛ لأن خُوصَهَا تُصْنَعُ منه القفاصُ، وجريدَها تُصْنَعُ منه الحُصر، وتصنعُ منها الحبالُ، ولبَّها يؤكلُ، وجذعَها يُسقف به، وكُرْنَافَها يوقدُ به، فجميعُ ما فيها منافعُ. أما شجرةُ العنبِ: فليس في نفسِ الشجرةِ من المنافعِ ما في النخلةِ (¬1)، فأعظمُ منافعِها في ثَمْرَتِهَا. وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ} النخلُ: جمعُ نخلةٍ. وقيل: هو جنسٌ أو اسمُ جَمْعٍ (¬2). وهو يُذَكَّرُ ويُؤنثُ؛ لأَنَّ اللَّهَ ذَكََّرَهُ في قولِه: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنْقَعِرٍ (20)} [القمر: آية 20]، ولم يَقُلْ: منقعرةٍ. وَأَنَّثَهُ في قولِه: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} [الحاقة: آية 7]، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، أَنَّ أسماءَ الأجناسِ تُذَكَّرُ وتُؤنَّثُ. قال بعضُ العلماءِ: فإن قيلَ له: (نخيلٌ) لَمْ يَجُزْ تَأْنِيثُهُ. وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} يُطْلَقُ (الطلعُ) على أولِ ما يخرجُ من النخلةِ؛ لأنه يخرجُ أَوَّلاً قبلَ أن يَنْفَتِحَ يسمى (كِمًّا)، ثم ينفتحُ على النَّوْرِ المسمَّى بـ (الإغْرِيض). وهذا هو المرادُ بقولِه: {مِنْ طَلْعِهَا}. وَرُبَّمَا يُطْلَقُ الطلعُ على ثَانِي الحالِ؛ لأنه يكونُ أَوَّلاً طَلْعًا ¬

(¬1) قال ابن القيم: «وعموم المنفعة به وبالعنب فوق كل الثمار. وقد اختلف الناس في أيهما أنفع وأفضل، وصنف الجاحظ في المحاكمة بينهما مجلدًا فأطال فيها الحِجَاج والتفضيل من الجانبين. وفَصلُ النزاع في ذلك: أن النخل في معدنه ومحل سلطانه أفضل من العنب وأعم نفعًا، وأجدى على أهله، كالمدينة والحجاز والعراق. والعنب في معدنه ومحل سلطانه أفضل، وأعم نفعًا، وأجدى على أهله كالشام والجبال والمواضع البادرة التي لا تقبل النخل» ا. هـ. مفتاح دار السعادة (1/ 230). (¬2) انظر الكليات 912.

نَوْرًا أبيضَ، ثم يُنْقَلُ من طَورٍ إلى طَورٍ حتى يكونَ بُسْرًا ورُطَبًا وَتَمْرًا يَابِسًا. وقولُه: {مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} المرادُ بالطلعِ هنا: حالُه الأخيرةُ، إلا أن ذلك يُوجَدُ من الطلعِ، وهو النَّوْرُ الذي ينفتحُ عنه الكِمُّ أَوَّلاً (¬1). وقولُه: {قِنْوَانٌ} القِنْوَانُ: جمعُ القِنْوِ، كالصِّنْوَانِ وَالصِّنْوِ. وفيه قراءة: {قِنْوَانٌ} و {قُنْوَانٌ} أما قراءةُ {قَنْوَانٌ} بفتحِ القافِ فليست سَبْعِيَّةً (¬2). والقِنْوَانُ: جمعُ القِنْوِ. والقِنْوُ: هو عِذْقُ النخلةِ الذي فيه الثمرُ (¬3). وقولُه: {دَانِيَةٌ} أي: قريبةُ المُتَنَاوَلِ؛ لأن النخلَ إذا كان صِغَارًا قد يُثْمِرُ الثمرةَ الجيدةَ، مع أنها دانيةٌ قريبةٌ سهلةُ المُتَنَاوَلِ، لا يحتاجُ صاحبُها إلى طلوعٍ، ولاَ إلى صعودٍ. ومعنَى قولِه: {دَانِيَةٌ} أي: قريبةُ الْمُجتَنَى، ينالُها الإنسانُ من غيرِ تَعَبٍ. قال بعضُ العلماءِ: ذَكَرَ دانيةَ الثمرِ ولم يَذْكُرِ السَّحُوقَ - التي ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 48، 50)، الدر المصون (5/ 75)، وقد ذكر مراتب ثمر النخلة، ونقل قول بعضهم: إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ ... أسماءَ ما تُثْمرهُ النخيلُ فَاسْمَعْه موصوفًا على ما أذكرُ ... طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ ... ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ فهذه أنواعُها يا صاح ... مضبوطةً عن صاحب الصحاحِ (¬2) وكذلك القراءة بضم القاف (قُنوان) شاذة أيضًا. انظر المحتسب (1/ 223)، القرطبي (7/ 48). (¬3) انظر: ابن جرير (11/ 575)، القرطبي (7/ 48)، الدر المصون (5/ 73).

هي النخلةُ الطويلةُ - قال بعضُ العلماءِ: ذَكَرَ الدانيةَ لأَنَّ النعمةَ بها أَتَمُّ؛ لأن ثمرَها يوجدُ بلا تعبٍ ولا كُلْفَةٍ. بخلافِ السَّحُوقِ فإنها لابد مِنْ أن يُصْعَدَ عليها (¬1). وقال بعضُ العلماءِ: هنا حَذَفَ الواوَ وما عَطَفَتْ عليه: وَمِنَ النخلِ مِنْ طَلْعِهَا قنوانٌ دانيةٌ وسَحُوق (¬2). أي: نَخْلٌ طوَالٌ. وقولُه: {قِنْوَانٌ} مبتدأٌ، خبرُه الجارُّ والمجرورُ قَبْلَهُ (¬3). وقولُه: {مِنْ طَلْعِهَا} بدلٌ من قولِه: {وَمِنَ النَّخْلِ} (¬4). و {قِنْوَانٌ} في مَحَلِّ مبتدأٍ، و {دَانِيَةٌ} نعتٌ له. والخبرُ قولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ} (¬5). وقولُه: {مِنْ طَلْعِهَا} جارُّ ومجرورٌ مُبْدَلٌ من الجارِّ والمجرورِ قَبْلَهُ، وهذا معروفٌ. وقولُه: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} جماهيرُ القراءِ قَرَؤُوا: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} (¬6) هو معطوفٌ على قولِه: {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} مِنْ عَطْفِ الخاصِّ على العَامِّ (¬7). أي: فَأَخْرَجْنَا به نباتَ كُلِّ شيءٍ، وَأَخْرَجْنَا به ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 48)، البحر المحيط (4/ 189). (¬2) السابق. (¬3) انظر: القرطبي (7/ 48)، البحر المحيط (4/ 189)، الدر المصون (5/ 69). (¬4) انظر: البحر المحيط (4/ 189، 190)، الدر المصون (5/ 69). (¬5) انظر: القرطبي (7/ 48)، البحر المحيط (4/ 190)، الدر المصون (5/ 69). (¬6) تقدمت هذه القراءة قريبًا، وأشرت هناك إلى القراءة الأخرى، وهي برفع (جنات). (¬7) انظر: البحر المحيط (4/ 190)، الدر المصون (5/ 75).

جناتٍ من نخيلٍ وأعنابٍ. ولم يَقُلْ: وجناتٌ من أعنابٍ؛ لأن جناتِ الأعنابِ ليست من قِنْوَانِ النخيلِ. ولو رُفِعَ في قولِه: «وجناتٌ من أعنابٍ» لَصَارَ المعنَى: من النخلِ قِنْوَانٌ دانيةٌ، ومن النخل جناتٌ من أعنابٍ. وهذا لا يَصِحُّ. وعلى بعضِ القراءاتِ: {وَجَنَّاتٌ} بالرفعِ، قالوا: يُقَدَّرُ له محذوفٌ. أي: ولهم من نِعَمِهِ - جل وعلا - جَنَّاتٌ من أَعْنَابٍ (¬1). (الجنات) جمع الجنةِ، والجنةُ في لغةِ العربِ: البستانُ (¬2). ومنه قولُه تعالى: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا} [القلم: آية 17]، هو بستانٌ معروفٌ وَقَعَتْ فيه هذه القضيةُ. أصلُ الجنةِ: البستانُ. والعربُ تُسَمِّي كُلَّ بستانٍ (جنةً). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قَوْلُ زُهَيْرٍ (¬3): كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقتَّلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا يعني: بستان نخلٍ نخلُه طِوَالٌ؛ لأَنَّ السُّحُقَ: جمع سَحُوقٍ، وهو النخلةُ الطويلةُ. هذا أصلُ الجنة في لغةِ العربِ. وهي في اصطلاحِ الشرعِ: دارُ الكرامةِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لعبادِه المؤمنين، فيها ما لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: آية 17]. ¬

(¬1) انظر توجيه قراءة الرفع في: حجة القراءات ص 264، القرطبي (7/ 49)، البحر المحيط (4/ 190)، الدر المصون (5/ 76). (¬2) انظر: المفردات (مادة: جنَّ) ص 204. (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

{وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} الأعنابُ: جمعُ العنبِ، وهو الثمرُ المعروفُ. وفي العنبِ غرائبُ وعجائبُ؛ لأنها ثمرةٌ كأن جُلَّهَا يُمْسِكُهُ اللَّهُ جل وعلا (¬1). {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أما قولُه: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} فلم يَقْرَأْهُ أحدٌ كائنًا ما كان إلا بالنصبِ. أما {وَجَنَّاتٍ} فقراءةُ الجمهورِ: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} وفي بعضِ القراءاتِ {وَجَنَّاتٌ} بالرفعِ. أما {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} فَقَرَأَهُ عامةُ القراءِ بالنصبِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ. الزيتونُ: هو الشجرُ المعروفُ، وهو الذي وَصَفَهُ اللَّهُ بالبركةِ في قولِه: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: آية 35] لأن منافعَ الزيتونِ كثيرةٌ؛ لأنه وَقُودٌ وَدُهْنٌ وِإِدَامٌ، إلى غيرِ ذلك مِنْ مَنَافِعِهِ (¬2). يذكرونَ أنه: أولُ شجرةٍ نَبَتَتْ في الأرضِ شجرةُ الزيتونِ، وأولُ شجرةٍ نبتت بعد الطوفانِ يزعمونَ أنها شجرةُ الزيتونِ، ويزعمونَ أن شجرةَ الزيتونِ هي أطولُ الشجرِ عُمْرًا، وأنها تَمْكُثُ في الأرضِ مَا لاَ تَمْكُثُهُ شجرةٌ غيرُها. {وَالرُّمَّانَ} مَعْرُوفٌ. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} كان بعضُ العلماءِ يقولُ: في الكلامِ حَذْفٌ دَلَّ المقامُ عليه، أي: والزيتونَ مشتَبِهًا وغيرَ ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد (4/ 340). (¬2) انظر: زاد المعاد (4/ 316 - 317)، أقسام القرآن ص44.

متشابهٍ، والرمانَ مشتَبِهًا وغيرَ مُتَشَابِهٍ (¬1). أنها راجعةٌ لِكِلَيْهِمَا. وَحُذِفَ أحدُهما لدلالةِ المقامِ عليه، ونظيرُ هذا التفسيرِ من كلامِ العربِ قولُ عمرِو بنِ أحمرَ الباهليِّ (¬2): رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي يَعْنِي كنتُ منه بَرِيئًا، وكان وَالِدِي بَرِيئًا. ومنه قَوْلُ ضَابِئ بنِ الحارثِ الْبَرْجَمِيِّ (¬3): فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وقَيَّارًا بِهَا لَغَرِيبُ وَهُوَ أسلوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. ومعنَى كونِ الزيتونِ مُشْتَبِهًا وغيرَ مُتَشابهٍ: أن شجرَه يتشابهُ ورقُه في القَدْرِ، ويتشابَه في نباتِه في جميعِ الغصنِ، وغيرُ متشابهٍ لأَنَّهُ أنواعٌ تختلفُ طُعُومُها. الذي يعرفُه يَجِدُ في اختلافِ طعمِه فُرُوقًا يستدلُّ بها على كمالِ قدرةِ مَنْ صَنَعَهُ، وأن صَانِعَهُ ليس بطبيعةٍ؛ لأَنَّ الطبيعةَ معنًى واحدٌ لاَ يَنْقَسِمُ، وكذلك الرمانُ: تجدُه متشابهًا بالمنظرِ، أغصانُه وورقُه مُتَشَابِهٌ، وقد تجدُ طعمَه مُتَبَايِنًا أَيْضًا كما هو مَعْرُوفٌ (¬4). ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 191)، الدر المصون (5/ 79). (¬2) البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 75)، الدر المصون (2/ 608). وقوله: «الطوي» أي: البئر. وقد كان بينه وبين رجل خصومة فيها. (¬3) البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 75)، الخزانة (4/ 81، 323). وقيار: اسم فرسه. (¬4) انظر: ابن جرير (11/ 578)، القرطبي (7/ 49)، البحر المحيط (4/ 191)، الدر المصون (5/ 79).

كونُه يتشابهُ من جهةٍ، ويختلفُ من جهةٍ، هذا دليلٌ على كمالِ قدرةِ مَنْ خَلَقَهُ، وأن خالقَه ليس بطبيعةٍ؛ لأن الطبيعةَ عند مَنْ يَزْعُمُونَهَا معنًى واحدٌ، جوهرٌ لا يَتَقَسَّمُ، ولا يقبلُ الانقسامَ. يستحيلُ أن تؤثرَ الطبيعةُ في مطبوعين مختلفين. فالنارُ لَوْ فَرَضْنَا - كما يقولونَ - «إنها بطبيعتِها تَحْرِقُ» فلا يمكنُ أن يكونَ من طبيعتِها الإبرادُ، وكذلك السكينُ، وقلنا: «طبيعتُها القطعُ» فلاَ يكونُ من طبيعتِها الوصلُ، وهكذا. فلا يمكن أن تكونَ الطبيعةُ الواحدةُ تنتجُ أشياءَ مختلفةً. واختلافُ هذه الأشياءِ دليلٌ على أن فاعلَ ذلك صانعٌ مختارٌ يفعلُ ما يشاءُ، كما نَبَّهَنَا على ذلك في أولِ سورةِ الرعدِ؛ لأن الله (جل وعلا) في أولِ سورةِ الرعدِ لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، نَبَّهَ خلقَه أن ما يزعمُه الكفرةُ الفجرةُ الكلابُ أبناءُ الكلابِ، مِنْ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ (جل وعلا) في هذا الكونِ من غرائبِه وعجائبِه، أنه فِعْلُ طَبِيعَةٍ، أَلْقَمَهُمُ الحجرَ في أولِ سورةِ الرعدِ، ذلك أن اللَّهَ لَمَّا قال: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} ثم نَوَّهَ بشأنِ هذا القرآنِ: {وَالَّذِيَ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1)} ذَكَرَ صفاتِ خالقِ هذا الكونِ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} ثم قال - هو مَحَلُّ الشاهدِ-: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ} وفي قراءةٍ أُخْرَى (¬1): {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} وفي ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص251.

القراءةِ الأُخْرَى (¬1): {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد: الآيات 1 - 4]، وفي القراءةِ الأُخْرَى: {فِي الأُكْلِ} (3) (4) يعني تجدُ هذا البستانَ أرضُه أرضٌ واحدةٌ، وقِطَعٌ يجاورُ بعضُها بعضًا، والماءُ الذي يُسْقَى به ماءٌ واحدٌ، والأرضُ بقعةٌ واحدةٌ لا اختلافَ في مَائِهَا، ولاَ فِي أرضِها، ثم ترى ذلك البستانَ تَخْرُجُ منه ثِمَارٌ مختلفةٌ ألوانُها وأشكالُها ومقاديرُها وطعومُها ومنافعُها. فهذا لا يمكنُ أن يكونَ من طبيعةٍ؛ إِذْ لو كانت طبيعةَ الماءِ لَمَا اختلفت إلى هذا الاختلافِ، ولو كانت طبيعةِ الأرضِ لَمَا اخْتَلَفَتْ إلى هذا الاختلافِ؛ لأَنَّ الماءَ واحدٌ، والبقعةَ واحدةٌ، فَدَلَّ اختلافُ هذه الثمارِ في أصنافِها وألوانِها وأشكالِها ومقاديرِها وطعومِها ومنافِعِها: على أن خالقَها هو القادرُ وحدَه، الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، الذي له السلطانُ على هذا الكونِ، وأَمْرُهُ (جل وعلا) هو الأمرُ، وَنَهْيُهُ هو النهيُ، وشرعُه هو الشرعُ، ودينُه هو الدِّينُ؛ ولذا قال (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}. ثم قال: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} هذا إلفاتُ خالقِ الكونِ نظرَ خَلْقِهِ إلى غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه، انظر مثلاً إلى النخلةِ، إلى (الكُمّ) عندما يطلعُ كاللسانِ غير مفتوحٍ، ثم انْظُرْهُ عندما ينفتحُ عن ذلك النَّوْرِ الأبيضِ اللَّيِّنِ، ثم بعد ذلك، بعد أن يصيرَ تَمْرًا يابسًا مُدْرِكًا، انظر ¬

(¬1) المصدر السابق.

حالتَه الأُولَى عندما نَبَتَ، وحالتَه الثانيةَ عندما طَابَ وَأَدْرَكَ تَعْرِفْ أن الذي نقلَه من ذلك الطَّورِ إلى هذا الطَّورِ أنه مَلِكٌ قَادِرٌ، هو رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، ومعبودُ كُلِّ شَيْءٍ جل وعلا. ولذا قال: {انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: آية 99]، {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ} الذي يَلْفِتُ ربكم نظرَكم إليه {لآيَاتٍ} أي: دلالاتٍ واضحاتٍ {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} أي: يُصَدِّقُونَ، يعرفونَ بذلك من غرائبِ صنعِ رَبِّهِمْ وعجائبِه أنه هو الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه جل وعلا. وإنما خَصَّ المؤمنين في قولِه: {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} لأَنَّ الكفرةَ لاَ يتعظونَ بالآياتِ، ولا يفهمونَ عَنِ اللَّهِ غرائبَه وعجائبَه؛ لأَنَّ اللَّهَ أَعْمَى بَصَائِرَهُمْ والعياذ بالله. ومن عادةِ القرآنِ أنه غالبًا يخصُّ بالفعلِ الْمُنْتَفَعِ به، وإن كان الفعلُ في أصلِه عامًّا (¬1)، كقولِه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: آية 45] وهو مُذَكَّرٌ به الأَسْوَدُ والأَحْمَرُ، وكقولِه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: آية 11]، وهو مُنْذِرٌ الأَسْوَدَ والأَحْمَرَ، وكقولِه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: آية 45]، {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} [فاطر: آية 18] وأمثالُ ذلك، مع أنه منذرٌ للجميعِ، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: آية 1]. هذه غرائبُ صنعِ اللَّهِ وعجائبُه يُبَيِّنُهَا لخلقِه (جل وعلا) ليعرفَهم بِرَبِّهِمْ (جل وعلا) بما يرونَ في هذا الكونِ من باهرِ صنعِه وعظيمِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

قدرتِه (جل وعلا)؛ ولذا قال: {إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}. {ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} معناه: عندما يَبْدُو وَيَطْلُعُ. والينعُ: تقول العربُ: «يَنَعَ الثمرُ، يَيْنَعُ، ويَينِعُ يَنْعًا، فهو يَانِعٌ» إذا نَضِجَ وأدركَ وصارَ صَالِحًا للأَكْلِ (¬1). معناه: انْظُرُوهُ عندَ حالتِه الأُولَى، وانظروه عندَ يَنْعِهِ. أي: طِيبِهِ، وَنُضْجِهِ، وإدراكِه صَالِحًا للأكل، تعرفونَ بذلك أن الذي نقلَه من الطَّوْرِ الأولِ عندما يثمر إلى الحالةِ التي أَيْنَعَ فيها وصارَ صَالِحًا للأكل تعلمونَ أن ذلك فِعْلُ عَلِيمٍ قديرٍ عظيمٍ، هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، ومعبودُ كُلِّ شَيْءٍ؛ ولذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. [12/أ] / {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: الآيات 100 - 104]. يقول الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)}. [الأنعام: آية 100]. قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا نافعًا: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ} بتخفيفِ الراءِ. وقرأه نافعٌ وحدَه: {وَخَرَّقُوا} بتشديدِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 581)، القرطبي (7/ 50)، الدر المصون (5/ 82).

الراءِ (¬1). أما على قراءةِ عبدِ اللَّهِ ابنِ مسعودٍ: (وحرَّفوا له بنين وبنات) فهذه قراءةٌ شاذةٌ (¬2). ومعنى هذه الآيةِ الكريمةِ: أن الله (جل وعلا) لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه الدالةَ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، كما في الآياتِ الماضيةِ، كقولِه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: آية 95]، وكقولِه: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: آية 98]، وكقولِه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} [الأنعام: آية 97] وقولِه: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} [الأنعام: آية 99] إلى آخرِ الآياتِ، بين الله فيها كمالَ قدرتِه وغرائبَ صنعِه وعجائبَه الدالةَ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، فقال في هذه الآيةِ كأنه يقول: مع ما أَبْدَيْتُ لِخَلْقِي من آياتي الدالةِ على عَظَمَتِي وَجَلاَلِي، وأني الربُّ المعبودُ، ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 200. (¬2) هذه القراءة إنما تُنسب لابن عمر، وابن عباس (رضي الله عنهما). كما في البحر المحيط (4/ 194)، والدر المصون (5/ 87)، وفي المحتسب (1/ 224): (عمر، وابن عباس). وابن عمر يُشدّد الراء، وخففها ابن عباس. أما القراءة المنسوبة لابن مسعود (رضي الله عنه)، فهي في قوله: (وخلقهم) حيث قرأها بإسكان اللام (وخَلْقَهم). والظاهر أنه معطوف على الجن. أي: وجعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصنامًا شركاء لله. انظر: المحتسب (1/ 224)، البحر المحيط (4/ 194)، الدر المصون (5/ 86)، وقد استشكل مؤلفه نسبة هذه القراءة لمصحف ابن مسعود، ومعلوم أن المصاحف آنذاك لم تكن مشكولة ولا منقوطة. فالله - تعالى - أعلم.

مع هذا أَشْرَكُوا بِيَ الْجِنَّ، وعبدوا معي المعبوداتِ التي لا تنفعُ ولا تَضُرُّ (¬1). وقولُه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} في إعرابِ قوله: {الْجِنَّ} أَوْجُهٌ: أشهرُها (¬2): أنه أحدُ مَفْعُولَيْ {جَعَلُوا}. والمعنَى: جعلوا الجنَّ شركاءَ لله. فهو المفعولُ الأولُ، أُخِّرَ لأَمْنِ اللَّبْسِ. و (جعل) هنا ذهب كثيرٌ من العلماءِ إلى أنها التي بمعنَى (صيَّر) (¬3) وهو غلطٌ. وإن قاله كثيرٌ من أَجِلاَّءِ العلماءِ. والتحقيقُ: أن (جَعَلَ) هنا بمعنى ( ... ) (¬4). ( ... ) منافعها من ألبانٍ وأصوافٍ وأوبارٍ وأشعارٍ وأسمانٍ إلى غيرِ ذلك، وكذلك خَلَقَ السماءَ ورفعَها وأبعدَ سَمْكها وَزَيَّنَهَا بالنجومِ، وجعلَها سَقْفًا محفوظًا تَمُرُّ عليه آلافُ السنين لاَ يتفطرُ، ولا يتصدعُ، ولا يتشققُ، ولا يحتاجُ إلى إصلاحٍ وترميمٍ: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 192 - 193). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 7)، القرطبي (7/ 52)، البحر المحيط (4/ 193)، الدر المصون (5/ 83). (¬3) انظر: الدر المصون (5/ 83). وما سيأتي عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬4) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. والكلام على (جعل) ومعانيها تجده عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام، والآية (189) من سورة الأعراف. والكلام بعد الانقطاع يتعلق بالآية التي بعدها (101) وهي قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ... } الآية.

[الملك: الآيتان 3، 4]، أي: مِنْ عِظَمِ مَا رَأَى؛ ولذا قال هنا: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: آية 101]، أي خالقُ السماواتِ والأرضِ، ومخترعُهما وَمَنْ فِيهِمَا. {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهذه الآيةِ يُفهم منها أن الْمُلْكَ والوَلَدِيةَ لا يمكنُ أن يَجْتَمِعَا؛ لأنهم لَمَّا ذَكَرُوا له الولدَ كان من رَدِّهِ عليهم: أنه مخترعُ الأرضِ والسماءِ. أي: وَمَنْ فِيهِمَا، وصانعُ الشيءِ هو مَالِكُهُ، والولدُ لا يكونُ مَمْلُوكًا أبدًا (¬1). وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ: بأن اللَّهَ يَرُدُّ على الكفرةِ في ادعاءِ الولدِ بأنه مَالِكُ كُلِّ شيءٍ، وأن الخلقَ عَبِيدُهُ، كما قال: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)} لأن العبدَ لا يمكنُ أن يكونَ وَلَدًا. ومن هذه الآياتِ القرآنيةِ أَخَذَ العلماءُ أن الإنسانَ إذا مَلَكَ ولدَه - بأن تزوجَ أمةً لغيرِه، وكان ولدُه رقيقًا وَاشْتَرَاهُ - أنه يَعْتِقُ عليه بنفسِ الْمِلْكِ، ولا يمكنُ أن يملكه؛ لأن الملكيةَ والولديةَ مُتَنَافِيَانِ (¬2)؛ ولذا قال هنا: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}. {أَنَّى} هنا: هذا استفهامٌ للاستبعادِ والإنكارِ والنفيِ. لا يمكنُ أن يكونَ له وَلَدٌ؛ لأن كُلَّ ما في السماواتِ والأرضِ إنما هو خلقُه وَمِلْكُهُ، فكيفَ سيكونُ له وَلَدٌ من صُنْعِهِ ومُلْكِهِ الذي خَلَقَهُ وَأَبْرَزَهُ من العدمِ إلى الوجودِ. {وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} أي: امرأةٌ. لأنه يَتَنَزَّهُ (جل وعلا) عن ¬

(¬1) انظر: القرطبي (2/ 85)، البحر المحيط (4/ 195)، التسهيل لابن جزي ص211 - 212، التحرير والتنوير (7/ 410). (¬2) انظر: القرطبي (11/ 159).

ذلك؛ وَلِذَا قال: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وجميعُ الكائناتِ خَلْقُهُ، فلا يمكنُ أن يكونَ شيءٌ مِنْ خَلْقِهِ ولدًا له بحالٍ؛ لأن الولدَ كالجزءِ من الوالدِ، والخلقُ صنعُ الوالدِ، والجزءُ والصنعةُ مُتَبَايِنَانِ لاَ يمكنُ أن يجتمعا في شيءٍ؛ ولذا قال جل وعلا: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ} - جل وعلا - {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} لاَ تَخْفَى عليه خافيةٌ، فهو (جل وعلا) يعلمُ كُلَّ شيءٍ، ويعلمُ غيرَ الشيءِ، لأَنَّ (الشيء) عندَ أهلِ السنةِ والجماعةِ لا يُطْلَقُ إلا على الموجودِ، واللَّهُ يعلمُ الموجودَ الذي هو شَيْءٌ، ويعلمُ المعدومَ الذي هو ليس بشيءٍ، فهو عَالِمٌ بالموجوداتِ والمعدوماتِ والجائزاتِ والمستحيلاتِ حتى إنه من إحاطةِ عِلْمِهِ لَيَعْلَمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في علمِه أنه لاَ يوجدُ، يعلمُ أن لو كان كيف يكونُ؟ كما قد بَيَّنَّا نَصَّهُ تعالى على ذلك في هذه السورةِ - سورةِ الأنعامِ - فَقَدْ بَيَّنَّاهُ مُفَسَّرًا في قولِه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] (1) لأَنَّ الكفارَ إذا عَايَنُوا النارَ نَدِمُوا على تكذيبِ الرسلِ، وَتَمَنُّوا الردَّ للدنيا مرةً أخرى لِيُصَدِّقُوا الرسلَ. وَلِذَا قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] على إحدى القراءاتِ (2)، والله (جل وعلا) عَالِمٌ أن هذا الردَّ الذي تَمَنَّوْهُ عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ (جل وعلا) أنه عَالِمٌ أن لو كان كيفَ يكونُ؟ كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28]، والمتخلفونَ عن غزوةِ تبوك لا يَحْضُرُونَهَا أبدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ثَبَّطَهُمْ عنها لإرادتِه لحكمةٍ يعلمها {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ

عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: آية 46]، وخروجُهم هذا الذي ثَبَّطَهُمْ عنه، وَسَبَقَ في علمِه أنه لا يكونُ، هو عَالِمٌ أَنْ لو كان كيفَ يكونُ، كما صَرَّحَ به في قولِه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الآية [التوبة: آية 47]. وكقولِه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: آية 75] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ. ولذا قال هنا: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: آية 101] فَمَنْ أحاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شيءٍ فكيفَ يكونُ جنسًا له - كالولدِ - من لاَ يعلمُ شيئًا إلا ما عَلَّمَهُ اللَّهُ؟ يعني: فالذي تَدَّعُونَ من الأولادِ لله لا يعلمونَ شيئًا إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، فكيفَ يكونونَ كالجزءِ والجنسِ لِمَنْ لاَ يَخْفَى عليه شَيْءٌ؟ وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا (¬1): أن العلمَ المحيطَ لِلَّهِ وحدَه، وأن المخلوقين يعلمونَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ فقط، وَبَيَّنَّا أمثلةً كثيرةً لذلك، منها: أن أَعْلَمَ الخلائقِ - الملائكةُ والرسلُ - الملائكةُ قد قَدَّمْنَا في سورةِ البقرةِ أن اللَّهَ لَمَّا قال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: الآيتان 31، 32]، فقولُه: {لاَ عِلْمَ لَنَا} النكرةُ إذا بُنِيَتْ على الفتحِ مع (لا) فـ (لا) التي مَعَهَا هي (لا) التي لِنَفْيِ الجنسِ (¬2). والمعنَى: أنهم نَفَوْا جنسَ العلمِ من أصلِه عن أنفسِهم، إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة. (¬2) انظر: ضياء السالك (1/ 351).

والرسلُ (صلواتُ الله وسلامُه عليهم) - مع ما أَعْطَاهُمُ اللَّهُ من الفضلِ والمكانةِ والعلمِ - دَلَّتْ آياتٌ كثيرةٌ أنهم لا يعلمونَ إلا ما عَلَّمَهُمْ خالقُهم جل وعلا. هذا سيدُ الخلقِ (صلواتُ الله وسلامُه عليه)، الذي فَضَّلَهُ اللَّهُ في الأرضِ والسماءِ على جميعِ الخلقِ - نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنكم تعرفونَ في قصةِ الإسراءِ والمعراجِ الثابتةِ بالأحاديثِ الصحيحةِ التي لا كلامَ فيها، أنه لَمَّا ارْتَفَعَ (صلواتُ الله وسلامُه [عليه]) (¬1) إلى السماءِ، واخترقَ السبعَ الطباقَ، بَلَغَ مَبْلَغًا لم يَبْلُغْهُ رسولٌ من الأنبياءِ، فظهرت مكانتُه على الجميعِ في العالمِ العلويِّ. وَلَمَّا نَزَلَ إلى الأرضِ (صلواتُ الله وسلامُه عليه) صَلَّى بهم، فكان هو الإمامَ الأعظمَ، بإشارةٍ من جبريلَ (صلواتُ اللَّهِ على الجميعِ) - قد رُمِيَتْ أَحَبُّ زوجاتِه إليه بأعظمِ فريةٍ، رَمَوْهَا بالفاحشةِ مع صفوانَ بنِ المعطلِ، وهو (صلواتُ الله وسلامُه عليه) يَغْدُو الْمَلَكُ ويروحُ عليه بالوحيِ، فَلَمَّا رَمَوْهَا كان (صلواتُ الله وسلامُه عليه) لا يَدْرِي أَحَقٌّ ما قالوا عنها أَمْ لاَ؟؟ حتى هَجَوْهَا، وكان يقولُ: «كَيْفَ تِيْكُمْ؟» قالت: فقدتُ من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - العطفَ الذي كنتُ أَجِدُهُ منه إذا مَرِضْتُ. وكان يقولُ لها: «يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ». لا يدري عن الحقيقة حتى أخبرَه المحيطُ عِلْمُهُ بكلِّ شيءٍ - رَبُّ السماواتِ والأرضِ - وقال له: {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} [النور: آية 26] وَصَرَّحَ بأن المقالةَ التي قِيلَتْ عليهم إفكٌ وَزُورٌ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ ¬

(¬1) زيادة يقتضيها الكلام.

عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: آية 11]. وَلَمَّا قالت لها أُمُّهَا - لَمَّا نَزَلَتْ براءتُها في بيتِ أبي بكرٍ -: قُومِي إليه فَاحْمَدَيْهِ. قالت (رضي الله عنها): وَاللَّهِ لاَ أحمدُه اليومَ، ولا أحمدُ اليومَ إِلاَّ اللَّهَ؛ لأنه هو الذي بَرَّأَنِي، فهو (صلواتُ الله وسلامُه عليه) لَمْ يُبَرِّئْنِي (¬1). وَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ - وهو هو - مع ما أعطاه اللَّهُ من المكانةِ {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: آية 124]، وَشَهِدَ له اللَّهُ الشهاداتِ العظيمةَ {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: آية 37]، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: آية 124] وَقِيلَ للنبيِّ - وهو هو - (صلواتُ الله وسلامُه عليه): {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: آية 123] ذَبَحَ عِجْلَهُ، وَتَعِبَ هو وامرأتُه في إنضاجِ العجلِ، ولم يَدْرِ أن ضيفَه ملائكةٌ حتى قدَّم العجلَ المُنْضَجَ إلى الملائكةِ، وَلَمَّا رآهم لا يَمُدُّونَ إليه أيديَهم نَكِرَهمْ وَخَافَ منهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: آية 70]، وصرَّح لهم في سورةِ الْحِجْرِ بأنه خائفٌ منهم {فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)} [الحجر: آية 52] أي: خائفونَ منكم، ولم يَدْرِ حقيقةَ الأمرِ حتى سألهم: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58)} (¬2) [الحجر: الآيتان 57، 58] ( ... ) (¬3). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. (¬3) سيأتي نحو هذا البسط عند تفسير الآية (38) من سورة الأعراف، والآية (30) من سورة التوبة.

وهذا نَرَاهُ مُشَاهَدًا اليومَ، كُلُّ كُفْرٍ وإلحادٍ، وكل خساسةٍ في الخُلُقِ ارتكبوها، دخلوا معهم كُلَّ جُحْرٍ، حتى إنه وُجِدَ واحدٌ إفرنجيٌّ نَبَتَتْ قرحةٌ تحتَ أنفِه، فلم يَقْدِرْ على حلقِ شعراتِ الشاربِ، صاروا يتركون من ذلك شَيْئًا، دخولاً في ذلك الجحرِ، وَاتِّبَاعًا لتلك القرحةِ، فحلقوا لِحَاهُمْ، وتركوا دينَهم، ودخلوا مع الإفرنجِ في كُلِّ جُحْرٍ دَخَلُوهُ!! وهذا من غرائبِ معجزاتِه (¬1) (صلواتُ الله وسلامُه عليه)، حيث أَقْسَمَ على هذا، وَتَحَقَّقَ بعدَ عشراتِ القرونِ، والغيوبُ التي أخبر بها كثيرةٌ جِدًّا، كثيرٌ منها شَاهَدَهُ الناسُ، والباقي منها سيشاهدونه. وهذا معنى قولِه (جل وعلا): {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} [الأنعام: آية 101]. ثم إن الله (جل وعلا) لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ وعجائبَ صنعِه وكمالَ قدرتِه، وَبَيَّنَ لنا هذا في آياتٍ كثيرةٍ: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: آية 95]، وَبَيَّنَ (جل وعلا) أنه الذي أَنْشَأَنَا وَخَلَقَنَا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: آية 98] وَبَيَّنَ أنه خلق لنا أرزاقَنا على ذلك الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} [الأنعام: آية 99] وَبَيَّنَ أنه الواحدُ الذي لاَ مثيلَ له ولا نظيرَ، المتنزهُ عن الأولادِ والصاحباتِ، وأنه خالقُ كُلِّ شيءٍ، وأنه العليمُ بِكُلِّ شيءٍ، أشار لنا وقال: {ذَلِكُمُ} الذي سمعتُم صفاتِه وغرائبَ فعلِه وعجائبَه هو {اللَّهُ} خالقُ هذا الكونِ الذي يأمركم وينهاكم على لسانِ نَبِيِّهِ: ¬

(¬1) سيأتي عند تفسير الآية (89) من سورة الأعراف.

{لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: آية 102]، لاَ معبودَ يُعْبَدُ بالحقِّ إلا هو وحدَه، وكلُّ معبودٍ من دونه - كالجنِّ الذي عَبَدَهَا أولئك الكفرةُ - هو وَعَابِدُوهُ في النارِ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: آية 98]. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 102] (جل وعلا) لأنه (جل وعلا) خالقُ كُلِّ شيءٍ، فإذا نظرَ الإنسانُ في أصنافِ المخلوقاتِ بَهَرَ عقلَه قدرةُ اللَّهِ (جل وعلا)، فإذا نظرتُم إلينا معاشرَ الآدميين تجدونَ خالقَ السماواتِ والأرضِ أَوْدَعَ في الواحدِ مِنَّا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ وَيُفَتِّتُ الكُبودَ. مِنْ أظهرِ ذلك: أنه صَبَّنَا صَبَّةً واحدةً، فجعل الأنفَ هنا، والعينينَ هنا، والفمَ هنا، ولم يَتَّفِقْ مِنَّا اثْنَانِ، لا يمكنُ أن يتفقَ اثنانِ، حتى لا يُعْرَفَ [فرقٌ] (¬1) بينهما، ولو جاءت الآلافُ والملايينُ، مَضْرُوبًا في الآلافِ والملايين: لم يَضِقُ العلمُ أن يجعلَ لكلِّ واحدٍ صورةً وهيئةً مخالفةً لصورةِ الآخَرِ وهيئتِه، حتى إن الأصواتَ وآثارَ الأقدامِ وبصماتِ الأصابعِ في الأوراقِ، كُلُّ هذا لم يَشْتَبِهْ منه شيءٌ. وهذا من غرائبِ صنعِ هذا الخالقِ وعجائبِه جل وعلا. وَأَبْدَعَ في كُلِّ واحدٍ منا، لو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ تَشْرِيحًا صحيحًا لَبَهَرَ العقولَ ما أودع اللَّهُ فينا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه. إذا نظرتَ في العينين تَجِدْ في العينين من غرائبِ صنعِ اللَّهِ ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق.

ما يُبْهِرُ العقولَ، كيف جعل هذا النورَ الذي يَشِعُّ لهذا الِإنسانِ يجتلب عليه جميعَ مصالحِه، ومن ذلك - من الظاهرِ الواضحِ - أنه جَعَلَ للعينِ شحمةً لئلا يُجَفِّفَهَا الهواءُ والريحُ، وجعل ماءَ العينِ مِلحًا لئلاَّ تُنْتِنَ الشحمةُ، لأن الملحَ يزيلُ النتنَ، وَصَبَغَ له بعضَها بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وفتحَ له فَمًا، وجعل له عينًا عذبةً من الريقِ يأكلُ بها الطعامَ، لو جَفَّ رِيقُهُ لَمَا قَدَرَ أن يبتلعَ الزبدَ الذائبَ، ومن كمالِ قدرةِ اللَّهِ أن الريقَ إذا كان يأكلُ به يبُل به الطعامَ ويبتلعُه ويجم له الريق، وإذا كان غيرَ وقتِ الحاجةِ ينقطعُ عنه الجَمُّ؛ لئلا يُتْعِبَهُ التفلُ. فلو جَعَلَ له عَيْنَيْهِ في قدميه لَمَا رَأَى بهما شيئًا، ولو جعلَه عمودًا واحدًا كالخشبةِ من غيرِ مفاصلَ لَتَعِبَ، رَتَّبَ بعضَ مفاصلِه ببعضٍ لِيَنْثَنِيَ، وَرَتَّبَ فقراتِ الظهرِ بعضَها ببعضٍ، وفرَّق له أصابعَ يديه، لو جَعَلَ يدَه ملتصقةً كيدِ البعيرِ لَمْ يَحُلَّ شيئًا ولم يَعْقِدْ شيئًا، وَشَدَّ له رؤوسَ أصابعِه بالأظفارِ، وأودعَ فيه من الغرائبِ والعجائبِ شيئًا يُبْهِرُ العقولَ. ونحن نلفتُ أنظارَ إخوانِنا دائمًا لِمَا لفتَ اللَّهُ أنظارَنا إليه، بِأَنَّ كُلَّ هذه العملياتِ - أيها الِإخوانُ - عَمِلَهَا ربُّنا فينا من غيرِ أن يشقَّ بطنَ أمهاتِنا، ولا أن يخيطَها، كُلُّ هذه العملياتِ الهائلةِ والأُمُّ بطنُها لم يُشَقَّ، ولم يَحْتَجْ إلى أن تُبنج، ولا أن تنومَ في صحيّة، يعملُه خالقُ الكونِ وهي لا تدري: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: آية 6]. وهذا نُنَبِّهُ الناسَ إليه دائمًا؛ لأَنَّ اللَّهَ يُعجِّبُ خلقَه منهم كيفَ ينصرفونَ عن هذا؟!! حيث قال في السورةِ الكريمةِ سورةِ الزمرِ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6].

أنتم كُلاّ تعلمونَ أن الواحدَ منكم يدخلُ رَحِمَ أُمِّهِ ليس مُخَطَّطًا مفصلاً، ليس فيه رأسٌ ولا يدٌ ولا رجلٌ ولا عظمٌ، نطفةُ ماءٍ من مَنِيٍّ، ثم الله (جل وعلا) يخلقُ هذا الْمَنِيَّ دَمًا، ثم يخلقُ الدمَ علقةً، ثم يخلقُ الدمَ مضغةً، ثم المضغةَ عظامًا، إلى آخِرِ ما ذَكَرَ. ويخططُكم هذا التخطيطَ، ويفصلكم هذا التفصيلَ، ويفتحُ لكم العيونَ، والأفواهَ والآنافَ والأسماعَ، ويجعلُ في العينِ حاسةَ البصرِ، وفي اللسانِ حاسةَ الذوقِ، وفي [الأُذُنِ] حاسةَ [السمعِ] (¬1) إلى غيرِ ذلك. ويُرَتِّبُ - أيها الإخوانُ - هذه العظامَ والسُّلامياتِ هذا الترتيبَ الغريبَ العجيبَ {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: آية 28] الأَسْرُ: معناه شَدُّ الشيءِ بالشيءِ وإلصاقُه به؛ إِذْ لو كان الذي ألصقَ هذه العظامَ والسُّلاميات بعضَها ببعضٍ، بل ولو لم يَجْعَلْهُ قَوِيًّا مشدودًا لقالوا: سَقَطَتْ يدُ فلانٍ البارحةَ، وَسَقَطَتْ رِجْلُهُ، وطاحَ فَخِذُهُ؛ لأنه لم يكن مَشْدُودًا!! لا، شَدَّهُ خالقُ السماواتِ والأرضِ، وألصقَ العظامَ بعضَها ببعضٍ، والغضارفَ بالعظامِ واللحمِ، وشدَّ هذا شَدًّا مُحْكَمًا: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)} [الإنسان: آية 28]. الشاهدُ أن الله نَبّهَنَا على فِعْلِهِ فينا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: آية 21]، وَبَيَّنَ لنا أنَّا ندخلُ بطونَ أمهاتِنا نُطَفَ ماءٍ؛ وَلِذَا قال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] ينقلكم من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: الآيتان 13، 14] وهذا كُلُّهُ والواحدُ في ظلماتٍ ثلاثٍ: ¬

(¬1) في الأصل: «وفي السمع حاسة الأذن» وهو سَبْقُ لسانٍ.

{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} [الزمر: آية 6] ظلمةِ البطنِ، وظلمةِ الرَّحِمِ، وظلمةِ المشيمةِ، لم يَحْتَجْ خالقُ السماواتِ إلى أن يشقَّ البطنَ، ويشقَّ الرحمَ، ويزيلَ المشيمةَ التي على الولدِ، حتى يتمكنَ بصرُه، لا، بَصَرُهُ (جل وعلا) وعلمُه نافذٌ، يفعلُ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ولم تَمْنَعْهُ من ذلك الظلماتُ الثلاثُ، ثم قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو} ثم قال - وهو محلُّ الشاهدِ -: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: آية 6]. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} أين تُصْرَفُ عقولُكم، وتذهبُ عن فعلِ خالقِكم جل وعلا فيكم؟! ولذا قال (جل وعلا): {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: آية 16] وقد بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، أشارَ لِخَلْقِهِ للِإنسانِ كما كُنَّا نقولُ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] وهذا الخلقُ بعدَ الخلقِ، والطَّوْرُ بعدَ الطَّوْرِ، المذكورُ في قولِه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: آية 14]، بَيَّنَهُ (جل وعلا) في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: الآيات 12 - 14] هذه أفعالُ اللَّهِ جل وعلا فِينَا الدالةُ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا) (¬1)؛ وَلِذَا قال: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} يعني: أَنَّ مَنْ فَعَلَ هذه ¬

(¬1) مضى نحو هذا البسط عند تفسير الآيتين (98،92) من سورة الأنعام، وسيأتي نحوه عند تفسير الآيتين (11، 45) من سورة الأعراف، والآية (38) من سورة التوبة.

الأفعالَ، وكانت قدرتُه بهذه المثابةِ من العظمةِ هو المعبودُ وحدَه جل وعلا. {وهُوَ} - جل وعلا - {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: الآية 102] أصلُ الوكيلِ: هو الذي تُفَوَّضُ إليه الأمورُ وتُسْنَدُ؛ ليجلبَ المصالحَ فيها، ويدفعَ المضارَّ، وهو (جل وعلا) هو الوكيلُ بكلِّ شيءٍ، الذي كُلُّ شيءٍ بيدِه، تُفَوَّضُ أمورُ كُلِّ شيءٍ إليه، يفعلُ فيها ما يشاءُ (جل وعلا). هذا الذي هذه صفاتُه هو الذي يستحقُّ أن يُعْبَدَ جل وعلا. [13/أ] /قال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: آية 103]. استدلَّ المعتزلةُ بهذه الآيةِ الكريمةِ على أن اللَّهَ لاَ يُرى بالأبصارِ. واستدلالُهم بهذه الآية على ذلك بَاطِلٌ (¬1). وَاعْلَمُوا أَوَّلاً: أن التحقيقَ في رؤيةِ اللَّهِ بعينِ الرأسِ أنها يُنْظَرُ إليها بِنَظَرَيْنِ: أحدُهما: النظرُ إليها بالحكمِ العقليِّ. والثاني: النظرُ إليها بالحكمِ الشرعيِّ. أما رؤيةُ اللَّهِ بالنظرِ إلى حكمِ العقلِ: فَهِيَ جائزةٌ في الدنيا، وجائزةٌ في الآخرةِ. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 16 - 18، 20 - 22)، الشريعة للآجري 251 فما بعدها. اللالكائي (3/ 454) فما بعدها، ابن كثير (2/ 161)، شرح العقيدة الطحاوية 212. وللدارقطني في الرؤية كتاب مفرد وهو مطبوع.

فالدليلُ على جوازِها عَقْلاً في دارِ الدنيا: أن نَبِيَّ اللَّهِ موسى - وهو هو - قال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: آية 143] فلو كانت رؤيةُ اللَّهِ مستحيلةً عَقْلاً في الدنيا لَمَا خَفِيَ ذلك على نَبِيِّهِ موسى؛ لأنه لا يجهلُ المستحيلَ في حَقِّ اللَّهِ. أما بالنظرِ إلى الحكمِ الشرعيِّ: فهي جائزةٌ وواقعةٌ في الآخرةِ قَطْعًا، ممتنعةٌ في الدنيا. وهذا هو التحقيقُ، فَعُلِمَ من هذا التحقيقِ: أن رؤيةَ اللَّهِ بالأبصارِ وعيونِ الرؤوسِ جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا والآخرةِ، جائزةٌ وواقعةٌ شَرْعًا في الآخرةِ، ممتنعةٌ شَرْعًا في الدنيا (¬1). فَاللَّهُ جل وعلا في دارِ الدنيا لاَ يُرَى بالأبصارِ فِعْلاً، وإن كان ذلك يجوزُ عَقْلاً، ولكنه في الآخرةِ يراه المؤمنونَ (جل وعلا)، هذا هو التحقيقُ. ومذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ الذي دَلَّتْ عليه آياتُ القرآنِ والأحاديثُ الصحيحةُ المتواترةُ أن رؤيةَ اللَّهِ واقعةٌ شَرْعًا، يراه المؤمنونَ يومَ القيامةِ بأبصارِهم، كَمَا جَاءَ عن حوالي عشرين صَحَابِيًّا في أحاديثَ متواترةٍ (¬2): أن المؤمنين يرونَ رَبَّهُمْ يومَ القيامةِ. وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك في آياتٍ من كتابِه (3)، كقولِه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23]، وكقولِه (جل وعلا) في الكفارِ: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: آية 15] ¬

(¬1) انظر: مختصر الصواعق، ص 179. (¬2) انظر: كتاب الرؤية للدارقطني، الشريعة للآجري 253 فما بعدها، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي (3/ 470) فما بعدها, شرح الطحاوية ص215، 217، وقد ساق ابن القيم (رحمه الله) أحاديث الرؤية عن سبعة وعشرين صحابيًّا. انظر: حادي الأرواح ص 205 فما بعدها.

يُفْهَمُ من مفهومِ مخالفتِه: أن المؤمنين غيرُ مَحْجُوبِينَ عن رَبِّهِمْ، بل يَرَوْنَهُ (4)، وهو كذلك. وثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه فَسَّرَ قولَه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: «الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ» (5). هذا هو التحقيقُ في رؤيةِ اللَّهِ، أنها جائزةٌ في حكمِ العقلِ في الدنيا والآخرةِ، ممتنعةٌ في حكمِ الشرعِ في دارِ الدنيا، واقعةٌ في الآخرةِ. ولطالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: إذا كانت جائزةً عَقْلاً في الدنيا فَمَا وَجْهُ مَنْعِهَا وعدمِ إمكانِها شَرْعًا؟ أجابَ بعضُ العلماءِ عن هذا السؤالِ: بأن الناسَ في دارِ الدنيا رُكِّبُوا تَرْكِيبًا ضَعِيفًا مُعَرَّضًا للتغيرِ والفناءِ والزوالِ، وهذا التركيبُ الضعيفُ المُعَرَّضُ للفناءِ والتغيرِ والزوالِ لا يَقْدِرُ ولا يستطيعُ ولا يَقْوَى على رؤيةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والدليلُ على ذلك: أنه لَمَّا تَجَلَّى للجبلِ صارَ الجبلُ دَكًّا لِعِظَمِ رُؤْيَةِ اللَّهِ (جل وعلا)، كما يأتي في الأعرافِ في قولِه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} [الأعراف: آية 143] فما يَدُكُّ الجبالَ

لا يقدرُ عليه بَنُو آدمَ، ولا يَقْوَوْنَ عليه (¬1). أما في الآخرةِ فإن اللَّهَ يُرَكِّبُهُمْ تَرْكِيبًا جَدِيدًا قَوِيًّا ليس قَابِلاً للتغيرِ ولا للفناءِ، فَيَقْوَوْنَ بتلك القوةِ على رؤيةِ اللَّهِ جل وعلا. فَتَبَيَّنَ بهذا أنها جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا، إلا أن البشرَ يعجزون ولا يَقْوَوْنَ عليها، وأنها واقعةٌ شَرْعًا. لأنهم في ذلك الوقتِ يُطِيقُونَهَا لتركيبِهم الجديدِ الدائمِ. هذا مذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ، وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا في هذه الدروسِ (¬2): أن الواجبَ على كُلِّ المسلمين في آياتِ الصفاتِ: أن يعتقدوا ثلاثةَ أُسُسٍ كُلُّهَا في ضوءِ القرآنِ العظيمِ، فَمَنِ اعتقدَ الأسسَ الثلاثةَ كُلَّهَا لَقِيَ رَبَّهُ سَالِمًا على محجةٍ بيضاءَ، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها وَقَعَ في مهواةٍ قد لاَ يتخلصُ منها، هذه الأسسُ الثلاثُ: أولُها: - وهو الأساسُ الأكبرُ للتوحيدِ، وهو الحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ الصحيحةِ، والصلةِ بِاللَّهِ على أساسٍ صحيحٍ وَثِيقٍ. هذا الأصلُ العظيمُ الذي هو أساسُ التوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ معرفةً صحيحةً وثيقةً -: هو اعتقادُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مُنَزَّهٌ غايةَ التنزيهِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا من صفاتِ خَلْقِهِ أو ذَوَاتِهِمْ أو أفعالِهم. فهو (جل وعلا) العظيمُ الأَعْلَى الذي لا يُشْبِهُ شيئًا من خَلْقِهِ، ومَنِ الْخَلْقُ حتى يُشْبِهُوا مَنْ خَلَقَهُمْ؟ أليسوا أَثَرًا من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ كيفَ تُشْبِهُ الصنعةُ صانعَها؟ لا. ¬

(¬1) انظر: شرح الطحاوية ص 220، مختصر الصواعق 180. (¬2) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام، وسيأتي في مواضع أخرى متعددة.

وهذا الأساسُ العظيمُ، الذي هو أساسُ التوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ معرفةً صحيحةً، الذي هو تَنْزِيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، بَيَّنَهُ اللَّهُ في آياتٍ من كتابِه، كقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11]، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4]، {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: آية 65] هذا أساسُ التوحيدِ الأكبرُ، فإذا نظَّفَ الِإنسانُ ضميرَه من نجاسةِ وتقذيرِ التشبيهِ كان سَهْلاً عليه أن يؤمنَ بما وَصَفَ اللَّهُ به نفسَه، وما وَصَفَهُ به رسولُه - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ؛ لأن كُلَّ البلايا مَنْشَؤُهَا من أقذارِ القلوبِ بنجاساتِ التشبيهِ، فَمَنْ طَهَّرَ قلبَه عن أقذارِ التشبيهِ ونجاساتِها، وَعَلِمَ أن صفاتِ اللَّهِ بالغةٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَها وبينَ صفاتِ المخلوقينَ: سَهُلَ عليه أن يؤمنَ بالصفاتِ؛ لأنه يعتقدُ في معانِيها التنزيهَ الكاملَ عن مشابهةِ الخلقِ. وهذانِ الأصلانِ اللذانِ بَيَّنَّاهُمَا الآنَ - اللذان هما: تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ، والإيمانُ بِمَا وصفَ به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وعدم مشابهةِ الخلقِ - لم نَقُلْهُ من تلقاءِ أَنْفُسِنَا، وإنما قُلْنَاهُ في ضوءِ تعليمِ خالقِ السماواتِ والأرضِ في ضوءِ الْمُحْكَمِ المنزلِ؛ لأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَتْبَعَ ذلك بقولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى: آية 11] فَإِتْيَانُهُ بقولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} بعدَ قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه تعليمٌ أعظمُ، وَمَغْزًى أكبرُ، وسِرٌّ سماويٌّ لا يَخْفَى، لا يَبْقَى معه في الحقِّ لَبْسٌ؛ لأنه قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} بعد قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} مع أن السمعَ والبصرَ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى -

من حيثُ هُمَا سمعٌ وبصرٌ يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ - ولله المثل الأعلى - فكأَنَّ اللَّهَ يقولُ: لا تَتَنَطَّعْ يا عَبْدِي يا مسكينُ فتنفي عَنِّي صفةَ سَمْعِي وبصري، مُدَّعِيًا أن المخلوقاتِ تسمعُ وتبصرُ. وأنك إن أَثْبَتَّ لِي سَمْعِي وبصري كُنْتَ مُشَبِّهًا لي بالمخلوقاتِ التي تسمعُ وتبصرُ. لا، وكَلاَّ!! أَثْبِتْ لِي سمعي وبصري، مُرَاعِيًا في ذلك الإثباتِ: تَنْزِيهِي، وقولِي قبلَه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فجميعُ الصفاتِ من هذا البابِ الواحدِ. فأولُ الآيةِ - أعني: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يدلُّ على التنزيهِ الكاملِ عن مشابهةِ المخلوقين من غيرِ تعطيلٍ، وقولُه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} يَدُلُّ على الإيمانِ بالصفاتِ إيمانًا حَقًّا على أساسِ التنزيهِ، من غيرِ تشبيهٍ ولا تَمْثِيلٍ. فالأساسُ الأولُ من هذه الأُسُسِ الثلاثةِ: هي تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ المخلوقين في صفاتِهم وذواتِهم وأفعالِهم. الأساسُ الثاني: هو أن لاَ تُكَذِّبَ اللَّهَ فيما أَثْنَى به على نفسِه؛ لأنه لا يَصِفُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: آية 140] ولاَ يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بالله من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في حَقِّهِ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4]. فَعَلَيْنَا أَوَّلاً أن نُطَهِّرَ قلوبَنا من أقذارِ التشبيهِ، وأن نُنَزِّهَ خالقَ السماواتِ والأرضِ عن أن تُشْبِهَ صفتُه صفةَ خلقِه، ثم إذا طَهَّرْنَا القلوبَ من أقذارِ التشبيهِ، ونَزَّهْنَا خالقَ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، سَهُلَ علينا الإيمانُ بصفاتِه - صفاتِ الكمالِ والجلالِ - إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ وعدمِ المماثلةِ، على غِرَارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى: آية 11]. الأساسُ الثالثُ من هذه الأسسِ: هو قَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفياتِ؛ لأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ كيفيةَ الشيءِ فقد أَحَاطَ به، وَاللَّهُ يقولُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110]. فهذه الأُسُسُ الثلاثةُ التي هي: تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خلقِه، والإيمانُ بصفاتِه الثابتةِ في كتابِه وسنةِ رسولِه، إِيمَانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وقَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفيةِ. هذا معتقدُ السلفِ الذي كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤُه الراشدونَ. لاَ يُفَسِّرُونَ صفاتِ اللَّهِ إلا بدليلٍ جليلٍ لائقٍ مُنَزَّهٍ عن الأقذارِ ومشابهةِ الخلقِ، ولاَ يَنْفُونَ عن الله ما أَثْبَتَهُ لنفسِه، بل يثبتونَه له على أساسِ التنزيهِ، على غِرَارِ:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى: آية 11]. وأنا أُؤَكِّدُ لكم: أننا في هذه الدارِ - دارِ الدنيا - وسنرتحلُ جميعًا منها إلى القبورِ، ثم ننتقلُ من القبورِ إلى عَرَصَاتِ القيامةِ، إلى محلِّ المناقشةِ والسؤالِ عن الحقيرِ والجليلِ، فإذا جِئْتُمُ اللَّهَ وأنتم معتقدونَ هذه الأسسَ الثلاثةَ، أُؤَكِّدُ لكم أنه لا تأتيكم بَلِيَّةٌ ولاَ وَيْلَةٌ ولا مشكلةٌ ولا لومٌ ولا توبيخٌ من واحدٍ من هذه الأسسِ التي بَيَّنْتُ لكم على ضوءِ القرآنِ العظيمِ. فلا يقولُ اللَّهُ لواحدٍ منكم: لِمَ تُنَزِّهْنِي عن مشابهةِ المخلوقاتِ؟ لا، وكَلاَّ. هذا التنزيهُ طريقُ سلامةٍ مُحَقَّقَةٍ. ولا يقولُ اللَّهُ لأحدٍ منكم: لِمَ أثْبتَّ لِي ما أثْبَتُّه لِنَفْسِي، أو أثبَتَهُ لِي رَسُولِي؟ ولِمَ تُصَدِّقْنِي فيما أثنيتُ به على نفسي؟ لا، وكَلاَّ. فتصديقُ اللَّهِ والإيمانُ بما قال على أساسِ التنزيهِ طريقُ سلامةٍ محققةٌ لا شَكَّ فيها. ولا يقولُ اللَّهُ لواحدٍ منكم: لِمَ لاَ تَدَّعِي

أن عقلَك الضعيفَ المسكينَ محيطٌ بِكُلِّ صِفَاتِي وكيفياتِها؟ لا، وكَلاَّ. فهذه الأسسُ الثلاثةُ في ضوءِ القرآنِ العظيمِ طريقُ سلامةٍ محققةٌ؛ ولذا ما ثَبَتَ من رؤيةِ اللَّهِ بالأبصارِ نُمِرُّهُ كما جاءَ، ونعتقدُ أنه حَقٌّ على الوجهِ اللائقِ بكمالِه وجلالِه، المنزهِ عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ من جميعِ النَّوَاحِي. إذا عرفتُم هذا: فَاعْلَمْ أن العلماءَ أجابوا عن استدلالِ المعتزلةِ بهذه الآيةِ الكريمةِ على مذهبِهم الباطلِ بأجوبةٍ متعددةٍ: منها: أن معنَى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: آية 103] كما جَاءَ عن ابنِ عباسٍ وجماعةٍ من السلفِ: أن الإدراكَ المنفيَّ هنا هو الإحاطةُ (¬1). والمعنى: لا تُحِيطُ بِهِ الأبصارُ. والإدراكُ قد يُطْلَقُ على الإحاطةِ كثيرًا (¬2)، كقولِه: {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: آية 90]، أي: أحاطَ به مِنْ جميعِ جهاتِه. {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)} [الشعراء: آية61]. أي: مُحَاطٌ بِنَا. وعلى هذا فمعنَى: {لاَّ تُدْرِكُهُ} أي: لاَ تُحِيطُ به الأبصارُ، وإن كانت تَرَاهُ في الجملةِ، فالإدراكُ المنفيُّ هو الإحاطةُ. والإحاطةُ لاَ يستلزمُ نَفْيُهَا نفيَ مُطْلَقِ الرؤيةِ الثابتِ في الأحاديثِ المتواترةِ والآياتِ القرآنيةِ (¬3). الوجهُ الثاني: أن معنَى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 13). (¬2) السابق: (12/ 14). (¬3) انظر: أضواء البيان (2/ 206).

آية 103] أي: لاَ تُدْرِكُهُ في دارِ الدنيا (¬1)، بدليلِ قولِه: في الآخرةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23]. فلما قَيَّدَ نظرَها إلى رَبِّهَا بقولِه: {يَوْمَئِذٍ} أي: يومَ القيامةِ، عَرَفْنَا أن ذلك النظرَ مقيدٌ بالقيامةِ، وأَنَّ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أي: في دارِ الدنيا. وقال بعضُ العلماءِ: لو سَلَّمْنَا ما يقولُه المعتزلةُ من أن الإدراكَ: الرؤيةُ، وأن الآيةَ عامةٌ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فعمومُها تُخَصِّصُهُ آياتٌ أُخَرُ بيومِ القيامةِ (¬2): {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23] وقولُه: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: آية 15] أي: بخلافِ المؤمنين فليسوا بمحجوبينَ عن رَبِّهِمْ. وقد تَقَرَّرَ في الأصولِ أن المفهومَ يُخَصِّصُ العَامَّ (¬3)، سواءً كان مفهومَ موافقةٍ، أو مفهومَ مخالفةٍ. فمثالُ تخصيصِ العامِّ بمفهومِ الموافقةِ (¬4): قولُه - صلى الله عليه وسلم - «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» (¬5) ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 18 - 19). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 19). (¬3) انظر: الفقيه والمتفقه (1/ 112)، روضة الناظر (2/ 167)، شرح مختصر الروضة (2/ 568)، شرح الكوكب المنير (3/ 366 - 368)، نهاية السول (2/ 174)، الفتاوى (31/ 105 - 110) أضواء البيان (5/ 560). (¬4) انظر: شرح الكوكب (3/ 366). (¬5) الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد (4/ 222، 388، 389)، وأبو داود في الأقضية، باب في الدَّين هل يُحبس به؟ حديث رقم: (3611)، (10/ 56)، والنسائي، كتاب البيوع، باب مطل الغني، حديث رقم: (4689، 4690)، (7/ 316) وابن ماجه، كتاب الصدقات؛ باب الحبس في الدّين، حديث رقم: (2427)، (2/ 811) والحاكم (4/ 102) وصححه ووافقه الذهبي. وانظر الإرواء رقم: (1434)، وصحيح ابن ماجه رقم: (1970)، صحيح النسائي رقم: (4372، 4373) صحيح أبي داود رقم: (3086)، المشكاة رقم: (2919). وهو من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه (رضي الله عنه).

ومعنَى قولِه: «لَيُّ الْوَاجِدِ» يعني: ظلمُ الْغَنِيِّ يُحِلُّ عقوبتَه. يعني: بالحبسِ. وعِرْضَهُ: بأن يقولَ: ظَلَمَنِي، وَمَطَلَنِي. وظاهرُ هذا العمومِ يشملُ الوالدَ إذا مَطَلَ دَيْنَ وَلَدِهِ؛ لأَنَّ لَفْظَةَ «الواجدِ» يصدقُ بكل غريمٍ مُوسِرٍ، فيدخلُ فيه الأبُ، إلا أن مفهومَ الموافقةِ في قولِه: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: آية 23] يُفْهَمُ منه: أن حَبْسَهُ في دَيْنِهِ من بابِ أَوْلَى لاَ يجوزُ. فَخُصِّصَ الحديثُ بمفهومِ الموافقةِ في الآيةِ. ومثالُه في مفهومِ المخالفةِ: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬1). ظاهرُ عمومِه: سواءً كانت سائمةً أو معلوفةً، فَلَمَّا قال في ¬

(¬1) هذه الجملة - بهذا اللفظ - وردت في عدة أحاديث وآثار، فمن ذلك: 1 - عن ابن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعًا. عند ابن ماجه في الزكاة، باب صدقة الغنم. حديث رقم: (1805، 1807)، (1/ 578 - 579). 2 - عن أنس (رضي الله عنه) مرفوعًا. عند الطبراني في الأوسط (7/ 304) وقال: (لم يرو هذا الحديث عن داود بن أبي هند إلا سلام أبو المنذر، تفرد به حاتم بن عبيد الله. وانظر: مجمع الزوائد (3/ 73). 3 - ما رواه قزعة عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) (وشك قزعة في رفعه) عند أحمد (3/ 35) وقال في المجمع (3/ 73): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» 1. هـ. 4 - الحسن البصري (رحمه الله) مقطوعًا. عند ابن أبي شيبة (3/ 132). 5 - إبراهيم النخعي (رحمه الله) مقطوعًا. عند ابن أبي شيبة (3/ 132). كما ورد في هذا المعنى عدة أحاديث وآثار بألفاظ متفاوتة عن أنس وابن عمر (رضي الله عنهم) وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات الذي يرويه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وكتاب أبي بكر (رضي الله عنه) في الصدقات، وكذا كتاب عمر (رضي الله عنه)، وورد عن علي (رضي الله عنه) موقوفًا وغير ذلك وحديث أنس في الصحيح.

الحديثِ الآخَرِ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» (¬1) خُصِّصَ عمومُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» بمفهومِ المخالفةِ في قولِه: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ». أي: فمفهومُه: أن غيرَ السائمةِ لا زكاةَ فيها. فيُخَصَّصُ بهذا المفهومِ عمومُ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَلِذَا يُخَصَّصُ عمومُ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: آية 103] بمفهومِ: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: آية 15] أي: بخلافِ المؤمنين فليسوا مَحْجُوبِينَ عَنْ رَبِّهِمْ. وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك في قولِه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23] وقولُه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: آية 26] ولاَ شَكَّ أن القرآنَ تُخَصِّصُهُ السُّنَّةُ، وأن السُّنَّةَ تخصصُ القرآنَ. فلو قُلْنَا: إن عمومَ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} عمومٌ عَامٌّ، بمعنَى: لا تَرَاهُ الأبصارُ. فإنه تُخَصِّصُهُ الأحاديثُ المتواترةُ عن النبيِّ أن المؤمنين يَرَوْنَهُ يومَ القيامةِ بأبصارِهم، وَدَلَّتْ عليه الآيةُ المذكورةُ كما هو مَعْرُوفٌ. وتخصيصُ الكتابِ بالكتابِ والسنةِ مَعْرُوفٌ (¬2). فمثالُ تخصيصِ القرآنِ بالقرآنِ: تخصيصُ قولِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ ¬

(¬1) قطعة من حديث أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. حديث: (1454) (3/ 317). (¬2) انظر: الفقيه والمتفقه (1/ 112)، المستصفى (2/ 102) فما بعدها، البحر المحيط للزركشي (3/ 361) فما بعدها، شرح الكوكب المنير (3/ 359) فما بعدها، الروضة (2/ 161)، شرح مختصر الروضة (2/ 558)، نهاية السول (2/ 163).

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: آية 228]، في قولِه جل وعلا: {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: آية 4]، فالمطلقةُ الحاملُ تُخَصَّصُ من القروءِ بوضعِ الحملِ، وكما خَصَّصَ منه المطلقةَ قبل الدخولِ بقولِه: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: آية 49] ومعلومٌ أَنَّ تخصيصَ الكتابِ بالسنةِ كثيرةٌ؛ وَلِذَا خُصِّصَ قولُه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: آية 24] بقولِه: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا ... » الحديثَ (¬1). وخُصِّصَ قولُه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: آية 11] بأولادِ الأنبياءِ فلاَ يَرِثُونَ، والولدِ الكافرِ فَلاَ يَرِثُ، والولدِ الرقيقِ فلاَ يَرِثُ. كُلُّ ذلك بالسُّنَّةِ، وهذا معروفٌ (¬2). فمعنَى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: آية 103] أو: لا تُحِيطُ بِهِ الأبصارُ، أو: لا تدركُه الأبصارُ في الدنيا، ولكنها تَرَاهُ فِي الآخرةِ. واختارَ غيرُ واحدٍ: أن الإدراكَ هنا المنفيَّ معناه: الإحاطةُ. أي: لاَ تُحِيطُ به الأبصارُ، ولا يُنَافِي أنها تَرَاهُ، ولكن لا تُحِيطُ به؛ لأنه لا يُحِيطُ به شيءٌ، وهو محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، وفي الحديثِ: «لاَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (5109، 5110)، (9/ 160)، ومسلم، كتاب النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح. حديث: (1408)، (2/ 1028) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وقد أخرجه البخاري أيضًا في النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (5108)، (9/ 160) من حديث جابر (رضي الله عنه). (¬2) انظر هذه الموانع وأدلتها في العذب الفائض (1/ 23 - 41).

أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (¬1) فكما أن المؤمنين يعلمونَ صفاتِ رَبِّهِمْ - صفاتِ الكمالِ والجلالِ - ولاَ يُحِيطُونَ بكيفيةِ كُنْهِهَا فكذلكَ يرونَه يومَ القيامةِ بعيونِهم ولا تُحِيطُ به أبصارُهم. والحاصلُ هو ما قَدَّمْنَاهُ: أن التحقيقَ في رؤيةِ اللَّهِ بعيونِ الرؤوسِ بالأبصارِ أنها جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا والآخرةِ، ممتنعةٌ شَرْعًا في الدنيا، جائزةٌ [نَقْلاً وَعَقْلاً] (¬2) وواقعةٌ في الآخرةِ بالأحاديثِ المتواترةِ والآياتِ القرآنيةِ كَمَا بَيَّنَّا. وقولُه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} الأبصارُ: جمعُ بَصَرٍ، ولعلماءِ اللغةِ حدودٌ متقاربةٌ في معنَى البصرِ (¬3): قال بعضُهم: البصرُ: العينُ، إلا أنه مُذَكَّرٌ. وقال بعضُهم: البصرُ: حاسةُ الرؤيةِ. وقال بعضُهم: البصرُ: حِسُّ العينِ. أي: إحساسُها الذي تُدْرِكُ به المرئياتِ. وقال بعضُهم: البصرُ: هو الجوهرُ اللطيفُ الذي رَكَّبَهُ اللَّهُ في حاسةِ الرؤيةِ تُرَى به المُبْصَراتُ. معناه: أن هذا البصرَ الذي في العينِ - المعنَى القائمَ فيها، الذي تُدْرِكُ به الْمُبْصَرَاتِ - لا يحيطُ بخالقِ السماواتِ والأرضِ وإن كانوا يرونَه، كما جاءَ في الآياتِ القرآنيةِ. ¬

(¬1) قطعة من حديث أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث (486)، (1/ 352). (¬2) في الأصل: «جائزة وواقعة عقلا في الآخرة» , وما بين المعقوفين زيادة ينتظم بها الكلام. (¬3) انظر: المفردات (مادة: بصر) ص 127، المصباح المنير (مادة: بصر) ص 20، الكليات ص 247.

{وهُوَ} جل وعلا {يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: آية 103]، أي: يُحِيطُ بها عِلْمًا وَبَصَرًا. وهذه الآيةُ تدلُّ على أن الخلقَ لاَ يُحِيطُونَ بكيفيةِ البصرِ، ولا يعلمونَ كيفيةَ هذا النورِ، وحقيقةَ هذا النورِ الذي جَعَلَهُ اللَّهُ في العينِ تُبْصِرُ به المرئياتِ. لاَ يُبْصِرُ الِإنسانُ بيدِه ولاَ بأنفِه ولاَ بِجَبْهَتِهِ ولاَ بِرِجْلِهِ، وإنما يُبْصِرُ بخصوصِ عَيْنِهِ. فهذا المعنَى الذي أَوْدَعَهُ اللَّهُ في العينِ لاَ تحيطُ الناسُ بكُنْهِ كيفيتِه ولاَ حقيقتِه، واللَّهُ (جل وعلا) يُدْرِكُهُ، أي: يحيطُ به ويراه ويعلمُ حقيقتَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}. {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} أصلُ (اللطيفِ): (فَعِيل) من اللُّطْفِ. واللُّطْفُ أصلُه في لغةِ العربِ: هو إيصالُ النفعِ والإكرامِ والبِرِّ بالطرقِ الخفيةِ (¬1). فَكُلُّ ما يُوصِلُ إليكَ النفعَ والْبِرَّ والإحسانَ فإنه لطيفٌ بِكَ. والعربُ تقولُ: صَدِيقٌ مُلاطِفٌ. إذا كان يلاطفُك بالبرِّ والإحسانِ والإكرامِ. وَسُئِلَ بعضُ علماءِ العربيةِ عن: (صديقِك المُلاطِفِ) ما معنَى كونِه مُلاَطِفًا لَكَ؟ أَجَابَ: بأن الصديقَ الْمُلاَطِفَ ينطبقُ عليه قولُ الراجزِ (¬2): إِنَّ أَخَاكَ الْحَقَّ مَنْ يَسْعَى مَعَكْ ... وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: لطف) ص740، الكليات ص 797. (¬2) هذا الرجز في المستطرف للأبشيهي (1/ 136)، ويُنسب لعبد الملك بن مروان، ونسبه ابن خميس في الشوارد (2/ 76) إلى القرشي، وهو في جمهرة الأمثال للعسكري (1/ 58) بلا نسبة.

وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَعَكْ ... شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَكْ فعلى كُلِّ حالٍ اللطفُ: إيصالُ البرِّ والإكرامِ والإحسانِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على إيصالِه بالطرقِ الخفيةِ التي لا يَعْلَمُهَا كُلُّ الناسِ. وَاللَّهُ (جل وعلا) لطيفٌ بخلقِه، مُحْسِنٌ إليهم، يدركُ حقائقَهم، ولا يَخْفَى عليه منهم شيءٌ، لطيفٌ إليهم، مُحْسِنٌ بَرٌّ بهم، يُوصِلُ لهم طرقَ الإكرامِ والبرِّ والإحسانِ من حيثُ لا يشعرونَ. وقولُه: {الْخَبِيرُ (1)} (فَعِيل) من الخُبرِ. و (الخبيرُ) في لغةِ العربِ لا يكادُ يُطْلَقُ إلا على العالِمِ بما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى، فلا يُطْلَقُ (الخبير) على العالِم بالظاهرِ غَالِبًا، وإنما يُطْلَقُ (الخبير) على مَنْ عَلِمَ شَيْئًا من شأنِه أن يَخْفَى، ومنه قولُ العربِ: «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ» (¬1) {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر: آية 14]. فلو قُلْتَ مثلاً: «أَنَا خبيرٌ بهذا الأمرِ». وهو أَمْرٌ معنويٌّ يَخْفَى، كان كَلاَمًا عَرَبِيًّا. ولو قلتَ: «أنا خبيرٌ بأن الواحدَ نصفُ الاثنينِ» لم يكن هذا من لغةِ العربِ؛ لأن كونَ الواحدِ نصفَ الاثنين ليسَ من شأنِه أن يَخْفَى حتى يُعبَّرَ عنه بلفظِ (الخبيرِ). هذا هو معنَى قولِه: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. وكان بعضُ المتأخرينَ من العلماءِ يقولُ (¬2): {وَهُوَ اللَّطِيفُ} في استخراجِ الأشياءِ لقدرتِه عليها {الْخَبِيرُ (103)} بمكانِها، لا يَخْفَى عليه شيءٌ. والأولُ هو التفسيرُ المعروفُ، وهو المعروفُ في كلامِ العربِ. وهذا معنَى قولِه: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا ¬

(¬1) انظر: الأمثال لأبي عبيد 206. (¬2) وهو قول أبي العالية. انظر ابن جرير (12/ 23).

عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: آية 104]. {قَدْ}: هُنَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و {جَاءَكُمْ بَصَائِرُ} إنما ذَكَّرَ الفاعلَ ولم يَقُلْ: «جاءتكم بصائرُ»؛ لأن الجمعَ المُكَسَّرَ يَجْرِي مَجْرَى الواحدةِ المؤنثةِ المجازيةِ التأنيثِ (¬1)، فيجوزُ التجريدُ من التاءِ. وَحَسَّنَهُ هنا الفصلُ بالمفعولِ - أعني: {جَاءَكُمْ} - فإن الفصلَ يُبِيحُ وَيَجُوزُ به تركُ التاءِ في المؤنثةِ الحقيقيةِ، أحرى غيرُها (¬2). وقولُه: {بَصَائِرُ} البصائرُ: جمعُ البصيرةِ (فَعِيْلَة) مجموعةٌ على (فَعَائِل) على القياسِ. والبصيرةُ أشهرُ معانِيها في لغةِ العربِ أنها تُطْلَقُ إِطْلاَقَيْنِ يرجعُ إليهما غالبُ استعمالِ البصيرةِ في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ (¬3): أحدُهما: أن البصيرةَ هي الحُجَّةُ والدليلُ القاطعُ. ومعنَى (البصائرِ): الْحُجَجُ والأدلةُ القاطعةُ، وإنما قيل للدليلِ القاطعِ والحجةِ والبرهانِ: (بصيرةٌ) لأنه يُنَوِّرُ البصيرةَ التي هي نورُ العقلِ، يُنَوِّرُهَا حتى ترى الحقَّ حقًّا، والباطلَ باطلاً، والنافعَ نافعًا، والضارَّ ضارًّا، والحَسَنَ حَسَنًا، والقبيحَ قَبِيحًا. وعلى هذا فمعنَى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ} أي: قد جَاءَتْكُمْ حُجَجٌ قاطعاتٌ، وأدلةٌ واضحاتٌ في هذا القرآنِ العظيمِ، بَيَّنَ اللَّهُ لكم بها توحيدَه، وأدلةَ براهينِه القاطعةَ، كقولِه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: آية 95] إلى آخِرِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (34) من سورة الأنعام. وانظر: الدر المصون (5/ 91). (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. وانظر: الدر المصون (5/ 91). (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 24)، البحر المحيط (4/ 196)، الدر المصون (5/ 91)، بصائر ذوي التمييز (2/ 223).

ما تُقَدِّمُ من آياتِ البراهينِ، والحججِ القاطعةِ في هذه السورةِ الكريمةِ. ومن إطلاقِ البصيرةِ على الدليلِ القاطعِ: قولُه جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: آية 108]، أي: على عِلْمٍ ودليلٍ واضحٍ وبرهانٍ قاطعٍ لاَ يَتْرُكُ فِي الحقِّ لَبْسًا. ومنه بهذا المعنَى: قولُه تعالى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة: الآيتان 14، 15] معناه: أن الإنسانَ حجةٌ على نفسِه. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} قولُه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ (¬1): أحدُهما: أنه لو اعْتَذَرَ كُلَّ الأعذارِ، كما قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 23] فنفسُه حجةٌ عليه؛ لأن جِلْدَهُ وجوارحَه تَنْطِقُ بما فَعَلَ، كما يأتي في قولِه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: آية 22] وكقولِه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: آية65] فكلامُ أيدِيهم وشهادةُ أَرْجُلِهِمْ هو كونُ الإنسانِ بصيرةً وحجةً على نفسِه، حيث يشهدُ عليه جِلْدُه وأعضاؤُه {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: آية 21] فعلى هذا: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} لو أتى بالأعذارِ الكاذبةِ كقولِهم: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: آية 22] {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: آية 28] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 23] فنفسُه منها حجةٌ قاطعةٌ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (29/ 184 - 186)، ابن كثير (4/ 449)، اللسان (مادة: بصر) (1/ 219 - 220).

عليه، وهي شهادةُ أعضائِه وجلدِه على أنه فَعَلَ كذا يومَ كذا، في وقتِ كذا، في مكانِ كذا. الوجهُ الثاني: أن (المِعْذَار) يُطْلَقُ في لغةِ بعضِ العربِ من اليمانيين وغيرِهم على (السِّترِ)، فيقولونَ: «أَرْخَى مِعْذَارَهُ» أي: سِتْرَهُ. والمعنَى: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} تقومُ حجةٌ منه بما فَعَلَ على نفسِه بشهادةِ جوارحِه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} أي: ولو أَرْخَى سُتُورَهُ وقتَ الذنبِ بحيثُ لاَ يطلعُ عليه أحدٌ، فجوارحُه تُخْبِرُ بما فَعَلَ. هذا هو معنَى البصيرةِ، ومعانيها راجعةٌ إلى هذا. والظاهرُ أن تسميةَ العربِ الدمَ الذي يخرجُ من البكرِ عندَ افتضاضِها - فقطعةُ الدمِ التي تخرجُ من البكرِ عندَ افتضاضِها - تسميها العربُ: (بصيرةً) لأنها حجةٌ على أن الزوجَ وَجَدَهَا بِكْرًا غيرَ ثَيِّبٍ (1). ومن هنا قيل لدمِ القتيلِ الذي يكونُ عندَ أولادِه - يأخذونَ دَمَهُ - تقولُ العربُ لِدَمِهِ: (بصيرةٌ)؛ لأنه حجَّةٌ على القاتلِ بأنه قَتَلَهُ. وهو معنًى معروفٌ، (2) ومنه قولُ الأشعرِ الجعفيِّ (3): رَاحُوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ ... وبَصِيرَتِي يَعْدو بِهَا عَتَدٌ وَأَى فمعنى قولِه: {قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ} أي: قد جاءتكم في هذه السورةِ الكريمةِ حُجَجٌ وبراهينُ قاطعاتٌ على كمالِ قدرتِه (جل وعلا)

وآياتهِ الباهرةِ الدالةِ على أنه رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وَحْدَهُ. {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي: بعينِ قَلْبِهِ؛ لأَنَّ الإِبْصَارَ إنما هو بالبصيرةِ، وهو المعنَى الثاني للبصيرةِ، وهو الاستبصارُ والعلمُ بالقلبِ بحقائقِ الأشياءِ {فَمَنْ أَبْصَرَ} يعني: ببصيرةِ قَلْبِهِ، لأَنَّ الإبصارَ النافعَ هو الإبصارُ ببصيرةِ القلبِ كما يأتي في قولِه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: آية 46]. وَمَنْ أَرَادَ أن يقرب عنده معنَى هذه الآيةِ الكريمةِ: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} فَلْيَنْظُرْ إلى رَجُلَيْنِ في وسطِ الشارعِ، أحدُهما صحيحُ العينين، تَامُّ البصرِ جِدًّا، إلا أنه مفقودُ العقلِ بَتَاتًا. والثاني أَعْمَى، مكفوفٌ لاَ يُبْصِرُ شيئًا، إلا أنه كاملُ العقلِ تَامُّهُ. فتجدُ صحيحَ العينين قويُّ النظرِ حديدُه، الذي يَفْقِدُ العقلَ يضربُ رأسَه في الجدارِ، ويسقطُ في البئرِ، ويسقطُ في النارِ، ويسقطُ على الْحَيَّةِ، فهو لا يَرَى شيئًا، وبصرُه الحديدُ لا ينتفعُ به، وتجدُ ذلك الأَعْمَى وعصاه أمامَه، يروغُ من هنا ومن هنا، كأنه يرى كُلَّ ما يَضُرُّهُ وما ينفعُه، بهذا تَعْلَمُوا مَدَى قولِه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} (¬1). إِذَا أَبْصَرَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى ... فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ (¬2) ومعنَى قولِه: {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي: ببصيرةِ قلبِه وَأَدْرَكَ عظمةَ اللَّهِ، وَفَهِمَ عن اللَّهِ آياتِه التي جاءت بها رسلُه فَآمَنَ بِاللَّهِ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ، وامتثلَ أمرَ اللَّهِ، وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

{فَلِنَفْسِهِ} أي: فَقَدْ أَبْصَرَ لنفسِه؛ لأن فائدةَ ذلك الإبصارِ راجعةٌ عليه في الدنيا والآخرةِ {وَمَنْ عَمِيَ} أي: عَمِيَ قَلْبُهُ، ولم يَفْهَمْ عن الله - والعياذُ بالله - فلم يَفْهَمْ عَنِ اللَّهِ آياتِه، ولم يَفْهَمْ هذه البصائرَ والحُججَ والأدلةَ القاطعةَ، لَمْ يَفْهَمْهَا ولكن عَمِيَ قلبُه عنها - والعياذُ بالله - فَعَلَى نفسِه، فَعَمَاهُ على نفسِه، نفسه عَمِيَ عَلَيْهَا، وَإياها أَضَرُّ. وهذه الآياتُ تدلُّ الإنسانَ على أنه إن أَبْصَرَ عن اللَّهِ فإنما ينفعُ نفسَه، وإن عَمِيَ عن الحقِّ فإنما يضرُّ نفسَه - والعياذُ بالله - فعلى المسلمِ أن يجتهدَ فيما يبصرُ به من إخلاصِ النيةِ وطاعةِ اللَّهِ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} وهذا الكلامُ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقولَه، ولذا قال في آخرِه: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} الحفيظُ: (فَعِيْل) بمعنَى (فَاعِل) أي: بحافظٍ عليكم أعمالَكم (¬1)، أُوَفِّقُكُمْ إلى خيرٍ، وأوفقكم لتركِ الشرِّ، وإلى فعلِ الخيرِ، وأحسبُ أعمالَكم، وأضبطُها عليكم، لا، وكَلاَّ، ليس مِنْ شَأْنِي حفظُ أعمالِكم وتوفيقِكم، ولا إحصاءُ أعمالِكم عليكم، ولا مجازاتكم عليها، إنما أنا رسولٌ مُبلِّغٌ، إنما عليَّ البلاغُ، وقد بلَّغْتُ، وحِفْظُ أعمالِكم وتوفيقكم إلى الخيرِ والشرِّ ومجازاتُكم على ذلك كُلِّهِ بيدِ اللَّهِ وحدَه، كما قال جل وعلا: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: آية 40] {فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي: وهو التبليغُ {وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: آية 54] أي: وهو الطاعةُ. ¬

(¬1) انظر ابن جرير (8/ 562).

وهذا معنَى قولِه: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: آية 104] {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} [الأنعام: آية 105]. في هذه الآيةِ الكريمةِ ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ (¬1): قَرَأَه من السبعةِ نافعٌ وعاصمُ وحمزةُ والكسائيُّ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} على وزنِ (فَعَلْتَ) (الدالُ) غيرُ ممدودةٍ بألفٍ، و (التاءُ) مفتوحةٌ - تاءُ المخاطَبِ - {دَرَسْتَ} بعدمِ مدِّ الدالِ، وفتحِ التاءِ. هذه قراءةُ نافعٍ وعاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ. وقرأه مِنَ السبعةِ أبو عمرو وابنُ كثيرٍ: {وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} على وزنِ (فَاعَلْتَ) بتاءِ المُخاطَبِ المفتوحةِ. وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه من السبعةِ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} على وزنِ (فَعَلَتْ) بتاءِ التأنيثِ الساكنةِ. اعْلَمْ أولاً أن معنَى الآيةِ: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} أي: وكذلك التصريفُ الواضحُ الذي تُصَرِّفُ عليه الآياتِ على أنحاءَ مختلفةٍ من إقامةِ البراهينِ العقليةِ، وإفحامِ الخصومِ والوعدِ والوعيدِ، وبيانِ المَحَجَّةِ، كذلك التصريفُ الذي نُصَرِّفُ به الآياتِ في هذه السورةِ: نصرِّفها بغيرِها من جميعِ القرآنِ مما يحتاجُ له البشرُ على أنحاءَ مختلفةٍ من العقائدِ والحلالِ والحرامِ والآدابِ والمكارمِ والأمثالِ والوعدِ والوعيدِ، كذلك التصريفُ الواضحُ على الأنحاءِ المختلفةِ، نُصَرِّفُ الآياتِ. وتصريفُ القرآنِ بهذه ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 200، أضواء البيان (2/ 206).

الأساليبِ العظيمةِ لحكمةٍ مفترقةٍ إلى شيئين: أي: لِيُؤْمِنَ بِهِ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ، وليُكذب به مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ فيقول: دَرَسْتَ هذا القرآنَ على غَيْرِكَ، وأخذتَه من غيرك (¬1)، كما قالوا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)} [الفرقان: آية 5] {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: آية 4] والمعنَى: نُصرِّفُ آياتِ القرآنِ على أنحاءَ مختلفةٍ، في أكملِ بيانٍ وأوضحِه؛ لنخذلَ قومًا، ونوفقَ آخرين؛ لأن اللَّهَ أنزلَ هذا القرآنَ، وَصَدَقَ في عِلْمِهِ أنه يؤمنُ به قومٌ فيُدخلهم الجنةَ، ويكفرُ به آخرونَ فيدخلُهم النارَ؛ لأن هذا القرآنَ مُنْذُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ لا يدخلُ أحدٌ الجنةَ إلا عن طريقِ العملِ به، ولا النارَ إلا عن طريقِ الإعراضِ عنه، فالعملُ به مفتاحُ الجنةِ، والإعراضُ عنه مفتاحُ النارِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} [هود: آية 17] وَاللَّهُ (جل وعلا) يَبْتَلِي بابتلاءاتِه فَيُضِل قومًا ويهدي آخَرِينَ، وله في ذلك الحكمةُ البالغةُ؟ ولأَجْلِ هذا جَعَلَ القرآنَ هدًى لقومٍ وَفَّقَهُمْ للعملِ به، وجعلَه هلاكًا على آخَرِينَ، وحجةً عليهم، خَذَلَهُمْ فأعرضوا عنه، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (82)} [الإسراء: آية 82] {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] والعياذُ بالله {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: الآيتان 124، 125] هذا معنَى قولِه: ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 207).

{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} ولأجلِ أن ينقسموا إلى أشقياءَ وسعداءَ: صَرَّفْنَا هذا القرآنَ على هذا التصريفِ. {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} أي: وليقولَ الكفارُ الذين خَذَلَهُمُ اللَّهُ ولم يُوَفِّقْهُمْ للعملِ به: {دَرَسْتَ} يَعْنُونَ درستَ هذا القرآنَ على غَيْرِكَ، وأخذتَه عن بعضِ البشرِ (¬1)، كما يأتي في قولِه: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: آية 103] وقولِه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ} إلى أن قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي: يَرْوِيهِ محمدٌ عن غيرِه {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} [المدثر: الآيات 18 - 26]، وكقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: آية 4] وكقولِهم: {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: آية 5] أي: ليقولَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ: دَرَسْتَ هذا القرآنَ، وأَخَذْتَهُ عن غيرِك مِنَ الْبَشَرِ، وتعلمتَه منه، كما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: آية 103] أي: لأَجْلِ أن يخذلَ اللَّهُ مَنْ خَذَلَهُمْ فيكذبوا بكتابِ اللَّهِ، وينكروا أنه منزلٌ من الله، ويزعموا أنه درسَه على غيره، وَأَخَذَهُ من بَشَرٍ. هذا على قراءةِ نافعٍ وعاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ (¬2). أما على قراءةِ ابنِ كثيرٍ وَأَبِي عمرٍو: {وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ} فمعناه رَاجِعٌ إلى الأولِ، والمعنَى: دَارَسْتَ غيرَك من البشرِ، دَارَسْتَهُمْ فَدَارَسُوكَ، وقرأتَ عليهم وقرؤوا عليكَ، فَاسْتَعَنْتَ بهم حتى ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 206). (¬2) في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات 264، ابن جرير (12/ 26)، القرطبي (7/ 58)، البحر المحيط (4/ 197)، الدر المصون (5/ 96)، أضواء البيان (2/ 206 - 207).

حَصَّلْتَ هذا الكلامَ الذي جئتَ به مِنْ عِنْدِهِمْ. أما على قراءةِ ابنِ عامرٍ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ} فأصلُها قراءةٌ معناها مُشْكِلٌ، وأظهرُ أقوالِ العلماءِ فيها وَجْهَانِ (¬1): أحدُهما: وليقولَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وأشقاه ولم يُوَفِّقْهُ للقرآنِ: دَرَسَتْ هذه الآياتِ التي تأتي بها؛ لأنها متقادمٌ عَهْدُهَا؛ لأنها من أساطيرِ الأولينَ أخذتَها عنهم؛ فهو ليس بشيءٍ جديدٍ أُنْزِلَ عليكَ، وإنما هي دارسةٌ قديمةٌ، كانت عندَ الأولين من أساطيرِهم، أخذتَها عنهم، وعلى هذا فالمعنَى يرجعُ إلى قولِه: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان: آية 5] {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النحل: آية 24] لأَنَّ أساطيرَ الأولينَ أساطيرُ قديمةٌ دارسةٌ أخذتَها عنهم، ليست بأمرٍ جديدٍ مُنَزَّلٍ عليك. وهذا مِنْ أَبْيَنِ الوجوهِ في قراءةِ ابنِ عامرٍ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ}. الوجهُ الثاني: أي: وليقولَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وأشقاه ولم يُوَفِّقْهُ للعملِ بالقرآنِ: دَرَسَتْ هذه [13/ب] الآياتُ، طالَ علينا العهدُ بها وَانْمَحَتْ، فينبغي لكَ أن تأتيَ بغيرِها / وَتُبَدِّلَهَا بجديدٍ، فإن هذه الأُولَى دَرَسَتْ ولم تَنْفَعْ، كما قال: {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: آية 15]. والأَوَّلُ أظهرُ. {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} [الأنعام: آية 105] هذه الحكمَةُ، أي: ليقولَ مَنْ خَذَلَهُمُ اللَّهُ وَأَشْقَاهُمْ: دَرَسْتَ هذا القرآنَ وأخذتَهُ عن بَشَرٍ، فهو أساطيرُ الأولين وليس بكلامِ اللَّهِ؛ ولأَجْلِ أَنْ نُبَيِّنَهُ لِمَنْ وَفَّقْنَاهُمْ، فيكون عمًى على هؤلاء وهدًى لهؤلاء، كما قال: ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 207).

{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: آية 44] فقوله: {هُدًى وَشِفَاءٌ} كقولِه: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وقوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: آية 105] كقولِه: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] وكقولِه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: آية 82] أي: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} لهم عقولٌ وَعِلْمٌ يُظْهِرُ لهم ما ضَمَّنَّا في هذا القرآنِ من تَصْرِيفِنَا الآياتِ من غرائبِنا وعجائبِنا وبصائرِنا، أي: أَدِلَّتِنَا القاطعةِ الواضحةِ التي لا تَتْرُكُ في الحقِّ لَبْسًا. وهذا معنَى قولِه: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}. {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: الآيتان 106، 107]. {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أنه أنزلَ علينا على لسانِ نَبِيِّنَا بصائرَ حيث قال: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ} والمعنَى: جاءتكم مِنْ قِبَلِنَا على لسانِ نبينا بصائرُ، أي: حُجَجٌ قاطعاتٌ، وأدلةٌ واضحاتٌ، لا تتركُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا. فهذه البصائرُ التي جَاءَتْكُمْ يلزمُكم اتِّبَاعُهَا، وعدمُ الْمَيْلِ والحَيْدةِ عنها؛ ولذا أَتَّبِعُ قولَه: {قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ} [الأنعام: آية 104] بقولِه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106] وهو تلكَ البصائرُ والبيناتُ والحُجَجُ القاطعاتُ التي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عليكَ، وهذه البصائرُ: هي هذا القرآنُ العظيمُ، وهو المأمورُ بِاتِّبَاعِهِ في قولِه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106] وهذا القرآنُ العظيمُ يجبُ علينا جَمِيعًا أن نَتَّبِعَهُ، ونتأدبَ بآدابِه، ونتخلقَ بما فيه من مكارمِ الأخلاقِ، وَنُحِلَّ حلالَه،

ونُحَرِّمَ حرامَه، ونعتقدَ عقائدَه، وَنَنْزَجِرَ [بوعيده]، وننبسطَ [لِوَعْدِهِ] (¬1)، وَنَتَأَسَّى بأمثالِه، إلى غيرِ ذلك من العملِ به. وَاعْلَمُوا أن هذا القرآنَ العظيمَ هو أعظمُ نعمةٍ أَعْطَاهَا اللَّهُ لهذا الخلقِ الذي أَنْزَلَهُ عليه، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أن إيراثَ هذا القرآنِ العظيم هو العلامةُ الوحيدةُ في الاصطفاءِ، فَاللَّهُ لا يُورِثُ هذا الكتابَ إلا مَنْ اصْطَفَاهُ من خَلْقِهِ، حيث قال تعالى بعد أن نوَّه بالقرآنِ والعملِ به: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا} إلى أن قال: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّنْ تَبُورَ (29)} ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فَبَيَّنَ أن إيراثَ هذا الكتابِ علامةٌ للاصطفاءِ؛ ولذا قال: {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} والجمهورُ من العلماءِ على أن الذينَ أُورِثُوا الكتابَ الذين اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ بإيراثِ هذا الكتابِ لاَ يَخْتَصُّونَ بحَمَلَةِ القرآنِ الذين يَحْفَظُونَهُ، بل يشملُ جميعَ الأمةِ الذين يعملونَ به، فَيُحِلُّونَ حَلاَلَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، ويعتقدونَ عقائدَه إلى غيرِ ذلك، وإن لم يكونوا يَحْفَظُونَهُ (¬2)، وسواء وَقَعَ منهم تقصيرٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ إيراثَه للكتابِ، وأن إيراثَه الكتابَ علامةُ الاصطفاءِ، قَسَّمَ هذه الأمةَ التي أَوْرَثَهَا هذا الكتابَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ، قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} ثم نَوَّهَ بالقرآنِ العظيمِ فقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} أي: {ذَلِكَ} إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} مِنَ اللَّهِ عليهم. فَصَرَّحَتِ الآيةُ بِأَنَّ إنزالَ القرآنِ وإيراثَنا إياه أعظمُ فضلٍ وأكبرُه علينا؛ وَلِذَا عَلَّمَنَا اللَّهُ أن نحمدَه على هذه النعمةِ الكبرى ¬

(¬1) في الأصل: «وننزجر بوعده، وننبسط لوعيده». وهو سبق لسان. (¬2) انظر: ابن جرير (22/ 133)، ابن كثير (3/ 554).

والفضلِ الأعظمِ، حيث قال في أولِ سورةِ الكهفِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)} [الكهف: آية 1] يعنِي لَمْ يجعل فيه اعوجاجًا من جهةِ الألفاظِ ولا المعانِي، فألفاظُه بليغةٌ مستقيمةٌ، [ومعانيه] (¬1) كريمةٌ جليلةٌ، أخبارُه صدقٌ، وأحكامُه عدلٌ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: آية 115] يعنِي: صِدْقًا في الأخبارِ، وَعَدْلاً في الأحكامِ. ثم قال (جل وعلا) وهو محلُّ الشاهدِ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} يعني جميعَ الذين أُورِثُوا الكتابَ، هذا القرآنَ العظيمَ، وعلى رأسهم الظالمُ لنفسه؛ لأنه أولُ مَنْ ذُكِرَ، حيث قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} ثم قال عن الجميعِ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} وَلَمْ يبقَ غير الذين أُورثوا الكتابَ بظالِمهم ومقتصدِهم وسابقِهم إلا الكفرةَ الفجرةَ؛ ولذا قال بعدها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: الآيات 29 - 36] وكان بعضُ العلماءِ يقول: حُقَّ لهذه (الواو) أن تُكْتَبَ بماءِ الْعَيْنَيْنِ (¬2). يعني واوَ {يَدْخُلُونَهَا} لأنها حَكَمَتْ بدخولِ الجميعِ في الجنةِ، وعلى رأسهم الظالمُ لنفسه. وأصحُّ التفسيراتِ في (الظالمِ)، و (المقتصدِ)، و (السابقِ) (¬3): ¬

(¬1) في الأصل: ومعناه. (¬2) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬3) انظر: ابن جرير (22/ 133)، ابن كثير (3/ 554).

أن الظَّالِمَ: هو الذي يطيعُ مرةً ويعصي أُخْرَى، من الذين قال اللَّهُ فيهم: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 102]. والمقتصدُ: هو الذي يأتِي بالواجباتِ، ويتركُ المحرماتِ، ولا يتقربُ بالنوافلِ. والسابقُ بالخيراتِ: هو الذي يأتِي بالواجباتِ، وَيَتَّقِي الْمُحَرَّمَاتِ، ويتقربُ إلى اللَّهِ بالنوافلِ، تَقَرُّبًا إليه بغيرِ الواجباتِ. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: ما الحكمةُ في تقديمِ الظالمِ في آيةِ (فاطر) هذه، والظالمُ إذا كان في هذا الوعدِ الكريمِ بدخولِ الجنةِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} أين له أن يُقَدَّمَ فيقدمه اللَّهُ بالذكرِ على المقتصدِ والسابقِ؟ للعلماءِ عن هذا أجوبةٌ معروفةٌ (¬1): منها: أن بعضَهم قال: هذا المقامُ أظهرَ اللَّهُ فيه كرمَه وتعظيمَ هذا القرآنِ العظيمِ، وقوَّةَ آثارِه على مَنْ أَوْرَثَهُمْ إياه بدخولِ الجنةِ؛ ولذا بدأ بالظالمِ لئلا يقنطَ، وأخَّر السابقَ بالخيراتِ لئلا يعجبَ بعملِه فيحبط. وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمونَ لأَنْفُسِهِمْ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: آية 24] وَلَمَّا كان أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمين لأنفسهم بدأَ بهم لشأنِ الكثرةِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

كذا قالوا واللَّهُ - تعالى - أعلمُ؛ ولذا لِمَا نَوَّهَ بهذه البصائرِ التي هي النعمةُ العظيمةُ: {قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} [الأنعام: آية 104] أَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106] وهذا الذي أُوحِيَ إليك من ربكَ هو تلك البصائرُ، أي: الْحُجَجُ القاطعاتُ، والأدلةُ الساطعاتُ الواضحاتُ، التي لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا، التي صَرَّفَهَا اللَّهُ في هذا القرآنِ العظيمِ {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} [الأنعام: آية 105] كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: آية 89] وهذا معنَى قولِه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106]. وهذه الآيةُ نَصَّ بأن الذي يجبُ اتِّبَاعُهُ هو الوحيُ، وهو القرآنُ العظيمُ، فلا يجوزُ اتباعُ غيرِه، فَمَنِ اتبعَ تَشْرِيعًا غيرَه فَرَبُّهُ من اتبع تشريعَه، كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا (¬1)، وكما سيأتِي إيضاحُه مِرَارًا في هذه السورةِ الكريمةِ سورةِ الأنعامِ (¬2)؛ لأن التشريعَ إنما هو لخالقِ السماواتِ والأرضِ، كما أنه لاَ شريكَ له في عبادتِه: كذلك لا شريكَ له في حُكْمِهِ؛ ولذا قال تعالى في العبادةِ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: آية 110] وقال في حُكْمِهِ: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف: آية 26] وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ: {وَلاَ تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (¬3) فالحكمُ لِلَّهِ وحدَه، كما أن العبادةَ له وحدَه، فهو المعبودُ وحدَه (جل وعلا)، ¬

(¬1) ما سبق عند تفسير الآية (57) , والآية (94) من سورة الأنعام. (¬2) انظر ما سيأتي عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام، والآية (158) من سورة الأعراف، والآيتين (28، 31) من سورة التوبة. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران، ص277 ..

فيجبُ توحيدُه في العبادةِ، وهو الحاكمُ وحدَه (جل وعلا)، فالحكمُ له وحدَه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57] لأَنَّ الحكمَ لاَ يكونُ إلا لِمَنْ هو أَعْلَى مِنْ كُلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كُلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كل شيء، كما قال تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: آية 12] لأن العليَّ الكبيرَ الذي هو متصفٌ بغايةِ العلوِّ والكبرِ والعظمِ هو الذي له أن يأمرَ وينهى، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وليس لأحدٍ ألبتةَ تشريعٌ مع اللَّهِ، فكلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا وَضْعِيًّا سواء سَمَّاهُ نِظَامًا أو قانونًا أو دستورًا من التشاريعِ الوضعيةِ التي وَضَعَهَا إبليسُ على ألسنةِ أوليائِه من الكفرةِ: فَرَبُّهُ ذلك الذي اتَّبَعَ تشريعَه، وهو كافرٌ بالله كُفْرًا بواحًا مُخْرِجًا عن الملةِ. وَاللَّهُ بَيَّنَ هذا في آياتٍ كثيرةٍ؛ لأَنَّ التشريعَ لا يمكنُ إلا أن يكونَ للسلطةِ العليا الحاكمةِ، التي لا يمكنُ أن تكونَ فوقَها سلطةٌ، وهي سلطةُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، فهو الآمِرُ الناهي، فالأمرُ أمرُه، والنهيُ نَهْيُهُ، والدينُ ما شَرَعَ، والحلالُ ما أَحَلَّ، والحرامُ ما حَرَّمَ، وَمَنْ أَرَادَ أن يتبعَ تَحْلِيلاً وَتَشْرِيعًا لغيرِه فقد اتَّخَذَ غيرَه رَبًّا، وهو مشركٌ بخالقِ السماواتِ والأرضِ؛ لأَنَّ الشركَ به في حكمِه كالشركِ به في عبادتِه؛ ولذا سيأتيكم في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - براهينَ قاطعةً من هذه البصائرِ التي قال اللَّهُ: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: آية 104] مُوَضِّحًا أن مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ الشيطانِ فقد اتَّخَذَ الشيطانَ رَبًّا، وهو مشركٌ بالله شِرْكًا أكبرَ مُخْرِجًا عن دينِ الإسلامِ (¬1)؛ ذلك أن إبليسَ اللعينَ لَمَّا قال لتلامذتِه ¬

(¬1) انظر الإحالات السابقة ..

من كفارِ مكةَ: سَلُوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عن الشاةِ تصبحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ قال لهم: اللَّهُ قَتَلَهَا. قالوا: إذًا هي ذبيحةُ اللَّهِ، وأنتم تقولونَ: هي ميتةٌ نجسةٌ، فما ذَبَحْتُمُوهُ بأيديكم - يَعْنُونَ الْمُذَكَّى - تقولون: حلالٌ طيبٌ مستلذٌّ!! وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ تقولونَ: حرامٌ ميتةٌ نجسٌ، فأنتم إذًا أحسنُ مِنَ اللَّهِ!! فأنزلَ اللَّهُ - بإطباقِ العلماءِ (¬1) - فيهم قولُه تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] يعني: الميتةَ. أي: وإن زَعَمُوا أنها ذبيحةُ اللَّهِ، ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} {وَإِنَّهُ} يعني: الأكلَ من الميتةِ {لَفِسْقٌ} وخروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ. ثم قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي: وإن أطعتموهم في أن الميتةَ حلالٌ في تشريعِ الشيطانِ؛ لأن الصحابةَ والكفارَ اختلفوا في لحمِ الميتةِ، فقال الصحابةُ: حرامٌ بتشريعِ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: آية 173] وقال أتباعُ الشيطانِ في تشريعِ الشيطانِ: الميتةُ حلالٌ، لأنها ذبيحةُ اللَّهِ، فما ذَبَحَهُ اللَّهُ أحسنُ مما ذَبَحَهُ البشرُ. فهي قطعةُ لحمٍ اختلف فيها شرعُ اللَّهِ مع قانونِ الشيطانِ، فقال اللَّهُ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] يعني: إن أَطَعْتُمُ الكفارَ، بأكلِ الميتةِ الذي أباحَه قانونُ إبليسَ، ونظامُ الشيطانِ: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} بالله حيثُ أشركتُم به في حكمِه، وهو يقولُ: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف: آية 26]. وهذا الشركُ الذي حَكَمَ اللَّهُ به في سورةِ الأنعامِ على مَنِ اتَّبَعَ قانونَ الشيطانِ، ونظامَ إبليسَ، هو الذي يُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبِيهِ يومَ القيامةِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 78).

- في سورةِ (يس) - على رؤوسِ الأشهادِ، ويبينُ مصيرَهم النهائيَّ، وذلك في قولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: آية 60] وَقَدْ أَجْمَعَ العلماءُ أن عبادتَهم للشيطانِ التي نَهَاهُمْ عنها وَعَهِدَ إليهم ألا يفعلوها إنما هي اتباعُ نِظَامِهِ وتشريعِه وقانونِه في سَنِّ المعاصي والكفرياتِ والمنكراتِ. ثم قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} حيث عَبَدُوهُ واتخذوا تشريعَه: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} ثُمَّ بَيَّنَ المصيرَ النهائيَّ لعَبَدةِ الشيطانِ، وَمُتَّبِعِي نظامِ إبليسَ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 60 - 65] ولأَجْلِ هذا سَمَّى اللَّهُ تعالى الذين يُطَاعُونَ في المعصيةِ: (شركاءَ) حيث قال: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: آية 137]. وَلَمَّا سألَ عَدِيُّ بنُ حاتمٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قولِه تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] كيف اتَّخَذُوهُمْ أربابًا؟ قال: أَلَمْ يحلوا لهم ما حَرَّمَ اللَّهُ؟ ويحرموا عليهم ما أَحَلَّ اللَّهُ فاتبعوهم؟ قال: بَلَى. قال: بذلك اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا (¬1). فَكُلُّ مَنْ يتبعُ نظامَ إبليسَ وقانونَ الشيطانِ فهو مشركٌ بِاللَّهِ في حُكْمِهِ، وَاللَّهُ يقولُ: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

آية 26] {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57] {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: آية 10] {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: آية 12]، الحكمُ للعليِّ الكبيرِ وحدَه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: آية 106] يعني: لا معبودَ بالحقِّ يُعْبَدُ إلاَّ هُوَ، فلا يجوزُ أن يُشْرَكَ بعبادتِه أحدٌ، ولا أَنْ يُشرك في حكمِه أحدٌ، سبحانَه (جل وعلا) أن يكونَ له شَرِيكٌ في عبادتِه، أو شريكٌ في حكمِه، سبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. وقولُه: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام: آية 106] بعضُ العلماءِ يقولُ: هذا الإعراضُ المأمورُ به عن المشركين في سورةِ الأنعامِ في مكةَ قبلَ الهجرةِ منسوخٌ بآيةِ السيفِ (¬1). لأَنَّ الإعراضَ زمنَ مكةَ، وَلَمَّا جَاءَ إلى المدينةِ أُذِنَ له في القتالِ أَوَّلاً بقولِه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: آية 39] ثم أُمِرَ بقتالِ مَنْ قاتلهم دونَ مَنْ لَمْ يقاتلهم: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: آية 190] ثُمَّ أُمِرُوا بالقتالِ العامِّ في قولِه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: آية 5]. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هذه الآيةُ ليست منسوخةً (¬2)؛ لأن المرادَ بالإعراضِ عن المشركينَ عدمُ الكلامِ مَعَهُمْ، وعدمُ سِبَابِهِمْ، وهذا أمرٌ قد يكونُ غيرَ منسوخٍ. وهذا معنَى قولِه: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام: آية 106]. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 32)، الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 355)، الإيضاح لمكي ص 286. (¬2) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 355)، الإيضاح لمكي ص 286.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: الآيات 107 - 110]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: آية 107] لَمَّا قال اللَّهُ (جل وعلا) لِنَبِيِّهِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام: آية 106] لَمَّا أمرَه بالإعراضِ عن المشركين بَيَّنَ أَنَّ إشراكَهم بِاللَّهِ واقعٌ بمشيئةِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَأَتْبَعَهُ بقولِه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} قد تقررَ في فَنِّ الْمَعَانِي: أن فعلَ المشيئةِ إذا رُبِطَ بأداةِ شرطِ يُحْذَفُ مفعولُه دائمًا (¬1)، فمفعولُ المشيئةِ هنا مَحْذُوفٌ (¬2)، وتقديرُه: ولو شاءَ اللَّهُ عَدَمَ إشراكِهم ما أَشْرَكُوا. وهذه الآيةُ الكريمةُ تُبَيِّنُ أنه لا يقعُ شيءٌ إلا بمشيئةِ اللَّهِ، وأنه لو شَاءَ عدمَ إشراكِ الكفارِ لم يُشْرِكُوا. وقد دَلَّتْ على هذا آيَاتٌ كثيرةٌ كقولِه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: آية 35] {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: آية 13] وهذه الآياتُ تَرُدُّ على الْقَدَرِيَّةِ الزاعمينِ أن الكفرَ والمعاصِيَ بمشيئةِ العبدِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، فمذهبُهم باطلٌ، فَرُّوا مِنْ شَيْءٌ فَوَقَعُوا فيما هو أشنعُ وأكبرُ منه، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 99).

فهم يريدونَ التقربَ لِلَّهِ، بِأَنْ يَزْعُمُوا أن الخسائسَ كالسرقةِ والزنا والشركِ أنها بمشيئةِ العبادِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، زاعمينَ أن الله أنزهُ وأعظمُ وَأَجَلُّ من أن تكونَ هذه الرذائلُ بمشيئتِه. وهذه الشبهةُ - التي هي شبهةُ الجبرِ والقدرِ - هي أعظمُ الشُّبَهِ التي في دِينِ الإسلامِ، وَكَثِيرٌ من ضعفاءِ العلمِ يصعبُ عليهم أن يَنْفَكُّوا عنها وَيَتَخَلَّصُوا منها، ونحنُ في هذه الدروسِ دائمًا نُبَيِّنُ كيفيةَ رَدِّ هذه الشُّبَهِ (¬1)، وخلوصُ مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ بَيْنَ مذهبِ القدريةِ والجبريةِ كخلوصِ اللبنِ مِنْ بَيْنِ الفرثِ والدمِ سَائِغًا خَالِصًا لِلشَّارِبِينَ. ونقولُ مثلاً: لو أَرَادَ سُنِّيٌّ أن يُنَاظِرَ جَبْرِيًّا وقدريًّا متمسِّكينَ بمذهبِ القدريةِ والجبريةِ القدريِ [يزعم] (¬2) أن أفعالَ العبدِ القبيحةَ بمشيئةِ العبدِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، ويزعمُ الجبريُّ أن الأفعالَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، فليسَ للعبدِ فِعْلٌ. فلو قَالَ جَبْرِيٌّ مثلاً: هذه الأفعالُ الصادرةُ من الإنسانِ؛ كالإشراكِ والزنا والسرقةِ وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الرذائلِ، هي مكتوبةٌ عليه قبلَ أن يولدَ، قَدَّرَهَا اللَّهُ وَكَتَبَهَا في الأزلِ، وما قَدَّرَهُ اللَّهُ وكتبَه لا يمكنُ أن يتغيرَ!! يقولُ الْجَبْرِيُّ مثلاً: ما سَبَقَ في علمِ اللَّهِ من أن المشركَ يشركُ، وأن الزانيَ يَزْنِي، وأن السارقَ يسرقُ سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، فلا يمكنُ أن يتغيرَ؛ لأن ما سَبَقَ في علمِ اللَّهِ لا يمكنُ أن يتغيرَ!! فَإِذَنْ يقولُ هذا الجاهلُ: إنه مجبورٌ ما دامَ الفعلُ كُتِبَ عليه قبلَ أن يولدَ، وَجَفَّتِ الأقلامُ وَطُوِيَتِ الصحفُ، فالواقعُ واقعٌ لاَ محالةَ، فيقولُ: هو مجبورٌ!! ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬2) في الأصل: «فيقول القدري مثلا الزاعم ... ». فالكلام غير متلائم مع ما بعده.

فيجيبُ السُّنِّيُّ مثلاً فيقولُ: كُلُّ الأسبابِ التي هَدَى اللَّهُ بها المهتدين أَعْطَاكَهَا، فالأبصارُ التي أَبْصَرُوا بها آياتِ الله أَعْطَاكَ بَصَرًا مثلَها، والأسماعُ التي سَمِعُوا بِهَا آياتِ اللَّهِ فاهتدوا أَعْطَاكَ سَمْعًا مثلَها، والقلوبُ التي فَهِمُوا بها عِظَمَ اللَّهِ وأدلتَه وبراهينَه فَاهْتَدَوْا أَعْطَاكَ عَقْلاً مثلَها، والرسلُ التي نَصَحَتْهُمْ وَبَيَّنَتْ لهم، وَاهْتَدَوْا بهديها أَرْسَلَهَا إليكَ كما أَرْسَلَهَا لهم، فجميعُ الأسبابِ التي اهْتَدَى بها المهتدونَ أَعْطَاكَهَا، ولم يَبْقَ فرقٌ بَيْنَكَ أيها الضالُّ وبينَ الْمُهْتَدِي إلا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عليه بتوفيقِه، ولم يَتَفَضَّلْ عليكَ بتوفيقِه، وَيُوَضِّحُ هذا المقامَ: مناظرةُ أَبِي إسحاقَ الإسفرائينيِّ وعبدِ الجبارِ الْمُعْتَزِلِيِّ (¬1). وذلك أن عبدَ الجبارِ جاءَ إلى أبي إسحاقَ مُتَقَرِّبًا بمذهبِ القدريةِ فقال: سبحانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفحشاءِ!! يعنِي أن السرقةَ والزنا والإشراكَ لَيْسَتْ بمشيئتِه، وأنه يتنزهُ عن أن يشاءَ هذا. فقال أبو إسحاقَ: كلمةُ حَقٍّ أُرِيدَ بها بَاطِلٌ!! ثم قال: سبحانَ مَنْ لاَ يَقَعُ في مُلْكِهِ إِلاَّ ما يَشَاءُ. فقال عبدُ الجبارِ: أَتُرَاهُ يشاؤُه وَيُعَاقِبُنِي عليه؟ فقال أبو إسحاقَ: أَتُرَاكَ تشاؤُه جَبْرًا عليه، أأنتَ الربُّ وهو العبدُ؟ فقال عبدُ الجبارِ: أرأيتَ إن دَعَانِي إلى الْهُدَى وَسَدِّ البابِ دُونِي، دَعَانِي ولم يُسَهِّلْ لِي طريقَ الخروجِ، تراه أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.

فقال أبو إسحاقَ: إن كان هذا الذي مَنَعَكَ حَقًّا وَاجِبًا لكَ عليه فقد ظَلَمَكَ وقد أساءَ - سبحانَه عن ذلك - وإن كان مُلْكُهُ الْمَحْضُ فإن أعطاكَ فَفَضْلٌ، وإن مَنَعَكَ فَعَدْلٌ. فَبُهِتَ عبدُ الجبارِ، وقال الحاضرونَ: واللَّهِ ما لهذا جوابٌ. وهذا مفهومٌ من قولِه في هذه السورةِ الكريمةِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: آية 149] مُلْكُهُ التوفيقُ يتفضلُ به على مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُهُ مِمَّنْ يشاءُ. هو حجتُه البالغةُ على خَلْقِهِ؛ لأَنَّ المالكَ إذا تَفَضَّلَ فَأَعْطَى فَفَضْلٌ منه، وإذا مَنَعَ فَعَدْلٌ منه؛ وَلِذَا قال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}. وَذَكَرُوا عن عمرِو بنِ عبيدٍ، كبيرِ المعتزلةِ مع قوتِه وذكائِه ومعرفتِه أنه جَاءَهُ بَدَوِيٌّ وقال له: كُنْتُ أعملُ على دَابَّتِي فسرقها اللصوصُ، فَادْعُ اللَّهَ أن يَرُدَّهَا عَلَيَّ. فقام عمرُو بنُ عبيدٍ يتقربُ بهذا المذهبِ الباطلِ، فقال: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا؛ لأنكَ أكرمُ وأجلُّ وأنزهُ من أن تريدَ السرقةَ. فقال له ذلك البدويُّ: نَاشَدْتُك اللَّهَ يَا هذا إلا ما كَفَفْتَ عني من دعائِك الخبيثِ. إن كانت قد سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلاَ تُرَدُّ (¬1). فالحاصلُ أنه لا يقعُ في الكونِ شَيْءٌ كائنًا ما كانَ إلا بمشيئةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وأنه لا جَبْرَ ولا قَدَرَ. وأن اللَّهَ تباركَ وتعالى قَدَّرَ في سابقِ أَزَلِهِ أن يخلقَ قَوْمًا مَجْبُولِينَ على الخيرِ والفضلِ، ويوفقهم إلى ما يُرْضِيهِ؛ لتظهرَ فيهم أسرارُ أسمائِه ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام، وسيأتي في مواضع متعددة في هذا التفسير.

وصفاتِه، مَنِ اسْمُهُ الكريمُ واللطيفُ وغيرُ ذلك من أسماءِ الكرمِ والجودِ، وقَدَّرَ في أَزَلِهِ أن يخلقَ آخَرِينَ مَطْبُوعِينَ على القذارةِ والنجاسةِ؛ ليظهرَ فيهم بعضُ أسرارِ أسمائِه كالقهارِ، يظهرُ فيهم قَهْرُهُ وجبروتُه وعظمتُه وشدةُ عقابِه؛ ليجتمعَ للناسِ الخوفُ والطمعُ؛ لأنه لو كان خَوْفٌ لا طَمَعَ معه فقد يكونُ هنالك بُغْضٌ، وإن كان طَمَعٌ لا خوفَ معه فقد يكونُ هنالك أَمْنٌ يحملُ على الدَّلاَلِ وسوءِ الأدبِ، فَخَلَقَ بعضَ الخلقِ وقَدَّرَ لهم الشقاءَ الأَزَلِيَّ، لِمَا جَبَلَهُمْ عليه من الْخُبْثِ، ليظهرَ فيهم بعضُ أسرارِ أسمائِه وصفاتِه مِنْ قَهْرِهِ وَمُلْكِهِ وقوةِ بطشِه وإنصافِه، وقَدَّر لقومٍ آخَرِينَ الْهُدَى لِيُظْهِرَ فيهم بعضَ أسرارِ أسمائِه وصفاتِه من رحمتِه وفضلِه ولطفِه وكرمِه. ولكنَّ قدرةَ الله وإرادتَه صَرَفَتْ قُدرَ الخلقِ وإراداتِهم إلى ما شاءَه اللَّهُ وقَدَّره في أَزَلِهِ، فَأَتَوْهُ طَائِعِينَ. فَاللَّهُ (جل وعلا) بقدرتِه وإرادتِه يصرفُ قدرةَ العبدِ وإرادتَه إلى ما سَبَقَ به الكتابُ في علمِه الأَزَلِيِّ، فَيَأْتِيهِ طَائِعًا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: آية 30]. هذا هو أصلُ هذه المسألةِ. فَاللَّهُ يشاءُ وَيُقَدِّرُ ويصرفُ قُدَرَ العبادِ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأزليُّ، فيأتوه طَائِعِينَ. وله المثلُ الأَعْلَى، والحكمةُ البالغةُ في كُلِّ مَا يُقَدِّرُ. ولاَ يَخْفَى أن الْجَبْرِيِّينَ الذين يقولونَ: إن العبدَ لا فِعْلَ له، وإنما هذا فعلُ اللَّهِ!! لو جئتَ إلى جَبْرِيٍّ وَفَقَأْتَ عينَه، أو قَتَلَتْ وَلَدَهُ، أو أتلفتَ مالَه، وقلتَ له: أنا مسكينٌ لاَ فِعْلَ لِي؛ لأَنَّ هذا فعلُ اللَّهِ!! لا يقبلُ مِنْكَ هذا العذرَ، ويقولُ: أنتَ الذي فعلتَ وفعلتَ. وينتقمُ منكَ غايةَ الانتقامِ، وَلَكِنَّهُ بالنسبةِ إلى التكاليفِ يتعللُ هذا التعللَ الباطلَ. فَكُلُّ شيءٍ في الكونِ لاَ يقعُ في العالمِ تَحْرِيكُهُ

ولاَ تسكينُه من خيرٍ أو شَرٍّ إلا بمشيئةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ. وهو يُوَجِّهُ قُدَرَ الخلقِ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، فيأتوه طَائِعِينَ، فَرِيقٌ في الجنةِ وَفَرِيقٌ في السعيرِ؛ لِيُظْهِرَ فيهم أسرارَ أسمائِه وصفاتِه. وبهذا يتضحُ أن القائلين بالجبرِ مُفْتَرُونَ، وأن النافينَ للقدرِ أنهم كذلك مَجُوسُ هذه الأمةِ. فَاللَّهُ يُقَدِّرُ الأشياءَ في أَزَلِهِ، ويكتبُ كُلَّ شيءٍ، ثم يصرفُ بقدرتِه وإرادتِه إراداتِ الْخَلْقِ وقُدَرَهُمْ، فيأتونَ ما سَبَقَ به الْعِلْمُ الأَزَلِيُّ طَائِعِينَ. وهذه المسألةُ قد سَأَلَ أصحابُ النبيِّ عنها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: هل هذا الذي نعملُ له شيءٌ مُؤتَنَفٌ، أو أَمْرٌ قد قُضِيَ في السابقِ وانتهى وَفُرِغَ منه؟ فَبَيَّنَ لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه أَمْرٌ قُضِيَ وَفُرِغَ منه. فقالوا له: لِمَ لاَ نتركُ العملَ وَنَتَّكِلُ على ما سَبَقَ به الكتابُ في العلمِ الأَزَلِيِّ؟ فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجابَهم فقال: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (¬1). فمعنى هذا الحديثِ: أن اللَّهَ يخلقُ الخلقَ ويجبلُهم على ما شَاءَ مِنْ خُبْثٍ وَمِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ ثم يُسَهِّلُ كُلَّ واحدٍ منهم وَيُيَسِّرُ له ما خُلِقَ له، فييسرُ للسعيدِ عملَ الخيرِ، وللشقيِّ عملَ الشرِّ، يصرفُ قُدَرَهُمْ وإراداتِهم بقدرتِه وإرادتِه، فيأتوه طَائِعِينَ؛ وَلِذَا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: آية 107] أي: لَوْ شَاءَ عَدَمَ إشراكِهم بِاللَّهِ ما أَشْرَكُوا. وقولُه: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عليه من الرأفةِ والرحمةِ يُحْزِنُهُ عدمُ إيمانِهم، فاللَّهُ يقولُ له: أنا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

مَا جعلتُك حفيظًا عليهم، حافظًا تَحْفَظُهُمْ من الوقوعِ في الشرِّ، وَتُيَسِّرُهُمْ إلى الخيرِ، ولا جَعَلْتُكَ وكيلاً عليهم تحاسبُهم بأعمالِهم وَتُجَازِيهِمْ، بل أنا الذي أُوَفِّقُ مَنْ شئتُ، وَأُضِلُّ مَنْ شِئْتُ، وَأُحْصِي عليهم أعمالَهم فَأُجَازِيهِمْ عليها، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: الآيتان 21، 22] وكقولِه: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: آية 40]. والمعنَى: كأنه يقولُ له: لستَ مُوَكَّلاً بأعمالِهم، ولا حَافِظًا لهم تُوَفِّقُهُمْ، حِفْظُهُمْ وَمُحَاسَبَتُهُمْ على اللَّهِ، وإنما أنتَ نذيرٌ، وقد قمتَ بوظيفتِك، وَبَلَّغْتَ، فَأَرِحْ نفسَك ولاَ تَحْزَنْ، كما قال له: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127)} [النحل: آية 127]. وقد تَقَدَّمَ في هذه السورةِ الكريمةِ قولُه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} إلى أن قال: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} أي: فتقهرهم بها على الإيمانِ فَافْعَلْ. ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: الآيات 33 - 35]. وقال له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: آية 3] {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: آية 6] ومعنَى {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي: مُهْلِكُهَا من الحزنِ عليهم؛ ولذا قال له هنا: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: آية 107]. {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: آية 108]. {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} لَمَّا

أنزلَ اللَّهُ قولَه تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: آية 98] اجتمعَ رؤساءُ قريشٍ من كفارِ مكةَ إلى أَبِي طالبٍ في آخِرِ أيامِ حياتِه وقالوا له: إن ابنَ أخيكَ يعيبُ آلهتَنا ويذمها. والله لَتَنْهَيَنَّ ابنَ أخيكَ عن سبِّ آلهتِنا أو لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَهُ الذي أَمَرَهُ بهذا. فأنزلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1). وَقَالَ بعضُ العلماءِ: كانَ المؤمنونَ يَسُبُّون الأصنامَ بأنها أجرامٌ لاَ تنفعُ ولاَ تَضُرُّ ولاَ تسمعُ ولا تُبْصِرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نهيَهم عن ذلك لئلاَّ يتذرعَ به المشركونَ فينتقمونَ منهم فَيَسُبُّونَ رَبَّهُمْ؛ وَلِذَا قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} السبُّ معناه: الذمُّ والثَّلبُ بذكرِ المساوئِ التي لا تَلِيقُ. والعربُ تقولُ: سَبَّهُ يَسُبُّهُ، وَتَسَابَّا ¬

(¬1) المعروف أنه لمَّانزلت آية الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ... } الآية قال المشركون: فإن عيسى وعزيرًا والشمس والقمر يعبدان!! فنزل قوله تعالى في سورة الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} وقوله في سورة الزخرف {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}. انظر أسباب النزول للواحدي ص 305، تفسير ابن كثير (3/ 197)، أسباب النزول للسيوطي ص 184، الدر المنثور (4/ 339). أما آية الأنعام فإن سبب نزولها ما سيذكره الشيخ من أن المؤمنين كانوا يسبون آلهة المشركين، وفي بعض الروايات: القصة المشار إليها في ذهابهم إلى أبي طالب، لكن لا تعلق لذلك كله بآية الأنبياء، اللهم إلا ما ذكره أبو حيان في البحر (4/ 199) بقوله: «وقيل: قالوا ذلك عند نزول قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ... }» ا. هـ. هكذا ذكره من غير سند، ولم يعزه لقائل معين. والله أعلم. انظر: ابن جرير (12/ 33 - 35)، الواحدي في أسباب النزول ص 221 - 222، تفسير ابن كثير (2/ 164)، أسباب النزول للسيوطي ص120، الدر المنثور (3/ 38).

سِبَابًا. إذا هَجَا كُلُّ واحدٍ منهما الآخَرَ وقال فيه قولاً قَبِيحًا. والسِّبابُ: المهاجاةُ والمشاتمةُ. وسِبُّ الرجلِ هو الذي يُكَافِئُهُ فيردُّ عليه إذا سَبَّهُ (¬1). ومنه قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ (رضي الله عنه) (¬2): لاَ تَسُبَّنِّني فَلَسْتَ بِسِبِّي ... إِنَّ سِبِّي مِنَ الرِّجَالِ الكريمُ والمعنَى: لاَ تَهْجُوا أصنامَهم وتقولوا ما هي متصفةٌ به من الخساسةِ، فيتسببُ عن ذلك أن يَسُبُّوا اللَّهَ (جل وعلا). وإذا سَبُّوا اللَّهَ معناه: أنهم قالوا فيه ما ليسَ بواقعٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ ليس مُتَّصِفًا إلا بالكمالِ والجلالِ، فليس فيه نَقْصٌ حتى يكونَ مَوْضِعًا للسبِّ. ولكن الكفرةَ الفجرةَ يكذبونَ. فمعنَى: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} يتكلمونَ فيه بما لاَ يليقُ بكمالِه وجلالِه (جل وعلا). وقولُه: {عَدْوًا} العَدْوُ معناه: الظلمُ والعدوانُ. أي: فَيَسُبُّوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وهو خالقُهم ورازقُهم المحسنُ إليهم (¬3). وإعرابُ قولِه: {عَدْوًا} فيه أَوْجُهٌ من الإعرابِ معروفةٌ (¬4): أحدُها: أنه مَصْدَرٌ منكَّرٌ بمعنَى الحالِ، أي: فيسبوه في حالِ كونِهم مُعْتَدِينَ ظَالِمِينَ. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: سبب) 391، القرطبي (2/ 181)، بصائر ذوي التمييز (3/ 169)، اللسان (مادة: سبب) (2/ 77). (¬2) البيت في اللسان (2/ 78)، وقد عزاه لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وانظر: القرطبي (2/ 181). (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 35)، القرطبي (7/ 61)، البحر المحيط (4/ 200)، المفردات (مادة: عدا) ص553. (¬4) انظر: البحر المحيط (4/ 200)، الدر المصون (5/ 100).

الثاني: أنه ما نَابَ عن المطلقِ من «يسبوا»؛ لأن سَبَّ اللَّهِ عُدْوَانٌ {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} معناه: يَعْتَدُوا بِسَبِّ اللَّهِ {عَدْوًا}، أي: عُدْوَانًا. وعليه فهو ما نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ. والإعرابُ الثالثُ فيه: أنه مَفْعُولٌ من أَجْلِهِ، أي: فَيَسُبُّوا اللَّهَ لأجلِ عُدْوَانِهِمْ وطغيانِهم وظلمِهم. وقولُه: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} الظاهرُ أن الجارَّ والمجرورَ في محلِّ حَالٍ ثَانِيَةٍ (¬1)، أي: حالَ كونِهم معتدينَ جاهلينَ، لاَ علمَ لهم بما يَنْبَغِي أن يقالَ في اللَّهِ، حيث يَسُبُّوا اللَّهَ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وهذه الآيةُ الكريمةُ - من آياتِ الأحكامِ - أَخَذَ العلماءُ منها أصلَ (سَدِّ الذرائعِ) (¬2)؛ لأَنَّ سَبَّ الأصنامِ بالنسبةِ إلى ذاتِه جَائِزٌ مطلوبٌ، ولكن لَمَّا كان هذا الأمرُ المحمودُ الطيبُ - وهو سَبُّ الأصنامِ وتقبيحُها - قد يُؤَدِّي إلى أمرٍ آخرَ لا يجوزُ، وهو سَبُّ اللَّهِ، مُنِعَ هذا الشيءُ الطيبُ سدًّا للذريعةِ التي [14/أ] ... وذريعةُ الشيءِ /أَصْلُهَا طريقُه الموصلةُ إليه (¬3). ومعروفٌ عِنْدَ علماءِ الأصولِ أن الذرائعَ ثلاثةُ أقسامٍ (¬4): قِسْمٌ منها يَجْبُ سَدُّهُ إجماعًا، كما دَلَّتْ عليه هذه الآيةُ الكريمةُ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 101). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 61)، البحر المحيط لأبي حيان (4/ 199). (¬3) انظر: المصباح المنير (مادة: ذرع) ص79، اللسان (مادة: ذرع)، (1/ 1064 - 1065)، المعجم الوسيط (مادة: ذرع) (1/ 311). (¬4) في مسألة الذرائع وأدلتها انظر: الفروق للقرافي (2/ 32)، (3/ 266)، شرح تنقيح الفصول ص448، القواعد للمقري (2/ 471 - 474)، إحكام الفصول ص567 - 571، تفسير القرطبي (2/ 57 - 60)، الفتاوى (23/ 186 - 187)، إعلام الموقعين (3/ 135 - 159)، إغاثة اللهفان (1/ 361 - 367)، تهذيب سنن أبي داود (5/ 102)، الموافقات (4/ 198 - 200)، البحر المحيط للزركشي (6/ 82 - 86)، فتح الباري (10/ 404)، إرشاد الفحول ص246، نثر الورود (2/ 575).

من سورةِ الأنعامِ، وَدَلَّ الحديثُ الصحيحُ المتفقُ عليه (¬1). وهذا القسمُ هو أن يكونَ هذا الأمرُ جائزًا أو مطلوبًا، وليس في نفسِه فسادٌ في ذاتِه، أو فيه خَيْرٌ، إلا أنه يُؤَدِّي إلى شَرٍّ عظيمٍ، كَسَبِّ الأصنامِ، فإنه في ذاتِه طَيِّبٌ مَطْلُوبٌ، إلا أنه لَمَّا كانَ يكونُ سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ كان مُحَرَّمًا. ومن هذا النوعِ، وهي الذريعةُ التي يجبُ سَدُّهَا إجماعًا: حفرُ الآبارِ في طُرُقِ المسلمينَ، فلو جاءَ رجلٌ إلى طريقِ المسلمين وَحَفَرَ فيها بِئْرًا لَيْلاً، وَغَطَّى فَمَ البئرِ بشيءٍ خفيفٍ، فَمَنْ جاء مع الطريقِ وَتَرَدَّى في البئرِ فَفِعْلُهُ وحفرُه البئرَ ليس نفسَ إهلاكٍ لنفسٍ ولا مَالٍ، ولكنه ذريعةٌ لذلك يجبُ سَدُّهَا وَمَنْعُهَا بالإجماعِ. ومن هذا النوعِ: إلقاءُ السُّمِّ في مياهِ المسلمين وأطعمتِهم. فإلقاءُ السمِّ في مياهِ المسلمينَ التي يشربونَ، وإلقاؤُه في أطعمتِهم ذريعةٌ للفسادِ يجبُ سَدُّهَا بإجماعِ المسلمين. هذا إحدى أنواعِ الذرائعِ الثلاثِ؛ لأَنَّ نَوْعًا منها يجبُ سَدُّهُ بإجماعِ المسلمين كما مَثَّلْنَا له وَدَلَّتْ عليه هذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنعامِ: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وفي الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إِنَّ مِنَ ¬

(¬1) سيأتي قريبًا.

الْعُقُوقِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ». قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وهل يشتمُ الرجلُ وَالِدَيْهِ؟ قال: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» (¬1)، هذا الحديثُ الصحيحُ سَمَّى [به] النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ذريعةَ السبِّ: (سَبًّا) وهو كالآيةِ يدلُّ على أن ذريعةَ الحرامِ حَرَامٌ. النوعُ الثاني من أنواعِ الذرائعِ الثلاثِ: نوعٌ لاَ يَجِبُ سَدُّهُ بإجماعِ المسلمين، فهو ذريعةٌ يَجِبُ إهدارُها وإلغاؤُها، ولا يجبُ سَدُّهَا بإجماعِ المسلمين. وهذا النوعُ من الذرائعِ نَوْعَانِ: أحدُهما: أن يكونَ الفسادُ بَعِيدًا فيه، والمصلحةُ أرجحَ من الفسادِ فيه. ومثالُ هذا النوعِ: غَرْسُ شجرِ العنبِ. فَإِنَّ غرسَ شجرِ العنبِ ذريعةٌ إلى عصرِ الخمرِ التي هي أُمُّ الخبائثِ، قَبَّحَهَا اللَّهُ، وَقَبَّحَ شَارِبَهَا، إلا أن الذين يعصرونَ الخمرَ من المجتمعِ ويشربونَه قِلَّةٌ في أقطارِ الدنيا، فمنفعةُ انتشارِ العنبِ والزبيبِ في أقطارِ الدنيا مصلحةٌ عُظْمَى أُلْغِيَ من أجلِ هذه المصلحةِ المفسدةُ التي قد تكونُ من شجرِ العنبِ بعصرِ الخمرِ منه؛ لأَنَّ الذي يَعْصِرُهَا أفرادٌ قليلونَ ويشربونها، ولو ضَاعَتْ عقولُهم بسببِ شُرْبِهَا فمصلحةُ العالمِ الْعَامَّةُ بوجودِ العنبِ والزبيبِ في أقطارِ الدنيا أعظمُ من هذه المفسدةِ الجزئيةِ، فأُلْغِيَتْ هذه الذريعةُ وَأُهْدِرَتْ. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه، حديث رقم (5973)، (10/ 403)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها. حديث رقم (90)، (1/ 92)، وصدر الحديث عند البخاري: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ». وعند مسلم: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ». (¬2) في الأصل: «سمى النبي صلى الله عليه - به - وسلم سمى ... ». وهو سبق لسان.

ومن هذا النوعِ: إجماعُ العلماءِ من زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليومِ في أقطارِ الدنيا أنه يجوزُ في البلدِ الواحدِ أن يكونَ - يَسْكُنُ - فيه الرجالُ والنساءُ. في هذا البيتِ رجالٌ ونساء، وفي هذا رجالٌ ونساءٌ، مع هذا بناتُه وأزواجُه وأخواتُه وهكذا، مع أن اجتماعَ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ قد يكونُ ذريعةً للزنى - أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منه - من بعضِ الأفرادِ؛ لأنه قد يشيرُ إليها من غرفةٍ أو سَطْحٍ كما هو معروفٌ، وكما قال نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ (¬1): لَيْتَنِي فِي الْمُؤَذِّنِينَ نَهَارًا ... إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مَنْ فِي السُّطُوحِ ... فَيُشِيرُونَ أَوْ يُشَارُ إِلَيْهِمُ ... حَبَّذَا كُلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيْحِ أو تُلْقِيَ إليه ورقةً، أو يلقيها إليها في موعدٍ يجتمعانِ فيه على القبيحِ الخسيسِ قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَفْعَلُهُ، فاجتماعُ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ لا شَكَّ أنه ذريعةٌ لِفِعْلِ بعضِ الفواحشِ، ولم يَقُلْ أحدٌ من المسلمين بِسَدِّ هذه الذريعةِ، فَلَمْ يَقُلْ أحدٌ من العلماءِ: إنه يجبُ أن يُجْعَلَ جميعُ النساءِ في البلدِ على حِدَةٍ، ويُجعل عليهن حِصْنٌ من حديدٍ قَوِيٍّ، وأن يكونَ البابُ قَوِيًّا من حديدٍ، والمفتاحُ عِنْدَ رَجُلٍ تَقِيٍّ وَرِعٍ مأمونٍ ذي شيبةٍ وذي أزواجٍ، لم يقل أحدٌ هذا من الناسِ!! لأن وقوعَ الفاحشةِ ولو وَقَعَتْ من بعضِ الأخساءِ أمرٌ نادرٌ بالنسبةِ إلى مصالحِ المجتمعِ، ومعاونةُ الرجالِ والنساءِ على المجتمعِ الإنسانيِّ في مَصَالِحِهِ الدنيويةِ والأخرويةِ، فهذه الذريعةُ أُلْغِيَتْ لِعِظَمِ هذه المفسدةِ. ¬

(¬1) هذان البيتان يُنسبان للسري بن عبد الرحمن الأنصاري. كما في الأغاني (20/ 164).

والحاصلُ أن المفسدةَ إذا عَارَضَتْهَا مصلحةٌ فلذلك ثلاثُ حالاتٍ: إما أن تكونَ المصلحةُ أعظمَ وأرجحَ، والمفسدةُ أَقَلَّ وهي مَرْجُوحَةٌ. وإما أن تكونَ المفسدةُ أعظمَ. وإما أَنْ يَسْتَوِيَا. فإن كانت المصلحةُ أعظمَ - كما مَثَّلْنَا - أُلْغِيَتِ الذريعةُ وَأُهْدِرَتْ. وإن كانت المفسدةُ أعظمَ أَوِ اسْتَوَيَا فإنه يجبُ سَدُّ الذريعةِ فيهما. ومثالُهما معًا: ما لو كان من المسلمين أُسَارَى عند الكفارِ في الجهادِ مع الكفارِ، فَأَسَرَ الْعَدُوُّ من الكفارِ أَسْرَى من المسلمين، وَطَلَبَ إمامُ المسلمين فداءَ الأَسْرَى المسلمين من أيدِي الكفارِ، فقال الكفارُ: لا نَقْبَلُ فداءَهم إلا بسلاحٍ، وكان هذا السلاحُ يُقْدِرُهُمْ على الفتكِ بالمسلمين، فإن كان بقدرِ الظنِّ والتخمينِ أنهم يقتلونَ من المسلمين بذلك السلاحِ قدرَ الأُسَارَى أو أكثرَ منهم، فمصلحةُ فداءِ الأُسَارَى تُعَارِضُهَا مفسدةُ قتلِ عددِهم من المسلمين أو أكثرَ، فيجبُ سَدُّ هذه الذريعةِ، ولاَ يُفْدَى أولئك الأُسَارَى. أما إذا كان السلاحُ لا يَقْدِرُ به الكفارُ على أن يقتلوا المسلمين، فإن هذه المفسدةَ تكونُ مرجوحةً، ويجوزُ فداؤُهم. هذانِ نوعانِ من أنواعِ سَدِّ الذرائعِ، الأولُ مُجْمَعٌ على سَدِّهِ، والثاني مُجْمَعٌ على

[عدمِ] (¬1) سَدِّهِ، وَهُمَا طَرَفَانِ وواسطةٌ، طرفٌ من الذرائعِ يجبُ سَدُّهُ إِجْمَاعًا، مَثَّلْنَا له بِسَبِّ الأصنامِ إن كان عَبَدَتُهَا يَسُبُّونَ اللَّهَ، وكحفرِ الآبارِ في طرقِ المسلمينَ، وإلقاءِ السمِّ في مشاربِهم وَمَآكِلِهِمْ. هذا النوعُ يجبُ سَدُّهُ إجماعًا، ونوعٌ لا يجبُ سَدُّهُ إجماعًا، كما مَثَّلْنَا له بغرسِ شجرِ العنبِ، وَمُسَاكَنَةِ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ. وواسطة هي مَحَلُّ الخلافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. ومثالُ هذه الواسطةِ التي هي مَحَلُّ الخلافِ بينَ العلماءِ: البيوعُ المعروفةُ بالفقهِ المالكيِّ ببيوعِ الآجالِ التي يُسَمِّيهَا الحنابلةُ والشافعيةُ: بيوعِ الْعِينَةِ، فهذه ذريعةٌ لِمُحَرَّمٍ، والعلماءُ مُخْتَلِفُونَ فيها، كما لو بَاعَ إِنْسَانٌ سلعةً إلى أَجَلٍ معينٍ بعشرةِ دراهمَ مثلاً، ثم اشْتَرَاهَا بثمنٍ أكثرَ لأبعدَ من الأولِ، أو بثمنٍ أقلَّ من الثمنِ الأولِ بدونِ الأَجَلِ، فإن ظاهرَ هاتين الْبَيْعَتَيْنِ أن كلاًّ منهما بيعةٌ لسلعةٍ بثمنٍ إلى أَجَلٍ، وهي في ظاهرِها جائزةٌ، إلا أنها يمكنُ أن تكونَ ذريعةً إلى رِبًا مُحَرَّمٍ؛ لأن السلعةَ الخارجةَ من اليدِ، العائدةَ إليها مُلْغَاةٌ، فَيَؤُولُ الأمرُ إلى أنه أخذَ أولاً خمسةَ دراهمَ، ثم أَخَذَ عنها في الأجلِ الثاني عشرةَ دراهمَ، وأَخْذُ عشرةٍ مؤجلةٍ بدلَ خمسةٍ هُوَ رِبَا الجاهليةِ بِعَيْنِهِ. فهذه الذريعةُ الْوُسْطَى ذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى وجوبِ سَدِّهَا، وهو مذهبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وأصحابِه، وهو مذهبُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وأصحابِه، وهو مذهبُ أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ (رَضِيَ اللَّهُ عنها). ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق.

وَخَالَفَ في هذا النوعِ من الذرائعِ الإمامُ الشافعيُّ، وزيدُ بنُ أرقمَ (رضي الله عنه) (¬1). قال الإمامُ الشافعيُّ: هما بَيْعَتَانِ، كُلُّ واحدةٍ منهما بيعُ سلعةٍ بثمنٍ معلومٍ، إلى أَجَلٍ معلومٍ، وهذا لا شيءَ فيه. وقد قالت أُمُّ المؤمنين عائشةُ (رضي الله عنها) لامرأةِ زيدِ بنِ أرقمَ: قُولِي لزيدٍ: إِنْ لَمْ يَرْجِعْ عن هذا فإنه يَبْطُلُ جهادُه مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ومرادُ عائشةَ (رضي الله عنها): أن هذا النوعَ من الذريعةِ ذريعةٌ لِلرِّبَا؛ لأن السلعةَ الخارجةَ من اليدِ العائدةَ إليها مُلْغَاةٌ، فَيَؤُلُ الأمرُ إلى أنه عندَ الأجلِ الأولِ دَفَعَ خمسةَ دراهمَ مثلاً، وأخَذَ عِنْدَ الأجلِ الثاني عشرةَ دراهمَ، وهذا رِبَا الجاهليةِ، وإنما قالت عائشةُ لامرأةِ زَيْدٍ: إنه إن لَمْ يرجع عن هذا أَبْطَلَ جِهَادَهُ؛ لأن هذا ¬

(¬1) للوقوف على مذاهب العلماء في هذه المسألة انظر: الأم للشافعي (3/ 78)، الاستذكار لابن عبد البر (19/ 247)، المحلى (9/ 47)، الشرح الكبير (مطبوع مع المغني) (4/ 45)، إعلام الموقعين (3/ 165 - 169)، تهذيب سنن أبي داود (5/ 99 - 108)، نيل الأوطار (5/ 206). (¬2) أخرجه عبد الرازق (8/ 184 - 185)، وابن الجعد في مسنده (1/ 377) وأحمد وسعيد بن منصور (كما في نصب الراية (4/ 15)، والدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330 - 331). وقد أعله الدارقطني (3/ 52)، وابن حزم في المحلى (9/ 49)، والشوكاني في النيل (5/ 206)، وهو ظاهر كلام الشافعي في الأم (3/ 78). وقد جَوَّده ابن القيم كما في تهذيب السنن (5/ 100)، وقال في إعلام الموقعين (3/ 167): «رواه الإمام أحمد وعمل به. وهذا حديث فيه شعبة - يعني ابن الحجاج - وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه» ا. هـ.

رِبًا، وَآكِلُ الرِّبَا محاربُ اللَّهِ؛ لأَنَّ أكلَ الربا هو محاربةُ اللَّهِ، ومن أعظمِ الدَّوَاعِي للغَلَبَةِ في الجهادِ أَكْلُ الرِّبَا؛ لأَنَّ آكِلَ الربا محاربُ اللَّهِ، ومحاربُ اللَّهِ لا يُفْلِحُ ولا ينجحُ، وَاللَّهُ يقولُ في مُحْكَمِ كتابِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: الآيتانِ 278 - 279] فلما كان آكِلُ الرِّبَا حَرْبًا لِلَّهِ ولرسولِه، لا يمكنُ أن يكونَ مُجَاهِدًا من حزبِ اللَّهِ ورسولِه؛ لأن الضِّدَّيْنِ لاَ يجتمعانِ. وهذا هو مرادُ عائشةَ (رضي الله عنها)؛ لأنه إن لم يَرْجِعْ عن هذا أَبْطَلَ جِهَادَهُ. وهذا معنَى قولِه: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: آية 108] في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو أن لفظَ {الَّذِينَ} ولفظَ {يَدْعُونَ} مِنْ خَوَاصِّ العقلاءِ، ومعبوداتُهُمْ أصنامٌ وحجارةٌ لاَ تعقلُ، فكيف يُعَبَّرُ عنها بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} التي هي صفةُ العقلاءِ الذكورِ؟ والجوابُ عن هذا: أن القاعدةَ المقررةَ في علمِ العربيةِ أَنَّ كُلَّ شيءٍ غيرِ عاقلٍ إذا نَزَّلَهُ بعضُ الناسِ منزلةَ العاقلِ، أو وَصَفَهُ ببعضِ صفاتِ العاقلِ أنه يُجْرَى مَجْرَى العاقلِ (¬1)؛ ولذا قال تعالى في رُؤْيَا يوسفَ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} [يوسف: آية 4]، فجاءَ بـ {سَاجِدِينَ} الذي هو جمعُ مذكرٍ سالمٍ يختصُّ بالعقلاءِ، للكواكبِ والشمسِ والقمرِ؛ لأنه وَصَفَهُمْ بالسجودِ، والسجودُ مِنْ خَوَاصِّ العقلاءِ؛ ولهذا المعنَى قال تعالى عن السماواتِ والأرضِ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} [فصلت: آية 11] لأَنَّ السماواتِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من هذه السورة.

سَبْعٌ والأرضين سَبْعٌ، فصارت أربعةَ عشرةَ جُزْءًا؛ وَلِذَا قال: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} لأنه لَمَّا أَمَرَهَا وَخَاطَبَتْهُ صَارَتْ متصفةً بصفاتِ العقلاءِ. وهذا أَمْرٌ عَامٌّ معروفٌ، ومن شواهدِه في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ في هذا المقامِ (¬1): إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا ... تَرَى مِنَّا الأُيُورَ إِذَا رَأَوْهَا ... قِيَامًا رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَا (¬2) فَوَصْفُ «سَاجِدِينَ» و «رَاكِعِينَ» وصَفَ بها ذلك الجزءَ من الإنسانِ الذي لا يعقلُ لَمَّا وصفَه بصفةِ العاقلِ، وهذا أسلوبٌ عَرَبِيٌّ معروفٌ، والكفارُ وَصَفُوا الأصنامَ بصفاتِ العاقلِ حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: آية 3] {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: آية 18] فلما وَصَفُوهُمْ هذه الصفاتِ أُجْرِيَ عليهم ذلك اللفظُ وإن كانوا في الحقيقةِ أخسَّ شيءٍ. وهذا معنَى قولِه: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: آية 108]. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: آية 108] كما زَيَّنَّا لهؤلاءِ الكفرةِ الكفرَ. وهذا التزيينُ معناه - والعياذُ بالله -: صَرْفُ قُدَرِهِمْ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ عليهم به الكتابُ الأَزَلِيُّ - كما كنَّا نُبَيِّنُ - لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأممِ عملَهم؛ إِنْ خَيْرًا فخيرٌ وإن شَرًّا فَشَرٌّ. ¬

(¬1) البيت الأول للراعي النميري، وهو في الخصائص (2/ 432)، تأويل مشكل القرآن ص 213 أوضح المسالك (2/ 58). (¬2) هذا البيت ليس من القصيدة، وإنما هو لبعض المُجَّان. والبيت الأول للراعي النميري، وهو في الخصائص (2/ 432)، مشكل غريب القرآن لابن قتيبة ص 213، الدر المصون (3/ 188)، النهاية في غريب الحديث (2/ 237).

ولفظُ (الأمةِ) في قولِه هنا: {لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أُطْلِقَ في القرآنِ العظيمِ أربعةَ إطلاقاتٍ، كُلُّهَا لغةٌ صحيحةٌ جَاءَ بِهَا القرآنِ (¬1): أُطْلِقَتِ الأَمَةُ على الطائفةِ من الناسِ المتفقةِ في دِينٍ أو نِحْلَةٍ. وهذا أغلبُ استعمالاتِها، ومنه قولُه هنا: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} أَيْ: لِكُلِّ طائفةٍ من الناسِ متفقةٍ في دِينٍ أو نِحْلَةٍ. ومنه بهذا المعنى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [يونس: آية 47] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: آية 213]. الإطلاقُ الثاني في القرآنِ للأُمَّةِ: إطلاقُ الأمةِ على الرجلِ العظيمِ الْمُقْتَدَى به، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: آية 120] أي: إِمَامًا مُقْتَدًى به، كما قال اللَّهُ له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقر ة: آية 124]. المعنى الثالثُ: هو إطلاقُ الأُمَّةِ على الْبُرْهَةِ من الزمنِ، القطعةُ من الدهرِ، والبرهةُ من الزمنِ تُسَمَّى: أمةً، ومنه في القرآنِ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: آية 45] أي: تَذَكَّرَ بَعْدَ بُرْهَةٍ من الزمنِ، ومنه بهذا المعنَى قولُه في أولِ هُودٍ: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: آية 8] أَيْ: إلى قطعةٍ من الزمنِ مُعَيَّنَةٍ. الإطلاقُ الرابعُ: إطلاقُ الأُمَّةِ على الشريعةِ والدينِ؛ لأَنَّ العربَ تُسَمِّي الأمةَ شريعةً وَدِينًا (¬2)، ومنه بهذا المعنَى قولُه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: آية 22] أي: على شريعةٍ وملةٍ وَدِينٍ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (42) من هذه السورة. (¬2) لعله سبق لسان؛ إذ الأولى أن يقال: لأن العرب تُسمي الشريعة والدين (أمة). أو يقال: «لأن العرب تُطلق الأمة على الشريعة والدين». والله أعلم.

ومنه بهذا المعنَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: آية 92] أي: شريعتُكم وطريقتُكم شريعةً واحدةً. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ نابغةِ ذُبْيَانَ (¬1): حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ يَعْنِي: أن مَنْ كان له دِينٌ لا يُخَالِفُ دينَه، فَيَأْثَمُ وهو طَائِعٌ، هذا لا يمكن. هذه معانِي (الأُمَّةِ) في القرآنِ؛ وَلِذَا قال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: آية 108] والعملُ هو ما يفعلُه الإنسانُ يُجَازَى عليه بالخيرِ والشرِّ. وقد دَلَّ استقراءُ الكتابِ والسنةِ على أن العملَ الذي يُجازَى عليه الإنسانُ بالخيرِ والشرِّ أربعةُ أنواعٍ لاَ خامسَ لها (¬2): الأولُ منها: هو الفعلُ الصريحُ، كالسرقةِ والزِّنَى، والعياذُ بالله. الثاني منها: القولُ؛ لأَنَّ القولَ فعلُ اللسانِ، وقد سَمَّى اللَّهُ في هذه السورةَ الكريمةَ - سورةَ الأنعامِ - سَمَّى فيها القولَ (فِعْلاً)؛ لأنه فعلُ اللسانِ، وذلك في قولِه: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: آية 112] فَأَطْلَقَ على قولِ اللسانِ (الفعلَ)؛ لأنه فعلُ اللسانِ. هذانِ اثنانِ: القولُ والفعلُ. الثالثُ من هذه الأشياءِ: إنما هو العزمُ المُصمِّمُ؛ لأن العزمَ المُصَمِّمَ على الشيءِ فِعْلٌ له، يدخلُ صاحبُه به النارِ، وقد ثَبَتَ في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (42) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من هذه السورة.

الصحيحين من حديثِ أبي بَكْرَةَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ». قالوا: يَا رسولَ اللَّهِ قد عَرَفْنَا القاتلَ، فما بالُ المقتولِ؟ يعنِي: بأي ذَنْبٍ دخلَ المقتولُ النارَ، وهو لم يَقْتُلْ أحدًا. فَبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن العملَ الذي دخلَ به النارَ هو عزمُه المُصَمِّمُ على قتلِ أَخِيهِ؛ ولذا قال مُجِيبًا لقولِهم: فما بالُ المقتولِ؟ قال لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ» (¬1). فهذا الحديثُ المتفقُ عليه يُبَيِّنُ أن العزمَ المُصَمِّمَ الذي لم يَمْنَعْ صَاحِبَهُ منه إلا العجزُ عنه أنه فِعْلُ قلبٍ يُؤْخَذُ به صاحبُه، ويدخلُ به النارَ. ومن هذا النوعِ هَمُّ امرأةِ العزيزِ، أما هَمُّ يوسفَ على القولِ به فهو مَيْلٌ طبيعيٌّ مَزْمُومٌ بالتقوى، فَبَيْنَ هَمِّهِ وهمِّهَا الفرقُ (¬2). ومن هذا الهَمِّ الذي لا يُؤَاخَذُ به: ما ثَبَتَ في الحديثِ الصحيحِ: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَامِلَةٌ» (¬3)؛ لأنها خطراتٌ تخطرُ في القلبِ يَزُمُّهَا التقوى. ومن ذلك النوعِ قولُه تعالى في بَنِي سلمةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬2) في الفرق بين هَمّ يوسف (عليه السلام) وهَمّ امرأة العزيز كلام كثير للمفسرين، وأحسنه ما قاله الإمام أحمد (رحمه الله): «الهمُّ هَمَّان: همُّ خطرات، وهمُّ إصرار. فيوسف (عليه السلام) هَمّ همًّا تركه لله فأثيب عليه. وتلك همت همَّ إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها، وإن لم يحصل لها المطلوب» ا. هـ مجموع الفتاوى (6/ 574 - 575)، وانظر: (10/ 739 - 740)، (15/ 150)، قواعد التفسير (1/ 206 - 207). (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

وبني حارثةَ (¬1) يومَ أُحُدٍ: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} لأن قولَه بعدَه: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: آية 122] يدل على أن ذلك الهَمَّ خَطْرَةُ قلبٍ (¬2) مزمومةٌ بالتقوى لاَ تُعَدُّ من الذنوبِ. وكان جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ (رضي الله عنهما) من بني سلمةَ، - وبنو سلمةَ وبنو حارثةَ هما الطائفتانِ اللتانِ نَزَلَ فيهما قولُه: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} - كان جابرٌ يقول: وَاللَّهِ لا أكرهُ أن اللَّهَ قال فِينَا: {هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} لأنه قال بعدَها: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} فهذه الأخيرةُ تُدَاوِي الأُولَى (¬3). الرابعُ من الأعمالِ: هو التركُ؛ لأن التركَ هو في الحقيقةِ عملٌ يدخلُ صاحبُه به النارَ، ويدخلُ به الجنةَ؛ لأن التركَ فِعْلٌ للنفسِ وَكَفُّهَا وَزَجْرُهَا؛ ولذا الذي تركَ الصلاةَ يُقْتَلُ ويدخلُ النارَ، وهو لم يَفْعَلْ شيئًا إلا أنه تَرَكَ الصلاةَ. وقد قَدَّمْنَا في سورةِ المائدةِ كلامَ العلماءِ في التركِ هَلْ يُسَمَّى فِعْلاً، أو لاَ يُسَمَّى فِعْلاً؟ وَبَيَّنَّا أن التحقيقَ عندَ العلماءِ الذي دَلَّ عليه القرآنُ ولغةُ العربِ: أن التركَ من الأفعالِ، وأنه عملٌ من الأعمالِ يدخلُ صاحبُه به الجنةَ والنارَ (¬4)، وكان ابنُ السُّبْكِيُّ (¬5) يقولُ في بعضِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (7/ 165). (¬2) انظر: فتح الباري (7/ 357). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} حديث رقم: (4051)، (7/ 357)، وأخرجه في موضع آخر، انظر حديث رقم: (4558)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل الأنصار (رضي الله تعالى عنهم). حديث رقم: (2505)، (4/ 1948). (¬4) راجع ما سبق عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬5) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

كُتُبِهِ في الأصولِ قال: «طالعتُ كتابَ اللَّهِ (جل وعلا) من أولِه إلى آخرِه هَلْ نجدُ فيه آيةً يُفْهَمُ منها أن التركَ فِعْلٌ؟ وقال: مَا وجدتُ آيةً يُفهم منها ذلك إلا آيةً من سورةِ الفرقانِ، وهي قولُه تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان: آية 30] لأَنَّ الاتخاذَ معناه: التناولُ. أي: أَخَذُوهُ في حالِ كونِه مَهْجُورًا. قال: يُؤْخَذُ من هذا: أن التركَ فِعْلٌ»، ونحن نقولُ: إنَّا طَالَعْنَا في كتابِ اللَّهِ فَوَجَدْنَا في كتابِ اللَّهِ آياتٍ صريحةً - وإن لم يَطَّلِعْ عليها ابنُ السبكي، هي صريحةٌ - في أن التركَ فِعْلٌ، وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك مَرَّتَيْنِ في سورةِ المائدةِ وحدَها، كما بَيَّنَّاهُ في هذه الدروسِ، أحدُ الموضعين من سورةِ المائدةِ الذي دَلَّ القرآنُ الصريحُ فيه على أن التركَ فعلٌ من الأفعالِ، وَعَمَلٌ من الأعمالِ، وَصُنْعٌ من الصنائعِ: هو قولُه تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} ثم قال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: آية 63] فَسَمَّى عدمَ أمرِهم بالمعروفِ ونهيِهم عن المنكرِ سَمَّاهُ (صُنْعًا). والصُّنْعُ أَخَصُّ من مطلقِ الفعلِ؛ لأنه لا يُطْلَقُ الصُّنعُ إلا على الفعلِ الذي يَتَكَرَّرُ من صانعِه مِرَارًا. الموضعُ الثاني من الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَ اللَّهُ فيهما أن التركَ فعلٌ: هو قولُه في المائدةِ أيضًا: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: آية 79] فهذا الذي كانوا يفعلونَه، الذي قال اللَّهُ فيه: «بِئْسَ» هو عدمُ تَنَاهِيهِمْ فيما بينَهم عن المنكرِ، فهو صريحٌ في أن عدمَ النهيِ عن المنكرِ فعلٌ مذمومٌ، فهاتانِ الآيتانِ صريحتانِ في أن التركَ فِعْلٌ، وهو كذلك في لغةِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ لَمَّا كانَ الصحابةُ يَبْنُونَ هذا المسجدَ

الكريمَ، عندما جاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَنَى هذا المسجدَ، كان بعضُ الصحابةِ جَالِسًا، والنبيُّ يعملُ معَهم في المسجدِ، فقال ذلك (¬1): لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ الْمُضَلَّلُ فَسَمَّى قعودَهم وتركَهم العملَ سَمَّاهُ: عَمَلاً مُضَلَّلاً. ومن الأحاديثِ الدالةِ على ذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (¬2) فسمَّى تركَ الأذيةِ (إسلامًا)، وذلك يدلُّ على أن تركَ الأذيةِ فِعْلٌ؛ لأن الإسلامَ أَعْمَالٌ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬2) وردت هذه الجملة في عدة أحاديث رواها عدد من الصحابة (رضي الله عنهم) وهم كالآتي: الأول: حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث رقم (2627)، (5/ 17)، والنسائي في الإيمان، باب: صفة المؤمن. حديث رقم (4995)، (8/ 104 - 105). الثاني: حديث أنس (رضي الله عنه) عند ابن حبان (الإحسان1/ 364). الثالث: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، عند البخاري في الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. حديث رقم (10)، (1/ 53)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (40)، (1/ 65). الرابع: حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) عند مسلم في الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (41)، (1/ 65). الخامس: حديث أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) عند البخاري في الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل، حديث رقم (11)، (1/ 54)، ومسلم في الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (42)، (1/ 66).

هذه الأشياءُ الأربعةُ هي أنواعُ العملِ، وهي: القولُ والفعلُ والعزمُ المُصَمِّمُ والتركُ، وجميعُها يدخلُ في قولِه: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ}. {مَّرْجِعُهُمْ} هنا: مصدرٌ مِيمِيٌّ، ومعناه: رجوعُهم. والمقررُ في فَنِّ التصريفِ: أن المصدرَ الميميَّ أصلُه (مفْعَل) بفتحِ العينِ، إلا إذا كان من مِثَالٍ. أعني: واويَّ الفاءِ، غيرَ مُعْتَلِّ اللامِ، فالقياسُ أن يقالَ في (المَرْجِعِ) - بمعنَى الرجوعِ - أن يقالَ فيه: (مَرْجَع) لأَنَّ المصدرَ الميميَّ في مثلِ هذا قياسُه: (مَفْعَل) بِفَتْحِ العينِ، إلا إنه كُسِرَ المرجعُ هنا وقيل فيه: (مَفْعِل) سَمَاعًا لا قِيَاسًا، فهو سماعٌ يُحْفَظُ ولاَ يُقَاسُ عليه (¬1)، وهو مصدرٌ ميميٌّ بمعنَى (الرجوعِ). وَقَدَّمَ الجارَّ والمجرورَ على عاملِه الذي هو المصدرُ الميميُّ إِيذَانًا بالحصرِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ} لأنه قد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي في مبحثِ القصرِ، وفنِّ الأصولِ في مبحثِ دليلِ الخطابِ - أعنِي مفهومَ المخالفةِ - أن مِنْ صِيَغِ الحصرِ: تقديمَ المعمولِ على عَامِلِهِ (¬2)؛ فَقَدَّمَ المعمولَ الذي هو الجارُّ والمجرورُ على عاملِه الذي هو المصدرُ الميميّ إيذانًا بالحصرِ. والمعنَى: رجوعُهم يومَ القيامةِ إلى اللَّهِ وحدَه، فليس هنالكَ معه مَلِكٌ آخَرُ يَرْجِعُ إليه بعضُهم، بل يرجعونَ إليه وحدَه (جل وعلا). وقولُه: {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} {يُنَبِّئُهُم} مضارعُ ¬

(¬1) انظر: ضياء السالك (3/ 46). (¬2) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

(فعَّل، ويُفَعِّل) من النبأِ، والنبأُ في لغةِ العربِ: أَخَصُّ من الخبرِ؛ لأَنَّ النبأَ لاَ يُطْلَقُ إلا على الإخبارِ بشيءٍ له شأنٌ وَخَطْبٌ، تقول: جَاءَنَا نبأُ الأميرِ، ونُبِّئْنَا بخبرِ الأميرِ والجيشِ، ولا تقولُ: جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ؛ لأنَّ هذا لا أهميةَ فيه، فتقولُ فيه: (خبرٌ) ولا تقول: (نَبَأٌ) (¬1). فمعنَى {يُنَبِّئُهُم} أي: يُخْبِرُهُمْ خَبَرًا عَظِيمًا عندَهم لَهُ خَطْبٌ وشأنٌ عظيمٌ. {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} (ما) موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، والمعنَى: بالذي كانوا يعملونَه في دارِ الدنيا. وليس المرادُ بهذه التنبئةِ والإخبارِ مجردَ التنبئةِ فقط، لا وَكَلاَّ، بل المرادُ به: الجزاءُ؛ لأَنَّ كُلَّ إنسانٍ يومَ القيامةِ يُخْبِرُ بجميعِ ما عَمِلَ من جهاتٍ متعددةٍ: أولاً: تشهدُ على الكافرِ جوارحُه، تشهدُ عليه يدُه ورجلُه وجلدُه، كما يأتي في قولِه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: آية 65] وكقولِه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} [فصلت: آية 22] وكقولِه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: آية 21] وَيُنَبِّئُهُ ويشهدُ عليه المكانُ؛ لأن البقعةَ من الأرضِ الذي عَمِلَ الإنسانُ عليها المعصيةَ تأتي يومَ القيامةِ وتشهدُ عليه عندَ رَبِّهَا، وتقولُ البقعةُ: إن فلانَ بنَ فلانٍ فَعَلَ عَلَيَّ كذا وكذا في ساعةِ كذا، في يومِ كذا، في شهرِ كذا، في سنةِ كذا، كما يَأْتِي في قولِه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

يعنِي الأرض {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} بِمَا فُعِلَ عليها {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: الآيات 1 - 5] أَمَرَهَا بذلك أن تَشْهَدَ، ومن ذلك وهو الشيءُ العظيمُ: أن كُلَّ إنسانٍ يجدُ جميعَ ما قَدَّمَ من خيرٍ وشرٍّ مكتوبًا في كتابٍ: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: آية 49] ويُقال لِكُلِّ إنسانٍ في ذلك الوقتِ: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: آية 14] وتلك الكتبُ تُعْطَى للناسِ، آخِذٌ كتابَه بِيَمِينِهِ، أو آخذٌ بشمالِه، أو من وراءِ ظهرِه، والعياذُ بالله. وهذه الآياتُ معناها: اعْلَمْ أيها الإنسانُ أن كُلَّ ما عَمِلْتَ من خيرٍ وَشَرٍّ هو محفوظٌ لكَ مدَّخرٌ عليكَ، إن كان خيرًا فإنما تَنْفَعُ به نفسَك، وإن كان شَرًّا فإنما تَضُرُّ به نَفْسَكَ، فعليكَ أن تجتهدَ في دارِ الدنيا وقتَ إمكانِ الفرصةِ، ولا تضيعَ الوقتَ؛ لأنه إذا ضاعَ الوقتُ نَدِمَ الإنسانُ حيث لاَ ينفعُ الندمُ، فعلينا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن رَبَّنَا يُخْبِرُنَا أن جميعَ ما عَمِلْنَا سنجدُه مَحْفُوظًا لنا أمامَنا على رؤوسِ الأشهادِ، ونُخبر به، وَنُجَازَى به، إِنْ خَيْرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فَشَرٌّ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلك فلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ. فيجبُ على العبدِ المسلمِ في دارِ الدنيا أن يلاحظَ هذا، وأن يخافَ اللَّهَ، ويخشى من أن يَجْعَلَ في صحيفتِه الفضائحَ التي يفتضحُ بها على رؤوسِ الأشهادِ؛ لأن فضيحةَ يومِ القيامةِ ليست كفضيحةِ الدنيا؛ لأَنَّ مَنِ افْتُضِحَ في الدنيا ضَاعَ عِرْضُهُ أمامَ المجتمعِ، وهو صحيحٌ يأكلُ ويشربُ وينامُ وينكحُ ويركبُ!! ولكن مَنْ افْتُضِحَ في الآخرةِ سيُجَرُّ إلى دركاتِ النارِ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - ففضيحةُ الآخرةِ على رؤوسِ الأشهادِ أعظمُ. وعلى المسلمِ أن يُحاسِبَ في دارِ

الدنيا وينظرَ فيما يقولُ وفيما يعملُ، ولاَ يُقَدِّمَ لصحيفتِه إِلاَّ شيئًا يعلمُ أنه يَسُرُّهُ يومَ القيامةِ إذا رَآهُ. هذا على العاقلِ أن يعملَ به ويجتهدَ فيه، مَا دَامَتِ الفرصةُ مُمْكِنَةً، وعلى كُلِّ إنسانٍ أَنْ يعلمَ أنه ليسَ مَتْرُوكًا سُدًى، فَكُلُّ إنسانٍ حركاتُه وسكناتُه في الدنيا بجميعِ جوارحِه وقلبِه، كُلُّ هذه الحركاتِ والسكناتِ مُحْصَاةٌ عليه، وَكُلُّهَا بناءُ مسكنِه الذي إليه مصيرُه النهائيُّ، فَإِنْ كانت حركاتُه وسكناتُه فيما يُرْضِي اللَّهَ وَجَدَ تلك الحركاتِ والسكناتِ، بَنَى بها قُصُورًا في غرفِ الجنةِ مع الحورِ والِولدانِ، ومجاورةِ رَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، في نعيمٍ لا ينفدُ، وَمُلْكٍ لاَ يَنْفَدُ: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} [الإنسان: آية 20]. وإذا كانت حركاتُه على غيرِ الصراطِ المستقيمِ، فإن تلك الحركاتِ والسكناتِ التي يَسْتَعْمِلُهَا في معصيةِ اللَّهِ، هو يَبْنِي بها مصيرَه النهائيَّ، وهو سجنٌ من سجونِ جهنمَ - والعياذُ بالله -، وقد قَالَ بعضُ العلماءِ: إن الكفرةَ يَدْخُلُونَ منازلَهم في جهنمَ لِضِيقِهَا كما يُدْخَلُ الوتدُ في الحائطِ بالقوةِ (¬1). وكما سَيَأْتِي في قولِه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)} [الفرقان: آية 13] فقولُه: {ضَيِّقًا} أي: شديدَ الضيقِ، وكما هو أحدُ التفسيرين في قولِه: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة الآيتان 8، 9] لأَنَّ بعضَ العلماءِ يقولونَ: «يدخلونَ في أماكنَ منها ضيقةً كما يُدْخَلُ الإنسانُ في العمودِ المنقورِ، فيُدخل في وسطِه والعياذُ بالله (¬2) وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: آية 108]. ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 311). (¬2) انظر: ابن جرير (30/ 295 - 296)، ابن كثير (4/ 548).

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليُؤمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: آية 109] سببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ (¬1): أن كفارَ مكةَ اقْتَرَحُوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اقتراحاتٍ كثيرةً، قَصْدُهُمْ بها التعنتُ، لا طلبَ الحقِّ، قالوا له: أنتَ تزعمُ لنا أن عيسى بنَ مريمَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وأن سليمانَ كان يركبُ الريحَ، وأن صَالِحًا خَرَجَتْ له ناقةٌ عُشَرَاءُ جَوْفَاءُ وبْرَاءُ من صخرةٍ، فأَحْيِ لنا قُصَيًّا لِنُكَلِّمَهُ ونسألَه عنك، وَائْتِنَا بالملائكةِ لنسألهم: هل أَنْتَ على حَقٍّ؟ واجعل لنا الصَّفَا ذَهَبًا، وباعِدْ عنا جبالَ مكةَ لِنَزْرَعَ بينها، في تعنتاتٍ كثيرةٍ سيأتي كثيرٌ منها في قولِه (¬2): {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّنْ زُخْرُفٍ} يَعْنُونَ: مِنْ ذَهَبٍ: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: الآيات 90 - 93] هذا من تَعَنُّتَاتِهِمْ، ومنها أنهم قالوا: «اسْأَلْ رَبَّكَ ينزل علينا الملائكةَ» (¬3) {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: آية 21]. وَقَدَّمْنَا في هذه السورةِ الكريمةِ (¬4) تفسيرَ قولِه: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ¬

(¬1) ما سيذكره الشيخ (رحمه الله) من سبب النزول ورد نحوه عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً كما في ابن جرير (12/ 38 - 39)، أسباب النزول للواحدي ص 222، لباب النقول للسيوطي ص120. (¬2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص292، لباب النقول ص 173. (¬3) انظر: ابن جرير (19/ 1) .. (¬4) انظر: أضواء البيان (2/ 184).

مَلَكٌ} [الأنعام: آية 8] وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الاقتراحاتِ، فقالوا له: أَحْيِ لنا قُصيًّا لِنُكَلِّمَهُ، وَائْتِنَا بالملائكةِ، كما يأتي في قولِه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كَقُصَيِّ بنِ كلابٍ الذي اقترحوا إحياءَه لِيُكَلِّمُوهُ {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي: ولو جِئْنَاهُمْ بالملائكةِ وجميعِ المخلوقاتِ جماعاتٍ جماعاتٍ ويشهدونَ لكَ {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 111] وَلَمَّا قالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ لنا الصَّفَا ذَهَبًا، وَاللَّهِ لئن جعلَه اللَّهُ لنا ذَهَبًا لَنَتَّبِعَنَّكَ ولنؤمنن بما جئتَ به، فَطَمِعَ قومٌ من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في إيمانِهم، فقالوا له: يا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ الصَّفَا ذَهَبًا لأَجْلِ أن يؤمنوا، فَهَمَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوَ اللَّهَ ليجعلَ الصفا ذهبًا، فجاءَه جبريلُ (عليه السلامُ) وخيَّره قال: إن شئتَ جعلَه اللَّهُ لهم ذَهَبًا، ولكن إن كفروا بعدَ تلك الآيةِ التي اقترحوها أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ ولم يُنْظِرْهُمْ، وإن شئتَ تركَ عنهم الآياتِ المقترحةَ، وَأَمْهَلَهُمْ ليتوبَ تائبُهم. فاختارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأخيرةَ (¬1)؛ لأن قومًا إذا اقترحوا آيةً عُظْمَى وجاءتهم ولم يؤمنوا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، كما يأتي في قولِه: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: آية 19] يعني: فَأَهْلَكُهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ فأنزلَ اللَّهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: آية 109] الإقسامُ معناه: الْحَلِفُ (¬2). تقول العربُ: «أَقْسَمَ فلانٌ». إذا حَلَفَ. وأصلُ (القسمِ) الذي هو اليمينُ من (الانقسامِ)؛ لأنه لا يكونُ إلا في طَائِفَتَيْنِ مُنْقَسِمَتَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تُكَذِّبُ الأخرى، ¬

(¬1) مضى تخريجه قريبًا .. (¬2) انظر: المفردات للراغب (مادة: قسم) ص 670)، البحر المحيط (4/ 201).

فَيُقْسِمُ أحدُ الطرفين ليقويَ خبرَه ويؤكدَه. ومعنَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} حَلَفُوا بِاللَّهِ قائلين: وَاللَّهِ لئن جَعَلْتَ لنا الصَّفَا ذَهَبًا لَنُؤْمِنَنَّ بِكَ وَلَنَتَّبِعَنَّكَ. وقولُه: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} معناه: أقسموا جهدَ أيمانهم، أي: غايةَ ما يمكنُهم من تغليظِ اليمينِ وتوكيدِها، و (جَهْدُ اليمينِ) معناه: بُلُوغُ غايةِ ما يمكنُ من تغليظِها وتوكيدِها (¬1). وفي إعرابِ قولِه: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَوْجُهٌ من الإعرابِ (¬2): أعربها بعضُ العلماءِ مفعولاً مُطْلَقًا بالمعنَى من: {وَأَقْسَمُوا} أي: فَهِيَ ما نابَ عن المطلقِ، كما تقولُ: ضربَه أشدَّ الضربِ، وسارَ أشدَّ السيرِ، وأقسمَ أشدَّ الإقسامِ. فمعنَى: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَوْكَدُ أقسامِهم وأغلظُها. وعلى هذا فهو مفعولٌ مطلقٌ بالمعنَى، ما نابَ عن المطلقِ من: {وَأَقْسَمُوا} لأَنَّ معنَى {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَشَدُّ إقساماتِهم وأغلظُها وَأَوْكَدُهَا. الوجهُ الثاني مِنْ أَوْجُهِ الإعرابِ: أنه حالٌ. أي: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ في حالِ كونِهم جَاهِدِينَ في تغليظِ أيمانِهم وتوكيدِها. ولاَ يُنَافِي هذا أن الحالَ تكونُ نكرةً، وأن المصدرَ المؤولَ بالحالِ هنا مضافٌ إلى معرفةٍ؛ لأَنَّ الحالَ إِنْ عُرِّفَتْ لَفْظًا فهي مُنَكَّرةٌ معنًى، كما قال في الخلاصةِ (¬3): وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ ... تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 37)، البحر المحيط (4/ 201)، القرطبي (7/ 62). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 62)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (4/ 305). (¬3) الخلاصة ص 32، وانظر شرحه في التوضيح والتكميل (1/ 469).

والأَيْمَانُ: جمعُ اليمينِ، وَأَوْكَدُ الأيمانِ وأغلظُها هو ما كان بِاللَّهِ، وهم كانوا يحلفونَ بِآلِهَتِهِمْ وأصنامِهم، وإذا أَرَادُوا جهدَ اليمينِ وتوكيدَها وإغلاظَها حَلَفُوا بِاللَّهِ (¬1). وقولُه جل وعلا: {لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ} أَيْ: لئن جاءتهم آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا، أما الآياتُ التي لم يَقْتَرِحُوهَا فقد جاءتهم بكثرةٍ، وأعظمُ الآياتِ: هذا القرآنُ العظيمُ؛ لأنه آيةٌ عُظْمَى ومعجزةٌ كُبْرَى باقيةٌ تترددُ في آذانِ الناسِ إلى يومِ القيامةِ؛ ولأَجْلِ أنه أعظمُ الآياتِ، وأكبرُ المعجزاتِ، أَنْكَرَ اللَّهُ في سورةِ العنكبوتِ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ به، وطلبَ آيةً غيرَه، حيث قال: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)} ثم قال مُنْكِرًا عليهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: الآيتان 50، 51] فإنكارُه على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بأكبرِ الآياتِ وأعظمِها، وهو هذا القرآنُ العظيمُ دليلٌ على أنه أعظمُ آيةٍ. والآياتُ التي سَأَلُوهَا وَاقْتَرَحُوهَا، إنما اقْتَرَحُوهَا تَعَنُّتًا وَعِنَادًا، لاَ طَلَبًا للحقِّ؛ ولذا قال جل وعلا: {لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ} هذه صورةُ إقسامِهم حَكَاهَا اللَّهُ من غيرِ حكايةِ لفظِهم؛ لأنه لو حَكَى لفظَهم لقالَ: «لَئِنْ جَاءَتْنَا آيةٌ لَنُؤْمِنَنَّ بِهَا» فَحَكَى القصةَ بالمعنَى لاَ باللفظِ. أَقْسَمُوا جَاهِدِينَ قائلين: لئن جاءتهم آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا، كَأَنْ يجعلَ اللَّهُ لهم الصَّفَا ذَهَبًا، أو يبعثَ لهم قُصَيًّا لِيُكَلِّمَهُمْ، أو يأتيَهم بالملائكةِ، أو يشقَّ عنهم جبالَ مكةَ ويباعدَها ليزرعوا في ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 62).

متسعٍ من الأرضِ؛ لأنهم يَزْعُمُونَ أن الجبالَ لاَ تُمَكِّنُهُمْ من الزراعةِ، كما يأتي في قولِه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: آية 31]. [14/ب] / على حَدِّ قولِه (¬1): لَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ وَقَالَ بعضُ العلماءِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} لَكَفَرُوا بالرحمنِ؛ لأنهم ما اقترحوا الآياتِ طَلَبًا للحقِّ، وَلَكِنِ اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا وَتَعَنُّتًا؛ ولذا قال هنا: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} أصلُ الآيةِ في لغةِ العربِ - قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬2) - أن أصلَ الآيةِ بالميزانِ الصرفيِّ أَنَّ وَزْنَهَا: (فَعَلَة) وأن أصلَها (أَيَيَة) فَاؤُهَا همزةٌ، وعينُها ياءٌ، ولامُها ياءٌ، على وزنِ (فَعَلَة) فكانَ فيها موجبُ الإعلالِ في الْحَرْفَيْنِ، أعنِي: الياءين، والقاعدةُ في التصريفِ: أن الأغلبَ أن يكونَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ، فلو كانت على الأغلبِ لَقِيلَ: (أَيَاه) وكان المبدلُ (أَلِفًا): (الياء) الأخرى، ولكنه هنا وقعَ الإعلالُ في الياءِ الأُولَى، فأُبْدِلَتْ (ألفًا)، وهذا يوجدُ في كلامِ العربِ، وجاء به القرآنُ، هذا أصلُها في الميزانِ الصرفيِّ. وهي في لغةِ العربِ (¬3): الآيةُ تُطْلَقُ إِطْلاَقَيْنِ، وفي القرآنِ العظيمِ تُطْلَقُ إِطْلاَقَيْنِ، أما أشهرُ معانِي الآيةِ في لغةِ العربِ: فهو ¬

(¬1) البيت في ديوان الحماسة (1/ 215). (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

العلامةُ، العربُ يقولون: «آيةُ كذا». معناه: علامةُ كذا، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: آية 248] أي: علامةُ مُلْكِهِ، وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ جاهليٌّ - جاء فيه تفسيرُ الآيةِ بالعلامةِ، حيث قال (¬1): تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مرادَه بالآياتِ: علاماتُ الدارِ، وآثارُ رسومِها حيث قال مُفَسِّرًا للآياتِ (¬2): رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلمُ خَاشِعُ فَأَشْهَرُ مَعْنَيَيِ الآيةِ في اللغةِ: العلامةُ، وقد تُطْلَقُ الآيةُ في لغةِ العربِ على الجماعةِ، يقولونَ: «جَاءَ القومُ بِآيَتِهِمْ» أي: بِجَمَاعَتِهِمْ، ومنه بهذا المعنَى قَوْلُ بُرج بن مُسْهِرٍ (¬3): خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلَنَا ... بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلاَ أي: بِجَمَاعَتِنَا. هذانِ المعنيانِ للآيةِ في لغةِ العربِ: الآيةُ بمعنَى (العلامةِ)، الآية بمعنى (الجماعةِ). والآيةُ تُطْلَقُ في القرآنِ العظيمِ إطلاقين (¬4): تطلقُ مُرَادًا بها الآيةُ الكونيةُ القدريةُ. والكونيةُ القدريةُ من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ) لغةً قولاً ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬4) السابق.

واحدًا، كقولِه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: آية 190] أي: لعلاماتٍ واضحاتٍ لأصحابِ العقولِ على أن خالقَ هذا الكونِ قادرٌ على كُلِّ شَيْءٍ، وأنه رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وحدَه (جل وعلا)، فهذه الآيةُ الكونيةُ القدريةُ في القرآنِ من معنَى الآيةِ بمعنَى العلامةِ في لغةِ العربِ. الإطلاقُ الثاني للآيةِ في القرآنِ: إطلاقُ الآيةِ بمعنَى الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، كقولِه: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: آية 11] وهذه هي الآياتُ الشرعيةُ الدينيةُ كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ. وهذه من الآيةِ أيضًا بمعنَى العلامةِ؛ لأَنَّهَا علاماتٌ على صدقِ مَنْ جَاءَ بِهَا؛ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ من الإعجازِ، أو بأن لها علاماتٍ تُعْرَفُ بها مبادئُها ومقاطعُها. وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إن الآيةَ بالمعنَى الشرعيِّ الدينيِّ بمعنَى الجماعةِ؛ لأنها جماعةٌ من كلامِ القرآنِ وحروفِه اشْتَمَلَتْ على بعضٍ مِمَّا تَضَمَّنَهُ القرآنُ (¬1). إذا عَرَفْتُمْ هذا فالآيةُ في الآيةِ التي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} هي الآيةُ الكونيةُ القدريةُ، الدالةُ على صدقِ مَنْ جاء بها. أي: علامةٌ خارقةٌ للعادةِ أنكَ رسولٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ (جل وعلا)، كأن يجعلَ الصَّفَا ذَهَبًا، وكأن يُحْيِيَ لنا قُصَيًّا لِنُكَلِّمَهُ، وما جرى مَجْرَى ذلك. وهذا معنَى قولِه: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} اللامُ الأُولَى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

موطئةٌ للقسمِ، واللامُ في قولِه: {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} جوابٌ للقسمِ؛ لأَنَّ القسمَ قبلَ الشرطِ، والقاعدةُ المقررةُ في علمِ العربيةِ: أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ فالجزاءُ للسابقِ منهما (¬1). والسابقُ هنا: القَسَمُ. يعنِي: لئن جَاءَتْهُمْ آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا عليكَ ليؤمنن بها، ويصدقونَ بأنها مِنَ اللَّهِ، وأنها معجزةٌ دالةٌ على أنكَ نَبِيٌّ حَقًّا. فَأَمرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَمْرَيْنِ: أحدُهما: أن يقولَ لهم: إن الآياتِ عند الله، هو الذي يأتِي بها إن شاء، كما قال جل وعلا: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء: آية 4]. الأَمْرُ الثاني: أنه يقولُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109)} فمعنَى قولِه: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: الآيات التي اقْتَرَحْتُمُوهَا عندَ اللَّهِ وبيدِه، إن شاءَ أَنْزَلَهَا، وإن شاءَ لم يُنْزِلْهَا، إنما أنا نذيرٌ، وقد جِئْتُكُمْ به من المعجزاتِ ما يُوَضِّحُ الحقَّ، وَيَقْطَعُ الشُّبَهَ، ويثبت لكم ثبوتًا ضروريًّا أني نَبِيٌّ كَرِيمٌ. أما التعنتاتُ والآياتُ المقترحاتُ فهي عندَ اللَّهِ، إن شاءَ أَنْزَلَهَا عليكم فَأَهْلَكَكُمْ إن لم تؤمنوا، وإن شاءَ لم يُنْزِلْهَا عليكم. وقولُه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109)} الإشعارُ في لغةِ العربِ: الإعلامُ (¬2)، أي: ما يُعْلِمُكُمْ وَمَا يُدْرِيكُمْ. وقرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا البصريَّ أبا عمرٍو: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} بِضَمِّ الراءِ، وَمَنْ يُرَقِّقُ - كَوَرْشٍ - يُرَقِّقُ، ومن يُفَخِّمُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 64)، القاموس (مادة: شعر) ص533.

يُفَخِّمُ. وقرأَ هذا الحرفَ أبو عمرٍو في روايةِ الدُّورِيِّ وَالسُّوسِيِّ: {وَمَا يُشْعِرْكُمْ} بسكونِ الراءِ وَرَوَى عنه الدُّورِيُّ: ضَمَّ الراءِ مُخْتَلَسَةً. هذه قراءةُ أَبِي عمرٍو (¬1)، أما الاختلاسُ فهو للتخفيفِ قَوْلاً وَاحِدًا، وأما إسكانُ الراءِ في قراءةِ أبي عمرٍو هذه {وَمَا يُشْعِرْكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فهو على إسكانِه الراءَ. فالراءُ مُرَقَّقَةٌ؛ لأَنَّ الراءَ الساكنةَ بعد كسرةٍ مُرَقَّقَةٍ بإجماعِ القراءِ وإجماعِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، إلا إذا جاء بعدَها حرفُ استعلاءٍ كما هو مَعْرُوفٌ. لطالبِ العلمِ أن يقولَ: ما وجهُ قراءةِ أبِي عمرٍو هذه وجَزْمُ مضارعٍ من غيرِ جازمٍ، وأصلُ المضارعِ إذا لم يَدْخُلْ عليه جازمٌ أو ناصبٌ فحكمةُ الرفعِ كما هو معروفٌ؟ والجوابُ عن هذا: أن إسكانَ بعضِ الحروفِ المحركةِ للتخفيفِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ معروفٌ، جاء ذلك في القرآنِ وفي لغةِ العربِ في حرفِ الإعرابِ، وفي غيرِ حرفِ الإعرابِ (¬2)، ومثالُه في حرفِ الإعرابِ قولُه هنا: {وما يشعرْكم} الأصلُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} كقراءةِ الجمهورِ، إلا أن الراءَ سُكِّنَتْ للتخفيفِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ امْرِئِ القيسِ (¬3): فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبْ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ ¬

(¬1) انظر: السبعة لابن مجاهد ص265، الكشف المكي (1/ 240 - 242)، إتحاف فضلاء البشر (2/ 26)، البحر المحيط (4/ 201). (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

فَسُكِّنَ المضارعُ تَخْفِيفًا، وكذلك قد تُسَكِّنُ العربُ حَرْفًا مُتَحَرِّكًا غيرَ حرفِ الإعرابِ تَخْفِيفًا، وعليه قراءةُ حمزةَ (¬1): {أَرْنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: آية 128] وقراءةُ حفصٍ (¬2): {ويخشى الله وَيَتَّقْه فأولئك هم الفائزون} [النور: آية 52] لأن، «أَرْنَا» أصلُه (أَرِنَا) سُكِّنَ في قراءةِ حمزةَ تَخْفِيفًا، وكذلك في لسانِ العربِ، كقولِ الشاعرِ (¬3): أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا وكذلك قراءةُ حفصٍ عَنْ عَاصِمٍ: {ويخشى الله ويَتَّقْه} بِسُكُونِ القافِ؛ لأن أصلَها (ويتَّقِه) والقافُ متحركةٌ، سُكِّنَتْ للتخفيفِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬4): وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعْهُ ... وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِ وقولُ الراجزِ (¬5): قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وَهَاتِ خُبْزَ الْبُرِّ أَوْ دَقِيقَا هذا توجيهُ قراءةِ أَبِي عمرٍو: {وما يُشْعِرْكُم}. وفي قولِه: {أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109)} قراءتانِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. ونِسْبَة هذه القراءة لحمزة وَهْم، وإنما قرأ بها ابن كثير من السبعة، وأما حمزة فقرأها بالكسر. انظر: السبعة لابن مجاهد ص170، المبسوط لابن مهران ص136. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) السابق.

سبعيتانِ (¬1): قَرَأَ هذا الحرفَ أبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ وشعبةُ عن عاصمٍ في روايةِ: {وما يشعركم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسرِ {إِنَّها} وياءِ الغيبةِ فِي {يؤمنون}: {وما يشعركم إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} قراءة أَبِي عمرٍو: {وما يُشعِرْكم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} وقراءة ابنِ كثيرٍ وشعبةَ عن عاصمٍ في روايةِ: {وما يُشعِرُكُم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} فاتفقَ ابنُ كثيرٍ وَأَبُو عمرٍو وشعبةُ عن عاصمٍ - في روايةٍ - على كسرِ {إِنَّها} وياءِ الغَيبةِ في قولِه: {يؤمنون}. وقراءةُ أَبِي عمرٍو هذه وابنِ كثيرٍ وروايةِ شعبةَ هي أوضحُ القراءاتِ (¬2)، واضحةٌ لاَ إشكالَ في الآيةِ عليها، فمتعلقُ الإشعارِ محذوفٌ (¬3)، والمعنَى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ما يُدْرِيكُمْ ماذَا يكونُ. ثُمَّ بَيَّنَ بخبرٍ مؤكدٍ: {إِنَّها إذا جاءت} {إنَّها} أي: الآيةُ المقترحةُ إذا جاءتهم لا يؤمنون. كما قال: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا} وكما قال جل وعلا: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)} [الحجر: آية 15] وكقولِه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 111] ونحو ذلك من الآياتِ فقراءةُ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو وَشُعْبَةَ - في روايةٍ - لا إشكال في الآيةِ عليها، قراءة أبي عمرٍو: {وَمَا يُشْعِرْكُمْ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص200، النشر (2/ 261). (¬2) في توجيه هذه القراءات انظر: الموضح لابن أبي مريم (1/ 492)، حجة القراءات ص265، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 101). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 201).

إِنها إذا جاءت لا يؤمنون} وقراءة ابنِ كثيرٍ وشعبةَ عن عاصمٍ - في روايةٍ - {وَمَا يُشْعِرُكم إنها إذا جاءت لا يؤمنون} وهذه أوضحُ القراءاتِ وأظهرُها معنًى. والمعنَى: ما يشعركم، وما يدريكم عن حقيقةِ الأمرِ الذي سيكونُ لو جاءت الآيةُ المقترحةُ؟ ثم بَيَّنَ بخبرٍ بَاتٍّ أنها إذا جاءت لَنْ يؤمنوا؛ ولذا قال: {إنَّها إذا جاءت} أي: الآيةُ المقترحةُ: {لاَ يُؤْمِنُونَ} لأنهم مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ كَفَرَةٌ. وقرأ هذا الحرفَ نافعٌ والكسائيُّ وحفصٌ عن عاصمٍ، وشعبةُ عن عاصمٍ - في الروايةِ الأُخْرَى - {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بفتحِ همزةِ: {أَنَّهَا} وياء الغيبةِ في قولِه: {لاَ يُؤْمِنُونَ}. وقرأ هذا الحرفَ ابنُ عامرٍ وحمزةُ: {وَمَا يُشْعِرُكم أَنَّها إذا جاءت لا تؤمنون} بفتحِ همزةِ: {أَنَّهَا} وتاءِ الخطابِ في قولِه: {تؤمنون} فهي ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات، وما عَدَاهَا شَاذٌّ: {إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} {أَنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} {أَنَّها إذا جاءت لا تؤمنون}. أما كسرُ الهمزةِ مع تاءِ الخطابِ في {تؤمنون} فَلَمْ يأتِ في قراءةٍ سبعيةٍ وإن ذَكَرَهُ بعضُ القراءِ عن شعبةَ - أبي بكر - من روايةِ الأعشى (¬1)، فهو لم يَثْبُتْ عن عاصمٍ في طريقِ شعبةَ. أما على القراءةِ التي قَدَّمْنَا فمعنَى الآيةِ واضحٌ لا إشكالَ فيه كَمَا بَيَّنَّا. ¬

(¬1) انظر: المحتسب (1/ 227)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 109).

وأما على قراءةِ نافعٍ والكسائيِّ وحفصٍ عن عاصمٍ وشعبةَ عن عاصمٍ في روايةِ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109)} ففي الآيةِ إشكالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: المتبادرُ إلى الأذهانِ أن المعنَى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنونَ حتى ترغبوا في إيمانِهم، وتسألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فـ (لا) في هذا المقامِ كأن المتبادرَ منها أن (لا) النافيةَ هنا تَقْلِبُ المعنَى، وأن الأصلَ: وما يدريكم أنها إذا جاءتهم يؤمنونَ، حتى تطلبوا النبيَّ أن يسألَها. والجوابُ عن هذا الإشكالِ من أَوْجُهٍ متعددةٍ معروفةٍ عندَ العلماءِ (¬1): أحدُها: أن الآيةَ لاَ إشكالَ فيها، والمعنَى: اللَّهُ (جل وعلا) عَلِمَ في سابقِ أَزَلِهِ أنهم لو جَاءَتْهُمُ الآياتُ لا يؤمنون، كما دَلَّتْ عليه قراءةُ أبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ التي بَيَّنَّاهَا الآنَ {إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} يعني: اللَّهُ يعلمُ أنهم لا يؤمنونَ لو جَاءَتْهُمْ؛ لأنه يعلمُ عواقبَ الأمورِ وما تَؤُولُ إليه، وأنتم حيث إنكم بشرٌ لا تعلمونَ عواقبَ الأمورِ. والمعنَى: ما يدريكم، ما يشعركم أنها إذا جاءت لاَ يؤمنون؟ يعني: أنا الذي أعلمُ أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنتم لا تعلمونَ عواقبَ الأمورِ، ولذلك طَمِعْتُمْ في إيمانِهم، فَسَأَلْتُمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوَ اللَّهَ أن يأتيَهم بالآيةِ المقترحةِ!! وهذا الوجهُ من التفسيرِ واضحٌ لاَ إشكالَ فيه، واختارَه أبو حيانَ في البحرِ (¬2) ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 39 - 43)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 102). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 201).

والزمخشريُّ في كَشَّافِهِ (¬1)، وهو أيضًا واضحٌ لاَ إشكالَ فيه، وعليه فالمعنَى: اللَّهُ يعلمُ أنهم لا يؤمنونَ، وأنتم أيها البشرُ ما يدريكم بما عَلِمَ اللَّهُ به من غَيْبِهِ قبلَ أن يقعَ. والمعنَى: لا تعلمونَ أنهم لاَ يؤمنونَ، ولو كُنْتُمْ تعلمونَ أنهم لا يؤمنونَ لَمَا قلتُم للنبيِّ: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ الصفا ذَهَبًا، طَمَعًا في إيمانِهم. هذا وجهٌ أيضًا لا إشكالَ فيه على قراءةِ نافعٍ والكسائيِّ وحفصٍ عن عاصمٍ، وشعبةَ عنه في روايةٍ. وكان بعضُ العلماءِ يقول (¬2): (لا) هُنَا صِلَةٌ. ومعنَى قولِهم «صِلَةً» أن يَتَأَدَّبُوا عن لفظِ (زائدة) (¬3) وَذَكَرَ كثيرٌ من علماءِ العربيةِ أن لفظةَ «لا» قد تُزَادُ في الكلامِ مقصودًا بها توكيدُ الإيجابِ (¬4)، وهي من الأمورِ العكسيةِ؛ لأَنَّ أصلَها النفيُ، وهي ربما أُكِّدَ بها الإيجابُ، كما في قولِه: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: آية 1] فـ (لا) هنا ليست نافيةً؛ لأن اللَّهَ أَقْسَمَ بذلك البلدِ في قولِه: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين: آية 3] وقالوا: إن (لا) قد تَأْتِي في الكلامِ صِلَةً مُؤَكِّدةً للثبوتِ، وأن هذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُه: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء: ¬

(¬1) انظر: الكشاف (2/ 34). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 41)، الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 65)، البحر المحيط (4/ 202)، الدر المصون (5/ 104). (¬3) انظر: البرهان للزركشي (1/ 305)، (3/ 70)، قواعد التفسير (1/ 350). (¬4) انظر: البحر المحيط (8/ 213)، البرهان للزركشي (3/ 78 - 82)، فتح القدير (5/ 159)، الدر المصون (10/ 220)، رصف المباني ص 273، دفع إيهام الاضطراب ص 321.

آية 95] على أحدِ الوجهين (¬1)، ومنه قولُه عندَهم: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ} [فصلت: آية 34] أي: والسيئةُ، ومنه قولُه عندَهم: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: آية 65] قالوا: الأصلُ: فَوَرَبِّكَ لاَ يؤمنونَ حتى يحكموكَ فيما شَجَرَ بينهم. قالوا: ومنه قولُه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: آية 12] قالوا: (لا) هنا صِلَةٌ، بدليل قولِه في (ص): {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: آية 75] بحذفِ (لا). وكان الفراءُ يقولُ (¬2): إن حذفَ (لا) في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ - أي النفي - هو معروفٌ مطردٌ في كلامِ العربِ، وأن حذفَها في الكلامِ الذي ليس فيه معنَى الجحدِ ليس مَعْرُوفًا مشهورًا في كلامِ العربِ. والحاصلُ أن زيادةَ لفظِ (لا) في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ، - أي: النفي - فهذا مِمَّا لاَ خلافَ فيه، كقولِه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: آية 65] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12] لأن المنعَ مُشَمٌّ معنَى رائحةِ النفيِ، وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أَبِي النَّجْمِ (¬3): ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (8/ 198). (¬2) عبارة الفراء: «المعنى - والله أعلم - ما منعك أن تسجد. و (أن) في هذا الموضع تصحبها (لا)، وتكون (لا) صلة. كذلك تفعل بما كان في أوله جحد .. » ا. هـ معاني القرآن (1/ 374). (¬3) البيت في المحتسب (1/ 181)، الخصائص (2/ 283)، القرطبي (2/ 182)، البحر المحيط (1/ 29)، الدر المصون (1/ 73)، والشمط: الشيب، والقفندر: القبيح.

وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلاَّ تَسْخَراَ ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا ومنه قولُ الآخَرِ (¬1): مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمْ ... وَالأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ الأصلُ: أبو بكر وعمرُ. وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، والتحقيقُ: أن زيادةَ (لا) لتوكيدِ الكلامِ المُثْبَتِ أسلوبٌ عَرَبِيٌّ مسموعٌ كثيرًا في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ، وربما جاء في الكلامِ المُثْبَتِ الذي ليسَ فيه معنَى الجحدِ، ومن شواهدِه فيه قولُ ساعدةَ بنِ جؤيةَ الهذليِّ (¬2): أَفَعَنْكَ لاَ بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ ... غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرامٌ مُثْقَبُ الأصلُ: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ. و (لا) زائدةٌ، والكلامُ مُثْبَتٌ لا نفيَ فيه، ومنه قولُ الآخَرِ، (قالوا عن ابنِ عباسٍ إنه أنشده) (¬3): تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لاَ يَتَقَطَّعُ قالوا معناه: كادَ يتقطعُ. هذانِ وجهانِ في الآيةِ. الوجهُ الثالثُ: وقالَ به سيبويه (¬4)، واختارَه المفسرُ الكبيرُ ¬

(¬1) البيت في البحر المحيط (1/ 29)، الدر المصون (1/ 73)، رصف المباني ص 273، وفي جميع هذه المصادر: «فعلهم» بدل «دينهم» و «الطيبان» بدل «الأطيبان». (¬2) البيت في البحر المحيط (4/ 273)، الدر المصون (5/ 262)، والغاب: نوع من الشجر، والضرام: النار في الحطب. (¬3) البيت في رصف المباني ص274. (¬4) انظر: الكتاب (3/ 123).

ابنُ جريرٍ (¬1): أن (أن) هنا في هذه الآيةِ معناها (لَعَلَّ) ومعروفٌ في كلامِ العربِ بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ: أن (لعل) يقال فيها: (لأَنَّ) ويقال فيها: (أنَّ) كما هو معروفٌ، ففي (لعل) لغاتٍ عديدةٍ، منها: (لأن) ومنها: (أن) كما هو معروفٌ، وسُمِعَ بالإطباقِ عن العربِ: «اذْهَبْ إلى السوقِ أَنَّكَ تشتري لنا شيئًا». معناه: لَعَلَّكَ تشتري لنا شيئًا. وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُ امرِئِ القيسِ (¬2): عُوْجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأَنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خَذَامِ وقولُه: «لأننا»: لَعَلَّنَا. قال ابنُ جريرٍ: ومنه قولُ عَدِيِّ بْنِ زيدٍ حيث قال (¬3): أَعَاذِلَ مَا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي ... إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ يعني: ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ مَنِيَّتِي. ومنه قولُ الآخَرِ (¬4): أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلاً لأَنَّنِي ... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ فَقِيرًا مُخَلَّدَا ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 43)، وانظر: الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 202)، الدر المصون (5/ 102). (¬2) ديوان امرئ القيس ص156، الكشاف (2/ 34)، البحر المحيط (4/ 202)، مشاهد الإنصاف ص113، (ملحق بالكشاف ج4)، والعَوج: عطف رأس البعير بالزمام. والمُحيل: الذي حال وتغير عن صفة الجِدَّة إلى صفة البِلَى، وابن خذام يقال إنه أول من بكى الديار من شعراء العرب. ويقال له: ابن خدام، وابن خذام، وابن حذام. (¬3) البيت في ابن جرير (12/ 41)، القرطبي (7/ 64). (¬4) البيت في ابن جرير (12/ 42)، القرطبي (7/ 64)، وفيهما: أو بخيلاً. وانظر: تعليق محمود شاكر على ابن جرير (3/ 78)، (12/ 42).

يعني: لَعَلَّنِي. ومنه قولُ أَبِي النجمِ (¬1): قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ نَعْمَائِهِ ... أَنَّ تُغَذِّي الْقَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ (أَنَّّ) يعني: لَعَلَّ. وعلى هذا القولِ فالمعنَى: وما يشعرُكم، وما يدريكم لَعَلَّهَا إذا جاءت لاَ يؤمنونَ. قالوا: و (لعل) تأتِي بعدَ (ما يدريك) و (ما يشعرك) وَمِنْ إِتْيَانِهَا بعدَ (ما يدريك) {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)} [الشورى: آية 17] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: آية 63] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)} [عبس: آية 3] فعلَى هذا الوجهِ الذي اختارَه ابنُ كثيرٍ (¬2) وقال به سيبويه (¬3) أن معنَى (أَنَّ) هُنَا: (لَعَلَّ). والمعنَى: وما يشعرُكم ماذا يكونُ، لَعَلَّهَا إذا جاءت لا يؤمنونَ. قالوا: ويؤيدُ هذا المعنَى: ما في مصحفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ لأن في مصحفِ أُبَيٍّ «وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا إذا جاءت لا يؤمنونَ» (¬4) ومثلُ هذا كالتفسيرِ؛ لأنه ليس بِقُرْآنٍ. هذه الأوجهُ الثلاثةُ في قولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: آية 109]. ¬

(¬1) البيت في الكتاب (3/ 116)، ابن جرير (12/ 43)، القرطبي (7/ 64) الدر المصون (5/ 103). وفيها «ادن من لقائه». (¬2) لعل قوله «ابن كثير» سبق لسان. والمراد: (ابن جرير) كما سبق. ويدل عليه أن ابن كثير لم يرجح هذا القول. (¬3) كما في الكتاب (3/ 123). (¬4) انظر: الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 65)، البحر المحيط (4/ 202)، الدر المصون (5/ 103).

وعلى هذا القولِ فالخطابُ بقولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للمؤمنين (¬1). أما على قراءةِ ابنِ عامرٍ وحمزةَ: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا تؤمنون (109)} فَالأَوْجُهُ في (لا) في هذه القراءةِ كُلُّهَا هي عينُ الأوجهِ التي في قولِه: {لاَ يُؤْمِنُونَ} إلا أن الخطابَ في القراءةِ الأُولَى {وما يشعركم} هو للمسلمينَ، أي: ما يدريكم أيها المسلمونَ أن الكفارَ إذا جاءتهم الآياتُ يؤمنونَ أَوْ لاَ يُؤْمِنُونَ. أما على قراءةِ ابنِ عامرٍ وحمزةَ فالخطابُ للكفارِ (¬2) {وما يشعركم} أيها الكفرةُ الْمُقْتَرِحُونَ للآياتِ الزاعمونَ الْمُقْسِمُونَ جهدَ أيمانِكم أنها إن جَاءَتْكُمْ آمَنْتُمْ، ماذا يدريكم أنها إذا جاءتكم كَفَرْتُمْ ولم تؤمنوا؟ كقولِه جل وعلا: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)} [الأنعام: آية 7]. فعلى قراءةِ: {تؤمنون} فالخطابُ بـ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للكفارِ. وعلى قراءةِ {يؤمنون} فالخطابُ بـ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للمؤمنين. وبهذا يزولُ النطاحُ والخصامُ المعروفُ بين علماءِ التفسيرِ في الخطابِ في قولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} طائفةٌ تقولُ: هو للمؤمنينَ، وطائفةٌ تقولُ: هو للكافرينَ. والفصلُ في هذا: أنه على قراءةِ {تؤمنون} فالخطابُ للكفارِ. وعلى قراءةِ {يؤمنون} فالخطابُ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 39)، الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 108). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 39)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 107).

للمسلمينَ. وهذا معنَى قولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 109]. {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: آية110]. في هذه الآيةِ الكريمةِ كلامٌ كثيرٌ لعلماءِ التفسيرِ، وأقوالٌ كثيرةٌ (¬1)، أظهرُها وَأَوْلاَهَا بالصوابِ، وهو الحقُّ - إن شاء الله - الذي دَلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ من كتابِ اللَّهِ، وخيرُ ما يُفسَّرُ به القرآنُ القرآنُ: أن الكفارَ لَمَّا أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جهدَ أيمانِهم لئن جاءهم بعضُ الآياتِ المقترحاتِ ليؤمنن بها، وَبَيَّنَ اللَّهُ أنهم لا يؤمنونَ، كما هو واضحٌ في قراءةِ أبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ وشعبةَ في روايةٍ: {إنها إذا جاءت} بِخَبَرٍ مؤكدٍ بـ (إن) بَاتٍّ أنهم لا يؤمنونَ، بَيَّنَ سببَ عدمِ هذا الإيمانِ، كأنه قال: إني قلتُ: إنهم لا يؤمنونَ، والسببُ في ذلك: أنهم أولُ مرةٍ قابلوا رُسُلِي بالكفرِ والعنادِ والتعنتِ فَطَمَسْتُ على قلوبِهم وخذلتُهم وطبعتُ عليها. وهذا معنَى قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} فلاَ تَعْقِلُ حقًّا {وَأَبْصَارَهُمْ} فلا تبصرُ حَقًّا. فقولُه: {كَمَا} هنا تعليليةٌ (¬2): أي: لأنهم لم يؤمنوا بالقرآنِ أولَ مرةٍ؛ فَلأَجْلِ ما سبقَ منهم من العنادِ والتعنتِ طَمَسْنَا على قلوبِهم، وَقَلَّبْنَا أبصارَهم وقلوبَهم، وَاللَّهُ (جل وعلا) مقلبُ القلوبِ، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 44)، ابن كثير (2/ 165)، شفاء العليل ص99 - 100، بدائع الفوائد (3/ 180). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 203)، شفاء العليل ص99.

وَكُلُّ قَلْبٍ بينَ أصبعين من أصابعِ الرحمنِ يُقَلِّبُهَا ويصرفُها كيف شَاءَ، وفي الحديثِ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (¬1). وعلى ¬

(¬1) رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ جماعة من الصحابة وهم: 1 - أنس بن مالك (رضي الله عنه) عند أحمد (3/ 112)، (257)، والترمذي في القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أُصبعي الرحمن، حديث رقم (2140)، (4/ 448)، وقال: «حسن» ا. هـ. وابن ماجه في الدعاء، باب: دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حديث رقم (3834)، (2/ 1260)، والحاكم (2/ 288)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (225)، والآجري في الشريعة ص 317. وقد صححه الألباني كما في ظلال الجنة، حديث رقم (225)، وصحيح الترمذي، حديث رقم (1739)، وصحيح ابن ماجه، حديث رقم (3092). 2 - عاصم بن كليب عن أبيه عن جده. عند الترمذي في الدعوات باب: (125)، حديث رقم (3587)، (5/ 573)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. 3 - النواس بن سمعان (رضي الله عنه) عند أحمد (4/ 182)، وابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، حديث رقم (199) (1/ 72)، وابن أبي عاصم في السنة، حديث رقم (219)، (230)، (552)، والحاكم (2/ 289)، (4/ 321)، وابن حبان (الإحسان (2/ 146 - 147) والآجري في الشريعة ص 317. وقد صححه الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 98)، (103 - 104)، وصحيح ابن ماجه حديث رقم (165)، والسلسلة الصحيحة، رقم (2091). 4 - أم سلمة (رضي الله عنها) عند أحمد (6/ 91، 294 - 302، 315)، والترمذي في الدعوات، باب: (90)، حديث رقم (3522)، (5/ 538)، وابن أبي عاصم في السنة، رقم (223، 232)، والآجري في الشريعة ص316، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 100، 104). 5 - عائشة (رضي الله عنها) عند أحمد (6/ 91، 251)، والآجري في الشريعة ص317، وابن أبي عاصم في السنة، حديث رقم (224)، (233)، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 101، 104). وقد أخرجه مسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ مقارب، انظر: كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، حديث رقم (2654)، (4/ 2045)، وقد رواه غير هؤلاء من الصحابة كبلال، وجابر (رضي الله عنهم أجمعين).

هذا فالمعنَى المانعُ الذي يَمْنَعُهُمْ من الإيمانِ لو جاءتهم الآياتُ المقترحاتُ: أنهم بَادَرُوا بتكذيبِ الرسلِ أولَ مرةٍ عندما جاءهم عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، وبسببِ ذلك الكفرِ والعنادِ قَلَّبْنَا أبصارَهم فَأَزَغْنَاهَا عن الحقِّ، وَقَلَّبْنَا أفئدتَهم فَأَزَغْنَاهَا عن الحقِّ. والدليلُ على هذا: أن المبادرةَ بالعملِ السيءِ سببٌ لطمسِ البصيرةِ والطبعِ والرانِ على القلوبِ، كما بَيَّنَهُ اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ، كقولِه: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: آية 10] وكقوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية 14] وكقولِه جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5] فقولُه: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فِي مكانِ {زَاغُوا} في هذه الآيةِ، وقولُه: {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} في مكانِ قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} لأن المعاصيَ والكفرَ - والعياذُ بالله - من سببِ طمسِ القلوبِ، وذلك يقعُ في المؤمنِ، الإنسانُ المؤمنُ إذا أَذْنَبَ - والعياذُ بالله - ذَنْبًا. نُكِتَ في قلبِه نكتةٌ سوداءُ، فإذا كان عَاقِلاً ذَكِيًّا من الذين قال اللَّهُ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: آية 201] وأنابَ إلى اللَّهِ وتابَ إليه زالَ ذلك السوادُ، وصارَ قلبُه صَقِيلاً؛ لأن القلبَ كالزجاجةِ، ونورُ الإيمانِ الذي يُبْصَرُ

به الحقُّ والباطلُ في داخلِه كأنه النورُ وسطَ الزجاجةِ، والزجاجةُ إذا تَلَطَّختْ بالأوساخِ انْكَسَفَ النورُ دَاخِلَهَا، وإذا كانت صقيلةً نظيفةً شَعَّ النورُ. أَمَا تَرَى الذُّبَالَ فِي الْمِصْبَاحِ ... إِذَا صَفَا يُرْضِيكَ فِي اسْتِصْبَاحِ ... وَإِنْ يَكُنْ بِوَسَخٍ مُلَطَّخًا ... كُسِفَ نُورُهُ لِذَلِكَ الطَّخَا (¬1) فإذا أَذْنَبَ العبدُ ذَنْبًا صارت وساخةٌ سوداءُ على قَلْبِهِ، فإذا بَادَرَ إلى الإنابةِ والتوبةِ غَسَلَهَا، فَبَقِيَ القلبُ صَقِيلاً نَظِيفًا، فَشَعَّ نورُ الإيمانِ فيه، كالنورِ في الزجاجةِ الصقيلةِ، فإذا كان المسكينُ مُغَفَّلاً جَاهِلاً، وزادَ في الذنوبِ لم يَزَلْ يزيدُ في الذنوبِ، والسوادُ يَزْدَادُ حتى يعلوَ جميعَ القلبِ، فيسودُّ جميعُه، فيبقَى النورُ لاَ أثرَ له، وعلامةُ هذا من طمسِ البصائرِ - والعياذُ بالله - أن تَرَى مَنْ وَقَعَ به هذا الاسودادُ القلبيُّ، والرانُ المستولِي على قلبِه تراه يرتكبُ فظائعَ الذنوبِ وهو يضحكُ فِي فرحٍ وَلَهْوٍ؛ لأَنَّ البصيرةَ والنورَ الذي يرى به شدةَ ضررِ هذا انْطَمَسَ، فَلاَ يَرَى ضَرَرًا، وتراه تفوتُه الصلواتُ والرغائبُ العظامُ في الدِّينِ وهو فَرِحٌ مَسْرُورٌ!! لاَ يرى هذا الحقَّ حَقًّا، ولا هذا الباطلَ بَاطِلاً؛ لأن البصيرةَ التي يرى بها الحقَّ حقًّا والباطلَ باطلاً، والنافعَ نافعًا والضارَّ ضارًّا، إذا اسودت القلوبُ انطمسَ نورُها، فلا يُبْصِرُ بها شَيْئًا، فكما أن الكفار بَادَرُوا إلى تكذيبِ الأنبياءِ، وكانوا قبلَ ذلك قد يكونونَ على فطرةٍ، وقد يكونونَ معذورين اسْوَدَّتْ قلوبُهم فَطَبَعَ اللَّهُ عليها، وختمَ عليها، وَقَلَبَهَا عن الحقِّ - والعياذُ باللَّهِ -،كما قال جل وعلا: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى ¬

(¬1) البيت من قصيدة للهلالي تُعرف بـ (وصية الهلالي) كما أفاد بذلك الشيخ (بُدَّاه) مفتي موريتانيا حفظه الله.

سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: آية 7] وكما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: آية 57] وقال هنا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: آية 110] وذلك جزاء وفاق وعدل؛ لأَنَّ المعاصيَ ترينُ على القلوبِ وتطمسُها حتى لا تبصرَ حَقًّا. وهذا هو الأظهرُ في معنَى قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} حتى تزيغَ عن إدراكِ الحقِّ، ونقلبُ {أَبْصَارَهُمْ} حتى تزيغَ عن إداركِ الحقِّ {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا} لأَجْلِ أنهم لم يُؤْمِنُوا بهذا القرآنِ {أَوَّلَ مَرَّةٍ} جاءهم به الرسولُ، فكان كفرُهم وزيغُهم الأولُ سَبَبًا للطبعِ على قلوبِهم، وتقليبُ قلوبِهم وأبصارهم عن الحقِّ. كقولِه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5] {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] فالباءُ سَبَبِيَّةٌ. وكقولِه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: آية 125] {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: آية 14] وهذا معنَى قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: آية 110] فـ {كَمَا} من حروفِ التعليلِ، ومعنَى نُقَلِّبُهَا: لأَجْلِ أنهم لم يؤمنوا به أولَ مرةٍ، فذلك الكفرُ يَجُرُّ إلى الخذلانِ وَطَمْسِ البصيرةِ، وتقليبِ القلوبِ والأبصارِ وَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ اللَّهُ قلوبَهم. وقولُه: {وَنَذَرُهُمْ} معناه: نَتْرُكُهُمْ. وقولُه: {فِي طُغْيَانِهِمْ}: الطغيانُ في لغةِ العربِ: مجاوزةُ الْحَدِّ (¬1)، ومنه قولُه: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: آية 11] أي: ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: طغى) ص520.

جاوزَ الحدودَ التي يبلغُها الماءُ العادي. وطغيانُ الإنسانِ: مجاوزتُه الحدودَ. ومجاوزتُهم الحدودَ ككفرِهم بِرَبِّهِمْ، وَجَعْلِهِمْ له الشركاءَ والأولادَ. وقولُه: {يَعْمَهُونَ (4)} المضارعُ جُمْلَتُهُ حاليةٌ (¬1)، ومعلومٌ أن جملةَ المضارعِ لا تقترنُ بالواوِ، وأن الرابطَ فيها ضميرٌ، هذا معروفٌ (¬2). والْعَمَهُ في لغةِ العربِ (¬3): هو عَمَى القلبِ خاصةً، الْعَمَى: - مقصورٌ بالأَلِفِ - يُطْلَقُ على عَمَى البصرِ، وعلى عَمَى البصيرةِ، كما يأتي في قولِه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: آية 46] أما العَمَهُ - بالهاءِ - فلا يُطْلَقُ إلا على عَمَى البصيرةِ خاصةً، وَمَنْ عَمِيَتْ بصيرتُه لم يَرَ حَقًّا من باطلٍ، ولم يُمَيِّزْ حَسَنًا من قبيحٍ، ولا نَافِعًا من ضَارٍّ والعياذُ بالله جل وعلا. {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: آية 111] قد اقْتَرَحُوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُنْزِلَ عليهم الملائكةَ، كما بَيَّنَهُ تعالى في قولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ} [الفرقان: آية 21] وكقولِه عنهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92)} [الإسراء: آية 92] {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: آية 8] هذه الآياتُ الدالةُ على اقتراحِهم إتيانَه بالملائكةِ، وقد اقترحوا عليه أن يُحْيِيَ لهم آباءَهم الذين مَاتُوا [لِيَسْأَلُوهُمْ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 112). (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 488). (¬3) انظر: القاموس (مادة: العمه) ص 1613، الكليات ص652.

عنه] (¬1) , كما بَيَّنَهُ تعالى في الجاثيةِ، وأوضحَ كثرةَ قولهم له: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الجاثية: آية 25] أَحْيُوا لنا آباءَنا وأسلافَنا الذين مَاتُوا لنسألَهم عنكم أَنْتُمْ على حَقٍّ أَمْ لاَ، كذلك قالوا له: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: آية 92] قال الله هنا: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ} كما اقترحوا أو {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كما اقْتَرَحُوا اقتراحَهم لنزولِ الملائكةِ {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ} [الفرقان: آية 21] {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ} [الإسراء: آية 92] {لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)} [الفرقان: آية 7] واقتراحُهم لتكليمِ آبائِهم: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)} [الدخان: آية 36] {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الجاثية: آية 25] يعني: لو أَتَيْنَاهُمْ بما اقْتَرَحُوا فَنَزَّلْنَا عليهم الملائكةَ، والملائكةُ لو نَزَلَتْ عليهم لَجَاءَهُمُ العذابُ؛ لأن اللَّهَ لا يُمْهِلُهُمْ بعدَ نزولِ العذابِ، كما يأتِي في قولِه: {مَا تَنَزَّلُ الملائكة إلا بالحق} وفي القراءةِ الأخرى (¬2): {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنْظَرِينَ (8)} [الحجر: آية 8] أي: لو نزل الملائكة لاَ يُنظرون بعدَ ذلك، وكقولِه: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22)} [الفرقان: آية 22] أي: حَرَامًا مُحَرَّمًا عليكم أن تُؤْذُونَا كما سيأتي؛ وَلِذَا قال هنا: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ} كما اقْتَرَحُوا، وَأَخْبَرَتْهُمْ بأنكَ نَبِيُّ اللَّهِ: {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كأن أَحْيَيْنَا لهم قُصَيًّا فسألوه، وأخبرَهم بأنكَ نَبِيُّ اللَّهِ: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} ¬

(¬1) في الأصل: «ليسألوه عنهم» وهو سبق لسان .. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص259 ..

قَرَأَهُ الجمهورُ {قُبُلاً}. وقرأَه اثنانِ من السبعةِ {قِبَلاً} (¬1). أما على قراءةِ: {قِبَلاً} فهو مِنَ الْمُعَايَنَةِ. معنَى: {وحشرنا عليهم كل شيء قِبَلاً} أي: معاينةً وجهًا لِوَجْهٍ من غيرِ مواراةٍ بِشَيْءٍ (¬2). وعلى قراءةِ {قُبُلاً} ففيهِ وَجْهَانِ (¬3): أحدُهما: أن القُبُلَ جمعُ قبيل، أي: جماعات جماعات. كَأَنْ تَأْتِيَهُمُ الملائكةُ جماعاتٍ. وقال بعضُ العلماءِ (¬4): ظاهرُ قولِه {كُلَّ شَيْءٍ} أن تأتيَهم الملائكةُ قبيلاً، وكلُّ نوعٍ من أنواعِ الحيواناتِ قبيلاً قبيلاً، فأنطقَها اللَّهُ على خرقِ العادةِ، وكَلَّمَتْهُمْ، كُلُّ هذا لو وَقَعَ لَمْ يؤمنوا. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ (¬5): {قُبُلاً} و {قِبَلاً} معناهما واحدٌ؛ لأن القُبلَ: هو ما تستقبله بوجهِكَ وتعاينُه. ومنه قيل لِمَا يستقبلُه الرجلُ من وجهِه: «قُبُل» وَلِمَا خَلْفَهُ «دُبُر» وعلى هذا القولِ فـ {قِبَلاً} و {قُبُلاً} معناهما واحدٌ، وعلى القولِ الثاني: أن (القُبُلَ) جمع قَبِيلٍ، والمعروفُ في فَنِّ التصريفِ أن (الفعيل) إذا كان اسْمًا يُجْمَعُ غالبًا على (فُعُل) كَقَذَال وقُذُل، وسرير وسُرُر وما جرى مَجْرَى ذلك (¬6). والمعنَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: جَمَعْنَا عليهم {كُلَّ شَيْءٍ} من جميعِ الأشياءِ قبيلاً ¬

(¬1) وهما: نافع وابن عامر. المصدر السابق ص201. (¬2) انظر: حجة القراءات ص 267, ابن جرير (12/ 48 - 49). (¬3) السابق. (¬4) انظر: القرطبي (7/ 66). (¬5) انظر: المصدر السابق. (¬6) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 396).

قبيلاً، أي: فَوْجًا فَوْجًا، وجماعةً جماعةً، أو: (قِبَلاً) معاينةً، لو فَعَلْنَا لهم كُلَّ هذا {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} هذه اللامُ هي التي تُسَمَّى (لامَ الجحودِ) والفعلُ المضارعُ منصوبٌ بـ (أن) بعدَها (¬1) والمعنَى: ما كانوا مُرِيدِينَ لأَنْ يؤمنوا، أو: ما كانوا مُسْتَعِدِّينَ لأَنْ يؤمنوا {إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} التحقيقُ: أن الاستثناءَ متصلٌ، خلافًا لِمَنْ زَعَمَ أنه منفصلٌ (¬2). والمعنَى: ما كانوا ليؤمنوا في حالةٍ من الأحوالِ إلا في حالةِ أن يشاءَ اللَّهُ ذلك؛ لأنهم مُتَعَنِّتُونَ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو (أنَّ) المفتوحةَ إنما تكونُ لِسَدِّ مصدرٍ، فهي بمعنَى اسمٍ بالتأويلِ، و (لو) حرفُ شرطٍ لا يدخلُ إلا على الجملةِ الفعليةِ، فكيف دخل هنا على الاسمِ الذي هو المصدرُ المنسبكُ من (أنَّ) وصلتِها (¬3)؟ وهذا السؤالُ جوابُه معروفٌ، لأن إتيانَ (أنَّ) بعدَ (لو) كثيرٌ جِدًّا في القرآنِ العظيمِ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} [لقمان: آية 27] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: آية 64] فهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، ومنه في كلامِ العربِ قولُ لَبِيدٍ (¬4): ¬

(¬1) انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 7)، الدر المصون (5/ 114) الكليات ص 871، معجم الإعراب والإملاء ص 354. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 206)، الدر المصون (5/ 114). (¬3) انظر: ضياء السالك (1/ 152)، (4/ 60 - 61)، مغني اللبيب (1/ 213)، المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (3/ 1137). (¬4) البيت في اللسان (مادة: لعب) (3/ 372)، مغني اللبيب (1/ 214)، وشطره الثاني: (أدركه ملاعب الرماح).

لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الفَلاَحِ ... لَنَالَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ والجوابُ عندَ علماءِ العربيةِ: أن المصدرَ الْمُنْسَبِكَ من (أن) وصلتِها في محلِّ رفعٍ فاعلُ فعلٍ محذوفٍ، قالوا: تقديرُه «ولو ثَبَتَ أننا نَزَّلْنَا إليهم الملائكةَ» أي: لو ثَبَتَ ووقعَ تنزيلُنا الملائكةَ عليهم {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إيمانَهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} أي: أكثرَ الكفارِ. قال بعضُ العلماءِ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} أي: أكثرَ الكفارِ. وقال بعضُ العلماءِ: {أَكْثَرَهُمْ} أي: أكثرُ الجميعِ مِنَ الكفارِ والمسلمين {يَجْهَلُونَ} أنهم لو أُنْزِلَتْ عليهم الآياتُ التي اقْتَرَحُوا لم يؤمنوا. والقولُ الأولُ أظهرُ؛ لأن التعبيرَ بالمضارعِ فِي: {يَجْهَلُونَ (11)} يدلُّ على أنهم من عادتِهم وشأنِهم الجهلُ وعدمُ المعرفةِ بِاللَّهِ. وهذا أَلْيَقُ بالكفارِ. [15/أ] / {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: آية 112]. لَمَّا كان كفارُ مكةَ، أعداءً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَادَوْهُ شدةَ المعاداةِ، حتى اضطر إلى أن يخرجَ مُهَاجِرًا إلى هذه المدينةِ حَرَسَهَا اللَّهُ، عن مسقطِ رأسِه الذي وُلِدَ به؛ لِمَا لَقِيَ مِنْ أَذَاهُمْ وَهَمِّهِمْ بِأَنْ يَقْتُلُوهُ كما يأتِي في سورةِ الأنفالِ في قولِه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: آية 30].

أراد اللَّهُ أن يُسَلِّيَ نَبِيَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ (¬1)، أن هذا الذي جَرَى عليه جرى على إخوانِه وآبائِه من الرسلِ الكرامِ، كإبراهيمَ وإسماعيلَ، يعنِي: {وَكَذَلِكَ} أي: كما جَعَلْنَا لك أعداءً كفرةً من قومِك يُعَادُونَكَ ويهمُّون بِقَتْلِكَ وإخراجِك وحبِسك كما جَعَلْنَا لكَ أعداءً {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} من الأنبياءِ {عَدُوًّا} أي: أعداء، يعني لم يَبْقَ نَبِيٌّ إلا جَعَلَ اللَّهُ له أعداءً؛ لأَنَّ الحقَّ لا يأتِي به أحدٌ إلا كان خصومُ الحقِّ أعداءً له؛ ولذا تعرفونَ في حديثِ البخاريِّ المشهورِ: أن خديجةَ بنتَ خويلدَ (رضي الله عنها) لَمَّا ذَكَرَتْ أمرَ النبيِّ لورقةَ بنِ نوفلٍ، وقال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (ليتني جَذَع إِذْ يخرجُك قومُك أكون معكَ، فَأَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) لما قال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الصحيحِ المشهورِ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» أجابَه ورقةُ بقولِه: «لَمْ يأت بهذا الدين أحدٌ إلا عُودِيَ» (¬2). لأن الحقَّ لا يأتِي به أحدٌ إلا عَادَاهُ خصومُ الحقِّ، وهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ، فهم أعداءٌ للحقِّ، وأعداءٌ لمن قَامَ بالحقِّ، كما قال جل وعلا. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (34) من سورة الأنعام. (¬2) البخاري، كتاب بدء الوحي، الباب: (3)، حديث رقم (3)، (1/ 23)، وأخرجه في مواضع أُخَرَ، انظر الأحاديث: (3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم (160)، (1/ 139).

آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: الآيات 112 - 115]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: آية 112]. لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - ما لاَقَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أذَى المشركين ومن عداوتِهم وعدمِ انقيادِهم إليه - كما قَدَّمْنَا في قولِه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} إلى قولِه: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: الآيات 33 - 35] أي: إن استعطتَ ذلك فَافْعَلْ - بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيةِ الكريمةِ أنه ما أرسلَ نَبِيًّا من الأنبياءِ إلا جَعَلَ له أعداءً كفرةً فجرةً من شياطينِ الإنسِ والجنِّ، والقصدُ من هذا تسليةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ما لُوقِيَ به من العداوةِ إذا كان قد لاَقَاهُ إخوانُه الكرامُ من الرسلِ الكرامِ هوَّن ذلك الأمر عليه، كما قال له: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: آية 43] {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام: آية 34] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: آية 35] ونحو ذلك من الآياتِ. ومعنى الآيةِ الكريمةِ {وَكَذَلِكَ} أي: كما جَعَلْنَا لكَ أعداءً كفرةً من كفارِ قريشٍ يُعَادُونَكَ ويناصبونَك العداوةَ، كذلك الجعل {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} من الأنبياءِ قَبْلَكَ {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} جعلناهم عَدُوًّا للأنبياءِ، وقد نَصَّ اللَّهُ على هذا في الفرقانِ حيث قال:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: آية 31]، فَبَيَّنَ أن أعداءَ الأنبياءِ هم المجرمونَ، وهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ. وقرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عَدَا نَافِعًا وحدَه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} بالإدغامِ. وقرأه نافعٌ وحدَه بروايةِ ورشٍ وقالونَ: {جعلنا لكل نبيءٍ عدوًّا} ونافعٌ يقرأُ جميعَ ما في القرآنِ من النبيءِ والأنبئاءِ كُلَّهُ بالهمزةِ في روايةِ ورشٍ، وكله بالهمزةِ في روايةِ قالونَ عن نافعٍ، إلا حَرْفَيْنِ في سورةِ الأحزابِ (¬1) (¬2). أما على قراءةِ نافعٍ: {جعلنا لكل نبيءٍ} فالنبيءُ مشتقٌّ من (النبأ) (¬3)، والنبأُ: الخبرُ الذي له خَطْبٌ وشأنٌ، وإنما قيل للنبيءِ (نبيءٌ) لأنه يُوحَى إليه، والوحيُ: خبرٌ له خَطْبٌ وشأنٌ، فكل نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خبرٍ نبأً؛ لأن العربَ لا تُطْلِقُ النبأَ إلا على الخبرِ الذي له شأنٌ وَخَطْبٌ، أما الخبرُ فتطلقُه على الحقيرِ والجليلِ، فلو قلتَ: جاءنا نبأُ الأميرِ، وجاءنا نبأٌ عن الجنودِ، وعن الأمورِ العظامِ. كان هذا من كلامِ العربِ، فلو قلتَ: جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ. لم يكن هذا من كلامِ العربِ؛ لأن قصةَ حمارِ الحجامِ لا خَطْبَ لها ولا شأنَ، فلا يُعبَّرُ عنها بالنبأِ، وإنما يُعَبَّرُ عنها بالخبرِ (¬4). ¬

(¬1) وهما الآيتان (50، 53). (¬2) انظر: الكشف لمكي (1/ 243 - 244)، الإقناع لابن الباذش (1/ 403)، النشر (1/ 406)، إتحاف فضلاء البشر (1/ 395) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: الكشف لمكي (1/ 244) إتحاف فضلاء البشر (1/ 395). (¬4) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

أما على قراءةِ الجمهورِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} بالإدغامِ ففيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ: أحدُهما: أن أصلَه من (النبأِ)، إلا أن الهمزةَ أُبْدِلَتْ ياءً، وَأُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ. وعليه فالقراءةُ بالنبيءِ والنبيِّ كالقراءتين السبعيتين: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] {إنما النسيّ زيادة في الكفر} (¬1) وعلى هذا التأويلِ فمعنَى قراءةُ الجمهورِ كمعنَى قراءةِ نافعٍ. الوجهُ الثاني: أن النبيَّ على قراءةِ الجمهورِ ليس اشتقاقُه من (النبأ) بمعنَى الخبرِ، وإنما هو من (النَّبْوَةِ) بمعنَى الارتفاعِ (¬2) لارتفاعِ شأنِ النبيِّ، وعلى هذا التفسيرِ فأصلُ النبيِّ على قراءةِ الجمهورِ ليس بمهموزٍ، والأظهرُ أن أصلَه مهموزٌ، وأن الهمزةَ أُبْدِلَتْ ياءً، بدليلِ قراءةِ نافعٍ بالهمزةِ. وقولُه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا} اختلفَ العلماءُ في إعرابِ قولِه: {عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} فذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن {عَدُوًّا} و {شَيَاطِينَ} هُمَا المفعولانِ لـ {جَعَلْنَا}. أي: جَعَلْنَا {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} أعداءً، أي: صَيَّرْنَاهُمْ أعداءً لكل نبيٍّ. وعلى هذا فتكونُ {شَيَاطِينَ الإِنْسِ} هو المفعولُ الأولُ، وقولُه: {عَدُوًّا} هو المفعولُ الثاني. و (جعل) هنا هي التي بمعنَى: (صيَّر). ¬

(¬1) انظر: الكشف لمكي (1/ 502)، الإقناع لابن الباذش (1/ 404)، النشر (1/ 405)، إتحاف فضلاء البشر (9112). (¬2) انظر: الكشف لمكي (1/ 245)، زاد المسير (1/ 90).

الوجهُ الثاني من الإعرابِ: أن أحدَ المفعولين هو الجارُّ والمجرورُ في قولِه: {لِكُلِّ نِبِيٍّ} والمفعولُ الثاني هو قولُه: {عَدُوًّا} وعليه فيكونُ إعرابُ {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} أنه بدلٌ من {عَدُوًّا} هذانِ الإعرابانِ في الآيةِ (¬1) و (جعل) هنا بمعنَى (صَيَّرَ) أي: صَيَّرْنَا شياطين الإنسِ والجنِّ أعداءً لكلِّ نبيٍّ من الأنبياءِ. و (جعل) تأتِي في كلامِ العربِ على أربعةِ أنحاءَ (¬2)، ثلاثةٌ منها في القرآنِ، والرابعُ موجودٌ في لغةِ العربِ وليسَ في القرآنِ: الأولُ من الأقسامِ الأربعةِ: (جعل) التي بمعنَى (اعتقد) وهي تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مَفْعُولَيْنِ، وهي بمعنَى (اعتقدَ) ومنه قولُه: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: آية 19] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {الذينَ هم عند الرحمنِ إِنَاثًا} (¬3) المعنىَ: اعتقدوا الملائكةَ إناثًا. فـ (جعل) هذه بمعنَى (اعتقد) وهي تنصبُ مَفْعُولَيْنِ أصلُهما مبتدأٌ وخبرٌ. الثاني: (جعل) بمعنَى (صيَّر) كهذه التي عندنا: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ} [الأنعام: آية 112] أي: صَيَّرْنَا شياطينَ الإنسِ عدوًّا لكلِّ نَبِيٍّ. وهي أيضًا تنصبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 67)، البحر المحيط (4/ 207)، الدر المصون (5/ 115)، أضواء البيان (2/ 208). (¬2) انظر: نزهة الأعين النواظر ص 228، بصائر ذوي التمييز (2/ 383)، إصلاح الوجوه والنظائر ص 106، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (100) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص 398.

الثالث: (جعل) بمعنَى (خَلَقَ) وهي تنصبُ مفعولاً واحدًا، وهي التي تَقَدَّمَتْ في أولِ هذه السورةِ الكريمةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: آية 1] أي: خلقَ الظلماتِ والنورَ. هذه الأقسامُ الثلاثةُ من معانِي (جعل) أعنِي كونَها بمعنَى (اعتقد)، وكونَها بمعنى (صيَّر)، وكونَها بمعنَى (خلق)، كُلُّهَا في القرآنِ العظيمِ. أما معناها الرابعُ فهو في اللغةِ، وليس في القرآنِ، وهو إتيانُ (جعل) بمعنَى شَرَعَ في الأمرِ، كقولِهم: جَعَلَ فلانٌ يفعلُ كذا. أي: شَرَعَ يفعلُه. ومنه بهذا المعنَى قولُ الشاعرِ (¬1): وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي ... ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ وهذا معنَى قولِه أي: وكذلك الجعلُ الذي جَعَلْنَا لكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ أعداءً من كفارِ قريشٍ في مكةَ {وَكَذَلِكَ} الجعلُ {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} قبلكَ من الأنبياءِ {عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}. في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يُقالَ: إن المرادَ: أعداءٌ؛ لأنهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ، وهم جماعةٌ، وأعداءُ الرسلِ جماعاتٌ لاَ مفردٌ، وهنا قال: {عَدُوًّا} بصيغةِ المفردِ، ولم يَقُلْ: «وكذلك جعلنا لكل نبي أعداءً» بل قال: {عَدُوًّا} وجاءَ في القرآنِ إطلاقُ العدوِّ مُرَادًا به الجمعُ في آياتٍ متعددةٍ كقولِه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} أي: أعداءٌ لكم. ¬

(¬1) البيت لعمرو بن أحمر، أو أبي حية، أو الحكم بن عبدل. وهو في الخزانة (4/ 94).

وكقولِه: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أي: هم الأعداءُ فَاحْذَرْهُمْ. وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أن المقررَ في علومِ العربيةِ: أن المفردَ إذا كان اسمَ جنسٍ جازَ إطلاقُه مفردَ اللفظِ مُرَادًا به الجمعُ إذا دَلَّتْ على ذلك قَرَائِنُ (¬1). وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ في الحالاتِ الثلاثِ، أعنِي بقولِي «في الحالاتِ الثلاثِ»: أن يكونَ مُنَكَّرًا، وأن يكونَ معرَّفًا بالألفِ واللامِ، وأن يكونَ مُضَافًا. فمثالُ إطلاقِ الجنسِ مُفْرَدًا مرادًا به الجمعُ مُنَكَّرًا في القرآنِ قولُه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر: آية 54] يعني: وَأَنْهَارٍ، بدليلِ قولِه: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: آية 15] وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: آية 5] يعني أطفالاً. وقولُه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: آية 74] أي: أئمةً. وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} {النساء: آية 4] أي: أَنْفُسًا. وقولُه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: آية 6] أي: وإن كنتم جنبين أو أجنابًا فَاطَّهَّروا. وقولُه جل وعلا: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} [المؤمنون: آية 67] أي: سَامِرِينَ. وهو كثيرٌ في القرآنِ. ومن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ معرَّفٌ بالألفِ واللامِ قولُه جل وعلا: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: آية 75] يعني: الغُرفَ. بدليلِ قولِه: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: آية 20] {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: آية 37] وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور: آية 31] يعني: الأطفال {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: آية 45] أي: الأَدْبَارَ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

وقولُه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: آية 22] أي: والملائكةُ؛ لأن الملكَ الواحدَ لاَ يكونُ صَفًّا صَفًّا، وكما دَلَّ عليه قولُه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: آية 210] وهذا كثيرٌ في القرآنِ. ومن أمثلتِه واللفظُ مضافٌ: قولُه جل وعلا: {إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي} [الحجر: آية 68]، أي: أَضْيَافِي، وقولُه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: أَوَامِرِهِ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: آية 34] أي: نِعَمَ اللَّهِ، وأنشدَ الشيخُ سيبويه في كتابِه لإطلاقِ اسمِ الجنسِ مُفْرَدًا مُرَادًا به الجمعُ، أنشدَ له بيتين، أحدُهما قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ (¬1): بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ يعني: وأما جلودُها فصليبةٌ. وقولُ الآخَرِ (¬2): كلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعُفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ يعني: في بعضِ بُطُونِكُمْ. هذانِ البيتانِ أنشدهما سيبويه لهذا المعنَى في كتابِه، وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ. ومنه واللفظُ مُنكَّر في كلامِ العربِ: قولُ عَقِيلِ بْنِ عُلَّفَةَ الْمُرِّيِّ (¬3): وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمٍ ... وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الأَخِينَا يعني: شَرَّ أَعْمَامٍ. ومنه واللفظُ مضافٌ: قولُ العباسِ بنِ مرداسٍ السُّلميِّ (¬4): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ سَلِمَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ أي: إِنَّا إِخْوَانُكُمْ. وقولُ جَرِيرٍ (¬1): إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقرِفَات مِنَ الْعِرَابِ وهو كثيرٌ جِدًّا في كلامِ العربِ، ومنه قولُه هنا: {عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} والعدوُّ: هو الذي يُعَادِيكَ، ويتربصُ بكَ الدوائرَ، وَكُلَّمَا وجدَ فرصةً لِضَرَرِكَ ضرَّكَ [وشياطين الإنس والجن يُعَادُونَ الأنبياءَ والرسلَ (عليهم الصلاةُ والسلامُ)] (¬2) وهم أعداءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقولُه: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} الشياطينُ: جمعُ الشيطانِ، والشيطانُ في لغةِ العربِ: هو كُلُّ عَاتٍ متمردٍ في الطغيانِ. فَكُلُّ مَا زَادَ وَبَرَزَ في جِنْسِهِ بِأَنْ زَادَ طغيانُه وعصيانُه وعُتُوُّه تُسَمِّيهِ العربُ: (شيطانًا)، سواء كان من الإنسِ أو من الجنِّ أو من غيرِهما. فَكُلُّ عَاتٍ متمردٍ فهو شيطانٌ (¬3)، سواء كان من الإنسِ كقولِه هنا: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ} وقولِه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: آية 14] أي: عُتَاتِهِمُ المتمردين من رؤساءِ الكفرةِ من الإنسِ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ جريرٍ (¬4): أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا أَيْ: مُتَمَرِّدًا عاتيًا. هذا أصلُ الشيطانِ في لغةِ العربِ، ومن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬2) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة ليتسنى ربط أطراف الكلام وأجزائه بعضها مع بعض. (¬3) مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام مما سبق. (¬4) مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام.

إطلاقِ الشيطانِ على المتمردِ العاتِي من غيرِ الإنسِ والجنِّ: حديثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» (¬1). وقد قَدَّمْنَا في تفسيرِ الاستعاذةِ: أن علماءَ العربيةِ اختلفوا في وزنِ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ (¬2)، فَذَهَبَ جماعةٌ - وهو أظهرُ القولين اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا سيبويه، كُلٌّ منها في موضعٍ مِنْ كتابِه - أن أصلَ المادةِ التي منها الشيطانُ: هي (الشين والطاء والنون)، فَحُرُوفُهُ الأصليةُ (شطن) والياءُ والألفُ زَائِدَتَانِ، وعليه فَوَزْنُهُ بالميزانِ الصرفيِّ: (فَيْعَال) فاءُ مادتِه: شينٌ، وَعَيْنُهَا: طاءٌ، ولامُها: نونٌ، أصلُها من (شطن)، ومادةُ (شطن) تستعملُها العربُ في البُعدِ، فَكُلُّ شيءٍ بعيدٍ تُطْلِقُ عليه هذا الاسمَ، تقولُ العربُ: «نوًى شطون». أي: بعيدةٌ. و (بئر شطون). أي: بعيدةُ القعرِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬3): نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ ... فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا حَزِينُ وعلى هذا القولِ فوزنُ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ (فَيْعَال) واشتقاقُ مادتِه من: (شطن) بمعنَى: (بَعُدَ) ووجهُ المناسبةِ: هو بُعْدُهُ عن رحمةِ اللَّهِ (جل وعلا) لِمَا سَبَقَ له من الشقاءِ الأزليِّ. مما يؤيدُ هذا - أن الشيطانَ من مادةِ (شطن)، وأن وزنَه (فَيْعَال) - هو ما جاء في شعرِ أُميةَ بنِ أبِي الصلتِ الثقفيِّ (¬4)، وهو عَرَبِيٌّ جاهليٌّ قُحٌّ: أَيُّمَا شَاطِنٍ عَتَاهُ عَكَاهُ ... ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالأَكْبَالِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) البيت للنابغة، وقد مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة. (¬4) السابق.

فَأَطْلَقَ على الشيطانِ: شاطن. والشاطنُ: اسمُ فاعلِ (شطن) بلاَ خِلاَفٍ. الوجهُ الثاني في وزنِ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ - وقد أشارَ له أيضًا سيبويه في كتابِه -: أن أصلَه من (شاط، يشيط). وعلى هذا: فأصلُ مادتِه (شَيَط) فاءُ المادةِ: شينٌ، وَعَيْنُهَا: ياءٌ، ولامُها: طاءٌ. وعلى هذا فوزنُه بالميزانِ الصرفيِّ: (فَعْلان) لا (فَيْعَال)، والعربُ تقولُ: «شاطَ يَشِيطُ» إذا هَلَكَ. ومنه قولُ الأَعْشَى - ميمونِ بنِ قَيْسٍ (¬1): قَدْ نَخْضِبُ الْعَيْرَ مِنْ مَكْنُونِ فَائِلِهِ ... وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ وعلى هذا القولِ الأخيرِ، أن وزنَه (فَعْلاَن) وأنه مِنْ (شَاطَ يشيط) فمعناهُ: أنه هالكٌ لا محالةَ؛ لِمَا سَبَقَ له من الشقاءِ والعذابِ، وعلى هذا فمعنَى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} أي: عتاتهم المتمردين في الطغيانِ، الفائقين جنسَهم وأمثالَهم في الكفرِ والمعصيةِ. وقولُه: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ (¬2): أحدُهما: وهو الأظهرُ الصحيحُ، وقد جاءَ في حديثٍ مرفوعٍ عن أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه) أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يَا أَبَا ذَرٍّ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ» فقال أبو ذر: أَوَللإِنْسِ شياطينُ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ». وفي بعضِ رواياتِه: «أَنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ» (¬3). ¬

(¬1) البيت للنابغة، وقد مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة. (¬2) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1371 - 1372) ابن جرير (12/ 51). (¬3) مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام.

وحديثُ أبي ذَرٍّ هذا جاءَ من طُرُقٍ متعددةٍ، لا يَخْلُو بعضُها من مقالٍ، إلا أن مجموعَها يُقَوِّي بعضُها بعضًا، ويدلُّ على أن الحديثَ له قوةٌ وأصلٌ. وعلى هذا القولِ فأعداءُ الرسلِ شياطينُ على نَوْعَيْنِ: شياطينُ من العتاةِ الكفرةِ من الإنسِ، وشياطينُ عتاةٌ كفرةٌ من الجنِّ، كلهم أعداءُ الرسلِ. وهذا القولُ الصحيحُ. وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ به أن أعداءَ الرسلِ شياطينُ، إلا أن هؤلاء الشياطينَ منهم شياطينُ يضللونَ الإنسَ، ومنهم شياطينُ يُضَلِّلُونَ الجنَّ. وَرُوِيَ هذا عن جماعةٍ من العلماءِ، وجاء فيه حديثٌ ضعيفٌ. قال بعضُ العلماءِ: إن إبليسَ يُفَرِّقُ الشياطينَ يُضَلِّلُونَ الجنَّ، ويضللونَ الإنسَ، فللإنسِ شياطينُ يضللونهم، وللجنِّ شياطينُ يضللونهم. قالوا: فيجتمعونَ، فيقولُ بعضٌ لبعضٍ: أنا أَضْلَلْتُ صَاحِبي بكذا وكذا فَضَلَّ، فاسْتَعْمِلْ هذا الذي أضللتُ به صاحبي لِتُضِلَّ به صاحبَك. هذا وجهٌ في الآيةِ. والقولُ الأولُ أظهرُ للحديثِ المذكورِ. وقولُه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} {يُوحِي} مضارعُ (أَوْحَى، يُوحي، إيحاءً)، والوحيُ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على كل شيء يُلْقَى في سرعةٍ وخفاءٍ (¬1). فَكُلُّ ما ألقيتَه في سرعةٍ وخفاءٍ فقد أوحيتَ به. ومن هنا كان الوحيُ يُطْلَقُ على الإشارةِ، وَيُطْلَقُ على الكتابةِ، وُيطلق على الإلهامِ، ويطلقُ على ما يُلْقِيهِ الإنسانُ لصاحبِه ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: وحى) ص 858، المصباح المنير (مادة: الوحي) ص 249.

سِرًّا في خفية. كل هذا يُسَمَّى وحيًا. ومن إطلاقِ الوحيِ على الإشارةِ قولُه في قصةِ زكريا: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)} [مريم: آية 11] أي: أشارَ إليهم على أظهرِ التَّفْسِيرَيْنِ. ويؤيدُه قولُه: {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: آية 41] لأَنَّ الرمز: الإشارةُ. فدلَّ على أن الوحيَ في حَقِّهِ: الإشارةُ. وَيُطْلَقُ الوحيُ على الكتابةِ، وإطلاقُ الوحيِ على الكتابةِ كثيرٌ في كلامِ العربِ جِدًّا، ومنه قولُ لبيدٍ في معلقتِه (¬1): فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا فـ (الوُحِيَّ): جَمْعُ (وَحْي)، وهو الكتابةُ في الحجارةِ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ عنترةَ (¬2): كَوَحْي الصَّحَائفِ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ... فَأَهْدَاهَا لأَعْجَمَ طِمْطِمِي ومنه قولُ غيلانَ ذي الرمةِ (¬3): سِوَى الأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ أي: كتابة. وكذلك منه قولُ جريرٍ (¬4): كَأَنَّ أَخَا الْكِتَابِ يَخُطُّ وَحْيًا ... بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا وَلاَمِ أي: خَطًّا. ¬

(¬1) البيت في شرح القصائد المشهورات (1/ 130)، اللسان (مادة: وحى) (3/ 892). (¬2) البيت في فتح القدير (3/ 324). (¬3) السابق. (¬4) البيت في ديوانه ص 375، وشطره الأول: (كأن أخا اليهود ... ).

وفي إطلاقِه على الإلهامِ: قولُه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: آية 68] أي: أَلْهَمَهَا. فمعنَى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: يُلْقِيهِ إليه في خفاءٍ وسرعةٍ. ولذلك لَمَّا جاء عن المختارِ بنِ أبي عبيدٍ أنه ادَّعَى النبوةَ، وأنه يُوحَى إليه، وكانت أختُه صفيةُ بنتُ أَبِي عبيدٍ (رضي الله عنها) زوجةَ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ (رضي الله عنهما). فقيلَ لعبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ: إن المختارَ ادَّعَى أنه يُوحَى إليه. قال: صَدَقَ!! قال اللَّهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ} (¬1) [الأنعام: آية 121] فذلك وحيُ الشيطانِ، وهو ما يُلْقِيهِ الشيطانُ إلى قَرِينِهِ من الوساوسِ والزخارفِ لِيُضِلَّ بها الناسَ. ذلك هو وحيُ الشياطينِ. وهذا معنَى قولِه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: آية 112] ذلك صادقٌ بأن شياطينَ الجنِّ يُوحُونَ إلى شياطينِ الإنسِ، كما يأتي في قولِه جل وعلا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ} أي: يُلْقُونَ إليهم الوساوسَ والأمورَ. وكذلك يُوحِي بعضُ شياطينِ الإنسِ إلى بعضِ شياطينِ الجنِّ. وهو على ثلاثةِ أنحاءَ؛ لأن شياطينَ الجنِّ يوحونَ إلى شياطينِ الإنسِ، ويوحونَ إلى شياطينِ الجنِّ، كما أن شياطينَ الإنسِ يوحونَ إلى شياطينِ الإنسِ. فهذا وحيُ الشياطينِ بعضِهم لبعضٍ. وعن مالكِ بنِ دينارٍ (رحمه الله) أنه قال: إن شيطانَ الإنسِ أشدُّ عَلَيَّ مِنْ شيطانِ الجنِّ؛ لأن شيطانَ الجنِّ أَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ منه فيذهبُ عَنِّي، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (4/ 1379) وأورده ابن كثير في التفسير (2/ 170)، نقلاً عن ابن أبي حاتم، كما أخرج ابن أبي حاتم (4/ 1379) نحوه عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، وَأَثَرُ ابنِ عباسٍ هذا أخرجه - أيضا - ابن جرير (12/ 86).

وشيطانُ الإنسِ يجيئني فَيَجُرُّنِي إلى المعصيةِ عيانًا (¬1). وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ (جل وعلا) قَدْ بَيَّنَ علاجَ ما يريدُ أن يضرَّك من شياطينِ الإنسِ والجنِّ في ثلاثِ آياتٍ من كتابِه، فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الذينَ يحاولونَ ضُرَّكَ وعداوتَك من شياطينِ الإنسِ لهم علاجٌ سَمَاوِيٌّ، وأن أمثالَهم من شياطينِ الجنِّ لهم علاجٌ سماويٌّ، وبينَ علاجِ هذا وهذا في ثلاثةِ مواضعَ من كتابِه، فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الذي يريدُ أن يَضُرَّكَ من الإنسِ، ويجرُك إلى ما يضرُّك كعملِ الشياطين، يعاديكَ ويترقبُ لكَ الضررَ أَنَّ دواءَه الوحيدَ الذي يُنْجِيكَ منه هو أن لا تَتَّبِعَهُ في شَرٍّ، وأن تعاملَه مكانَ السيئةِ بالحسنةِ، فإذا أساءَ إليكَ سَتَرْتَ إساءَته وقابلتَها بالإحسانِ فيندحرُ وينكسرُ، ويكونُ صَدِيقًا بعدَ أن كان عَدُوًّا، وأما شيطانُ الجنِّ فإنه لا علاجَ له ألبتةَ إلا الاستعاذةَ بالله (جل وعلا) منه؛ لأن المُلاينةَ لا تزيدُه إلا طغيانًا، وأنتَ لا تَرَاهُ لتنتصفَ منه، فلاَ دواءَ له إلا الاستعاذةَ بالله (جل وعلا) من شَرِّهِ. الموضعُ الأولُ من هذه المواضعِ الثلاثةِ: قولُه تعالى في أخرياتِ سورةِ الأعرافِ: في شياطينِ الإنسِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: آية 199] أَيْ: عَامِلْهُمْ بالعفوِ واللينِ والإعراضِ عن سيئاتِهم. ثم قال في شيطانِ الجنِّ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: آية 200]. الموضعُ الثاني في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) وهو قولُه في الإنسيِّ الْمُعَادِي: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أي: ادْفَعْ سيئةَ ¬

(¬1) ذكره القرطبي في التفسير (7/ 68)، وأبو حيان في البحر (4/ 207).

الإنسيِّ بِالْحُسْنَى {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} ثم قال في نظيرِه من شياطينِ الجنِّ: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون: الآيات 96 - 98]. الموضعُ الثالثُ: في سورةِ (حم السجدةِ) - سورة فصلت -: وَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ فيها أن هذا العلاجَ السماويَّ لاَ يُعْطِيهِ اللَّهُ لكلِّ أحدٍ، بل لا يُعْطِيهِ إلا لِمَنْ جَعَلَ له البختَ الأعظمَ والنصيبَ الأوفرَ عنده؛ ولذا قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني: ادْفَعْ عداوةَ شيطانِ الإنسِ بالتي هي أحسنُ، ثم قال: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} أي: صديقٌ في غايةِ الصداقةِ، ثم بَيَّنَ أن هذا لاَ يُعْطَى لكلِّ الناسِ، قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} ثم قال في شيطانِ الجنِّ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: آية 36]. فعلينا معاشرَ المؤمنين أن نقدرَ هذا العلاجَ السماويَّ، ونعاملَ مَنْ عَادَانَا وأرادَ ضُرَّنَا من إخوانِنا المؤمنين بالصفحِ والإحسانِ، ومقابلةِ السَّيِّئِ بالجميلِ، حتى تنكسرَ شوكةُ شُؤْمِهِ، فيرجع خَجِلاً صديقًا حميمًا، ونستعيذُ من الشيطانِ بخالقِ السماواتِ والأرضِ لِيَكْفِيَنَا شَرَّهُ. وهذا الذي نقوله فيمن يُعَادِيكَ من إخوانك المسلمين، وأمثالِهم ممن لهم حرمةٌ، كالكتابيِّ الذي تحتَ ذمةِ الإسلامِ، الذي له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. أما الكفرةُ الْحَرْبِيُّونَ فلا مُلاَيَنَةَ معهم، وإنما معهم الشدةُ والغلظةُ، كما قال اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 73] ومَدَحَ المؤمنينَ

والنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأنهم في غايةِ اللينِ والرحمةِ للمؤمنين، وفي غايةِ الشدةِ والقسوةِ على الكفرةِ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: آية 29] وقال جل وعلا: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: آية 29] لأن الشدةَ في محلِّ اللينِ هي مِنَ الحُمْقِ والخَرَقِ، واللينُ في محلِّ الشدةِ هو من الضعفِ والْخَوَرِ، والسدادُ والحكمةُ أن تكونَ الشدةُ في محلِّ الشدةِ، واللينُ في محلِّ اللينِ. ومعنَى قولِه جل وعلا: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: آية 112] الزُّخْرُفُ: هو كُلُّ شيءٍ زَيَّنْتَهُ وَزَخْرَفْتَهُ وَمَوَّهْتَهُ فهو زُخْرُفٌ (¬1). وإنما سَمَّاهُ {زُخْرُفَ الْقَوْلِ}؛ لأنهم يُزَيِّنُونَ لهم المعاصيَ، ويحببونَ إليهم الشهواتِ، ويرغبونهم في لذاتِ الدنيا، وتقديمِ [العاجلِ على الآجلِ] (¬2)، يزخرفونَ لهم هذا، ويزينونَه لهم، أما شياطينُ الجنِّ فَهُمْ يزينونَه بالوساوسِ. وأما شياطينُ الإنسِ فقد يُزَيِّنُونَهُ بالكلامِ الصريحِ فَيُزَخْرِفُونَهُ، حتى يوقعوا أصحابَهم فيه والعياذُ بالله. وقولُه: {غُرُورًا} الغرورُ: مصدرُ (غَرَّه، يَغُرُّه، غرورًا) إذا خَدَعَهُ. أي: خديعةٌ - والعياذُ بالله (¬3) -. والخديعةُ: هي أن يُوقِعَ الشخصُ الإنسانَ في الضررِ من حيث يُرِيهِ أنه ينفعُه. وإعرابُ قولِه: {غُرُورًا} فيه ثلاثُ أَوْجُهٍ من الإعرابِ (¬4): ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 55)، القرطبي (7/ 67)، البحر المحيط (4/ 205)، الدر المصون (5/ 116). (¬2) في الأصل: «الآجل على العاجل» وهو سبق لسان. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 56). (¬4) انظر: القرطبي (7/ 67)، البحر المحيط (4/ 207)، الدر المصون (5/ 116).

أجودُها وأظهرُها: أنه مفعولٌ لأجلِه، والقرينةُ على ذلك أنه عُطِفَ عليه بلامِ التعليلِ في قولِه: {وَلِتَصْغَى} [الأنعام: آية 113] أي: زخرفَ القولِ لأَجْلِ أن يغروهم؛ ولأجلِ أن تَصْغَى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ؛ ولأجلِ أن يُرْضُوهُ؛ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هم مقترفون. فهذا أظهرُ الأعاريبِ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: {غُرُورًا} مصدرٌ منَكَّرٌ وهو حالٌ. أي: يزينون لهم زخرفَ القولِ في حالِ كونِهم غَارِّينَ إياهم. وبعضُهم يقولُ: هو ما نَابَ عن المطلقِ من قولِه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} لأَنَّ ذلك الإيحاءَ غُرُورٌ. فـ (يوحي) كأنه مُضَمَّنٌ معنَى: يغرونهم غرورًا. وأجودُها: أنه مفعولٌ من أجلِه؛ لأنه عُطِفَ عليه بلامِ التعليلِ، حيث لم تَتَوَفَّرْ شروطُ النصبِ فيما بعدَه لاختلافِ الفاعلِ؛ لأن المفعولَ مِنْ أَجْلِهِ لابدَّ أن يكونَ فاعلُه وفاعلُ عاملِه واحدًا، كما هو معروفٌ في فَنِّ العربيةِ (¬1). وفي هذه الآيةِ ترتيبٌ غريبٌ عجيبٌ، بالغٌ في الْحُسْنِ؛ لأن السببَ الأولَ: هو الغرورُ والخديعةُ، فَتَسَبَّبَ عن الغرورِ والخديعةِ: أن صَغَتْ إليه قلوبُهم وَمَالَتْ، ثم تسببَ عن صوغِ القلوبِ وَمَيْلِهَا: أنهم أَحَبُّوهُ ورضوه، ثم تَسَبَّبَ عن كونِهم أَحَبُّوهُ ورضوه: أن اقترفوه؛ ولذا رَتَّبَهَا على هذا الترتيبِ، قال أولاً: {غُرُورًا} أي: لأجلِ أن يَغُرُّوهُمْ. ثم نتجَ من الغرورِ: صوغُ أفئدتِهم إليه. قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ثم تسببَ عن كونِها صَغَتْ إليه: أنها رَضِيَتْهُ ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 420).

وَأَحَبَّتْهُ؛ ولذا قال: {وَلِيَرْضَوْهُ} ثم تسببَ عن رِضَاهُمْ ومحبتِهم له أنهم فَعَلُوهُ واقترفوه؛ ولذا جاءَ بعدَها بقولِه: {وَلِيَقْتَرِفُوا}. وقوله: {وَلِتَصْغَى} هو معطوفٌ على {غُرُورًا} والمعنَى: يُوحِي بعضُهم إلى بعضِ زخرفِ القولِ لأجلِ الغرورِ. أي: لأجلِ أن يغروهم؛ ولأجلِ أن تَصْغَى. و (تصغى) معناه: تَمِيلُ. تقولُ العربُ: «صَغَى يَصْغُو»، و «صَغَى يَصْغَى»، و «صَغِيَ يَصْغَى» كلها بمعنَى: مَالَ إليه، و «أَصْغَى يُصْغِي إصغاءً» أيضًا إذا مَالَ (¬1). وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وفي القرآنِ العظيمِ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: آية 4] أي: مَالَتْ إلى أَمْرٍ تَعْلَمَانِ أن النبيَّ لاَ يحبه. وقولُه هنا: {وَلِتَصْغَى} أي: تميلُ إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ، ومادةُ (صَغَى) تُسْتَعْمَلُ واويةَ اللامِ ويائيةَ اللامِ. تقولُ العربُ: «صَغَى يَصْغَى»، و «صَغَى يَصْغو»، و «صَغِيَ يَصْغَى»، كلها بمعنَى: مَالَ. وأصغَى الإناءَ: إذا أَمَالَهُ، ومنه: رَجُلٌ مُصْغَى الإناءِ. إذا كان منقوصَ الحظِّ. تقول: «بنو فلانٍ يُصغون إناءَ فلانٍ». إذا كانوا ينقصونه من حَقِّهِ؛ لأن الإناءَ المائلَ لا يحملُ من الملءِ قدرَ ما يحملُه الإناءُ المعتدلُ، فالناسُ إذا وَضَعَتْ أوانيَها لِتُمْلأَ لها فالإناءُ الْمُصْغَى- أعني المائلَ- لا يحملُ كثيرًا، بخلافِ الإناءِ المعتدلِ فإنه يمتلئُ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ (¬2)، ومنه قولُ غسانَ بنِ وعلةَ، ويُروى للنمرِ بنِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 58)، القرطبي (7/ 69)، البحر المحيط (4/ 205)، الدر المصون (5/ 119). (¬2) انظر: المفردات (مادة: صغا) ص485.

تولب العكليِّ قال (¬1): إِذَا كُنْتَ فِي سَعْدٍ وَأُمُّكَ مِنْهُمُ ... فَقِيرًا فَلاَ يَغْرُرْكَ خَالُكَ مِنْ سَعْدِ ... فَإِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مُصْغًى إِنَاؤُهُ ... إِذَا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ معنى «مُصْغًى إناؤُه» أي: مُمَالٌ إِنَاؤُهُ؛ لأن الإناءَ المُمَالَ لا يمتلئُ كما ينبغي، فَحَقُّهُ منقوصٌ. هذا معنَى المادةِ في لغةِ العربِ، والعربُ تقولُ: «أَصْغَى إليه» إذا أمالَ إليه أُذُنَهُ. ومنه قولُهم: «أَصْغَتِ الناقةُ إلى مَنْ يشد الرحلَ عليها». إذا صَارَتْ تميلُ إلى من يشدُّ الرحلَ عليها، كالذي يستمعُ. ومنه قولُ غيلانَ ذي الرمةِ (¬2): تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُورِ جَانِحَةً ... حَتَّى إِذَا مَا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَا تَثِبُ والعربُ تستعملُه رُبَاعِيًّا، (أصغى إليه إصغاءً) إذا مَالَ إليه، ومنه قولُ الشاعرِ (¬3): إِنَّ السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ ... زَيْغٌ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيهِ إِصْغَاءُ أي: مَيْلٌ. والمرادُ بالتشبيهِ هنا: التخليطُ. ومعنَى قولِه: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} أي: لتميلَ إليه، أي: ذلك القولُ المزخرفُ المزينُ الباطلُ، الذي تُوحِيهِ شياطينُ الإنسِ والجنِّ، تميلُ إليه {أَفْئِدَةُ} أي: قلوبُ. الأفئدةُ: جمعُ الفؤادِ، والفؤادُ: القلبُ. ¬

(¬1) وقيل: حسان بن وعلة، وقيل: ضمرة بن ضمرة، وهما في بهجة المجالس لابن عبد البر (1/ 225) الكامل ص712، والبيت الأول في اللسان (مادة: كيس) (3/ 321) وأول شطره الثاني في هذين المصدرين: «غريبًا». (¬2) البيت في القرطبي (7/ 69)، الدر المصون (5/ 120). (¬3) في المصادر التي وقفت عليها: «ترى السفيه». انظر ابن جرير (12/ 58)، القرطبي (7/ 69)، البحر (4/ 205)، الدر المصون (5/ 120).

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} مفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، والمعنَى: لو شَاءَ رَبُّكَ عدمَ فعلِهم إياه ما فعلوه، فالضميرُ في: {مَا فَعَلُوهُ} يرجعُ في أظهرِ الأقوالِ إلى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} الذي يُوحُونَهُ إليهم، فزخرفُ القولِ الذي يوحونَه إليهم لو شاء رَبُّكَ ما فعلوه. والمعنَى: لو شَاءَ اللَّهُ لَكَفَّ شياطينَ الإنسِ والجنِّ عن غرورِ الناسِ وزخرفةِ الأقوالِ لها ليغروها، ولكن له (جل وعلا) في ذلك حكمتُه البالغةُ، يفتنُ خلقَه ليظهرَ المطيعُ من العاصي. وقولُه: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ذَرْهُمْ: مَعْنَاهُ اتْرُكْهُمْ. وهذا الفعلُ لا يوجدُ منه في اللغةِ العربيةِ إلا الأمرُ والمضارعُ. تقولُ العربُ: «ذَرْ»، وتقول: «يذر». بالمضارعِ والأمرِ. ولاَ يوجدُ من مادتِه فعلٌ ماضٍ ولا مصدرٌ، ولا اسمُ فاعلٍ ولا اسمُ مفعولٍ، فَمَاضِي (ذَرْ) هو قولك: «تَرَكَ». واسمُ فاعلِه: تَارِك، واسمُ مفعولِه: متروكٌ. ومصدرُه: التركُ. ولاَ يُسْتَعْمَلُ منه إلا الأمرُ والمضارعُ (¬1). ومعنَى: {ذَرْهُمْ}: اتْرُكْهُمْ. {وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} (ما) منصوبةٌ لأنها مفعولٌ معه. ويحتملُ أن تكونَ مصدريةً (¬2) والمعنَى: ذَرْهُمْ وافتراءَهم. وعلى أنها موصولةٌ فالمعنَى: اتْرُكْهُمْ والذي يفترونَه على اللَّهِ. وصيغةُ الأمرِ هنا إنما هي للتهديدِ، والمعنَى: خَلِّهِمْ وافتراءَهم فسيجدونَ غِبَّ ذلك، ويعلمونَ عاقبتَه الوخيمةَ. وقد تقررَ في فَنِّ الأصولِ في مباحثِ ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: وذر) ص862، القرطبي (7/ 69)، الدر المصون (2/ 637). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 177).

الأمرِ (¬1)، وفي فَنِّ المعاني في مباحثِ الإنشاءِ (¬2): أن مِنَ المعانِي التي تأتي لها صيغةُ (افْعَلْ) منها: قصدُ التهديدِ والتخويفِ، كقولِه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)} [الحجر: آية 3] وقولُه: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: آية 8] وقولُه: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: آية 29] كُلُّ هذه صيغٌ مرادٌ بها التهديدُ؛ ولذا قال هنا: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} والافتراءُ: هو اختلاقُ الكذبِ والعياذُ بالله جل وعلا. وقولُه: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} [الأنعام: آية 113] أي: ليغروهم ولتميلَ إليه، أي: إلى ذلك القولِ المزخرفِ المزينِ الباطلِ؛ ليكونَ سببًا للضلالِ، تميلُ إليه أفئدة: أي: قلوبُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ - والعياذُ بالله - لأَنَّ المؤمنينَ يعرفونَ زخارفَ الشيطانِ ووحيَه، فيتباعدونَ منه ويجتنبونَه؛ ولذا قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ}. إذا مَالَتْ قلوبُهم إليه يرضوه ويحبوه، ثم إذا رضوه وقعوا في الكفرِ المزينِ المزخرفِ والعياذُ بالله. {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113)} [الأنعام: آية 113] الاقترافُ في لغةِ العربِ: معناه الاكتسابُ (¬3). والمعنَى: وَلِيَكْتَسِبُوا ما هم مكتسبونَ إياه من الكفرِ والمعاصِي - عياذًا بالله - بسببِ ذلك القولِ المزخرفِ، الذي صَغَتْ إليه قلوبُهم ورضوه وأحبوه، ووقعوا بسببِه بالكفرِ والمعاصِي. والاقترافُ: الاكتسابُ. وتقول: راحَ فلانٌ يقترفُ ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 23، 37)، الإيضاح للقزويني ص148. (¬2) السابق. (¬3) انظر: المفردات (مادة: قرف) ص667.

لأهلِه، أي: يكتسبُ لهم من الدنيا. والمرادُ بالاقترافِ هنا: اكتسابُ المعاصِي هذا معنَى قولِه: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: الآية 114]. يقول الله جل وعلا: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: الآية 114]. ذكر بعضُ أهلِ العلمِ (¬1) أن بعضَ الكفارِ طلبوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتحاكَم معهم إلى بعضِ الكهانِ، كما كانت عادةُ العربِ إذا تَنَازَعُوا واختلفوا تَحَاكَمُوا إلى بعضِ الكهنةِ - والعياذُ بِاللَّهِ - فَبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن رَبَّهُ أمرَه أن ينكرَ كلَّ الإنكارِ على مَنْ يبتغي حَكَمًا غيرَ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي هو الْحَكَمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ قُلْ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: آية 114]. قد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬2) أن حروفَ العطفِ من (الفاء)، و (الواو)، و (ثم) إذا جاءت بعد همزةِ استفهامٍ أن فيها وَجْهَيْنِ معروفين للعلماءِ: أحدُهما: أن الهمزةَ تتعلقُ بجملةٍ محذوفةٍ، وأن الفاءَ عاطفةٌ على الجملةِ المحذوفةِ، وعلى هذا فالتقديرُ يدلُّ عليه المقامُ في ¬

(¬1) سيأتي قريبًا إن شاء الله. (¬2) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة البقرة، وسيأتي عند الآية (118) من الأنعام، وغير ذلك من المواضع.

الجملةِ، وعليه فالتقديرُ هنا: أَأَضِلُّ عن سبيلِ اللَّهِ فأبتغي حَكَمًا غيرَ الله؟ الوجهُ الثاني: أن همزةَ الاستفهامِ مُزحْلَقَةٌ عن مَحَلِّهَا وهي مقدمةٌ على حرفِ العطفِ لفظًا وهي بعدَه في الرتبةِ؛ لأن حرفَ الاستفهامِ له صدارةُ الكلامِ، وعليه فتكونُ الفاءُ عاطفةً للجملةِ المُصَدَّرَةِ بالاستفهامِ على ما قَبْلَهَا، وهذا معروفٌ. والمعنَى: قَلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ - لأن النبيَّ مأمورٌ أن يقولَ هذا - أَأَضِلُّ عن سواءِ الطريقِ فَأَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ الله؟ هذا لا يمكنُ أبدًا. والهمزةُ في قولِه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} همزةُ إنكارٍ، وهي تدلُّ على إنكارِ الشيءِ وتشنيعِه والتباعدِ منه. والْحَكَمُ: قال بعضُ العلماءِ (¬1): الحَكَمُ عند العربِ أفضلُ من الحاكمِ؛ لأن الحاكمَ هو الذي يُوقِعُ الحُكمَ بين اثنين، قد يكونُ حُكْمَ عدلٍ وقد يكونُ حُكْمَ جَوْرٍ، وأما الحَكَمُ لا تكادُ العربُ تُطْلِقُهُ إلاَّ على الذي يُنْصِفُ في حُكْمه، والمعنَى: لا أطلبُ حَكَمًا غيرَ اللَّهِ؛ لأن اللَّهِ هو الحَكَمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ الذي هو الحاكمُ وحدَه (جل وعلا). وفي إعرابِ (غير) و (حَكَمًا) أوجهٌ معروفةٌ (1)، قال بعضُ العلماءِ: (غير) مفعولٌ مقدمٌ لـ (أبتغي)، والمعنَى: أبتغي غيرَ الله. وعليه فقولُه: {حَكَمًا} قيل: تمييزٌ، وقيل: إنها حالٌ، أبتغي غيرَ اللَّهِ في حالِ كونِه حَكَمًا. أي: مميزةٌ لـ (غير). ¬

(¬1) سيأتي قريبًا إن شاء الله.

وقال بعضُ العلماءِ: (حَكَمًا) هي مفعولُ (أبتغي)، أبتغي حَكَمًا. و (غير الله) في محلِّ الحالِ. والمعروفُ في العربيةِ أن نعتَ النكرةِ إذا تَقَدَّمَ عليها صارَ حَالاً (2). ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أن ينكرَ غايةَ الإنكارِ ابتغاءَ حَكَمٍ غيرِ اللَّهِ، فلا يُطْلَبُ ولا يُبْتَغَى حَكَمٌ إلاَّ خالقَ السمواتِ والأرضِ. وهذه الآيةُ الكريمةُ تُبَيِّنُ لنا أن الحاكمَ هو خالقُ هذا الكونِ، هو الحكمُ وحدَه (جل وعلا) لا محاكمةَ إلاَّ إليه، فالحلالُ هو ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، لا حَكَمَ إلاَّ اللَّهُ، ولا حُكْمَ إلاَّ لله - كما قد بَيَّنَّا ذلك مِرَارًا (3) - والله (جل وعلا) كما يَتَنَزَّهُ أن يكونَ له ولدٌ، ويتنزه عن أن يكونَ له شريكٌ، كذلك يتنزهُ عن أن يكونَ حاكمٌ معه أو مُشرِّعٌ معه، كما في قولِه في عبادتِه: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110]، وكما قال في حكمِه: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26] فَحُكْمُهُ كعبادتِه، العبادةُ له وحدَه، والحكمُ له وحدَه (جل وعلا)؛ لأن اللَّه هو الذي له الحكمُ، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في سورةِ المؤمنِ أن الحكمَ لا يكونُ إلاَّ لِمَنْ هو أعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كلِّ شيءٍ، فلا يكونُ إلاَّ لمن له سلطةٌ عُلْيَا قاهرةٌ حاكمةٌ على كُلِّ شيءٍ، وقد أَشَارَ اللَّهُ

لهذا في سورةِ المؤمنِ حيث قالَ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا}، ثم قال: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} [غافر: آية 12]، فمن لم يكن بهذه المثابةِ مِنَ الْعُلُوِّ والكِبَرِ فهو ضعيفٌ مخلوقٌ محتاجٌ محكومٌ عليه مأمورٌ مَنْهِيٌّ، ليس له الحكمُ، قد بَيَّنَّا ذلك مرارًا، وَعَرَّفْنَا أنه يجبُ على سائرِ الناسِ أن يعرفوا أن الحكمَ لله وحدَه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57]، {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26]، وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ (¬1): {ولا تُشْركْ في حكمه أحدًا} بصيغةِ النهيِ، فالحكمُ له (جل وعلا) وحدَه، فهو الذي يُحَلِّلُ، وهو الذي يُحَرِّمُ، وهو الذي يُشرِّع، فالحلالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حرمه الله، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، فليس لأحدٍ تشريعٌ مع اللَّهِ، وقد قَدَّمْنَا مرارًا (¬2) أن الآياتِ القرآنيةَ بكثرةٍ دَلَّتْ دلالةً واضحةً على أن كُلَّ مَنْ يُحَكِّمُ غيرَ حكمِ اللَّهِ ويتحاكم إلى غيرِ شَرْعِ اللَّهِ معتقدًا أن ذلك بمثابةِ حكمِ اللَّهِ أو أنه خيرٌ من حكمِ الله، كالذين يقولونَ: إن القرآنَ لا يَصْلُحُ لهذا الزمنِ، ولا ينظمُ علاقاتِ الدنيا بحسبِ التطورِ الحادثِ!! مَنْ يقولُ هذا وَيَدَّعِيهِ فهو كافرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عن الملةِ بإجماعِ المسلمين وشهادةِ القرآنِ، وَرَبُّهُ الذي جَعَلَهُ ربه هو الذي اتبعَ تشريعَه؛ فإن التشريعَ وَوَضْعَ النظامِ مِنْ حَقِّ الربوبيةِ، وَكُلُّ مَنِ اتبعَ نظامَ أحدٍ فقد جَعَلَهُ رَبًّا، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على هذا الموضوعِ لا تكادُ أن تُحْصَرَ في المصحفِ، وقد جاءَ مُوَضَّحًا ¬

(¬1) تقدمت عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام .. (¬2) سيأتي عند تفسير الآية (158) من سورة الأعراف.

كثيرًا في هذه السورةِ الكريمةِ؛ سورةِ الأنعامِ - السورةِ العظيمةِ - لأن اللَّهَ بَيَّنَ فيها أن المشركين لَمَّا جاءهم الشيطانُ وأوحى إلى كفرةِ قريشٍ وحيَ الشياطين أن يقولوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: الشاةُ تُصْبِحُ ميتةً مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ رجلٌ تكون عندَه الغنمُ فتصبحُ منها شاةٌ ميتةٌ، قالوا: مَنْ هو الذي قَتَلَ هذه الشاةَ؟ فقال لهم: اللَّهُ قَتَلَهَا. فقالوا: كيف تقولونَ: إنها ميتةٌ جيفةٌ مستقذرةٌ وهي ذبيحةُ اللَّهِ؟ ما ذَبَحْتُمُوهُ بأيديكم تقولونَ: حلالٌ مستلذٌّ طيبٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ تقولونَ: جيفةٌ ميتةٌ حرامٌ مستقذر!! فأنتم إذًا أحسنُ مِنَ اللَّهِ!! فأنزلَ اللَّهُ (جل وعلا) في ذلك - بإجماعِ المفسرين (¬1) - هذه الآيةُ الآتيةُ عن قُرْبٍ من سورةِ الأنعامِ، وهي قولُه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121]، يعني: لا تَأْكُلُوا الميتةَ وإن زَعَمُوا أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأنه ذَبَحَهَا بيدِه الكريمةِ بسكينٍ مِنْ ذَهَبٍ. ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: وإن أكلَ الميتةِ لَفِسْقٌ، أي: خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ. ثم قال - وهو مَحَلُّ الشاهدِ -: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121]، إِنْ أَطَعْتُمْ أتباعَ إبليسَ في قانونِ إبليسَ ونظامِ إبليسَ أَنَّ الميتةَ حلالٌ، وأنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأن ذبيحةَ اللَّهِ أحسنُ من ذبيحتِكم، إن اتبعتم في هذا النظامَ الإبليسيَّ والقانونَ الشيطانيَّ الذي يُبِيحُ الميتةَ التي حَرَّمَهَا اللَّهُ على لسانِ سيدِ الخلق - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - إن اتَّبَعْتُمْ في هذا النظامِ الإبليسيِّ والتشريع الشيطاني إنكم لمشركون، فَاللَّهُ صَرَّحَ بأن مَنِ اتبعَ نظامَ إبليسَ في تحليلِ مضغةٍ من لحمٍ هي لحمُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام ..

الميتةِ حَرَّمَهَا اللَّهُ على لسانِ نَبِيِّهِ، صَرَّحَ اللَّهُ بأنه مشركٌ حيث قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] وهذا شِرْكُ ربوبيةٍ حيث اتبعتُم تشريعَ الشيطانِ، والتشريعُ من خصوصِ الربوبيةِ، فقد جعلتُم الشيطانَ هو رَبُّكُمْ - والعياذُ بالله - وهؤلاء الذين يتبعونَ تشريعَ إبليسَ وقانونَ الشيطانِ ونظامَه الذي يشرعُ على ألسنةِ أوليائِه من الكفرةِ الفجرةِ، هم الذين يُوَبِّخُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ في السورةِ الكريمةِ سورةِ يس، ويبينُ مصيرَهم كما بَيَّنَهُ في قولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} يعنِي: أَلَمْ أُوصِيكُمْ في دارِ الدنيا أن لا تعبدُوا الشيطانَ؟ وعبادةُ الشيطانِ الذي عَهِدَ إليهم فيها: ألاَّ يَتَّبِعُوا نظامَه وقانونَه في تحليلِ المعاصِي والكفرِ، والعياذُ بالله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي} واتبعوا تَشْرِيعِي الذي أنزلتُه على ألسنةِ أنبيائي {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيْمٌ}. ثُمَّ بَيَّنَ للذين اتبعوا طرقَ الشيطانِ ونظامَه وشرعَه فاتبعوا المعاصيَ والكفرَ في تحليلِ الشيطانِ وتزيينِه، قال اللَّهُ فيهم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ثم بَيَّنَ المصيرَ النهائيَّ لِمُتَّبِعِي نظامَ الشيطانِ وتشريعَ إبليسَ بقولِه: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُنَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: الآيات 60 - 65]، وَلِذَا قال نَبِيُّ اللَّهُ إبراهيمُ الخليلُ - عليه وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ -: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}] مريم: آية 44 [, يعني: لا تعبدِ الشيطانَ, لا تَتَّبِعْ النظامَ الذي يُزَيِّنُهُ لكَ ويزخرفُه من زخرفِ القولِ غُرُورًا, من عبادةِ الأوثانِ,

والكفرِ بالله والمعاصي- والعياذُ بالله - وقد قال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: ما يعبدونَ إلاَّ شيطانًا، وعبادتُهم للشيطانِ هي اتِّبَاعُهُمْ ما يُشَرِّعُ لهم وَيُحَلِّلُ لهم - والعياذُ بالله - وقد سَمَّى اللَّهُ في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - سَمَّى الذين يُطَاعُونَ في معصيةِ اللَّهِ سَمَّاهُمْ شركاءَ لِلَّهِ حيث أُطيعوا في معصيتِه؛ وذلك في قولِه: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: آية 137] فَسَمَّاهُمْ شركاءَ لِمَّا قالوا لهم: اقتلوا أولادكم فقتلوهم. وقد ثَبَتَ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ - رضي الله عنه - أنه سَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قولِه تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] قال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كيف اتخذوهم أربابًا؟ قال: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟» قال: بَلَى. قال: «بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا» (¬1). وقد أوضحَ اللَّهُ (جل وعلا) في السورةِ الكريمةِ - سورةِ النساءِ - أن الذي يَدَّعِي الإيمانَ ويُحكِّمُ شَرْعًا غيرَ شرعِ اللَّهِ أن دَعْوَاهُ الإيمانَ إنها بالغةٌ من الكفرِ والكذبِ والفجورِ ما يمكنُ التعجبُ منها، وذلك في قولِه مُعجِّبًا نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: آية 60] يضلهم ضلالاً بعيدًا عن طريقِ الصوابِ الذي شرَّعَهَا خالقُ الكونِ على لسانِ سيدِ الخلقِ، يضلهم ضلالاً بعيدًا لِيَتَّبِعُوا تشريعَ ¬

(¬1) السابق.

إبليسَ ونظامَ الشيطانِ الذي شَرَّعَهُ على ألسنةِ أوليائِه الكفرةِ الفجرةِ - والعياذُ بالله - فهذهُ الآياتُ وأمثالُها تُعْلِمُنَا أن التشريعَ من خصائصِ الربوبيةِ، وأن الأمرَ والنهيَ والتحليلَ والتحريمَ لا يكونُ إلاَّ لمن له السلطةُ العليا التي هي فوقَ كُلِّ شَيْء، وهي سلطةُ خالقِ هذا الكونِ (جل وعلا) فهذا الكونُ له مُدَبِّرٌ هو الذي رفعَ هذه السماواتِ وَنَصَبَ هذه الأرضَ، ووضعَ هذه الجبالَ، وَصَبَغَهَا بألوانٍ مختلفةٍ، وفتحَ هذه العيونَ في أوجهكم، وصبغَ بعضَ عيونِكم بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وجعل لكم في أجوافِكم الكبدَ والرئةَ وَالْكُلْيَتَيْنِ والطحالَ، ووضعَ كُلاًّ في موضِعه، ووكَّلَه بوظيفتِه البدنيةِ، ولو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ من أعضاءِ الإنسانِ لاطُّلع في من غرائبِ صنعِ اللَّهِ وعجائبِه على ما يُبْهِرُ العقولَ، وهذا الذي فَعَلَ في كُلِّ واحدٍ مِنْكُمْ فِعْلَهُ فيكم وأنتم في بطونِ أمهاتِكم لم يَحْتَجْ أن يُبَنِّجَ أمهاتِكم، ولا أن يشقَ بطونَها حتى يعملَ هذه العملياتِ فيكم، بل عملها وَبَصَرُهُ نافذٌ، وعلمُه محيطٌ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: آية 6] هذا الذي رَفَعَ السماواتِ وَدَحَا الأرضين والبحارَ، وخلقَ الآدَمِيِّينَ وَأَوْدَعَ فيهم مِنْ غرائبِ صنعِه وعجائبِه (¬1)، هذا هو الربُّ، هذا هو المعبودُ وهو المشرعُ، ¬

(¬1) تحدث الشيخ - رحمه الله - في مواضع كثيرة من هذه الدروس عن عجيب صنع الله وخلقه في الإنسان وغيره، انظر على سبيل المثال ما تقدم عن تفسير الآية (92) من سورة الأنعام.

وهو الحاكمُ، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ، فمن تَمَرَّدَ على نظامِه وجاءَ بنظامِ الشيطانِ وإبليسُ فهو من الذين قال اللَّهُ فيهم: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: آيتان 63، 64]. قَرَأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عَدَا حَفْصًا، وابنَ عامرٍ: {مُنْزَلٌ من ربك بالحق} بصيغة اسم مفعول (أَنْزَل). وقرأه حفصٌ عن عاصمٍ، وابن عامرٍ {مُنَزَّلٌ} بصيغةِ اسمِ المفعولِ من (نَزَّله) مُضَعَّفًا (¬1). كان كفارُ قريشٍ قالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: احْتَكِمْ معنا إلى علماءِ اليهودِ والنصارى، الذين عندهم بقيةُ عِلْمٍ من التوراةِ والإنجيلِ؛ لِيُخْبِرُونَا أَأَنْتَ رسولُ حَقًّا أَمْ لاَ (¬2). وقال بعضُهم (¬3): قالوا له: نحنُ وأنتَ اخْتَلَفْنَا فَلْنَتَحَاكَمْ إلى بعضِ الكهنةِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ جل وعلا - أَمَرَ نَبِيَّهُ أن يُبَيِّنَ - أنه لا يَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ الحَكَمِ العدلِ، خالقِ السماواتِ والأرضِ، الذي أَنْزَلَ هذا الكتابَ وَفَصَّلَهُ. وأهلُ الكتابِ الذين تريدونَ أن نتحاكمَ معكم إليهم يعلمونَ أن هذا الكتابَ حَقٌّ، وأنه مُنَزَّلٌ من اللَّهِ، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص201. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 208 - 209)، ولم أقف على ذلك في غيره. (¬3) السابق.

رسولٌ حَقًّا. كما أُخِذَ عليهم بذلك العهدِ في كُتُبِهِمْ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: آية 146] وقد أَخَذَ اللَّهُ العهدَ على جميعِ الرسلِ، وعلى أُمَمِهِمْ أن مَنْ أَدْرَكَ [منهم] (¬1) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمنَ به ويصدقَه، كما قَدَّمْنَا بَيَانَهُ في سورةِ آلِ عمرانَ في قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: آية 81] ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: أأضلُّ عن سواءِ الطريقِ ضلالاً بعيدًا في الحكومةِ فَأَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ اللَّهِ؟! لا يكونُ ذلك مِنِّي أَبَدًا. قال بعضُ العلماءِ: والحَكَمُ: أعظمُ مِنَ الحاكمِ؛ لأَنَّ الحَكَمَ لا تكادُ العربُ تُطْلِقُهُ إلا على مَنْ هو معروفٌ بالإنصافِ والعدالةِ في حكومتِه، أما الحاكمُ فيطلقُ على كُلِّ مَنْ يَحْكُمُ، سواءٌ حَكَمَ بِجَوْرٍ أَمْ بِحَقٍّ (¬2). والهمزةُ للإنكارِ. أي: لا أَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ اللَّهِ. وقد قَدَّمْنَا بعضَ الكلامِ على بعضِ هذه الآيةِ وَأَوْضَحْنَا إعرابَ (غير) و (حَكَمًا). وقولُه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} أي: لاَ يكونُ ذلك؛ لأن الهمزةَ إنكارٌ، بمعنَى النفيِ (¬3). أي: وهو الذي أَنْزَلَ، الْحَكَمُ الذي ¬

(¬1) في الأصل: "أن منهم من أدرك النبي". (¬2) انظر: القرطبي (7/ 70)، البحر المحيط (4/ 209)، الدر المصون (5/ 123). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 209).

لاَ أبتغي حَكَمًا سواه هو اللَّهُ الذي أَنْزَلَ إليكم على لسانِي هذا الكتابَ - القرآنَ العظيمَ - الذي جَمَعَ اللَّهُ فيه ثمراتِ الكتبِ المنزلةِ، وَجَمَعَ فيه علومَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. وقولُه: {مُفَصَّلاً} أي: مُوَضَّحًا مُبَيَّنًا، آياتُه تُوَضَّحُ فيها العقائدُ والحلالُ والحرامُ والأمثالُ والمواعظُ والآدابُ والمكارمُ؛ لأنه في غايةِ الإيضاحِ والتفصيلِ، والذي فَصَّلَهُ هو الحكيمُ الخبيرُ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: آية 1]. وقولُه: {مُفَصَّلاً} حالٌ مِنَ {الْكِتَابَ} (¬1) أي: أَنْزَلَهُ إليكم في حالِ كونِه مُفصَّلاً، أي: مُوَضَّحًا مُبَيَّنًا فيه العقائدُ، مُبَيَّنًا فيه الحقُّ من الباطلِ، والنافعُ من الضارِّ، والحسنُ من القبيحِ، بَيَّنَ اللَّهُ فيه العقائدَ، والحلالَ والحرامَ، وما يقرِّب إلى اللَّهِ، وما يُوَصِّلُ إلى جنتِه، وما يُبْعِدُ من اللَّهِ ويسخطُه، ويوصلُ إلى نارِه، وَبَيَّنَ مصيرَ الفريقين، وما أعدَّ لأوليائه، وما أعدَّ لأعدائِه، كُلُّ هذا مُوَضَّحٌ مُفَصَّلٌ في القرآنِ، وإن كان في القرآنِ بعضُ الآياتِ المتشابهاتِ، فإنها تُرَدُّ إلى الْمُحْكَمَاتِ، وَيُعْرَفُ إيضاحُها بِرَدِّهَا إلى المحكماتِ. كَمَا قَدَّمْنَا في سورةِ آلِ عمرانَ في تفسيرِ قولِه: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: آية 7]. يعني: أن المحكماتِ هُنَّ أُمُّ الكتابِ التي يُرَدُّ إليها ما أُشْكِلَ من مُتَشَابِهَاتِهِ. وهذا معنَى قولِه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: آية 114] التفصيلُ: ضِدُّ الإجمالِ، وهو الإيضاحُ ¬

(¬1) المصدر السابق (4/ 209)، الدر المصون (5/ 123).

والبيانُ (¬1). وقولُ مَنْ قال: «{مُفَصَّلاً} أي: بَيْنَهُ فَتَرَاتٌ وفَصْلٌ؛ لأنه يُنَزَّلُ أَنْجُمًا مُنَجَّمًا. هو غيرُ الصوابِ، والتحقيقُ: أن معنَى قولِه: {مُفَصَّلاً}: أنه مُبَيَّنٌ مُوَضَّحٌ، بَيَّنَ اللَّهُ فيه العقائدَ والحلالَ والحرامَ، ومصيرَ أهلِ الجنةِ، ومصيرَ أهلِ النارِ، وَكُلَّ شيءٍ يحتاجُ إليه الخلقُ، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: آية 89] فالقرآنُ فيه تبيانُ كُلِّ شيءٍ، وَلَكِنَّ الناسَ [كل منهم] (¬2) يأخذ منه بِقَدْرِ ما أعطاه اللَّهُ من الفهمِ، فهو بَحْرٌ، وَكُلٌّ يَغْرِفُ منه بِحَسَبِ ما عندَه، كما بَيَّنَهُ حديثُ أميرِ المؤمنين عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه وأرضاه)، كما ثَبَتَ عنه في صحيحِ البخاريِّ (¬3): أنه لَمَّا سَأَلَهُ أبو جحيفةَ: هَلْ خَصَّكُمْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ؟ أجاب عَلِيٌّ (رضي الله عنه): لاَ والذي فَلَقَ الحبةَ وبرأَ النسمةَ، إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رجلاً في كتابِ الله، وما في هذه الصحيفةِ. قال: وما في هذه الصحيفةِ؟ قال: العقلُ وفكاكُ الأسيرِ، وَأَلاَّ يُقْتَلَ مسلمٌ بكافرٍ. ومحلُّ الشاهدِ من الحديثِ: قولُ عَلِيٍّ (رضي الله عنه): «إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رجلاً في كتابِ اللَّهِ» فهو يدلُّ على أن مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ فَهْمًا في كتابِ اللَّهِ فَهِمَ علومًا خَصَّهُ اللَّهُ بها لم تكن عن أحدٍ؛ لأن القرآنَ يتضمنُ جميعَ الأشياءِ، والناسُ في فَهْمِهِ بحسبِ ما أعطاهم اللَّهُ من المواهبِ؛ ولذا قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}. وقولُه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} {آتَيْنَاهُمُ} معناه: أَعْطَيْنَاهُمُ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 396)، (12/ 60)، البحر المحيط (4/ 209). (¬2) في الأصل: كلهم. (¬3) تقدم تخريجه في مقدمة الكتاب.

{الْكِتَابَ} والمرادُ بالكتابِ: جنسُ الكتابِ الصادقِ بالتوراةِ والإنجيلِ، وصيغةُ الجمعِ في قولِه: {آتَيْنَاهُمُ} للتعظيمِ. والمعنَى: والإسرائيليونَ والنصارى الذين أَعْطَيْنَاهُمْ عِلْمًا من علمِ التوراةِ والإنجيلِ يعلمونَ أن هذا القرآنَ {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} أن اللَّهَ نَزَّلَهُ عليكَ في حالِ كونِه مُتَلَبِّسًا بالحقِّ؛ لأن كُلَّ ما فيه حَقٌّ، لا يأمرُ إلا بخيرٍ، ولا يَنْهَى إلا عن شَرٍّ، ولا يُخْبِرُ إلا بصدقٍ، إلى غيرِ ذلك من أمورِ أحقيتِه. ومعنَى الآيةِ: علماءُ اليهودِ والنصارى الذين تطلبونَ أن نتحاكمَ إليهم هم يعلمونَ أن هذا الكتابَ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ حقٌ، وأني رسولُ اللَّهِ، ولأنهم يعلمونَ أن الكتابَ حَقٌّ [وأنه] (¬1) {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}. وقوله: {بِالْحَقِّ} كأنه في مَحَلِّ حالٍ. أي: في حالِ كونِه متلبسًا بِالْحَقِّ (¬2)، والحقُّ: ضِدُّ الباطلِ. ومعناه: أن هذا القرآنَ لا باطلَ فيه، كُلُّهُ حَقٌّ، وَكُلُّهُ هُدًى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس: آية 32] كما يأتِي إيضاحُه في قولِه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: آية 115] وهذا معنَى قولِه: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: آية 114] (الفاء) كأنها سببيةٌ. أي: يتسببُ عن كونِ هذا القرآنِ حَقًّا لاَ شَكَّ فيه ألا يمتريَ أَحَدٌ فيه. ¬

(¬1) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة لربط أجزاء الكلام. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 124).

وقولُه: {الْمُمْتَرِينَ (94)} هو جمعُ الْمُمْتَرِي. والممتريُ: اسمُ فاعلِ امْتَرَى، يَمْتَرِي، فهو مُمْتَري: إذا كان شَاكًّا (¬1). وأصلُه: (ممتريُ) من المِرْيَة، والمِرْيَةُ: الشكُّ. [ومعلومٌ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ شَاكًّا فيما أَوْحَى اللَّهُ إليه، وإنما هذا كقولِه: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)} [الإنسان: آية 24] وكقولِه: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14)} [الأنعام: آية 14] وكقولِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: آية 1] ولاَ يَخْفَى أن رسولَ اللَّهِ صلواتُ اللَّهِ] (¬2) وسلامُه عليه أنه مُتَّقٍ لله وأنه لا يطيعُ منهم آثِمًا ولا كَفُورًا، وأنه لا يشركُ. وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا (¬3) أنه جَرَتَ العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ (جل وعلا) يأمرُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَيَنْهَاهُ ليُشرِّعَ ذلك الأمرَ والنهيَ لأُمَّتِهِ على لسانِه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه هو القدوةُ لَهُمْ، المُشَرِّعُ لهم بقولِه وفعلِه وتقريرِه، وَمِنْ أَكْبَرِ الأدلةِ على ذلك: هو ما قَدَّمْنَا في آيةِ بنِي إسرائيلَ، وهي قولُه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: آية 23] هذا خطابٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على التحقيقِ؛ لأن كُلَّ الخطاباتِ في الآياتِ له، يقولُ له اللَّهُ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} يعني: إِنْ يَبْلُغْ عندَك والداك الكبرَ أو أحدُ وَالِدَيْكَ {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} ومعلومٌ أن وقتَ نُزُولِهَا أن وَالِدَيْهِ قد مَاتَا مِنْ زَمَانٍ؛ لأن أباه مَاتَ وهو حَمْلٌ، وأمُّه مَاتَتْ وهو (صلواتُ الله عليه ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: مرى) ص 766. (¬2) في هذا الموضع انقطاع في التسجل وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (90) من هذه السورة ..

وسلامُه) صغيرٌ، فَعُرِفَ أنه أَمَرَهُ بأنه إن بلغَ وَالِدَاهُ أو أحدُهما الْكِبَرَ أن يَبَرَّهُمَا، وهما قد مَاتَا، لا يُمْكِنُ بِرُّهُمَا، عَرَفْنَا من ذلك أنه يأمرُه ليُشرِّعَ للناسِ على لسانِه - صلى الله عليه وسلم -، وقد بَيَّنَّا مِرَارًا أن مِنْ أساليبِ اللغةِ العربيةِ [15/ب] المعروفةِ: / أن الإنسانَ يُخَاطِبُ إنسانًا والمرادُ عندَه بالخطابِ غيرُه (¬1)، وَذَكَرْنَا فيه مرارًا المثلَ المعروفَ: (إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ) (¬2) وَبَيَّنَّا فيما مَضَى أنه مِنْ رَجَزٍ لرجلٍ من بني فزارةَ، يُسَمَّى: سهل بن مالكٍ، نَزَلَ في بيتِ حارثةَ بنِ لأم الطائيِّ، ووجدَه غائبًا، فأكرَمَتْه أُخْتُهُ، وَأُعْجِبَ بِجَمَالِهَا، فَأَرَادَ أن يُعَرِّضَ لها بالخطبةِ فخاطبَ أُخرى غيرَها قائلاً: يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَةْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَةْ أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَةْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ فَعَلِمَتْ بنتُ (¬3) حارثةَ بنِ لأم الطائيِّ أن الخطابَ مُوَجَّهٌ إليها وإن كانَ يخاطبُ غيرَها حيث قال: «إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ». فَأَجَابَتْ قَائِلَةً: إِنِّي أَقُولُ يَا فَتَى فَزَارَةْ ... لاَ أَبْتَغِي الزَّوْجَ وَلاَ الدَّعَارَةْ وَلاَ فِرَاقَ أَهْلِ هَاذِي الْحَارَةْ ... فَارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِاسْتِحَارَةْ والشاهدُ من هذا الرَّجَزِ قولُه: «إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ» ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (2/ 485 - 487، 500)، (3/ 191)، بصائر ذوي التمييز (1/ 109)، فتح الباري (3/ 174، 355). (¬2) انظر: المثل ومناسبته في كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم ص 65، (وانظر معه في الهامش رقم (2)، مجمع الأمثال للميداني (1/ 80 - 81) .. (¬3) هذا من سبق اللسان. وإلا فهي أخته.

فهو أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، يخاطبُ الإنسانُ إِنْسَانًا لينقلَ الخطابَ بواسطتِه إلى غيرِه، والقرآنُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، ولا سيما أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو الْمُشَرِّعُ، فَمَا أُمِرَ بِهِ أو نُهِيَ عنه صارَ مُشَرَّعًا لأُمَّتِهِ (صلواتُ الله وسلامُه عليه) ولذا قال هنا: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: آية 114] وقالت جماعةٌ من أهلِ العلمِ: الخطاباتُ في قولِه: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: آية 65] كالخطابِ العامِّ الْمُوَجَّهِ لجميعِ الناسِ وإن كان لفظُه مُفْرَدًا (¬1)، كما هو معروفٌ، كقولِ طَرَفَةَ بنِ العبدِ (¬2): سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً ... وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ فَإِنَّ هذا الخطابَ لفظُه كأنه مفردٌ، ومعناه عامٌّ مُوجَّهٌ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه الخطابُ. هذا معنَى قولِه: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} أي: لا تَكُونَنَّ يا نَبِيَّ اللَّهِ. أي: يا مخاطبُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الخطابُ: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ (49)} أي: في الشَّاكِّينَ في أن هذا الكتابَ مُنَزَّلٌ من اللَّهِ. أي: لا تَكُونَنَّ من الممترين في أن الذين آتَيْنَاهُمُ الكتابَ يعلمونَ أنه مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بالحقِّ. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: آية 115] {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} قرأ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عدا الكوفيين الثلاثةَ، قرأه من السبعةِ: نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عَامِرٍ كُلُّهُمْ قرؤوا: {وتمت كلماتُ ربك صدقًا وعدلا} بصيغةِ الجمعِ، وقرأه الكوفيونَ، أَعْنِي: عَاصِمًا وحمزةَ والكسائيَّ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 209). (¬2) البيت من معلقته. وهو في شرح القصائد المشهورات (1/ 94).

بالإفرادِ (¬1). ومعنَى القراءتين واحدٌ؛ لأَنَّ (الكلمةَ) أُضِيفَتْ إلى معرفةٍ فتعمُّ، كقولِه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: آية 34] أي: نِعَمَ اللَّهِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: أوامره {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي: كلماتُ رَبِّكَ. وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في آياتٍ من كتابِه أن كلماتِه (جل وعلا) لا حصرَ لها ولا نهايةَ، كما قال في قولِه جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: آية 27]، وكقولِه: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: آية 109] والمرادُ بالتمامِ هنا: الكمالُ التامُّ من جميعِ الجهاتِ، والمعنَى: أن كلماتِ الله - ومنها هذا القرآنُ العظيمُ - أنها بالغةٌ غايةَ الكمالِ والتمامِ. وقولُه: {صِدْقًا وَعَدْلاً} قال بعضُهم (¬2): هما تمييزٌ مُحوَّلٌ عن الفاعلِ. أي: تَمَّ صِدْقُهَا وَعَدْلُهَا. وقال بعضُ العلماءِ (¬3): هما مصدرانِ حالانِ. أي: تَمَّتْ في حالِ كونِها صادقةً عادلةً. وأعربهما بعضُ العلماءِ بأن كِلَيْهِمَا ما نَابَ عن الْمُطْلَقِ؛ لأن التمامَ يتضمنُ معنَى الصدقِ والعدالةِ، أي: تَمَّتْ، أي: صَدَقَتْ وعَدَلَتْ. {صِدْقًا وَعَدْلاً} والمعنَى أنها كاملةٌ صِدْقًا فِي أخبارِها، وَعَدْلاً في أحكامِها. وقولُه: {صِدْقًا} أي: في جميعِ الأخبارِ {وَعَدْلاً} أي: في جميعِ الأحكامِ. فما في القرآنِ من أحكامٍ فهو في ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 210. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 124). (¬3) انظر: الدر المصون (5/ 124).

غايةِ العدالةِ والإنصافِ ومراعاةِ مصالحِ البشرِ في دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وما فيه من الأخبارِ فهو صحيحٌ حَقٌّ مُطَابِقٌ للواقعِ، لا يأتيه الباطلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ. يعنِي أن ما تُخْبِرُونَ فيه من الأخبارِ هو حَقٌّ، وما تُؤْمَرُونَ فيه وما تُنْهَوْنَ عنه فيه من الشرائعِ فهو في غايةِ العدالةِ والكمالِ، وإذا كانت كلماتُ اللَّهِ بهذه المثابةِ من الكمالِ والصدقِ في الأخبارِ والعدالةِ في الأحكامِ فليس لأحدٍ أن يطلبَ عنها غيرَها، فَاللَّهُ (جل وعلا) كلماتُه تامةٌ في عدالتِها، كُلُّ شَرْعِهِ في غايةِ العدالةِ والإنصافِ والإحكامِ، وَكُلُّ أخبارِه في غايةِ الصدقِ؛ وَلِذَا فإن هذا القرآنَ العظيمَ جاء للبشريةِ بخيرِ الدنيا والآخرةِ، أما في دارِ الدنيا: فجاءَ فيه تنظيمُ علاقاتِها، أُمِرَ فيه الفردُ بأن يكونَ لَبِنَةً صالحةً لبناءِ المجتمعِ، بأن يكونَ سَخِيًّا باذلاً لِمَا لَدَيْهِ، وأن يكونَ شُجَاعًا مُضَحِّيًا، وأن يكونَ مُخْلِصًا لأُمَّتِهِ لا يغشها، إلى غيرِ ذلك من مكارمِ الأخلاقِ. وعَلَّمَ الإنسانَ كيفَ يُعَاشِرُ أقربَ الناسِ إليه؛ زوجتَه وأبناءه وَأُسْرَتَهُ الأَدْنَيْنِ، أَمَرَهُ أن يتحفظَ منهم غايةَ التحفظِ لِدِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ لأنهم رُبَّمَا أَوْقَعُوهُ فيما لا يَنْبَغِي، ثم أَمَرَهُ إذا وَجَدَ منهم ما لاَ يحبُ أن يعاملَهم باللينِ والصفحِ والمغفرةِ، كما قال في التغابن: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] فَمِنْ شدةِ حكمتِه يُعَلِّمُ الإنسانَ كيف يُعَاشِرُ أسرتَه الأَدْنَيْنِ، وَأَنْ يَحْذَرَ مِنْ شَرِّ امْرَأَتِهِ وأولادِه؛ لئلاَّ يُضَيِّعُوا عليه دِينَهُ أو دُنْيَاهُ، ثم إذا عَثَرَ منهم على ما لاَ ينبغي أَمَرَهُ ألا يعاملهم بالشدةِ والمكروهِ؛ ولذا قال في هذه الآيةِ: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ثم قال - إذا رأى منهم ما يَكْرَهُ -: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)} وَعَلَّمَ الإنسانُ

كيف يعاشرُ مجتمعَه، وَبَيَّنَ له ما يعاشرُ به مجتمعَه من الوفاءِ والإخلاصِ والبذلِ والسخاءِ والتضحيةِ، وَأَمَرَ الرؤساءَ أن يَلِينُوا للمرؤوسين، وأن يَسْعَوْا في مصالحِهم وَيُنْصِفُوهُمْ، ويلينوا لهم الجانبَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: آية 159] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: آية 88] وَأَمَرَ المرؤوسين أَنْ يُطِيعُوا الرؤساءَ، ويعاونوهم على الخيرِ والسمعِ والطاعةِ؛ لتتحدَ جهودُ الجميعِ إلى ما فيه مصلحةُ الدنيا والآخرةِ. وَأَحَاطَ الجواهرَ الستَّ التي عليها مدارُ المظالمِ والإنصافاتِ في دارِ الدنيا؛ لأن جميعَ المظالمِ والإنصافاتِ في دارِ الدنيا إذا تَأَمَّلْتَهَا فهي راجعةٌ إلى ستةِ جواهرَ، اعتْنَى دينُ الإسلامِ بالإحاطةِ بها، وهذه الجواهرُ الستُّ - أعنِي بها - الدِّينَ والنفسَ والنسبَ والعقلَ والمالَ والعِرْضَ. هذه الجواهرُ الستُّ التي تدورُ حَوْلَهَا المظالمُ والإنصافاتُ في الدنيا (¬1)، وأعظمُها: دينُ الإنسانِ. فهؤلاء الذين يَأْتُونَ البلادَ متمسكةً بدينٍ، وَيَدُسُّونَ لهم السمومَ والمذاهبَ الهدامةَ والتعاليمَ الخبيثةَ، حتى يُضَيِّعُوا دينَهم، وَيَفْصِلُوا بينَهم وبينَ خالقِهم، هذا أكبرُ عُدْوَانٍ، وأعظمُ جريمةٍ عَرَفَهَا التاريخُ. كذلك الأنفسُ بعدَ ذلك، الذي يَظْلِمُ إنسانًا فيقتلُه ظُلْمًا، ثم بعدَ ذلك تكونُ العقولُ كالذي يضيعُ عقلَ الإنسانِ، أو إنسانٌ يُضَيِّعُ عقلَ نفسِه، كالذي يشربُ الخمرَ. فَاللَّهُ (جل وعلا) حَمَى الدِّينَ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬2) حمايةً للدين. وقال اللَّهُ جل وعلا: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ¬

(¬1) انظر: المستصفى (1/ 287)، أضواء البيان (3/ 449). (¬2) البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، حديث رقم (6922)، (12/ 267).

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: آية 39] وقد حَمَى اللَّهُ الأنفسَ؛ ولذلك شرعَ القصاصَ حياطةً لأنفسِ الناسِ؛ لأَنَّ مِنْ أعظمِ السدِّ دونَ القتلِ وهو شرعيةُ القصاصِ، وَاللَّهُ يقولُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: آية 179] هذا من مراعاةِ القرآنِ لمصالحِ البشريةِ في دينِها وَدُنْيَاهَا؛ لأن القاتلَ إذا احترقَ قلبُه من الغضبِ فأخذَ الآلةَ ليقتلَ تَذَكَّرَ إيقافَه للقصاصِ على الخشبةِ للقتلِ فَارْتَعَدَتْ فرائصُه، وَخَافَ من ذلك الموقفِ الهائلِ، فَسَلِمَ هو مِنَ القتلِ، وَسَلِمَ مَنْ كان يريدُ أن يقتلَه، كما قَالَ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: آية 179] وقد جعلَ على العقولِ حِمًى، حيث حَرَّمَ شربَ كُلِّ ما يضرُّ بالعقلِ من مسكرٍ ونحوِه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» (¬1) ¬

(¬1) هذه الجملة رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) منهم: 1 - عبد الله بن عمر (رضي الله عنه): - أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام برقم: (2003) (3/ 1587). 2 - أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): - أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر، برقم: (242)، (1/ 354)، وأطرافه في: (5585، 5586)، ومسلم في الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام. برقم: (2001)، (3/ 1585) بلفظ: (كل شراب أسكر فهو حرام). 3 - جابر بن عبد الله (رضي الله عنه): - أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام برقم: (2002)، (3/ 1587). 4 - أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه): - أخرجه البخاري في المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم: (4343، 4344، 4345)، (8/ 62)، وأطرافه في (6124، 7172)، وأخرجه مسلم في الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، برقم: (977)، (3/ 1585). 5 - بريدة (رضي الله عنه): - أخرجه مسلم في الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت. حديث رقم: (977)، (3/ 1585). وفي الباب - في غير الصحيحين - عن ابن مسعود، وأشج عبد القيس، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وأبي وهب الجيشاني ووائل بن مُحبر، وابن عباس، وأنس، وعبد الله بن عمرو، وقيس بن سعد بن عبادة، وبريدة، وفيروز بن الديلمي، وأبي سعيد الخدري، وعلي، وعبد الله بن المغفل، وقرة بن إياس، وميمونة (رضي الله عنهم أجمعين).

«مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» (¬1). . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) الحديث جاء عن جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) منهم: 1 - عائشة: - أخرجه أحمد في المسند (6/ 71، 72، 131)، وأخرجه في كتاب الأشربة كذلك ص 97، وأبو داود في السنن، كتاب الأشربة، باب ما جاء في السكر، برقم: (3670) (10/ 151)، والترمذي في السنن، أبواب الأشربة، باب ما جاء أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم: (1866) (4/ 293)، وابن الجارود في المنتقى كما في الغوث (3/ 154)، وأبو يعلى في المسند (7/ 322)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 216 - 217)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (7/ 379)، والطبراني في الأوسط (4/ 194، 216، 223، 249)، (9/ 130)، وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 1255)، (3/ 994)، (4/ 1624)، وأخرجه الدارقطني في السنن بألفاظ مختلفة (4/ 254 - 256) وأخرجه ابن حزم في المحلى (7/ 500، 510)، والبيهقي في السنن (8/ 296) وفي الشعب (10/ 191)، والجوزجاني في الأباطيل والمناكير (2/ 238)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250)، والألباني في صحيح الجامع برقم: (5407)، وصحيح أبي داود (2/ 703). 2 - زيد بن ثابت: - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (5/ 139) وفي الأوسط (6/ 291)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250). 3 - سعد بن أبي وقاص: - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم: (3815)، والنسائي في الكبرى، كتب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم: (5118، 5119) بلفظ: (نهى عن قليل ما أسكر كثيره)، وأخرجه في السنن الصغرى، كتاب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم: (5608 - 5609) (8/ 301)، والدارمي في سننه (2/ 39)، وابن الجارود (3/ 154)، وأبو يعلى في المسند (2/ 55) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 216)، وابن حبان في الصحيح (كما في الإحسان 7/ 375)، والدارقطني (4/ 251) وابن حزم في المحلى (7/ 500) والبيهقي في الكبرى (8/ 296) وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وهو في الدراية (2/ 250). 4 - ابن عمر: - أخرجه أحمد (2/ 91)، وابن ماجه في السنن، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم: (3392)، (2/ 1124) والطبراني في الأوسط (1/ 197)، (4/ 155)، (5/ 106)، (8/ 52) وفي الكبير (12/ 381)، وابن عدي (1/ 387)، (4/ 1589)، (6/ 2254، 2389)، (7/ 2519)، والدارقطني في العلل (2/ 17) وانظر السنن له (4/ 262)، وابن حزم في المحلى (7/ 500) والبيهقي (8/ 296)، وهو في نصب الراية (4/ 301) وفي التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250)، وصحيح ابن ماجه (2/ 245). 5 - جابر بن عبد الله: - أخرجه أحمد (3/ 343)، وأخرجه في كتاب الأشربة برقم (148)، وأبو داود في السنن، كتاب الأشربة، باب ما جاء في السكر، برقم: (3664)، (10/ 121)، والترمذي في السنن، كتاب الأشربة، باب ما جاء: ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم: (1865)، (4/ 292)، وقال: وفي الباب عن سعد، وعائشة، وعبد الله بن عمرو، وابن عمر، وخوَّات بن جبير، وأخرجه ابن ماجه، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم: (3393)، (2/ 1125)، وابن الجارود (3/ 153)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 217)، وابن حبان (كما في 7/ 379)، وابن عدي (3/ 1177)، وابن حزم في المحلى (7/ 500)، والبيهقي في السنن (8/ 296) وفي شعب الإيمان (10/ 192)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 255)، والبغوي (11/ 350 - 351)، والجوزجاني في الأباطيل (2/ 237)، والمزي في تهذيب الكمال (8/ 377)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250)، والألباني في صحيح الجامع برقم: (5406)، صحيح أبي داود (2/ 702)، صحيح الترمذي (2/ 170)، صحيح ابن ماجه (2/ 245). 6 - خَوّات بن جبير: - أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 233)، والطبراني في الكبير (4/ 205) وفي الأوسط (2/ 171)، والدارقطني في السنن (4/ 254) والحاكم في المستدرك (3/ 466)، وابن الأثير في الاستيعاب (1/ 445)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدارية (2/ 250). 7 - أنس بن مالك: - أخرجه أحمد (3/ 112) وأبو يعلى (7/ 50)، وذكر الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، والهيثمي في المجمع (5/ 56) وقال: «رواه أحمد وأبو يعلى ... والبزار باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح» ا. هـ، وذكره ابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250). 8 - عبد الله بن عمرو: - أخرجه أحمد (2/ 167، 2/ 179)، والنسائي في الكبرى، كتاب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم: (5117)، (3/ 216)، وفي كتاب الأشربة المحظورة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم: (6820)، (4/ 186)، وأخرجه في الصغرى في كتاب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم (5607)، (8/ 300)، وابن ماجه في السنن، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام. برقم: (3394)، (2/ 1125)، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 217)، والدارقطني (4/ 254، 257، 258)، وابن حزم في المحلى (7/ 500) والبيهقي (8/ 296) وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في الدراية (2/ 250) وفي التلخيص (4/ 73)، وانظر صحيح ابن ماجه (2/ 245)، صحيح النسائي (5180). 9 - علي بن أبي طالب: - أخرجه الدارقطني (4/ 250)، والبيهقي (8/ 296)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250) وقال فيه: «إسناده ساقط» ا. هـ. 10 - ابن عباس: - أخرجه الدارقطني (4/ 256).

{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ} [المائدة: آية 90] إلى قولِه: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وتحريمُ هذه المسكراتِ كُلِّهَا مُحَافَظَةً من النظامِ السماويِّ على عقولِ الناسِ؛ لأَنَّ مَنْ شَرِبَ فضاعَ عقلُه ارتكبَ كُلَّ فاحشةٍ وكلَّ سوءٍ - والعياذُ بالله - لأَنَّ نورَ العقلِ هو النورُ الذي يميزُ الإنسانَ به بينَ الْحَسَنِ والقبيحِ، والنافعِ والضارِّ، فربما إذا سَكِرَ رُبَّمَا وَقَعَ على ابنتِه، وَرُبَّمَا ضربَ جَارَهُ. وَذَكَرَ بعضُهم في تفسيرِ آيةِ الخمرِ في سورةِ المائدةِ: أنه رَأَى شَائبًا شَارِبًا - والعياذُ بالله - يبولُ في يَدَيْهِ - يتخيلُ للخبيثِ أنه يَتَوَضَّأُ - ويستنشقُ ويتمضمضُ بالبولِ، ويغسلُ وجهَه ولحيتَه بالبولِ، ويقولُ: الحمدُ لله الذي جعلَ الإسلامَ نُورًا، والماءَ طَهُورًا (¬1)!! وهو لا يَدْرِي أنه يغسلُ وجهَه بالبولِ والعياذُ بالله!! فالخمرُ أُمُّ الخبائثِ، ولمحافظةِ دينِ الإسلامِ على العقولِ حَرَّمَ كُلَّ ما يضرُّ بالعقلِ، فَحَرَّمَ شربَ الخمرِ، وأوجبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحدَّ في شربِها، كذلك حافظَ القرآنُ العظيمُ على أنسابِ الناسِ، فَمَنَعَ الزِّنَى صيانةً للأنسابِ، وَتَطْهِيرًا لِلْفُرُشِ من التقذيرِ؛ لئلاَّ تتقذرَ فُرُشُ المجتمعِ، وتختلطَ أنسابُه؛ ولذا قال: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ ¬

(¬1) انظر: التفسير الكبير (6/ 46)، روح المعاني (1/ 114)، تفسير المنار (2/ 327)، وانظر: ما يشبه هذه الحكاية في القرطبي (3/ 57).

فَاحِشَةً} [الإسراء: آية 32] وأوجبَ في الزنا الجلدَ الرادعَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: آية 2] كُلُّ هذا محافظةً على الأنسابِ ومكارمِ الأخلاقِ؛ لئلاَّ تتقذرَ فُرُشُ المجتمعِ، وتختلطَ أنسابُه. وفي آيةٍ مُحْكَمَةِ الحكمِ منسوخةِ التلاوةِ: أن الزانيَ المحصنَ أنه يُرْجَمُ؛ لأن جريمتَه عُظْمَى، والذي اعتادَ النساءَ لا يصبرُ عَنْهُنَّ، فكانَ الزجرُ في جنبِه أغلظَ؛ لأنه ارتكبَ أخسَّ جريمةً، وتعرضَ لاختلاطِ أنسابِ الناسِ، وتقذيرِ فرشِ المجتمعِ، فَقَتَلَهُ القرآنُ أشدَّ قِتْلَةٍ، في آيةٍ منسوخةِ التلاوةِ باقيةِ الحكمِ: «الشيخُ [والشيخةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» فهذا الحدُّ] (¬1) يُطَهَّرُ به البدنُ. ¬

(¬1) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. وقد جاء في بعض الروايات زيادة: «بما قضيا من اللذة». وأصل الخبر المشار فيه لآية الرجم - دون لفظها - ثابت مشهور، أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. وقد رواه عن الزهري: ابن عيينة، ومعمر، ويونس، ومالك، وصالح بن كيسان، وعقيل، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهُشيم، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الملك بن أبي بكر، والحسن بن محمد بن الصبَّاح. وكلهم يرويه من غير هذه الزيادة (والشيخ والشيخة ... ) إلخ، سوى سفيان بن عيينة عند بعض من أخرج الحديث من طريقه؛ كما في ابن أبي شيبة (10/ 75، 76)، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب الرجم، حديث رقم (2553)، (2/ 853)، والنسائي في الكبرى، باب: تثبيت الرجم، حديث رقم: (7156)، (4/ 273)، والبيهقي (8/ 211). وأما رواية البخاري ومسلم للحديث من طريق سفيان فمن دون هذه الزيادة، وهو عند عبد الرزاق في المصنف (7/ 330)، عن ابن عباس من غير طريق الزهري. وقد أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود (ما جاء في الرجم) حديث رقم (1501)، ص592، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (6/ 323)، وفي الكبرى (8/ 212 - 213)، من طريق سعيد بن المسيب - منقطعًا - عن عمر بهذه الزيادة. مع أن هذه الرواية أخرجها أحمد والترمذي من غير الزيادة السابقة. والحديث - بهذه الزيادة - له عدة شواهد وهي: 1 - من حديث زيد بن ثابت (رضي الله عنه) عند أحمد (5/ 183)، والدارمي (2/ 100)، والنسائي في الكبرى، كتاب الرجم، باب: نسخ الجلد عن الثيب، حديث رقم (7145)، (7148)، (4/ 270 - 271)، والبيهقي (8/ 211)، والحاكم (4/ 360)، وابن حزم (11/ 235). 2 - من حديث أبي بن كعب (رضي الله عنه) عند أحمد (5/ 132)، وعبد الرزاق (7/ 329 - 330)، والنسائي في الكبرى، كتاب الرجم، باب: نسخ الجلد عن الثيب، حديث رقم (7150)، (4/ 271)، والبيهقي في السنن (8/ 211)، وفي المعرفة (3/ 473)، والضياء في المختارة (3/ 370 - 371)، والطيالسي ص 73، وابن حبان (6/ 301 - 302)، والحاكم (2/ 415)، (4/ 359)، وابن حزم في المحلى (11/ 234). وقال ابن كثير (3/ 465): «هذا إسناد حسن» ا. هـ. وقال ابن حزم في المحلى (11/ 235): «هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه» ا. هـ. 3 - من حديث أبي أمامة (سهل بن حنيف) عن خالته العجماء، عند النسائي في الكبرى، كتاب الرجم، باب: نسخ الجلد عن الثيب، حديث رقم (7146)، (7147)، (4/ 270 - 271)، والحاكم (4/ 359). وهذه الزيادة قد صححها بعض أهل العلم وضعفها آخرون. انظر: الإرواء (8/ 3)، صحيح ابن ماجه (2/ 81).

وهذه نُبَذٌ قليلةٌ يَفْهَمُ بها الإنسانُ كيفَ حافظَ دينُ الإسلامِ على مصالحِ البشرِ، وأحاطَ أديانَهم، وأحاطَ أنفسَهم، وَحَفِظَ عقولَهم

وأنسابَهم وأعراضَهم وأموالَهم، كُلُّ هذا تشريعُ رَبِّ العالمينَ، ينظمُ فيه علاقاتِ الدنيا على أكملِ الوجوهِ، ويهذبُ أرواحَها لِتَتَّقِيَ. والقرآنُ العظيمُ اعْتَنَى بالإنسانِ من نَاحِيَتَيْهِ: من ناحيتِه الجسديةِ، وناحيتِه الروحيةِ؛ لأن هذا الحيوانَ المسمَّى بالإنسانِ هو مركبٌ من عُنْصُرَيْنِ مختلفين في الحقيقةِ أشدَّ الاختلافِ، أحدُهما: يُسَمَّى الروحَ. والثاني: يُسَمَّى الجسدَ. ولابدَّ لكلٍّ منهما من متطلباتٍ، فللروحِ متطلباتٌ لاَ تكفي عنها متطلباتُ الجسدِ، وللجسدِ متطلباتٌ لا تكفي عنها متطلباتُ الروحِ. فالقرآنُ العظيمُ جاء للإنسانِ بمتطلباتِه الجسديةِ، ومتطلباتِه الروحيةِ، فَنَظَّمَ له جميعَ العلاقاتِ التي بها تَقَدُّمُهُ وقوتُه في الدنيا في جميعِ الميادينِ من حيثُ إنه جسدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَبَيَّنَ له طرقَ الصلةِ بالله لتتهذبَ روحُه على ضوءِ النورِ السماويِّ؛ لأن الروحَ هي التي لها الأهميةُ، والمادةُ إذا طَغَتْ وَقَوِيَتْ وَلَمْ تقدها روحٌ مهذبةٌ كانت ويلةً عُظْمَى على البشريةِ. وَأَنْتُمْ تشاهدونَ هذا في الدنيا، تشاهدونَ الكتلةَ الشرقيةَ والغربيةَ، كِلْتَاهُمَا نَجَحَتْ غايةَ النجاحِ في خدمةِ الإنسانِ من حيث إنه جسدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَأَفْلَسَتَا كُلَّ الإفلاسِ في خدمةِ الإنسانِ من ناحيتِه الروحيةِ، وَصَارَتْ هذه المادةُ لم تَقُدْهَا روحٌ مرباةٌ مهذبةٌ على ضوءِ تعليمٍ سماويٍّ، فكانت ويلةً عُظْمَى على البشريةِ، وخطرًا داهمًا يهددُ الإنسانَ، ولذلك تجدونَهم يعقدونَ المؤتمرَ بعدَ المؤتمرِ، والمجلسَ بعدَ المجلسِ لِيُدَمِّرُوا القوةَ التي بذلوا فيها النفسَ والنفيسَ خَوْفًا منها، وَكُلٌّ منهم يبيتُ في قلقٍ وخوفٍ من القوةِ التي بذلوا فيها النفسَ والنفيسَ!!. كُلُّ ذلك إنما جاءَهم من إهمالِهم الناحيةَ الروحيةَ؛ لأَنَّ أرواحَهم لو كانت مرباةً على ضوءِ نورٍ سماويٍّ من تعاليمِ ربِّ

العالمين كان البشرُ في أمنٍ وطمأنينةٍ أن تلك الروحَ المهذبةَ المرباةَ لا تقودُ تلك المادةَ الطاغيةَ والقوةَ الهائلةَ إلا قيادةً طبيعيةً لخيرِ البشريةِ وخيرِ الدنيا والآخرةِ؛ فإهمالُ الناحيةِ الروحيةِ هو مِنْ أعظمُ البلايا والويلاتِ. ونحن دائمًا نُنَبِّهُ أبناءَنا معاشرَ المسلمين؛ لأنا نأسفُ كُلَّ الأسفِ أنهم أَضَلَّتْهُمُ الحضارةُ الغربيةُ، فَانْفَصَلُوا عن تعاليمِ السماءِ، وَقَطَعُوا الصلةَ بينَهم وبينَ مَنْ فَتَحَ أعينَهم، ونحن نبينُ لهم الحقائقَ، ونضربُ لهم الأمثالَ؛ لأن الحضارةَ الغربيةَ بالاستقراءِ التامِّ الذي لا يمكنُ أن يُكَابِرَ فيه إلا مكابرٌ جاحدٌ للمحسوسِ جَمَعَتْ بينَ نافعٍ لا مِثَالَ لنفعِه، وبين ضارِّ لاَ مِثَالَ لضرِّه. أما الذي حصلته من النفعِ: فهو ما حَصَلَتْ عليه من التقدمِ الماديِّ، والتقدمِ التنظيميِّ في جميعِ ميادينِ الحياةِ، فهذا الأمرُ كماءِ الْمُزْنِ، والتواكلُ عنه عَجْزٌ وَضَعْفٌ وَتَمَرُّدٌ على نظامِ السماءِ؛ لأَنَّ نظامَ السماءِ يأمرُ المسلمَ أن يكونَ قَوِيًّا مُتَقَدِّمًا في جميعِ الميادينِ العمليةِ، سَابِحًا في جميعِ الميادينِ العمليةِ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] هذا الأمرُ كأنه يقولُ: أَعِدُّوا ما يكونُ في المستطاعِ من القوةِ كَائِنًا ما كَانَ، مَهْمَا تَطَوَّرَتِ القوةُ، ومهما بَلَغَتْ، فالمتواكلونَ العَجَزَةُ الذين لا يُعِدُّونَ القوةَ متمردونَ على نظامِ السماءِ، مخالفونَ لأَمْرِ خالقِ السماواتِ والأرضِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] وَمَنْ نَظَرَ في القرآنِ وجدَه جَامِعًا بَيْنَ الأمرين: الأمرِ بالقوةِ والتقدمِ، مع المحافظةِ على الآدابِ الروحيةِ. وَنَحْنُ دَائِمًا نضربُ بعضَ الأمثالِ: اقرؤوا آيَتَيْنِ من سورةِ النساءِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ

وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ [النساء: الآيتان 102، 103] هذا وقتُ التحامِ الكفاحِ المُسَلَّحِ، والرؤوسُ تنزلُ عن الأعناقِ، وفي هذا الوقتِ الحَرِجِ نظامُ السماءِ والقرآنُ العظيمُ يدبرُ الخطةَ العسكريةَ على أكملِ الوجوهِ، في الوقتِ الذي يُحَافِظُ فيه على الاتصالِ بخالقِ هذا الكونِ، وتربيةِ الروحِ بأدبٍ سَمَاوِيٍّ من آدابِ السماءِ، وهو الصلاةُ في الجماعةِ، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ في سورةِ الأنفالِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: آية 45] وقوله: {فَاثْبُتُوا} تعليمٌ عسكريٌّ سماويٌّ، يأمرُ به خالقُ السماواتِ والأرضِ بالصمودِ في الميدانِ في خطوطِ النارِ الأماميةِ. وفي هذا الوقتِ الضنكِ يقولُ اللَّهُ (جل وعلا): {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} هكذا فَلْيَكُنِ المؤمنُ، قَوِيًّا في جميعِ الميادينِ، مُحَافِظًا على آدابِه الروحيةِ متصلاً بربِّه صلةً روحيةً؛ لأَنَّ الروحَ المهذبةَ على ضوءِ التعليمِ السماويِّ تقودُ المادةَ والقوةَ قيادةً طبيعيةً حكيمةً، ليس بها ويلةٌ على البشرِ. وما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ من المنافعِ، وما جَنَتْهُ من المضارِّ نضربُ له في المناسباتِ مثلاً يصيرُ به المعقولُ كالمحسوسِ، مثالُ ذلك (¬1): هو أن رَجُلاً بَعِيدًا من العمرانِ، مُنْقَطِعًا في آخِرِ رَمَقٍ من الحياةٍ وَجَدَ ماءً عَذْبًا زُلاَلاً وَسُمًّا قاتلاً فَتَّاكًا، فحالُه مع هذا السمِ القاتلِ والماءِ العذبِ الزلالِ، حالُه لابدَّ أن تكونَ واحدةً من أربعِ حالاتٍ: إما أن يَشْرَبَهُمَا معًا، وإن شربهما معًا لم ينتفع بالماءِ الزلالِ؛ لأن السمَّ الفتاكَ يقتلُه، وإن تَرَكَهُمَا معًا انقطعَ عن الركبِ، ¬

(¬1) انظر: الأضواء (4/ 381).

وماتَ في الطريقِ. وإن شَرِبَ السمَّ وتركَ الماءَ فهذا رجلٌ أحمقُ أهوجُ لا يُبَيِّنُ نَافِعًا من ضَارٍّ، وإن كان رجلاً عاقلاً شَرِبَ الماءَ وتركَ السُّمَّ. فالحضارةُ الغربيةُ فيها ماءٌ عذبٌ زُلاَلٌ، وفيها سُمٌّ فَاتِكٌ قَتَّالٌ. أما ما فيها من الماءِ الزلالِ: فهو ما أَنْتَجَتْهُ من القوةِ الماديةِ؛ والقوةِ التنظيميةِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. وأما ما فيها من السمِّ الفاتكِ القتَّالِ: فهو التمردُ على نظامِ السماءِ، والطغيانُ والعصيانُ لخالقِ هذا الكونِ (جل وعلا)، والإفلاسُ الكليُّ في الآدابِ الروحيةِ السماويةِ. فعلينا معاشرَ المؤمنين أن نَتَنَبَّهَ لهذا، ونفرقَ بين السمِّ والماءِ، فنأخذ من الحضارةِ الغربيةِ ما اسْتَطَعْنَا من قوتِها الماديةِ، ونجتنبَ كُلَّ التَّجَنُّبِ، ونتباعد كُلَّ البعدِ عن سُمِّهَا الفتاكِ القتَّالِ، مما جَنَتْهُ من التمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةُ خالقِ هذا الكونِ، والانحطاطُ الخلقيُّ، وضياعُ الأخلاقِ والقيمِ الروحيةِ الإنسانيةِ. والذي يُؤْسِفُ كُلَّ الأسفِ أن أغلبَ - إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ - مَنْ يُحَرِّكُونَ الدَّفَّاتِ ربما أخذوا منها ضَارَّهَا من الانحطاطِ الخلقيِّ؛ والزهد في الإسلامِ، وقطع الصلةِ بالله، وعدم صلةِ السماءِ بالأرضِ، في الوقتِ الذي هم فيه مفلسونَ كُلَّ الإفلاسِ من مائِها الزلالِ، ومنافعِها الدنيويةِ، فَعَكَسُوا القضيةَ والعياذُ بالله. مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا ... وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلاَسَ بِالرَّجُلِ (¬1) فَعَلَى المسلمِ أن يفرقَ بين ما يَضُرُّ وما ينفعُ، ويفرقُ بين ضارِّ الحضارةِ الغربيةِ ونافعِها، ويستفيدُ من نافعِها من القوةِ الماديةِ ¬

(¬1) هذا البيت يُنسب لأبي دلامة الأسدي، وهو في ديوانه ص77.

والتنظيميةِ، ويحذرُ كُلَّ الحذرِ من ضارِّها من الانحطاطِ الخلقيِّ، والتمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةِ خالقِ هذا الكونِ؛ لأنَّ الإنسانَ في هذه الدنيا إذا فَقَدَ صلتَه بخالقِ السماءِ الذي فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وجعلَ له فيها النورَ، وأبدعَه من غرائبِ صنعِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، مَنْ خَسِرَ صلتَه بالله خَسِرَ كُلَّ شيءٍ، ولم يَبْقَ له في الدنيا شيءٌ، فَعَلَى المسلمين أن يحافظوا على تراثِهم الروحيِّ، وآدابِهم السماويةِ من طاعةِ خالقِ هذا الكونِ، في الوقتِ الذي هم فيه ينتفعونَ بالمادةِ والقوةِ. ونحنُ نُبَيِّنُ لإخوانِنا مِرَارًا أن دينَ الإسلامِ يأمرُ بالمحافظةِ على التعاليمِ السماويةِ والآدابِ الروحيةِ، ويأمرُ بالتقدمِ الدنيويِّ في جميعِ الميادينِ، حتى ولو كان ذلك التقدمُ الدنيويُّ العقولُ الذي أَنْتَجَتْهُ: عقولُ كفرةٍ فجرةٍ، وكذلك كان سيدُ البشرِ، مُرَبِّي هذا الْخَلْقِ، ومبينُ الطريقِ له- نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان كذلك يفعلُ (¬1). أنتم تعلمونَ في التاريخِ أنه لَمَّا حاصرَه الأحزابُ في غزوةِ الخندقِ ذلك الحصارَ العسكريَّ التاريخيَّ العظيمَ المنصوصَ في قولِه: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: الآيتان 10، 11] لَمَّا وَقَعَ هذا قال له سلمانُ الفارسيُّ (رضي الله عنه): كُنَّا إذا خِفْنَا خَنْدَقْنَا (¬2). فالخندقُ خطةٌ عسكريةٌ، العقولُ التي ابْتَكَرَتْهَا عقولُ فارسَ، وهم مجوسٌ يعبدونَ النارَ، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَقُلْ: هذه الخطةُ العسكريةُ نجسةٌ قذرةٌ؛ لأن ¬

(¬1) انظر: الأضواء (4/ 383). (¬2) تاريخ الطبري (3/ 44).

العقولَ التي ابْتَكَرَتْهَا عقولُ كفرةٍ. لاَ، بل أخذَ الخطةَ الكافريةَ التي مبدؤها من الكفارِ، واستعانَ بها في دُنْيَاهُ، وهو مُرْضٍ رَبَّهُ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ، متمسكٌ بالآدابِ السماويةِ والتصفيةِ الروحيةِ. وكذلك لَمَّا تَكَالَبَتْ عليه قُوَى الشَّرِّ، وَاضْطُرَّ إلى أن يخرجَ من وطنِه مُهَاجِرًا إلى هذه المدينةِ حَرَسَهَا اللَّهُ، والناسُ كُلُّهُمْ حربٌ عليه، واضطر إلى أن يدخلَ هو وصاحبُه الصِّدِّيقُ (رضي الله عنه) إلى أن يدخلاَ في غَارٍ خَوْفًا من المشركين، كما بينه اللَّهُ في سورةِ براءةِ: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ} [التوبة: آية 40] وَجَدَ رجلاً كافرًا يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأُريقط الدؤلي (¬1)، ولكنه عندَه خبرةٌ دنيويةٌ، فهو خبيرٌ دنيويٌّ كافرٌ، يعرفُ الطرقَ، والطرقُ المعهودةُ بينَ مكةَ والمدينةِ جعلَ الكفارَ عليها الرَّصَدَ والعيونَ، إذا سَلَكُوهَا أخذوا، فصارَ هذا الخبيرُ الكافرُ- عبدُ اللَّهُ بنُ الأُريقط الدؤليُّ- يعلمُ طُرُقًا غيرَ معهودةٍ. سَاحَلَ به إلى جهةِ البحرِ، وجاء به من طرقٍ غيرِ معهودةٍ، حتى أَوْصَلَهُ المدينةَ بسلامٍ (¬2) [فلم يَمْنَعْهُ كفرُه من الانتفاعِ بخبرتِه الدنيويةِ] (¬3). على حَدِّ قولِهم: (اجْتَنِ الثمارَ، وَأَلْقِ الخشبةَ في النارِ). لم يمنعه من ذلك كونُه كافرًا، وهو فيما بينَه وبينَ رَبِّهِ مُرْضٍ رَبَّهُ، محافظٌ على الآدابِ السماويةِ، والتهذيبِ الروحيِّ على ضوءِ تعليمِ السماءِ. ¬

(¬1) هناك بعض الاختلاف في اسمه انظر: الفتح (7/ 237 - 238). (¬2) انظر: البخاري، كتاب مناقب الأنصار باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة. حديث رقم (3905)، (7/ 230). (¬3) وقع في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - همَّ أن يمنعَ وطءَ النساءِ إذا كانت تُرْضِعُ أَوْلاَدَهُنَّ؛ لأن العربَ كانوا يظنونَ أن المرأةَ إذا أتاها زوجُها وهي ترضعُ أن ذلك الوطءَ يُضْعِفُ عظمَ ولدِها ويضرُّه، هذا كان مَشْهُورًا عندَ العربِ، وكانوا إذا رَمَى الرجلُ بالسيفِ فَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ ولم يَقْطَعْ، قالوا: هذا رَجُلٌ وُطِئَتْ أُمُّهُ وهو يَرْضَعُ، كما قال شاعرُهم (¬1): فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ ... فَتَنْبُو فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ فَارِسُ والرومُ أنهم يفعلونَ ذلك ولا يضرُّ أولادَهم أخذَ هذه الخطةَ الطبيةَ من الكفارِ (¬2). والقصدُ أن نُنَبِّهَ إخوانَنا على أن دينَ الإسلامِ دينُ تَقَدُّمٍ في الميدانِ، ودينُ قوةٍ، ليس دينَ جمودٍ، ولا دينَ إخلادٍ إلى الأرضِ، بل هو دينُ كفاحٍ وقوةٍ وجهادٍ وَتَقَدُّمٍ في الميدانِ، وَقَوْدُ الدنيا وإضاءتُها بالنورِ إلى ما ينفعُها في دنياها ودينها، وقد نَظَّمَ اللَّهُ فيه- في كتابِه- علاقاتِ البشرِ في الدنيا والآخرةِ، وأوضحَ لهم ما يَحْيَوْنَ به في الدنيا حياةً سعيدةً، ويَحْيَوْنَ به الحياةَ الأبديةَ بعدَ الموتِ حياةً سعيدةً، فعلى المسلمِ أن يعلمَ أن دينَ الإسلامِ دينُ كفاحٍ وتقدمٍ في الميدانِ، إلا أنه يجبُ فيه المحافظةُ على طاعةِ خالقِ هذا الكونِ؛ لأَنَّ هذا الكونَ له خالقٌ هو الذي خَلَقَهُ، ومَلِكٌ هو الحكمُ العدلُ فيه، ولم يترك الناسَ سُدًى. أَمَرَهَمُ وَنَهَاهُمْ، فلابد أن تطاعَ أوامرُه، وَتُسْلَكَ طرقُه التي أَمَرَ بها، وكلُّ ذلك ما فيه للإنسانيةِ إلا خيرُ الدنيا ¬

(¬1) البيت في الكامل ص177. (¬2) مسلم، كتاب النكاح، باب: جواز الغيلة، حديث رقم (1442)، (2/ 1066).

والآخرةِ؛ ولذا قال (جل وعلا) هنا: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: آية 115] صدقًا في كُلِّ ما تُخْبِرُ به من الأخبارِ، وَعَدْلاً في كُلِّ ما تَحْكُمُ به من الأحكامِ، وكلِّ ما تُشَرِّعُهُ للبشريةِ. وقولُه جل وعلا: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} قولُه: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لأن كلماتِ الله (جل وعلا) هي في غايةِ الحقِّ والصدقِ والعدالةِ لا يمكنُ أحدًا أن يبدلَها ويُحوِّلَ عدالتَها جَوْرًا، أو يُحَوِّلَ صِدْقَهَا كَذِبًا، لا يمكنُ أحدًا أن يفعلَ ذلك، فَهِيَ في غايةِ العدالةِ والصدقِ والكمالِ، لا يمكنُ أحدًا أن يغيرَها فيجعلَ عَدْلَهَا جَوْرًا، ولا أن يجعلَ صِدْقَهَا كَذِبًا أبدًا. ثم قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} هو السميعُ لِكُلِّ ما يقولُه خَلْقُهُ، العليمُ بكلِّ ما يعملُه خلقُه، وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬1): أنه جَرَتِ العادةُ في القرآنِ: أن اللَّهَ لا يذكرُ آياتٍ تتضمنُ أوامرَ ونواهيَ إِلاَّ وترى بعدَها الواعظَ أكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ؛ لأنه لا خلافَ بَيْنَ العلماءِ أنه لا يوجدُ واعظٌ أكبرُ، ولا زاجرٌ أعظمُ من زاجرِ المراقبةِ والعلمِ. وهو أن يعلمَ هذا الإنسانُ المسكينُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مطلعٌ عليه، يعلمُ ما يُسِرُّ وما يُعْلِنُ، حتى ما يخطرُ في قلبِه فهو يعلمُه (جل وعلا). إن الله يعلم خطراتِ القلوبِ، وكيف يجهلُ خطراتِ القلوبِ مَنْ هُوَ خالقُ خطراتِ القلوبِ؟ {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: آية 14]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: آية 16] فاللَّهُ يقولُ لنا في كُلِّ موضعٍ من كتابِه، لا تكادُ تقلبُ ورقةً واحدةً من المصحفِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

الكريمِ إلا وَجَدْتَ فيها هذا الواعظَ الأكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ (سميعٌ عليمٌ)، (عليمٌ حكيمٌ)، (سميعٌ بصيرٌ) يَعْلَمُ كذا. لا تكادُ تجدُ ورقةً إلا فيها أن اللَّهَ يعلمُ ما نفعلُ، وهذا أكبرُ واعظٍ، وأعظمُ زاجرٍ، وقد ضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا: لو فَرَضْنَا أن في هذا البراحَ من الأرضِ مَلِكًا عَظِيمًا شديدَ البَأْسِ، عظيمَ النكالِ، شديدَ الغضبِ إذا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ، قَتَّالاً للرجالِ، سَفَّاكًا للدماءِ، وحولَه سَيَّافُهُ، والنطعُ مبسوطٌ، والسيفُ يقطرُ دَمًا، وحولَ هذا الْمَلِكِ بناتُه ونساؤُه وجواريه، أيخطرُ في البالِ أن أحدًا من الحاضرين يُطِلُّ بريبةٍ أو غمزةٍ، أو إشارةِ عينٍ؟! لاَ وكَلاَّ، كُلُّهُمْ خَاضِعُ الطرفِ، خاشعُ الجوارحِ، أُمْنِيَتُهُ السلامةُ (¬1). ونحن نؤكدُ لكم أن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ اطِّلاَعًا، وأشدُّ بَطْشًا، وأفظعُ فَتْكًا إذا انْتُهِكَتْ حرماتُه جل وعلا. فعلى الإنسانِ أن يعلمَ أن هذا الواعظَ الأكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ، أن رَبَّهُ يسمعُ ما يقولُ، ويعلمُ ما يَنْوِي وما يفعلُ، إذا عَلِمَ الإنسانُ هذا فإنه يُحاسِبُ ويطيعُ رَبَّهُ، فلو عَلِمَ أهلُ بلدٍ من البلادِ أن أميرَ ذلك البلدِ يعلمُ كُلَّ ما يفعلونَه بالليلِ من الخسائسِ والدسائسِ بَاتُوا مُتَأَدِّبِينَ، كَافِّينَ عن كُلِّ ما لا ينبغي. وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ- مع عظمتِه وجلالِه- يُبَيِّنُ لخلقِه أنه مُطَّلِعٌ عليهم، عَالِمٌ بما يفعلونَ، ومع هذا لا يَتَأَدَّبُونَ، ولا يَنْزَجِرُونَ!! فهذه وقاحةٌ عُظْمَى، وجهلٌ كبيرٌ؛ ولأجلِ هذا أَنْتُمْ تعلمونَ في آياتٍ من كتابِ اللَّهِ أن اللَّهَ بَيَّنَ أن الحكمةَ التي خَلَقَ من أجلِها الخلائقَ، والموتَ والحياةَ، والسماواتِ والأرضَ، هي أن يَبْتَلِيَهُمْ على ألسنةِ رُسُلِهِ، أيهم يحسنُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة.

العملَ مِمَّنْ لاَ يُحْسِنُهُ، كما قال تعالى في أولِ سورةِ هودٍ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] وقال في أولِ سورةِ الكهفِ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} [الكهف: آية 7] وقال في أولِ سورةِ الملكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] وإذا عَرَفَ العاقلُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ خَلَقَهُ ليبلوه ويختبرَه: أهو يُحْسِنُ العملَ أَمْ لاَ يُحْسِنُهُ؟ وربُّنا يقولُ: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولم يَقُلْ: (أَيُّكُمْ أكثرُ عملاً) فلابدَّ أن يقول الإنسانُ: يا ليتني عرفتُ الطريقَ التي أنجحُ بها في هذا الاختبارِ، ويكون عَمَلِي حَسَنًا؛ ولأجلِ هذه المهمةِ العُظْمَى لَمَّا غَفَلَ عنها أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جاء جبريلُ (عليه السلام) في صفةِ أعرابيٍّ في حديثِه المشهورِ الصحيحِ (¬1)؛ لِيُبَيِّنَ لهم هذه المهمةَ الكبرى، والواعظَ الأكبرَ؛ ولذا قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ضمنِ حديثِه المشهورِ: يا محمدُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ. يعني: والإحسانُ هو الذي خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ أَجْلِ الاختبارِ فيه، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ أن الإحسانَ الذي خُلِقَ الخلقُ للاختبارِ فيه لا يمكنُ أن يحصلَ إلا بهذا الزاجرِ الأعظمِ والواعظِ الأكبرِ ( ... ) (¬2). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬2) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. ولاستيفاء النقص راجع كلام الشيخ (رحمه الله) في هذا الموضوع عند تفسير الآيات: (59، 128) من سورة الأنعام، (56، 61) من سورة الأعراف، (43، 71) من سورة الأنفال.

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} [الأنعام: آية 116 - 120]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: آية 116]. أخبرَ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ليبينَ على لسانِه لأُمَّتِهِ أن مَنْ أَطَاعَ أكثرَ الناسِ أَضَلُّوهُ عن سبيلِ اللَّهِ، وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن أكثرَ الخلقِ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ، وهو كذلك، كما جاء مُبَيَّنًا في أحاديثَ كثيرةٍ صحيحةٍ، وآياتٍ من كتابِ اللَّهِ (¬1)، فَمِنَ الآياتِ الدالةِ على ذلك قولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17)} [هود: آية 17] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [هود: آية 103] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} [الصافات: آية 71] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8)} [الشعراء: آية 8] وقد ثَبَتَ في الصحيحين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن نصيبَ الجنةِ من الناسِ وَاحِدٌ من الأَلْفِ، وأن نصيبَ النارِ تسعةٌ وتسعونَ وتسعمائة. هذا ثابتٌ في الصحيحين عن ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 208).

النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفي الصحيحِ: أن الله يقولُ لآدمَ يومَ القيامةِ: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ آدَمُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ. فَيُقَالُ له: يا آدمُ أَخْرِجْ خلقَ النارِ. فيقولُ: يا رَبِّي، وما خَلْقُ النارِ؟ فيخبرُه رَبُّهُ أنه تسعةٌ وتسعونَ وتسعمائة من كُلِّ أَلْفٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا ضَاقَ على الصحابةِ، وَحَزِنُوا من هذا لقلةِ نصيبِ أهلِ الجنةِ، وكثرةِ نصيبِ النارِ، فَبَيَّنَ لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كثرةَ الكفرةِ الفجرةِ، وأن يأجوجَ ومأجوجَ يمكنُ أن يكونَ منهم الألفُ ومنكم الواحدُ (¬1)؛ ولذا قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: آية 116] المرادُ بالأرضِ على التحقيقِ: جميعُ أهلِ الدنيا الذين هُمْ في الأرضِ، خِلاَفًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ المرادَ بها أرضُ مكةَ، وأن المرادَ أكثرُ أهلِها مِنْ رؤساءِ الكفرةِ. التحقيقُ هو التعميمُ (¬2). وقولُه: {يُضِلُّوكَ} هو جزاءُ الشرطِ، منصوبٌ بحذفِ النونِ، مضارعُ (أَضَلَّهُ، يُضِلُّهُ) إذا جَعَلَهُ ضَالاًّ، وَتَسَبَّبَ له في الضلالِ عن طريقِ الصوابِ. وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أن الضلالَ- أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمينَ منه- يُطْلَقُ في القرآنِ العظيمِ وفي اللغةِ العربيةِ إطلاقاتٍ متعددةً على ثلاثةِ أنحاءَ (¬3): يُطْلَقُ الضلالُ في اللغةِ والقرآنِ على ¬

(¬1) الحديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم (3348)، (6/ 382)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (4741، 6530، 7483). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: قوله: (يقول الله: يا آدم، أخرج بعث النار ... ) حديث رقم (222)، (1/ 201) .. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 210). (¬3) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

الذهابِ عن طريقِ الحقِّ إلى طريقِ الباطلِ، كالذي يذهبُ عن طريقِ الْهُدَى إلى طريقِ الكفرِ، وعن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ. وهذا الاسْتِعْمَالُ أكثرُ استعمالاتِ الضلالِ. ومنه قولُه تعالى: {غَيْرِ الْمَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: آية 7] وهذا أكثرُ معناه في القرآنِ. وَيُطْلَقُ الضلالُ في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ: على الغيبوبةِ والاضمحلالِ. فَكُلُّ شيءٍ غَابَ وَاضْمَحَلَّ وذهبَ تقولُ العربُ: «ضَلَّ». ومنه قولُ العربِ: «ضَلَّ السَّمْنُ في الطعامِ» إذا طُبِخَ فيه وَغَابَ فيه، ومنه بهذا المعنَى في القرآنِ: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} [الأنعام: آية 24] أي: غَابَ وَبَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، ومنه بهذا المعنَى في القرآنِ: قولُه تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] يَعْنُونَ: أن عظامَهم أَكَلَتْهَا الأرضُ، فَاخْتَلَطَتْ بالترابِ، فَذَهَبَتْ وَاضْمَحَلَّتْ فيها كما يضمحلُ السمنُ في الطعامِ؛ وَمِنْ أجلِ هذا المعنَى كانت العربُ تُسَمِّي الدفنَ (إضلالاً)، إذا دَفَنُوا الميتَ في قبرِه تقولُ العربُ: «أَضَلُّوهُ». أي: غَيَّبُوهُ فِي قَبْرِهِ؛ لأن مآلَه إلى أن تَأْكُلَهُ الترابُ، كَمَا قالوا: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] ومن إطلاقِ العربِ الإضلالَ على الدفنِ كما ذَكَرْنَا قولُ المُخَبَّلِ السعديِّ يَرْثِي قيسَ بنَ عاصمٍ المنقريَّ التميميَّ (¬1): أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيدَهَا ... وَفَارِسَهَا فِي الدَّهْرِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمِ فقولُه: «أَضَلَّتْ» يعنِي: دَفَنَتْ عَمِيدَهَا قيسَ بنَ عاصمٍ لَمَّا مَاتَ. ومنه بهذا المعنَى: قولُ نابغة ذبيانَ يرثِي النعمانَ بنَ ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: ضلل) (2/ 546).

الحارثِ بنِ أبِي شمر الغسانيَّ (¬1): فَإِنْ تَحْيَا لاَ أَمْلِكْ حَيَاتِي، وَإِنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاتِي بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ ... فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجَوْلاَنِ حَزْمٌ ونَائِلُ فقولُه: «آبَ مُضِلُّوه» يعنِي: رَجَعَ دَافِنُوهُ في قَبْرِهِ. (بعينٍ جَلِيَّةٍ) أي: بخبرٍ يقينٍ أنه قد مَاتَ. ومن هذا المعنَى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: آية 24] أي: غَابَ وَاضْمَحَلَّ. وقولُ الشاعرِ (¬2): أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ ... عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا يعنِي بالحيِّ المضللِ: الذين ذَهَبَتْ بهم الأيامُ والليالِي فَمَاتُوا وَغَابُوا. ويطلقُ الضلالُ أيضًا في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ على: الذهابِ عن معرفةِ حقيقةِ الشيءِ، فكلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حقيقةَ شيءٍ تقولُ العربُ: «ضَلَّ». وهذا ليس من الضلالِ في الدينِ، وإنما هو الذهابُ عن علمِ معرفةِ الشيءِ. وهذا الإطلاقُ كثيرٌ في القرآنِ، ومنه على أَصَحِّ التفسيراتِ: قولُه تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7)} [الضحى: آية 7] أي: ذَاهِبًا عما تَعْلَمُهُ الآنَ من العلومِ والأسرارِ، فهداكَ إليه بالوحيِ؛ لأنه لا يُعْلَمُ إلا بالوحيِ. ومنه بهذا المعنَى: قولُ أولادِ يعقوبَ في حَقِّ أَبِيهِمْ: {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف: آية 95] {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)} [يوسف: آية 8] يعنونَ: لَفِي ذهابٍ عن حقيقةِ الأمرِ، حيث فَضَّلَ ابْنَيْنِ على عشرةِ بنينَ، وحيث ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

رَجَا يوسفَ أنه حَيٌّ وهو قد مَاتَ، فهو ذاهبٌ عن علمِ الحقيقةِ في زَعْمِهِمْ، ومن الضلالِ بهذا المعنَى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى (52)} [طه: آية 52] أي: لا يَخْفَى عليه عِلْمُ شيءٍ، ولا تذهبُ عليه حقيقةُ شيءٍ، ومنه بهذا المعنَى قولُه تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: آية 282] أي: تذهبُ عن علمِ حقيقةِ المشهودِ به بنسيانٍ ونحوِه {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وَمِنَ الضلالِ بهذا المعنَى قولُ الشاعرِ (¬1): وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلاً أَرَاهَا فِي الضَّلاَلِ تَهِيمُ يعني بالضلال: عدمَ معرفتِها للحقيقةِ حيث ظَنَّتْ أنه يبغي بها بَدَلاً، وهو لا يبغي بها بدلاً. هذه معانِي الضلالِ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ. وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {يُضِلُّوكَ} هو من المعنَى الأولِ. أي: يُذْهِبُوكَ عن طريقِ الصوابِ إلى طريقِ الباطلِ، عن طريقِ الهدى إلى طريقِ الْجَوْرِ، وعن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ. وهذا معنَى قولِه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: آية 116] السبيلُ في لغةِ العربِ: الطريقُ (¬2). وهي تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَمِنْ تَأْنِيثِهَا في القرآنِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: آية 108] ولم يَقُلْ: «هذا سبيلي». وَمِنْ تذكيرِها في القرآنِ: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ... [الأعراف: آية 146] فَهِيَ من أسماءِ الأجناسِ التي تُذَكَّرُ ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: المفردات (مادة: سبل) ص395.

وتؤنثُ (¬1). والسبيلُ: الطريقُ. وسبيلُ [16/أ] اللَّهِ مَعْنَاهُ: طريقُ اللَّهِ. وَأَضَافَ تلك الطريقَ إلى اللَّهِ؛ / لأنه هو الذي شَرَّعَهَا، وَبَيَّنَ مَعَالَمَهَا، وَأَمَرَ بسلوكِها، وَوَعَدَ مَنْ سَلَكَهَا خيرَ الدنيا والآخرةِ (¬2). فسبيلُ اللَّهِ- التي هي الحقُّ، التي أَمَرَ بها، وبعثَ بها أنبياءَه- مَنْ أَطَاعَ أكثرَ مَنْ في الأرضِ أَضَلُّوهُ عنها إلى سبيلِ الشيطانِ وطريقِ الجورِ عن الحقِّ. وهذا معنَى قولِه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. ثم بَيَّنَ (جل وعلا) أن أكثرَ أهلِ الأرضِ الضالينَ المضلينَ لَمْ يكن عندَهم مُسْتَنَدٌ عِلْمِيٌّ في ضلالِهم، وإنما هي ظُنُونٌ وتخميناتٌ، حيث قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} يعني: ما يَتَّبِعُونَ إلا الظنَّ {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: آية 116] (إن) هنا نافيةٌ بمعنَى: (ما) (¬3)، والمعنَى: ما يتبعونَ شَيْئًا إلا الظنَّ، وما هم إلا يَخْرُصُونَ. والخَرْصُ معناه: الكذبُ، وأصلُ الْخَرْصِ: هو الحَزْرُ والتخمينُ (¬4)، ومنه: «خَرَصَ ما على النخلةِ فَحَزَرَهُ». لأَنَّ الكاذبَ لا يتحرى في الأمورِ، بل يُخمِّنُ ويحزُر، ولا يتحرَّى الحقائقَ، ومن هنا قيلَ للكذبِ خرص. ومنه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذاريات: آية 10] أي: لُعِنَ الكذابونَ؛ لأَنَّ الخارصَ يظنُّ ويحزُرُ، ولاَ يتحرَّى ويتحققُ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: مدارج السالكين (1/ 11). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 71)، الدر المصون (5/ 125). (¬4) انظر: المفردات (مادة: خرص) ص279، القرطبي (7/ 71)، البحر المحيط (4/ 210)، الدر المصون (5/ 65).

والظنُّ يُطْلَقُ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ يُطْلَقُ إطلاقين (¬1): أَحَدُهُمَا: يُطْلَقُ (الظنُّ) على الشكِّ المستوي الطرفين. وكونُ الظنِّ جُلُّ الاعتقادِ اصطلاحٌ حادثٌ للأُصُولِيِّينَ والفقهاءِ، أما لغةُ العربِ فتطلِقُ الظنَّ إطلاقين، وهما في القرآنِ: أحدُهما: إطلاقُ الظنِّ بمعنَى الشكِّ، ومنه قولُه هنا: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [النجم: آية 28] الشكُّ في تقليدِ آبائِهم، وهذا الظنُّ- الذي هو شَكٌّ- هو المرادُ في قولِه: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: آية 28] {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} [يونس: آية 36]. الثاني من إطلاقِ (الظنِّ) في القرآنِ: هو إطلاقُ الظنِّ مُرَادًا به اليقينُ، وهذا كثيرٌ أيضًا في القرآنِ وفي كلامِ العرب، فَمِنْ إطلاقِ الظنِّ مرادًا به اليقينُ في القرآنِ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللَّهِ} [البقرة: آية 249] أي: يُوقِنُونَ أنهم ملاقُو اللَّهِ {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: آية 46] {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيهْ (20)} [الحاقة: آية 20] أي: أَيْقَنْتُ ذلك: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا} أي: أَيْقَنُوا {أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: آية 53]. ومن إطلاقِ الظنِّ في لغةِ العربِ بمعنَى اليقينِ: قول دُريدِ بنِ الصِّمَّةِ الجُشَميِّ حيث قال (¬2): فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسرَّدِ فقولُه: «ظُنُّوا» أي: أَيْقِنُوا بألفِ فارسٍ مُدَجَّجٍ بالسلاحِ. ومنه بهذا المعنَى قولُ عَمِيرَةَ بنِ طارقٍ (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدَ فِيكُمُ ... وَأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا يعني: أجعل مني اليقين غَيْبًا مُرَجَّمًا. ومن إطلاقِ (الظنِّ) في كلامِ العربِ بمعنَى (الشكِّ) قولُ طَرَفَةَ بنِ العبدِ (¬1): وأعْلَمُ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِّ أَنَّهُ ... إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهْوَ ذَلِيلُ فقولُه: «ليس بالظنِّ»: ليس بالشكِّ. هذه إطلاقاتُ (الظنِّ) في القرآنِ وفي لغةِ العربِ، والمرادُ بالظنِّ في الآيةِ: الشكُّ. والمعنَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [الأنعام: آية 116] أي: ما يَتَّبِعُونَ إلا الشكَّ حيث قَلَّدُوا آباءَهم في أَمْرِ جهلٍ لا يعلمونَ حقيقتَه: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون؛ لأن الخرصَ الحَزْرُ والتخمينُ من غيرِ معرفةِ الحقيقةِ، ومن هنا أُطْلِقَ على الكذبِ (¬2)، كقولِه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذاريات: آية 10] أي: لُعِنَ الكَذَّابون. وقولُه هنا: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: آية 116] أي: مَا هُمْ إلا يكذبونَ في قولِهم: إِنَّ الميتةَ حلالٌ؛ لأنها ذبيحةُ اللَّهِ، وفي ادعائِهم الشركاءَ والأولادَ لِلَّهِ - سبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: آية 66] أي: لاَ يتبعونَ شركاءَ في نفسِ الأمرِ، ولا في الحقِّ، إن يتبعونَ إلا ظَنًّا. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} [الأنعام: آية 117] لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ أن أكثرَ أهلِ الأرضِ ضَالُّونَ ¬

(¬1) ديوانه ص84، اللسان (مادة: حظرب)، (1/ 666). (¬2) انظر: المفردات (مادة: خرص) ص 279.

مُضِلُّونَ، وأنه إن أَطَاعَهُمْ أَضَلُّوهُ بَيَّنَ أنه (جل وعلا) عَالِمٌ بمن سبقَ له الضلالُ في الأزلِ، وَمَنْ سَبَقَ له الْهُدَى في الأزلِ، فَيُيَسِّرُ كُلاًّ منهما لِمَا خَلَقَهُ له؛ لأن أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سألوه وقالوا: هذه الأعمالُ التي نَسْعَى لها وجزاؤُها وما نصيرُ إليه، هَلْ هو أمرٌ مُؤتَنَفٌ، أو أمر قُضِيَ وَكُتِبَ وَفُرِغَ منه؟ فَلَمَّا بَيَّنَ لهم أن اللَّهَ قَدَّرَ ما سَيَكُونُ، قالوا: أَفَلاَ نَتَّكِلُ على الكتابِ السابقِ، ونتركُ العملَ؟ فَمَنْ قَدَّر اللَّهُ له الجنةَ لابدَّ أن يدخلَها، وَمَنْ قَدَّرَ له النارَ لابدَّ أن يدخلَها؟ فَأَخْبَرَهُمْ - صلى الله عليه وسلم - أن كُلاًّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له (¬1). فهو يخلقُ الخلقَ وَيَجْبُلُهُمْ على ما يشاءُ، مِنْ خُبْثٍ وطِيبٍ ثم يُيَسِّرُ كلاًّ لِمَا خَلَقَهُ له: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: آية 2] {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: آية 7] {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: آية 105] فهو (جل وعلا) يخلقُ الناسَ وَيُيَسِّرُ كُلاًّ لِمَا خلقه له من خيرٍ أو شَرٍّ: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: آية 117] الذي سَبَقَ له الْهُدَى في الأزلِ فَيُيَسِّرُهُ لِلْهُدَى. وأعلمُ بالمعتدِي الضالِّ الذي سَبَقَ له الضلالُ في الأزلِ فييسره لِلْعُسْرَى - والعياذُ باللَّهِ- كما قال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: الآيات 5 - 10] وَلِذَا قال هنا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} (أعلم) هنا ليست في معنَى صيغةِ التفضيلِ، بل هي هنا بمعنَى الوصفِ (¬2)؛ لأن صيغةَ التفضيلِ لابدَّ أَنْ يشتركَ فيها المُفَضَّلُ والمُفَضَّلُ عليه في نفسِ المصدرِ، ثم يكونُ المُفَضَّلُ أكثرَ فيه من المُفَضَّلِ عليه (¬3)، فإذا قلتَ: «زَيْدٌ أعلمُ ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 126). (¬3) مضى عند تفسير الآية (58) من هذه السورة.

من عمرٍو» معناه: أنهما مشتركانِ في العلمِ إلا أن هذا يفوقُ هذا فيه، ولا يجوزُ أن تقولَ: «زَيْدٌ أعلمُ من الحمارِ»؛ لأن الحمارَ لاَ يشاركُه في العلمِ. وكذلك قولُه هنا: {أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} لا يشاركُ الناسُ رَبَّهُمْ في علمِ عواقبِ الناسِ، وما يؤولون إليه من ضلالٍ وَهُدًى؛ لأن ذلك لا يعلمُه إلا اللَّهُ؛ ولذلك صيغةُ التفضيلِ هنا بمعنَى الوصفِ، وقد تقررَ في علومِ العربيةِ: أن صيغةَ التفضيلِ تأتِي بمعنَى الوصفِ ليس مُرَادًا بها التفضيلُ، كقولِهم (¬1): «الناقصُ والأشجُّ أعدلاَ بَنِي أُمَيَّةَ» (¬2) أي: هما العادلانِ منهم. وهذا موجودٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الفرزدقِ (¬3): إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ يعنِي: دعائمُه عزيزةٌ طويلةٌ. وقولُ الشَّنْفَرَى (¬4): وِإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ يعنِي: لم أَكُنْ أنا هو العَجِلُ منهم. وكذلك هنا: {أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} هو الْعَالِمُ مَنْ يَضِلُّ عن سَبِيلِهِ. واختلفَ علماءُ العربيةِ في إعرابِ (مَنْ) في قولِه هنا: {مَنْ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (2/ 10)، ضياء السالك (3/ 120)، التوضيح والتكميل (2/ 133). (¬2) الناقص: هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، سُمي بذلك لنقصه أرزاق الجند. والأشج: هو عمر بن عبد العزيز، سُمي بذلك لشجة كانت في وجهه من ضرب دابة. انظر: التوضيح والتكميل (2/ 133). (¬3) مضى عند تفسير الآية (58) من هذه السورة. (¬4) البيت في شرح الأشموني (2/ 55)، التوضيح والتكميل (2/ 133).

يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) فعلماءُ الكوفةِ يقولونَ: إنها مفعولٌ به لـ (أعلم)؛ لأنهم يُجِيزُونَ عملَ صيغةِ التفضيلِ في نَصْبِهَا للمفعولِ، هذا قولُ الكوفيين. وَخَالَفَهُمْ عامةُ نحاةِ البصرةِ زَاعِمِينَ أن صيغةَ التفضيلِ لا يمكنُ أن تنصبَ المفعولَ؛ ولذا اختلفوا في إعرابِ بيتِ العباسِ بنِ مرداسٍ السُّلميِّ المشهورِ حيث قال (¬2): فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْحَيِّ حَيًّا مُصَبَّحًا ... وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا ... أَكَرَّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ... وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا فالكوفيونَ يقولون: (القوانس) مفعولٌ به لـ (أَضْرَبَ) التي هي صيغةُ التفضيلِ. والبصريونَ يقولونَ: لا يمكنُ أن تُنْصَبَ بصيغةِ التفضيلِ فهي منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّتْ عليه صيغةُ التفضيلِ، أي: نضربُ القوانسَ. وعلى قولِ البصريينَ فيكونُ قولُه: {مَنْ يَضِلُّ} منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّتْ عليه صيغةُ التفضيلِ، أي: يعلمُ مَنْ ضَلَّ عَنْ سبيلِه. وقال قومٌ: هو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ؛ لأن الأصلَ: (هو أعلمُ بِمَنْ ضَلَّ عن سبيلِه) فَحُذِفَ الباء ونُصِبَ بنزعِ الخافضِ، قالوا: ويدلُّ لهذا قولُه: {هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} فجاءَ بالباءِ في قولِه: {بِالْمُعْتَدِينَ (119)} وقولُه فِي أُخْرَيَاتِ النحلِ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النحل: آية 125] فجاءَ بالباءِ. وهذا الإعرابُ ضَعَّفَهُ الكوفيونَ؛ لأن النصبَ بنزعِ الخافضِ لا يكونُ إلا بعاملٍ يعملُ، وصيغةُ التفضيلِ لا تعملُ فِي المفعولِ ونحوِه. هذا قولُ العلماءِ. ¬

(¬1) انظر: ابن حرير (12/ 65)، القرطبي (7/ 72)، البحر المحيط (4/ 210)، الدر المصون (5/ 126). (¬2) البيتان في الخزانة (3/ 517)، البحر المحيط (4/ 210)، الدر المصون (1/ 261)، الأشموني (2/ 60).

والذي يظهرُ لنا في القواعدِ العربيةِ: أن هذه المسألةَ الصوابُ فيها مع الكوفيين لاَ مع البصريين، وأن صيغةَ التفضيلِ تنصبُ المفعولَ، وأنه لا مانعَ من ذلك؛ لأَنَّ صيغةَ التفضيلِ مُسْتَنِدَةٌ على مصدرٍ، فقولُه: «وَأَضْربَ مِنَّا بالسيوفِ القَوَانِسَا» في معنَى قَوْلِكَ: يَزيدُ ضَرْبُنَا القَوانِسَ على غيرِنا. وهذا لاَ مانعَ من عَمَلِهِ، فالمصدرُ الكامنُ فيها القياسُ أن يعملَ عملَ فِعْلِهِ. وَخَالَفَ البصريونَ في ذلك، وهذا معنَى كلامِ علماءِ العربيةِ في قولِه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: آية 117] عالم بالضالينَ في الأزلِ وهو مُيَسِّرُهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، وعالمٌ بالمهتدينَ في الأزلِ وَمُيَسِّرُهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، وهو يعلمُ أنكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَكَ من المهتدين، وأن مَنْ خَالَفَكَ مِنَ الضَّالِّينَ المعتدين. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}. {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} هذه الآياتُ كُلُّهَا إلى قولِه: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: الآيات 118 - 120] نَزَلَتْ لَمَّا قال الكفارُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ تأكلونَ ما قَتَلْتُمُوهُ بأيديكم، ولا تأكلونَ ما قَتَلَهُ اللَّهُ؟ يَعْنُونَ الميتةَ. ذَبِيحَتُكُمُ الني قتلتموها تأكلونَها، وتقولونَ: هي طَيِّبَةٌ حلالٌ مُستَلَذَّةٌ، والتي قَتَلَهَا اللَّهُ تقولونَ: هي ميتةٌ جيفةٌ قذرةٌ حرامٌ، فَأَنْتُمْ إِذَنْ أحسنُ من اللَّهِ!! فجاءت هذه الآياتُ رَدًّا عليهم (¬1). فقال لهم اللَّهُ (جل وعلا): ¬

(¬1) أبو داود كتاب الضحايا باب في ذبائح أهل الكتاب. حديث رقم (2801)، (8/ 13)، وانظر: حديث رقم (2802)، والترمذي كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأنعام. حديث رقم (3069)، (5/ 263)، والنسائي، كتاب الضحايا، باب تأويل قول الله عز وجل {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} حديث رقم (4437)، (7/ 237)، من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). وانظر: صحيح الترمذي رقم (2454)، وصحيح أبي داود رقم (2444)، (2445)، وصحيح النسائي رقم (4134).

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 118] لأَنَّ المسلمينَ إذا أرادوا أن يَذْبَحُوا سَمَّوُا اللَّهَ (جل وعلا) على ذبائحِهم عند الذبحِ، وكذلك إذا أَرَادُوا أن يَعْقِرُوا الوحشَ سَمَّوْا عند ذلك، وإذا أرادوا أن يُرْسِلُوا جَوَارِحَهُمْ كَالكلابِ والصقورِ والبزاةِ أَرْسَلُوهَا وَسَمَّوُا اللَّهَ على الصيدِ عندَ إرسالِها؛ ولذا قال لهم اللَّهُ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. قوله: {فَكُلُوا} أصلُه (اؤكلوا) لأنه مضارعُ (أَكَلَ) (¬1) ومعروفٌ في لغةِ العربِ ثلاثةُ أفعالٍ من فعلِ الأمرِ هي الأمرُ من (أَخَذَ)، و (أَمَرَ)، و (أَكَلَ) كُلُّهَا يجوزُ حذفُ الهمزةِ في الأمرِ (¬2)، فتقولُ في (أَخَذَ) في أَمْرِهَا: (خُذْ) (¬3)، وفي أَمْرِ (أَكَلَ): كُلْ، وفي أَمْرِ (أَمَرَ) مُرْ (¬4). أما (أَمَرَ) إذا كان قَبْلَهَا حرفُ عطفٍ فالأجودُ رَدُّهَا إلى الأصلِ (¬5)، كقولِه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ} [طه: آية 132] ¬

(¬1) وقد أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس (رضي الله عنهما) كما أخرجه عن غيره مرسلاً. انظر: تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1378، 1380)، وابن جرير (12/ 78) فما بعدها، أسباب النزول للواحدي ص223. وراجع ما سبق عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. () انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 321. (¬2) انظر: شرح الكافية (4/ 2166)، الدر المصون (1/ 280)، التوضيح والتكميل (2/ 478). (¬3) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 315. (¬4) انظر: شرح الكافية الشافية (4/ 2166). (¬5) المصدر السابق (4/ 2167)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 323، 315.

وأما إذا كان ليس قَبْلَهَا حرفُ عطفٍ فإن الهمزةَ تُحْذَفُ، كقولِه: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» (¬1)، «مُرُوهُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ لِعَشْرٍ» (¬2). أما (أَخَذَ) و (أكل) فالأجودُ فيهما حذفُ الهمزةِ في الأمرِ، تقولُ: «خُذْ» وَلاَ تقولُ: «أُخذ» وتقول: «كل» ولا تقول: «ءُأْكل» ورَدُّهُما إلى أصلِهما لغةٌ قليلةٌ. ¬

(¬1) البخاري في الطلاق، باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ... } الآية. حديث رقم (5251، 5333)، (9/ 345)، ومسلم في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها. حديث رقم (1471)، (2/ 1093). (¬2) ورد هذا الحديث مرفوعًا عن ثلاثة من الصحابة، وهم: 1 - سبرة بن معبد (رضي الله عنه) عند ابن أبي شيبة (1/ 347)، والدارمي (1/ 273)، وأبي داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة. حديث رقم (490)، (1/ 161)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء: متى يؤمر الصبي بالصلاة. حديث رقم (407)، (2/ 259)، وابن خزيمة (2/ 102)، والدارقطني (1/ 230)، والبيهقي (2/ 14)، (3/ 83)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 231)، وصحيح ابن خزيمة رقم (1002)، وانظر: صحيح أبي داود رقم (465)، وصحيح الترمذي رقم (334)، ومشكاة المصابيح رقم (572)، والإرواء (1/ 266). 2 - عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه). عند أحمد (2/ 180، 187)، وابن أبي شيبة (1/ 347)، وأبي داود في الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة. حديث رقم (491)، (1/ 162)، والدارقطني (1/ 230)، والحاكم (1/ 197)، والبيهقي (3/ 84)، وانظر: صحيح أبي داود رقم (466) والمشكاة رقم (572)، والإرواء (1/ 266). 3 - أنس بن مالك (رضي الله عنه) عند الدارقطني (1/ 231)، وفي سنده داود بن المُحبَّر، قال أحمد: لا يدري ما الحديث ا. هـ. وقال ابن المديني: ذهب حديثه، ا. هـ وقال الدارقطني: متروك ا. هـ الميزان (2/ 20).

والأمرُ في قولِه هنا: {فَكُلُوا} أمرُ إباحةٍ، وقد تَقَرَّرَ في فَنِّ الأصولِ أن مِنْ صِيَغِ (افْعَل) التي تأتِي لها: الإباحةُ (¬1). يعنِي: فَكُلُوا. والفاءُ هنا مُسَبَّبَةٌ عما قَبْلَهَا، إن زَعَمُوا أن الميتةَ ذبيحةُ اللَّهِ، وأنها خيرٌ من ذبيحتِكم؛ فَكُلُوا مِمَّا ذَكَّيْتُمْ وَذَكَرْتُمُ اسمَ اللَّهِ عليه عندَ الذَّكَاةِ، ولا تأكلوا من الميتةِ، ومما ذَبَحَهُ الكفارُ وذكروا عليه اسمَ الأصنامِ. كما يأتِي في قولِه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] فإنه قَابَلَ بَيْنَ الأمرِ والنهيِ، أَمَرَ بالأكلِ مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 118] وَنَهَى عن أكلِ ما لم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليه في قولِه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. ومعنَى ذِكْرِ اسمِ اللَّهِ عليه: هو أَنْ يُسمَّى على الذبيحةِ عندَ الذكاةِ، أو على العقيرةِ عندَ الاصطيادِ، أو على الجارحِ إذا أُرْسِلَ إلى الصيدِ، كُلُّ هذا يُسَمَّى اللَّهُ عليه وَيُؤْكَلُ منه، وسيأتِي ذلك في قولِه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَسَنَتَكَلَّمُ عليه هناكَ، وحاصلُه أن للعلماءِ فيه ثلاثةَ مذاهبَ (¬2): أحدُها: أَنَّ كُلَّ ما ذَبَحَهُ مسلمٌ ولم يَذْكُرِ اسمَ اللَّهِ عليه، أو صَادَهُ ولم يذكر اسمَ اللَّهِ عليه، أو أَرْسَلَ عليه جَارِحَهُ من كَلْبِهِ أو صَقْرِهِ أو بَازِهِ ولم يُسَمِّ اللَّهَ عليه؛ أنه لا يُؤْكَلُ، سواء تركَ التسميةَ عَمْدًا أو نِسْيَانًا. وهذا قالَ به طائفةٌ قليلةٌ في الذبيحةِ، وقال به جماعةٌ في الصيدِ، وهو روايةٌ قويةٌ عن أحمدَ بنِ حنبلٍ. وجمهورُ العلماءِ ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 18)، مذكرة الأصول ص 189. (¬2) انظر: المجموع (9/ 102) المغني (13/ 289_ 291)، المحلى (7/ 412_ 414)، القرطبي (7/ 75)، ابن كثير (2/ 169).

على أنه إِنْ تَرَكَ التسميةَ نِسْيَانًا فالذبيحةُ تُؤْكَلُ؛ لأنه ما تَرَكَهَا إلا نِسْيَانًا، والنسيانُ مَعْفُوٌّ عنه، وإن تَرَكَهَا عَمْدًا فلاَ تُؤْكَلُ عندَ جماهيرِ العلماءِ، خِلاَفًا للإمامِ الشافعيِّ وعامةِ أصحابِه في مشهورِ مذهبِه أنه إِنْ تَرَكَ التسميةَ وهو مسلمٌ أُكِلَتْ ذبيحتُه مُطْلَقًا، سواء تَرَكَهَا عَمْدًا أو نِسْيَانًا؛ لأَنَّ الشافعيَّ يُفَسِّرُ قولَه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} بما أُهِلَّ به لغيرِ اللَّهِ، أما المسلمُ عندَه فذبيحتُه حلالٌ سواء سَمَّى اللَّهَ أو لَمْ يُسَمِّ، سواءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أو نِسْيَانًا. وسيأتِي تفاصيلُ هذا في قولِه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. وقولُه هنا: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: مِمَّا ذَكَّيْتُمْ وَذَكَرْتُمُ اسمَ اللَّهِ عليه. والآيةُ على التحقيقِ في الذكاةِ، خِلاَفًا لبعضِ العلماءِ القائلِ: هي عَامَّةٌ. أي: كُلُّ طعامٍ: مِنْ خُبْزٍ أو لَحْمٍ أو غيرِه أو فاكهةٍ تُسَمِّي اللَّهَ عليه وأن تأكلَ منه (¬1). وعلى هذا فلاَ ينبغي للإنسانِ أن يأكلَ من شيءٍ كَائِنًا ما كَانَ إِلاَّ إذا سَمَّى اللَّهَ عليه. والتحقيقُ أنها في الذكاةِ كما يَقْتَضِيهِ السياقُ. وهذا معنَى قولِه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} هذه (إِنْ) الشرطيةُ هي كثيرةٌ في القرآنِ وفي السنةِ، وفيها إشكالٌ معروفٌ كثيرٌ؛ لأنهم يؤمنونَ قَطْعًا. وقد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي: أن تعليقَ فعلِ الشرطِ بجزاءِ الشرطِ بأداةِ الشرطِ التي هي (إِنْ) لا تكونُ إِلاَّ فيما لاَ يُتَحَقَّقُ وقوعُ الشرطِ فيه (¬2)، فلو قُلْتَ لعبدِك وهو عارفٌ باللغةِ العربيةِ: «إِنْ جاءَك زيدٌ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا». هو يعلمُ أن معنَى كلامكَ: أن زَيْدًا قَدْ يَأْتِي وقد لاَ يأتِي؛ لأَنَّ (إِنْ) لا تدلُّ على تحقيقِ وقوعِ الشرطِ، بل قد ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 67)، القرطبي (7/ 72). (¬2) انظر: الكليات ص69، 70، 71، 193، 839، جواهر البلاغة ص133.

يقعُ الشرطُ فيقعُ الجزاءُ، وقد لا يقعُ الشرطُ فلا يقعُ الجزاءُ. وقولُه: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} يُفْهَمُ من «إِنْ» الشرطيةِ أنهم قد يكونونَ مؤمنينَ وَقَدْ يكونونَ غيرَ مُؤْمِنِينَ، وَهُمْ مؤمنونَ حَقًّا قَطْعًا، فَمِنْ هذا جاءَ الإشكالُ في (إِنْ) هذه، وهذا كثيرٌ فِي القرآنِ، كقولِه للمؤمنينَ: {إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (91)} وكقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ زيارةِ القبورِ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ» (¬1) وهم لاحقونَ بهم قَطْعًا يَقِينًا. وكقولِه جل وعلا: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: آية 27] وهم دَاخِلُوهُ قَطْعًا بِلاَ شَكٍّ، فما وجهُ التعليقِ بأداةِ الشرطِ التي هي (إِنْ) التي تَدُلُّ على أَنَّ جزاءَ الشرطِ قد يَقَعُ، وقد لا يَقَعُ، مع أنها أمورٌ مُحَقَّقَةٌ؟ هذا وجهُ الإشكالِ. وهذه مسألةٌ عربيةٌ معروفةٌ، وهي من مسائلِ العربيةِ الكبارِ المشهورةِ التي اختلفَ فيها علماءُ البصرةِ وعلماءُ الكوفةِ من النحاةِ (¬2)، فَذَهَبَ عامةُ علماءِ الكوفةِ إلى أَنَّ (إِنْ) في جميعِ هذه الآياتِ بمعنَى (إذْ) التعليليةِ، قالوا: وَتَأْتِي (إنْ) بمعنَى (إِذْ) التعليليةِ، ¬

(¬1) ورد في هذا المعنى ثلاثة أحاديث: ... الأول: حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند مسلم في الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء. حديث رقم (249)، (1/ 218)، وهو اللفظ الْمُطَابِقُ لِمَا ذكرَ الشيخُ (رحمه الله). الثاني: حديث عائشة (رضي الله عنها) عند مسلم في الجنائز، باب ما يُقال عند دخول المقابر، حديث رقم (974)، (1/ 669). الثالت: حديث بريدة (رضي الله عنه) عند مسلم في الجنائز، باب ما يُقال عند دخول المقابر، حديث رقم (975)، (1/ 671). (¬2) انظر: مغني اللبيب (1/ 24)، الدر المصون (4/ 192_ 193)، خزانة الأدب (3/ 655).

وعليه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ} أَيْ: لأَجْلِ كونِكم مؤمنينَ بآياتِي. قال الكوفيونَ: وَمِنْ هذا المعنَى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} [الأعلى: آية 9]، قالوا: مَعْنَاهَا: إِذْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ذَكِّرْ؛ لأَجْلِ أن الذِّكْرَى تنفعُ. قالوا: وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ. واستدلوا له من أشعارِ العربِ بقولِ الفرزدقِ- وهو عَرَبِيٌّ فصيحٌ قُحٌّ (¬1) -: أتَغْضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا ... جِهَارًا وَلَمْ تَغْضَبْ لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِ قالوا: (إِنْ) هنا بمعنَى (إِذْ)، أَتَغْضَبُ إِذْ حُزَّتْ أُذُنَا قتيبةَ. هذا قولُ البصريين؛ ولذا كُلُّهُ أَجْرَوْهُ على سَنَنٍ واحدٍ. «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قالوا: وإنا لاحقونَ إن شاءَ اللَّهُ ذلك. {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: آية 27] أي: إِنْ شاءَ اللَّهُ ذلك. وهذا قولُ الكوفيين. وأما البصريونَ فَفَصَلُوا بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، قالوا: أما قولُه: {إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (91)} فهي أداةُ شرطٍ جِيءَ بها للتهييجِ والإلهابِ؛ لأن مِنْ عَادَةِ العربِ أن يُهَيِّجُوا المُخَاطَبَ، تقولُ للرجلِ: «إِنْ كنتَ ابنَ الكرامِ، ابنَ فلانٍ وفلانٍ، فَافْعَلْ لِي كَذَا». وليس مقصودُك تعليقَ الشرطِ بالجزاءِ، بل مقصودُك تَهْيِيجَهُ وبعثَه للفعلِ، وهذا أسلوبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أحدِ أولادِ الخنساءِ الشاعرةِ (¬2): لَسْتُ لِخَنْسَاءَ وَلاَ للأَخْزَمِ ... وَلاَ لِعَمْرِو ذِي السَّنَاءِ الأَقْدَمِ إِنْ لَمْ أَرِدْ فِي الْجَيْشِ جَيْشِ الأَعْجَمِي ... مَاضٍ عَلَى الْهَوْلِ خِضَمٍّ خِضْرِم ¬

(¬1) البيت في الكتاب لسيبويه (3/ 161)، مغني اللبيب (1/ 24)، خزانة الأدب (3/ 655)، الدر المصون (4/ 193). (¬2) البيتان في الاستيعاب (4/ 297)، الإصابة (4/ 288).

يقولُ: لستُ لأَبِي ولاَ لأُمِّي إِنْ لَمْ أَرِدْ في الجيشِ. ليس يعنِي التعليقَ، وإنما يعنِي تحريضَ نفسِه. قالوا: قولُه: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ» وقولُه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: آية 27] قال علماءُ البصرةِ: المرادُ بالتقييدِ بالمشيئةِ في هذا الأمرِ المُحَقَّقِ: هو تعليمُ الْخَلْقِ ألاَّ يتكلموا عن أمرٍ مستقبلٍ إلا مُعَلِّقِينَ بمشيئةِ اللَّهِ، وإنما جِيءَ بالأمرِ المُحَقَّقِ لتوكيدِ ذلك، وأنه لا يَنْبَغِي للإنسانِ أن يتحدثَ عن مستقبلٍ أنه سيقعُ أو سيفعلُ إلا إذا قُيِّدَ بمشيئةِ اللَّهِ، كما قال اللَّهُ لنبيه: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: الآيتان 23، 24] وهذا معنَى قولِه: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (128)}. و (الآيات) جمعُ تصحيحٍ مؤنثٌ، مفردُه (آية)، وقد بَيَّنَّا (¬1) أن الآيةَ أَصْلُهَا عندَ الْمُحَقِّقِينَ من علماءِ التصريفِ أن أصلَها (أَيَيَة) اجتمعَ فيها موجبَا إعلالٍ، فوقعَ الإعلالُ في الحرفِ الأولِ، على خلافِ القاعدةِ الكثيرةِ المُطَّرِدةِ، وهو جائزٌ، فلو جَرَى على الأغلبِ لكانَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ. وقيل: (أيَاه) ولكنَّ الإعلالَ وقعَ هنا في الحرفِ الأولِ، فصارَ (آية) ووزنُه بالميزانِ الصرفيِّ: (فَعَلَة) وحروفُه: فاؤه همزةٌ، وعينُه ولامُه كِلاَهُمَا ياءٌ. هذا أصلُ وزنِها وصرفِها. وهي في لغةِ العربِ - قد بَيَّنَّا مِرَارًا (¬2) - أن (الآية) في لغةِ العربِ تُطْلَقُ إطلاقين، وَذَكَرْنَا هذا كثيرًا في هذه الدروسِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

أما الإطلاقُ الأولُ المشهورُ: فهو إطلاقُ الآيةِ بمعنَى (العلامةِ). تقولُ العربُ: «الآيةُ بَيْنِي وبينَك كذا». أي: العلامةُ بَيْنِي وبينَك كذا. ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: آية 248] أي: علامةُ مُلْكِهِ أن يأتيَكم التابوتُ. وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ- وهو عربيٌّ جاهليٌّ- تفسيرُ الآياتِ بالعلاماتِ حيث قال (¬1): تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ ثُمَّ بَيَّنَ أن مرادَه بالآياتِ: (علاماتُ الدارِ) فقال: رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٍ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ إطلاقُ الآيةِ الآخَرُ في لغةِ العربِ: تُطْلِقُ العربُ الآيةَ على (الجماعةِ)، وهو إطلاقٌ عربيٌّ مشهورٌ، يقولونَ: «جاء القومُ بآيتِهم»؛ أي: بجماعتِهم، ومنه بهذا المعنَى: قولُ بُرج بن مُسْهِر الطائيِّ (¬2): خَرجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلَنَا ... بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلاَ أي: بِجَمَاعَتِنَا. إذا عرفتُم أن (الآيةَ) تُطْلَقُ في لغةِ العربِ إِطْلاَقَيْنِ: تطلقُ بمعنَى (العلامةِ)، وتطلقُ بمعنَى (الجماعةِ)، فَاعْلَمُوا أن (الآيةَ) في القرآنِ تُطْلَقُ أيضًا إطلاقين: تُطْلَقُ على الآيةِ الكونيةِ القدريةِ، وهي: ما نَصَبَهُ اللَّهُ كَوْنًا وَقَدَرًا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬2) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

دَالاًّ على ربوبيتِه، وأنه المعبودُ وحدَه، وهي بهذا المعنَى من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ) قَوْلاً واحدًا، كقولِه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: آية 190] أي: علاماتٍ واضحاتٍ لأصحابِ العقولِ على أن لهذا الكونِ مُدَبِّرًا هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وهو المعبودُ وحدَه جل وعلا. الإطلاقُ الثانِي في القرآنِ: إطلاقُ الآيةِ بمعنَى الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، كقولِه: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: آية 11] فهي بهذا من الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، والآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ قِيلَ: من الآيةِ بمعنَى (الجماعة)؛ لأَنَّ الآيةَ جَمَعَتْ كلماتٍ من القرآنِ اشْتَمَلَتْ على بعضِ معانِيه ومقاصدِه. وقال بعضُ العلماءِ: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ أيضًا من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ)؛ لأنها علاماتٌ على صدقِ مَنْ جاء بها؛ لِمَا فيها من الإعجازِ؛ ولأَنَّ لَهَا علاماتٍ: مبادئَ ومقاطعَ تدلُّ على انتهاءِ هذه الآيةِ وابتداءِ هذه. وهذا معنَى قولِه: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)}. والإيمانُ في لغةِ العربِ: التصديقُ (¬1)، ومنه قولُه: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: آية 17] أي: بِمُصَدِّقٍ لنا في أن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} [يوسف: آية 17]. والإيمانُ في اصطلاحِ الشرعِ في مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ: هو التصديقُ الكاملُ من جميعِ الجهاتِ، أَعْنِي: تصديقَ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ؛ وَلِذَا ثَبَتَ في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة البقرة.

الصحيحِ أن: «الإيمانَ بضعٌ وَسِتُّونَ» وفي بعضِ الرواياتِ: «بضعٌ وسبعونَ شعبةً، أَعْلاَهَا شهادةُ أن لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ» (¬1) فَسَمَّى إماطةَ الأَذَى عن الطريقِ (إيمانًا). وفي الحديثِ الصحيحِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» (¬2) فَسَمَّى الصومَ (إيمانًا) «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا» (¬3) فَسَمَّى القيامَ (إيمانًا). وقد قَدَّمْنَا في قولِه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: آية 143] أن معناه: وما كانَ اللَّهُ ليضيعَ صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ قبلَ نسخِ القبلةِ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وهذا معنَى قولِه: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)}. {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} [الأنعام: آية 119]. في هذه الآيةِ الكريمةِ قراءاتٌ سبعياتٌ (¬4): قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصمٍ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} ببناءِ الفعلين للفاعلِ. وقرأ ابنُ عامرٍ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: {وقد فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم} ببناء الفِعْلَيْنِ للمفعولِ والتركيبِ للنائبِ. وقرأ هذا شعبةُ عن عاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ: (وقد فَصَّل لكم ما حُرِّم عليكم} ببناءِ «فصَّل» للفاعلِ، و «حُرِّم» للمفعولِ. فتحصَّل أنها ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ: {فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ} لنافعٍ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) انظر: المبسوط لابن مهران ص202.

وحفصٍ: {فُصِّلَ لكم ما حُرِّم} لابنِ عامرٍ وابنِ كثيرٍ وأبِي عمرٍو: {فَصَّل لكم ما حُرِّم} لحمزةَ والكسائيِّ وشعبةَ عن عاصمٍ. والجمهورُ- غيرُ الكوفيين- قرؤوا: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيَضِلُّونَ} بفتحِ الياءِ. وقرأَ الكوفيونَ الثلاثةُ- أعني: عَاصِمًا، وَحَمْزَةَ، والكسائيَّ- {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} بضمِّ الياءِ (¬1) {بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذه القراءاتُ في الآيةِ. ومعنَى الآيةِ الكريمةِ (¬2) {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (ما) استفهاميةٌ، أَيُّ شيء ثَبَتَ لكم يمنعُكم من أن تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه؟ والاستفهامُ هنا بمعنَى الإنكارِ (¬3)، أي: لا يوجدُ شيءٌ يمنعُكم من ذلك. وقال بعضُ العلماءِ: هو بمعنَى التقريرِ بأن يقولوا: ليس هنالك شيءٌ يَمْنَعُنَا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه. وهذا معنَى قولِه: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أيُّ شيءٍ ثَبَتَ لكم يمنعُكم من ذلك؟ والمعنَى: لاَ شيءَ يمنعُ من ذلك؛ لأنكم ذَكَّيْتُمُوهُ، وَذَكَرْتُمُ اسْمَ اللَّهِ عليه، وفعلتُم فيه الطريقةَ الشرعيةَ التي أُمِرْتُمْ بها، فأيُّ مانعٍ يَثْبُتُ يمنعُكم من أَكْلِ هذا؟ والمعنَى: لا مانعَ منه، وإنما جاءَ المانعُ في الأكلِ مما لم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليه. وهذا معنَى قولِه: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: والحالُ أنه حلالٌ كماءِ المزنِ؛ لأَنَّ اللَّهَ فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَ عليكم، أي: أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ غايةَ البيانِ والإيضاحِ، ولم يَجْعَلْ مِمَّا حَرَّمَ عليكم ما ذبحتموه وذكيتموه وَسَمَّيْتُمُ اللَّهَ عليه، فإذا كان اللَّهُ فصَّل لكم ما حَرَّمَهُ عليكم ¬

(¬1) المصدر السابق ص 201. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 208_ 209). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 211).

التفصيلَ والبيانَ، ولم يكن منه أنه حَرَّمَ ما ذَكَّيْتُمُوهُ وَذَكَرْتُمُ اسمَ اللَّهِ عليه، فما لكم ألا تَأْكُلُوا منه؟ لا مانعَ من الأكلِ منه. وَاعْلَمْ أن هذه الآيةَ غَلِطَ فيها كثيرٌ من المفسرين (¬1) فقالوا: {فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فصَّلَهُ بقولِه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: آية 3] وهذا غلطٌ لا شكَّ فيه؛ لأن هذه الآيةَ التي نُفَسِّرُهَا من سورةِ الأنعامِ، وهي من القرآنِ النازلِ بمكةَ بإجماعِ علماء، إلا آياتٍ معروفةً منها (¬2)، كقولِه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآياتِ [الأنعام: آية 151]، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: آية 91] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: آية 93] فهي آياتٌ معدودةٌ مدنيةٌ في سورةٍ مكيةٍ، أما جُلُّ سورةِ الأنعامِ فهي نازلةٌ في مكةَ قبلَ الهجرةِ بلا خلافٍ بين العلماءِ، وهي نازلةٌ قبلَ النحلِ بلا شكٍّ، والنحلُ من القرآنِ المكيِّ على التحقيقِ، وقد دَلَّ القرآنُ في مَوْضِعَيْنِ أن سورةَ الأنعامِ نَزَلَتْ قبلَ سورةِ النحلِ (¬3): أحدُهما: قولُه في سورةِ النحلِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: آية 118] فهذا المحرمُ المقصوصُ من قبلُ المُحالُ عليه هو النازلُ في سورةِ الأنعامِ بالإجماعِ في قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: آية 146]. الثاني: أن اللَّهَ قال في سورةِ الأنعامِ هذه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 69)، القرطبي (7/ 73). (¬2) مضى عند تفسير الآية (88) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: آية 148] فَبَيَّنَ أنهم سيقولونَه في المستقبلِ بدلالةِ حرفِ التنفيسِ الذي هو السينُ، ثم بَيَّنَ في سورةِ النحلِ أن ذلك الموعودَ به في المستقبلِ وَقَعَ وَثَبَتَ في سورةِ النحلِ حيث قال: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: آية 35] فَدَلَّ على أنها بعدَها، وإذا كانت سورةُ الأنعامِ التي فيها: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: آية 119] نازلةً في مكةَ قبلَ الهجرةِ، وقولُه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: آية 3] من سورةِ المائدةِ نَزَلَتْ بعدَ الهجرةِ في المدينةِ في آخِرِ ما نَزَلَ من القرآنِ؛ لأَنَّ المائدةَ من آخِرِ ما نَزَلَ من سورِ القرآنِ، وفيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: آية 3] المُؤْذِنَة بكمالِ الدينِ وَقُرْبِ انقضاءِ الوحيِ، كيف يكونُ هذا التفصيلُ المذكورُ في الأنعامِ في سورةِ المائدةِ، والمائدةُ لَمْ تَنْزِلْ إلا بعدَ ذلك بسنينَ كثيرةٍ؟ والتحقيقُ أن قولَه هنا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: آية 119] أنه هو التفصيلُ المذكورُ في سورةِ الأنعامِ؛ لأنها نَزَلَتْ جملةً واحدةً، وهذا مِمَّا فَصَّلَهُ في الأنعامِ، وهو قولُه: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: آية 145] فقولُه: {لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: آية 145] هذا التفصيلُ للحرامِ يدلُّ على أن ما ذَبَحْتُمْ وذكيتموه وذكرتم اسمَ اللَّهِ عليه أنه ليس من المحرمِ الذي فُصِّلَ لكم، وهذا معنَى قولِه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (ما): موصولةٌ، وهي في محلِّ المفعولِ، والعائدُ إلى الصلةِ محذوفٌ، والتقديرُ: وقد فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَهُ

عليكم. وعلى قراءةِ (حُرِّم) فالرابطُ هو ضميرُ النائبِ المحذوف أي: ما حُرِّمَ هو عليكم وهذا معنَى قولِه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} جَرَتِ العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ إذا ذَكَرَ هذه المحرماتِ الأكلِ، أنه يَسْتَثْنِي منها حالةَ الضرورةِ كما قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ثم قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: آية 173] وقال في النحلِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)} [النحل: آية 115]. وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: آية 3] وقال هنا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} يعني: أن هذا الذي حَرَّمَهُ عليكم وَفَصَّلَ تحريمَه، إذا أَلْجَأَتْكُمُ الضرورةُ إليه فهو حلالٌ عليكم للضرورةِ؛ لأن الضرورةَ تُبِيحُ المحظوراتِ. وَمَنْ يَأْتِ الأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ ... فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارَا (¬1) فالميتةُ حرامٌ بالإجماعِ، ولكنَّ الإنسانَ إذا خَافَ على نفسِه الهلاكَ ولم يَجِدْ إلا الميتةَ أو الخنزيرَ أو ما جرى مجرَى ذلك فإنه يباحُ له ذلك الحرامُ. وقد قَدَّمْنَا في سورةِ البقرةِ كلامَ العلماءِ في الضرورةِ التي تبيحُ الميتةَ، وفي القَدْرِ الذي يُبَاحُ مِنْهَا هل هو ما يَسُدُّ الرمقَ ويمسكُ الحياةَ، أو هو الشبعُ والتزودُ حتى يجدَ غيرَها كما قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا (¬2). ¬

(¬1) البيت لسيدي محمد بن الشيخ سيدي من أدباء شنقيط، وهو ضمن قصيدة له مذكورة مع ترجمته في كتاب: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ص247. (¬2) انظر: المجموع (9/ 39)، المغني (13/ 330)، المحلى (7/ 426)، القرطبي (2/ 225)، الأضواء (1/ 107).

وقولُه: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} يدلُّ على أن هذه المحرماتِ التي فَصَّلَهَا اللَّهُ، وَبَيَّنَ أنها حرامٌ إذا اضْطُرَّ الإنسانُ إليها وَأَلْجَأَتْهُ الضرورةُ إليها كانت حلالاً عليه؛ لأَنَّ نَبِيَّنَا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بالحَنِيفِيَّةِ السمحةِ، وسُهِّلَ له فيها كُلَّ التسهيلِ، وَرُفِعَتْ عنا على لسانِه الآصارُ- وهي أثقالُ التكليفِ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا- وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي هريرةَ وابنِ عباسٍ رضي الله عنهم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَرَأَ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآيات [البقرة: آية 286]. أن اللَّهَ قال: «قَدْ فَعَلْتُ» في روايةِ ابنِ عباسٍ عند مسلمٍ، وأن اللَّهَ قال: «نَعَمْ» في روايةِ أبي هريرةَ عندَ مسلم (¬1). وَلِذَا كان من علاماتِ نُبَوَّتِهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه يُحِلُّ الطيباتِ وَيُحَرِّمُ الخبائثَ ويضعُ الآصارَ والأغلالَ وأثقالَ التكليفِ التي كَانَتْ على مَنْ قَبْلَنَا؛ لأن ذلك من صفاتِه في الكتبِ المتقدمةِ كما يأتي في سورةِ الأعرافِ في قولِه: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: آية 157] والآصارُ والأغلالُ هي: الأثقالُ التي كانت شديدةً في التكليفِ على مَنْ قَبْلَنَا؛ لأن مَنْ قَبْلَنَا ربما إذا أَذْنَبَ الواحدُ منهم ذنبًا لا تُقْبَلُ توبتُه حتى يُقَدِّمَ نفسَه للموتِ والقتلِ، كما قَدَّمْنَاهُ في البقرةِ (¬2) في قولِه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: آية 54] وما كانوا تصحُّ صلاتُهم إلا في المساجدِ، ولا تصحُّ صلاتُهم إلا بالماءِ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام ..

ولا طهارتُهم من الخبثِ إلا بالماءِ، فهي آصارٌ وتكليفاتٌ وأثقالٌ شديدةٌ رَفَعَهَا اللَّهُ عَنَّا على لسانِ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: آية 78] {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: آية 286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: آية 16] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: آية 185] ونحو ذلك من الآياتِ، ولذا قال هنا: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} والطاءُ في قولِه: {مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أصلُها مبدلةٌ من تاءِ الافتعالِ، وقد تَقَرَّرَ من فَنِّ العربيةِ (¬1): أن تاءَ الافتعالِ إذا جاءَ بعدَ واحدٍ من حروفِ الإطباقِ أنه يُبْدَلُ طاءً، والحقيقةُ: أصلُ مادةِ هذا الفعلِ (ضَرَرَ). ففاء المادةِ: ضادٌ، وعينها: راءٌ، ولامُها: راءٌ. فَدَخَلَهَا تاءُ الافتعالِ، كما تقولُ في قَرُبَ: اقتربَ، وفي كَسَبَ: اكتسبَ، وفي ضررَ: اضترر فأُبدلت تاءُ الافتعالِ طاءً، ثم بُنِيَ الفعلُ للمفعولِ ورُكِّبَ للنائبِ، فقيل: اضْطُرِرْتُمْ (¬2). والمعنَى: أن هذه المحرماتِ التي فَصَّلَهَا اللَّهُ لنا أن محلَّ تحريمِها علينا ما لم تُلْجِئْنَا إليها ضرورةٌ، فَإِنْ أَلْجَأَتْنَا إليها ضرورةٌ فهي حلالٌ لنا. وقد قَدَّمْنَا كلامَ العلماءِ في قولِه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} فالإنسانُ إذا خاف على نفسِه الهلاكَ جازَ له أَكْلُ الميتةِ إن لم يَجِدْ غيرَها، وجاز له أكلُ الخنزيرِ إن لم يجد غيرَه، وجازَ له ما حُرِّمَ عليه للضرورةِ. وأعظمُ الأشياءِ هو كلمةُ الكفرِ إذا أُلْجِئ الإنسانُ وَأُكْرِهَ ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 511). (¬2) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 54)، القرطبي (2/ 225)، شرح الكافية (4/ 2158)، البحر المحيط (1/ 373)، الدر المصون (2/ 113)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص425.

عليها، وقالَها إكراهًا وقلبُه مطمئنٌ بالإيمانِ لا يؤاخذُه اللَّهُ بها؛ لأن اللَّهَ قال كما يأتِي في سورةِ النحلِ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ} [النحل: آية 106] وهذا معنَى قولِه: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}. وقولُه: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} قرأه القراءُ (¬1): {وإن كثيرًا ليَضلونَ} وقرأه الكوفيون (¬2): {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} فعلى قراءةِ {يَضِلُّونَ} فالفعلُ لازمٌ لا مفعولَ له. والمعنَى: أنهم يَضِلُّون ويذهبونَ عن طريقِ الحقِّ. وعلى قراءةِ الكوفيين {يُضلون} فهو متعدٍّ للمفعولِ، والمفعولُ محذوفٌ. والمعنَى: كثيرًا من الناسِ ليُضلون الناسَ عن طريقِ الحقِّ بأهوائهم (¬3). وحَذْفُ المفعولِ إذا دَلَّ المقامُ عليه سائغٌ أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ مشهورٌ. {بِأَهْوَائِهِم} الأهواءُ: جمع الهوَى، وأصلُ الهوى: (هَوَيٌ) بواوٍ وياءٍ، اجتمعَ فيه موجبَا إعلالٍ فوقعَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ الذي هو الياءُ على القاعدةِ الأغلبيةِ (¬4). وأصلُ (الهوى) في لغةِ العربِ ميلُ النفسِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على ميلِها إلى ما لاَ ينبغي (¬5)، وربما أُطْلِقَ نادرًا على مَيْلِهَا لِمَا ينبغي (¬6). ¬

(¬1) وَهُمْ: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر. (¬2) وَهُمْ: عاصم، وحمزة، والكسائي. انظر: السبعة ص 267. (¬3) انظر: حجة القراءات ص269، الدر المصون (5/ 130). (¬4) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة الأنعام. (¬5) السابق. (¬6) انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 438).

والهمزةُ في قولِه: {بِأَهْوَائِهِمْ} مبدلةٌ من الياءِ؛ لأَنَّ مادةَ (الهوى) مما يسميه الصرفيون «اللفيفَ المقرونَ» (¬1) معتلَ الواوِ واللامِ. والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن كُلَّ واوٍ أو ياءٍ تَطَرَّفَتْ بعد ألفٍ زائدةٍ وَجَبَ إبدالُها همزةً (¬2). فهمزةُ (الأهواءِ) مبدلةٌ من ياءِ الهوى، أصلُها: (هَوَيٌ) بالياءِ؛ لأن لامَ الكلمةِ ياءٌ، فَأُبْدِلَتْ همزةً لتطرفِها في الأخيرِ بعدَ ألفٍ. والمعنَى: أن كثيرًا من الناسِ ليُضلون الناسَ. على قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ وعاصمٍ. أو ليَضلون في أنفسِهم فيكونونَ ضالينَ. وذلك الإضلالُ- على قراءةِ الكوفيين- والضلالُ- على قراءةِ غيرهم- إنما هو بسببِ أهوائِهم، أي: ميول أنفسِهم إلى الباطلِ والكفرِ- والعياذُ بالله- وهو ميلُ الهوى واتباعُ النفسِ في الحرامِ والكفرِ، لا إلى الشرعِ، ولا إلى بيانٍ، ولا إلى دِينٍ. وهذا معنَى قولِه: {لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ}. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} لا علمَ لهم بذلك الذي سلكوه وَضَلُّوا به وأضلوا، وإنما اتبعوه جَهْلاً منهم؛ ولذا قال: {بِغَيْرِ عِلْمٍ}. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} (أعلم): كـ (أعلم) التي قبلَها. والمعتدونَ: جمعُ المعتدِي، والمعتدِي (مُفْتَعِل) من العُدْوَانِ، وأصلُ العُدوانِ: مجاوزةُ الحدِّ، فَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ حدَّه فقد اعتدى. قال بعضُ العلماءِ: أصلُ العدوانِ مشتقٌّ من العُدْوَةِ، والعُدوة: شاطئُ الوادي؛ لأنه كأنه جاوزَ شاطئَ الحلالِ والحقِّ إلى شاطئ الحرامِ والضلالِ، فالعدوانُ: مجاوزةُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (56) من هذه السورة.

الحدِّ (¬1). وهذا معنَى قولِه: إن الله جل وعلا {أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} الذي سَبَقَ لهم الضلالُ في أزلِه، وَيَسَّرَهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، فهو أعلمُ بهم. وكأن هذا فيه تسليةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كأنه يقولُ له: رَبُّكَ أعلمُ بالضالين المضلين، ولابد أن يُيَسِّرَهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، فلا تَحْزَنْ عليهم إذا لم يؤمنوا وهذا معنَى قولِه: {هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)}. {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} [الأنعام: آية 120] {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (ذروا) معناه: اتْرُكُوا. و (ذَرْ) بمعنَى: اتْرُكْ. وهذا الفعلُ- الذي هو (ذَرْ) - لَمْ يُسْتَعْمَلْ منه في لغةِ العربِ إلا الأمرُ والمضارعُ (¬2)، تقول العربُ: (ذَرْ) بمعنى: اتْرُكْ، و (يَذَر) بمعنَى: يترك. ولم يُسْتَعْمَلْ منه ماضٍ، ولا مصدرٌ، ولا اسمُ فاعلٍ، ولا اسمُ مفعولٍ، ولا صيغةُ تفضيلٍ، لم يُسْتَعْمَلْ منه إلا المضارعُ والأمرُ خاصةً. ومعنَى (ذَرْ): اتْرُكْ. ومعنَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ} اتركوا ظاهرَ الإثمِ. وعلماءُ العربيةِ يقولونَ: إن الحرفَ المحذوفَ في مكانِ الفاءِ إنها واوٌ، وإن أصلَ (ذَرْ) أن أصلَ ماضيه (وَذَرَ) بواوٍ (¬3)، إلا أن هذه الواوَ لم تَثْبُتْ؛ لأن (فَعَل) إذا كانت مفتوحةَ العينِ تُحْذَفُ فاؤها في المضارعِ والأمرِ، وتُحْذَفُ في المصدرِ، وذلك إنما ينقاسُ في (فَعَلَ يَفْعَل) وأما (وَذَر يذَر) فليس مَقِيسًا فيها؛ إلا أن العربَ لم تَنْطِقْ بالواوِ ولم تَنْطِقْ بها إلا في المضارعِ والأمرِ (¬4). وعلى كُلِّ حالٍ فـ (ذَرُوا) معناه: اتْرُكُوا. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: عدا) (553_ 554)، بصائر ذوي التمييز (4/ 31). (¬2) مضى عند تفسير الآية (112) من هذه السورة. (¬3) انظر: الدر المصون (2/ 636 _637)، (3/ 508)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص486. (¬4) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص486.

وقولُه: {ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} الظاهرُ: كُلُّ ما ظَهَرَ وعلن. والباطنُ: كُلُّ ما خَفِيَ وَاسْتَتَرَ (¬1). والإثمُ: أصلُه ضدُّ الطاعةِ، فكلُّ ما هو خلافُ التقوى والطاعةِ من الوقوعِ في المعاصِي يُسَمَّى: (إثمًا) (¬2). وقد قال الشاعرُ - وَصَدَقَ (¬3) -: إِنِّي رَأَيْتُ الأَمْرَ أَعْجَبُهُ ... تَقْوَى الإِلَهِ وَشَرُّهُ الِإِثْمُ فقابلَ الإثمَ بالتقوى. وَاعْلَمُوا أن ظاهرَ الإثمِ وباطنَه فيهما أقوالٌ [(¬4) وأنها كلَّها ترجع إلى شيءٍ واحدٍ، فقال بعضُهم: الفواحشُ الظاهرةُ هي الزِّنَى مع البغايا ذواتِ الراياتِ، والفواحشُ الباطنةُ هي الزنى مع الخليلاتِ والصديقاتِ التي يُزْنَى بِهِنَّ سِرًّا في البيوتِ. وقال بعضُ العلماءِ: ما ظهر من الفواحشِ: كنكاحِ زوجاتِ الآباءِ، كما تقدَّم في قولِه: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً (22)} [النساء: آية 22] وأن ما بَطَنَ منها هو الزنى. والتحقيقُ: أَنَّ الآيةَ الكريمةَ تشملُ جميعَ المعاصِي والذنوبِ، لا تفعلوا شيئًا منها ظاهرًا عَلَنًا بين الناسِ، ولا شيئًا باطنًا في خفيةٍ لا يطلعُ عليه أحدٌ، وهو يشملُ جميعَ التفسيراتِ الواردةِ عن الصحابةِ وغيرِهم. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 72)، ابن كثير (2/ 168)، البحر المحيط (4/ 212). (¬2) انظر: المفردات (مادة: أثم) ص63، اللسان (مادة: أثم) (1/ 22). (¬3) البيت للمخبل السعدي، وهو في ديوانه ص316. (¬4) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وللوقوف على الأقوال المشار إليها راجع: القرطبي (7/ 74)، ابن كثير (2/ 168) وقد تم استدراك النقص هنا من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية (33) من سورة الأعراف.

والفواحشُ ظاهرُها وباطنُها تشملُ جميعَ الذنوبِ، إلا أن اللَّهَ عَطَفَ بعضَها على بعضٍ عطفَ خاصٍّ على عَامٍّ. وقد تقررَ في المعانِي: أَنَّ عَطْفَ الخاصِّ على العامِّ، وعطفَ العامِّ على الخاصِّ إن كان في كلٍّ منهما في الخاصِّ أهميةٌ لا تكونُ في غيرِه من أفرادِ العامِّ أنه سائغٌ، وأنه من الإطنابِ المقبولِ لأَجْلِ الخصوصيةِ التي في الخاصِّ. فكأن تميزَه بخصوصيتِه جَعَلَهُ كأنه قِسْمٌ آخَرُ من أقسامِ العامِّ فَحَسُنَ عطفُه عليه (¬1). وهنا عُطِفَ الخاصُّ على العامِّ لأن المعطوفاتِ الآتيةَ كُلَّهَا داخلةٌ في الفواحشِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ. وقولُ مَنْ قال: إن {مَا ظَهَرَ} هو الزنى مع البغايا ذواتِ الراياتِ، و {وَمَا بَطَنَ} الزِّنَى مع الخليلاتِ الصديقاتِ التي يُزْنَى بِهِنَّ سِرًّا. أو: إن {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو نكاحُ زوجاتِ الآباءِ، وأن {وَمَا بَطَنَ} هو الزِّنَى إلى غيرِ ذلك من الأقوالِ كُلُّهُ يشملُه التفسيرُ العامُّ الذي هو الصوابُ، وإن اللَّهَ نَهَى عن ارتكابِ جميعِ المحرماتِ سواءً كان ذلك ظَاهِرًا أمامَ الناسِ، أو خفيةً بحيثُ لا يطلعُ عليه الناسُ]. [16/ب] / يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128)} [الأنعام: آية 128]. ¬

(¬1) انظر: فقه اللغة للثعالبي ص294، الإكسير للطوفي ص256، المدخل للحدادي ص295، البرهان للزركشي (2/ 464)، الإتقان (3/ 212، 213)، قواعد التفسير (1/ 429، 430).

قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا حَفْصًا عن عاصمٍ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} وقرأه حفصٌ- وحدَه- عن عاصمٍ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} بالياءِ التحتيةِ (¬1). أما قراءةُ الجمهورِ ففاعلُ الفعلِ ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه: نحن. أي: نَحْشُرُهُمْ نحنُ. وصيغةُ الجمعِ في (نحشرهم) وفي (نحن) للتعظيمِ، كقولِه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: آية 9] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} [يس: آية 12] وهو جل وعلا واحدٌ إلا أنه يُعَبِّرُ عن نفسِه بصيغةِ الجمعِ؛ لأجلِ التعظيمِ والإجلالِ. وعلى قراءةِ حفصٍ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} فالفاعلُ ضميرٌ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ. (يحشرُهم) هو. أي: اللَّهُ. وقولُه هنا: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قال بعضُ العلماءِ: هو منصوبٌ بـ (اذْكُرْ) مُقَدَّرًا، أي: اذْكُرْ يومَ نحشرُهم. وقال بعضُ العلماءِ: هو منصوبٌ بالقولِ المحذوفِ الذي دَلَّ عليه المقامُ (¬2). والمعنَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} أي: نقولُ: يا معشرَ الجنِّ قد اسْتَكْثَرْتُمْ. نقول ذلك القولَ: {يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}. والحشرُ في لغةِ العربِ معناه: الجمعُ. وَكُلُّ شيءٍ قد جمعتَه فقد حشرتَه (¬3). ومنه قولُ قومِ فرعونَ لفرعونَ: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)} [الأعراف: آية 111] {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)} [الشعراء: آية 36] أي: قومًا جامعين، يجمعون السحرة، ويحشرونهم ¬

(¬1) انظر: السبعة ص269، الموضح (1/ 503)، النشر (2/ 262). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 219)، الدر المصون (5/ 148). (¬3) انظر: القاموس (مادة: الحشر) ص 480.

من أطراف مصر. فالحشر في لغة العرب: الجمع؛ لأن اللَّهَ يومَ القيامةِ يجمعُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، إِنْسَهُمْ وِجِنَّهُمْ، في صعيدٍ واحدٍ، يُسْمِعُهُمُ الداعي وينفذهم البصرُ، كما قال: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: آية 9] {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: آية 87] {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50)} [الواقعة: الآيتان 49، 50] {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف: آية 47] والمعنَى: يقول اللَّه جل وعلا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ} [الأنعام: آية 128] يقول ذلك القولَ حين يحشرهم جميعًا. وقد بَيَّنَ اللَّهُ في هذه السورةِ الكريمةِ- سورةِ الأنعامِ- أنه يحشرُ جميعَ المخلوقاتِ مِمَّا يدبُّ على رِجْلَيْنِ، ومما يطيرُ في السماءِ، وسائرِ المخلوقاتِ كما تَقَدَّمَ في قولِه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: آية 38] فَبَيَّنَ أنه يَحْشُرُ كُلَّ دابةٍ وكلَّ طيرٍ- جل وعلا- والذي يُجَازَى من هذا إنما هو الثقلانِ: الإنسُ والجنُّ. وقولُه: {نَحْشُرُهُمْ}: نَجْمَعُهُمْ جميعًا يومَ القيامةِ بعدَ أن نُخْرِجَهُمْ من قبورِهم أحياءً يَمْشُونَ بعدَ أن كانوا عِظَامًا رَمِيمًا. وقولُه: {جَمِيعًا} يُعْرَبُ حالاً (¬1)، ومعناه: التوكيدُ، بدليلِ أنك لو حذفتَ التنوينَ وأضفتَه لكانَ توكيدًا مَحْضًا، لو قلتَ: «نحشرهم جميعهم». لكان توكيدًا، فَلَمَّا حُذِفَتِ الإضافةُ أُعْرِبَ حَالاً ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 148).

ومعناه التوكيدُ. أي: نحشرُهم في حالِ كونِهم مجتمعين فلم يَشِذَّ منهم أحدٌ. {ثُمَّ نَقُولُ} فَسَّرَهُ بعضُ العلماءِ (¬1): (يُقال). قال: لأَنَّ اللَّهَ ليس هو القائلَ؛ لأن كفرةَ الإنسِ لا يكلِّمُهم اللَّهُ، لأن اللَّهَ يقولُ عن الكفارِ: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ}. والتحقيقُ: أن اللَّهَ يكلمُ الكفارَ كلامَ توبيخٍ وتقريعٍ، الذي هو من جنسِ العذابِ، كقولِه لَمَّا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: الآيتان 107، 108] لأن هذا التكليمَ لهم ليس تكليمَ تشريفٍ، إنما هو تكليمُ توبيخٍ وتقريعٍ، وهو من أنواعِ عذابِه لهم، ولا مانعَ منه. يقولُ اللَّهُ ذلك اليومَ مُخَاطِبًا عُتاةَ الشياطين الذين أَضَلُّوا بَنِي آدمَ حتى أَغْوَوْهُمْ وأدخلوهم النارَ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} المَعْشَرُ في لغةِ العربِ (¬2): الجماعةُ، كُلُّ جماعةٍ تُسَمَّى مَعْشَرًا، وَيُجْمَعُ على: مَعَاشِرَ. كان بعضُهم يقولُ: لأن بعضَهم يُعاشِرُ بعضًا. وقد يُطْلَقُ المَعْشَرُ على الجماعةِ المتفقين في نِحْلَةٍ أو ناحيةٍ وإن لم يُعَاشِرْ بعضُهم بعضًا، كما في الحديثِ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ» (¬3) ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 220)، الدر المصون (5/ 148). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 220)، الدر المصون (5/ 148 _149)، القاموس (مادة: العشرة) ص566. (¬3) روى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة. وممن رواه منهم: 1 - عمر (رضي الله عنه): عند البخاري في الفرائض، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» حديث رقم (6728)، (12/ 6)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (2904، 3094، 4033، 4885، 5357، 5358، 7305)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: حكم الفيء. حديث رقم (1757) (3/ 1376). 2 - عائشة (رضي الله عنها): عند البخاري في فضائل الصحابة باب: مناقب قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديت رقم (3711_ 3712)، (7/ 77)، وانظر الأحاديث (6725، 6727، 6730)، ومسلم في الجهاد والسير، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» حديث رقم (1759)، (3/ 1380)، وانظر: حديث رقم (1758). 3 - أبو هريرة رضي الله عنه عند البخاري في الوصايا، باب: نفقة القيم للوقف. حديث رقم (2776)، (5/ 406)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: حديث رقم (3096، 6729)، ومسلم في الجهاد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ». حديث رقم (1760)، (3/ 1382). وقد أخرجه أحمد (2/ 463)، بنفس اللفظ الذي أورده الشيخ رحمه الله هنا.

والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يدرك منهم أحدًا، ولم يُعَاشِرْ منهم أحدًا. والحاصلُ أن المعْشَرَ: الجماعةُ، أي: يا جماعةَ الجنِّ. وأصلُ (الجنِّ) مشتقٌّ من الاجتنانِ، وكلُّ ما يَخْفَى عنكَ وَيَجْتَنُّ فهو مجنونٌ عَنْكَ، أي: مُغَيَّبٌ. ومنه: جَنَّ عليه الليلُ، وقيل للجنينِ: (جنينٌ) لأن بطنَ أُمِّهِ يُجِنُّهُ، ومنه سُمِّيَ المجنونُ (مجنونًا) لغيبوبةِ عَقْلِهِ (¬1). وبعضُهم قال: تُسَمِّي العربُ الملائكةَ (جِنًّا)؛ لأنهم محجوبونَ عن الأبصارِ، وهو أحدُ التفسيرين في قولِه: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام.

وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} (¬1) [الصافات: آية 158] والعربُ تعرفُ ذلك، ومنه قولُ الأَعْشَى يمدحُ سليمانَ (¬2): وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ والمرادُ بالجنِّ هنا: عُتَاتُهُمْ وشياطينُهم الذين كانوا يُضِلُّونَ الآدميين ويغوونهم في دارِ الدنيا، يقولُ لهم اللَّهُ يومَ القيامةِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} أَعْنِي: يا جماعةَ الشياطين {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} والمعنَى: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} أَكْثَرْتُمْ من إغوائِهم وإضلالِهم (¬3) - والعياذُ باللَّهِ- حتى أَضْلَلْتُمْ منهم أعدادًا طائلةً وَجِبِلاًّ كثيرًا ضَخْمًا، كما يأتِي في قولِه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: آية 62]. وهذه الآياتُ يُبَيِّنُهَا اللَّهُ لنا في دارِ الدنيا لنحذرَ من أن تكونَ الشياطينُ تَسْتَهْوِينَا وَتُضِلُّنَا لتدخلنا النارَ، وقد بَيَّنَ القرآنُ أن هذا العددَ الكثيرَ من الإنسِ الذي أَضَلَّتْهُمْ شياطينُ الجنِّ الذين قال اللَّهُ فيهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128] أن منهم الذين يَتْبَعُونَ تشريعَ الشيطانِ، وَيَحِيدُونَ عن تشريعِ اللَّهِ فيتبعونَ ما نَظَّمَهُ الشيطانُ من النُّظُمِ على ألسنةِ أوليائِه، صَرَّحَ القرآنُ بأن هؤلاء داخلونَ في هذا الاستكثارِ وما أكثرَهم؛ لأن اللَّهَ يقولُ في السورةِ الكريمةِ- وَكُلُّ سورةٍ من القرآنِ كريمةٌ- أعنِي سورةَ يس: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: آية 60] ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (23/ 108)، القرطبي (15/ 134). (¬2) البيت في ابن جرير (1/ 506)، القرطبي (1/ 295)، البحر المحيط (1/ 153)، اللسان (مادة: جنن) (1/ 517). (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 115).

ومعنَى عبادتِهم للشيطانِ ليست أنهم سَجَدُوا للشيطانِ، ولاَ ركعوا للشيطانِ، ولا صَامُوا للشيطانِ، ولا حَجُّوا للشيطانِ، وإنما عبادتُهم للشيطانِ: هي اتِّبَاعُهُمْ ما شَرَعَهُ من النُظُمِ على ألسنةِ أوليائِه، كما قَدَّمْنَا في قولِه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} ثم قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121]، فاللَّهُ- مثلاً- يقولُ: إن الميتةَ حرامٌ {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] فالميتةُ حرامٌ {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: آية 173]، هذا من تشريعِ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ. فيأتي الشيطانُ فَيُشَرِّعُ نظامًا آخرَ غيرَ هذا ويقولُ: ما قَتَلَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ بسكينٍ من ذهبٍ أَحَلُّ وَأَكْرَمُ مما قَتَلَهُ الإنسانُ بيدِه؟ فالميتةُ ذبيحةُ اللَّهِ، وهي أَحَلُّ مِنْ ذبيحةِ الناسِ!! فهذا تشريعُ إبليسَ على ألسنةِ أولياءِ إبليسَ، فَصَرَّحَ اللَّهُ بأن مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ إبليسَ وقال: بأن الميتةَ حلالٌ: أنه مشركٌ باللَّهِ، وهو قولُه: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] وهذا الشركُ باللَّهِ هو عبادةُ الشيطانِ التي نَهَى اللَّهُ عنها في (يس) في قولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وليس المرادُ بعبادتِه أنهم يسجدونَ له ويركعونَ، لا؛ وإنما بطاعتِه فيما شَرَعَ، وَاتِّبَاعِهِ في نُظُمِهِ وقوانينِه، ثم بَيَّنَ أن الذين يتبعونَ ذلك من هذا الاستكثارِ المذكورِ في (الأنعام) حيث قال في (يس): {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} أي: ومنهم الذين عَبَدُوهُ باتباعِ نظامِه وشرعِه وقانونِه: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} فتتركونَ تشريعَ خالقِ السماواتِ والأرضِ إلى عبادةِ الشيطانِ باتباعِ نظامِه وقانونِه، ثم بَيَّنَ مصيرَ هؤلاء فقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ

بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 60، 62 - 65] هؤلاء عَابِدِي الشيطانِ باتباعِ تشريعِه. ومن هذا المعنَى قولُ خليلِ اللَّهِ إبراهيمَ لأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] وما كان أبوه يسجدُ للشيطانِ، ولكنه كان يتبعُ نظامَ الشيطانِ وَشَرْعَ الشيطانِ وقانونَ الشيطانِ الذي شَرَعَهُ من عبادةِ الأوثانِ ومعاصاةِ الرسلِ. فَلْيَعْلَمْ كُلُّ إنسانٍ أن للشيطانِ مَذْهَبًا وَقَانُونًا وَشَرْعًا وَضَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه من مَرَدَةِ الإنسِ، ولخالقِ السماواتِ والأرضِ نِظَامًا وَشَرْعًا: نُورًا مُنَزَّلاً من السماءِ شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه، فالذين يعدلونَ عن نورِ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه إلى تشريعِ الشيطانِ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه داخلونَ في قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128] وداخلونَ في قولِه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: آية 62] سواء سَمَّوْا ذلك قانونًا، أو سَمَّوْهُ نِظَامًا، أو تَشْرِيعًا؛ لأن خالقَ السماواتِ والأرضِ لا يقبلُ أن يُعْبَدَ إلا بما شَرَعَ؛ لأنه ملكُ الملوكِ لا يقبلُ غيرَ شرعِه وتشريعِه، كما قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} [الشورى: آية 21] {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: آية 59] فالحلالُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وكل من يتبعُ نظامًا شيطانيًّا وَضَعَهُ الشيطانُ على مردةِ شياطينِ الإنسِ من أوليائِه فإنه يومَ القيامةِ صائرٌ إلى النارِ، داخلٌ في قولِه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} [يس: آية 62] وفي قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128].

والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد بَيَّنَ هذا لعديِّ بنِ حاتمٍ رضي اللَّهُ عنه، فإنه لَمَّا قال له: يا نَبِيَّ اللَّهِ: قولُ اللَّهِ تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] كيف اتَّخَذُوهُمْ أربابًا؟ فقال: ألم يُحِلُّوا لهم ما حرَّم اللَّهُ، ويُحرِّمُوا عليهم ما أحلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟ قال: بلى. قال: بذلك اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا (¬1). وذلك هو عبادتُهم إياهم. فَكُلُّ تشريعٍ غيرِ تشريعِ اللَّهِ، وكلُّ نظامٍ غيرِ نظامِ السماءِ الذي يَمْشِي عليه كأنه يقولُ: تشريعُ خالقِ السماواتِ والأرضِ أفضلُ منه تشريعُ غيرِه!! فهو يُنَزِّلُ درجةَ الخالقِ- جل وعلا، سبحانَه عن ذلك وتعالى عُلُوًّا كبيرًا- إلى أن أوضاعًا مُلَفَّقَةً من أذهانِ الكفرةِ الفجرةِ الخنازيرِ أنه أحسنُ من تشريعِ اللَّهِ!! ولذا يعدلونَ عن نورِ القرآنِ والسنةِ النبويةِ الصحيحةِ إلى ما يسمونَه قانونًا ونظامًا وَضَعَهُ أبناءُ الكلابِ القردةُ الخنازيرُ من اجتهاداتهم، تارةً يُحَرِّمُونَ ما أَحَلَّ اللَّهُ صريحًا، ويحللونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ صريحًا، يزعمونَ أن الهدى في هذا!! هذا- والعياذُ بالله- من أشنعِ الكفرِ والطغيانِ على اللَّهِ والتمردِ على نظامِ السماءِ، واحتقارِ الخالقِ -جل وعلا- حيث كان تشريعُه لا ينفعُ، وتشريعُ غيرِه من سَفَلَةِ الخنازيرِ أحسنَ من تشريعِه!! وهذا إنما وَقَعَ- والعياذُ باللَّهِ- بسببِ طمسِ البصيرةِ؛ لأن نورَ البصيرةِ إذا طُمِسَ من قلبِ الإنسانِ صارَ يرى الباطلَ حَقًّا، والحقَّ باطلاً، والحسنَ قَبِيحًا، والقبيحَ حَسَنًا، والذينَ يعدلونَ عن نورِ اللَّهِ يطلبونَ النورَ في تشريعِ المخلوقين هم في الحقيقةِ- بالكلمةِ التي هي بمعنَى الحرفِ الصحيحِ- هم خفافيشُ البصائرِ، أَعْمَاهُمْ ضوءُ القرآنِ فصاروا يطلبونَ الضياءَ في ظلامِ أفكارِ الكفرةِ الفجرةِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (¬1) مِثْلَ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى ... نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ (¬2) وَاللَّهُ (جل وعلا) يقولُ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: آية20] وفي بعضِ التفسيراتِ: تكادُ أنوارُ القرآنِ تُعْمِي بقيةَ بصائرِهم، واللَّهُ يقولُ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] لأن النورَ الساطعَ الشديدَ يَقْضِي على البصرِ الأَعْشَى الضعيفِ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ تعالى في السورةِ الكريمةِ- سورةِ الرعدِ- أن الذي لا يعلمُ أحقيةَ القرآنِ ومنزلتَه وكونَه هو الذي ينبغي أن يُتَّبَعَ أن ذلك إنما جاءَه مِنْ قِبَلِ عَمَاهُ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فَصَرَّحَ بأن الذي مَنَعَهُ من ذلك عَمَاهُ، وعدمُ رؤيةِ الأَعْمَى للشمسِ لا يجعلُ الشمسَ فيها رَيْبٌ. إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (1) والذين عَمُوا عن نورِ القرآنِ ونورِ السنةِ النبويةِ التي نَظَّمَتْ حياةَ البشريةِ على أكملِ الوجوهِ وأبدعِها وَأَنْصَفِهَا، وَمَيَّزَتِ الأوضاعَ على ضوءِ نورِ السماءِ، فَجَمَعَتْ بين خيرِ الدنيا والآخرةِ يرفضونَها وَيَنْصَرِفُونَ عنها ذَاهِبِينَ إلى النظامِ الذي شَرَعَهُ إبليسُ- عليه لعائنُ ¬

(¬1) البيت لابن الرومي، وهو في ديوانه (1/ 157)، تحقيق حسين نصار، ولفظه هناك: خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا نَهَارٌ بِضَوْئِهِ ... وَلاَحمَهَا قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ غَيْهَبُ (¬2) البيت في المغني لابن قدامة (13/ 323)، حياة الحيوان للدميري (1/ 296)، صبح الأعشى (2/ 88)، الأضواء (2/ 274).

اللَّهِ- على ألسنةِ أوليائِه إنما جَرَّهُمْ إلى ذلك أنهم خفافيشُ، والخفاشُ يُعْمِيهِ نورُ الشمسِ، وإذا كان النهارُ وانتشرَ ضوءُ الشمسِ صارَ الخفاشُ أَعْمَى لا يرى شيئًا، ولا يقدرُ أن يقومَ من محلِّه، وإذا جاء الليلُ وأرخَى الظلامُ سدولَه قَامَ الخفاشُ يسرحُ ويمرحُ؛ لأن هذا عندَه ضياءٌ!! فهذا مثلُهم، ولله المثل الأعلى. وعلينا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن اللَّهَ خَصَّنَا بسيدِ الرسلِ، وسيدِ الخلقِ، وأشرفِ الأنبياءِ، وجعلَ معجزتَه باقيةً، وهي هذا النورُ المنزلُ الذي يترددُ في أسماعِ البشرِ إلى يومِ القيامةِ. وفي الحجِّ تَلْتَقِي ببعضِ الحجاجِ من جميعِ أقطارِ الدنيا، تَرَى الذين يعرفونَ القرآنَ منهم على الحقيقةِ لا يختلفُ اثنانِ منهم في حرفٍ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82)} [النساء: آية 82] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: آية 9] بَيَّنَ اللَّهُ لنا فيه العقائدَ، وأصولَ الحلالِ والحرامِ، وطريقَ الجنةِ، وطريقَ النارِ، وتهذيبَ النفوسِ وتربيتَها، ومعالِيَ الأمورِ، والتنزهَ عن سَفْسَافِهَا، وَبَيَّنَ لنا فيه كيفَ نستعدُّ لأعدائِنا، وكيف نُوَاجِهُهُمْ في حالةِ الحربِ، وحالةِ الصلحِ والهدنةِ، وقد بَيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيانًا شافيًا كافيًا، حتى تَرَكَهَا محجةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ، فعلينا أن نعملَ به، ونتركَ آراءَ الكفرةِ الفجرةِ؛ لأن اتباعَ نظامِ الشيطانِ دَلَّتْ هذه الآياتُ على أنه كُفْرٌ بِاللَّهِ. واعلموا أن الأنظمةَ ليست سواءً، منها نظامٌ إداريٌّ، ومنها نظامٌ شرعيٌّ، والأنظمةُ الإداريةُ التي لا تصادمُ الشرعَ وإنما تَجْرِي على المصالحِ المرسلةِ لضبطِ أمورِ الرعيةِ وأوطانِها، فهذا النوعُ لا بأسَ به، وقد فَعَلَ الصحابةُ كثيرًا منه؛ فإن المسلمينَ لم يكن عندهم ديوانٌ

للجندِ تُكْتَبُ فيه أسماءُ الجندِ في زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، ولَمَّا تَخَلَّفَ كعبُ بنُ مالكٍ (رضي الله عنه) في غزوةِ تبوكَ لم يَعْلَمِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه تخلفَ حتى بلغَ تبوكَ؛ لأنه لم يكن عنده ديوانٌ يَكْتُبُ فيه أسماءَ الجندِ، وقام عُمَرُ بنُ الخطابِ لِمَّا أَفْضَتِ الخلافةُ إليه، وكتبَ أسماءَ الجندِ في ديوانٍ؛ فصارَ جميعُ الجندِ المقاتلين مكتوبةٌ أسماؤُهم في دواوينَ، إذا تخلفَ واحدٌ عُرِفَ الوقتُ الذي تخلفَ فيه وَوَجَّهَهُمْ إلى الجهادِ، وأعدَّ لكلِّ جهةٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا بأسمائِه. فهذا نظامٌ عسكريٌّ لم يفعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكر، ولكنه إداريٌّ لاَ يخالفُ شيئًا من الشرعِ. ولم يكن في زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا زمنِ أبي بكرٍ سِجْنٌ يُوقَفُ فيه المجرمونَ حتى يُحَقَّقَ معهم فيعاقبوا فيه، حتى كان في زمنِ عمرَ بنِ الخطابِ (رضي الله عنه) فَاشْتَرَى دارَ صفوانَ بنِ أميةَ في مكةَ وَاتَّخَذَهَا سِجْنًا. ومثلُ هذا من الأنظمةِ الإداريةِ لضبطِ أمورِ الرعيةِ مما لا يخالفُ الشرعَ، هذا أمرٌ كان يفعلُه الصحابةُ، وأجمعَ عليه جميعُ المسلمينَ في قرونِهم الماضيةِ، وليس كلامُنا عليه، وإنما كلامُنا على الذين يتبعونَ نظامَ الشيطانِ في التحليلِ والتحريمِ، ويتركونَ نظامَ اللَّهِ، كالذين يقولونَ: إن المرأةَ أضعفُ من الرجلِ، وَصِلَتُهُمَا بالميتِ واحدةٌ، فلابدَّ أن يكونَا سواءً، وتفضيلُه عليها غلطٌ وَحَيْفٌ عليها!! وكالذين يقولونَ: إن قَطْعَ يدِ السارقِ إنه عملٌ وحشيٌّ، لا ينبغي أن يكونَ في النُّظُمِ الإنسانيةِ!! وكالذين يقولونَ: إن الرجمَ والقتلَ بالحجارةِ عملٌ وحشيٌّ، لا ينبغي أن يكونَ في النُّظُمِ الإنسانيةِ!! ونحو هذا مما يقولُه الكفرةُ وأتباعُ الكفرةِ، حتى تَرَكُوا تشاريعَ

السماءِ لآراءِ الكفرةِ، وَخَفِيَتْ عليهم الْحِكَمُ. أما قطعُ اليدِ مثلاً الذي يقولونَ: إنه عملٌ وحشيٌّ لاَ ينبغي أن يكونَ في نظامٍ سماويٍّ، ولا أن يُعَامَلَ به الإنسانُ. فإنما هو لِجِهْلِهِمْ؛ لأن اليدَ الواحدةَ إذا لم تُعَاقَبْ عقوبةً رادعةً قد تُقَطِّعُ آلافَ الأيادِي بسرقتِها، وإن الله (جل وعلا) خَلَقَ هذه اليدَ وفَرَّقَ أصابعَها، وأبعدَ إبهامها عن أصابعِها؛ لأنه لو جَعَلَ الإبهامَ قريبًا من السبابةِ لَمَا قدرَ صاحبُها أن يحلَّ ولا أن يعقدَ، وشدَّ رؤوسها بالأظفارِ لتكونَ أداةً فَعَّالةً عاملةً في الخيرِ، وفي الإعانةِ على ما يُرْضِي اللَّهَ، على غرارِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: آية 2] فَلَمَّا مَدَّهَا هذا الخائنُ الخبيثُ الخسيسُ ليأخذَ أموالَ الناسِ على أخسِّ وجهٍ وأدناه وأردئه صارت هذه اليدُ في نظرِ مَنْ خَلَقَهَا وفي شَرْعِهِ صارت كأنها قذرةٌ نجسةٌ، وإن استمرت بالبدنِ قَذَّرَتْ ذلك البدنَ كُلَّهُ وَنَجَّسَتْهُ، فَقَطْعُ عُضْوٍ فَاسِدٍ كعمليةٍ تطهيريةٍ؛ ليصحَّ بها بقيةُ البدنِ من ذلك التنجيسِ وتلك الرذيلةِ، ولتطمئنَ الناسُ على أموالِها؛ ولذا ثبتَ في الصحيحين من حديثِ عبادةَ بنِ الصامتِ رضي اللَّهُ عنه ما يَدُلُّ على أن الحدودَ كفاراتٌ (¬1)، وأنه إن قُطِعَتْ يدُه الخبيثةُ النجسةُ الفاجرةُ المجرمةُ أنه يطهر بذلك بقيةُ بدنِه (¬2). وقد يحصلُ في ذهنِ طالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: الْعُدْوَانُ على المالِ ذو وجوهٍ كثيرةٍ؛ لأنه قد يكونُ بِالْغَصْبِ، وقد ¬

(¬1) البخاري في الحدود، باب: الحدود كفارة. حديث رقم (6784)، (12/ 84)، ومسلم في الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها. حديث رقم (1709)، (3/ 1333). (¬2) انظر: الأضواء (3/ 431).

يكونُ بالاختلاسِ، وقد يكونُ بالتعدِّي، وقد يكونُ بِالْمَطْلِ، وما جاء القطعُ إلا في نوعٍ واحدٍ منه وهو السرقةُ، فما الحكمةُ في أن يكونَ قطعُ اليدِ في خصوصِ السرقةِ دونَ غيرِها من الاعتداءاتِ الماليةِ (¬1)؟! والجوابُ عن هذا: أن غيرَ السرقةِ من الاعتداءاتِ الماليةِ الغالبُ على حالِه أن صاحبَه لاَبُدَّ أن يرى الشهودَ؛ لأنه لا يكونُ غالبًا في خصوصٍ ومفارقةٍ، وإذا جاء الشهودُ رَفَعَ بهم صاحبُ الحقِّ إلى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يدَه فاستخرجَ له حَقَّهُ، وعاقبَ الجانيَ بقدرِ ما يستحقُّ. أما السرقةُ: فإن السارقَ يَتَحَرَّى أخفَى الأوقاتِ، وأبعدَها عن اطلاعِ الناسِ بحيثُ لا يشعرُ به أحدٌ، ولا يطلعُ عليه أحدٌ، ولو لم يُعَاقَبْ صاحبُها بعقوبةٍ رادعةٍ لَمَا اطْمَأَنَّ أحدٌ على سبيلٍ مَالِيٍّ؛ لحذقِ اللصوصِ في الحيلِ الخفيةِ التي يسرقونَ بها أموالَ الناسِ، والمالُ شريانُ الحياةِ؛ لأَنَّ المالَ هو أساسُ هذه الحياةِ الدنيا، فهو شريانُها في جميعِ المجالاتِ؛ إِذْ لا عسكريةَ إلا بالمالِ، ولا سياسةَ إلا بالمالِ، ولا اجتماعيةَ إلا بالمالِ، ولا ثقافةَ إلا بالمالِ، فهو شريانُ الحياةِ، واللَّهُ (جل وعلا) جَعَلَ هذه العقوبةَ لأَمْرَيْنِ: أحدُهما: تطهيرُ الجسدِ الذي أَنْجَسَهُ ذلك الجزءُ النجسُ كعمليةٍ تطهيريةٍ بقطعِ عضوٍ فاسدٍ لتصحَّ بقيةُ البدنِ. والثاني: لتطمئنَ الناسُ على مَالِهَا، فإذا قُطِعَتْ يدٌ واحدةٌ طُهِّرَ صاحبُها من تلك الرذيلةِ، وصار إنسانًا طَيِّبًا بعدَ أن صارَ قَذِرًا نَجِسًا، وسَلِمَ المسلمونَ من أَذَاهُ بعدَ ذلك، وَمِنْ أَذَى غيرِه؛ لأن مَنْ عَلِمَ أنه إذا سَرِقَ قُطِعَتْ يدُه كَفَّ عن الناس؛ ولذلك ترى أقلَّ البلادِ أن يوجدَ ¬

(¬1) المصدر السابق (3/ 432).

فيها حوادثُ السرقةِ هي هذه البلادُ - نرجو اللَّهَ أن يوفقَ ولاتِها إلى ما يُحِبُّهُ - وإنما ذلك بفضلِ اللَّهِ ثم بفضلِ قطعِ يدِ السارقِ، وإن الإحصاءاتِ العالميةَ إذا أُحْصِيَتْ تَجِدْ آلافَ حوادثِ السرقةِ بل ملايينها في كلِّ محلٍّ، وأقلُّ ما يُوجَدُ فيه هذا المحلُّ، الذي يُقَامُ فيه هذا الحدُّ من حدودِ اللَّهِ؛ وذلك مما يُبَيِّنُ أن حكمةَ اللَّهِ في تشريعِه هي الحكمةُ الكفيلةُ للمخاليقِ بجميعِ مصالحهم. ولا يَسَعُنَا في الوقتِ أن نتتبعَ جميعَ هذه التي ينكرونَ فنُظْهِرَ حِكَمَهَا الواضحةَ بفلسفةٍ عقليةٍ لا تَخْفَى على أَحَدٍ، كتعددِ الزوجاتِ، وكتفضيلِ الرجلِ في الميراثِ، وكالرجمِ، وما جرَى مَجْرَى ذلك، فإنها أحكامٌ عادلةٌ في تشريعاتٍ سماويةٍ، وكمسألةِ الرقِّ، إلى غيرِ ذلك من المسائلِ، فهي في الحقيقةِ من أبرزِ المسائلِ وأظهرِها. ومن أشدِّ ما ينكره الفجرةُ على الإسلامِ: مسألةُ الرقِّ، وَهُمْ في الحقيقةِ يرتكبونَ أعظمَ منها!! وَسَنُبَيِّنُ حكمتَها تَنْبِيهًا بها على غيرِها (¬1). وإنما أَوْجَبَ الإسلامُ الرقَّ لأن اللَّهَ خَلَقَ هذا الإنسانَ وأمرَه أن يكونَ إعانةً وعضوًا صَالِحًا في المجتمعِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: آية 56] وقد وَضَعَ اللَّهُ نظامًا أرادَ به الخيرَ لِخَلْقِهِ، هو نظامُ السماءِ الذي شرعَه على لسانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، يريدُ للناسِ إذا اتبعته أن يسودَهم العدالةُ والطمأنينةُ والرخاءُ والمساواةُ في الحقوقِ، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الخيرِ، فقامَ الكافرُ واستعملَ جميعَ نِعَمِ اللَّهِ في كُلِّ ما يُسْخِطُ اللَّهَ، وخرجَ على نظامِ السماءِ ليقلبَ الحكمَ السماويَّ إلى غيرِه!! ومعلومٌ أن كُلَّ دولةٍ من هذه الدولِ التي تُنْكِرُ الرقَّ لو أَغْدَقَتِ النِّعَمَ على رجلٍ منها، ثم تَمَرَّدَ عليها وحاولَ إسقاطَ حُكْمِهَا، وقَلْبَ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (3/ 424)، (7/ 419).

نظامِ الحكمِ، ثم تَمَكَّنَتْ منه أن تَقْتُلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ فالكافرُ تمردَ على نظامِ مَنْ خَلَقَهُ، واستعملَ نِعَمَ اللَّهِ في معصيةِ اللَّهِ، يريدُ بذلك قَلْبَ نظامِ حُكْمِ السماءِ؛ لعدمِ رِضَاهُ بنظامِ السماءِ، فأصحابُ الدولةِ الإسلاميةِ الذين هم وكلاءُ اللَّهِ في أَرْضِهِ، ويستعملُهم في طاعتِه؛ لِيُنَفِّذُوا ما يريدُ من خيرٍ، وَيَنْهَوْنَ عَمَّا يَنْهَى عنه من شرٍّ قَاتَلُوا هذا الكافرَ قِتَالاً مَرِيرًا، فبعدَ أن أَمْسَكُوهُ كان لهم أن يقتلوه؛ لأنه كان عَدُوًّا لهم يريدُ أن يقلبَ نظامَ السماءِ، فأمَرَ مَنْ خَلَقَهُ بِقَتْلِهِ قِتْلَةً دونَ قِتْلَةٍ، وهي أنه طَرَدَهُ عن مرتبةِ الإنسانِ إلى مرتبةٍ تَقْرُبُ من مرتبةِ الحيوانِ، بل هي مرتبةُ الحيوانِ؛ لأنه يُبَاعُ ويُشْرَى ويُوهَبُ، مع أنه لم يَقْتُلْهُ من الدنيا، بخلافِ الدولةِ التي تَنْشُرُ الكفرَ لو تَمَكَّنَتْ من المتمردِ عليها الذي يريدُ قلبَ نظامِها لَشَنَقَتْهُ وَقَتَلَتْهُ شَرَّ قِتلَةٍ!! فاللَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ قِتْلَةً دونَ قِتْلَةٍ، وأنه تُنَزَّلُ منزلتُه عن درجةِ الإنسانِ الكاملِ إلى درجةِ الحيوانِ، ويبينُ حقوقَه كاملةً، فَيَأْمُرُ سيدَه بالإحسانِ إليه، وألا يُكَلِّفَهُ من العملِ إلا ما يطيقُ، وإن كَلَّفه أَعَانَهُ. نعم، هنا يبقى سؤالٌ: وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: ما دامَ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا على نظامِ السماءِ فَقَتْلُهُ قِتْلَةً دونَ قِتلَةٍ هذا أمرٌ معقولٌ، ولكن إذا أَسْلَمَ وَصَلَّى أخًا لنا يُصَلِّي معنا في المساجدِ، ويصومُ معنا رمضانَ، ويعبدُ اللَّهَ معنا، فما الحكمةُ إذًا وَمَا المُسَوِّغُ بِأَنَّا نَشْتَرِيهِ، ونبيعُه وقد زالَ الموجبُ المُسَوِّغُ لذلك؟ والجوابُ عن هذا: هي قاعدةٌ معروفةٌ لَدَى جميعِ العقلاءِ، وهي أن الحقَّ الثابتَ لاَ يرفعُه الحقُّ اللاحقُ، فالمجاهدونَ عندما وضعوا عليه أيديَهم وهو كافرٌ ثَبَتَتْ لهم ملكيتُه، فَلَمَّا أَسْلَمَ استحقَّ رفعَ الملكيةِ، وَلَكِنْ كان حقُّه متأخرًا، فَقُدِّمَ عليه الحقُّ السابقُ،

وتقديمُ الحقِّ السابقِ على الحقِّ المتأخرِ أمرٌ يُقِرُّ به جميعُ العقلاءِ، نَعَمْ لطالبِ العلمِ أن يقولَ: إن كان هذا الحقُّ قبلَ هذا الحقِّ، والحقُّ الآخرُ لاَ يرفعُ الحقَّ الأولَ، لكن يجدرُ بالمسلمِ أن يُعْتِقَ أَخَاهُ، وَيُسْقِطَ حَقَّهُ الأولَ لِحَقِّ أَخِيهِ الأَخِيرِ!! فنقولُ: نَعَمْ بهذه جاء القرآنُ، وَرَغَّبَ المؤمنَ بعتقِ أَخِيهِ، وأنه يُعْتَقُ كُلُّ عُضْوٍ منه بعضوٍ منه، وَفَتَحَ الأبوابَ الكثيرةَ للعتقِ: من كفارةِ الأيمانِ والظهارِ وغيرِه إلى غير ذلك، فهذه حِكَمُ اللَّهِ في تشريعِه لا يضلُّ عنها إلا مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ كالخفاشِ. ومعنَى قولِه: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128] أي: قَدْ أَكْثَرْتُمْ من إغواءِ الإنسِ، وإضلالِهم باتباعهم تشاريعَكم ونُظُمَكم، وقد يُضِلون لو لم تتبع تشريعهم، فيُضِلُّون المسلمَ الذي هو على تشريعِ السماءِ بأن يُزَيِّنُوا له المعاصيَ كالزنا والسرقة وَشُرْبِ الخمرِ ويتبعهم في ذلك، ويغوونه بذلك مع أنه لم يَكْفُرْ، ولم يُقِرَّ بتشريعٍ غيرِ تشريعِ الله؛ لأَنَّ الذي يشربُ الخمرَ ويزني ويسرقُ- والعياذُ بِاللَّهِ- إن كان يعتقدُ أن ذلك حلالٌ فهو كافرٌ متبعٌ نظامَ الشيطانِ داخلٌ في قولِه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} [يس: آية 62] أما إذا زَيَّنَ له الشيطانُ الزنى والسرقةَ وهو يعلمُ أنه مرتكبٌ خسيسةً، وأنه فاعلٌ أَمْرًا حَرَامًا، وأن هذا لا يجوزُ فهذا لا يَخْرُحُ عن دينِ الإسلامِ، بل هو مسلمٌ مِنْ عُصَاةِ المسلمين، مرتكبٌ كبيرةً تُرْجَى لهم التوبةُ. والشياطينُ قد يستكثرونَ من الآدميين بِالنَّوْعَيْنِ، يستكثرونَ باتباعِ تشاريعِهم كما هو جَارٍ الآنَ في أقطارِ الدنيا، ويستكثرونَ بتزيينِ الشهواتِ كالزِّنَا والسرقةِ والمعاصِي- والعياذُ بالله- مع أنه مسلمٌ. وهذا معنَى قولِه: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ}

[الأنعام: آية 128] ثم إن أولياءَهم من الإنسِ، والمرادُ بأوليائهم: هم الذين كانوا يتبعونَ تشريعَهم في الدنيا، أو يُطَاوِعُونَهُمْ فيما زَيَّنُوا لهم من المعاصِي كالزنى وشربِ الخمرِ، وما جرى مجرَى ذلك. هؤلاء أولياؤُهم؛ لأنهم يُوَالُونَهُمْ، هؤلاء يُوَالُونَهُمْ في التشريعِ، وهؤلاء يوالونهم في الطاعةِ، والفاجرُ وَلِيُّ الفَاجِرِ، والكافرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ، والمؤمنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ. {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا} [الأنعام: آية 128] معناه: يا خَالِقَنَا وَمُدَبِّرَ شُؤُونِنَا، {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: آية 128] الاستمتاعُ: هو التمتعُ، والتمتعُ في لغةِ العربِ: الانتفاعُ، وقد انتفعَ بعضُنا في دارِ الدنيا من بعضٍ. {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: آية 128] أما انتفاعُ الإنسِ بالشياطين: فهو أنهم يَدُلُّونَهُمْ على لذاتِ الدنيا الحرامِ، وَيُزَيِّنُونَهَا لهم، فيستمتعونَ بالزنا، والتلذذُ بالنساءِ الجميلاتِ زِنًا، وبشربِ الخمرِ، وبقتلِ الأعداءِ ظُلْمًا، حتى يَتَشَفَّوْا وَيُشْفُوا غيظَهم، ومن جنسِ المظالمِ التي يُزَيِّنُونَهَا لهم ينتفعونَ ويتمتعونَ بها في الدنيا. وأما انتفاعُ الشياطين: فهو أنهم يكونونَ سادةً مُطَاعِينَ؛ لأن لذةَ الطاعةِ والرياسةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، أكثرُ من لذةِ ما ينالُه ذلك. وكان بعضُ العلماءِ (¬1) يقولُ في انتفاعِ الإنسِ بالجنِّ والجنِّ بالإنسِ: إنه كان قبلَ الإسلامِ إذا نَزَلَ الرجلُ بِوَادٍ في الليلِ وخافَ من الجنِّ قال: أعوذُ بسيدِ هذا الحيِّ من سفهاءِ قومِه. فَيُعِيذُهُ ذلك السيدُ، فينتفعُ الإنسيُّ بأن كبيرَ الشياطين مَنَعَهُمْ من الدنوِّ، وينتفخُ كبيرُ الشياطين ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 116)، القرطبي (7/ 84)، ابن كثير (2/ 176)، البحر المحيط (4/ 220).

وينتفعُ، ويقولُ: نَحْنُ صِرْنَا سادةَ الجنِّ والإنسِ، الإنسُ يعوذونَ بِنَا، والجنَّ سُدْنَاهُمْ، وإلى هذا الإشارةُ بقولِه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: آية 6] ولكن هذا لا تُفَسَّرُ الآيةُ به؛ لأن هذا يقعُ قليلاً؛ واللَّهُ يقولُ: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} فَدَلَّ على أنه كثيرٌ، وأنه اتبعَ تشريعَهم، أو ما زَيَّنُوا من المعاصِي، والشهواتِ- والعياذُ باللَّهِ جل وعلا- هذا معنَى قولِه: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: آية 128] أظهرُ الأقوالِ أن أَجَلَهُمُ الذي أَجَّلَ لهم: الموتُ؛ لأَنَّ كُلَّ إنسانٍ حياتُه محددةٌ بدقائقِها، لم يَزَالُوا - والعياذُ بالله- في تزيينِهم لَهُمُ المعاصيَ والشهواتِ والكفرَ واتباعَهم إياه - إلى أن- حتى انْتَهَى الأجلُ وماتوا. وقال بعضُ العلماءِ: إن الأجلَ الذي أَجَّلَهُ لهم هو يومُ القيامةِ؛ لأنه هو اليومُ الذي أَجَّلَهُ لمعاقبةِ الجميعِ بما يليقُ بِكُلٍّ منهم (¬1). وهذا معنَى قولِه: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} قال اللَّهُ مُجَاوِبًا لهم: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} - والعياذُ بِاللَّهِ - يعني أن عُذْرَكُمْ هذا عذرٌ باردٌ غيرُ مقبولٍ، لا حجةَ لكم فيه، وأنتم وإياهم في النارِ ( ... ) (¬2). و (النارُ) - عِيَاذًا بِاللَّهِ - هي نارُ الآخرةِ. وأَلِفُ النارِ - التي بينَ النونِ والراءِ - مبدلةٌ من واوٍ، أصلُها: (نَوَرَ) بدليلِ تصغيرِها على (نُويرة)، ولو كانت يَائِيَّةَ العينِ لَقِيلَ فيها: (نُييرة) ويقال: «تَنَوَّرْتُ النارَ» إذا نَظَرْتَهَا من بَعِيدٍ. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 220). (¬2) في هذا الموضع كلام غير واضح ولعله بيت من الشعر.

تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرُعَاتٍ وَأَهْلُهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِ (¬1) ولو كانت يائيةَ العينِ لَقَالَ: تَنَيَّرْتُهَا بالياءِ، ولم يَقُلْ: «تَنَوَّرْتُهَا»، (¬2) واشتقاقُ النارِ من «نَارَتِ الظبيةُ» إذا ارْتَفَعَتْ جافلةً؛ لأَنَّ عادتَها إذا أُوقِدَتِ الارتفاعُ. ونارُ الآخرةِ- والعياذُ بالله- أَشَدُّ حَرًّا من هذه بِسَبْعِينَ ضِعْفًا. وقولُه: {مَثْوَاكُمْ} الْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ. والثَّوَاءُ: الإقامةُ على الدوامِ. ومنه قولُه: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: آية 45] أي: مُقِيمًا فيهم (¬3). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الحارثِ بْنِ حِلِّزَةَ (¬4): آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ فَالْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ. وهو مفتوحُ الواوِ على القياسِ؛ لأَنَّ المقررَ في فَنِّ التصريفِ أن الفعلَ المعتلَّ اللامِ الثلاثيَّ يبقى مصدرُه الميميُّ، واسمُ مكانِه، واسمُ زمانِه على (المَفْعَل) بفتحِ العينِ. وهذا مُطَّرِدٌ (¬5). وَالْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ. وقولُه: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ}، {خَالِدِينَ} حالٌ، ويُشْكِلُ العاملُ في الحالِ؛ لأن المَثْوى اسمُ مكانٍ، والمكانُ لا يعملُ في الحالِ. ¬

(¬1) البيت لامرئ القيس، وهو في ديوانه ص 124. (¬2) انظر: المفردات (مادة: نور) ص828، اللسان (مادة: نور) (3/ 739)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص263. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 117)، المفردات (مادة: ثوى) ص181. (¬4) شرح القصائد المشهورات (2/ 51). (¬5) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 83). الدر المصون (3/ 436)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 76.

قال بعضُهم: العاملُ في الحالِ فعلٌ محذوفٌ، تقديرُه: النارُ مَثْوَاكُمْ تَدْخُلُونَهَا خالدينَ فيها. وقال بعضُ العلماءِ: العاملُ في الحالِ معنَى الإضافةِ (¬1). ومعنَى: {خَالِدِينَ فِيهَا} لاَبِثِينَ فيها على الدَّوَامِ. {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} هذه الآيةُ ونظيرتاها في القرآنِ هما اللتانِ أَخَذَ منهما بعضُ أهلِ العلمِ أن النارَ تَفْنَى (¬2)، وقد جاءت في القرآنِ ثلاثُ آياتٍ يُفْهَمُ من بعضِ ظاهرِها بعضُ الشيءِ: أولُها: آيةُ الأنعامِ هذه: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}. الثانيةُ: آيةُ هودٍ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ} [{مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: الآيتان 106 - 107]. الثالثةُ: آيةُ النبأِ: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: الآية 23] (¬3). [17/أ] / ( ... ) (¬4) وجاءَ عن جماعةٍ من الصحابةِ منهم (¬5) عُمَرُ بنُ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 220)، الدر المصون (5/ 149). (¬2) في مسألة فناء النار راجع: حاوي الأرواح ص 248، الرد على من قال بفناء الجنة والنار لابن تيمية، كشف الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني، دفع إيهام الاضطراب ص 122 - 128. (¬3) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل. وتم استدراك النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية (36) من سورة الأعراف. وللاستزادة راجع كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة في دفع إيهام الاضطراب ص 122 - 123، معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص 254. (¬4) في هذا الموضع جملة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها. (¬5) انظر: ابن جرير (15/ 484)، ابن كثير (2/ 460)، الدر المنثور (3/ 350)، الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص 53، 69، رفع الأستار 64 - 87، حادي الأرواح 249، 252. قال الصنعاني بعد أن ذكر بعض هذه الآثار وأجاب عنها: «فعرفت بطلان نسبة هذا القول إلى ابن مسعود وأبي هريرة، كما عرفت بطلان نسبته إلى عمر» إلى أن قال: «وبعد تحقيقك لما أسلفناه، وإحاطتك علمًا بما سقناه تعلم أن هؤلاء الأربعة من الصحابة الذين هم: عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد ... هم بريئون من هذا القول، ومن نسبة فناء النار إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب ... » ا. هـ رفع الأستار ص77، 80.

الخطابِ (¬1)، وابنُ مسعودٍ (¬2)، وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ (¬3) أنهم ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (15/ 484)، وأشار له ابن كثير (2/ 460)، وذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص252، 253، وعزاه في الدر (3/ 350) لابن المنذر وأبي الشيخ. وقال الألباني عن إسناده عند ابن جرير: «وهذا إسناد مظلم» ا. هـ رفع الأستار ص 76. (¬2) ذكره البغوي في التفسير (2/ 403) وابن تيمية في كتاب «الرد على من قال بفناء الحنة والنار» ص53 وعزاه لعبد بن حميد، كما ذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص249 وعزاه لعبد بن حميد، وأشار له ابن كثير (2/ 460)، وعزاه في الدر (3/ 350) لابن (¬3) المنذر، وعزاه الحافظ- كما في تخريج أحاديث الكشاف (2/ 149) لمسند الحارث بن أبي أسامة، وعقبه بقوله: «منقطع»، ومراسيل الحسن عندهم واهية؛ لأنه كان يأخد من كل أحد ... » ا. هـ والأثر ضعفه الصنعاني في رفع الأستار ص65، وكذا الألباني في التعليق على رفع الأستار ص65، والسلسلة الضعيفة (2/ 73). () ذكره البسوي في تاريخه (2/ 103)، وأورده القرطبي في التذكرة ص437 وابن تيمية في «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» ص69 من طريق حرب الكرماني. كما نقله ابن القيم في حادي الأرواح ص252، والذهبي في الميزان (4/ 385) في ترجمة أبي بَلج الفزاري الواسطي. وعَدّ هذا الأثر من بلاياه!! وبعد أن ساق الأثر عقبه بقوله: «وهذا منكر. قال ثابت البناني: سألتُ الحسن عن هذا فأنكره» ا. هـ وأشار له ابن كثير (2/ 460)، وذكره الحافظ في التهذيب (12/ 49) في ترجمة أبي بَلْج، وانظر: تخريجه لأحاديث الكشاف (2/ 148). وقد ضعفه الألباني في الضعيفة (2/ 72) وفي التعليق على «رفع الأستار» ص 81، 82.

قالوا: «يأتي يومٌ على النارِ- زمانٌ- تَصْفَقُ أبوابُها ليس فيها أَحَدٌ». وهذه النارُ هي في الحقيقةِ يجبُ حَمْلُهَا على الطبقةِ التي كان بها عصاةُ المسلمينَ؛ لأنه ثَبَتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أن النارَ يَدْخُلُهَا بعضُ عصاةِ المسلمين ثم يُخْرَجُونَ منها. هذا ثابتٌ متواترٌ عن النبيِّ لا نزاعَ فيه. والنارُ طبقاتٌ وأبوابٌ: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44)} [الحجر: آية 44] وبَيَّنَ أنها دركاتٌ، وأن المنافقين في الدركِ الأسفلِ منها، فالطبقةُ التي كان فيها عصاةُ المسلمينَ إذا أُخْرِجُوا منها هي التي تَفْنَى، أما النارُ التي فيها الكفارُ فالتحقيقُ أنها باقيةٌ لا تَفْنَى، وأنه لم يَدُلَّ كتابٌ ولا سُنَّةٌ على أنها تَفْنَى، فهي باقيةُ لا تزولُ أَبَدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بذلك في آياتٍ كثيرةٍ، فَصَرَّحَ بأنها لا تَفْنَى حيث قال: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء: الآية 97]، ومعلومٌ أن (كلما) تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الفعلِ بَعْدَهَا (¬1). ولو قلتَ لِعَبْدِكَ: كلما جاءكَ زيدٌ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا. وجاءَه زيدٌ عدةَ مراتٍ. فعليهِ في كُلِّ مرةٍ أن يعطيَه درهمًا؛ لأن (كُلَّمَا) تتكررُ دائمًا بتكررِ الفعلِ، فَمَنِ ادَّعَى أن للنارِ خبْوَةً نهائيةً ليس بعدَها زيادةُ سعيرٍ يُرَدُّ عليه بقولِه: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} وَبَيَّنَ أنهم لاَ يخرجونَ منها بقولِه جل وعلا: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ ¬

(¬1) انظر: البرهان للزركشي (4/ 324)، الكليات 744.

أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: الآية 20] {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)} [المائدة: الآية 37] وَبَيَّنَ أنهم لاَ يُخَفَّفُ عنهم عَذَابُها قال: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: الآية 36] {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30)} [النبأ: الآية 30] إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ (¬1). وهنا سؤالانِ: أحدُهما سؤالٌ على بابِه، سؤالُ إسلامٍ، والثانِي سؤالٌ إلحاديٌّ معروفٌ. أما السؤالُ الإلحاديُّ المعروفُ فهو أن يقولَ الْمُلْحِدُ: أنتم تقولونَ: إن رَبَّكُمْ في غايةِ العدالةِ والإنصافِ- ونحنُ نقولُ: بلى هو في غايةِ الكمالِ والعدالةِ والإنصافِ- والمعاصِي التي فَعَلَهَا (¬2)، والكفرُ الذي كان عليه، كان في أيامٍ معدودةٍ، وجزاءُ النارِ الذي تقولونَ إنه لاَ ينقطعُ في ملايينِ السنينَ، فأينَ العدالةُ والإنصافُ؟ المعصيةُ كان في وقتٍ قليلٍ مُعَيَّنٍ، والجزاءُ بهذا الصنفِ، فأينَ المعادلةُ بينَ العذابِ والذنبِ والجزاءِ، والإنصافُ أن يكونَ العقابُ بقدرِ الفعلِ؟ هذا سؤالٌ إلحاديٌّ معروفٌ، يُدْلِي به هنا كُلُّ مُلْحِدٍ. والجوابُ عن هذا السؤالِ (¬3) أن نقولَ: إن اللَّهَ (جل وعلا) بَيَّنَ أن خبثَهم وكفرَهم الذي جُبِلُوا عليه باقٍ دائمٌ لا يزولُ ولو مَرَّتْ عليه ملايينُ السنينَ، فكان جزاؤُه دائمًا لا يزولُ. ومن الآياتِ الدالةِ على بقائِه أبدًا أنهم لَمَّا عَايَنُوا العذابَ وَرَأَوُا النارَ وَنَدِمُوا على الكفرِ وقالوا: {يا ليتنا نُرَدُّ ولا نكذِّبُ بآياتِ ربنا ونكونُ من المؤمنين} ¬

(¬1) انظر: حادي الأرواح ص 254. (¬2) أي: الكافر. (¬3) انظر: كشف الأستار ص 126.

[الأنعام: الآية 27]، وفي قراءةٍ أُخْرَى (¬1): {وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الآيةَ. اللَّهُ لَمَّا تَمَنَّوْا أنهم يُرَدُّونَ إلى الدنيا مرةً أُخْرَى ليُصَدِّقُوا الرسلَ بَيَّنَ أنهم لو رُدُّوا إلى الدنيا مرةً أُخْرَى وَأُمْهِلُوا، وَأُرْسِلَتْ لهم الرسلُ لَبَقَوْا على خُبْثِهِمْ الذي لا يَنْفَكُّ عنهم أَبَدًا، قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: الآية 28]. وقال في سورةِ الأنفالِ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: الآيتان22، 23] وقولُه: {خَيْرًا} نكرةٌ في سياقِ الشرطِ فَهِيَ تَعُمُّ (¬2)، فهي تدلُّ على أن اللَّهَ لو يَعْلَمُ فيهم خَيْرًا ما، في وَقْتٍ ما، كائنًا مَا كَانَ، فَهُمْ مَنْفِيٌّ عنهم جميعُ الخيرِ لا يطلبونه أبدًا، والخبثُ باقٍ فيهم أبدًا، فكانَ الجزاءُ دائمًا أبدًا، ومن هنا تَطَابَقَ الجزاءُ والعملُ. أما السؤالُ الثاني: وهو السؤالُ الذي على بابِه، وهو أن يقولَ: إذا قَرَّرْتُمْ أن النارَ باقيةٌ، وأن الكفارَ بَاقُونَ فيها مخلدونَ، عَذَابًا سَرْمَدِيًّا، فما الحكمةُ في الاستثناءِ بقولِه: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: الآية 128] وفي قولِه: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: الآية 107] وفي قولِه: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: الآية 23]؟ وفي هذا أوجهٌ كثيرةٌ (¬3)، وبحوثٌ كثيرةٌ نقتصرُ منها على القليلِ، وَسَنُبَيِّنُهَا جميعًا- إن شاءَ اللَّهُ- في سورةِ هودٍ. مِنْ أَحْسَنِ الأجوبةِ: الذي اختارَه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (101) من هذه السورة. (¬2) انظر: المسودة 103، شرح الكوكب المنير (3/ 141)، البرهان للزركشي (2/ 6)، أضواء البيان (3/ 322)، (4/ 174) قواعد التفسير (2/ 560). (¬3) انظر: ابن جرير (15/ 481)، ابن كثير (2/ 460)، رفع الأستار ص 90 فما بعدها، حادي الأرواح ص 251 فما بعدها.

كبيرُ الْمُفَسِّرِينَ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ (¬1)، ونسبَه لقتادةَ والضحاكِ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَأَبِي سِنَانَ: أن (ما) بمعنَى: (مَنْ) وعليه فلا إشكالَ، فَخَالِدِينَ فيها إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ عدمَ خلودِه من العصاةِ الذين أُدْخِلُوا فيها لِتُمَحِّصَهُمْ وتطهرهم من الذنوبِ، وغايةُ ما في البابِ أنه أَطْلَقَ (مَا) وَأَرَادَ (مَنْ) (¬2)، وإطلاقُ (ما) مُرَادًا بِهَا (مَنْ) كثيرٌ فِي القرآنِ، كقولِه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء: الآية 3] أي: مَنْ طَابَ لَكُمْ. وقولُه: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: الآية 6] أي: مَنْ مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ. والآياتُ موجودةٌ كثيرةٌ غيرُ هذا. أما آيةُ النبأِ: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [عم: الآية 23] فالآيةُ التي بعدَها تُبَيِّنُهَا، بقرينةِ آيةٍ فِي سورةِ (ص) فَهِيَ بيانٌ قُرْآنِيٌّ وَاضِحٌ، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ؛ لأَنَّ معنَى: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} أي: لاَبِثِينَ فيها أَحْقَابًا فِي حالِ كونِهم لاَ يذوقونَ فيها بَرْدًا وَشَرَابًا إلا حميمًا (¬3) وغساقًا. [فالآيةُ بَيَّنَتْ] (¬4) أحقابَ الحميمِ والغساقِ [مع كونِهم يُعَذَّبُونَ] (¬5) بأشكالٍ أُخَرَ وأنواعٍ أُخَرَ، غيرِ أنواعِ الحميمِ والغسَّاقِ، وهذا التفسيرُ دَلَّتْ عليه آيةُ (ص) دلالةً واضحةً؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} ثم قال: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (15/ 481_ 483). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 221)، الدر المصون (5/ 151). (¬3) يحتمل أن تكون عبارة الشيخ هكذا: «لا يذوقون فيها إلا بردًا وشرابًا وحميمًا وغساقًا». ولضعف التسجيل لم أجزم بذلك. (¬4) في الأصل قدر كلمتين غير واضحتين. وما بين المعقوفين [] زيادة يستقيم بها الكلام. (¬5) في الأصل كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يستقيم بها الكلام.

{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص: الآيات 55 - 58] وقولُه: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} المذكورةُ فِي سورةِ (ص) بَيَّنَتْ أن آيةَ: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا (24) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [عم: الآيات 23 - 26] أنها الأحقابُ المقصورةُ عليها الحميمُ والغساقُ، وأن هنالك أشكالاً وأزواجًا أُخَرَ لا نهايةَ لها، كما قال: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} قال: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)}. وهذا معنَى قولِه: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} الحكيمُ: هو الذي يَضَعُ الأمورَ في مواضعِها، وَيُوقِعُهَا في مواقعِها، فَاللَّهُ لا يضعُ أَمْرًا إلا فِي مَوْضِعِهِ، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه، فلاَ يُشَرِّعُ شَرْعًا إلا لمصلحةٍ، ولا يَنْهَى عن شيءٍ إلا وهو ضَارٌّ، ولا يعذبُ إلا مَنْ يَسْتَحِقُّ، ولا يُجَازِي بالخيرِ إلا مَنْ مُجَازَاتُهُ له واقعةٌ مَوْقِعَهَا. فأحكامُه كُلُّهَا عدلٌ وأفعالُه وتشريعاتُه وجزاؤُه. لا يضعُ الأمرَ إلا في موضعِه، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه؛ لأنه حكيمٌ خبيرٌ، والحكمةُ إنما [تتمُّ وتتحققُ] (¬1) بوصفِ العلمِ، فترى الرجلَ القُلَّبَ الحكيمَ الخبيرَ يفعلُ الأمرَ ويظنُّه سدادًا ثم ينكشفُ الغيبُ عن أن فيه غيرَه، ويقولُ: يَا لَيْتَنِي لم أَفْعَلْ، ولو لم أَفْعَلْ لكانَ خَيْرًا!! كما قال الشاعرُ (¬2): لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّيَ لَيْتٌ ... إِنَّ لَيْتًا وَإِنْ لَوًّا عَنَاءُ ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) البيت لأبي زبيد الطائي، وهو في الشعر والشعراء ص191 وفي الكتاب لسيبويه (3/ 261) فتح الباري (13/ 226).

وَنَهَى النبيُّ عن (لو)، وَبَيَّنَ أنها تفتحُ بابَ الشيطانِ، وقال الشاعرُ (¬1): أُلاَمُ عَلَى (لَوٍّ) وَلَوْ كُنْتُ عَالِمًا ... بِأَذْنَابِ (لَوٍّ) لَمْ تَفْتِنِّي أَوَائِلُهُ فَاللَّهُ وحدَه هو الذي لا يَجْرِي عَلَيْهِ: (لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ) أو: (لو فعلتُ كذا لكانَ كذا) لأَنَّهُ عالمٌ بعواقبِ الأمورِ، وما تَؤُولُ إليه، فحكمتُه لا اختلالَ فيها. بخلافِ المخلوقينَ، فقد يفعلُ الإنسانُ بوصفٍ يظنُّه حكمةً لجهلِه بما تنكشفُ عنه الغيوبُ؛ ولذا كان الحكيمُ الحكمةَ التامةَ هو وحدَه جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)} قولُه: {عَلِيمٌ (83)} صيغةُ مبالغةٍ؛ لأَنَّهُ (جل وعلا) يحيطُ علمُه بِكُلِّ شيءٍ. وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن وصفَ رَبِّنَا لنفسِه بأنه عليمٌ هو من أكبرِ المواعظِ وأعظمِ الزواجرِ، فَعَلَيْنَا أن نَتَّبِعَهُ، وهو واعظٌ أكبرُ، وزاجرٌ أعظمُ، لا تكادُ تَخْلُو ورقةٌ من المصحفِ منه، كأنه يقولُ: {عَلِيمٌ (128)} اعْلَمُوا يا عباديَ أني حكيمٌ في تشريعِي، وأني ما أَمَرْتُكُمْ إلا بِمَا فيه الخيرُ لكم، وما نهيتُكم إلا عمَّا فيه الشرُّ لكم، وَأَنَّنِي تَقْتَضِي حِكْمَتِي أن أُعَذِّبَ مَنْ عَصَانِي، وَأُدْخِلَ الجنةَ مَنْ أَطَاعَنِي، وَاعْلَمُوا أني عليمٌ لاَ يَفُوتُنِي شيءٌ مما تفعلونَ وما تقولونَ، وما تحدثونَ به أنفسَكم {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: الآية 19]. وقد قال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: الآية 16]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

وقد أطبقَ العلماءُ أنه لم ينزل من السماءِ إلى الأرضِ واعظٌ أكبرُ، ولا زاجرٌ أعظمُ من واعظِ العلمِ والمراقبةِ (¬1)، وقد ضَرَبَ العلماءُ لهذا مَثَلاً- وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى- قالوا: لو فَرَضْنَا أن هذا البراحَ من الأرضِ فيه مَلِكٌ قتَّالٌ للرجالِ، سفاكٌ للدماءِ، عظيمُ الغضبِ والنكالِ إذا انْتُهِكَتْ حرماتُه- وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى- وحولَ هذا الملكِ زوجاتُه وبناتُه وَجَوَارِيهِ، هل يخطرُ في قلبِ أحدٍ من الحاضرين، يمكنُ أحدًا منهم أن يغمزَ إلى واحدةٍ من تلك النساءِ أو يشيرَ أو يَهُمَّ بِرِيبَةٍ؟ لاَ، وكَلاَّ. كلهم خاضعةٌ أبصارُهم، خائفةٌ جوارُحهم، غايتُهم السلامةُ. ونحن نقولُ- ولله المثلُ الأعلى- إن خالقَ السماواتِ والأرضِ أشدُّ اطلاعًا، وأعظمُ بطشًا في سَخَطَاتِهِ، وأشدُّ فَتْكًا عندَ سخطه؛ لأن حِمَاهُ في أرضِه محارمُه، وأنه لا تَخْفَى عليه خَافِيَةٌ. فَأَهْلُ هذا البلدِ وغيرُهم من البلادِ لو خافوا أن أميرِ البلدِ يعلمُ كُلَّ ما يفعلونَه من الخسائسِ بالليلِ لَبَاتُوا مُتَأَدِّبِينَ هائبين لا يعملونَ إلا خَيْرًا. وهذا مَلِكُ السماواتِ والأرضِ، العظيمُ الجبارُ، يُعْلِمُ خلقَه بأنه مُطَّلعٌ على كُلِّ ما يفعلونَ من الخسائسِ، فهذا أكبرُ واعظٍ، فعليهم أن يعلموا مراقبةَ اللَّهِ، ويعلموا أن اللَّهَ عليمٌ بما يعملونَ، فلا يفعلونَ إلا ما يُرْضِيهِ، وهذا الواعظُ الأكبرُ، والزاجرُ الأعظمُ كان جبريلَ عليه السلامُ يعرفُ قيمتَه حَقَّ المعرفةِ. فجبريلُ يعلمُ أن اللَّهَ خلقَ هذه الخلائقَ لِيَبْتَلِيَهَا في خصوصِ إحسانِ العملِ، حيث قال في أولِ سورةِ هودٍ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة.

فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} _ ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: الآية 7] وقال في أولِ الكهفِ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فَقَالَ: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} [الكهف: الآية 7] ثم قال في المُلْكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: الآية 2] فَعَرَفْنَا أنا خُلِقْنَا لِنُبْتَلَى في إحسانِ العملِ، وَمَنْ عرفَ أنه خُلِقَ ليُختبرَ في شيءٍ تَاقَتْ نفسُه إلى أن يعرفَ النجاحَ في ذلك الشيءِ ما هو طريقُه؟ فجاءَ جبريلُ يُبَيِّنُ هذه النقطةَ العظيمةَ للصحابةِ، لَمَّا جاء في صورةِ الأعرابيِّ، في حديثِ جبريلَ المشهورِ فقال: «يَا مُحَمَّدُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ- أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟» المهمُّ الذي خُلقوا من أجلِ الاختبارِ فيه. فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ له أن الإحسانَ لا يقعُ إلا بملاحظةِ هذا الزاجرِ الأكبرِ والواعظِ الأعظمِ. ففال له: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1). فَعَلَيْنَا جميعًا أن نعرفَ رَبَّنَا في القرآنِ من أن اللَّهَ عليمٌ خبيرٌ، يعلمُ خائنةَ الأعينِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: الآية 16]. فهذا أكبرُ زاجرٍ وأعظمُ واعظٍ، فَعَلَى المرءِ إذا هَمَّ بشيءٍ أن يراقبَ خالقَ السمواتِ والأرضِ، ويعلمَ أنه حاضرٌ يرى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعر اف: الآية 7] ليُحَاسِب. {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} [الأنعام: الآيات 129 - 134]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام: الآية 129]. في هذه الآيةِ الكريمةِ أوجهٌ متقاربةٌ من التفسيرِ معروفةٌ عند العلماءِ، لا يُكَذِّبُ بعضُها بعضًا، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ. قولُه جل وعلا: {وَكَذَلِكَ} أي: كَمَا سَلَّطْنَا شياطينَ الجنِّ على شياطينِ الإنسِ حتى أَغْوَوْهُمْ واستكثروا منهم فَأَدْخَلُوهُمُ النَّارَ، كما تقدَّم في قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: الآية 128] {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} في قولِه: {نُوَلِّي} أوجهٌ معروفةٌ (¬1): أحدُها: أن معنَى: نُوَلِّيهِمْ عليهم أي: نُوَلِّيهِمْ ولايةَ تَسْلِيطٍ، أي: نسلطُ بعضَ الظالمينَ على بعضٍ فَيَضُرُّهُ ويؤذيه، ثم ننتقمُ من الجميعِ. وَمَا مِنْ يَدٍ إِلاَّ يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا ... وَلاَ ظَالِمٌ إِلاَّ سَيُبْلَى بِظَالِمِ (¬2) فكما سَلَّطْنَا شياطينَ الجنِّ على شياطينِ الإنسِ فَأَغْوَوْهُمْ وَأَضَرُّوهُمْ حتى أَدْخَلُوهُمُ النارَ، كذلك نُسَلِّطُ بعضَ الظالمينَ على بعضٍ، فَنَنْتَقِمُ من بعضِ الظالمين ببعضِهم، ثم ننتقمُ من الجميعِ. واختارَ أبو جعفر بنُ جريرٍ الطبريُّ أن معنَى: {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 118)، القرطبي (7/ 85)، البحر المحيط (4/ 222). (¬2) هذا البيت أورده ابن كثير في التفسير (2/ 176).

أي: نَجْعَلُ بعضَهم أولياءَ بعضٍ، فالكافرُ وَلِيُّ الكافرِ حيثما كَانَ، وَأَيْنَمَا كَانَ (¬1). واستدل له بقولِه: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: الآية 128] وكان قتادةُ يقولُ: {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ} أي: نُتَابِعُهُمْ طائفةً بعد طائفةٍ في النارِ يومَ القيامةِ (¬2)، كما سيأتِي في قولِه لَمَّا ذَكَرَ الْجِنَّ والإنسَ: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: الآية 38] وكونُه يومَ القيامةِ بالموالاةِ في النارِ ليس بأظهرِها، بل إنما هو تسليطُ بعضِهم على بعضٍ، فيؤذيه انْتِقَامًا من اللَّهِ من بعضِ الظلمةِ ببعضٍ، أو يُوَلِّي بعضَهم لبعضٍ؛ لأن الكافرينَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ، كما صَرَّحُوا به لِلَّهِ في قولِه: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: الآية 128] وجاء في حديثٍ أخرجَه ابنُ عساكرَ: «مَنْ سَلَّطَ ظَالِمًا أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» (¬3) وهو من توليةِ بعضِ الظالمينَ على بعضٍ. وَالحديثُ فيه غرابةٌ معروفةٌ (غريبٌ). وَلَمَّا سمعَ عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ بقتلِ عبدِ الملكِ للأشدقِ (¬4) ذَكَرَ هذه الآيةَ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 120). (¬2) المصدر السابق (12/ 119). (¬3) لفظه: «من أعان ظالمًا سلّطه الله عليه» وقد أخرجه ابن عساكر (تاريخ دمشق 34/ 4) (وانظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 14/ 153، وأورده القرطبي في التفسير (7/ 85)، وابن كثير في التفسير (2/ 176). وقال: «هذا حديث غريب» ا. هـ. وانظر: كشف الخفاء (2/ 297)، مختصر المقاصد الحسنة ص186، وقال: (ضعيف جِدًّا) ا. هـ وضعيف الجامع رقم: (5453)، السلسلة الضعيفة رقم: (1937) وقال: موضوع. (¬4) وهو: عمرو بن سعيد بن العاص. انظر ترجمته في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (19/ 214).

الظَّالِمِينَ بَعْضًا} (¬1) يريدُ أن معناها عندَه: أن اللَّه ينتقمُ من بعضِ الظالمين ببعضٍ. هذا جلُّ أقوالِ العلماءِ في معنَى: {نُوَلِّي}. وَأَمَّا (الظالمين) فهو جمعُ تصحيحٍ للظالمِ، والظالمُ: اسمُ فاعلِ الظلمِ، والظلمُ في لغةِ العربِ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، وكلُّ مَنْ وَضَعَ شيئًا في غيرِ موضعِه فهو ظالمٌ في لغةِ العربِ (¬2)، ومنه يقولونَ للذي يضربُ لَبَنَه قبلَ أن يروبَ: هذا ظَالِمٌ؛ لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ مَوْضِعِهِ؛ لأن ضَرْبهُ قبلَ أن يروبَ يُضَيِّعُ زُبْدَهُ، وفي لُغَزِ الحريريِّ (¬3) في مقاماتِه: هل يجوزُ أن يكونَ القاضِي ظَالِمًا؟ قال: نَعَمْ إذا كان عَالِمًا. يعنِي بِكَوْنِهِ ظَالِمًا: أنه يضربُ لَبَنَهُ قبلَ أن يروبَ. وهذا المعنَى مطروقٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬4): وَقَائِلَةٍ: ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ؟ (ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي) تعني: أنها ضَرَبَتْهُ لهم فشربوه قبلَ أن يروبَ. وقولُه: «وهل يَخْفَى على العَكَدِ الظليمُ» العَكَدُ: عَصَبُ اللسانِ، لاَ يخفَى عليه اللبنُ المضروبُ قبلَ أن يروبَ من غيرِه. ومنه بهذا المعنَى قولُ الآخَرِ في سقاءٍ له فيه لَبَنٌ (¬5): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 222). (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

يعنِي أنه سَقَى الناسَ به قبلَ أن يروبَ. وفي هذا الضربِ هو يريدُ الأَجْرَ؛ لأنه صدقةٌ منه؛ ولذا قال: وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ ومن هنا كانت العربُ تُسَمِّي الأرضَ التي لم تُحْفَرْ، وليست مَحلاًّ للحفرِ إذا حُفِرَتْ: (مظلومةٌ) لأَنَّ الحفرَ وُضِعَ في غيرَ موضعِه. ومنه على التحقيقِ قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬1): إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ أَيْ: بالأرضِ التي ليست مَحَلاًّ لأَنْ يُحْفَرَ فيها، وحفر النؤيِ فيها حَفْرٌ فِي غَيْرِ محلِّه؛ لأنها في فلاةٍ من الأرضِ. هذا هو التحقيقُ، دونَ قولِ مَنْ قال: إن الأرضَ المظلومةَ: التي تَأَخَّرَ عنها المطرُ. هذا ليس بالصحيحِ في معنَى البيتِ. ومنه تقولُ العربُ للترابِ الذي يُخْرَجُ من القبرِ إذا حُفِرَ، تقولُ لَهُ: ظليمٌ، (فَعِيل) بمعنَى (مَفْعولٍ) أي: مظلومٌ؛ لأن العادةَ أن القبورَ إنما تُحْفَرُ في المَحَالِّ التي ليس من شأنِها أن يُحْفَرَ فيها سابقًا، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ يذكر ميتًا (¬2): فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ ... مِنَ الْعَيْشِ، مَرْدُودٍ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا يعنِي بـ (غبراءَ): القبر و (مَرْدُود عليها ظَليْمُها) أي: الأرضُ التي أُخْرِجَتْ منها عندَ الحفرِ رُدَّتْ عليها عندَ الدفقِ. هذا أصلُ الظلمِ في لغةِ العربِ، هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه. وَقَدْ جاءَ في القرآنِ في موضعٍ واحدٍ معناه: النقصُ، وهو قولُه: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: الآية 33] أي: ولم تَنْقُصْ منه شَيْئًا. إذا عَرَفْتُمْ أن الظلمَ في لغةِ العربِ هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، اعلموا أَنَّ وضعَ الشيءِ في غيرِ موضعِه على نَوْعَيْنِ: أحدُهما: أن يكونَ بَالِغًا في غايةِ القباحةِ والشناعةِ. والثاني: أن يكونَ دونَ ذلك. أما وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه البالغ غايةَ الشناعةِ: فهو وضعُ العبادةِ في غيرِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، فَمَنْ عَبَدَ غيرَ الذي خَلَقَهُ ورَزَقَهُ فَقَدْ وضعَ الأمرَ في غيرِ موضعِه، فهو أعظمُ الظالمين، وأخبثُ الواضعين للشيءِ في غيرِ موضعِه؛ ولهذا المعنَى (¬1) كَثُرَ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُ الظلمِ مُرَادًا به الكفرُ، وهو أخبثُ أنواعِه، ومنه قولُه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)} [الكهف: الآية 50] وقولُه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: الآية 254] وقولُه: [وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: الآية106] وقال عن العبدِ الحكيمِ لقمانَ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: الآية 13] وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه فَسَّرَ قولَه في هذه السورةِ الكريمةِ- سورةِ الأنعامِ-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: الآية 82] قال: معناه: لَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِشِرْكٍ (¬2). النوعُ الثاني من أنواعِ الظلمِ: هو وضعُ الطاعةِ في غيرِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

موضعِها، والمعصيةِ في غيرِ معصيتِها (¬1) بما لا يُؤَدِّي إلى الكفرِ، كَأَنْ يُزَيِّنَ لكَ الشيطانُ أن تعملَ عَمَلاً يُخَالِفُ الشرعَ فتطيعُ الشيطانَ، وتعصِي اللَّهَ، وأنتَ عَالِمٌ أَنَّكَ عاصٍ مُجْرِمٌ، وأنكَ فعلتَ قبيحًا، فهذا ظلمٌ دونَ ظلمٍ، ووضعٌ للطاعةِ في غيرِ موضعِها، والمعصيةِ في غيرِ موضعِها، وليسَ بِكُفْرٍ، وهو ظلمٌ دونَ ظلمٍ. ومنه بهذا المعنَى: قولُه تعالى في سورةِ (فاطر) لَمَّا نَوَّهَ بشأنِ القرآنِ العظيمِ، وأنه أعظمُ فضلٍ أُعْطِيهِ الخلق، وأن جميعَ الأمةِ التي أُعْطِيَ لها هي قد اصطفاها اللَّهُ، وأن كُلَّهَا في الجنةِ، قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: الآية 32] وَبَيَّنَ أن هذا النورَ الْمُنَزَّلَ لا يُعْطِيهِ اللَّهُ إلا لِمَنِ اصطفاهُ واختارهُ، وهو النصيبُ الأعظمُ الأكبرُ الذي يُعْطِيهِ اللَّهُ، ثم قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} وهذا ظلمٌ دونَ ظلمٍ، كالذي يَعْصِي تارةً ويطيعُ أخرى، مِنَ الذين قال اللَّهُ فيهم: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: الآية 102] والعلماءُ يقولونَ: «عسى» مِنَ اللَّهِ واجبةٌ (¬2). {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} ثم قال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} أي: إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ هو الفضلُ العظيمُ عليهم منا؛ فَلِذَا عَلَّمَنَا اللَّهُ أن نحمدَه على هذا الفضلِ العظيمِ في قولِه في أولِ سورةِ الكهفِ: ¬

(¬1) أي: تكون طاعته تبعًا للنفس، والهوى والشيطان. وتكون معصية لله بدلاً من أن يعصي هواه وشيطانه. (¬2) انظر: ابن جرير (8/ 579) (14/ 167، 447)، حجج القرآن ص83، تفسير ابن كثير (3/ 397)، البرهان للزركشي (4/ 57، 158، 288) الإتقان (2/ 204_205)، الكليات ص297، 635، فتح البيان (7/ 110_111، 169).

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)} [الكهف: الآية 1] أي: لم يَجْعَلْ فيه اعْوِجَاجًا ما، لا في معانيه، ولا في ألفاظِه، ولا في أحكامِه، ولا في أخبارِه. أخبارُه كُلُّهَا حَقٌّ صِدْقٌ، وأحكامُه كُلُّهَا عدلٌ، وهو في غايةِ الاستقامةِ، لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه اعوجاجًا {قَيِّمًا} أي: مُسْتَقِيمًا في غايةِ الاستقامةِ. ثم لَمَّا ذَكَرَ هذه الأصنافَ الثلاثةَ التي انْقَسَمَتْ إليها أمةُ الكتابِ الذي أُورِثَتْ إياه بدأ بالظالمِ لنفسِه في قولِه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} ثم وَعَدَ الجميعَ بوعدِه الصادقِ الذي لا يُخْلِفُ دخولَ الجنةِ، قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: الآيات 33 - 35] فهذا الظالمُ المعدودُ مِمَّنْ أُورِثُوا الكتابَ، الموعود بالجنة، ظُلْمُهُ: ظُلْمٌ دونَ ظُلْمٍ. وَأَصَحُّ التفسيراتِ في (الظالمِ)، و (المقتصدِ)، و (السابقِ) (¬1)، فيما يظهرُ: أن (الظَّالِمَ) هو مَنْ يُطِيعُ الشيطانَ مَرَّةً، ويعصيه أُخْرَى، ويطيعُ اللَّهَ مرةً، وربما عَصَاهُ، من الذين قال اللَّهُ فيهم: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: الآية 102]. والمقتصدُ: هو الذي يَمْتَثِلُ أوامرَ اللَّهِ، ويجتنبُ نواهيَ اللَّهِ، ولكنه لا يتقربُ بزيادةِ الطاعاتِ الغيرِ الواجبةِ. وأما السابقُ بالخيراتِ: فهو الذي يجتنبُ محارمَ اللَّهِ، ويمتثلُ أوامرَ اللَّهِ، ويستكثرُ من القرباتِ والطاعاتِ الغيرِ الواجبةِ مرضاةً لِلَّهِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

وفي آيةِ فاطر هذه- التي ذَكَرْنَاهَا استطرادًا- فيها سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يُقَالَ: كيف بدأ اللَّهُ بالظالمِ في هذه الآيةِ، وَقَدَّمَهُ على المقتصدِ، وَأَخَّرَ السابقَ بالخيراتِ، مع أنهما خيرٌ من الظالمِ، وخيرُهم السابقُ بالخيراتِ، ثم المقتصدُ، ثم الظالمُ. فَلِمَ قَدَّمَ هذا الذي غيرُه أفضلُ منه (¬1)؟ وللعلماءِ عن هذا التقديمِ أجوبةٌ معروفةٌ، منها: أن هذا إظهارُ كرمٍ من اللَّهِ يستدعيهم بالقرآنِ بفضلِ آثارِه على الأمةِ التي أُورِثَتْ إياه، فبدأ بالظالِمِ لئلاَّ يقنطَ، وَأَخَّرَ السابقَ بالخيراتِ لئلاَّ يعجبَ بعملِه فيحبط. وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنةِ الخَطَّاؤون الذين يظلمونَ أنفسَهم، يخالفونَ مرةً وَيُنِيبُونَ إلى اللَّهِ. وأما السابقونَ بالخيرِ فقليلٌ جِدًّا، والمقتصدونَ أَقَلُّ من الظالمين؛ ولذا لَمَّا سُئِلَتْ عائشةُ رضي اللَّهُ عنها عن معنَى هذه الآيةِ قالت: المقتصدُ الذي رُبَّمَا خَالَفَ، مثلي ومثلك (¬2).- جَعَلَتْ نفسَها من الظالمين- فقدَّم الظالمين لأنفسِهم لأنهم أكثرُ أهلِ الجنةِ، والأكثريةُ لها شأنٌ، فَعُلِمَ من هذه الآيةِ أن الظلمَ قد يكونُ ظُلْمًا دونَ ظُلْمٍ، والظلمُ معناه: وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، تارةً يَعْظُمُ فيكونُ كُفْرًا، وتارةً يكونُ ظُلْمًا دونَ ظلمٍ فلا يكونُ كُفْرًا. وهذا معنَى قولِه: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬2) أخرحه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 209 رقم (1489)، والحاكم (2/ 426)، والطبراني في الأوسط رقم (6090) (7/ 56)، وذكره السيوطي في الدر (5/ 251) وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه. وسنده ضعيف جِدًّا.

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} أي: نُوَلِّي البعضَ منهم البعضَ الآخرَ، كما بَيَّنَا. {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} وهذه التوليةُ بينَهم هي: تسليطُ بعضِهم على بعضٍ لِيُؤْذِيَهُ وَيَضُرَّهُ، أو: جعل بعضهم وَلِيًّا للآخَرِ أو قرينًا له، كُلُّهَا بسببِ ما كانوا يعملونَه، فعلى أنها تسليطٌ فهي انتقامٌ منه لعملِه السيئِ، وعلى أنها ولايةُ بعضِهم البعضَ فهي بسببِ اتحادِهم بالعملِ الخبيثِ والعملِ السيئِ؛ لأن الخبيثَ وَلِيُّ الخبيثِ، والكافرُ وَلِيُّ الكافرِ، والناسُ يومَ القيامةِ أزواجٌ، أي: أصنافٌ، كُلُّ خبيثٍ يُحْشَرُ مع من يُطَابِقُهُ من الخبثاءِ. كما سيأتِي في قولِه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: الآية 22] أي: أَصْنَافَهُمْ وأشكالَهم الْمُلاَئِمِينَ لهم بالخبثِ، والعياذُ بالله. وهذا معنَى قولِه: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام: الآية 129]. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: الآية 130]. هذا يُقَالُ لهم يومَ القيامةِ، يُقال لأَهْلِ النارِ يومَ القيامةِ من الجنِّ والإنسِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} يا جماعةَ الجنِّ وجماعةَ الإنسِ، الذين طَغَيْتُمْ وكفرتُم في دارِ الدنيا حتى دخلتُم النارَ، وقيل لكم: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام: الآية 128] أَلَمْ تَصِلْكُمْ في دارِ الدنيا وقتَ إمكانِ الفرصةِ رُسُلٌ ينذرونكم من هذا اليومِ، ويحذرونَكم من العذابِ الذي أنتم فيه، ويبينونَ لكم طرقَ النجاةِ من هذا قبلَ أن تضيعَ الفرصةُ، فتكونوا قد حذرتم هذا العذابِ، ونجوتُم مع مَنْ

نَجَى؟ وهذا معنَى قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ}. قال بعضُ (¬1) علماءِ التفسيرِ: كُلُّ فعلٍ مضارعٍ في القرآنِ مجزومٍ بـ (لم) إذا تَقَدَّمَتْهُ همزةُ الاستفهامِ؛ فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ في جميعِ القرآنِ: أحدُهما: أن الاستفهامَ استفهامُ تقريرٍ، وهو الظاهرُ في هذه الآيةِ. ومعنى استفهامِ التقريرِ: هو الاستفهامُ الذي لا يريدُ الْمُخَاطِبُ به أن يُفْهِمَ الشيءَ، وإنما يريدُ أن يَحْمِلَ المخاطَب على أن يُقِرَّ ويقولَ: بلى، ويقرَّ بالحقيقةِ، كقولِ جريرٍ لعبدِ الملكِ بنِ مروانِ (¬2): أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ مقصودُ جريرٍ أن يقولَ عبدُ الملكِ: بلى، فيقول: هذه [منزلتُكم] (¬3) ما دمتُم بهذه المثابةِ، هذا قَصْدُهُ. الثاني: أن يَخْتَلِجَ المُضَارَعَةَ مَاضَوِيَّةٌ، وينقلب النفيُ إثباتًا، فيصيرَ المضارعُ المنفيُّ بـ (لم) معناه الماضي المُثْبَت، كقولِه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الانشراح: الآية 1] معناه: شَرَحْنَا لكَ صدركَ، وقولِه: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)} [البلد: الآية 8] جَعَلْنَا له عينين، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} أَتَاكُمْ رسلٌ منكم. وطالبُ العلمِ يعرفُ أن انقلابَ المُضَارَعَةِ ماضَوِيَّةً أنه هنا واضحٌ لا إشكالَ فيه؛ لأن لفظةَ (لم) حرفُ قَلْبٍ، تقلبُ المضارعَ من معنَى الاستقبالِ إلى معنَى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

الماضِي. وهذا معروفٌ، كقولِك: «لم يأت زيد». بمعنَى: ما جاء زيدٌ في الماضِي. وهذا معروفٌ، فقلبُ المضارعِ ماضَوِيًّا ظَاهِرٌ، ولكن قلبَ النفيِ إثباتًا هو الذي يُشْكِلُ على طالبِ العلمِ، وإيضاحُه على هذا التفسيرِ: أن همزةَ الاستنكارِ المتقدمةَ على حرفِ (لم) أصلُها حرفُ إنكارٍ، فهو مشتملٌ على معنَى النفيِ، ويتسلطُ النفيُ الكامنُ في الهمزةِ على النفيِ الصريحِ في (لم) فَيَنْفِيهِ، ونفيُ النفيِ إثباتٌ، ويرجعُ النفيُ إلى الإثباتِ، والمُضَارَعَةُ إلى المَاضَوِيَّةِ. ومعنَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ. ومعنى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} يجئُكم في دارِ الدنيا رُسُلٌ منكم. الرُّسُلُ: جمعُ الرسولِ، والرسولُ: (فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) والمرادُ بهم هنا: مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، فالرسولُ- طبعًا- يكونُ من الإنسِ ومن الملائكةِ، كما سيأتِي في قولِه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: الآية 75] أما الجنُّ فسنذكرُ الخلافَ فيهم- الآنَ- المعروفَ عندَ العلماءِ، فالرسلُ: جمعُ رسولٍ، وهو (فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) أي: مُرْسَلٌ، وأصلُه مصدرٌ، وإتيانُ المصادرِ على (فَعُول) قليلٌ جِدًّا، كالرسولِ، فأصلُه من معنَى الرسالةِ، وكالقبُولِ والوَلُوعِ، وكونُ الرسولِ أصلُه مصدرٌ فيه فوائدُ تفيدُ في التفسيرِ؛ لأن أصلَ الرسولِ مصدرٌ، تقولُ العربُ: «أرسلتُه رسولاً». أي: رسالةً. و «ما أرسلتُه برسولٍ». أي: برسالةٍ: فأصلُه: مصدرٌ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): ¬

(¬1) البيت لكُثَيِّر عزة. وهو في ديوانه ص 176 اللسان (مادة: رسل) (3/ 71)، ولفظه في الديوان: لقد كذب الواشون ما بُحْتُ عندهم ... بلَيلى ولا أرسلتهم برسول مشاهد الإنصاف ص99 وفيه (بِسِرٍّ) بدلاً من (بقول).

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِقَوْلٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أي: برسالةٍ. والمصدرُ إذا نُعِتَ به- بأن أُجْرِيَ مَجْرَى الوصفِ- جازَ إفرادُه، وربما جازَ جمعُه وتثنيتُه نَظَرًا إلى وصفيتِه العارضةِ (¬1). وتارةً يُنْظَرُ إلى أصلِه وهو المصدرُ، فلا يُجْمَعُ ولاَ يُثَنَّى، وتارةً يُنظر إلى ما عَرَضَ له من الوصفيةِ فَيُجْمَعُ ويُثنى. وبهذا التقريرِ يزولُ الإشكالُ في قولِه عن موسى وهارونَ في (الشعراءِ): {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)} [الشعراء: الآية 16] وفي (طه): {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: الآية 47] فَثَنَّى في آيةٍ، وَأَفْرَدَ في أُخْرَى، وهما رَجُلاَنِ: موسَى وهارونُ، فإفرادُ الرسولِ نظرًا إلى أصلِه وهو المصدرُ، وتثنيتُه في قولِهم: {إِنَّا رَسُولاَ} نظرًا إلى الوصفيةِ العارضةِ له؛ ولذلك جَمَعَ الرسلَ هنا في قولِه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ} وفي قولِه: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: الآية 253] فيجوزُ إطلاقُ الرسولِ مرادًا به الجمعُ أيضا، كما أُرِيدَ به الاثنانِ، لكن إطلاقَ الرسولِ مُرَادًا به الجمعُ ما جاءَ في القرآنِ، وإنما جاءَ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ أبِي ذؤيبٍ الهذليِّ في رائيتِه المشهورةِ (¬2): أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّ ... سُولِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ فَرَدَّ على الرسولِ ضميرَ الجمعِ؛ لأَنَّ أصلَه مصدرٌ. وقولُه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} ظاهرُ قولِه: {مِنْكُمْ} أن مِنَ الإنسِ رُسُلاً ومن الجنِّ رُسُلاً، هذا هو الْمُتَبَادَرُ من الآيةِ. ولأجلِ هذا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (50) من هذه السورة.

الظاهرِ تَمَسَّكَ قومٌ قليلونَ بأن اللَّهَ بعثَ من الجنِّ رُسُلاً إلى الجنِّ (¬1). وَزَعَمَ بعضُهم أنه ما أَرْسَلَ للجنِّ منهم إلا رَسُولاً واحدًا، وَاسْمُهُ يوسفُ. والذي عليه جماهيرُ العلماءِ، خَلَفًا وَسَلَفًا، أن الرسلَ جميعَهم إنما هُمْ من الإنسِ، وإنما قَالَ: {رُسُلٌ مِّنكُمْ} لِمَجْمُوعِ الإنسِ والجنِّ، نَظَرًا إلى أن العربَ تُطْلِقُ المجموعَ وتريدُ بعضَه. أي: من مجموعِكم الصادقِ بالإنسِ دونَ الجنِّ. وهو كثيرٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ (¬2)، فَمِنْهُ في القرآنِ قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: الآيتان 15، 16]، أي: في مجموعِهن الصادقِ بواحدةٍ منها. وأظهرُ الآياتِ الدالةِ عليه في القرآنِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ (¬3): {وَلاَ تَقْتُلُوهُم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: الآية 191] لأن المرادَ هنا: بأنه لا يصحُّ أن تقولَ: «فإن قَتَلُوكُمْ ومتم وخرجتُم من الدنيا فَاقْتُلُوهُمْ» [وعلى هذا المعنَى يُحْمَلُ قولُ الشاعرِ: فَإِنْ تَقْتُلُونَا عِنْدَ حَرَّةِ وَاقِمِ ... فَلَسْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ] (¬4) هو حَيٌّ يتكلم، ويقولُ: «فَإِنْ تَقْتُلُونَا» يعني: تَقْتُلُوا بَعْضَنَا. هذا هو المعروفُ في كلامِ العربِ، أي: من مجموعِكم الصادقِ بالإنسِ، بناءً على أن الجنَّ لَمْ تُرْسَلْ منهم رُسُلٌ. ¬

(¬1) في هذه المسألة راجع: ابن جرير (12/ 121)، القرطبي (7/ 86)، ابن كثير (2/ 177)، البحر المحيط (4/ 222)، أضواء البيان (2/ 210). (¬2) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة. (¬3) السابق. (¬4) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [ ... ]، زيادة يتم بها الكلام.

وَجَمَعَ بعضُ العلماءِ بينَ الْقَوْلَيْنِ فقالَ: رسلُ الإنسِ هم الذين يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ بواسطةِ الملكِ، ورسلُ الجنِّ هم الذين يُنْذِرُونَ قَوْمَهُمْ بما سَمِعُوا من الأنبياءِ، فَهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ [17/ب] / ولذا أَطْلَقَ عليهم (الرسل) هنا. وَيُطْلَقُ عليهم (النُّذُرُ)، كما يأتي في قولِه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ} [الأحقاف: الآية 29]، فالنُّذرُ كأنهم جاؤوهم منذرينَ مُرْسَلِينَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثَبَتَ في الأحاديثِ - وكما يأتِي في سورةِ الجنِّ - أن الجنَّ جاؤوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وكادوا يكونونَ عليه لِبَدًا، وأنه دَعَاهُمْ إلى الإسلامِ، وَعَلَّمَهُمُ الدينَ، وَأَمَرَهُمْ أن يُبَلِّغُوا قومَهم. ومن هنا قال جمهورُ العلماءِ: الرسلُ من الإنسِ والجنِّ ليسوا بِرُسُلٍ [وإنما يكونُ منهم نُذُرٌ] (¬1) إلى قومِهم، كما قال: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)}. وقد أجمعَ جميعُ المسلمين أن نَبِيَّنَا - صلى الله عليه وسلم - مرسلٌ إلى الجنِّ والإنسِ مَعًا، وأنه بَلَّغَ الرسالةَ لِمَنِ استطاعَ أن يبلغَه من الجنسين، وَأَمَرَ كُلاًّ منهم أن يبلغَ مَنْ لَقِيَ، وقال: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» (¬2)، وقد يأتي صريحًا في سورةِ الرحمنِ لَمَّا قَرَأَ على الجنِّ سورةَ الرحمنِ، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن: الآية 33] كلما قال: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: الآية 32] والتثنيةُ للجنِّ والإنسِ، والجنُّ ¬

(¬1) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [ ... ]، زيادة يتم بها الكلام. (¬2) هذه الجملة جزء من خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وسيأتي عند تفسير الآيتين (89 - 90) من سورة التوبة.

يقولونَ: ولا بشيءٍ من آلاءِ رَبِّنَا نكذبُ (¬1). وَذَكَرَ اللَّهُ كثيرًا من قِصَصِهِمْ في سورةِ الجنِّ، وبَيَّنَ أَنَّهُمْ ما كانوا يظنونَ أن اللَّهَ يُمَكِّنُ أَحَدًا أن يفتريَ عليه، قالوا: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)} [الجن: الآية 5] وَبَيَّنُوا أن منهم طَيِّبِينَ وخبثاءَ: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن: الآية 11] وتحصَّل أن قولَه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} جمهورُ العلماءِ على أن الرسلَ كُلَّهُمْ من الإنسِ، وأنه أُطْلِقَ المجموعُ مُرَادًا بعضُه، لا أن الجنَّ رُسُلٌ أُرْسِلُوا إلى قومِهم. وخالفَ بعضٌ قليلٌ من أهلِ العلمِ وقالوا: أُرْسِلَتْ للجنِّ رسلٌ منهم لظاهرِ هذه الآيةِ الكريمةِ، قالوا: ولأَنَّ كَوْنَ الرسلِ منهم أَدْرَى بأحوالهم، وأقدرُ على تبليغِهم، وذلك ليس بقاطعٍ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما جَاءَهُ جِنُّ نصيبين تَكَلَّمَ معهم، وَخَاطَبُوهُ في كُلِّ ما يفيدُ، وأباحَ لهم ما أباحَ لهم من الزادِ، كما هو معروفٌ في الأحاديثِ الصحيحةِ، وَدَعَاهُمْ إلى الإسلامِ (¬2). وهذا معنَى قولِه: ¬

(¬1) ورد ذلك في حديث مرفوع أخرجه الترمذي في التفسير، باب «ومن سورة الرحمن»، حديث رقم: (3291) (5/ 399)، والحاكم (2/ 473) وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي. من حديث جابر رضي الله عنه. وللحديث شاهد من حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) عند البزار (كشف الأستار 3/ 74)، وابن جرير (27/ 123 - 124). وانظر: السلسلة الصحيحة رقم: (2150)، صحيح الترمذي (3/ 112). (¬2) جاء في وفد نصيبين من الجن عدة أحاديث، منها: 1 - حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، حديث رقم: (3860)، (7/ 171). 2 - حديث ابن عباس (رضي الله عنهما)، عند الطبري في التفسير (26/ 30، 31، 33). 3 - حديث الزبير بن العوام (رضي الله عنه)، عند الطبراني في الكبير (1/ 125) وحسنه الهيثمي في المجمع (1/ 210). 4 - حديث ابن مسعود (رضي الله عنه)، وقد جاء بروايات وطرق كثيرة بألفاظ متفاوتة، وممن أخرج حديثه: الإمام أحمد في المسند (1/ 458)، وابن جرير في التفسير (26/ 32)، والطبراني في الكبير (10/ 77، 79، 80) وابن أبي عاصم في السنة (2/ 611)، والخطيب في تاريخه (2/ 398). وللوقوف على بعض روايات أحاديث استماع الجن للنبي - صلى الله عليه وسلم - انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 225 - 233)، مجمع الزوائد (8/ 313 - 314)، فتح الباري (7/ 171 - 172)، الدراية (1/ 63 - 67)، نصب الراية (1/ 139 - 147).

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ}. {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} معنَى: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي: يقرؤون عليكم آياتِي التي أُنْزِلَتْ، وَيُبَيِّنُونَ لكم ما فيها من العقائدِ، ومن الحلالِ والحرامِ، وَمِمَّا أَمَرْتُ به وَبَيَّنْتُ أنه يُدْخِلُ الجنةَ، ومما بَيَّنْتُ في آياتِي أنه سببٌ لدخولِ النارِ - وهي التي أنتم فيها - وَحَذَّرْتُ جميعَكم على ألسنةِ الرسلِ من ذلك الفعلِ الذي يكونُ سَبَبًا لدخولِها. وقد أجمعَ جميعُ العلماءِ على أن الكفرةَ من الجنِّ في النارِ، هذا لا نِزَاعَ فيه بينِ العلماءِ، والآياتُ الدالةُ عليه كثيرةٌ في القرآنِ العظيمِ، كقولِه جَلَّ وعلا: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: الآية 38] فَصَرَّحَ بأن أُمَمًا منهم كثيرةٌ في النارِ في آياتٍ كثيرةٍ، وقالوا لقومِهم: إنهم إن لم يُجِيبُوا داعيَ اللَّهِ يعذبهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ} إلى أن قال: {وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: الآية 31] فلا خلافَ أن الجنَّ يُعَذَّبُ كافرُهم وعاصيهم، كما يُعَذَّبُ كافرُ الإنسِ وعاصيهم، وإنما

الخلافُ المشهورُ بينَ العلماءِ: هل الجنُّ يدخلونَ الجنةَ أو لا يدخلونَ الجنةَ؟؟ (¬1) وهذا خلافٌ معروفٌ قديمٌ بينَ العلماءِ، وَيُرْوَى عن الإمامِ أَبِي حنيفةَ رحمه اللَّهُ أنه من الطائفةِ الذين يقولونَ: لا يدخلُ الجنُّ الجنةَ، وأن الجنةَ لاَ يدخلُها أحدٌ من الجنِّ. وغالبُ ما استدلَّ به هؤلاءِ: أن اللَّهَ جَعَلَ جزاءَهم هو الإجارةَ من العذابِ فقط، وغفرانَ الذنوبِ فقط، حيث قال: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف: الآية 31] ولم يَقُلْ: ويدخلكم الجنةَ. بخلافِ الإنسِ، فإنه إذا ذُكِرَ ثوابُ الطاعةِ تُذْكَرُ الجنةُ جزاءً لها، ولم يَذْكُرِ اللَّهُ في القرآنِ جَزَاءً للجنِّ إلا غفرانَ الذنوبِ، والإجارةَ من العذابِ الأليمِ. ومن هنا قال مَنْ قال: إن مُؤْمِنِي الجنِّ لاَ يدخلونَ الجنةَ. والتحقيقُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ: أنهم كما أن كَافِرَهُمْ في النارِ فمؤمنُهم المطيعُ في الجنةِ، وقد دَلَّتْ على هذا بعضُ ظواهرِ آياتٍ، ومنها قولُه تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ (56)} [الرحمن: الآية 56] فَعُلِمَ أن في الجنةِ جَانًّا يطمثونَ النساءَ، ومن أَصْرَحِ الأدلةِ في ذلك: قولُه تعالى مُخَاطِبًا الجنَّ والإنسَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: الآية 46] ثم قال مُبَيِّنًا دخولَ الجنِّ والإنسِ فيه: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن الآية 47]. فلو لم يكن من الآلاءِ على الجنِّ دخولُهم الجنةَ لَمَا قال فيهم وفي الإنسِ مَعًا: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بعدَ قولِه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (16/ 217 - 218)، ابن كثير (4/ 170 - 171) طريق الهجرتين 417 - 427، أضواء البيان (7/ 402 - 407) دفع إيهام الاضطراب 263 - 268.

جَنَّتَانِ} فَدَلَّ قولُه: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الصادقُ على الجنِّ والإنسِ، على أن قولَه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أي: للجنِّ والإنسِ. وهذا هو الأظهرُ. وهذا معنَى قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}. (ينذرونَ) هو مضارعُ فعلِ الإنذارِ. والإنذارُ في لغةِ العربِ: هو الإعلامُ المقترنُ بتخويفٍ وتهديدٍ، فكلُّ إنذارٍ إعلامٌ، وليس كُلُّ إِعْلاَمٍ إنذارًا، وَكُلُّ إعلامٍ اقترنَ بتخويفٍ وتهديدٍ فهو المسمَّى بالإنذارِ (¬1). ومعنَى: {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: يُعْلِمُونَكُمْ بِمَا في هذا اليومِ من الأهوالِ والأوجالِ وشدَّةِ عذابِ النارِ، في حالِ كونِهم مُهَدِّدِينَ لكم وَمُخَوِّفِينَ من الأعمالِ التي تُؤَدِّي إليه. وهذا [معنى] (¬2) قولِه: {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وَعَبَّرَ عن اليومِ باللقاءِ لأنهم يُلاَقُونَ ما فيه من الأهوالِ والأوجالِ، وعادةُ العربِ أن تُذَكِّرَ اليومَ ومرادُها ما فيه من البلايا والأوجالِ (¬3)، كقولِ نبيِّ اللَّهِ لوطٍ: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)} [هود: الآية 77] والزمنُ بنفسِه كسائرِ الأزمانِ، وإنما المرادُ ما فيه؛ وَلِذَا قال تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: الآية 17] والذي يَجْعَلُ الولدانَ شِيبًا إنما هو ما فيه من الأهوالِ الأوجالِ؛ لأَنَّ نفسَ اليومِ ظرفٌ من الظروفِ كسائرِ غيرِه من الظروفِ. ومنه قولُ الشاعرِ (¬4): ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: نذر) 797، القاموس (مادة: النذر) 619، الأضواء (2/ 288). (¬2) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق .. (¬3) انظر: المزهر (1/ 336). (¬4) البيت لعدي بن زيد. وهو في تفسير ابن جرير (15/ 409)، تاريخ دمشق (40/ 119)، الدر المصون (6/ 361). وقوله: «لزاز» أي: ملازم. وقوله: «لم أُعرد» أي: لم أُحجم.

وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ ( ... ) (¬1) هذه عادةُ العربِ، والقرآنُ نَزَلَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. لَمَّا وَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ، وقرعهم هذا التقريعَ، أَقَرُّوا نَادِمِينَ حيثُ لاَ ينفعُ الندمُ، فَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) في سورةِ الملكِ أن ذلك الاعترافَ في الوقتِ الذي لا ينفعُ فيه الاعترافُ والندمُ: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: الآية 11]. {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أَقَرُّوا في ذلك الموضعِ على رؤوسِ الأشهادِ {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: الآية 130] أن الرسلَ بَلَّغُونَا وَحَذَّرُونَا وَأَنْذَرُونَا لقاءَ هذا اليومِ، فَحَذَّرُونَا مِمَّا نحنُ فيه من البلايا غايةَ التحذيرِ، لكنهم - والعياذُ بالله - عَصَوْا، وأَبَوْا وَتَمَرَّدُوا، فَأَقَرُّوا بالحقيقةِ كما هي. ثم بَيَّنَ اللَّهُ السببَ الذي كَذَّبُوا به الرسلَ ولم يَعْتَنُوا بالإنذارِ، قال: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} لأَنَّ الدنيا دارُ الغرورِ، تَغُرُّ الجاهلَ فيشتغلُ بشهواتِها ولذاتِها وراحتِها عن موجباتِ الجنةِ؛ لأن ما يُدْخِلُ الجنةَ فيه تكاليفُ شَاقَّةٌ، تَشُقُّ على مَنْ لم يَهْدِهِمُ اللَّهُ، وإن الصلاةَ يقولُ اللَّهُ فيها: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: الآية 45] فالرجلُ يكونُ عزيزًا مُطَاعًا، فإذا دَخَلَ الإسلامَ كان وَاحِدًا من عامةِ الناسِ، مَأْمُورًا مَرْؤُوسًا من غيرِه، فيشقُّ هذا عليه، وكذلك أوقاتُ التكاليفِ يتكاسلونَ عنها ويختارونَ عنها لَذَّاتِ الدنيا، فالذي يصومُ ويجوعُ ويعطشُ يُفَضِّلُ على ذلك أن يأكلَ ويشربَ ويجامعَ إلى غير ذلك من لَذَّاتِ الدنيا، فَلَذَّاتُ الدنيا عاجلةٌ، وتشغلُ الإنسانَ عن مَعَادِهِ، حتى يضيعَ عُمْرُهُ فيما لا يَنْبَغِي، فيدخلُ النارَ، فيندمُ ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها.

حيث لا ينفعُ الندمُ. وهذا [معنَى] (¬1) قوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} والعياذُ بالله {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} في دارِ الدنيا، مع أن الرسلَ أَنْذَرَتْهُمْ وَحَذَّرَتْهُمُ الكفرَ، وقد نَصَّ اللَّهُ على أنهم شَهِدُوا على أنفسِهم بالدنيا بالكفرِ، والظاهرُ أنها شهادةٌ صريحةٌ منهم، وَنَصَّ على شهادتِهم في دارِ الدنيا بالكفرِ أيضًا حيث قال في سورةِ التوبةِ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: الآية 17] وهذه الشهادةُ قِيلَ: هي شهادةُ لسانِ الحالِ، وقيل أيضًا: شهادةُ مقالٍ (¬2)، ونظيرُه قولُه في العادياتِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} [العاديات: الآيتان 6، 7]. بِنَاءً على التحقيقِ من أن الضميرَ عائدٌ إلى الإنسانِ (¬3). وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: اللَّهُ في آيةِ الأنعامِ هذه بَيَّنَ أنهم لَمَّا سُئِلُوا اعترفوا، وهذا جاء في مواضعَ كثيرةٍ - هذا الاعترافُ - كقولِه في سورةِ الزمرِ التي وَصَفَ فيها يومَ القيامةِ كأنك تنظرُ إليه: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: الآية 69] وقال فيه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} يَعْنُونَ في دارِ الدنيا: {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: الآية 71] وَلَمَّا قالوا في سورةِ المؤمنِ لخزنةِ النارِ: ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: فتح القدير (2/ 344). (¬3) انظر: أضواء البيان (1/ 12)، قواعد التفسير (1/ 116، 279، 419).

{ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (50)} [غافر: الآيتان 49، 50] وهذه الآياتُ تدلُّ على أنهم أَقَرُّوا بما كانوا فيه. ونظيرُها قولُه في النساءِ: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء: الآية 42] بل يُقِرُّونَ بكل ما فَعَلُوا. قد يقولُ طالبُ العلمِ: هذه الآياتُ وأمثالُها تدلُّ على أنهم أَخْبَرُوا بالواقعِ ففي القرآنِ آياتٌ أُخَرُ تدلُّ على إنكارِهم وحلفِهم على الإنكارِ، كقولِه عنهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: الآية 23] {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: الآية 28] وقولُه جلَّ وعلا: {بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: الآية 74]. فهذه الآياتُ تدلُّ على إنكارِهم لِمَا جاؤوا به من الكفرِ، وهذه تدلُّ على إقرارِهم. وقد سُئِلَ ابنُ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن قولِه: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء: الآية 42] مع قولِهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: الآية 23] فأجابَ ترجمانُ القرآنِ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ قال: إنهم إذا رأوا أهلَ الشركِ لاَ خلاصَ لهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} فعندَ ذلك يختمُ اللَّهُ على ألسنتِهم وتشهدُ أيديهم وأرجلُهم بما كانوا يكسبونَ (¬1). فهذه الأسرارُ التي يقولُها ويفصحُ عنها إنما هي أَيْدِيهِمْ وألسنتُهم وجلودُهم، كما قال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22)} [فصلت: الآية 22] وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: الآية 21] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (8/ 373 - 374)، وهو في الدر المنثور (2/ 164).

أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآية 65] قال ابنُ عباسٍ: فالاثنانِ من جهةِ اللسانِ والإقرارِ والإيضاحِ من جهةِ الجوارحِ والجلودِ والأَرْجُلِ والأَيْدِي. وقال بعضُ العلماءِ: وجهُ الجمعِ بينَ الآياتِ: أن يومَ القيامةِ يومٌ طويلٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال فيه: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: الآية 4] ولا خلافَ بينَ العلماءِ أن اليومَ الذي قيلَ فيه خمسينَ ألفَ سنةٍ أنه يومُ القيامةِ (¬1). أما يومُ الألفِ السنةِ في (الحجِّ) ويومُ الألفِ السنةِ في (السجدةِ) ففيهما أقوالٌ غيرُ هذا (¬2)؛ لأن اللَّهَ يقولُ في الحجِّ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)} [الحج: الآية 47] ويقولُ في السجدةِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: الآية 5] وقال في سورةِ المعارجِ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً (5)} [المعارج: الآيتان 4، 5] ويوم الخمسين ألف سنةً: هو يومُ القيامةِ بلاَ خلافٍ (¬3)، إلا أن العلماءَ ذَكَرُوا أنه إنما يطولُ هذا الطولَ على الكافرينَ خاصةً، أَمَّا على المؤمنينَ فهو كنصفِ نهارٍ، وجاءت آيةٌ في سورةِ الفرقانِ تدلُّ على ذلك، وهي قولُه تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: الآية 24] لأنه سَمَّاهُ {مَقِيلاً} والمقيلُ: الاستراحةُ بالقيلولةِ في ¬

(¬1) ذكر فيه ابن كثير (رحمه الله) أربعة أقوال. انظر: تفسير ابن كثير (4/ 418 - 420)، القرطبي (18/ 281 - 283). (¬2) انظر: القرطبي (12/ 78) (14/ 87)، ابن كثير (3/ 228، 457)، أضواء البيان (5/ 718). (¬3) في الجمع بين هذه الآيات انظر: الأضواء (6/ 503).

وسطِ النهارِ (¬1). وأتبعَ هذه الآيةَ بأنَّ هذا لخصوصِ المؤمنين دونَ الكافرين حيث قالَ بعدَ آيةِ الفرقانِ هذه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: الآية 26] وقال: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر: الآيتان 9، 10]. فَيُفْهَمُ منه أنه على المؤمنينَ يسيرٌ. فإذا كان على الكافرينَ مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ فهذه أزمانٌ متطاولةٌ ومواطنُ متعددةٌ، ففي بعضِها ينكرونَ، وفي بعضِها يُقِرُّونَ، ومثلُ هذا الإقرارِ الذي أَقَرُّوا به في بعضِ الْمَوَاطِنِ، والإنكارِ الذي أنكروا به في بعضِ المواطنِ، والكلامُ إذا كانَ في أزمنةٍ مختلفةٍ لا تَنَاقُضَ بينَه أبدًا؛ لأن هذا الإثباتَ في وقتٍ، والنفيَ في وقتٍ آخَرَ، فلا تناقضَ بينَ الآياتِ (¬2). وهذا معنَى قولِه: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}. قال تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} [الأنعام: الآيات 131 - 134]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [الأنعام: الآية 131]. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (13/ 22)، دفع إيهام الاضطراب ص222، أضواء البيان (6/ 308 - 311). (¬2) انظر: ابن عطية (6/ 153)، البحر المحيط (4/ 223)، دفع إيهام الاضطراب ص81، 22، أضواء البيان (5/ 718)، (6/ 308 - 311).

اخْتَلَفُوا في موقعِ (ذلك) من الإعرابِ (¬1)، فَعَنْ سِيبَوَيْهِ: أنها تتعلقُ بمحذوفٍ، جملةٌ - مبتدأٌ وَخَبَرٌ - أي: الأمرُ ذلك الذي قَصَصْنَا عليكم. وذهبَ بعضُهم إلى أنها في مَحَلِّ نَصْبٍ، أي: فَعَلْنَا ذلك لأَجْلِ أن لم يَكُنْ رَبُّكَ مهلكَ القُرَى بِظُلْمٍ. و (أَنْ) هنا زَعَمَ بعضُهم أنها المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ. وَزَعَمَ بعضُهم أنها الْمُخَفَّفَةُ من الثقيلةِ. والمعنَى مُتَقَارِبٌ (¬2). ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: ذلك الذي ذَكَرْنَا من أَنَّا أَرْسَلْنَا إلى معاشرِ الجنِّ والإنسِ رُسُلَنَا في دارِ الدنيا لِيُنْذِرُوهُمْ ويحذروهم حتى شَهِدُوا على أنفسِهم أن الرسلَ بَلَّغَتْهُمْ في دارِ الدنيا، وأنهم كانوا كَافِرِينَ، ذلك الإنذارُ والإعذارُ على ألسنةِ الرسلِ في دارِ الدنيا واقعٌ من أجلِ أَنَّ رَبَّكَ لم يَكُنْ لِيُهْلِكَ القرى بظلمٍ، أي: لِيُهْلِكَهَا بظلمِها؛ بِكُفْرِهَا ومعاصِيها. والقولُ الذي يقولُ: «لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمِهِ لَهَا قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَهَا» ليسَ على الصحيحِ، وإنما التحقيقُ أن المعنَى: ذلك الإنذارُ والإعذارُ على ألسنةِ الرسلِ في دارِ الدنيا؛ لأَجْلِ أن رَبَّكَ لم يكن لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمِهَا، أي: بِكُفْرِهَا ومعاصيها، والحالُ: هُمْ غَافِلُونَ، لم يُنَبَّهُوا برسولٍ ولا بكتابٍ. بل لابد من إزالةِ الغفلةِ في دارِ الدنيا بإرسالِ الرسولِ والكتابِ (¬3). وهذه الآيةُ الكريمةُ صَرَّحَ اللَّهُ فيها بأنه لم يكن لِيُهْلِكَ القرى ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 125)، القرطبي (7/ 87)، البحر المحيط (4/ 224)، الدر المصون (5/ 155). (¬2) انظر: المصادر السابقة. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 124)، القرطبي (7/ 87)، البحر المحيط (4/ 224)، ابن كثير (2/ 177 - 178). طريق الهجرتين 413.

بظلمِها وهي غافلةٌ غيرُ مُنَبَّهَةٍ على ألسنةِ الرسلِ، مُنْذَرَةً مُحَذَّرةً على ألسنةِ الرسلِ. فمعنَى قولِه: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} أي: غافلونَ عن حججِ اللَّهِ وتوحيدِه، لم يُنبَّهُوا عليها بإنذارِ الرسلِ، بل لابدَّ من إنذارِ الرسلِ. والنفيُ هنا في قولِه: {لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} مُنْصَبٌّ على الحالِ؛ ولأن المنفيَّ هنا إهلاكُهم في حالِ كونِهم غَافِلِينَ، فالنفيُ مُنْصَبٌّ على الحالِ لاَ على إهلاكِ القرى؛ لأَنَّ القرى أُهلكوا، فالنفيُ مُنْصَبٌّ على الحالِ (¬1)، ونظيرُه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: الآية 38] فالنفيُ مُنْصَبٌّ على اللعبِ الذي هو الحالُ لا على خلقِ السماواتِ والأرضِ. وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن اللَّهَ لن يعذبَ قومًا لا بهلاكٍ مُسْتَأْصِلٍ في الدنيا، ولا بعذابٍ في الآخرةِ، حتى يُنْذِرَهُمْ على ألسنةِ رسلِه في دارِ الدنيا، وَيُكَذِّبُوا. والآياتُ الدالةُ على هذا المعنَى كثيرةٌ، كقولِه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15] فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن حكمةَ إرسالِ الرسلِ هي قَطْعُ حجةِ البشرِ عن خالقِهم، حيث قال: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: الآية 165]. وهذه الحجةُ التي كانت تكونُ للناسِ على اللَّهِ لو لم يُرْسِلِ الرسلَ أَوْضَحَهَا في أخرياتِ (طه)، وأشارَ لها في (القصص)، قال في (طه): {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 211).

قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: الآية 134] وقال في (القصص): {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: الآية 47] فهذه الآياتُ جاءت آياتٌ تُصَدِّقُهَا، أن اللَّهَ ما عَذَّبَ أحدًا بالنارِ إلا بعدَ إنذارِهم في دارِ الدنيا على ألسنةِ الرسلِ، ومن الآياتِ الدالةِ على ذلك قولُه تعالى في سورةِ (الملك): {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)} [الملك: الآيتان 8، 9]. وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا} إِنَّ كَلِمَةَ (كلما) تعمُّ أزمنةَ الإلقاءِ كُلَّهَا، فتُعمُّ جميعَ المُلْقَيْنَ من الأفواجِ في النارِ، أنهم جاءهم نذيرٌ في الدنيا. ونظيرُها من الآياتِ أن اللَّهَ لَمَّا قسم أهلَ المحشرِ في سورةِ الزمرِ قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} و (الذين) موصولٌ، وقد تَقَرَّرَ في علمِ الأصولِ (¬1) أن الموصولاتِ من صيغِ العمومِ؛ لأنها تَعُمُّ كل ما تشملُه صِلاتُهَا، قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وظاهرُ النَّصِّ أنه شاملٌ لكلِّ مَنْ صدق عليه اسمُ الكافرِ. {إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: الآية 71] فمعنَى قولِهم: (بلى) أي: قد جاءَنا نذيرٌ، وَاللَّهُ ذَكَرَهُ عنهم في معرضِ التصديقِ والتسليمِ، ونظيرُه في سورةِ (فاطر) أنه لَمَّا قَسَّمَ الأُمَّةَ إلى مَنْ أُورِثُوا القرآنَ، وَقَسَّمَهُمْ إلى الطوائفِ الثلاثةِ: مقتصدٍ، وسابقٍ بالخيراتِ، وظالمٍ، وَوَعَدَ جميعَهم الجنةَ، لم يَبْقَ إلا الكفارُ، قال في جميعِهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (1/ 123)، نثر الورود (1/ 251).

يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: الآيتان 36، 37] وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} راجعٌ لجميعِِ الذين كَفَرُوا المذكورين في قولِه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} ونظيرُها من الآياتِ قولُه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} [غافر: الآيتان 49، 50] أي: جَاءَتْنَا رُسُلُنَا بالبيناتِ والآياتِ بنحوِ هذا كثيرة. وهذه الآياتُ تدلُّ على أن أهلَ الفترةِ معذورونَ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [الأنعام: الآية 131] ويقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)} [الإسراء: الآية 15] وَتَمَسَّكَ بظاهرِ هذه الآياتِ جماعاتٌ من أهلِ العلمِ. وَذَهَبَ جماعاتٌ آخرونَ، إلى أن الكفرَ وعبادةَ الأوثانِ لا يُعْذَرُ فيه أحدٌ، وأن كلَّ مَنْ ماتَ كافرًا يعبدُ الوثنَ، أنه في النارِ، وإن لم يَأْتِهِ نذيرٌ. واستدلوا بظواهرِ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، وبأحاديثَ جاءت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. والحاصلُ أن هذه المسألةَ مسألةٌ اصْطَدَمَتْ فيها عقولُ الفحولِ، واختلفَ فيها العلماءُ، وجاءَ كُلٌّ منهم بحججٍ وأدلةٍ، وسنذكرُ طَرَفًا من أدلةِ الجميعِ، ومناقشةِ أدلتِهم، ثم نذكرُ ما يُرَجِّحُهُ الدليلُ إن شاء اللَّهُ تعالى (¬1). ¬

(¬1) في هذا المسألة راجع: مجموع الفتاوى (17/ 308 - 310) أحكام أهل الذمة (2/ 648 - 656)، لوامع الأنوار البهية (2/ 398)، تفسير ابن كثير (3/ 28 - 32) دفع إيهام الاضطراب 178 - 186، نثر الورود (1/ 45)، أضواء البيان (3/ 471 - 484)، نواقض الإيمان الاعتقادية (1/ 294 - 301)، الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه 209 - 215، منهج الجدل والمناظرة (2/ 827). ومما يتصل بهذا الموضوع مسألة (أطفال المشركين)، وقد أطال الكلام عليها الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (18/ 96 - 141)، وفي الاستذكار (8/ 390 - 408)، وابن القيم في طريق الهجرتين 388 فما بعدها. وانظر مجموع الفتاوى (24/ 372).

أما الذين قالوا: إن مَنْ مَاتَ في الفترةِ معذورٌ، فدلالةُ قولِه: الآياتُ - التي ذَكَرْنَا - القرآنيةُ، كقولِه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15] {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: الآية 131] {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: الآية 165] {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: الآية 134] وأن الله بَيَّنَ أنه ما أَدْخَلَ أحدًا النارَ إلا بعدَ الإنذارِ والإعذارِ في دارِ الدنياِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ (9)} [الملك: الآيتان 8، 9] إلى آخِرِ ما ذَكَرْنَا من الآياتِ. أما الذين قالوا: إن الكفرَ وعبادةَ الأوثانِ لا يُعْذَرُ فيها أحدٌ، وأن كُلَّ مَنْ ماتَ كَافِرًا يعبدُ الأوثانَ فهو في النارِ - فَاعْلَمُوا أَوَّلاً: أن الفروعَ كالصيامِ والحجِّ والصلاةِ والواجباتِ والمحرماتِ فهذا محلُّ إجماعٍ بين العلماءِ أن اللَّهَ لاَ يُؤَاخِذُ به أَحَدًا إلا بعدَ إبانةِ الرسلِ، وإنما الخلافُ فِي شهادةِ أن لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وعبادةِ الأوثانِ من دُونِ

اللَّهِ. هذا محلُّ خلافِ العلماءِ، الذين قالوا: إِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا بِاللَّهِ يعبدُ الأصنامَ أنه في النارِ، ولو لم يَأْتِهِ نذيرٌ - استدلوا بظواهرِ آياتٍ دَلَّتْ على ذلك وبأحاديثَ، وَنَاقَشَهُمْ فيه خصماؤهم مناقشاتٍ سَنُلِمُّ ببعضِها. قالوا: قال اللَّهُ: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: الآية 18] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91)} [آل عمران: الآية 91] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: الآية 31] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: الآية 72] {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} [الأعراف: الآية 50] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: الآية 48] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ. واستدلوا بأحاديثَ ثابتةٍ في الصحيحِ، صَرَّحَ فيها النبيُّ بتعذيبِ بعضِ مَنْ مَاتَ في الفترةِ، كما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ (رضي الله عنه) أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهُ رجلٌ فقال: أَيْنَ أَبِي؟ قال: «فِي النَّارِ»، فلما ولَّى الرجلُ دعاه، فقال: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» (¬1) فهذا ثابتٌ من لفظِ النبيِّ في صحيحِ مسلمٍ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي هريرةَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استأذنَ رَبَّهُ أن يزورَ أُمَّهُ فَأَذِنَ له أن يَزُورَهَا، واستأذنَه أن يستغفرَ لها فلم يُؤْذَنْ له. وفي بعضِ رواياتِه عندَ مسلمٍ: فَزَارَ قَبْرَهَا فَبَكَى وَأَبْكَى، وقال: ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: (بيان أن من مات على الكفر فهو في النار ... ) حديث رقم: (203) (1/ 191).

«فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ» (¬1). وأمثالُ هذا من الأحاديثِ الثابتةِ في تعذيبِ بعضِ أهلِ الفترةِ. وهذا القولُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ في الفترةِ على الإشراكِ، وعلى دِينِ الآباءِ، كما قال أبو طالبٍ في آخِرِ كَلاَمِهِ: «إنه على دِينِ الأشياخِ» الذين عَاشُوا في الفترةِ، وأنزلَ اللَّهُ فيه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: الآية 56] وَلَمَّا استغفرَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: (لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْ ذَلِكَ) واستغفرَ المسلمون لِمَوْتَاهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ في ذلك: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية (¬2) [براءة: الآية 113]. وَلَمَّا قالوا: «لَنَا فِي إبراهيمَ أسوةٌ حسنةٌ، وقد استغفرَ إبراهيمُ لأبيه». أنزلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} (¬3) [التوبة: الآية 114] والموعدةُ التي وَعَدَهَا إياه: هي المذكورةُ في سورةِ (مريم): {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه (عزّ وجلّ) في زيارة قبر أمه، حديث رقم: (976) (2/ 671). (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله. حديث رقم: (1360) (3/ 222). وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم: (3884، 4675، 4772، 6681) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ... حديث رقم: (24، 25) (1/ 54 - 55) من غير الزيادة التي في آخره، وهي قوله: (فاستغفر المسلمون ... ) وهي عند الواحدي في أسباب النزول ص 261 - 262. (¬3) أخرج ابن جرير في هذا المعنى جملة من المراسيل عن مجاهد (17326) وعمرو بن دينار (17327) ..

مَلِيًّا (46) قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: الآيتان 46، 47] ثم إن اللَّهَ في سورةِ الممتحنةِ اسْتَثْنَى الاستغفارَ للمشركين من أسوةِ إبراهيمَ، حيث قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} ثم استثنَى من هذه الأسوةِ: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: الآية 4] فلا أسوةَ لكم بإبراهيمَ فيه. وهذا القولُ الذي يقولُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مشركًا دخلَ النارَ، ولو لم يَأْتِهِ نذيرٌ، جَزَمَ به النوويُّ في شرحِ مسلمٍ (¬1)، وحكى عليه القرافيُّ الإجماعَ في شرحِ التنقيحِ في الأصولِ (¬2). وأجابَ مَنْ قَالَ بهذا عن الآياتِ التي ذَكَرْنَا من أربعةِ أَوْجُهٍ: قال: قولُه مثلاً: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)} [الإسراء: الآية 15] قالوا: يعنِي عذابَ الدنيا، كما وقعَ لقومِ نوحٍ من الإغراقِ، وقومِ هودٍ من الريحِ العقيمِ، وقومِ لوطٍ من أن اللَّهَ رَفَعَ أرضَهم إلى السماءِ فجعلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. أما عذابُ الآخرةِ فلم يُقْصَدْ، وحكى القرطبيُّ وأبو حيانَ على هذا أن عليه إجماعَ المفسرين (¬3). ¬

(¬1) عبارة النووي: «وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم» ا. هـ شرح مسلم (1/ 482). (¬2) انظر: شرح تنقيح الفصول ص 297. ولا يخفى أن الإجماع لم ينعقد على ذلك. (¬3) تتبعت جميع الآيات التي لها تعلق بهذا الموضوع في التفسيرين المذكورين فلم أجد لهذا الإجماع ذكرا. ولعله وهم من الشيخ - رحمه الله - بدليل أنه ذكر جميع هذه التفاصيل في أضواء البيان، وفي هذه الجزئية قال: «ونسب هذا القول القرطبي، وأبو حيان، والشوكاني، وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور» ا. هـ. الأضواء (3/ 476). وانظر: القرطبي (10/ 231)، والبحر المحيط (6/ 16).

الوجهُ الثاني: قالوا: إن الواضحَ الذي لا يَلْتَبِسُ على أحدٍ، وهو عبادةُ الأوثانِ، لا عذرَ فيها؛ لأن عَابِدِيهَا يعلمونَ في قرارةِ أنفسِهم أنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، وأنها حجارةٌ، ومثل هذا لا يُعْذَرُ فيه أحدٌ؛ ولذا لَمَّا قال إبراهيمُ لقومِه: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} [الأنبياء: الآية 63] أجابوه فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ (65)} [الأنبياء: الآية 65] قالوا: والدليلُ على أنهم يعلمونَ أن الأصنامَ لاَ تنفعُ ولاَ تَضُرُّ، وأنها جماداتٌ لا يُعْذَرُ أحدٌ في عبادتِها: أنهم إذا نَزَلَتْ بهم شدائدُ، أو قامت عليهم كُرباتٌ تَرَكُوا دعاءَ الأصنامِ، وَأَخْلَصُوا الدعاءَ لِلَّهِ وحدَه؛ لأنهم يعرفونَ في أنفسِهم أنه النافعُ الضارُّ، الْمُحْيِي المميتُ، الذي بيدِه الخيرُ والشرُّ، والآياتُ الدالةُ على ذلك كثيرةٌ جِدًّا، كقولِه: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي: وخافوا الهلاكَ في البحرِ {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: الآية 32] وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} أي: وَهَاجَتْ عليهم أمواجُ البحرِ، وَخَافُوا الهلاكَ: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: الآية 65] وقولُه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء: الآيات 67 - 69] وقال جل وعلا: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ

مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: الآيتان 22، 23] والآياتُ في مثل هذا كثيرةٌ، ومعلومٌ في التاريخِ أن سببَ إسلامِ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ رضي الله عنه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَتَحَ مكةَ خَرَجَ عكرمةُ بنُ أَبِي جهلٍ لشدةِ عداوتِه للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قَتَلَ أَبَاهُ يومَ بدرٍ. شَرَدَ هاربًا إلى الحبشةِ، فَرَكِبَ في قومٍ سفينةً من البحرِ الأحمرِ إلى الحبشةِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا دَاخِلَ البحرِ هَاجَتْ عليهم الريحُ، وَاضْطَرَبَتْ أمواجُ البحرِ، ورأوا الهلاكَ، وَظَنُّوا الموتَ، فإذا جميعُ مَنْ في السفينةِ يَتَنَادَوْنَ ويقولونَ من أطرافِ السفينةِ: أَلاَ فَلْيَحْذَرْ كُلُّ أحدٍ منكم أن يدعوَ في هذا الوقتِ غيرَ اللَّهِ؛ فإنه لا يُنْقِذُ من هذه الكرباتِ إلا هو وحدَه، فَفَهِمَهَا عكرمةُ، ثم قال: وَاللَّهِ إن كانَ لا ينقذُ من كرباتِ البحرِ إلا هو، فلاَ ينقذُ من ظلماتِ البرِّ إلا هو. ثم قال: اللَّهُمَّ لكَ عَلَيَّ عَهْدًا إن أنقذتني من هذه لأَضَعَنَّ يدي في يدِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَلأَجِدَنَّهُ رَؤُوفًا رحيمًا. فهدأ البحرُ وسكنوا، فرجعَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَسْلَمَ، وصارَ من فضلاءِ الصحابةِ (¬1). قالوا: كونُ الكفارِ يعلمونَ أن اللَّهَ هو النافعُ الضارُّ، وأن الأصنامَ جماداتٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنهم إذا كان وقتُ الشدائدِ لجؤوا إلى مَنْ بِيَدِهِ الأمرُ والنهيُ، هذا يدلُّ على أنهم غيرُ مَعْذُورِينَ في عبادةِ الأوثانِ. الوجهُ الثالثُ: زعموا أن عندَهم بقيةُ نذارةٍ من إرثِ دينِ إبراهيمَ والرسلِ الذين أُرْسِلُوا قَبْلَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (40 - 41) من سورة الأنعام.

الوجهُ الرابعُ: هو ما ذَكَرْنَا من الأحاديثِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، من أنه ذَكَرَ أن بعضَ أهلِ الفترةِ في النارِ. وأجابَ القائلونَ [بِعُذْرِهِمْ بالفترةِ] (¬1) عن هذه الأوجهِ الأربعةِ رَادِّينَ لها، مُجِيبِينَ عن كُلِّ وَاحِدٍ، فقالوا: قولكم: «إِنَّ الْعَذَابَ يَخْتَصُّ بِالدُّنْيَا». فالدليلُ على أنه باطلٌ أَمْرَانِ: أحدُهما: أنه خلافُ ظاهرِ القرآنِ، واللَّهُ لم يُخَصِّصْ بعذابِ الدنيا دونَ عذابِ الآخرةِ. فلم يَقُلْ: وما كنا مُعَذِّبِينَ في الدنيا. حتى تقصروا الظاهرَ عليه، وظاهرُ القرآنِ لا يجوزُ العدولُ عنه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه (¬2)، ولا دليلَ عندكم من ظاهرِ القرآنِ. الوجهُ الثاني قالوا: إِنَّ اللَّهَ صَرَّحَ لنا في كتابِه أن الذين عَذَّبَهُمْ في النارِ أَنْذَرَهُمْ في دارِ الدنيا على ألسنةِ رُسُلِهِ، كقولِه: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى} [الملك: الآيتان 8، 9] إلى آخِرِ الآياتِ التي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا. وَأَجَابُوا عن كونِ الأمرِ الواضحِ لا عُذْرَ فيه بِأَمْرَيْنِ: أحدُهما: أن ظاهرَ القرآنِ لم يُفَرِّقْ بَيْنَ الأمرِ الواضحِ وغيرِه، ولا يجوزُ العدولُ عن ظاهرِه إلا بدليلٍ. الثانِي: أن اللَّهَ صَرَّحَ بأنه ما عَذَّبَ على ذلك الأمرِ الواضحِ أَحَدًا إلا بعدَ إنذارِ الرسلِ في دارِ الدنيا: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى} [الملك: الآيتان 8، 9]. أما قولُ مَنْ قَالَ: إنهم كانت عندهم بقيةُ نَذَارَةٍ مِنْ نَذَارَةِ ¬

(¬1) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.

إبراهيمَ وغيرِه من الرسلِ الذين كانوا قَبْلَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الوجهُ جَزَمَ به النوويُّ في شرحِ مسلمٍ (¬1)، وَمَالَ إليه ابنُ قاسمٍ العباديُّ في الآياتِ البيناتِ (¬2)، وهو قولٌ باطلٌ بشهادةِ القرآنِ، وأنا أستغربُ كيف يقولُه عالمٌ كالعباديِّ والنوويِّ؟! مع أن الآياتِ القرآنيةَ صريحةٌ في بطلانِه غايةَ الإبطالِ؛ لأن معناه أن الأُمَّةَ التي بُعِثَ فيها النبيُّ كان مَنْ مَاتَ منها يُعَذَّبُ بسببِ نَذَارَةِ إبراهيمَ، وَاللَّهُ يصرحُ فِي آياتٍ كثيرةٍ أن الأمةَ التي بَعَثَ فيها مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لَمْ تَكُنْ عندَها نذارةٌ أَلْبَتَّةَ مِنْ أَحَدٍ، من ذلك قولُه في سورةِ (يس): {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: الآية 6] و (ما) في قولِه: {مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} نافيةٌ قَطْعًا. وَمَنْ قال: إنها موصولةٌ فهو غالطٌ. والدليلُ على أنها نافيةٌ أنه قال: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} [يس: الآية 6] ولو كانت موصولةً لَمَا قال: {فَهُمْ غَافِلُونَ (6)}. ومنها قولُه في سورةِ القصصِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: الآية 46] فَصَرَّحَ بأنهم ما أتاهم مِنْ نذيرٍ، وقد تَقَرَّرَ فِي علمِ الأصولِ: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ إن زِيدَتْ قبلَها لفظةُ (مِنْ) كانت نَصًّا صريحًا فِي العمومِ (¬3)، وقاله شيخُ النحوِ سيبويه (¬4) إنها إن زِيدَتْ قَبْلَهَا (مِنْ) كانت صَرِيحًا في العمومِ، فهي تَعُمُّ نَفْيَ كُلِّ نَذِيرٍ. ومنه قولُه تعالى فِي سورةِ سبأ: {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44)} [سبأ: الآية 44] ومنه قولُه في سورةِ ¬

(¬1) انظر: شرح مسلم (1/ 482). (¬2) انظر: الآيات البينات (4/ 262). (¬3) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬4) الكتاب (2/ 315، 316)، (4/ 225).

السجدةِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [السجدة: الآية 3] إِذِ اللَّهُ تعالى يُصَرِّحُ بأنهم لم يَأْتِهِمْ نذيرٌ، فليسَ لأحدٍ أن يقولَ: إن [18/أ] عندهم نَذَارَةٌ باقيةٌ يُعَاقَبُونَ /عليها. ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} [المائدة الآية 19] فَصَرَّحَ بأنها فَتْرَةٌ. أما الوجهُ الرابعُ، وهو ذَكَرَتْهُ بعضُ الأحاديثِ، كحَدِيْثَي مسلمٍ الذي ذَكَرْنَا، وهو محلُّ مناقشةٍ طويلةٍ عريضةٍ بَيْنَ العلماءِ. أجابَ المخالفونَ قالوا: حَدِيثَا مُسْلِمٍ هما خَبَرَا آحَادٍ، فلا يُقَدَّمَانِ على القاطعِ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15] دليلٌ قاطعٌ متواترٌ محفوظٌ لا يمكنُ أن يكونَ كَذِبًا بِحَالٍ، وهو صريحُ الدلالةِ ظاهرُها، وحديثُ مسلمٍ وما جَرَى مَجْرَاهُ أخبارُ آحَادٍ، والمتواتراتُ تُقَدَّمُ على الآحادِ. وَأَجَابَ المخالفونَ عن هذا، قالوا: لاَ نُسَلِّمُ هذا؛ لأن حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ ونحوِهما أحاديثُ خاصةٌ، والآياتُ التي ذَكَرْتُمْ عامةٌ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ على العامِّ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أنه لاَ يتعارضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، بل يُقَدَّمُ الخاصُّ على العامِّ، إلا عندَ الإمامِ أبِي حنيفةَ - رحمه الله (¬1) - فإن المقررَ في أصولِه: أن الخاصَّ لاَ يُقَدَّمُ على ¬

(¬1) في مسألة تقديم الخاص على العام انظر: الفروق للقرافي (1/ 209 - 212)، البرهان للجويني (2/ 773، 774)، نهاية السول (2/ 162)، (3/ 239)، إحكام الفصول 160، إيثار الحق على الخلق 102. وانظر هذه المسألة وما ينبني عليها من الفروع في كتاب: أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء ص 215 - 229، وتفسير النصوص لمحمد أديب الصالح (2/ 83) فما بعدها.

العامِّ؛ لأن دلالةَ العمومِ عندَه قطعيةٌ، فيرجحُ بينَهما (¬1)؛ وَلِذَا كانَ جمهورُ العلماءِ، منهم الأئمةُ الثلاثةُ، يخصصونَ عمومَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (¬2) بخصوصِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (¬3) وكان أبو حنيفةَ يقول: هذا الحديثُ خاصٌّ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» لا أُقَدِّمُهُ على العامِّ الذي هو: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» وقد جَهِلْنَا التاريخَ، فلم نَعْرِفْ أيهما المتأخرُ حتى نُقَدِّمَهُ؛ ولذا أَوْجَبَ الزكاةَ في كُلِّ شيءٍ خرج من الأرضِ قليلاً أو كثيرًا، تبرئةً للذمةِ، وعدمِ تقديمٍ للخاصِّ على العامِّ (¬4). وَأَجَابَ المخالفونَ عن هذا بمناقشةٍ أُخْرَى، قالوا: لو سَلَّمْتُمْ هذا الْخَاصَّ، وقلتُم: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتَ عنه في بعضِ الأحاديثِ أن اللَّهَ عَذَّبَ أحدَ أهلِ الفترةِ - لو قَدَّمْنَا هذا الخاصَّ - لاَنْتَفَتِ الحكمةُ الَّتِي تَمَدَّحَ اللَّهُ بها، وَأَثْنَى بها على نفسِه؛ لأَنَّ اللَّهَ تَمَدَّحَ وَأَثْنَى على نفسِه بأنه بالغٌ من العدلِ والإِنْصَافِ مَا لَمْ يُعَذِّبْ ¬

(¬1) انظر: تيسير التحرير (1/ 267، 271). (¬2) أخرجه البخاري في الزكاة، باب العشر فيما يُسقى من السماء ... ، حديث رقم: (1483)، (3/ 347) من حديث عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) بلفظ مقارب لما ذكر الشيخ (رحمه الله) هنا. وأخرج مسلم نحوه من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، كتاب الزكاة، حديث رقم: (981)، (2/ 675). (¬3) أخرجه البخاري في الزكاة، باب ما أُدي زكاته فليس بكنز، حديث رقم: (1405)، (3/ 271) وأطرافه: (1447، 1459، 1484). ومسلم في الزكاة، حديث رقم: (979)، (2/ 673) من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، كما أخرجه من حديث جابر (رضي الله عنه) (980)، (2/ 675) .. (¬4) انظر: المبسوط للسرخسي (3/ 3).

[معه] (¬1) أحدًا إلا بعدَ الإنذارِ في دارِ الدنيا، وأنه لو عَذَّبَ أَحَدًا لكانَ بذلك لأحدٍ حجةٌ، حيث قال: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: الآية 165] قالوا: فلو عَذَّبَ إنسانًا واحدًا لاَنْحَرَمَتْ هذه الحكمةُ، وقال له ذلك الإنسانُ: لولاَ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ رسولاً فَأَتَّبِعَ آياتِك قبلَ أن أَذِلَّ أو أَخْزَى، وَصَارَتْ حكمةُ آيةِ (طه) منخرمةً أيضًا، ولاَ يمكنُ هذا. وأجابَ المعارضونَ عن هذا أيضًا، قالوا: كُلُّ ما أَخْرَجَهُ الدليلُ الخاصُّ يخرجُ من العامِّ، ولا يقدحُ في حكمةِ الْعِلَّةِ؛ لأنه قد يكونُ فِي ذلك الإنسانِ خصوصيةٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ، فَأَخْرَجَهُ من العمومِ لأَجْلِهَا. وهذا مَبْنِيٌّ على مبحثٍ أصوليٍّ عظيمٍ: هل عدمُ اطرادِ العلةِ نقضٌ لها؟ أو هو تخصيصٌ لعمومِها (¬2)؟ إلى غيرِ ذلك مِنَ الأبحاثِ. فهذا نموذجٌ قليلٌ من مناظراتِ العلماءِ في هذه المسألةِ. والتحقيقُ في هذه المسألةِ - إن شاءَ اللَّهُ - هو ما حَقَّقَهُ العلامةُ ابنُ كثيرٍ في شرحِ قولِه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15] وغيرُه من الْمُحَقِّقِينَ: أن اللَّهَ (جل وعلا) يَعْذُرُ أهلَ الفترةِ في دارِ الدنيا، ثم إنه يومَ القيامةِ يَمْتَحِنُهُمْ بالنارِ، ويقولُ لهم: اقْتَحِمُوا في هذه النارِ، فَمَنِ اقْتَحَمَ فيها دَخَلَ الجنةَ، وهو الذي كان يُطِيعُ الرسلَ لو جَاءَتْهُ، وهو المؤمنُ في عِلْمِ اللَّهِ الداخلُ للجنةِ، وَمَنْ تَمَرَّدَ وَعَصَاهُ، وامتنعَ أن يدخلَها دخلَ النارَ، وهو الذي كان ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 135 - 142، 261) فما بعدها، المذكرة في أصول الفقه 278، 292، نثر الورود (2/ 527)، الأضواء (3/ 479 - 481).

يَعْصِي الرسلَ لو جَاءَتْهُ ولاَ يُصَدِّقُهَا، وهو الكافرُ في عِلْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما كَانُوا إليه صَائِرِينَ. وهذا المعنَى جَاءَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثَ كثيرةٍ، منها أحاديثُ صحاحٌ بشهادةِ أئمةِ الحديثِ الْحُفَّاظِ، ومنها أحاديثُ حِسَانٌ، ومنها أحاديثُ ضعافٌ تَعْتَضِدُ بالصحاحِ وَالْحِسَانِ، وهذه الأحاديثُ الواردةُ بهذا هي نَصٌّ في مَحَلِّ النزاعِ تجتمعُ عليها الأدلةُ. وقد أَنْكَرَهَا ابنُ عبدِ البرِّ - رحمه الله (2) - قال: هذه الأحاديثُ لاَ يمكنُ أن تَصِحَّ؛ لأن القيامةَ دارُ جزاءٍ وليست دارَ عملٍ حتى يُكَلَّفُوا فيها فيدخلوا الجنةَ والنارَ بالتكليفِ فيها؛ لأنها دارُ جزاءٍ لا دارَ عملٍ، وهذا الذي قَالَهُ ابنُ عبدِ البرِّ لاَ تُرَدُّ به النصوصُ الصحيحةُ الثابتةُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد دَلَّ القرآنُ والسنةُ الصحيحةُ أن اللَّهَ يكلفُ خلقَه في عرصاتِ المحشرِ بعضَ التكاليفِ، وقد ثَبَتَ في سورةِ القلمِ أنه يَأْمُرُ جميعَهم بالسجودِ، وأَمْرُهُمْ بالسجودِ تكليفٌ في عرصاتِ المحشرِ، كما سيأتِي فيِ قولِه: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: الآيتان 42، 43] لأنه قد جاءَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أن اللَّهَ يدعوهم ذلك اليومَ إلى السجودِ، كما دَلَّتْ عليه الآيةُ. فأما المؤمنونَ فيسجدونَ فيرفعونَ مِنَ السجودِ وعلى وجهِهم نضرةُ النعيمِ، وأما الكافرُ فيكونُ ظهرُه كالصفيحةِ فلا يستطيعُ أَنْ يَسْجُدَ، وإذا أراد تَكَلُّفَ السجودِ خَرَّ على

قَفَاهُ (1)؛ لأنه لا يستطيعُ السجودَ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (42)}. وقد ثَبَتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديثِ الصحاحِ في قصةِ الرجلِ المشهورةِ الذي هو آخِرُ أَهْلِ النارِ خُرُوجًا من النارِ أنه يقول: «يَا رَبِّ أَخِّرْنِي عَنِ النَّارِ. يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ أَخَّرْتُكَ لَعَلَّكَ تَطْلُبُ غَيْرَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: لَكَ عَلَيَّ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنْ لاَ أَطْلُبَكَ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ يَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ لِي كَذَا، أَوْ: إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَيَقُولُ لَهُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ!! فَيُعْطِيهِ مِنَ الْمَوَاعِيدِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنَّهُ لاَ يَطْلُبُ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ، حَتَّى يَقُولَ لَهُ: رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ. إِلَى أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» (2). والتكاليفُ إنما هي عهودٌ ومواثيقُ تُؤْخَذُ على الإنسانِ أن يفعلَ أو أن لاَ يفعلَ. فهذا هو الصوابُ في هذه المسألةِ، أنهم معذورونَ في الدنيا بشهادةِ الآياتِ، وأن اللَّهَ يومَ القيامةِ يمتحنُهم بنارٍ يأمرُهم بالدخولِ فيها، فَمَنْ دَخَلَهَا دخلَ الجنةَ (¬1)، وظهرَ فيه عِلْمُ اللَّهِ أنه كان يُطِيعُ الرسلَ لو جاءَته، ¬

(¬1) ورد في ذلك عدة أحاديث من أشهرها: 1 - حديث الأسود بن سريع (رضي الله عنه) عند أحمد (4/ 24)، وأبي نعيم في معرفة الصحابة، (2/ 281)، والطبراني في الكبير (1/ 287)، وابن حبان (الإحسان (9/ 225)، والبيهقي في الاعتقاد ص 76، والبزار (كشف الأستار 3/ 33)، والضياء في المختارة (4/ 254، 256). وقد صححه البيهقي في الاعتقاد ص 77، وابن القيم في طريق الهجرتين 397، والهيثمي في المجمع (7/ 216)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 419). 2 - حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند أحمد (4/ 24)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 176)، والضياء في المختارة (4/ 255 - 256)، والبيهقي في الاعتقاد ص 77، والبزار (كشف الأستار 3/ 33 - 34). وقد صححه البيهقي في الاعتقاد ص 77، وابن تيمية في الدرء (8/ 399)، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 654)، والهيثمي في المجمع (7/ 216)، والألباني في تخريجه لكتاب السنة (1/ 176)، والسلسلة الصحيحة (3/ 419). وللحديث طرق وشواهد عن عدد من الصحابة منهم: أبو سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك. انظر في ذلك: مسند أبي يعلى (7/ 225)، المعجم الكبير للطبراني (20/ 605)، التمهيد (18/ 127 - 130)، كشف الأستار عن زوائد البزار (3/ 34)، الاعتقاد للبيهقي ص 77، مختصر الفتاوى المصرية 643، طريق الهجرتين 398، أحكام أهل الذمة (2/ 650 - 653)، تفسير ابن كثير (3/ 29 - 30)، مجمع الزوائد (7/ 215 - 217)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 603). قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية (رحمه الله): «وقد رُوي بأحاديث حسان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من لم يكلف في الدنيا من الصبيان والمجانين, ومن مات في الفترة, يُمتحنون يوم القيامة ... » ا. هـ مختصر الفتاوى المصرية ص 643, وقال ابن كثير في التفسير (3/ 31): «إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء, ومنها ما هو حسن, ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها» ا. هـ, وقال الحافظ في الفتح (3/ 246): «وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون, ومن مات في الفترة من طرق صحيحة» ا. هـ.

وَمَنِ امتنعَ دخلَ النارَ، وظهرَ فيه عِلْمُ اللَّهِ أنه لو جاءته الرسلُ لَكَذَّبَهَا. وقولُ ابنِ عبدِ البرِّ: إن هذا تكليفٌ بِمُحَالٍ، وأن القولَ للرجلِ: «ادْخُلِ النَّارَ» هذا تكليفٌ بما لا يطاقُ!! هذا لا يَرُدُّ - أيضا - الأحاديثَ الصحيحةَ، وقد جاء أمثالُه في الشرعِ، فقد ثَبَتَ في الأحاديثِ الصحاحِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في علامةِ الأعورِ - المسيحِ الدجالِ - أن معه جنةً ونارًا، والنبيُّ يأمرُ المؤمنين أن يقتحموا في نارِه التي معه؛ لأنهم إن اقتحموها وجدوها ماءً عذبًا وَشَرِبُوا منه، وأن ماءَه نارٌ (¬1)، ففي هذه الأحاديثِ الصحيحةِ أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باقتحامِ النارِ التي مع الدجالِ، وقد أَمَرَ اللَّهُ بني إسرائيلَ - قد بَيَّنَّا أنه لا يتوبُ عليهم حتى يقتلوا أنفسَهم، كما قَدَّمْنَاهُ في سورةِ البقرةِ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: الآية 54] فلم يَقْبَلْ توبةَ أحدٍ منهم إلا بعدَ أن يُقدِّمَ نفسَه للموتِ فَيُقْتَل، فمعنَى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي: فَلْيَقْتُلِ الذين لم يَعْبُدُوا العجلَ منكم الذين عَبَدُوهُ، وليس المعنَى: أن ¬

(¬1) ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، منها: 1 - حديث أبي هريرة عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}. حديث رقم (3338)، (6/ 370)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (2936)، (4/ 2250). 2 - حديث حذيفة عند البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (7130)، (13/ 90)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، حديث رقم: (2934)، (4/ 2248). 3 - حديث أبي مسعود الأنصاري عند البخاري (7130)، ومسلم (2935) بمثل حديث حذيفة. () ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، منها: 1 - حديث أبي هريرة عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}. حديث رقم (3338)، (6/ 370)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (2936)، (4/ 2250). 2 - حديث حذيفة عند البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (7130)، (13/ 90)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، حديث رقم: (2934)، (4/ 2248). 3 - حديث أبي مسعود الأنصاري عند البخاري (7130)، ومسلم (2935) بمثل حديث حذيفة.

الإنسانَ يقتلُ نفسَه بيدِه. حتى تَابَ اللَّهُ عليهم، وَرَفَعَ القتلَ عن بقيتِهم. وهذا معنَى قولِه: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: الآية 131]. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: الآية 132]. قرأه عامةُ القراءِ، غير ابنِ عامرٍ: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} وقرأه ابنُ عامرٍ: {عما تَعْمَلُونَ} (¬1) والمعنَى واحدٌ. وقولُه (جل وعلا): {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} التنوينُ: تنوينُ عِوَضٍ. أي: ولكلِّ الناسِ من كافرينَ ومؤمنينَ على التحقيقِ. خِلاَفًا لِمَنْ خَصَّهُ بالكافرين (¬2). لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم درجاتٌ. والدرجاتُ: جمعُ الدرجةِ، وهي المرتبةُ والمنزلةُ (¬3). أي: لِكُلِّ عاملٍ مطيعٍ وعاصٍ، لكل واحدٍ من المطيعينَ والعاصينَ درجاتٌ. أي: منازلُ ومراتبُ يَسْتَحِقُّونَهَا بأعمالهم، فمنهم من هو بدرجتِه في أعلى الجنانِ، ومنهم من هو بأعمالِه في دركاتِ النارِ، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أن الآخرةَ يتفاوتُ أهلُها بدرجاتِهم (¬4)، كما في قولِه: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: الآية 21] وَبَيَّنَ أن أهلَ النارِ يتفاوتونَ في دركاتِهم قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: الآية 145] وفي ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 202. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 224 - 225). (¬3) انظر: المفردات (مادة: درج) 310. (¬4) انظر: أضواء البيان (2/ 211).

القراءةِ الأُخْرَى: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (¬1) فهم يتفاوتونَ، ففي أعمالِ أهلِ الشرِّ تفاوتٌ، تتفاوتُ بها منازلُهم في النارِ. ولأعمالِ أهلِ الخيرِ تفاوتٌ، تتفاوتُ بها منازلُهم في الجنةِ. وهذا معنَى قولِه: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا}. والآيةُ فيها موعظةٌ عظيمةٌ، يعني: أيها المخاطبونَ ما دُمْتُمْ في دارِ الدنيا فَاعْلَمُوا أن الدركاتِ في النارِ والدرجاتِ في الآخرةِ إنما تُنَالُ بالأعمالِ في الدنيا، فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَاجْتَهِدُوا في أن تكونَ أعمالُكم صالحةً، لأَنْ تكونَ درجاتُكم ومنازلُكم في الجنةِ عاليةً. وكذلك يُحذِّرُ من أن تكونوا في دركاتِ النارِ - والعياذُ بالله - وهذا معنَى قولِه: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا}. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الخطابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، و (ما) نافيةٌ، والباءُ في قولِه: {بِغَافِلٍ} هي لتوكيدِ النفيِ؛ لأن للإسنادِ الخبريِّ المنفيِّ توكيدًا كما للإيجابيِّ توكيدًا، فلو قلتَ مثلاً: «زيدٌ قائم». فهذا ليس فيه توكيدٌ، ولو قلتَ في الإثباتِ: «إن زيدًا لقائم». فقد أَكَّدْتَ إثباتَ قيامِه بـ (إن) واللامِ. ولو قلتَ: «ما زيدٌ بقائمٍ». فقد أَكَّدْتَ نفيَ قيامِه بـ (الباءِ)، والباءُ في النفيِ تُفِيدُ التوكيدَ الذي تُفِيدُهُ (إنَّ) في حالةِ الإثباتِ. وهي توكيدٌ للنفيِ، والجارُّ والمجرورُ في مثلِ هذا هو مفردٌ، وليس بِشِبْهِ جملةٍ؛ ولذا لا يُقَدَّرُ له الكونُ ولا الاستقرارُ، فلا يجرى على قولِ ابنِ مالكٍ (¬2): وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرْ ... نَاوِينَ مَعْنَى (كَائِنٍ) أَوْ (اسْتَقَرْ) ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 182 - 183. (¬2) الخلاصة ص 17، وانظر شرحه في التوضيح والتكميل (1/ 162).

فهذا لا يُقدَّر فيه كَوْنٌ ولا استقرارٌ؛ لأنه مفردٌ زِيْدَتْ به (باءٌ) للتوكيدِ، ليس بِشِبْهِ جُمْلَةٍ. والغفلةُ هي: الغفلةُ عن الشيءِ وخروجُه عن الذهنِ للاشتغالِ بغيرِه، فَاللَّهُ لا يغفلُ عما يعملُه الظَّلَمَةُ، فهو (جل وعلا) لا يغفلُ عن شيءٍ، ولكنه يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ. وقد نَهَى اللَّهُ خَلْقَهُ أن يظنوا به هذه الغفلةَ، قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: الآية 42] يعني: على قولِه: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (¬1) [الأنعام: الآية 132] ليس بغافلٍ عما يعملونَه من الكفرِ، فهو مُدَّخِرُهُ لهم، ومجازِيهم عليه، وَمُخَلِّدُهُمْ به بالنارِ. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ليس اللَّهُ غافلاً عما تعملونَ أيها المسلمونَ من الخيرِ والحسناتِ، فهو مُدَّخِرُهُ لكم ومجازِيكم عليه، فجميعُ الأعمالِ تُحْفَظُ عند اللَّهِ، لا يغفلُ عن شيءٍ منها، يجازِي بها أهلَها يومَ القيامةِ، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، فمن وَجَدَ خيرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسَه. وهذا معنَى قولِه: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: الآية 132]. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: الآية 133]. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} قولُه: {وَرَبُّكَ} خطابٌ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأضافَ لفظةَ الربِّ إليه إضافةَ تشريفٍ وتكريمٍ. ¬

(¬1) «يعملون» على قراءة ابن عامر.

والربُّ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على عشرةِ مَعَانٍ (¬1): منها: السيدُ الذي يَسُوسُ الناسَ ويُدَبِّرُ شؤونَها، وكلُّ مَنْ يسوسُ بلدًا ويدبرُ شؤونَه تقولُ العربُ: هذا رَبُّهُ. وتقول العربُ: فلانٌ رَبُّ بَنِي فُلاَنٍ. أي: سيدُهم الذي يَسُوسُهُمْ ويدبرُ شؤونَهم. والعربُ تقولُ: ربَّه يربُّه. إذا أَصْلَحَ شؤونَه وَسَاسَهُ وَأَصْلَحَ أمورَه. فالفاعلُ: رَبٌّ، والمفعولُ: مربوبٌ. وَمِنْ إطلاقِ العربِ الربَّ على الذي يَسُوسُ الأمورَ وَيُدَبِّرُهَا: قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَة التميميِّ، قال لرجلٍ سَادَ قَوْمَهُ (¬2): وكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي ... وقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ أي: سَادَتْنِي قبلكَ سادةٌ وساسةٌ وَضَيَّعُونِي، والآنَ أَفْضَتْ إليكَ ربابتي، فَصِرْتَ رَبِّي الذي يُدَبِّرُ شؤوني، فلا تضيعني. وتعرفونَ في السيرةِ، أن صفوانَ بنَ أميةَ بنِ خَلَفٍ كان عَدُوًّا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبيَّ قَتَلَ يومَ بدرٍ أباه أُمَيَّةَ بنَ خلفٍ، وقتلَ أخاه عَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بنِ خلفٍ يومَ بدرٍ، وَقَتَلَ عَمَّهُ أُبَيَّ بنَ خلفٍ يومَ أُحُدٍ، وهو من أشدِّ الناسِ عداوةً لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلما فتحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ وطلبَ منه إعارةَ السلاحِ المشهورةَ الثابتةَ في الحديثِ طَلَبَ صفوانُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُعْطِيَهُ مهلةً ينظرُ فيها في أمرِه، فَأَعْطَاهُ النبيُّ مهلةً ينظرُ فيها في أمرِه، ويتدبرُ فيما يفعلُ، وكان في تلك المهلةِ أن غَزَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هوازنَ - غزوةَ حنينٍ - المذكورةَ في القرآنِ، وكانت الرياسةُ في ذلك الوقتِ صَارَتْ من دُرَيْدِ بنِ الصَّمَّةِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

إلى مالكِ بْنِ عوفٍ النصريِّ، وكان دُريد شائبًا أَعْمَى، وكانت فكرتُه: أن هوازنَ يفعلونَ مثلَ ما فَعَلَتْ ثقيفٌ، يَبْقَوْنَ في ديارِهم، وَيُخْرِجُونَ النبالَ والرماحَ من كُوَى الحصونِ، ويحاصرُهم القومُ فيرامونَهم وهم في مَقَرِّهِمْ. وأبى عن هذه الفكرةِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ سيدُ هوازنَ في ذلك اليومِ، وقال: إن لم تطيعونِي لأتكئنَّ على سَيْفِي (في قصةِ حنينٍ المشهورةِ). فخرجَ بهوازنَ بنسائِهم وأطفالِهم وأموالِهم، حتى نزلَ بهم في مضيقِ وَادِي حنينٍ، في طريقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان دريدٌ أَعْمَى، فقال: ما لِي أسمعُ رغاءَ البعيرِ ونهاقَ الحميرِ وبكاءَ الصغيرِ؟ يظنُّ أن الخارجين جيشٌ فقط. فقيل له: خَرَجَ مالكُ بنُ عوفٍ النصري بالمالِ، يقول: إن الرجلَ إذا كان معه أهلُه ومالُه وزوجاتُه لاَ يَفِرُّ. فَحَرَّكَ بشفتيه استهزاءً برأيه، وقال: إن الرجلَ إذا انتفخَ سِحْرُهُ - أي: رِئَتُهُ - من الخوفِ لا يَلْوِي على مالٍ ولا ولدٍ. ونزلوا مضيقَ حنينٍ، وصلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصبحَ في غَلَسٍ من ظلامِ الليلِ، ثم انحدرَ مع وادي حنينٍ هو وأصحابُه، فلم يعلموا بشيءٍ حتى أَتَوْا هوازنَ، وهم أمامَهم في مضيقِ الوادِي، فَصَبُّوا عليهم النبالَ والسهامَ كأنها مطرٌ تُزَعْزِعُهُ الريحُ، فَوَقَعَ ما وَقَعَ، وقصَّه اللَّهُ في سورةِ براءة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: الآية 25] وفي ذلك الوقتِ لم يَبْقَ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً، وَنَزَلَ عن بغلتِه (دُلْدُل)، بغلة لا تصلحُ لِكَرٍّ ولا لِفَرٍّ، وهو يقولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»

والشاهدُ: أنه لَمَّا وقعَ ما وقعَ بالمسلمين في أولِ وهلةٍ، وصفوانُ بن أُميةَ حاضرٌ، ومعه رجلٌ يرافقُه، قال ذلك الرجلُ: بَطَلَ الآنَ سحرُ محمدٍ!! يعني: أن هوازنَ غَلَبُوهُ، وأن قومَه انهزموا، وأن ما كان عنده سِحْرٌ، وأنه بَطَلَ. فقال له صفوانُ - وهو محلُّ الشاهدِ -: اسْكُتْ فُضَّ فُوكَ، لئن يَرُبَّنِي رجلٌ من قريشٍ أحبُّ إليَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من هوازنَ (¬1)!! ومعناه: أن يسودَني ويسوسنِي قُرَشِيٌّ، ابنُ عَمِّي، أحبُّ إِلَيَّ من أن يَسُودَنِي واحدٌ من ثقيفٍ، أهلِ الطائفِ. فهذا يُبَيِّنُ أن معنَى (ربّه يَرُبُّهُ) أي: سادَه وساسَه وَدَبَّرَ أمورَه، وهو بالنسبةِ إلى اللَّهِ (جل وعلا): السيدُ الذي يدبرُ شؤونَ الناسِ، ويسوسُ أمورَها، فلا يستغنِي عنه العَالَمُ طرفةَ عَيْنٍ. قولُه: {الْغَنِيُّ} معناه: هو الذي عنده الغِنَى، واللَّهُ (جل وعلا) غَنِيٌّ بذاتِه غِنًى مُطْلَقًا، لا يحتاج إلى خَلْقِهِ، وخلقُه محتاجونَ إليه. والنكتةُ في الآيةِ: أن اللَّهَ بما مَضَى أَمَرَ وَنَهَى، وَبَيَّنَ ما يُدْخِلُ الجنةَ وما يُدْخِلُ النارَ، ثم نَبَّهَ خلقَه، فكأنه يقولُ: يا عبادي: لا تَظُنُّوا أنني آمُرُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ لأَجْلِ أن أَجُرَّ بذلك لنفسِي نفعًا أو أصرفَ عنها ضُرًّا، لا، أنا الغنيُّ بذاتِي الغِنَى المطلق، وإنما النفعُ لكم لا لِي، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: الآية 15] وفي الحديثِ القدسيِّ، الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ، أن اللَّهَ (جل وعلا) يقولُ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» الحديثَ (¬1). فهو (جل وعلا) لا ينتفعُ بطاعةِ المطيعِ، ولا تضرُّه معصيةُ العاصِي: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: الآية 8] {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: الآية 6] ولذا قال هنا: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} الذي لا تنفعُه طاعةُ مَنْ أَطَاعَ منكم، ولا تضرُّه معصيةُ مَنْ عَصَى منكم، وهو غَنِيٌّ بذاتِه غِنًى مُطْلقًا. {ذُو الرَّحْمَةِ}: هو الرحيمُ الذي يرحمُكم - إن اتبعتُم أوامرَه - يومَ القيامةِ، كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: الآية 43] أي: يدعُوكم إلى طاعتِه - وهو رحيمٌ - ليرحمَكم ويدخلَكم جَنَّتَهُ. وقد قَدَّمْنَا أن (الرحمنَ) هو ذو الرحمةِ الشاملةِ لجميعِ الخلائقِ في الدنيا، و (الرحيمُ) هو الذي يَرْحَمُ عبادَه المؤمنين في الآخرةِ (¬2)، ومن رحمانيتِه (جل وعلا): لطفُه بالطيرِ الصافاتِ، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} [الملك: الآية 19] أي: ومن رحمانيتِه: لطفُه بالطيرِ صافاتٍ وقابضاتٍ في جوِّ السماءِ، وإمساكُه لها. وهذا معنَى قولِه: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} يعني: وَمِنْ شدةِ غناهُ عنكم وعن أعمالِكم، وعدمُ حاجتِه إليكم، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم: (2577) (4/ 1994) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬2) في الفرق بين (الرحمن) و (الرحيم) انظر: ابن جرير (1/ 126)، القرطبي (1/ 105)، ابن كثير (1/ 20)، مدارج السالكين (1/ 75)، بدائع الفوائد (1/ 24)، أضواء البيان (1/ 39 - 41).

ولا إلى طاعتِكم، ولا إلى معصيتِكم، فهو في قدرتِه أن يذهبَكم جميعًا ويجعلَكم أثرًا بعدَ عَيْنٍ، ويأتي بقومٍ آخرِينَ غيركم، كما جاء بكم أَنْتُمْ من ذريةِ قومٍ آخَرِينَ. وهذا معنَى قولِه: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ}. {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ}: أي: يَجْعَلْ خلفاءَ فِي الأرضِ بعدَكم خَلَفًا منكم {مَّا يَشَاءُ} من خَلْقِهِ. وهذا المعنَى تَكَرَّرَ في القرآنِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ للناسِ أنه قادرٌ على أن يزيلَهم عن بكرةِ أبيهم، ويستبدلَ قومًا غيرَهم، وقد يكونُ المستبدلونَ خيرًا منكم أيها المخاطَبونَ، كقولِه في سورةِ النساءِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: الآية 133] وقولُه (جل وعلا): {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} [هود: الآية 57] إذا استخلفَ غيرَكم فما عليه في ذلك مِنْ ضَرَرٍ، وقولُه في سورةِ فاطرٍ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)} [فاطر: الآيات 15 - 17] أي: ليس فيه صعوبةٌ عليه ولا مشقةٌ، بل هو هَيِّنٌ عليه يَسِيرٌ. وقولُه في أُخْرَيَاتِ سورةِ القتالِ - سورةِ محمدٍ - حيث قال فيها: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: الآية 38] وقد قال في الواقعةِ: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: الآيتان 60، 61] وقد قال في الإنسانِ: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} [الإنسان: الآية 28] يعني: فَذَهَابُكُمْ جميعًا والإتيانُ ببدلٍ منكم، سهلٌ عَلَيَّ، خفيفٌ عندي، لا يضرُّني شيئًا، فأنتم إنما تنتفعونَ بطاعتِكم

وتتضررونَ بمعصيتِكم، وأنا الغنيُّ بذاتِي عنكم، القادرُ على أن أُذْهِبَكُمْ، وآتِي بغيركم، وقولُه: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} المرادُ هنا: الإذهابُ بوقتٍ واحدٍ، بأن يذهبَهم جميعًا، وليس المرادُ أن يذهبَهم تَدْرِيجًا بالموتِ (¬1)، كما هي عادتُه في القرونِ أن يُفْنِيَ قَرْنًا تدريجًا بالموتِ، ثم يأتي بعدَه بقرنٍ آخَرَ تدريجًا بالولادةِ؛ لأن هذا هو الواقعُ، فلو كان هو المرادَ لَمَا قال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} لأنه مُذْهِبُهم قَطْعًا وَمُسْتَخْلِفٌ بعدَهم ما يشاءُ على التدريجِ، هذا واقعٌ قَطْعًا. وقولُه: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} عَبَّرَ بـ (ما) هنا للإبهامِ في الشيءِ، وإن كان قد يقعُ على العاقلِ؛ لأن المقررَ في علمِ النحوِ: أن الشيءَ إذا أُبْهِمَتْ صفاتُه - أي: كان المرادُ صفاته مثلا - أنه يُعبَّرُ عنه بـ (ما) (¬2). وهذا معنَى قولِه: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} كما أنه كان في الأرضِ قَبْلَكُمْ ناسٌ غيركم - قال بعضُهم: هم الذين كانوا في سفينةِ نوحٍ، وقال بعضُهم: يَعُمُّ ما قبلَهم من القرونِ. كان قبلَكم ناسٌ أهلُ ثروةٍ وأهلُ غِنًى في الدنيا، وأهلُ تَمَدُّنٍ ومكاناتٍ (¬3) - أَذْهَبْنَاهُمْ جميعًا، وَجِئْنَا بكم، وَجَعَلْنَاكُمْ خلفاءَ في الأرضِ بعدَهم، كما أَذْهَبْنَا أولئك وجعلناكم خَلَفًا بعدهم، فنحن قادرونَ أيضًا على أن نفعلَ بكم مثلَ ذلك، وهذا معنَى قولِه: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 225) .. (¬2) انظر: الكوكب الدري ص 210، التوضيح والتكميل (1/ 115). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 125).

يقول اللَّهُ جل وعلا: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: الآية 134]. (ما) هنا موصولةٌ، وعائدُ الصلةِ محذوفٌ (¬1)، والتقديرُ: إن الذي تُوعَدُونَهُ لآتٍ لا محالةَ. اعْلَمُوا أَوَّلاً: أن {تُوعَدُونَ} هنا يحتملُ أن يكونَ من الوعدِ، ويحتملُ أن يكونَ من الإيعادِ، والوعدُ: هو الوعدُ بالخيرِ، والإيعادُ: هو الوعيدُ بالشرِّ (¬2)، كما قال الشاعرُ (¬3): وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي فقولُه: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} بناءً على أنه مِنَ الوعدِ، فَاللَّهُ (جل وعلا) لا يُخْلِفُ وعدَه أبدًا؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: الآية 9] أما إخلافُ الوعيدِ ففيه تفصيلٌ غَلِطَ فيه جماعاتٌ من العلماءِ، حتى كان من يقولُ من العلماءِ بفناءِ النارِ، أن اللَّهَ لو صَرَّحَ بأنها [لا] تَفْنَى (¬4) أن ذلك وعيدٌ، وإخلافُ الوعيدِ من المدحِ لا من الذمِّ، إذ إنَّ مَنْ أَوْعَدَكَ بشرٍّ ثم عَفَا عَنْكَ وأعطاكَ الخيرَ فهذا من الجميلِ، وإنما المذمومُ القبيحُ هو إخلافُ الوعدِ بالخيرِ. والتحقيقُ في هذا المقامِ: أن اللَّهَ (جل وعلا) إِنْ وَعَدَ بِخَيْرٍ فإنه ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 157). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 88). (¬3) البيت لعامر بن الطفيل. وهو في اللسان (مادة: وعد) (3/ 951)، وانظر: المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (1/ 255). (¬4) في الأصل: «بأنها تفنى» وهو سبق لسان.

لا يُخْلِفُ وعدَه أبدا؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وإن أَوْعَدَ بشرٍّ فإيعادُه بالشرِّ له حَالَتَانِ: تَارَةً يكونُ وعيدًا للكفارِ. وهذا لا يُبَدَّلُ بحالٍ، ويدلُّ عليه قولُه هنا: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ}؛ لأن الكلامَ في الكفارِ الذين يهددُهم اللَّهُ. أي: ما يُوعِدُكُمُ اللَّهُ من العذابِ وَاقِعٌ لاَ محالةَ، يدلُّ عليه قولُه: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} كما سَنُفَسِّرُهُ، وقد صَرَّحَ اللَّهُ في آياتٍ من كتابِه أن وعيدَه للكفارِ لاَ يُخْلَفُ حيث قال فِي سورةِ (ق): {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: الآيتان 28، 29] والمرادُ به على التحقيقِ: ما وُعِدَ الكفارُ به من عذابِ النارِ. وقال جل وعلا: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: الآية 14] حَقَّ: معناه ثَبَتَ وَوَجَبَ، وما قال اللَّهُ فيه: «إِنَّهُ ثَبَتَ وَوَجَبَ» لا يمكنُ أن يتخلفَ، و (الفاءُ) في قولِه: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} من حروفِ التعليلِ، وقد تقررَ في الأصولِ في (مسلكِ النصِّ) وفي (مسلكِ الإيماءِ والتنبيهِ) أن (الفاءَ) من حروفِ التعليلِ (¬1) كما تقولُ: «سَهَا فَسَجَدَ»، أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ. و «سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ» أي: لِعِلَّةِ سرقتِه. و «أَسَاءَ فَأُدِّبَ». أي: لإساءتِه. {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} أي: وَجَبَ الوعيدُ لأجلِ تكذيبِ الرسلِ، ونظيرُه قولُه في (ص): {إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: الآية 14]. أما الوعيدُ الذي يجوزُ أن يُخْلَفَ: هو وعيدُ اللَّهِ لِعُصَاةِ المسلمين، فإن اللَّهَ أَوْعَدَ مُرْتَكِبِي الذنوبِ الكبائرِ بأنه يُعَذِّبُهُمْ، وهذا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

الوعيدُ إن شاءَ اللَّهُ أَنْفَذَهُ، وإن شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْ أَهْلِهِ. وَصَرَّحَ اللَّهُ بهذا في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: الآية 48] فَجَعَلَ غيرَ الشركِ من الكبائرِ تحتَ مشيئتِه، إن شاء عَفَا، وإن شَاءَ عَذَّبَ. هذا هو تحقيقُ المقامِ في الوعدِ والوعيدِ (¬1). قولُه هنا: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} أي: ما يُوعَدُ به من ثوابٍ وخيرٍ فهو آتٍ لاَ محالةَ، وما يُوعَدُ به الكفارُ المكذبونَ للرسلِ من العذابِ والتنكيلِ فهو آتٍ لاَ محالةَ. ثم قال: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} المعجزونَ: جمعُ تصحيحٍ للمعجزِ، والمعجزُ: اسمُ فاعلِ الإعجازِ، ومفعولُ اسمِ الفاعلِ هنا محذوفٌ. والمعنَى: وما أنتم بمعجزينَ رَبَّكُمْ. أي: لستُم بِفَائِتِيهِ حتى تُعْجِزُوهُ فيعجزَ عن التمكنِ منكم وتعذيبِكم، بل أنتم في قبضةِ يدِه، وتحتَ قهرِه وسلطانِه، لا تُعْجِزُونَهُ ولا تَفُوتُونَهُ، بل أَمْرُهُ وَاقِعٌ فيكم، نافذٌ فيكم، ليس لكم مَفَرٌّ وَلاَ مَلْجَأٌ، ولا يمكنُ أن تُعجزوا رَبَّكُمْ وتفوتوه حتى لا يُعَذِّبَكُمْ. فَعُرِفَ من هذا أن المفعولَ محذوفٌ، العربُ تقول: «طَلَبَ فلانًا فَأَعْجَزَهُ». أي: فاتَه ولم يَقْدِرْ على إدراكِه، واللَّهُ يقولُ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} لا تُعْجِزُونَنِي فتسبقونني حتى لا أُنَفِّذَ فيكم ما أَوْعَدْتُكُمْ به، بل أَنْتُمْ تحتَ قَهْرِي وسلطانِي، وفي قبضةِ يدِي، وَسَأُنَفِّذُ فيكم ما أشاءُ من وَعِيدِي الذي قلتُ: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}. ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (11/ 646 - 649).

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: الآية 135]. قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ، ما عدا شعبةَ عن عاصمٍ: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} بالإفرادِ، وقرأه شعبةُ - وحدَه - عن عاصمٍ: {اعملوا على مكانتكم} بمدّ النونِ جمعِ مكانةٍ. وكذلك قرأَ شعبةُ في جميعِ القرآنِ. وقرأ عامةُ القراءِ أيضًا ما عدا حمزةَ والكسائيَّ: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} بالتاءِ الفوقيةِ في قولِه: {مَنْ تَكُونُ} وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: {فسوف تعلمون من يَكونُ له عاقبةُ الدار} (¬1). ولا إشكالَ في قراءةِ شعبةَ، ولاَ في قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ؛ لأن قراءةَ شعبةَ أن كُلَّ واحدٍ له مكانةٌ يَعْمَلُ عليها، فَجُمِعَتِ المكاناتُ اعتبارًا بتعددِ المخاطَبين. وعلى قراءةِ الجمهورِ: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} فالمكانةُ أُضِيفَتْ إلى مُعَرَّفٍ وهي مفردٌ فَعَمَّتْ جميعَ المكاناتِ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أن المفردَ إذا أُضِيفَ إلى مُعَرَّفٍ صَارَ صيغةَ عمومٍ يشملُ جميعَ الأفرادِ (¬2)، كقولِه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [النحل: الآية 18] أي: نِعَمَ اللَّهِ. وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: الآية 63] أي: عن أوامرِه {إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي} [الحجر: الآية 68] أي: ضُيُوفِي كما هو معروفٌ. فَكِلْتَا القراءتين ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 203، وانظر توجيه هذه القراءات في حجة القراءات ص 272، البحر المحيط (4/ 226)، الدر المصون (5/ 158). (¬2) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

معناهما واحدٌ، وكذلك قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} يجوزُ فيه التذكيرُ بأمرين: أحدُهما: أن العاقبةَ تأنيثُها مَجَازِيٌّ، والتأنيثُ المجازيُّ إذا كانت (الفَاعِلَة) تأنيثُها مَجَازِيًّا جَازَ في الفعلِ التذكيرُ والتأنيثُ (¬1). الثاني: أنه فَصَلَ بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه فَصْلٌ، وهو قولُه: {مَنْ تَكُونُ لَهُ} والفَصْلُ بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه يُسَوِّغُ تذكيرَ الفعلِ، ولو كان فاعلُه مؤنثًا حَقِيقِيًّا، كما هو معروفٌ في علمِ النحوِ (¬2). ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن الله (جل وعلا) أَمَرَ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أن يهددَ الكفارَ تَهْدِيدًا عظيمًا بأُسلوبٍ لطيفٍ في غايةِ الإنصافِ واللطافةِ، مع اشتمالِه على أعظمِ التهديدِ، وأشنعِ التخويفِ، وهو قولُه: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}. {يَا قَوْمِ اعْمَلُوا} أصلُه: (يَا قَوْمِي) حُذِفَتْ ياءُ المتكلمِ، وحَذْفُ ياءِ المتكلمِ اكتفاءً بالكسرةِ لغةٌ فُصْحَى مُطَّرِدَةٌ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ (¬3). وقد قَدَّمْنَا (¬4) أن (القومَ) اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِنْ لَفْظِهِ، وأن معناه في لغةِ العربِ: جماعةُ الرجالِ دونَ النساءِ، وأن النساءَ رُبَّمَا دَخَلْنَ في اسمِ (القومِ) تَبَعًا. أما الدليلُ على أن لفظَ (القومِ) في النطقِ العربيِّ يختصُّ بالرجالِ دونَ النساءِ: فقولُه تعالى في الحجراتِ: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} ¬

(¬1) انظر: حجة القراءات ص 272، الكليات 818. (¬2) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬4) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام.

ثم قَالَ: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} ( ... ) (¬1) [الحجرات: الآية 11]. ( ... ) (¬2) فيها الربا إِجْمَاعًا، التي هي: القمحُ والشعيرُ والتمرُ والزبيبُ، قالوا: كُلُّ واحدةٍ من هذه الأربعِ مُقتاتةٌ مُدَّخَرَةٌ، معناه أنها قوتٌ يَتَقَوَّتُ به الإنسانُ، وأنه يَدَّخِرُهَا أَزْمَانًا فلا تضيعُ، فكل مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ من الحبوبِ والثمارِ تجبُ فيه الزكاةُ عندَ مالكٍ والشافعيِّ (¬3). وأنهما اتَّفَقَا أيضًا على أن الأشجارَ ليس في ثمارِها شيءٌ مُقتاتٌ مُدَّخَرٌ إلا الزبيبَ والتمرَ خاصةً، ولم يُوجِبْ مالكٌ والشافعيُّ الزكاةَ إلا في التمرِ والزبيبِ خاصةً، أما غيرُهما من ثمارِ الأشجارِ فليست عندَهما مِمَّا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ (¬4)، ولم يُوجِبَا فيها شَيْئًا إلا الزبيبَ والتمرَ. وأما الحبوبُ فإن مَالِكًا والشافعيَّ اتَّفَقَا أيضًا على أن كُلَّ ما يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ من الحبوبِ أنه تَجِبُ فيه الزكاةُ، وهي الْعُشْرُ ونصفُ الْعُشْرِ على ما قَرَّرْنَا، والحبوبُ الْمُقْتَاتَةُ المُدَّخرةُ: كالقمحِ والشعيرِ اللذين - مثلاً - دَلَّ الإجماعُ والنصُّ عليهما، ونحوهما من السُّلْتِ (¬5)، ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتمام الآية لا يخفى، ويمكن استدراك باقي النقص فيما يتعلق بمعنى القوم بمراجعة ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الموضع السابق. (¬2) هذا المقطع يتعلق بتفسير الآية رقم (141) ولاستدراك ما ذهب من التسجيل عليك بمراجعة ما كتبه الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (2/ 213 - 246). (¬3) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، المهذب (1/ 163). (¬4) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، المهذب (1/ 160). (¬5) السُّلْت: قيل: نوع من الشعير ليس له قشر. وقيل: نوع من الشعير رقيق القشر، صغار الحب. وقيل: حب بين الحنطة والشعير، ولا قشر له كقشر الشعير، فهو كالحنطة في ملامسته وكالشعير في طبعه وبرودته. وهي أقوال متقاربة. انظر: المصباح المنير (مادة: سلت) ص 108 حلية الفقهاء ص 105.

والعَلَسِ (¬1)، والأرزِ والذرةِ، وأنواعِ القطانيِّ الثمانيةِ (¬2): كالبَسِيلَةِ (¬3)، والجُلُبَانِ (¬4)، والحِمَّصِ، والتُّرْمُسِ (¬5)، والفولِ إلى غيرِ ذلك من أنواعِ القطانيِّ الثمانيةِ؛ لأن القطانيَّ ثمانيةُ أنواعٍ. وضابُطها: ما يَثْبُتُ فيه الربا من الفولِ والحِمَّصِ والتُّرْمُسِ واللوبيا والجُلُبَانِ والْجُلْجُلاَنِ (¬6)، والبَسِيلَةِ. أما الكِرْسِنَّةُ (¬7): فالمشهورُ في مذهبِ مالكٍ أنها لا زكاةَ فيها لأنها عَلَفٌ، خلافًا لأشهبَ من أصحابِ مَالِكٍ، إلا أن مشهورَ مذهبِ مَالِكٍ أن الكِرْسِنَّةَ ¬

(¬1) العَلَس: قيل هو نوع من الحنطة، يكون في القشرة منه حبتان، وقد تكون واحدة أو ثلاث. وقيل هو حبة سوداء تؤكل في الجدب. وقيل: مثل البر إلا أنه عسر الاستنقاء. انظر: المصباح المنير (مادة: علس) ص 161، حلية الفقهاء ص 105 .. (¬2) القطاني: اسم جامع للحبوب التي تُطبخ، كالعدس، والباقلاء، واللوبياء، والحمص، والأرز، والسمسم ويقال لها - أيضا -: القِطْنِيَّات، واحدتها قِطْنِيَّة. انظر: المصباح المنير (مادة: قطن) ص 194 حلية الفقهاء ص 105. (¬3) قال في اللسان: «والبسيلة: الترمس» ا. هـ. (مادة: بسل) (1/ 215). (¬4) هو حب أغبر أكدر على لون الماش، إلا أنه أشد كدرة منه وأعظم جرمًا. انظر: اللسان (مادة: جلب) (1/ 478). (¬5) هو حَمْلُ شجر له حب مضلَّع محزَّر. أو الباقلاء المصري. انظر: القاموس (مادة: الترمس) ص 688. (¬6) يطلق على السمسم في قشره قبل أن يُحصد، وعلى ثمرة الكزبرة. انظر: المعجم الوسيط (مادة: جلجل) (1/ 128). (¬7) قال في القاموس: «شجرة صغيرة لها ثمر في غُلف، مُصدع مُسهل مُبول للدم، مُسمن للدواب، نافع للسعال، عجينه بالشراب يُبرئ من عضّة الكلب والأفعى والإنسان» ا. هـ. القاموس: (مادة: الكرسنة) 1584.

من أنواعِ القطانيِّ في بابِ الربا لا في بابِ الزكاةِ (¬1). وَزَعَمَ قومٌ أن الكِرْسِنَّةَ هي البَسِيْلَةُ من أنواعِ القطانيِّ. هذه الحبوبُ هي التِي تُقْتَاتُ وَتُدَّخَرُ، وتجبُ فيها الزكاةُ: القمحُ والشعيرُ والسُّلْتُ والعَلَسُ والذرةُ والأرزُ والدخنُ، وأنواعُ القطانيِّ: كالتُّرْمُسِ والحِمَّصِ والبَسِيلةِ والفولِ والجُلُبَانِ والجُلْجُلانِ وَاللُّوبْيَا إلى غيرِ ذلك، هذه الحبوبُ التي تُقْتَاتُ وَتُدَّخَرُ تجبُ فيها الزكاةُ عندَ مَالِكٍ والشافعيِّ. وإنما اخْتَلَفَا في شيئين: أحدُهما: أن مَالِكًا يقولُ (¬2): إن القطانيَّ يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ في الزكاةِ، وإن القمحَ والشعيرَ والسُّلْتَ يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، فَمَنْ حَصَدَ عند مَالِكٍ وَسْقًا من فولٍ، وَحَصَدَ وَسْقًا من جُلُبَان، وحصد وسقًا من بَسِيلَة، ووسقًا من لوبيا، ووسقًا من حِمَّص فإنه تَجِبُ عليه الزكاةُ؛ لأنها خمسةُ أَوْسُقٍ من جنسٍ واحدٍ. وإن اخْتَلَفَتْ أنواعُها يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ ويُخرج من كلِّ نوعٍ بحسبِه. والشافعيُّ يقولُ (¬3): لا يُضَمُّ شيءٌ منها إلى شيءٍ، فلاَ يُضَمُّ فولٌ إلى لوبيا، ولا تُرْمُسٌ إلى حِمَّصٍ؛ بل كُلٌّ فِي جِرَابِهِ، وإذا حصدَ خمسةَ أوسقٍ من واحدٍ وَجَبَتِ الزكاةُ، وإلا فَلاَ. كما أن الشافعيَّ يقولُ: لاَ يُضَمُّ قَمْحٌ إلى الشعيرِ، ولا الشعيرُ إلى القمحِ، ولا السُّلْتُ إلى واحدٍ منهما. ومالكٌ يقولُ: إنه إذا قَطَعَ وَسْقَيْنِ من قمحٍ، وَوَسْقَيْنِ من شعيرٍ، وَوَسْقًا من سُلْتٍ، أنها تكونُ ¬

(¬1) انظر: المنتقى للباجي (2/ 168)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 447)، أضواء البيان (2/ 192). (¬2) انظر: المدونة (1/ 348)، الكافي في فقه أهل المدينة 103، القرطبي (7/ 107)، الأضواء (2/ 215 - 216). (¬3) انظر: المجموع (5/ 505 - 513).

خمسةَ أوسقٍ، يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، فتجبُ فيها الزكاةُ، فَيُخْرِجُ عَنْ كُلٍّ بحسبِه. أما العَلَسُ عند مالكٍ فلا يُضَمُّ إلى هذه الثلاثةِ. والحاصلُ أن مَالِكًا لا يُضَمُّ عندَه إلا أنواعُ القطانيِّ الثمانيةُ. يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، وَيُضَمُّ عندَه القمحُ والشعيرُ والسُّلْتُ، هذه الثلاثةُ بعضُها إلى بعضٍ. وأما غيرُ هذا فَلاَ ضَمَّ، فلا يُضَمُّ تمرٌ إلى قمحٍ، ولا سُلْتٌ إلى ذرةٍ، ولا ذرةٌ إلى أُرْزٍ، بل كُلٌّ بِحَسَبِهِ. والشافعيُّ لا يرى ضَمَّ شيءٍ من هذا إلى شيءٍ. هذا حاصلُ مذهبِ مَالِكٍ والشافعيِّ. وقد اخْتَلَفَا في أشياء: منها الزيتونُ هل فيه زكاةٌ أو لا؟ فمشهورُ مذهبِ الإمامِ مَالِكٍ (رحمه الله) أن الزيتونَ تجبُ فيه الزكاةُ إذا بَلَغَ حَبُّهُ خمسةَ أَوْسُقٍ، ولكنه لا يُخْرَجُ إلا مِنْ زَيْتِهِ، فإذا كان حَبُّ الزيتونِ خمسةَ أوسقٍ وَجَبَتْ الزكاةُ فيه، ولكن الإخراجَ من زيتِه، وهو الْعُشْرُ أو نصفُ الْعُشْرِ. فالوجوبُ في الْحَبِّ، والإخراجُ من الزيتِ. هذا مشهورُ مذهبِ مَالِكٍ، ومثلُ الزيتونِ عندَ مَالِكٍ في هذا - من أنه يُنْظَرُ نصابُ الأَوْسُقِ من الْحَبِّ، ثم يُخْرَجُ من الزيتِ مثلُ الزيتونِ عندَه - السمسمُ، وبذرُ الفجلِ الأحمر، والقِرْطمُ. والقِرْطمُ: حَبُّ الْعُصْفِرِ. هذه الأربعةُ التي هي: الزيتونُ والسمسمُ والقِرْطمُ وبذرُ الفجلِ الأحمر خاصةً، هي عند مَالِكٍ إذا كانت حُبُوبُهَا تبلغُ النصابَ وَجَبَتْ فيها الزكاةُ، وَأُخْرِجَ العشرُ أو نصفُه من زَيْتِهَا، هذا مشهورُ مذهبِه (رحمه الله) (¬1)، ولا زكاةَ ¬

(¬1) انظر: المدونة (1/ 294، 349)، الكافي في فقه أهل المدينة ص 100، الاستذكار (9/ 252)، القرطبي (7/ 103، 104)، أضواء البيان (2/ 215).

عند مَالِكٍ في كتانٍ ولاَ في غيرِه مما ذَكَرْنَا. ومذهبُ الإمامِ الشافعيِّ مختلفٌ - أيضا - في الزيتونِ (¬1)، فقال في القديم: إن الزيتونَ فيه زكاةٌ إِنْ صَحَّ أَثَرُ عُمَرَ الذي وَرَدَ فيه. وقد وَرَدَ عَنْ عُمَرَ (¬2) وَابْنِ عَبَّاسٍ (¬3) أثرانِ أن في الزيتون زكاةً، والأثرانِ ضعيفانِ لاَ تقومُ حجةٌ بواحدٍ منهما؛ وَلِذَا كانَ مذهبُ الشافعيِّ في الجديدِ: أن الزيتونَ لا زكاةَ فيه (¬4). والخلافُ عندَه في القِرْطُمِ (¬5) - أيضا - كالخلافِ في الزيتونِ، فيه الزكاةُ في القديمِ، وفي الجديدِ لا زكاةَ فيه، وهذا معروفٌ عِنْدَهُمْ (¬6). واختلاف العلماء في زكاة العسل معروف، يُذكر في هذا المحل عند الآيات الدالة على هذا، وإن كان العسل ليس في نفسه مما تنبته الأرض، ولكن نَحْله تَرْعَى فيما تنبته الأرض فتُخْرِجه. ¬

(¬1) انظر: المجموع (5/ 452)، أضواء البيان (2/ 217). (¬2) أخرجه البيهقي (4/ 125 - 126). وعقبه: بقوله: «حديث عمر رضي الله عنه في هذا الباب منقطع، وراويه ليس بقوي» ا. هـ. وقال الحافظ في التلخيص (2/ 166): «رواه البيهقي بإسناد منقطع، والراوي له: عثمان بن عطاء، ضعيف» ا. هـ. وضعفه النووي في المجموع (4/ 453)، وانظر ابن أبي شيبة (3/ 141). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 141). وقال الحافظ في التلخيص (2/ 167): «وفي إسناده ليث بن أبي سُليم» ا. هـ. وضعفه أيضا: النووي في المجموع (4/ 453). (¬4) انظر: المجموع (5/ 452 - 455)، أضواء البيان (2/ 217 - 218). (¬5) هو حب العُصْفُر، كما في المهذب (1/ 161)، القاموس (مادة: القرطم) ص 1482. (¬6) انظر المجموع (5/ 452 - 453، 456)، أضواء البيان (2/ 218).

وزكاة العسل الخلاف معروف فيها بين العلماء (¬1)، فعند مالك: لا زَكَاةَ في العسل، والخلاف عَنِ الشَّافِعِي؛ في القديم: يُزكَّى العسل، وفي مَذْهَبِهِ الجديد: لا يُزَكَّى، ومذهب الإمام أحمد: زَكَاة العَسَلِ، ومذهب أبي حنيفة أنه إن كان في أرض العُشر زُكِّيَ وإلا فَلَا. وقَدْ وَرَدَتْ في زكاة العسل أحاديث متعددة، كحديث بني شبابة، وهم بطن من بني فهم، أنهم كانوا يؤدون زكاة عَسَلِهِمْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال البخاري وغير واحد من المحدثين: إِنَّ زكاة العسل لم يثبت فيها حديث واحد قائم، ولم يصح فيها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) انظر: بدائع الصنائع (2/ 61)، الاستذكار (9/ 484 - 287)، المجموع (5/ 452، 453 - 455، 456)، المغني (2/ 577)، أضواء البيان (2/ 220 - 222). (¬2) ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 141)، وأبو عبيد في الأموال ص 444، وأبو داود في الزكاة، باب زكاة العسل، حديث رقم: (1585 - 1587)، (4/ 488 - 491)، وابن ماجه في الزكاة، باب زكاة العسل، حديث رقم: (1824)، (1/ 584)، والنسائي في الزكاة، باب زكاة النّحل، حديث رقم: (2499)، (5/ 46)، والبيهقي (4/ 126 - 127). قال ابن عبد البر في الاستذكار (9/ 286): «فأما حديث عمرو بن شعيب فهو حديث حسن» اهـ. وقال ابن الملقن في تحفة المحتاج (2/ 51): «رواه ابن ماجه بإسناد جيد» اهـ. والحديث له طرق وشواهد متعددة، انظر ذلك في: تنقيح التحقيق (2/ 1413)، التلخيص (2/ 167، 168)، الدراية (1/ 264)، نصب الراية (2/ 391 - 392)، إرواء الغليل (3/ 284 - 286)، صحيح ابن ماجه (1/ 306)، صحيح النسائي (2/ 526).

وجميع الأحاديث الواردة في زكاة العسل لا يخلو إسناد شيء منها من قادح وكلام (¬1). قالوا: والأصل براءة الذمة، وعَضَّدُوا عدم الزكاة في العسل بالقياس على اللبن، قالوا: إن العسل واللبن كلاهما مائِع خارج من حيوان، واللبن لا زكاة فيه، والعسل كذلك. والحاصِل أن العسل وردت في الزكاة فيه أحاديث متعددة. قال بعضهم: بعضها يشدّ بعضًا. وأخذ بمضمونها الإمام أحمد في طائفة من العلماء، فأوجب الزكاة في العسل، والجمهور: منهم الشافعي في الجديد، ومالك، قالوا: لا زكاة في العسل؛ لأنه لم يثبت فيه شيء، والأصل براءة الذمة، وليس هو مما تنبته الأرض مباشرة حتى يدخل في عموم: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: الآية 267]. أيضًا كذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الزيتون (¬2)، وروى عنه بعض أصحابه أن فيه الزكاة، وروى بعضهم أنه ليس فيه الزكاة. وليس عند الإمام أحمد زكاة في العُصْفُر، ولا في ¬

(¬1) وقال الترمذي (السنن 3/ 16): «ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء» اهـ. وقال ابن المنذر: «ليس فيه شيء ثابت» اهـ. انظر: التلخيص (2/ 168)، تنقيح التحقيق (2/ 1412)، وللوقوف على كلام العلماء على الأحاديث الواردة في هذا الباب، انظر: تنقيح التحقيق (2/ 1411 - 1414)، التلخيص (2/ 167 - 168)، الدراية (1/ 264)، نصب الراية (2/ 390 - 393)، الإرواء (3/ 284 - 287). (¬2) انظر: المغني (2/ 553).

الكتان (¬1)، وإنما الزكاة عند أحمد -رحمه الله- بما استوجب ثلاثة أشياء؛ لأن علّة الزكاة عنده مركبة من ثلاثة أوصاف، وهي: أن يكون الشيء مكيلاً، وأن يكون ييبس، لا يبقى مبلولاً دائمًا، وأن يكون يبقى ويجوز ادِّخاره لبقائه، فكل ما جمع هذه الأوصاف الثلاثة، بأن كان يُكال وييبس ويبقى، ففيه الزكاة عند الإمام أحمد (¬2)؛ ولذا قال: إن بعض الأشجار ثمارها تُكال وتَيْبَس وتبقى، ولا يُشترط كونها قوتًا، سواء كانت قوتًا أو غير قوت؛ ولذا أوجب الإمام أحمد الزَّكاة في بعض ثمار الأشجار التي لم يُوجِبْهَا مَالِك والشافعي؛ لأن مالكًا والشافعي اشْتَرَطَا الاقتيات والادِّخَار، وأحمد لم يشترط الاقتيات، قال: إن كان الشيء يُكال وييبس ويبقى وجبت فيه الزكاة؛ ولذا أوجب الزكاة في بعض ثمار الأشجار؛ لأنها تيبس وتبقى، وإن كانت لا يمكن أن تكون قوتًا، فأوجبها في بعض ثمار الأشجار؛ كالفستق، والبندق، وما جرى مجراهما. هذا مذهب الإمام أحمد. وكذلك أوجب الزكاة في كل حبّ ييبس ويَبْقى ويكال، وإن كان لا يُقتات، وتجب الزكاة عنده في الأبازير التي تُصلح الطعام؛ كالكمون بنوعيه: الأحمر والأسود، والكراويا، واليانسون، وما جرى مجرى ذلك. وتجب عنده في كل بذر يزرع، وتجب عنده الزكاة في بذر الكتان، وفي بذر الخيار والقثاء، وكل ما جرى مجرى ذلك؛ لأنها حبوب تيبس وتُكال وتبقى، هذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله (¬3). ¬

(¬1) انظر: المغني (2/ 552). (¬2) انظر: المصدر السابق (2/ 549). (¬3) انظر: المصدر السابق (2/ 549).

وهؤلاء الأئمة الثلاثة لا تجب عندهم الزكاة إلا فيما بلغ الخمسة الأوسق (¬1) -أعني: مالكاً والشافعي والإمام أحمد- لأن عموم: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاء العُشر» (¬2) وعموم: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: الآية 267] يخصصه عندهم حديث: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقة» (¬3) فأقل نصاب الحبوب والثمار أن يبلغ خمسة أوسق. والوسْقُ - بالفتح والكسر- ستون صاعاً بإجماع العلماء (¬4). والصاع الشرعي النبوي بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين (¬5)، ¬

(¬1) انظر: المدونة (1/ 339)، الكافي لابن عبد البر (1/ 101، 103)، المجموع (5/ 456، 457، 458، 459)، المغني (2/ 553)، القرطبي (7/ 107)، أضواء البيان (2/ 225، 229). (¬2) مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، المجموع (5/ 458)، المغني (2/ 560)، حلية الفقهاء ص 103، المحلى (5/ 240)، القرطبي (7/ 107). (¬5) في الكافي لابن عبد البر ص 103، والمحلى (5/ 240)، والأضواء (2/ 230) وغيرها من المصادر: «والصاع: أربعة أمداد بمد النبي عليه الصلاة والسلام» اهـ. ولعل الشيخ رحمه الله أراد المد فسبق لسانه إلى الصاع. ويدل على ذلك قوله في الأضواء (2/ 230): «واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده - صلى الله عليه وسلم - والمد بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وتحديده بالضبط: وزن رطل وثلث بالبغدادي. فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمدد: ألف مد ومائتا مد، ومن الصيعان: ثلاثمائة، وهي بالوزن: ألف رطل وستمائة رطل. والرطل: وزن مائة وثمانية وعشرين درهمًا مكيًّا، وزاد بعض أهل العلم: أربعة أسباع درهم، كل درهم وزن خَمْسِين وخُمُسَي حبة من مطلق الشعير ... » اهـ. ومما يدل أيضًا على أن مراده (المد): أنه ذكر مقداره بعده بقوله: «وهو بالضبط ... » إلخ.

وهو بالضبط (¬1): وزن رطل وثلث بالبغدادي (¬2)، فوزن الرطل وثُلث الرطل بالبغدادي هو الصاع النبوي (¬3). فعدة الأوساق بالأمداد: ألف مُدّ ومائتا مدّ (¬4)، وبالصيعان: ثلاثمائة صاع، وبالأرطال: ألف وستمائة رطل (¬5)، هذا هو نصاب الحبوب والثمار. والرطل عندهم عندما حققه مالك وأصحابه -وهم أدرى الناس بقدر الصاع والمدّ؛ لأنهم في محل الصاع والمد، قَدْرُه عندهم يعني بالوزن- ألف وستمائة رطل. ووزن الرطل عندهم مائة وثمانية وعشرون درهمًا ¬

(¬1) أي (المد) المشار إليه. (¬2) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، حلية الفقهاء ص 104، القرطبي (7/ 107). (¬3) هذا سبق لسان، والصواب: (المد النبوي) كما في المحلى (5/ 245)، والكافي لابن عبد البر (ص 103)، والمغني (2/ 561)، القاموس الفقهي (ص 337). وإنما الصاع: خمسة أرطال وثلث من الحنطة. وقد نقلت لك كلام الشيخ (رحمه الله) في أضواء البيان. (¬4) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، القرطبي (7/ 107). (¬5) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، المجموع (5/ 458)، المغني (2/ 561)، القرطبي (7/ 107).

مكيًّا (¬1)؛ لأن وزن الذهب والفضة وزن مكة، والكيل كيل أهل المدينة (¬2)، ووزن الرطل: مائة وثمانية وعشرون درهمًا مكيًّا، ووزن الدرهم المكّيّ: خمسون وخمُسا حبة من مطلق الشعير (¬3) وزيادة ابن حزم خمسة أسباع حبة (¬4) ردّها المحققون من علماء المالكية، هذا هو النصاب، وهو خمسة أوسق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَة». والمُزَكَّيَات فيها -عندهم - تفصيل، فيها نوعان يُخرصان قبل إخراج الزكاة بلا نزاع (¬5)، وهما: التمر والزبيب، والزبيب: العنب اليابس، فإنه إذا بدا صلاح التمر وتهيأ العنب للأكل يُخرصان، فيرسِل السلطان إليهما خارصاً حازراً يخرصهما، بشرط أن يكون أمينًا عدلًا، عارفًا بالخرص، صادق الحزر غالباً، فيأتي لهذا البستان ويخرصه نخلة نخلة، فيقول: في هذه النخلة الآن كذا من البلح من الزهو، ثم يكون فيها من الرطب كذا، فإذا يَبِسَتْ وجَفّ رطبها نقص بكذا. فيحصل منها من التمر اليابس قدر كذا وكذا، ثم إذا خرصوا ذلك وحزروا قَدْر ما يحصل منه من التمر اليابس قيَّدُوه على ¬

(¬1) انظر: المجموع (1/ 122)، (5/ 458)، المغني (2/ 561). (¬2) انظر: المحلى (5/ 244 - 245). (¬3) انظر: الأضواء (2/ 230). (¬4) في المحلى: (5/ 246): «فوزن الدرهم المكي: سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر عشر حبة» اهـ. (¬5) انظر: المدونة (1/ 339)، التمهيد (6/ 469 - 472)، الاستذكار (21/ 213)، المجموع (5/ 477، 478)، القرطبي (7/ 105)، المغني (2/ 567 - 572)، فتح الباري (3/ 344)، أضواء البيان (2/ 231).

صاحبه، وقالوا لصاحبه: بينك وبين بُسْتَانِكَ، فَكُلْ ما شِئْتَ، وَبِعْ ما شئت، وتصَرَّفْ فيه كيْفَ شِئْتَ، ولكنه عند الجذاذ أدِّ قدر هذا الخرص تمراً يابساً، أو زبيباً يابساً (¬1). وهذا لم يخالف فيه إلا القليل من العلماء، فجماهير العلماء على الخرص، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تَبُوك لما مرّ بِوَادِي القرى نزل بحائط امرأة، فقال لقومه: اخرصوا كم يخرج منه؟ فخرصوا، وخرصه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الخارصين، وقال لها: في خرصه: «أرى أن تحصُلَ منه عشرةَ أوْسُقٍ من التَّمْرِ اليَابِس، واحْفَظِيهِ حتى نرجِعَ من سَفَرنا» فلما رجعوا من غزوة تبوك سألوا المرأة فقالت: خرج منه عشرة أوسق مطابقة لحزره - صلى الله عليه وسلم - (¬2). مضمون هذا الحديث ثابت في صحيح مسلم والبخاري، وهو يَدُلّ على أن الخرص حَق، وأنه سُنَّة. والظاهر أنهم ما خرصوه إلا ليأخذوا زَكَاتَهُ إذا كانوا قافلين، والأحاديث الكثيرة في أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث الخارصين، كعبد الله بن رواحة وغيره إلى يهود خَيْبَر، فيخرص عليهم النخل، ويقول لهم: إن شئتم خذوه بهذا الكيل، وإن شئتم دعوه لنا بهذا الكيل (¬3)، هذا معروف. ¬

(¬1) انظر: المجموع (5/ 477)، المغني (2/ 569)، القرطبي (7/ 105). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: خرص التمر، حديث رقم: (1481) (3/ 343 - 344)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (1872، 3161، 3791، 4422). ومسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم: (1392) (4/ 1785). (¬3) في بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة (رضي الله عنه) خارصاً ورد عدة أحاديث منها: 1 - حديث عائشة (رضي الله عنها) عند أحمد (6/ 163)، وعبد الرزاق (4/ 129)، وأبي عبيد في الأموال ص 432، وأبي داود في الزكاة، باب متى يخرص التمر. حديث رقم: (1591) (4/ 495) وفي البيوع، باب في الخرص. حديث رقم: (3396)، (9/ 276)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في الخرص (3/ 28)، والبيهقي (4/ 123)، والدارقطني (2/ 134)، وابن خزيمة (4/ 41). وقال الألباني: «إسناده صحيح على شرط مسلم» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (2/ 171)، والإرواء (3/ 280). 2 - حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). عند ابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب، حديث رقم: (1820) (1/ 582). وانظر: الإرواء (3/ 282)، صحيح ابن ماجه (1/ 305). 3 - حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) عند أحمد (2/ 24)، والطحاوي في شرح المعاني (2/ 38)، وانظر: الإرواء (3/ 281).

وشذّت طائفة من العلماء (¬1)، فقال الشعبي: الخرص بدعة (¬2). وقال سفيان الثوري: لا يجوز الخرص؛ لأنه ظَنٌّ وتَخْمِينٌ، والظنّ أكْذَب الحديث (¬3). وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله (¬4) - قال: الخرص ظن وتخمين لا يثبت به حكم أبداً، وإنما كان النبي يأمر بخرص النخيل تخويفاً للقائمين عليه من أن يخونوا، فالمقصود به عنده تخويفهم من الخيانة. وقالوا: لا يُعمل بالخرص، ولا يثبت به حكم؛ لأنه ظَنّ وتَخْمِين، والظن لا يُغني من الحق شيئًا. وجمهور العلماء على أن الخرص حق، ولكن اختلفوا: هل هو واجب أو سنة؟ (¬5) فبعضهم يقول: واجب؛ لئلا يُضيَّقَ على أهل النخيل في ثمارهم؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكْلِ مِنْهَا، ولا تضيع حقوق الفقراء؛ إذ لو أكلوها قبل الخرص، ولم يُعلَمْ قدر ما فيها لضاع هؤلاء، والخرص يجمع مصلحة الطرفين، بأن يُخلى بين أهل البساتين وبساتينهم، وتُحفظ للفقراء حقوقهم. ¬

(¬1) 4 - حديث جابر (رضي الله عنه) عند أحمد (3/ 296، 367)، وعبد الرزاق (4/ 124)، وابن أبي شيبة (3/ 194)، وأبي داود في البيوع، باب الخرص، حديث رقم: (3397 - 3398) (9/ 280 - 281)، والدارقطني (2/ 133)، والبيهقي (4/ 123)، والطحاوي (1/ 38 - 39). وانظر الإرواء (3/ 281)، صحيح أبي داود (2/ 654). 5 - حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). عند الدارقطني (2/ 134). وانظر: الاستذكار (21/ 196). 6 - عامر بن عبد الرحمن، مرسلًا، عند عبد الرزاق (4/ 124). 7 - عبد الله بن عبيد بن عمير، مرسلًا، عند عبد الرزاق (4/ 123). 8 - الشعبي، مرسلًا، عند أبي عبيد في الأموال ص 432، وابن أبي شيبة (3/ 194). 9 - سليمان بن يسار، مرسلاً، عند مالك في المساقاة، باب ما جاء في المساقاة، حديث رقم: (1388) ص 494، والبيهقي (4/ 122)، وانظر: الاستذكار (21/ 196). 10 - سعيد بن المسيب، مرسلاً، عند مالك في المساقاة، باب ما جاء في المساقاة، حديث رقم: (1387) ص 494، والبيهقي (1/ 122). 11 - عطاء، مرسلاً، عند عبد الرزاق (4/ 122 - 124). 12 - الزهري، مرسلاً، عند عبد الرزاق (4/ 122، 123). () انظر: الأموال لأبي عبيد ص 439 - 441، التمهيد (6/ 470)، القرطبي (7/ 105)، فتح الباري (3/ 344)، أضواء البيان (2/ 232). (¬2) انظر: مصنف عبد الرزاق (4/ 127)، ابن أبي شيبة (3/ 194)، الاستذكار (21/ 214). (¬3) انظر: الاستذكار (21/ 214). (¬4) انظر: شرح معاني الآثار (2/ 41). (¬5) انظر: الأضواء (2/ 235).

وقال بعض العلماء: الوجوب لا يلزم إلا بدليل جازم، وبعضهم يقول: هو سُنَّة. والدليل على الخَرْص: هو حديث عَتَّاب بن أسيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أن يُخْرَص العنب كما يُخرص النخل، فتُؤدَّى زكاته زبيباً عند الجذاذ، كما تُؤدى زكاة النخل تمراً (¬1). هذا الحديث من مراسيل سعيد بن المسيب، ورواه سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد، وسعيد لم يُدرك عتاب بن أسيد رضي الله عنهما؛ لأن سعيدًا وُلِدَ في خلافة عمر، وعَتَّاب بن أُسيْد توفِّيَ في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر رضي الله عنهما فَلَمْ يُدْرِكْه، إلا أن مراسيل سعيد بن المسيب معروف حكمها في علوم الحديث (¬2). وقد أقرّ علماء الشافعية أن هذا النوع من مرسل سعيد يتفق الشافعية على قبوله؛ [18/ب] /ولأنه شاع عن الشافعي أنه يَقْبَل جميع مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنها تُتُبِّعَتْ كلها فَوُجِدَتْ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 195)، وأبو داود في الزكاة، باب في خرص العنب، حديث رقم: (1588 - 1589)، (4/ 491 - 492)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في الخرص، حديث رقم (644)، (3/ 27)، وقال: «حسن غريب» اهـ. وأخرجه ابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب، حديث رقم: (1819)، (1/ 582)، والنسائي في الزكاة، باب شراء الصدقة، حديث رقم: (2618)، (5/ 109)، والدارقطني (2/ 132 - 133، 134)، والبيهقي (4/ 121 - 122)، والحاكم (3/ 595)، وابن خزيمة (4/ 41)، وابن الجارود (غوث المكدود 2/ 17)، والطحاوي في شرح المعاني (2/ 39)، وابن حبان (الإحسان 5/ 118)، والطبراني في الكبير (17/ 162)، وقد ضَعَّفَهُ كثير من العلماء. انظر: تلخيص الحبير (2/ 171)، إرواء الغليل (3/ 282، 283). (¬2) انظر: جامع التحصيل ص 99، تدريب الراوي (1/ 199).

مَسَانيد. وقال النووي في شرح المهذب وغيره: إن الشافعي لم يَقُلْ بالعمل بمراسيل سعيد مطلقاً بل بِقَيْدٍ، وهو أن يرِد الحديث مرسلًا من جهة أُخْرَى، أو مسنداً من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة، أو يعمل به أكثر العلماء (¬1). وهذه الشروط موجودة هنا؛ لأن الخرص عمل به بعض الصحابة، وعمل به أكثر العلماء، فمرسل سعيد هذا اتفق الشافعية على قبوله، مع أن المشهور في مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة ومذهب أحمد: الاعتداد بالمرسل مطلقاً، فظهر إجماع الأئمة الأربعة على الاحتجاج بمرسل سعيد هذا في خرص التمر والعنب (¬2). ولا يخرص غير التمر والعنب من الأشجار، ولا من الحبوب على التحقيق الذي عليه جمهور العلماء؛ لأن النص إنما ورد بخرص التمر والعنب فقط، ولم يرد في خرص شيء غيرهما. والثاني: أن خرص التمر ممكن لأن أعذاقه تجتمع في رأس النخلة في محل متقارب، فيمكن خارصها أن ينظر جميعها حتى يحزر ما فيها، وكذلك العنب تجتمع عناقيده وتَتَمَيَّز ويمكن خرصها، أما غير ذلك من الأشجار فإن ثِمَارَهُ تَتَفَرَّق في كل الشجرة وتختلط بأوراقها، والحب مستتر في سُنْبُلِهِ، فلا يمكن الخرص فيه (¬3). ¬

(¬1) في تحقيق مذهب الشافعي في المرسل انظر: الأم (3/ 188)، مختصر المزني ص 78، المجموع للنووي (1/ 60 - 63)، إرشاد طلاب الحقائق للنووي (1/ 171، 175 - 179)، الكفاية للخطيب 404 - 405، اللمع ص 74، التبصرة ص 329 (كلاهما للشيرازي). (¬2) انظر: أضواء البيان (2/ 233). (¬3) انظر: المصدر السابق (2/ 237).

وكأن الأئمة الثلاثة: مالكًا والشافعي وأحمد، اتفقوا على أن التين لا زكاة فيه (¬1) وهذا من الغَرِيب؛ لأن التين ييبس ويُقْتَات ويُدخر. وكان ابن عبد البر يقول: أظن أن مالكًا رحمه الله ما كان يعرف التين، ولا يظن أنه ييبس ويُقتات ويُدَّخَر، ولو كان يظن ذلك لجعله كالزبيب ولم يعُدّه مع الفواكه. أما الفواكه؛ كالرُّمَّان، والتّفّاح، والفِرْسِك - وهو الخوخ - والإجَّاص (¬2)، والكمثرى، وما جرى مجرى ذلك، والخَضْراوات: كالقثاء والخيار وأنواع البقول المعروفة من: كَرَفْسٍ ونعناع وما جرى مجرى ذلك، فهذا لا زكاة فيه عند الأئمة الثلاثة (¬3)، وقد جاء بعض الآثار وبعض الأحاديث في وجوب الزكاة في الخَضْراوات ولم يصح فيها شيء (¬4). ودليل الجمهور أن الفواكه جميعها، والخَضْراوات جميعها لا زكاة فيها: أنه لم يؤخذ عن أحد من المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ في المدينة شيئًا من زكاة الخَضْراوات ولم يتعرض لها أبدًا، ولمَّا ¬

(¬1) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، الاستذكار (9/ 272)، المجموع (5/ 452، 453)، المغني (2/ 549). (¬2) نوع من الثمر حلو، شجرته من الفصيلة الوردية، ويطلق في بعض البلاد على الكُمثرى. انظر: المعجم الوسيط (1/ 7). (¬3) انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، الاستذكار (9/ 270 - 275)، المجموع (5/ 452)، المغني (2/ 549). (¬4) للوقوف على كلام العلماء على الأحاديث والآثار الواردة في هذا الموضوع، انظر: تنقيح التحقيق (2/ 1402 - 1407)، تلخيص الحبير (2/ 165 - 169)، الدراية (1/ 263)، نصب الراية (2/ 386 - 389)، إرواء الغليل (3/ 276 - 279).

فَتَحوا الطائف كانت الفواكه فيه بكثرة من غيرها؛ مِنْ رُمَّان وفِرْسِك وغير ذلك، ولم يُنْقَل عن النبي ولا عن أحد من أصحابه أن أحداً منهم تَعَرَّضَ لِلْفَوَاكِهِ أو الخَضْراوات وأخذ منها شيئًا. ومعلوم أن أبا حنيفة يوجب الزكاة في الجميع نظراً للآية التي ذكرنا (¬1). فبهذا تعلمون أن مالكاً والشافِعِيَّ يُوجِبَان الزكاة في كلِّ مُقتات مُدَّخر، وليس مُقتاتاً عندها من الأشجار إلا التمر والزَّبِيب، وأن الإمام أحمد يوجب الزكاة في كل ما ييبس ويُكالُ ويَبْقَى. وكان داود بن علي الظاهري يقول: ما تُنْبِتُهُ الأرض إن كان مكيلاً فلا يُزَكَّى حتى يبلغ الخمسة أوسق، وإنْ كَانَ غير مكيل وَجَبَتِ الزكاة في قليلِهِ وكَثِيرِهِ (¬2). والحق أن هذا المذهب لولا أنه عُورض بما هو أقوى منه كان أقرب المذاهب إلى ظاهر النصوص؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (¬3) يدل على أن الزكاة تَخْتَصُّ بما هو موسّق، والوسق يختص بالْكَيْلِ بإجماع العلماء؛ لأن الوسق معيار كيلي بلا نزاع؛ لأنه ستون صاعاً، والصاع معيار كيلي، وهذا معروف، وإن كان ليس مكيلًا يدخل في عموم: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: الآية 267] إلا أن مذهب داود هذا مع اتجاهه وجَمْعِهِ ¬

(¬1) انظر: المبسوط (3/ 2). (¬2) انظر: المحلى (5/ 212). (¬3) مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام.

للنصوص يَرِدُ عليه ما ذكرناه الآن من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَتَعَرَّضْ هو ولا أحَدٌ من أصحابه إلى أخْذِ الزكاة من الفَوَاكِهِ والخَضْراوات، ولا شيء من ذلك. وهذا الذي ذكرنا يُعلم منه أن أبا حنيفة (رحمه الله) لا يَشْتَرِطُ النِّصَاب، ولا خمسة أوسق، ولا كون النابت في الأرض قوتًا أو غير قوت، ييبس أو لا ييبس، مدخراً أو لا، وأن الأئمة الثلاثة اشترطوا كما ذكرنا. وهذا معنى قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: الآية 141] على أن المراد بها الزكاة. وهذا الذي ذكرنا يعرف به الإنسان مذاهب العلماء في كل ما يخرج من الأرض، وقد بَيَّنَّا خلافهم في عين ما تجب فيه الزكاة، وبَيَّنَّا أنه عند الشافعي ومالك: كل ما يُقتات ويُدَّخَر، وأنه عند أحمد: كل ما يَيْبَس ويُكَالُ ويبقى، وأنه عند أبي حنيفة: لا يُشْتَرَطُ فيه شيء، هذا عين الذي تجب فيه الزكاة، وقد بينا أنها عند الجميع القدر الذي تجب فيه هو: خمسة أوسق فصاعدًا، وأن أبا حنيفة يوجبها في القليل والكثير، وأن القدر اللازم إخراجه هو العُشر فيما لا يُسقى بِكُلْفَة، ونصف العُشر فيما سُقي بهذا (¬1). هذا هو حاصل كلام العلماء في هذه المسائل الثلاثة. وإذا عرفت عين ما تجب فيه الزكاة، وقدر النصاب الذي تجب فيه، وقدر الزكاة التي تخرج منه، فقد عرفت المسألة. وقوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} فيه للعلماء إشكال -على أنه ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 109)، الأضواء (2/ 230).

الزكاة (¬1) - لأنه يوم الحصاد لم يكن تمراً يابساً، ولم يكن زبيباً يابساً، والزكاة إنما تُخرج منه بعد أن يكون تمراً يابساً، أو زبيباً يابساً. قالوا: المراد بيوم الحصاد: أن المراد به عند حصاده، ويراد: أن زمن الحصاد قد يطول إلى أن يصح يُبْسه من زبيب وتمر، ونحو ذلك، وهذا يوجد في كلام العرب، يقول: افعله عند كذا، ويريد به الاتساع في الوقت، كما تقول: لقيت زيداً سنة كذا، وتقول: لقيته في يوم أول منها، ويكون جميع السنة بعده لم تلقه فيه، هذا يمكن في كلام العرب، وهذا معنى قوله -على هذا القول-: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2). قرأه أبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: {يَوْمَ حَصَادِهِ} وفَتْح الحاء في (الحصاد) هي لغة التميميين وغيرهم من قبائل نجد. وقرأ الآخرون: {يَوْمَ حِصَادِهِ} بكسر الحاء. وهي لغة الحجازيين، وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مشهورتان (¬3): كالحَصاد والحِصاد، والجَذاذ والجِذاذ، والقَطاف والقِطاف (¬4). وقوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} في هذه الآية أوجه معروفة متقاربة من التفسير (¬5): ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 158) فما بعدها. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 238)، الدر المصون (5/ 190)، التحرير والتنوير (8/ 122). (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص 204. (¬4) انظر: حجة القراءات ص 275، القرطبي (7/ 104)، أضواء البيان (2/ 246). (¬5) انظر: ابن جرير (12/ 173)، القرطبي (7/ 110)، ابن كثير (2/ 182).

أحدها: كلوا من ثمره إذا أثمر، وآتوا حقه، ولا تسرفوا في الإعطاء حتى تتركوا عائلتكم وأولادكم فقراء ليس عندهم شيء يأكلونه. والذين قالوا هذا قالوا: نزلت هذه الآية في المدينة في ثابت بن قيس بن شَمَّاس، كان عنده خمسمائة نخلة فجذَّها، وقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فلم يزل يُطعم الناس حتى راح وليس عنده ثمر، فنزل: {وَآتُواْ حَقَّهُ} (¬1). {وَلاَ تُسْرِفُواْ} في الإيتاء حتى لا تتركوا لأنفسكم ولعيالكم ما يأكلون، وهذا التفسير كقوله: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: الآية 29]، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: الآية 67]. وقال بعض العلماء: لا تسرفوا في شيء من الأعمال؛ لأن الإسراف كله مذموم. وقال بعض العلماء: إنه راجع إلى قوله: {وكُلُواْ} أي: كلوا من ثمره ولا تسرفوا في الأكل، كما قال: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} [الأعراف: الآية 31] وهذا أظهرها؛ لأن الإسراف في الأكل معروف معهود النهي عنه في الكتاب والسنة. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} المسرفون: جمع المُسرف، اسم فاعل الإسراف، وأصل الإسراف: مجاوزة الحَدّ. تقول: أسْرَفَ فِي الشَّيْءِ: إِذَا جَاوَزَ بِهِ حَدَّهُ، وهو مُسْرِفٌ على نفسه: إذا كان يَتَعَدَّى ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (12/ 174) عن ابن جريج مرسلاً. وعزاه في الدر (3/ 49) لابن أبي حاتم. والرواية التي أخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1399) إنما هي عن معاذ لا ثابت بن قيس. والله أعلم.

حدود الله إلى ما حَرَّمَه الله (جل وعلا) (¬1). وهذا معنى قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ}. وهذه الآية كأنّا ذكرنا عندها نوعاً من أنواع الزكاة، وهو ما تنبته الأرض، وسيأتي في سورة براءة زكاة النقود: الذهب والفضة، وما جرى مجراهما من التجارات والمعادن والحُلي المباح، وغير ذلك، وسنذكره - إن شاء الله - عند محله (¬2)، وسيأتي في بعض المواضع في آيات الزكاة المطلقة ما تدخل فيه زكاة الحيوانات، وسنتكلم عليه - إن شاء الله - في موضعه. أما هذه الآية فهي خاصة بما تنبته الأرض، وقد تكلمنا على زكاة ما تنبته الأرض عند الأئمة الأربعة، ومع كل واحد منهم موافقون من فقهاء الأمصار، والله (جل وعلا) نسأل أن يوفقنا جميعاً إلى ما يرضيه. يقول الله جل وعلا: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأنعام: الآية 142]. قوله: {حَمُولَةً} معطوف على {جَنَّاتٍ} مما قبله (¬3). وتقرير المعنى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا، فهو منصوب بالعطف على منصوب؛ أي: وهو الذي أنشأ جنات معروشات، وأنشأ حمولة وفرشاً من الأنعام، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 176)، القرطبي (7/ 110، 111)، المفردات (مادة: سرف) 407. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 434) فما بعدها. (¬3) انظر: القرطبي (7/ 111)، البحر المحيط (4/ 238)، الدر المصون (5/ 190).

والمعنى: هو الذي رزقكم أنواع النباتات والحبوب، وأنواع الأنعام، فما كان لكم أن تقولوا: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} ولا أن تجعلوا لشركائه من الأنعام والزروع شيئًا. أي: وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشًا. التحقيق أن الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم بأصنافها الثلاثة (¬1)، والحمولة: هي ما يُحمل عليه الأثْقَال، ويُسَافَرُ عليها -بها- من بلد إلى بلد (¬2)، كما قال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل: الآية 7] {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: الآية 72] ومن نقل عن ابن عباس أن الحمولة: الإبل، والبغال، والخيل، وكل ما يُحمل عليه من الدواب (¬3)؛ فهو قول لا يصح؛ لأن الأنعام لا تطلق إلا على الإبل، والبقر، ونوعي الغنم، فلا تطلق على الخيل، ولا على البغال؛ ولذا فسَّر الله الأنعام في هذه السورة بقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: الآية 143] كما يأتي إيضاحه؛ أي: وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة؛ أي: مراكب تحملون عليها أمْتِعَتِكُم، وتركبون عليها، كالإبل. قال بعض العلماء: وكالبقر في بعض البلاد، وهو صادق؛ لأنَّا شاهدنا بعض الأقطار يحملون الأحمال الثقيلة على ذكور البقر من بلاد بعيدة إلى ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 111)، (10/ 68). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 178) فما بعدها، القرطبي (7/ 111 - 112)، ابن كثير (2/ 182). (¬3) أخرجه ابن جرير (12/ 180) من طريق علي بن أبي طلحة، وهو إسناد جيد، وقول ابن عباس هذا هو الذي رجحه ابن جرير (رحمه الله) في تفسيره (12/ 181).

بلاد بعيدة، وقد يكون عندهم ذكور البقر يحمل الواحد منهم فوق ما يحمله البعير (¬1)، ويسافرون عليها من بلاد إلى بلاد، وإن كان بعض علماء المالكية أفتى بأن البقر لا يجوز ركوبه، ولا الحمل عليه، ظنًّا منه أن ركوبه والحَمْلَ عليه من تَكْلِيفِهِ ما لا يطيقه (¬2)، ونحن شاهدنا ذي الأيام في بعض الأقطار ذكور البقر تكون معروضة تحمل الأثقال العظيمة من بلاد إلى بلاد رَأْيَ العين، وبذلك نعلم أنها داخلة في قوله: {حَمُولَةً} أي: ما يحملون عليه أثقالهم كالإبل، وربما دخل البقر في بعض الأقطار. وقوله: {وَفَرْشاً} الفرش هنا فيه أقوال متقاربة للعلماء (¬3): حكى الفراء إجماع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل، وهي الفصلان (¬4). وقال بعض العلماء: الفرش: الغنم. والتحقيق: أن الآية تشمل كل ذلك، وأن الأنعام منها ركوبة كالإبل، ومنها فرش، وهو ما يؤكل، ويُشرب مِنْ لَبَنِهِ، مع أنه ليس صالحًا لِلرّكُوبِ، فيدخل في الفرش: الغنم، وفِصال الإبل، وعَجَاجِيل البقر؛ لأن ولد البقرة يُقال له: عِجل. ويُجمع على: ¬

(¬1) انظر: الحيوان للجاحظ (7/ 195). (¬2) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1143)، القرطبي (10/ 72، 77)، إكمال إكمال المعلم للأُبي (6/ 197). (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 178) فما بعدها، القرطبي (7/ 112)، ابن كثير (2/ 182). (¬4) لم يرد ذكر لهذا الإجماع عند تفسير الفراء لهذه الآية في كتابه: (معاني القرآن 1/ 359) وإنما الذي نقل الإجماع في ذلك هو الزجاج في معاني القرآن (2/ 298) فلعل الشيخ عناه لكن سبق لسانه إلى الفراء.

عجاجيل، على غير قياس (¬1)، فالغنم، وفِصَال الإبل، وعجاجيل البقر كلها يدخل في الفرش. قيل: وإنما سُميت هذه الصغار: (فرشاً) لقربها من الفراش والمهاد الذي هو التراب؛ لأنها صغيرة قصار قريبة من الأرض. هكذا قالوا، والله أعلم (¬2). وعلى كل حال فجميع الأقوال راجعة إلى أن الله أنشأ الأنعام، وجعل فيها منَّة الركوب والأكل. أما قول من قال: (فرشاً) فإنه لا يتناول إلا ما يُصنع منه الفِرَاش، كالضأن الذي يُصنع من صوفها الفراش، والمعز الذي يصنع من بعض شعرها الفراش ونحو ذلك، وأن الفرش هو ما يستمده الخلق من جلود الأنعام، وأصوافها، وأشعارها، وأوبارها (¬3) - كما يأتي في سورة النحل - فهذا قول غير متجه؛ لأن المنة تكون بمجرد الأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود، لا بنفس الأنعام، والمعروف في القرآن - وإنْ ذَكَر المِنَّة بالأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود في قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: الآية 80] وفي قوله: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} الآية [النحل: الآية 80] إلا أن المراد هنا: - الامتنان بها جميعًا، وأعظم أنواعه: الأكل منها، وهذا المعروف في القرآن، كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 112). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 112)، البحر المحيط (4/ 239)، الدر المصون (5/ 191).

أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} [يس: الآيتان 71، 72] {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: الآية 5] {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: الآية 79] إلى غير ذلك من الآيات، فتبيّن أن المنة في الركوب، وغيره من الأكل، وغير ذلك من النعم، يعني: هذا الذي أنشأ لكم الأنعام -حمولتها وفرشها- هو الله جل وعلا. ثم قال: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} أي: هذا الذي خلقته لكم، وهي: الأنعام، والفرش، كلوا من الذي رزقكم الله من الأنعام، والفرش، والزروع، المعطوف عليها في قوله: {أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: الآية 141] فهذا رزق الله كلوا منه، ولا تُحرِّموا منه شيئاً على أنفسكم افتراء على الله، ولا تجعلوا منه شيئًا للأوثان، كما قال: {وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني: كلوا من رزقي ونعمتي، ولا تتبعوا في نعمتي ورزقي تشاريع الشيطان وقوانينه، بأن تُحلّوا هذه وتُحرموا هذه، فتُحرموا البَحِيرة والسائبة، والوصيلة، والحام، وتقولوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وتقولوا: هذه أنعام وحرث حجر، كل هذا اتباع خطوات الشيطان. والآية نص صريح في أن مَنْ مشى على تشريع جَعَلَه الشيطان، يُحل فيه ما لا يُحله الله، ويحرم فيه ما لا يحرمه الله، أنه اتبع خطوات الشيطان.

والخُطوة - بضم الخاء - هي ما بين قَدَمَيِ المَاشِي (¬1)، فكما بين قدمي الماشي من المسافة: (خُطوة)، والمرّة من خَطْوِهِ تُسمى (خَطْوَه) بالفتح، وفيه قراءتان سبعيتان: قرأه ابن عامر، والكسائي، وقُنبل عن ابن كثير، وحفص عن عاصم: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} بضم الطاء إِتباعاً للخاء، وقرأه باقي السبعة: نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والبَزِّي عن ابن كثير، وشعبة عن عاصم: {خُطْوات الشيطان} بسكون الطاء (¬2). والشيطان - قبحه الله - معروف، وهو هنا: الشيطان الذي سنّ المعاصي، وقد قدمنا مرارًا (¬3) أن كل مُتَمَرِّدٍ عاتٍ شَيْطان، وذكرنا أن الشيطان فيه قولان للعلماء: هل اشتقاقه من (شَطَنَ الشيء) بمعنى بعُد، أو اشتقاقه من (شَاطَ الشيء) إذا هَلَكَ؟ قال بعض العلماء: الشيطان من (شَطَن) تقول العرب: «شَطَنَ، يشطن، فهو شطين»، أي: بعيد، ومنه قول الشاعر (¬4): نَأَتْ بِسُعَادَ عنكَ نَوى شَطُون ... فَبَانَت والفُؤادُ بِهَا حَزِينُ وهذا القول جاء في شعر العرب ما يدل عليه، فقد قال أُمية بن أبي الصلت الثقفي - وهو عربي قُح - يمدح سليمان (¬5): أيما شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ... ثم يُلْقَى في السِّجْنِ والأكْبَالِ ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: خطو) ص288. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص139. (¬3) مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة. (¬4) السابق. (¬5) مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة.

فقوله: «أيما شَاطِن»: يعني: أيما شيطان، والشَّاطِن: اسم فاعل من (شَطَنَ) بلا نزاع، فدل هذا البيت على أن أصله من (شَطَن) فالعرب تقول: شَطَنَ قَعْرُ البير: إذا بعدت مسافة عمقها. وعلى هذا القول فاشتقاق الشيطان من (شَطَنَ) بمعنى (بعُد) أي: لشدة بُعده عن رحمة الله -والعياذ بالله- وعلى هذا القول: فوزن الشيطان بالميزان الصرفي: (فَيْعَال) والياء زائدة، والنون أصلية، بناء على أنه من (شَطَنَ) بمعنى (بعُد) ذكر هذا سيبويه في موضع من كتابه، ثم ذكر القول الآخر في موضع آخر من كتابه، أن أصل الشيطان من (شَاطَ يشيطُ) إذا هلك، تقول العرب: شَاطَ الفارسُ يَشِيطُ: إذا هلك (¬1). وهو معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس (¬2): قد نَخْضِبُ العيرَ من مكْنُونِ فَائِلِه ... وَقَدْ يَشِيطُ على أرْمَاحِنَا البَطَلُ أي: يهلك عليها. وعلى أنه من (شَاطَ يَشِيطُ) فوزنه بالميزان الصرفي (فَعْلان) لأن الألف والنون زائدتان؛ لأن أصل حروفه الأصلية على هذا: (شَيَط) فاؤها شين، وعينها ياء، وطاؤها لام، والألف والنون زائدتان، فعلى القول الأول فوزنه: (فَيْعَال) وعلى الثاني فوزنه (فَعْلاَن) وكل متمرد عات شيطان، سواء كان من الإنس أو الجن أو غيرهما، ومن شعر جرير (¬3): ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

أَيَامَ يَدْعُونَني الشَّيْطَان مِنْ غَزَلٍ ... وَكنَّ يَهْوَيْنَني إذْ كُنْتُ شيطاناً ثم قال: {إِنَّهُ} أي: الشيطان {لَكُمْ} يا بني آدم {عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: بيّن العداوة ظاهرها؛ لأن الشيطان هو عدو بني آدم؛ لأن زَعْمَ الخبيث أن سبب شقائه هو آدم، حيث امتنع من السجود له، وقال: ما دام آدم هو سبب شقاء البعيد فسيبذل كل مجهود حتى يُشقي أولاد آدم، وقد أظهر العداوة لله لبني آدم مجاهرًا بها، ولم يكتمها، ولم يوارِ حيث قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: الآيتان 16، 17] {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} الأظهر في تفسيرها أن معنى: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: الآية 62] لأقودنهم إلى المهالك بتزييني، من قول العرب: احْتَنَكَ الرجل البعير: إذا جعل الحَبْلَ على حَنَكَيْهِ فَقَادَهُ بِالحَبْلِ على حنكيه حيث شاء، وقال هذا مرارًا: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: الآية 39] {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: الآية 119] فقد أظهر العداوة، فربنا يقول: كونوا عقلاء، واعرفوا عدوكم من صديقكم، واعرفوا أن الشيطان عدوكم، فلا تتبعوا خطوات الشيطان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: الآية 6] {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: الآية 50] وهذا قد قاله للأب والأم الكبيرين، ولكن الله لم يشأ أن ينفعهما بذلك، حيث قال لآدم: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ

الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: الآية 117] بين له عداوته، وحذره منها، ولكن قضاء الله غالب، وقدره نافذ، فعلينا معاشر المسلمين أن نعلم أن الشيطان عدونا فنعاديه، ولا ننجرّ معه إلى ما يريد أن يجرَّنَا إليه من المعاصي والهلكات؛ لأنه عَدُوٌّ طَالِبُ ثَأْرٍ، يريد أن ينتقم منا، فالمسلم الفاهم إذا قَرَأَ آية في سورة سبأ - إن كان يَفْهَم عن الله - عرق جبينه من الخَجَل إن كان يتبع الشيطان؛ لأن الشيطان احتقرنا معاشر الآدميين احتقاراً عظيماً لا مثيل له، حيث إنه عدونا، واعتقد فينا أن عندنا من سَذَاجة العقول، وعدم الفهم، وعدم عمق العقل أنه إذا أراد أن يجرنا إلى المَهْلَكة بوساوس، وتزيينات وزخارف فاضية أننا نبلغ من سذاجة العقول وعدم التفكير وسوء النظر أننا ننجَرُّ معه حتَّى يُدْخِلَنَا في المهلكة، ويشفي غَيْظَهُ مِنّا، وينتقم منا، ظن هذا في بني آدم اعتقاداً منه سوء عُقُولهِم، وعدم نظرهم، إلا القليل منهم؛ لأن قوله: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ظَنٌّ منه؛ ولذا قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [الحجر: الآيتان 39، 40] زعموا أنه خاف أن يَظْهَرَ عليه الكذب. ومن هنا قال بعض العلماء: لا خصلة أقبح مِنَ الكَذِب؛ لأن الشيطان تحرَّزَ عنها حيث قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} وما قال هذا إلا ظنّاً ببني آدم ضَعْفَ العقول، وضَعْفَ النظر، وعدم التفكير، ومع هذا يقول الله في سورة سبأ، وهي الآية التي تُحزن المؤمن المتبع للشيطان: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ: الآية 20] هذه الآية إذا تَأَمَّلَها المسلم الذي يعلم من نفسه أنه يتبع الشيطان عرق جبينه من الخجل، حيث يكون الشيطان يعتقد فيه من السذاجة وضعف العقل، وعدم النظر والتفكير أن عدوه إذا أراد أن يقوده حتى يوقعه

في مَهْلَكَة ويشفي غيظه منه ويأخذ بثأره وينتقم انقاد معه، قال هذا ظنًّا، ومع هذا يصدق هذا الظن!! فهذا شيء يُحْزِن المؤمن، وينبغي التنبّه له: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} وفي القراءة الأخرى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً} (¬1) هم الذين قال فيهم: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [الحجر: الآية 40]. وكان حُذّاق العلماء يقولون: علينا معاشر الآدميين أن نعتقد أن الشيطان عدونا، وأنه سبانا من دار الكرامة التي كان فيها الأبوان: الجنة، التي قيل لآدم فيها: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119)} [طه: الآيتان 118، 119] فأخرجنا الشيطان من دار الكرامة، فنحن سبي الشيطان، أخرجنا من تلك الدار إلى هذه الدار، التي هي دار الشقاء والمصائب والأحزان والبلابل، لا يكاد إنسان يسلم يوماً ولا ليلة من أذيّة من أذاياها، وكان العلاّمة ابن القيم (رحمه الله) يقول في هذا الموضوع (¬2): ولكنَّنَا سَبيُ العدوِّ فهل تُرَى ... نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ فعلينا أن نجاهد العدو ونعاديه، حتى يمكننا الرجوع إلى الوطن الأول؛ لأنه لما وقعت الزلة من الأبوين - آدم وحواء - حكم الله أنه لا يُدخل أحداً من ذريتهما جنته إلا بعد الامتحان في الأوامر والنواهي، وهذا معنى قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فلا تتبعوا خطواته. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 363 .. (¬2) طريق الهجرتين ص51، شرح القصيدة الميمية ص34، وأول الشطر الثاني: «نعود».

والمبين: اسم فاعل (أبان) و (أبان) تأتي في العربية على لُغَتَيْنِ: أحدهما (¬1): (أبان) اللازمة، تقول العرب: أبان الشيءُ يُبين، فهو مُبين: إذا كان بيناً ظاهراً لازماً غير متعد للمفعول، وهذه لغة فصحى معروفة في كلام العرب، وفي القرآن العظيم، ومن إطلاقها في كلام العرب قول جرير (¬2): إذا آباؤُنَا وأبوكَ عُدُّوا ... أبَانَ المُقْرِفَات من العِرَابِ أبان: أي: ظهر المُقْرِفَات من العِرَاب. وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي (¬3): لو دبَّ ذرّ فوقَ ضاحي جلدِهَا ... لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدورُ يعني: لظهر من آثار دبيب النمل ورم لشدة رقة بشرة الجِلْد. فـ (أبان) هنا لازمة لا مفعول لها. ومن إتيان (المُبين) لازماً من اسم فاعل (أبان) اللازمة: قول كعب بن زهير في (بانت سعاد) (¬4): قَنْوَاء في حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبينٌ وَفِي الخَدَّينِ تَسْهيلُ عِتْقٌ مُبِيْن؛ أي: كرم ظاهر. وعلى أن (مبيناً) هنا من (أبان) اللازمة، والمعنى: إن الشيطان لكم عدو مبين؛ أي: بَيِّنٌ العَدَاوَةِ ظاهرها واضحها، من أبان يُبِينُ، فهو مبين، لازماً، وقد يحتمل أن يكون من (أبان) المتعدية، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (55) من هذه السورة. (¬4) السابق.

والمفعول محْذُوف، أي: مُبِين عداوته ومظهرها، حيث صرح بذلك في قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ} [الأعراف: الآية 16] {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: الآية 62] {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: الآية 39] فهنا أبان عداوته. وعلى أنه من (أبان) المتعدية: فالمفعول محذوف، وحَذْفُ المفعول إذا دل المقام عليه جائز كما هو معروف في كلام العرب. في قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: الآية 143] أوجه معروفة من الإعراب (¬1): أظهرها وأصحها: أنها بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: الآية 142] أي: أنزل لكم من الأنعام حمولة وفرشاً، ثم بيّن الحُمُولة والفرش ما هي؟ فبينها بالإبدال منها فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}. والمراد بالأزواج هنا: الأصناف، وكل شيء يحتاج إلى أن يجتمع مع واحد من جنسه تُسميه العرب: زوجًا (¬2)؛ كالخُفّ فإنه يحتاج إلى خُفٍّ آخر فهو زَوْجُه، وكأحد مصراعي الباب فإنه يحتاج إلى مِصْرَاعٍ آخَرَ فَهو زَوْجُه، وكالذَّكَر فإنه يحتاج إلى الأنثى فهي زَوْجُه؛ لأنهما مُزْدَوْجَان. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} الضَّأْن معروف، وهو نوع الغنم الذي فيه الصوف، ومُقَابِله: المعز، وقرأه عامة القراء: {مِّنَ الضَّأْنِ} بتحقيق الهمزة، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 183)، القرطبي (7/ 113)، البحر المحيط (4/ 239)، الدر المصون (5/ 191). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 113).

{مِّنَ الضَّاَنِ اثْنَيْنِ} (¬1). وقوله: {وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ} قرأه نافع والكوفيون الثلاثة -وهم: عاصم، وحمزة، والكسائي، قرؤوا:- {وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ} بسكون عين المعْزِ، وقرأه الباقون - وهم: ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو - {وَمِنَ المَعَزِ اثْنَيْنِ} بفتح عين المعز (¬2). وهما لغتان في (المَعَز، والمَعْز)، وكذلك (الضأَن، والضأْن) (¬3) ولكن (الضأَن) لم يُقرأ بها، إنما قرأوا بـ (الضأْن) بالسكون، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو، وأظهر اللغتين: (المَعْز) بالسكون؛ لأن (الفَعْل) قد يُجمع على (فَعِيل) والمعز يجمع على مَعِيز، كالعبد، والعبيد، والمعز، والمعيز، ومِنْ جَمْعِه على (المَعِيز) قول امرئ القيس (¬4): أَبَعْدَ الحَارِثِ المَلِكِ ابْنِ عَمْرٍو ... لَهُ مُلْكُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَانِ وَيَمْنَعُها بنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ ... مَعِيْزَهمُ حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ ¬

(¬1) انظر: الإقناع (1/ 408، 425)، النشر (1/ 390). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص 204. (¬3) انظر: القرطبي (7/ 114)، الدر المصون (5/ 194). (¬4) ديوان امرئ القيس ص 169. وبين البيتين المذكورين بيت لم يذكره الشيخ (رحمه الله)، وهو قوله: مُجَاوَرَةً بَنِي شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ ... هَوَانًا مَا أُتيحَ مِنَ الَهوَانِ وقوله: (الحارث) هو: الحارث الأَكرم بن عمرو بن معاوية. وقوله: (بنو شمجى) حي من طيئ، قال ذلك حينما نزل بهم فلم يحمد نزلهم. وقوله: (حنانك) أي: تحننك وترحمك. يتهكم بهم. وقوله: (ويمنعها) يرويه بعضهم: (يمنحها).

{مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} أي: زوجان، ذكر الضأن وأُنثاه، وهما: الكبش والنعجة {وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ} ذكره وأنثاه، وهو: التَّيْس والمعزة. ويقال لها: المعزى والعنز. والمعزى تطلق على جنس المعز أيضًا، ومنه قول امرئ القيس (¬1): أَلاَ إلَّا تكُنْ إبلٌ فمِعْزَى ... كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا الْعِصِيُّ فهذه أربعة أصناف من الغنم، وهي: الكبش، والنعجة، والتيس، والمعزة - التي هي العنز - هذه أربعة في الغنم من الأزواج الثمانية. ثم قال بعد هذا: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ} وهما: الجمل والناقة. {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} ذكر البقر وأنثاه، البقرة والثور. فهذه هي الأصناف الثمانية، التي هي الأنعام، التي يُباح أكلها من الحيوانات، كما سيأتي في قوله: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: الآية 6] وهي هذه الثمانية. وهذا معنى قوله: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} {ءَآلذَّكَرَيْنِ} الهمزة الأولى همزة استفهام، والثانية همزة الوصل. والقاعدة: أن همزة الوصل إذا كانت همزة (أل) وجاءت قبلها همزة الاستفهام، أن همزة الوصل تُبدل مدّاً بهمزة الاستفهام (¬2)، ويجوز تسهيلها بين بين، وبعضهم ¬

(¬1) ديوان امرئ القيس ص171. وقوله: (جلتها) أي: كُبراها. والمعنى: إذا لم يكن في اليد إبل مقتناة فإن الاجتزاء بالمعزى فيه سداد من عوز. (¬2) انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 551)، الإقناع لابن الباذش (1/ 359)، المُوضح لابن أبي مريم (1/ 191)، النشر (1/ 362) فما بعدها، الكليات ص 20 - 21، 956، معجم الإعراب والإملاء ص 28، الهمزة في الإملاء العربي ص 22 - 24.

يُجيز إبدالها هاء. وزعم بعض علماء القراءات أن الذين مدّوها هنا قالوا: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} أنهم جاءت عنهم قراءات بتسهيلها بين بين {ءَآلذَّكَرَيْنِ} وعلى تسهيلها لم يكن بينهما أَلِف الإدخال؛ لأن الأَلِف في التسهيل بين بين إنما يأتي بالهُمَز المحققة. ومن تسهيل العرب لهمزة الوصل بعد همزة الاستفهام قول الشاعر (¬1): أَيَا ظَبيةَ الوَعْساء بين جُلاجلٍ ... وبين النقا آأنتِ أَمْ أُمُّ سالمِ هي تمدها العرب وتسهلها، فشاهد مدها - كقوله هنا {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ} - قول الشاعر: أَيَا ظَبيةَ الوَعْساء بين جُلاجلٍ ... وبين النقا آأنتِ أَمْ أُمُّ سالمِ الأصل: (ءأنت) ولكنها هنا ليست همزة وصل، بل همزة أُخرى، وتسهيلها وهي همزة وصل شاهده قول الشاعر (¬2): أَأَلْحَقُّ إنْ دارُ الرَّبابِ تباعَدَتْ ... أو انْبَتَّ حبْلٌ أنَّ قَلْبَكَ طائِر قوله: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ}، {ءَآلذَّكَرَيْنِ}: مفعول {حَرَّمَ} مقدم عليه. والمعنى: أحرم الله الذكرين، ذكر المعز والضأن {أَمِ الأُنثَيَيْنِ} أم حرم أُنثيي الضأن والمعز {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} حرم الذكور والإناث كُلاًّ، كأنه يقول: تفريقكم بين بعض الذكور وبعض الإناث، وبعض ما في بطون الأنعام بأن تُحِلُّوا بعض هذا، وتُحرموا بعضه، إن كانت العلة في تحريم الذكر الذكورة، فكان ¬

(¬1) البيت لذي الرمة. وهو في الكتاب (3/ 551)، الأمالي (2/ 58)، الدر المصون (1/ 110). (¬2) البيت لعمر بن أبي ربيعة. وهو في الكتاب لسيبويه (3/ 136)، النشر (1/ 377).

اللازم أن يحرم كل ذكر لاطراد العلّة، وإن كانت الأنوثة لزم أن تحرم كل أنثى لاطراد العلّة، وإن كان كونه في البطون - مشتملة عليه الرحم - لزم أن يحرم كل مولود من ذكر وأنثى، وكل لبن؛ لأن الكُلّ اشتملت عليه الرحم!! فكأنه يقول: تفريقكم هذا باطل؛ لأنه لو كانت العلة الذكورة لحرم ذكر الضأن والمعز معًا وأنثاهما كُلاًّ، ولو كانت التخلق في الرحم لحرم ما اشتملت عليه الرحم مطلقًا، فَلِمَ حَرَّمْتُم بعض هذا، وحللتم بعض هذا؟ وما الفارق بين ما حللتم وحرمتم؟ ثم قال: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ} الجمل والناقة، {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} البقرة والثور، ثم أعاد القضية {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} عجّزهم في الأول، فقال: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} أخْبِرُونِي عن هذا الذي حَرَّمْتُمْ، وهذا الذي حللتم، ما وجه تحريمكم لهذا وتحليلكم لهذا مع استواء الجميع؟! وقال في الثاني: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ}؟ وآية الأنعام هذه مثال معروف لِعُلَمَاءِ الجَدَلِ للدليل الذي يسميه الجدليون: (الترديد والتقسيم) (¬1)، ويسميه المنطقيون: (الشَّرْطي المُنْفَصل) (¬2) ويسميه الأصوليون: (السبر والتقسيم) (¬3)، ¬

(¬1) انظر: الكافية في الجدل ص 394، علم الجذل في علم الجدل للطوفي ص60، الإيضاح لابن الجوزي ص80، الجدل لابن عقيل ص 19، البحر المحيط للزركشي (5/ 225)، القبس لابن العربي (3/ 1070) وفي المصدرين الأخيرين تجد النص على هذه الآية. (¬2) انظر: إيضاح المبهم للدمنهوري ص90، تسهيل المنطق ص43. (¬3) انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 142)، المذكرة في أُصول الفقه ص257.

فكأنه يقول: حرمتم بعض هذه الإناث، وحللتم بعضها، وحرمتم بعض الذكور، وحللتم بعضها، وفرقتم بين ما في بطون الأنعام فقلتم: إنه خالص للذكور، محرم على الأزواج، فرقتم بين هذه الأحكام، فلا يخلو تفريقكم بينها من أحد أمرين في التقسيم الصحيح: إما أن يكون مُعَلّلاً بعلة معقولة، وإما أن يكون تعبديًّا. وهذا الحصر هو المُعَبَّر عنه بالتقسيم في اصْطِلَاح الأصوليين والجَدَلِيين، والمُعَبَّر عنه بالشرطي المنْفَصِل في اصطلاح المنطقيين، فكأنه يقول: لا يخلو الحال من أمرين: إما أن يكون مُعَللاً، وإما أن يكون تعبديّاً. ثم قال - مثلًا - بناءً على أنه مُعلل: إما أن تكون العلة في الذكور: الذكورة، وفي [الإناث] (¬1): الأنوثة، أو التخلق في الرحم، فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر، ولم يحرم الحَامَ دون غيره من الذكور، ولو كانت العلة الأنوثة لحرمت كل أنثى، ولم يختص بالبحيرة والسائبة والوصيلة، ولو كانت العلة اشتمال الرحم، لحرم الجميع، وحرم اللبن أيضًا الذي فَرَّقْتُمْ فيه، فحرم الجميع. ثم قال بناء على أنه تعبُّدِيٌّ أبطله بقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} أم كنتم حاضرين حتى قال لكم الله: هذا حلال وهذا حرام؟ فهذا باطل أيضًا، فبين أن جميع دعاويهم أنها باطلة كلها بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم، وقد بَيَّنَّا أن هذا الدليل من أمهات الجدل العظام، ¬

(¬1) في الأصل: «الأنوثة».

حيث حصر جميع الأوصاف، ثم أبطلها كلها، ولا يكون بهذا المعنى إلا عند الجدليين؛ لأنه عند الأصوليين لا يكون إلا في مسالك العلّة، ولا بد أن يبقى وصف صحيح هو العلّة. كأن تقول: العلّة في تحريم البر: إما أن تكون الطَّعْم، أو الكيل، أو الاقتيات والادخار، فلا بد أن تُبطل بعض الأوصاف، وتترك وصفاً صالحاً في زَعْمِكَ، تقول: إنه علّة. وقد ذكرنا في كثير من المناسبات (¬1) وفي بعض ما كتبنا في الكتب (¬2) أشياء كثيرة عن هذا الدليل، وذكرنا له آثاراً تاريخية في العقائد، وآثاراً تاريخية في الآداب، وذكرنا له أمثلة قرآنية. فمن أمثلته القرآنية: هذه الآية، ومن أمثلته القرآنية قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: الآية 35] فكأنه يقول: لا يخلو حالهم من واحدة من ثلاث حالات: إما أن يكونوا خَلَقُوا أنفسهم، أو خُلقوا من غير خالق، أو خَلَقَهم خالق، فهذه ثلاثة أقسام، اثنان منها باطلان بلا نزاع، وهو كونهم خلقوا أنفسهم، أو خُلقوا من غير خالق، فتغلب القسم الثالث أن لهم خالقًا هو رب السماوات والأرض، تجب عليهم طاعته وعبادته، ولا نطيل من أمثلته في القرآن، ونقتصر على أن نذكُر له أثراً تاريخيّاً في العقائد، وأثراً تاريخيّاً في الآداب. ¬

(¬1) راجع ما تقدم عن تفسير الآية (115) من سورة الأنعام، وما سيأتي عند تفسير الآية (30) من سورة التوبة. (¬2) انظر: نثر الورود (2/ 485)، مذكرة أصول الفقه ص 257، آداب البحث والمناظرة (1/ 47)، (2/ 7 - 20) أضواء البيان (4/ 365 - 384).

أما أثره التاريخي في العقائد، فما جاء عن بعض المؤرخين من أن هذا الدليل هو أول مصدر لكبح المحنة العظمى التي قُتل فيها العلماء وعُذّب فيها أفاضلهم وقُتلوا، وهي محنة القول بِخَلْقِ القُرْآن؛ لأن محنة القول بخلق القرآن نشأت في الدولة العباسية أيام المأمون، واستحكمت أيام المأمون وأيام المعتصم وأيام الواثق، فهؤلاء الخلفاء الثلاثة العباسيون مضت مدتهم ومحنة القول بالقرآن قائمة على ساق وقدم، يُمتحن العلماء، فمنهم من قُتل، ومنهم من عُذّب، ومنهم من وافق مداهنة خوفاً على نفسه من الموت، وكان القائم بهذه الدعوة: الخبيث أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المشهور، الذي يقدسه العباسيون، وهو العالم الوحيد في نَظَرِهِمْ، وهي التي ضُرب فيها سيد المسلمين في زمانه: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل - غمده الله برحمته الواسعة، وجزاه خيراً - لأنه هو الذي بقي وحده صامداً، وضُرب في أيام المعتصم ضربًا مُبَرِّحاً، حتى يُرفع من محل الضرب لا يدري ليلاً من نهار، وكلما أفاق وقالوا له: قل القرآن مخلوق!! يقول: لا، القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى جاء المتوكل على الله بعد الواثق، فأزال الله هذه المحنة على يديه -جزاه الله عن هذه الحسنة خيراً- وأظهر السنة (¬1). ومقصودنا ما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه، وذكره غير واحد (¬2)، وإن كانت القصة ذكر ابن كثير في تاريخه أن في إسنادها ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (10/ 316). (¬2) انظر: تاريخ بغداد (4/ 151 - 152)، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (الكتاب الثالث) (2/ 269 - 277)، الشريعة للآجري ص91، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص431 - 437، محنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص 167 - 175، سير أعلام النبلاء (10/ 307 - 311)، (11/ 312، 313 - 316) وأشار إلى ضعفها، وفي تاريخ الإسلام في حوادث (231 - 240هـ) في ترجمة الواثق.

عند الخطيب بعض من لا يُعرف (¬1)، فهي قصة مشهورة، تلقاها العلماء بالقبول في أقطار الدنيا، وهي مشهورة، والاستدلال بها صحيح بلا شك، وهو بهذا الدليل، وذلك أنه في أيام الواثق جيء بشيخ من أهل السنة من الشام (¬2)، مقيد بالحديد، يُمتحن في القول بخلق القرآن، وَرَدَ الامتحان على أنه عُزم على قتله. روى هذه القصة محمد المهدي ولد الواثق، قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرني، فلما أراد قتل هذا الشيخ الشَّامِي أحْضَرَنِي، وقال: ائذنوا لأبي عبد الله. يعني: أحمد بن أبي دؤاد، فجاء، فقال الشيخ الشامي المُكَبَّل بالحديد، السني: السلام عليك يا أمير المؤمنين!! فقال له الواثق بالله - وهو غضبان -: لا حَيَّاكَ الله، ولا سَلَّمَك!! فقال له: بئس ما أدَّبَكَ مُؤَدِّبُك يا أمير المؤمنين! الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: الآية 86] والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها!! قال له ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم!! فقال الواثق: ناظره، وفي بعض روايات القصة: أن الشيخ ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (10/ 321). (¬2) وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الجزري الموصلي الأذرمي.

الشامي قال: هو أحقر من أن يُناظرني!! فازداد غضب الواثق عليه، ثم إن ابن أبي دؤاد قال للشيخ الشامي: ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ الشامي: ما أنصفتني!! يعني: ولي السؤال، إن المقيد الذين يريدون أن يقدموه للموت أولى بالسؤال! فقال: سل! فقال: ما تقول أنت يا ابن أبي دؤاد في القرآن؟ فقال: مخلوق. قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، ويقتل الخلفاءُ العلماءَ بسبب دعوتك إليها، هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الرَّاشِدُون، وأبو بكر وعمر وعلي وعثمان عالمين بها أو لا؟ قال ابن أبي دؤاد: لم يكونوا عالمين بها. فقال الشيخ الشامي: سبحان الله! جَهِلَهَا رسول الله، وعلمها أحمد بن أبي دؤاد! فقال ابن أبي دؤاد: أَقِلْني، والمناظرة على بابها. فقال له: لك الإقالة. ثم قال: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. قال: هل كان رسول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بدعوتك هذه التي تدعو الناس إليها أو جاهلين؟ قال: كانوا عالمين بها، ولكن لم يدعوا الناس إليها.

فقال له الشيخ الشامي: يا ابن أبي دؤاد، ألم يسعك في أمة رسول الله ما وسع رسول الله؟ ولم يسعك في أمة رسول الله ما وسع خلفاءه الراشدين؟! ففهم الواثق الحقيقة، وقام من مجلسه، واضطجع في محل خلوته واستلقى، وجعل رِجْلَه على رجْلِه ثم قال: جهلها رسول الله وعلمتها أنت يا ابن أبي دؤاد؟! ثم قال: علمها رسول الله وخلفاؤه الراشدون ولم يدعُوا الناس إليها، ألم يسع ابن أبي دؤاد في أمة محمد ما وسع رسول الله وخلفاءه الراشدين؟! وعلم أن ابن أبي دؤاد مُبْطِلٌ. قالوا: فَمِنْ ذَلِكَ اليوم لم يَمْتَحِن أحداً بَعْدَهَا، ولم يُقَدَّم عالم ليُمْتَحَن في القول بخلق القرآن. وذكر الخطيب: أن الواثِقَ مَاتَ بعد أن تاب منها (¬1) بسبب قصة هذا الشيخ. وهذا الشيخ إنما استدل بهذا السبر والتقسيم، كأنه يقول: مقالتك هذه لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما أن يكون النبي وخلفاؤه عالمين أو جاهلين؟ فلا قِسْم إلاَّ هذان القسمان، ثم نرجع إلى القسمين فنسبرهما ونختبرهما، ونظنك يا ابن أبي دؤاد ضالّاً على كل [19/أ] تقدير، إذا كان عالماً ولم يَدْع الناس إليها فقد يسعك ما وسعه،/وإن كان غير عالم بها وأنت عالم بها فهذا لا يمكن أن يُقال! فأنت ضال مبطل على كل تقدير. ومن آثار هذا الدليل الأدبية: ما ذكره المؤرخون: أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واشٍ إلى عبيد الله بن زياد ¬

(¬1) انظر: تاريخ بغداد (14/ 18).

المعروف -زياد ابن أبيه، الذي يقولون له: زياد بن أبي سفيان؛ لأنه استلحقه معاوية بعد موت أبي سفيان، وهو معروف- قال لعبيد الله بن زياد واشٍ من الوشاة: إن ابن همام السلولي يعيبك ويقول فيك كذا وكذا، فأحضر ابنُ زياد الواشي، وجعله في غرفة قريبةٍ، وأحضر السلولي، وقال: لِمَ تعيبني وتقول فيَّ كذا وكذا؟ قال: أصلح الله الأمير، ما قلت شيئاً من ذلك! ففتح وأخرج الواشي، وقال: هذا أخبرني أنك قلت كذا وكذا! فسكت ابن همام هُنيهة ثم قال يخاطب الواشي: وَأَنْتَ امْرُؤٌ إِمَّا ائْتَمَنْتُكَ خَالِيًا ... فَخُنْتَ، وَإِمَّا قُلْتَ قَوْلًا بِلَا عِلْمِ ... فَأَنْتَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا ... بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ (¬1) فكأنه يقول: لا يخلو الحال بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما أن أكون قلت لك سرّاً واستَكْتَمْتُكَ إيَّاهُ، أو قلتَ عليَّ بهتاناً وكذباً، ثم نرجع إلى القسمين فنجدك - أيها الواشي - مُبْطِلاً على كليهما! إن كنتُ أفشيت لك سرّاً وطلبت منك الستر فما سترتني، فأنت خسيس خائن، وإن كنتَ قُلتَه عليّ افتراءً فهذا أظهر وأظهر! ففهمها ابن زياد، وقال للواشي: اخرج عنّي. ولم يتعرَّض لابن همام السلولي بسوء. وهذا هو الذي ذكره الله هنا، بأن حصر الأوصاف بالذكورة والأنوثة، والتخلق في الرحم، وبيَّن بطلان كلها؛ إذ لو كانت الذكورة لحرم كل ذكر، ولو كانت الأنوثة لحرَّم كل أنثى، ولو كانت التَّخَلُّق ¬

(¬1) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (14/ 127).

في الرحم لحرّم الجميع، فتبين كذبهم وبطلانهم، ثم أتبع هذا بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ}؛ لأنهم لما أعيتهم الحجة، ذكر المؤرخون أن رئيسهم الذي ناظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا مالك بن عوف الجُشَمي الهوازني، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «إذا كنتم تحرمون الذكور فَلِمَ فرقتم بين ذَكَرٍ وذَكَرٍ؟ وإذا كنتم تحرِّمون الإناث فما العِلَّة التي فَرَّقْتُمْ بِهَا بَيْنَ أنْثَى وأُنْثَى، أو الله أمَرَكُمْ بهذا؟» {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا} [الأنعام: الآية 144] فَبُهِتَ وسكت (¬1). وكانوا إذا عجزوا وغُلِبُوا بالدليل قالوا: وجدنا عليها آباءَنَا والله أمرنا بها، فقطع الله دابر ذلك أيضًا فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً} وقال: إنه أمره بالباطل {قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف: الآية 28] لأجل أن يضل الناس بغير علم، أي: بتشريع جاهلي بغير علم {إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهذه الآية يدخل فيها كُلّ مَنْ قَال بأمورٍ لا توافق الشرع، ودعا خلقاً يتبعونه إليها فإنه يدخل في عمومها. وقوله: {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فيه سؤال معروف؛ لأن ¬

(¬1) هذه الرواية أوردها البغوي في التفسير (2/ 137)، وأبو حيان في البحر (4/ 239) دون عزوٍ لمن خرّجها. ولمالك بن عوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه حديث له تعلق بهذه الآية لكنه بسياق آخر غير هذا. وقد أخرجه أحمد (3/ 473)، (4/ 136، 137)، والطيالسي ص 184، وابن جرير (11/ 121، 122)، والبيهقي في السنن (10/ 10)، وابن أبي حاتم (4/ 1220)، وعزاه السيوطي في الدر (2/ 337) لعبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات.

الله ربما هدى بعض الظالمين، كَمْ مِنْ كافرٍ ظالمٍ يهديه الله؟ وللعلماء عنها جوابان (¬1): أحدهما: أنها في خصوص الظالمين الذين سبق لهم في الأزل الشقاء، الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: الآيتان 96، 97]. القول الثاني: لا يهدي الظالمين ما داموا مصرّين على ظلمهم، فإن رزقهم الله التوبة والإنابة زال اسم الظلم عنهم، ولم يدخلوا في عداد الظالمين، فصار لا إشكال في هدايتهم، وهذا معنى الآية الكريمة. يقول الله جل وعلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: الآية 145]. تكلمنا بعض الكلام على هذه الآية (¬2)، وذكرنا حُكْمَ الميتات البرية والبحرية، وذكرنا بعض ما زادَتْهُ النصوص من المحرَّمَات على هذه المحرمات الأربع، وذكرنا خلاف بعض العلماء في أشياء منه، وسنتَكَلّم - إن شاء الله - الآن بعض الكلام على بقية الآية. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (2/ 289)، (4/ 240)، التحرير والتنوير (8/ 135 - 136). (¬2) الدرس المشار إليه لم أقف عليه، وللوقوف على كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسائل انظر: الأضواء (2/ 246) فما بعدها.

والمعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان المشركون في زمانه يحرمون بعض ما أحلّ الله، وأقام عليهم الحجج الواضحة، وأفحمهم بالمناظرة في قوله: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} [الأنعام: الآية 143] كما بينا وجه إفحامهم بالسبر والتقسيم في الآية، أخبرهم أنه لا تحريم إلا بالوحي، لا بالاجتهاد والهوى، فإنما الذي يحرم: الله، والطريق التي يُعرف بها تحريم الله وتحليله هي الوحي، لا اتباع الهوى، أُمِرَ أن يقول: {لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} شيئاً من هذه المحرمات التي تزعمون أنها حرام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكما في بطون تلك الأنعام التي قلتم هو محرَّم، وما حرمتم من الحروث والزروع والأنعام كل هذا لا أجده حراماً علينا فيما أوحى الله إلينا، وإنما أجد فيما أُوحي تحريمه: هذه الأربعة. {لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} لطالب العلم أن يقول: لمَّا قال: {عَلَى طَاعِمٍ} لِمَ لا تكفي عنه قوله: {يَطْعَمُهُ}؟ وهو أسلوب عربي معروف تذكره العرب في لغتها، وهو كثير في القرآن، كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: الآية 38] ومعلوم أنه لا يطير إلا بهما. {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: الآية 79] ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم (¬1). {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} قدمنا فيه أوجه القراءات (¬2)، وأحكام أنواع الميتة (¬3). ¬

(¬1) انظر: التحرير والتنوير (8/ 138) ومضى عند تفسير الآية (142) من سورة البقرة، (48) من سورة الأنعام. (¬2) انظر القراءات الواردة في الآية في المبسوط لابن مهران ص 204. (¬3) انظر: أضواء البيان (1/ 90) فما بعدها.

وقوله: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} عطف على قوله: {مَيْتَةً}. أما على قراءة الجمهور (¬1) فهو منصوب معطوف على منصوب {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً}، فهو معطوف على {مَيْتَةً} (¬2) المنصوب على أنه خبر كان. وأما على قراءة ابن عامر {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن تَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} فَعَطْفُ المنصوب على المرفوع قد يُشكل على طالب العلم، والجواب (¬3): أن قوله: {أَوْ دَماً} بالنصب في قراءة ابن عامر معطوف على المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: {إِلَّا أَن يَكُونَ} إلا كونه ميتة أو دمًا، هكذا قاله بعض المُعْرِبين. والدم المسفوح: المسفوح اسم مفعول (سَفَحَه يَسْفَحه) إذا صبّه (¬4)، وتقول العرب: سفح الماءُ فهو سافح، وسَفَحَه بولُه يَسْفَحه فهو سافح، والمفعول: مسفوح. وقد يستعمل متعدياً ولازماً؛ فمن استعماله متعدياً قوله هنا: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} لأن المسفوح اسم مفعول (سَفَحَه يَسْفَحه) فالفاعل سافِح، والمفعول مسفوح: إذا أراقه وصبّه، ومن إتيان (السافح) اسم فاعل (سَفَحَ) اللازمة قول ذي الرمة ¬

(¬1) وهي: {إِلَّا أَن يَكُونَ} بالياء {ميْتةً} بالنصب. انظر: المبسوط لابن مهران ص 204. (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 197)، البحر المحيط (4/ 241)، الدر المصون (5/ 197). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 241)، الدر المصون (5/ 197). (¬4) انظر: القاموس (مادة: السفح) 287، عمدة الحفاظ (مادة: سفح) ص 242، الدر المصون (5/ 198).

غيلان بن عقبة (¬1): أَمِنْ دِمْنَةٍ جَرَّتْ بِهَا ذَيْلَهَا الصَّبَا ... لِصَيْدَاءَ - مَهْلاً - مَاءُ عَيْنِك سَافِحُ أي: جارٍ مُنْصَبّ. وهو هنا من (سَفَحَ) اللازمة. والدم المسفوح: هو المَصْبُوبُ مِنْ شَيْء حَيٍّ، كما كان يفعله العرب، أو يكون خارجاً من أجْلِ الذَّكَاةِ أو العقر. كانت عادة العرب إذا جاعوا أن يفصد الواحد منهم عِرْقاً من جَمَله، ثم يجعل تحت الدم إناء، حتى يجتمع من عِرْق الجمل دمٌ في الإناء، ثم يطبخه بالأبازير ويأكلونه، فحرم الله عليهم أكْلَ الدَّمِ، وهو حرام، والانتفاع به حرام. وأصل الدم: أصله (دَمَيٌ) بالياء على التحقيق، فلامه المحذوفة ياء، وغلط من علماء العربية من زعم أن لامه المحذوفة واو (¬2) ووزنه بالميزان ( .... ) (¬3). فتكون بالعين (يَدْمَى) والألف مبدلة من الياء، أصله (يَدْمَي) كما هو معروف. فَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا (¬4) هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيْتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ (¬5) ¬

(¬1) ديوان ذي الرمة (2/ 859). (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 109، وقد ذكر في أصل (الدم) ثلاثة مذاهب للعلماء. (¬3) في هذا الموضع انقطع التسجيل، ويمكن استدراك ذلك بمراجعة أضواء البيان (1/ 104 - 105). (¬4) البيت للحصين بن الحمام المري. وهو في اللسان (مادة: دمي) (1/ 1017)، الفروسية لابن القيم ص493، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (12/ 197). (¬5) عن جندب بن سفيان (رضي الله عنه) قال: «دميت إصبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك المشاهد فقال ... » وذكره. وهو في البخاري (2802، 6146)، ومسلم (1796)، وساق الذهبي بإسناده إلى جندب بن سفيان (رضي الله عنه) وفيه أن الذي قاله إنما هو أبو بكر (رضي الله عنه) حينما دخل الغار فأصاب إصبعه شيء (السير 9/ 528).

هذا أصل الدم، وهو من الكلمات التي حذفت العرب لامها ولم تُعَوِّض عنها شيئاً، وأعربتها على العين كدمٍ، وغدٍ، ويدٍ، وثدٍ، كما هو معروف (¬1)، فلامه محذوفة لم يُعَوَّض عنها شيء. والدم المسفوح: هو الذي صُبَّ من شيءٍ حي، كفصد عرق الدابة، أو جرحها فيسيل منها دَمٌ، أو هو الذي يَسِيلُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ، كأن تُذْبَح فَيَسِيل من عروقها، أو عند العقر كأن يرميها بالنبل فيسيل الدم، هذا هو الدم المسفوح. واعلموا أن الدم نزلت في تحريمِهِ أرْبَعُ آيَاتٍ من كتاب الله، ثلاث منها مطلقة لا قيد فيها، وهي قوله في النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [النحل: الآية 115]، وقوله في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة: الآية 173] وقوله في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: الآية 3] فقد أُطلق الدم عن قيد المسفوحية في النحل والبقرة والمائدة، وجاء مقيداً في الأنعام بكونه مسفوحاً، وجماهير العلماء على أن المطلق يحمل على المقيد، ولا سيما إن اتَّحَد سَبَبُهما وحكمهما كما هنا (¬2)، سواءً كان المقيد هو الأول في النزول، أو هو الآخر؛ ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (1/ 104 - 105). (¬2) مضى عند تفسير الآية (88) من سورة الأنعام.

لأن المقيد هنا هو المتقدم في النزول؛ لأن سورة الأنعام نازلة قبل السور الأُخر الثلاث التي حرم فيها الدم، التي هي النحل، والبقرة، والمائدة (¬1). أما كون الأنعام قبل البقرة والمائدة فهو واضحٌ لا يخفى؛ لأن الأنعام مكية بالإجماع، والبقرة والمائدة مدنيتان بالإجماع، فهذه قبل الهجرة، وهاتان بعدها، فكونهما بعدها لا إشكال فيه، أما النحل فالتحقيق أنَّهَا مكية، وزعم بعضهم أنها مدنيَّة، وهو غلط ممن زعمه، والذي سبَّب هذا الغلط: أن خواتيم سورة النحل نزلت في المدينة في شهداء أُحد لما مثَّل المشركون بحمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - وعبد الله بن جحش وغيره من شهداء أُحد، فقد قطّعوا آنافهم وآذانهم، وأخذت هند بنت عتبة بن ربيعة - وهي يوم أُحد كافرة - نظمت قلادة من آذان الصحابة وآنافهم، كما هو معروف في السيرة، وتقلدتها، وأخذت قلادتها وجعلتها في عنق الوحشي عبد جبير بن مطعم بن نوفل بن عدي النوفلي؛ لأنه هو الذي قتل حمزة، ثم رقيت على صخرة من صخرات أُحُدٍ وبَكَتْ؛ لأنهم كانوا اشترطوا يوم بدر ألَّا يبكي أَحدٌ منهم على قتيله حتى يقتصوه، فلما قُتل حمزة وعبد الله بن جحش، هذا عم النبي وهذا ابن عمته، وقتل شماس بن عثمان من المهاجرين، ومن الأنصار سبعون من خيارهم، رقيت على صخرة من صخرات أُحدٍ وبكت تقول: نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرِ ... وَالحَرْبُ بَعْدَ الحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مِنْ صَبْرِ ... وَلَا أَخِي وَعَمِّهِ وبِكْرِي شَفَيْتُ نَفْسِي وقَضَيْتُ نَذْرِي ... شَفَيْتَ وَحْشِيٌّ غَلِيلَ صَدْرِي ¬

(¬1) السابق.

فَشُكرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي ... حَتَّى تَرُمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي (¬1) يذكرون في سبب نزولها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقف على عمه حمزة -رضي الله عنه- قتيلًا وقَدْ مُثِّل به، أنه قال: لئن أظفرني الله بقريشٍ لأُمَثِّلَنَّ بكذا وكذا رجلاً منهم، وأن الله أنزل في ذلك خواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: الآية 126] هكذا ذكره بعض العلماء (¬2)، ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 872 - 873). (¬2) ورد في هذا المعنى أحاديث وروايات متعددة لا تخلو من ضعف إلا أن الحديث يَتَقَوَّى بها. والله أعلم. ومن ذلك: ... 1 - حديث ابن عباس (رضي الله عنهما)، عند الواحدي في أسباب النزول ص 282، 284، والدارقطني (4/ 116)، (118)، والطبراني في الكبير (11/ 62)، والبيهقي في الدَّلَائل (3/ 288) وعزاه في الدر (4/ 135) لابن المنذر، وابن مردويه، وانظر: مجمع الزوائد (6/ 120)، تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني للغساني ص 304 - 305، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (2/ 250) تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (4/ 97). 2 - حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، عند الواحدي في أسباب النزول ص 283، والبيهقي في الدلائل (3/ 288)، والحاكم (3/ 197)، وابن سعد في الطبقات (3/ 7)، والبزار كما في (كشف الأستار 2/ 326 - 327)، وعزاه في الدر (4/ 135) لابن المنذر وابن مردويه، وانظر: مجمع الزوائد (6/ 119)، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (2/ 251)، ولابن حجر (4/ 97)، الفتح السماوي (2/ 760 - 761). وقد ورد في هذا المعنى جملة من المراسيل، انظر: ابن جرير (14/ 195 - 196)، دلائل النبوة للبيهقي (3/ 286)، الدر المنثور (4/ 135).

والمشهور عند المفسرين في أسباب النزول أن خواتيم (النحل) هذه مدنية، أما نفس سورة النحل فهي مكية. وقد نزلت سورة النحل في مكة بعد سورة الأنعام، ودلّ القرآن في موضعين على أن النحل نازلة بعد الأنعام، أحد الموضعين: أن الله قال في النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} [النحل: الآية 118]، والمحرم المُحال عليه المَقْصُوص من قبل هو المذكور في الأنْعَامِ إِجْمَاعاً في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} الآية [الأنعام: الآية 146]. الموضع الثاني من الموضعين الدَّالين على نزول الأنعام قبل النحل: أن الله قال في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: الآية 148] فبيَّنَ أنهم سيقولونها في المستقبل، فَعُلم أنهم لم يقولوها فعلاً في ذلك الوقت، وبَيَّنَ في سورة النحل أن ذلك القول الذي كان موعوداً بأنه يُقال: أنه قيل ووقع في سورة النحل، حيث قال في النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: الآية 35]، فدلّ هذا على أن النَّحْلَ بَعْدَ الأنْعَامِ (¬1)، وأن السور الثلاث -أعني النحل، والبقرة، والمائدة- جاء فيها تحريم الدم مطلقًا من غير قَيْدٍ، وجاء في السورة النازلة أولاً وهي الأنعام تقييده بكونه مسفوحاً بقوله هنا: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}. فجماهير العلماء من الصحابة وفقهاء الأمصار على أن تلك الآيات المطلقة في النحل والمائدة والبقرة تُقَيَّد بقيد (الأنعام) ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 248).

هذه (¬1)، فلا يحرم الدم غير المسفوح؛ ولذا أطبق العلماء على أن الحُمْرة التي تَعْلُو القِدْر مِنْ أَثَرِ تقطيع اللحم وهي من الدم أنها مَعْفُوٌّ عنها وليست بنجس؛ لأنها ليست من الدم المسفوح. ويدخل في غير المسفوح: الكبد والطِّحال (¬2). والحاصل أن الذي يظهر من الدم عند تَقْطِيعِ اللحْم وفصل الأعضاء بعضها عن بعض أن جمهور العلماء على أنه ليس بحرام، وليس من المسفوح، وأن الخارج عند الذَّكَاة، أو المُخْرَج من شيءٍ حي، أو عند العقر أنه هو الدم المسفوح. واختلف العلماء في الدم الذي يَتَجَمَّد في القلب عند ذبح الشاة، والذي ينقع في جوفها خلاف معروف، ومنهم من يقول: هما حلالان، ومنهم من يقول: هما مسفوحان، وفَصَّل علماء المالكية قالوا: الذي يَتَجَمَّد في القلب طاهر؛ لأنه ليس بمسفوح، والذي ينقع في الجوف مَسْفُوح؛ لأنه منعكس إليه من العُرُوقِ التي سُفِحَ منها وقت الذبح، وهذا أظهر، والله تعالى أعلم. هذا معنى قوله: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} جميع هذه الآيات إنما صرحت بتحريم لحم الخنزير، والخنزير حيوانٌ معروف خسيس قَبَّحَهُ الله. ولم تَتَعَرّض آية من كتاب الله إلى حكم شحم الخنزير، والعلماء مُجْمِعُونَ على أنَّ شَحْمَ الخنزير حكمه حكم لحم الخنزير (¬3). ¬

(¬1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 53)، القرطبي (2/ 222). (¬2) انظر: القرطبي (2/ 221) (7/ 124). (¬3) انظر: مراتب الإجماع ص 149، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 54)، القرطبي (2/ 222).

واستُدِلَّ بهَذَا على بطلان دَعْوَى ابن حزم أنه لا يحرم شيءٌ إلا ما نَصّ الله على تحريمه؛ لأن ابن حزم تَوَسَّع توسعاً شنيعاً اجتنى به على الشرع، مع عِلْمِه وقوة ذهنه، وزعم أن كل ما [لم ينص] (¬1) الله على أنه حرام أنه لا يمكن أن يكون حرامًا، ومن هنا حمل على الأئمة - رضي الله عنهم وأرضاهم- مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم من فقهاء الأمصار، وتكلم عليهم كلاماً شديداً شنيعاً غير لائق، وزعم أنهم مشرعون، يشرعون من تلقاء أنفسهم، ولما احتُج عليه بإجماع العلماء على أن شحم الخنزير حرام، والله لم يذكره في كتابه قياساً على لحْمِهِ الذي نُصَّ على تَحْرِيمِهِ، أجاب ابن حزم عن هذا بأن قال: الضمير في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد على الخنزير، فيدخل فيه شحمه ولحمه (¬2). وخالف في هذا القاعدة العربية المعروفة؛ لأن الضمائر في الأصل إنما تَرْجِعُ للمضاف لا المضاف إليه؛ لأن المضاف هو المُحَدَّث عنه (¬3)، فلو قلت: جاءني غلامُ زيدٍ فأكْرَمْتُه، يتبادر أن المُكْرَم هو الغلام لا نفس زيد، وكذلك قوله: {لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي: لحم الخنزير؛ لأنه هو المُحَدَّث عنه. وربما رجع الضمير على المضاف إليه نادراً (¬4)، وجاء في ¬

(¬1) في الأصل: «ما نص» وهو سبق لسان، والصواب: أن كل ما لم ينص ... إلخ. (¬2) انظر: المحلى (7/ 390 - 391). (¬3) انظر: البحر المحيط لأبي حيان (4/ 241)، البرهان للزركشي (4/ 39)، الإتقان (2/ 284)، الكوكب الدري 202، مختصر من قواعد العلائي 101، الكليات 134 - 135، 569، قواعد التفسير (1/ 402). (¬4) انظر قواعد التفسير (1/ 403).

القرآن رجوع الضمير إلى المضاف إليه لكن مع قرائن تدل على ذلك، كقوله: {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ} [غافر: الآيتان 36، 37] أي: موسى، وهو المضاف إليه هنا، فهذا قد يقع، وجاء في القرآن قليلاً، إلا أن القرينة تُعَيِّنُه، أما الأصل اللغوي العَرَبِي فهو رجوع الضمائر والإشارات إلى المُضَاف لا المضاف إليه، وإتيان الأحوال من المضاف لا المضاف إليه، إلا إذا كان عاملاً فيه، أو جزءاً منه، أو كجزءٍ منه، كما هو معروف في النحو. والحاصل أن القرآن سكت عن شحم الخنزير وحَرَّمَ لحْمَهُ، وأجمع العلماء على تحريم شَحْمِهِ قياساً على لحمه، وفيه أمور كثيرة يغلط فيها ابن حزم ومن وافقه من المتشددين؛ لأنه في الآونة الأخيرة صار يطلع طلبة علم صغار قليلة بضاعتهم من العلم، ينظرون شيئاً قليلاً من الحديث، ويطعنون في الأئمة -رضي الله عنهم وأرضاهم- ويقولون: قال في الحديث الفلاني، وشرعوا من أنفسهم اعتماداً على كتب ابن حزم، وكل هَذَا غَلَطٌ، وكثير من الأشياء يَدَّعِي ابْنُ حَزْمٍ أنَّ اللهَ سَكَت عنها، وأن الوحي لم يَتَعَرَّضْ لها، ويستدل بحديث: «إن اللهَ أبَاحَ أشْيَاء، وحَرَّمَ أشْيَاء، وسَكَتَ عَنْ أشْيَاء لا نِسْيَاناً، فَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عفْوٌ» (¬1) فيدعي أنه سكت ¬

(¬1) ورد في هذا المعنى عدة أحاديث، وهي وإن كانت لا تخلو من ضعف إلا أن بعضها يتقوى بغيره، والله أعلم، فمنها: 1 - حديث سلمان (رضي الله عنه) (مع الخلاف في رفعه ووقفه) عند الترمذي في اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، حديث رقم: (1726)، (4/ 220)، وابن ماجه في الأطعمة باب أكل الجبن والسمن، حديث رقم: (3367)، (2/ 1117)، والحاكم (4/ 115)، والبيهقي (9/ 320)، (10/ 12). وانظر: صحيح الترمذي (2/ 145)، وصحيح ابن ماجه (2/ 240)، غاية المرام ص 15، المشكاة (2/ 1220). 2 - حديث أبي ثعلبة الخشني (رضي الله عنه) (مع الخلاف في رفعه ووقفه) عند الدارقطني (4/ 184)، والحاكم (4/ 115)، والبيهقي (10/ 12 - 13)، وانظر مجمع الزوائد (1/ 171)، وهو أضعف هذه الأحاديث. 3 - حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عند الدارقطني (4/ 297 - 298) والبزار كما في (كشف الأستار (3/ 85، 325)، والحاكم (2/ 375)، والطبراني في الصغير (2/ 122). وانظر: مجمع الزوائد (1/ 171)، (7/ 55، 208)، وقد حَسَّنَهُ الألْبَانِي في غاية المرام ص14.

عنه (¬1)، وهو قد يكون لم يسكت عنه. وسَلَفُهُ الذي هو داود بن عَلِيّ الظاهري ما كان يبالغ هذه المبالغة، ولا يغلو هذا الغلو. والحاصل أن ما يسميه علماء الأصول: (الإلغاء بنفي الفارق)، ويسمونه نوعاً من تنقيح المناط، وهو المعروف عند الشافعي في كتبه القديمة بـ (القياس في معنى الأصل) (¬2) أجمع جميع العلماء على أن المسكوت عنه فيه يلحق بالمنصوص؛ لأنه لا فرق بينهما يؤثر، وما كان داود ينكر هذا. ومعروف أنه عند علماء الأصول ينقسم إلى أربعة أقسام (¬3)؛ لأن المسكوت عنه: إما أن يكون أولى بالحكم من المنطوق به، وإما ¬

(¬1) انظر: الإحكام 1058 - 1070. (¬2) انظر: الرسالة للشافعي 512 - 516، شرح الكوكب المنير (3/ 481)، (4/ 207 - 209)، المذكرة في أصول الفقه 237، 271، نثر الورود (1/ 102 - 103)، (2/ 522 - 523، 558). (¬3) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 486)، المذكرة في أصول الفقه ص 237، نثر الورود (1/ 104).

أن يكون مساوياً له، وبكل منهما إما أن يكون وجه الفرق بينهما مُحَقَّقاً يقيناً، وإما أن يكون مظنوناً ظنّاً غالباً مزاحماً لليقين، فالمجموع أربعة، من ضرب اثنين في اثنين: الأول: ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، ونفي الفارق بينهما في الحكم مُحَقَّق لا شك فيه. ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: الآية 23]، فالمنصوص عنه هنا النهي عن التأفيف أمام الوالدين، والمسكوت عنه ضرب الوالدين، وهذا المسكوت عنه- الذي هو الضرب- أولى بالحكم الذي هو التحريم من هذا المنطوق به الذي هو التأفيف؛ لأن الضرب أشد أذيةً من التأفيف، فابن حزم يقول هنا: إن الضرب مسكوت عنه، ولم يؤخذ حكمه من هذه الآية (¬1). ونحن نقول: لا، الضرب ليس مسكوتاً عنه في هذه الآية، بل هو مفهوم من باب أولى من النهي عن [التأفيف] (¬2). ونظيره قوله تعالى في الرجعة والطلاق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية 2] فالمنطوق: شهادة العَدْلَيْنِ، والمسْكُوتُ عَنْهُ: شَهَادَةُ أرْبَعة عدول، فلو أشهد رجل أربعة عدول على رجعته أو طلاقه فلا شك أن ذلك نافذ، ولا نقول: إن المنصوص عليه الاثنين، والأربعة غير منصوصة؛ لأن هذا المسكوت عنه الذي هو الأربعة أولى بالحكم من هذا المنطوق به الذي هو الاثنان، ونفي الفارق هنا مُحَقَّق لا شك فيه. ومن أمثلته في القرآن: قوله تعالى في الزلزلة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)} [الزلزلة: الآيتان 7، 8]، ¬

(¬1) انظر: الإحكام ص 891. (¬2) في الأصل: «التحريم» وهو سبق لسان.

فالمنطوق به المجَازَاةُ بمثقال ذرة، والمسكوت عنه المجازاة بمثقال الجَبَل، ولا شك أن هذا المسكوت عنه أولى بالحكم -الذي هو المجازاة- من المنطوق به، ونفي الفارق مُحَقَّق. الثاني: أن يكون المسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوِياً للمنطوق به في الحكم، ونفي الفارق بينهما مُحقَّق؛ كالتنصيص على لحم الخنزير، والسكوت عن شحمه، ولا فرق بين لحمه وشحمه؛ لأنه كله رجس، وحكم شحمه حكم لحمه. ومن أمثلته في القرآن: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: الآية 10] فالمنطوق به أكل مال اليتيم، والمسكوت عنه إغراقه في البحر، وإحراقه بالنار، ولا شك أن إحراق مال اليتيم، وإغراقه أنه حرام، لا فارق بينه وبين أكله، ونفي الفارق هنا مُحَقَّق. وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} [النور: الآية 23] فإن الآية إنما نَصَّتْ عَلَى أن يكون القاذِفُونَ ذكوراً، والمقذوفات إناثاً؛ لأنه قال: {الَّذِينَ يَرْمُونَ} بصيغة الذكور، ثم قال: {المُحْصَنَاتِ} بصيغة الإناث، فمنطوق الآية: أن يكون القاذف ذكراً، والمقذوف أنثى، وقد أجمع العلماء على أنه لا فرق في ذلك بين قذف الذكر للذكر، وقذف الأنثى للأنثى، وقذف الأنثى للذكر، وقذف الذكر للأنثى، فهذا المسكوت مُلْحَقٌ بهذا المنطوق به إجماعاً، ومحاولة ابن حزم أن يجيب عن هذه الآية، قال: قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} [النور: الآية 23]، أي: يرمون الفروج المحصنات، فشمل فروج الرجال والنساء، فلم يكن فيه إلحاق، مردودٌ؛ لأن المحصنات في لغة القرآن لم تطلق على الفروج قط، وإنما تطلق على النساء، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ} [النور: الآية 23] فهل يمكن قائلاً

أن يقول: إن الفروج مؤمنات غافلات؟ هذا مما لا يقوله أحد. ومن هذا: أن الله تبارك وتعالى نَصَّ في سورة البقرة على أن الرَّجُلَ إِنْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثلاثاً، ثم تزوجت زوجاً بعده -وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتراط أن يجامعها ذلك الزوج- ثم طَلَّقَهَا هذا الزوج الثاني بعد أن جَامَعَهَا حَلَّت على الأول، وإنما نصَّ على الطلاق وحده، ولم يتكلم على ما لو مات عنها إذا كانت مطلقة ثلاثاً، ثم تزوجت زوجاً جامعها وأحلَّها، ثم مات الزوج الأخير ولم يطلقها، فإن الله لم يقل: إنه إذا مات تحل للأول، ولكن قال: {فَإِن طَلَّقَهَا} يعني: الزوج الثاني بعد أن جامعها {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: الآية 230] أي: على المرأة المبتوتة التي كانت حراماً، والزوج الأول الذي بَتَّهَا أن يَتَرَاجَعَا؛ لأنها حلت لوطء الثاني، وطلقها الثاني، ولم يتكلم هنا على ما إذا مات عنها الزوج الثاني بعد أن جامعها، وقد أجمع العلماء أن موته عنها كطلاقه، وأمثال هذا كثيرة. الوجه الثالث: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، ولكن نفي الفارق بينهما مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، ومن أمثلته في السنة: ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التضحية بالعوراء (¬1)، فالمنطوق به هنا منع التضحية بالعَوْرَاءِ، والمسكوت عنه مَنْع التضحية بالعمياء التي هي عمياء العينين؛ لأنها أولى بالحكم من المنطوق بها؛ لأن العوراء عميت لها عين واحدة، والعمياء عميت عيناها معاً، فالعمياء مسكوت عنها في الحديث، وهي أولى بالحكم من المنطوق به التي هي العوراء، ونفي الفارق هنا مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، وقد يظهر لطالب العلم أن نفي ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

الفارق هنا قطعي، ونحن نقول: ذكر غير واحدٍ من علماء الأصول أن نفي الفارق هنا ظَنِّيٌّ، وإنما قالوا: إنه ظني؛ لأنَّ الغالب على الظن غَلبةَ مُزَاحمَةً لليقين أَنَّ عِلَّة منع التضحية بالعوراء أن العَوَرَ عَيْب ناقصٌ لثمنها وقيمتها وذاتها، وهذه العلة موجودة في العَمْيَاءِ بِلَا خِلَاف فهي مثلها، ولكنْ هُنَالِكَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ مَرْجُوحٌ هو الذي مَنَعَنَا مِنْ أَنْ نَجْزِمَ باليقين أن علة مَنْعِ التَّضْحِيَةِ بالعوراء أن العور مظنة الهزال؛ لأن العوراء لا تَرَى مِنَ المَرْعَى إلا ما يقابل عينها المُبْصِرة، وما يقابل عينها العوراء لا تراه، فناقصة البصر ناقصة الرَّعْي، ونقص الرعي مَظِنة لنقص السّمَن، وعلى أن العلة هذه فلا تشاركها العمياء؛ لأن العمياء يعلفها ذو عينين فيختار لها أحسن العلف وأجوده، فهي مظنة السِّمَن، فلا تكون كالعوراء، إلا أن هذا الاحتمال ضعيف. الرابع: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق في الحكم، ولكنه مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، ومثاله في السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَبْدٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ ... » الحديث المشهور (¬1). أي: إن النبي نصَّ في سراية العتق هنا على العبد الذكر، وسكت عن الأمَة الأنْثَى، ولم يقل: من أعتق شِرْكاً له في أَمَة، فالأَمَة مسكوتٌ عنها هنا، وعامة العلماء على أن العِتق يسري في الأَمَة كما يسري في الذكَر، إلحاقاً للمسكوت عنه بالمنطوق به، ونَفْي الفارق هنا مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين؛ لأن الذكورة والأنوثة في باب العتق أوصاف طردية، أعني لا يُفرق بينهما ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء، حديث رقم: (2491)، (5/ 132)، ومسلم في العتق، حديث رقم: (1501)، (2/ 1139).

في الأحكام، ولا يُعَلَّلُ بهما أحكام مختلطة في باب العتق، مع أن هنالك احتمالاً ضعيفاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على العَبْدِ، وجعل سراية العتق فيه دون الأَمَةِ؛ لأن عتق الذكور يحصل به مِنَ الْفَوَائِدِ ما لا يحصل في عتق الإناث؛ لأن الذَّكَرَ إذا عُتِقَ فَهُوَ شهادته شهادة عدل عند من لا يَقْبَل شهادة العبيد، وصار يُزَاوِلُ مَنَاصِبَ الرِّجَالِ؛ كالإمامة، والجهاد، وغير ذلك مما يَخْتَصّ بِمَنَاصِبِ الرِّجَالِ التي لا تَصْلح لها الإناث، ولكن هذا يَبْقَى احْتِمَالاً ضَعِيفاً. فمثل هذه الأشياء يزعم ابن حزم أن الوَحْيَ سَكَتَ عنها، ونحن نقول: لا، لم يسكت الوحي عنها، ولكنه دل عليها، وكذلك ما ثَبَتَ في الصحيحين من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» (¬1) هذا حديث صحيح ثابت في الصحيحين، نهى به النبي - صلى الله عليه وسلم - القاضي أن يحكم بين الخَصْمَيْنِ في حالة غضبه؛ لأن الغضب يُشَوِّش فِكْرَهُ، فيمنعه من أن يَسْتَوْفي النظر في دعاوي الخصوم، وفي الأحكام المترتبة على دعاويهم، وقد أجمع العلماء على أن كل مشوش للفكر كتَشْويش الغضب أو أشد غير مسكوت عنه، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بين الخصمين في حالة العطش والجوع المُفْرِطَين، ولا في حالة الحزن والسرور المُفْرِطَين، ولا في حالة الحَقن والحَقب المُفْرِطَين، والحَقْن: مدافعة البول، والحَقْب: مدافعة الغائط، فكل هذه الأمور التي تُشوِّش فِكْرَهُ لا نقول هي مسكوت عنها، بل هي منطوقة؛ ولأجل هذا كان العلماء أجمعوا على إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به إذا تحقَّقْنَا وغلب على ظننا أنه لا فرق بينَهُما. ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

فعُلِمَ أنَّ دَعْوَى ابْنِ حزم على العلماء أنهم حرموا هذا مِنْ تِلْقَاءِ أنفسهم وشرعوه من غير دليل أنه ليس بصحيح، وأن الأئمة -رضي الله عنهم- ما فعلوا إلا شيئاً واقعاً في موقعه؛ لأن هذا المنطوق به والمسكوت عنه لا فرق بينهما البَتَّةَ. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ربما نَبَّهَنَا بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وقد أجمع العلماء على أن نَظِيرَ الحق حق، ونظير الباطل باطل، فإِلحَاقُ النَّظِيرِ بالنَّظِير من الحق الذي شهد له القرآن والسنة والعقل الصحيح، وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث مُتَعَدِّدَة على أن إلحاق النظير بنظيره من الحق لا مِنَ البَاطِلِ؛ لأنه ثبت في الصحيحين أن سأله رجل، وثبت في الصحيحين أنه سألته امرأة عن حج كان على أبيها أو أمها هل تقضيه عنها؟ قالت: أمي ماتت وعليها حج أفأقضيه عنها؟ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟» قالت: نعم. قال: «فَدَيْنُ اللهِ أحَقُّ أَنْ يُقْضَى» والحديث ثابت في الصحيح في رجل، وثابت في الصحيح في امرأة (¬1)، وهي قصص متعددة لا اضطراب في الحديث؛ لأنه ثابت في الصحيحين، فنبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بإلحاق دَيْن الله بدَيْن الآدميين بجامع أن الكل دَيْن ينفع صاحبه قضاؤه ¬

(¬1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، حديث رقم: (1852)، (4/ 64). وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الحديثين رقم: (6699، 7315) وهو من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (في سؤال المرأة الجهنية)، وقد ورد عنه وعن أخيه الفضل وعن غيرهما أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما من غير موضع الشاهد هنا. وقد تكلم الحافظ على هذه الأحاديت والروايات المتعددة بكلام طويل راجعه- إن شئت- في الفتح (4/ 65 - 66، 68 - 70).

عنه ويؤدى بدفعه لمستحقه، وهو تنبيه بأن النظير له حكم النظير، وقد ثبت في الصحيحين أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل، هذا الرجل كان أبيض، وكانت امرأته بيضاء، فولدت له غلاماً أسود، ففزع من سواد الغلام، واعتقد أن امرأته زنت بأسود، وجاءت بهذا الغلام، فجاء للنبي فَزِعاً، والظاهر أنه كان يريد اللعان لِيَنْفِي عنه هذا الولد الأسود، فأخبر النبي أن امرأته ولدت أسود!! فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهذا الرجل: «أَلَكَ إِبِلٌ؟» قال: نعم. قال: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قال: حمر، قال: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق؟» قال: نعم -والأوْرَق: الذي لونه الوُرْقة، وأشبه شيء بلون الوُرْقَة هو لوْنُ حَمَامِ الحرَمِ هَذَا؛ ولذاكم تسمى الواحدة منه بالوَرْقَاء، ويسمى جمعه بالوُرْق، أي: أخضر اللون- قال: نعم، إن فيها لَوُرْقاً، قال: «مِنْ أَيْنَ جاءَتْها تلك الوُرْقَة والسَّواد؟» مع أن أباها أحمر وأمها حمراء، قال: لعل عِرْقاً نَزَعَها. يعني جَدّاً بعيداً كان أسود نزعها، قال له: «وهَذَا الغُلَامُ لعَلَّ عِرْقاً نزَعَهُ» (¬1). لَعَلَّ أحَدَ أَبَوَيْهِ كان عِنْده جد أسود من بعيد فنزَعَهُ، فاقتنع الأعرابي لما جعل له النبي -قاس له- النظير بالنظير، فَكَمَا أن أولاد الإبل تنزعها عروق فتصير بها سوداً، فكذلك أولاد الآدميين قد تنزعها عروق بعيدة، وهو إلحاق النظير بالنظير. ومن هذا المعنى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصائم يُقَبِّل امرأته؟! فقال له: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضَ؟» وهذا الحديث في سنن أبي داود بسندٍ أقل درجاته ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الطلاق، باب إذا عرَّض بنفي الولد، حديث رقم: (5305)، (9/ 442)، ومسلم في اللعان، حديث رقم: (1500)، (2/ 1137، 1138).

القبول (¬1). فقال له: «أرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضَ؟». فكأن النبي يشير إلى أن التقبيل إذا لم يُنْزِل منه صاحبه، ولم يخرج منه شيء أنه كالمَضْمَضَة، بجامع أن كلًّا منهما مقدمة الإفطار، وليس في واحدٍ منهما إفطار؛ لأن المضمضة مقدمة الشرب، والتقبيل مقدمة للجماع، فألحق النظير بنظيره، وأمثال هذا كثيرة جدّاً. ومن هنا نعلم أن قَوْلَ ابْنِ حَزْمٍ: إن الضمير في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائدٌ إلى الخنزير كله -ليكون الشحم داخلاً في النص، لا مسكوتاً عنه ملحقاً بالمنطوق به- أنه غير صحيح، وأن الضمير راجع إلى لحم الخنزير الذي هو المُحدَّث عنه، وأن الشحم مسكوت عنه، ولكنه أُلحق به، والشحم هو واللحم قد يفترقان في الأحكام، كما سيأتي فيما حُرِّمَ على اليهود: أنه قد يُحْرَمُ عَلَيْهِمْ هذا دون هذا. [19/ب] وقد يُجاب في خصوص آية لحم الخنزير هذه جواب آخر،/هو معروفٌ عند العلماء، لكن ابن حزم لم يهتد للاحتجاج به، أن اللحم أعم من الشحم، فإن العرب تقول: اكْتَل لي لحم هذه الشاة. وقد يكون لحمها معه شحم كثير وهو داخل فيه، فهذا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 21، 52)، وابن أبي شيبة (3/ 60 - 61)، والدارمي (1/ 345)، وأبو داود في الصوم، باب القُبلة للصائم، حديث رقم: (2368)، (7/ 11)، والنسائي في الكبرى كتاب الصيام، باب المضمضة للصائم، حديث رقم: (3048)، (2/ 198 - 199)، وابن خزيمة (1999)، (3/ 245)، وابن حبان (الإحسان 5/ 223)، والحاكم (1/ 431)، والبيهقي (4/ 218، 261)، والطحاوي في شرح المعاني (2/ 89). وانظر: صحيح سنن أبي داود (2/ 453).

الجواب لو أجاب به ابن حزم لكان مقبولًا (¬1)، وهو مذهب مالك -أن [اللحم] أعم من [الشحم] (¬2) - ولذا لو حلف في مذهب مالك لا يأكل اليوم لحماً فأكل شحماً فإنه يحنث، بخلاف ما لو حلف لا يأكل شحماً وأكل لحماً أحمر غير شحم فإنه لا يحنث (¬3)؛ لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، كما هو معروف (¬4). والحاصل أن العلماء مُجْمِعُونَ على إلحاق النَّظِير المسكوت عنه بالنظير المنطوق به، وأنه من الحق، وأنه غير مسكوت عنه، بل النص يدل عليه، فمن قال لك: لا تقل لوالديك أف. فكأنه قال لك من باب أولى: لا تضربهما. ومن قال -مثلاً- لك: لا تُضَحِّ بِعَوْرَاء، فكأنه قال لك: لا تُضَحِّ بالعَمْيَاءِ مِنْ بَابٍ أوْلَى، وهكذا، وهذا معنى قوله: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}. الله (جل وعلا) حرم هذه الأشياء التي هي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير. ومعروف أن الله لا يحرم شيئاً إلا لحِكمَة، ولا يحرم شيئاً إلا للضرر، فقد يهتدي بعض الناس إلى حِكْمَة ذلك الشيء، وقد يعجز البشر عن إدراكها، فالله (جل وعلا) محيط علمه بكل شيء، ولا يُحَرِّمُ إلَّا لحِكْمَةٍ، لا يحرِّم شيئاً إلا وهو متضمِّنٌ أضْرَاراً عظيمة، وهذه الأضرار قد يتحَصَّلها البشر، وقد يعجز عنها إدراك البشر؛ لأن علم الخالق (جل ¬

(¬1) انظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 54)، القرطبي (2/ 222). (¬2) في الأصل: «أن الشحم أعم من اللحم». وهو سبق لسان. (¬3) انظر: القرطبي (2/ 222). (¬4) انظر: البرهان للزركثسي (3/ 402)، الإتقان (3/ 232)، الكليات 889، قواعد التفسير (2/ 521).

وعلا) محيطٌ بكل شيء، يَعْلَمُ أَشْيَاءَ يَتَقَاصَرُ عنها فَهْمُ الْبَشَرِ. وَتَحْرِيم هذه الأشياء بعضهم يقول: إنه يفهم علته، وقال بعض العلماء: تحريم الميتة من جهة الطب (¬1)؛ لأن الدم الذي يسيل عنها بالذكاة يطيِّب لحْمَهَا ويُصَحِّحُهُ، فإذا ماتَتْ فَسَدَ ذلك الدَّمُ واخْتَلَطَ في اللحم، بدليل أنَّكَ لو فصدت عِرْقاً مِنَ الميتة لا يقطر منه دم، فذلك الدم قد يختلط بذلك اللحم، واختلاطه به فيه نوع من السلب له، يسبب بعض الأمراض، ولذا لم يُبِحْهُ الله إلا للمضْطَرِّ، قالوا: لأن شدة حرارة الجوع وألمه وشِدَّتِهِ قد يُقَاوِمُ تلك الأضرار فلا تهْلكه، ولم يبحه إلا عند الضرورة التي يخاف صاحبها الموت. وزعموا (¬2) أن تحريم الدم؛ لأنه لا فائدة فيه ألبتة، لا يستفيد الإنسان من أكل الدم في جوفه شيئاً؛ لأنه إما أن [يستقر] (¬3) في المعدة فيضرها، ولا يَتَسَرَّب في العروق، ولا يستفيد صاحبه منه شيئاً عن طريق الفم. قالوا: وتحريم الخنزير (¬4)؛ لأن الخنزير قد تكون فيه مضار جدِّية، قالوا: ومن نتائج أكله أن صاحبه يصير ديوثاً غالباً، تُنزع منه غيرة الرجال، وغيرة الإنسانية التي تكون في الرجال، وهذا كالمشاهد، فإن الذين يأكلون لحم الخنزير لا تكاد تجد فيهم غيرة الرجال المعروفة، كالشهامة المعروفة عند العرب، فتجد زوجة ¬

(¬1) انظر: تفسير المنار (6/ 134). (¬2) انظر: تفسير المنار (6/ 134). (¬3) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى. (¬4) المصدر السابق (6/ 135).

الرجل تمشي من عنده مع الذكور، وتنفرد معهم!! هكذا قاله بعضهم، والله تعالى أعلم. والله (جل وعلا) كأنه علَّله، قال: {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وقَدْ تَقَرَّر في الأصول، في مَسْلَكِ النص وفي مسلك الإيماء والتنبيه: أن الفاء من حروف العلة (¬1)، كقولهم: «سَهَا فسجد» أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، «سرق فقُطعت يده» أي: لعلة سَرِقَتِهِ، «حُرِّم لحم الخنزير فإنه رجس» أي: حرم لكونه رجساً. والرجس في لغة العرب: النجس القَذِر الذي تَعَافُهُ النُّفُوس، الذي هو بالغٌ في غايَةِ الاستقذار الغاية القصوى (¬2). وقال بعض العلماء: أصله من (الرِّكْس) والعرب ربما بادلت بين الحروف، و (الرِّكس) بالكاف في لغة العرب: عَذرة الناس وفضلاتهم -أكرمكم الله (¬3) - هذا معنى قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ}. وقوله: {أَوْ فِسْقاً} أو فسقاً: منصوب قبله مرفوع، إلا أنه عَطْفٌ على المنصوبات قبله. {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً}. فهو معطوف على قوله: {مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} (¬4). والمراد بهذا الفسق: هو ما ذبح لغير الله، وسماه الله (فسقاً) جعله كأنه بعينه هو عين الفسق؛ لتَوَغُّلِه في الفسق الذي هو: الخروج ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المفردات (مادة: رجس) 342، المصباح المنير (مادة: رجس) 83. (¬3) انظر: المصباح المنير (مادة: ركس) ص 90. (¬4) انظر: الدر المصون (5/ 198).

عن طاعة الله؛ لأن النَّحْرَ وإِرَاقَةَ الدم من أعظم القربات التي يُتَقَرّب بها إلى الله (جل وعلا)، وهي من الحِكَم التي نادى فيها للحج: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: الآية 27] ثم بين الحِكَم فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: الآية 28]، ذكرها عند التذكية تقَرُّباً بها إلى الله، وقَدْ بَيَّنَ الله (جل وعلا) أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ بالدِّمَاءِ يريد وَجْهَ اللهِ أن ذلك من التَّقْوَى الذي يرضي الله: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: الآية 37] ولذا كان الشيء إذا ذُبِحَ لِغَيْرِ الله كان ذلك من أكْبَرِ الكُفْرِ، وكانت تلك الذَّبِيحَةُ مِنْ أخْبَثِ الخبث، وذلك الفعل من أفْسَقِ الفِسْقِ؛ ولذا سَمَّاهُ اللهُ فِسْقاً. وأصل الإهلال في لغة العرب هو رفع الصوت (¬1)، تقول: اسْتَهَلَّ المولُودُ صارخاً: إذا رَفَعَ صَوْتَهُ عند الولادة، وإنما سُمِّيَ الشهر (هلالاً) لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته، وإنما قيل له: {أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} لأنهم كانوا إذا ذبحوا لغير الله رفعوا أصواتهم باسم الأصنام، فصار يُطلق على كل ما ذُبِحَ لغير الله: (أهل لغير الله به). ثم بَيَّنَ (جَلَّ وَعَلَا) أن هذه المحرمات الأربع، التي هي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، أن مَحَلَّ تَحْرِيمِهَا ما لم تَدْعُ الضرورة الفَاحِشَةُ إلَيْهَا، أما إن دَعَتِ الضرورة إليها فإنَّها تُبَاحُ لِلضَّرُورَاتِ؛ لأن هذا النبي الكريم -سيد الرسل، ¬

(¬1) انظر ابن جرير (3/ 319)، المفردات (مادة: هلل) 843، القرطبي (2/ 224).

الذي اختاره الله لهذه الأمة، وجعلها به خير أمةٍ أخرجت للناس- بُعث بالحنيفية السمحة، ورُفعت عنه التكاليف والآصار والأثْقَال التي كانت على مَنْ قَبْلَهُ، فَجَاءَ بها سهلة حنيفيَّةً سَمْحَة، إذا اضطر الإنسان إلى هذا الحَرَامِ رُخِّصَ له فيه، كَمَا قَدَّمْنَا إيضَاحَهُ، وأنَّهُ عام في كل ما دعت الضرورة الملْجِئَة إليه في قوله في هذه السورة الكريمة: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: الآية 119]. قرأَهُ بَعْضُ السبعة في جميع القرآن: {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر النون، كما قرأه عاصم وأبو عمرو وغيرهما، وأكثر القراء: {فمنُ اضْطُرَّ} وهذا في كل ساكنين بعدهما ثالث مضموم، فإنه في جميع القرآن يُقْرَأ بالْكَسْر، على عادة التخلص من التقاء الساكنين بكسر الأول، والضم إتْبَاعاً للضَّمَّة بضمة الطاء في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} (¬1). والطاء في قوله: {اضْطُرَّ} أصلها مُبدَلَة مِنْ تَاء الافتعال، وأصل حروف الكلمة الأصلية: (ضَرَرَ). ففاؤها ضاد، وعينها راء، ولامها راء: (ضَرَرَ)، فدخل عليها تاء الافتعال، كما تقول في قرب: اقترب. وفي كسب: اكتسب، وفي ضرر: اضْترر (¬2)، والمُقَرَّر في علم النَّحْوِ: أن تاء الافْتِعَال إذا جاءت بعد حرف من حروف الإطباق؛ كالصاد، والطاء، والضاد أنها تُبْدل طاءً (¬3)، فأبدلت تاء الافتعال ¬

(¬1) انظر: السبعة لابن مجاهد 174 - 176، الكشف لمكي (1/ 274 - 280). (¬2) مضى عند تفسير الآية (119) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

طاءً، وبُني الفعل للمفعول، فقيل: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: فمن أُلجِئَ. ولم يُبَيِّنْ هنا هذه الضرورة المُلْجِئَة، وقد بين في موضع آخر أنَّهَا الجوع، كما قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: الآية 3] والمَخْمَصَة: الجوع (¬1). والقرآن يُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضاً، يعني: فَمَنْ أَلجَأَتْه الضرورة إلى أكل الميتة، أو ما أُهِلَّ به لغير الله، أو لحْمِ الخنزير، فإن ذلك يُبَاحُ. والضرورات المُلْجئة عند العلماء هي: أن يخاف على نفسه الموت، أو يظن ذلك ظنّاً قويّاً (¬2). وقد قدمنا في سورة البقرة مسائل متعددة من الاضطرار إلى الميتة، منها: إذا اضطر إلى الميتة بأن خاف على نفسه الهَلَاك إن لم يأكل، هل يجوز له أن يشبع؟ أو لا يأكل إلا قدر ما يَسُد الرَّمَق ويُمْسِك الحياة؟ (¬3) فذهب جماعة من العلماء إلى أن له أن يشبع ويتزود، وهو المشهور المعروف من مذهب مالك (¬4). أما قول خليل في مختصره: «وللضَّرُورَةِ ما يَسُدّ» فذلك مشهور مذهب مالك، ولَيْسَ هو المَرْوِي عن مالك، وإنما هو قول لبعض أصحابه، فَمَذْهَب مالك المعروف، أنه يأكل ويشبع ويَتَزَوَّد، فإن ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: خمص) 299. (¬2) انظر: أضواء البيان (1/ 109)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (119) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: السابق (1/ 107)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (119) من سورة الأنعام. (¬4) انظر: الموطأ ص 334، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 55)، القرطبي (2/ 227).

وجد عنها غِنىً طرحها، ووجه هذا القول: أنه لما اضطر إليها صارت حلالاً بالنسبة إليه، والحلال يشبع صاحبه ويَتَزَوَّد. وقالت جماعة أخرى من أهل العلم من الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار (¬1): لا يجوز له أن يأكل إلا قَدْرَ ما يَسُدّ الرَّمَق ويُمسِك الحياة؛ لأنه إذا أكل ما يسد الرَّمق ويُمسك الحياة فقد زال الضَّرَر الذي هو خوف الموت، والميتة إنما أبيحت لخوف الهلاك، وقد زال بِأَكْلِ ما يسد الرَّمَق، فلا يشبع ولا يتزود، وهي أقوالٌ معروفةٌ في فروع المذاهب. ومن هذا: إذا تَيَسَّرَتْ لك ميتَةٌ ومالُ غَيْرٍ وأنْتَ مضطر، فهل تتعدى وتأكل مال الغير أو تُقَدِّم الميتة؟ اختلف العلماء في هذا (¬2)؛ فذهب جماعة إلى أنه يقدم مال الغير، وهو مذهب مالك إذا كان يَأْمَن من أن يجعله سارقاً ويقطع يده، أما إذا كان يخاف أن يجعله سارقاً وتُقطع يده فإنه يأكل الميتة، فإن أَمِنَ أن يجعله سارقاً قدم مال الغير على الميتة، وكثير من العلماء يقدمون الميتة على مال الغير [ونظير] (¬3) هذه المسألة ما إذا كان مُحْرِماً، واضطر إلى الميتة، وخاف الهلاك من الجوع، ووجد صيداً وهو مُحرِم: هل يصطاد الصيد ويقدمه على الميتة؟ أو يأكل الميتة؟ في هذا خلاف ¬

(¬1) انظر: المحلى (7/ 426)، الاستذكار (15/ 351) فما بعدها، المغني (11/ 73)، أضواء البيان (1/ 107). (¬2) انظر: الاستذكار (15/ 357)، القرطبي (2/ 225)، المغني (11/ 78)، أضواء البيان (1/ 112). (¬3) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.

معروف (¬1). وأكثر أهل العلم على أنه يقدم الميتة على الصيد؛ لأنه إن قَتَل الصيد وهو مُحْرِم صار ميتة، ورجعت المسألة في حافرتها (¬2)، واجتمع عليه أنه قاتل صيد وآكل ميتة، أما إن أكل الميتة فقد أكل الميتة ولم يقتل صيداً، وفي قولٍ عن الشافعية: أنه يقدم الصيد، بناءً على أن المضطر إذا قتل صيداً لم يكن ميتة، والأكثر على خلافه، وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة في الكلام على قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة: الآية 173]. وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} دل القرآن في موضع على أن الاضطرار هنا: الجوع، وأن الباغي والعادي هما المائلان لإثم يخالف الشرع، وذلك في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: الآية 3] أي: غير مائل للحرام، وهكذا قَدْرُ بيان القرآن. واختلف العلماء في ذلك الإثم الذي يُتجانف إليه الذي استُثني بقوله هنا: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} (¬3) فذهبت جماعة من أهل العلم -وهو القول المشهور عند الفقهاء والمفسرين- أن معنى الباغي: الخارج عن طاعة إمام المسلمين، والعادي: الذي يعدو على الناس ¬

(¬1) انظر: المغني (11/ 78)، أضواء البيان (1/ 114). (¬2) يشير إلى المثل «رجع على حافرته» أي: إلى حالته الأولى، أو الطريق الذي جاء منه. انظر: المجمل ص 178، المفردات 244. (¬3) انظر: الاستذكار (15/ 354)، ابن جرير (3/ 222)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 57)، القرطبي (2/ 231، 232)، المغني (11/ 75) أضواء البيان (1/ 105).

فيقطع عليهم الطريق، ويخيفها عليهم، وعلى هذا القول فالبَاغِي: الخارج عن طاعة الإمام، والعادي: الذي يخيف الطريق، ويقطع الطريق على الناس، لا يباح لهم أكل الميتة؛ لأن هؤلاء غالباً هم الذين يضطرون إلى الميتات؛ لأنهم لا يقدرون أن يخالطوا الناس فيشتروا منهم زاداً ولا طعاماً، فيضطرون غالباً إلى الميتات، وعلى هذا فمن كان خارجاً عن طاعة إمام المسلمين، أو قاطعاً طريق المسلمين، مخيفاً لها، لا يجوز له الأكل من الميتة إلا أن يتوب، فإن لم يتب فلا يجوز له الأكل ولو مات، فلو قيل: كيف تبيحون له ترك الأكل ولو مات؟ قالوا: لأنه قادر على أن يبيح ذلك بالتوبة، وهو الذي أصرَّ وامتنع أن يتوب إلى الله، فلو تاب إلى الله أجاز له ذلك. وأجاز الإمام مالك وأصحابُهُ أكْلَ الميتة للمضْطَرِّ، ولو كان قاطع طريق، أو خارجاً على الإمام، لأنهم فسَّرُوا الباغي والعادي بتفسير غير هذا، قالوا: {غَيْرَ بَاغٍ} أي: غير باغٍ: مُتَشَهٍّ لأكل الميتة وهو قد يجد غِنىً عنها، {وَلاَ عَادٍ} أي: جاوز إلى الحرام، وهو في غِنىً عنه بالأكل بالحلال، وعلى هذا التفسير فهي كالتكميل لقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} والقول الأول أولى؛ لأن التأسيس مقدم على التأكيد (¬1). وقال بعض العلماء: {غَيْرَ بَاغٍ} أي: باغٍ مُتَشَهٍّ في نيل الحرام {وَلاَ عَادٍ} أي: مجاوز قَدْر سَدِّ الرَّمَقِ إلى الشبع، إلى آخر الأقوال التي قَدَّمْنَاهَا في البقرة. هذا معنى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}. ¬

(¬1) في هذه القاعدة انظر: البحر المحيط للزركشي (2/ 117، 120)، شرح الكوكب المنير (1/ 297) شرح مختصر الروضة (3/ 747 - 748)، أضواء البيان (3/ 355)، (5/ 759)، (6/ 244 - 245، 692)، (7/ 414، 821).

قال بعض العلماء: يَلْحَقُ بِالبَاغِي والعَادِي كل مسافر سَفَراً حراماً، فإنه لا يترخص في أكْلِ الميتة، كالذي يُسَافِرُ لقطيعة الرَّحِم، أو يسافر ليقتل رجلاً مُعَيَّناً مسلماً، ونحو ذلك من السفر الحرام، فإنه لا يباح له أكل الميتة وإن ألجَأَهُ الجوع (¬1). والذين يقولون هذا يقولون: كذلك لا يترخص بِقَصْرِ الصلاة، فَعَلَيْهِ أن يصليها رباعية؛ لأن الرخصة وُجِدَت من باب التسهيل فكأنه إعانة له على ظُلْمِهِ، والله (جل وعلا) يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: الآية 2] فكأن إباحة الميتة له والتسهيل له بقصر الصلاة إعانَة له على ظُلْمِهِ، وهذا معنى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} {فَإِنَّ رَبَّكَ} أي: خالقك وسيدك {غَفُورٌ} ومن مغفرته أنه يبيح له الأكل عند الضرورات {رَّحِيمٌ} بِعِبَادِهِ، ومِنْ رَحْمَتِهِ: أنه أباح لهم ما اضطروا إليه، وألجأتهم إليه الضرورات، وهذا معنى قَوْلِهِ جل وعلا: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. يقول الله جل وعلا: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: الآية 146]. لما بيَّن الله (جل وعلا) أشياء حَرَّمَها على هذه الأمة على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان حرمها عليهم لمصالح مَعْلُومة عنده (جل وعلا)، بيّن أنَّهُ حَرَّمَ على اليهود بعض الأشياء مؤاخذة لهم وجزاءً لهم باجترامهم ¬

(¬1) انظر: المغني (11/ 75)، القرطبي (2/ 232)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 58).

السيئات، قال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} المراد بالذين هادوا هنا: اليهود، والعرب تقول: «هاد يهود» إذا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ ورجع إلى الصواب، وهذا معروفٌ في كلام العرب، ومنه قول الله في الأعراف عن نبيه موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: الآية 156] أي: تبنا ورجَعْنَا منيبِين إليك. فمعنى (هاد، يهود): إذا رجع تائباً إلى الحق، مُتَنَصِّلاً مِنْ ذَنْبِه (¬1)، واسم فاعله: (هائد)، ويُجمع على (هُوْد)، ومنه: {كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: الآية 135] وجَمْعُ (الفاعل) على (فُعْل) مسموعٌ في أوزانٍ قليلة، كهائدٍ وهُود، وحائلٍ وحُول، وعَائِذٍ وعُوْذ، وبَازِلٍ وبُزْل (¬2). وقد قال بعض الأدباء (¬3): يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ هُدْ هُدْ ... وَاسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُدْ فقوله أولاً: «هُدْ، هُدْ» معناه: تُبْ، تُبْ. «واسجد كأنك هُدْهُدْ» وهو الطائر المعروف. يعني: وإنما قيل لليهود: {الَّذِينَ هَادُواْ} لأنه في تاريخهم توبة عظيمة سَجَّلَهَا لهم القرآن، وهي توبتهم من عبادة العِجْلِ، لما رَجَعَ موسى مِنَ المِيقَاتِ من الطور، ووجدهم يعبدون العجل، جاء الوحي بأنَّ اللهَ لا يقبل توبة أحدٍ منهم ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 405). (¬2) انظر: السابق (2/ 69)، والحائل: الأنثى التي لم تحمل (المصباح المنير، مادة: حول، ص60). والبازل: البعير الذي فَطَرَ نابُه بدخوله في السنة التاسعة (المصباح المنير، مادة: بزل، ص 19). (¬3) نسبه المرزوقي للزمخشري كما في شواهد الكشاف ص 29. وهذه النسبة غير صحيحة؛ لأن الزمخشري حينما أورده في الكشاف (2/ 96) قال: «ولبعضهم» وذكره. وأوله: «يا راكب ... ».

حتى يُقَدِّمَ نَفْسَهُ لِلْمَوْتِ، كما قدمنا إيضاحه (¬1) في البقرة في قوله: {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: الآية 54] أي: فَقَدَّمْتُمْ أنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، هذه التوبة التي تجر الإنسان إلى أن يقدم نفسه صابراً محتسباً على الموت توبة عظيمة سَجَّلَها لهم القرآن؛ ولذلك ربما أُطلق عليهم اسم: (الذين هادوا): تابوا؛ أي: بتلك التوبة المعروفة، وإن كانت هذه حسنة فخسائسهم المذكورة في القرآن لا تكاد أن تُحْصَر. {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} معناه: أن كل حيوانٍ له إصبع فيها ظفر حرام على اليهود، ومن ذلك: الإبل، والنعام، والإوَز، والبط، وما جرى مجرى ذلك؛ لأن كل هذه من ذوات الظفر، فكل حيوانٍ ذي ظفر كان محرَّماً على اليهود جِميعه؛ شحمه ولحمه، كالنعام، وكالإبل، وكالبط، والإوَزّ، وما جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ (¬2). وقول بعض العلماء: الظّفُر: الحافر، فإنه يحرم عليهم كل ذوات حافر (¬3)، غير صحيح؛ لأنهم يعدّون أظلاف البقر والغنم من ذوات الحوافر، ولحومهما مباحة لهم كما سيأتي. وقول بعضهم: المراد بذات الظفر هي: ذات المخالب، أو ذات السباع من الطير (¬4). لا يُسَاعِدُهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ، فالصَّحِيحُ أنَّهُ مَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 198)، القرطبي (7/ 125). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 125). (¬4) المصدر السابق. ولفظه: وقيل: يعني كل ذي مخلب من الطير، وذي حافر من الدواب. اهـ.

كالبعير، وما كَالنَّعَامَةِ، وما كالْبَطِّ، وما كالإوَز، وما جرى مجْرَى ذلك. وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} أي: حَرَّمْنا عليهم شحوم البقر والغنم لا لحومهما. والتحقيق: أن الشحوم المحرمة عليهم من البقر والغنم مقصورة على الثروب، وشحم الكليتين (¬1). والثُّرُوب: جمع ثَرْب؛ وهو الغِطَاءُ -الغِشَاءُ- من الشَّحْمِ الرَّقِيقِ الذي يغطي الجوف فيكون على الكَرِشِ والمصَارِين (¬2)، هذا وشحم الكُلَى هو الحرام عليهم، أما غيره فيدخل في الاسْتِثْنَاءَاتِ الآتية؛ ولذا قال: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} قرأ بعض السبعة: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} بإظهار التاء، وقرأ بعضهم: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} بالإدغام -الإدغام الصغير (¬3) - يعني: أن ما عَلق بظهر البقر والغنم من الشحوم، كالشرائح التي تكون على الظهر من الشحم، فإنها مباحة لهم (¬4). وقوله: {أَوِ الْحَوَايَا} التحقيق أن {أَوِ الْحَوَايَا} في محلِّ رَفْعِ مَعْطُوفٍ عَلَى الظهور (¬5)، يعني: إلا ما حملت ظهورُهُمَا أو ما ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 201)، القرطبي (7/ 125). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 125)، المصباح المنير (مادة: ثرب) ص 31. (¬3) انظر: السبعة لابن مجاهد ص 124، الكشف لمكي (1/ 135). (¬4) انظر: ابن جرير (12/ 202). (¬5) انظر: ابن جرير (12/ 203)، القرطبي (7/ 125)، البحر المحيط (4/ 244)، الدر المصون (5/ 203).

حملته الحَوَايا، فهو مستثنى بالتَّحْرِيمِ، خلافاً لمَنْ زَعَمَ أنَّ الحَوَايَا يعني منصوباً معطوفاً على شحومهما، حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا، فهي محرَّمَة، فهذا القول ضعيف مرجوح (¬1)، والمعنى: أن ما حملته الظهور من الشحوم حلالٌ لهم، وما حملته الحوايا. والحوايا: تختلف فيها عبارات المفسرين بألفاظٍ متقاربة، معناها راجعٌ إلى شيء واحد (¬2)، منهم من يقول: هي المبَاعِر؛ أي: المَحَال التي يجتمع فيها البَعْر والزّبل. ومنهم من يقول: هي بنات اللَّبن، ويسمونها بأسماء، والتحقيق: أنها كل ما كان مُدَوَّراً في البطن مما يُسَمَّى: الدُّوارَة، والمصارين، ومحل البعر الذي يخرج منه، ما تَعَلَّق بذلك الجوف من الشحوم غير الثُّرُوب التي هي غشاء فوق الجوف، كل ما تعلق بذلك فهو حلال لهم، وهذا معنى: {أَوِ الْحَوَايَا} وهو جمع (حاوية)، كقَاصِعَة وقَاصِعَاء (¬3). وقيل: جمع (حويَّة) كـ: (فَعِيْلَةٍ) و (فَاعِلَة) (¬4) وهي ما احْتَوَتْ عَلَيه البطن من الأمْعَاءِ، وما جرى مجراها من الدُّوَّارَة والمَبَاعِر، ونحو ذلك، فالمتعلق بهذا من الشَّحْمِ لا يَحرم عليهم، وإنما يحرم عليهم الثُّرُوب، وهي الغشاء الذي فوق الكرش والأمعاء من الشحم، وشحم الكُلَى. وهذا معنى قوله: {أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 203). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 203)، القرطبي (7/ 126)، الدر المصون (5/ 206). (¬3) في القرطبي (7/ 126): «وواحد الحوايا: حاوياء، مثل: قاصعاء وقواصع. وقيل: حاوية. مثل: ضاربة وضوارب. وقيل: حويَّة، مثل: سفينة وسفائن» اهـ, وانظر: الدر المصون (5/ 206). (¬4) نفس المصدر السابق.

والتحقيق أن: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} معطوف على المستثنى الحلال (¬1)، أي: فما اختلط بالعظم فهو حلالٌ لهم، فكل شحم مختلط بعظم كالشحم الذي يكون في عظام البقرة والشاة فكله حلَالٌ لهم. ويدخل فيه الذَّنَبُ الكبير السمين الذي يسمى الألية فإنه مختلط بعظم؛ لأنه مختلط بعظم العصعص، وهو عجب الذنب المعروف، ويدخل في {مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}: شحم العينين، وشحم الأذنين، وكل شحم اختلط بعظم فإنه حلالٌ لهم، وهذه الاستثناءات تبين أن الحرام عليهم إنما هو الثُّروب، وشحم الكُلَى فقط، وهذا معنى قوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}. ثم بيَّن الله أنه حرَّم عَلَيْهِمْ بعض هذه المحرمات بسبب ظلمهم، فضَيَّقَ عليهم بالتحريم لمخالفتهم واجترامهم، كما بَيَّنَهُ في النساء بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: الآيتان 160، 161] أي: وقتلهم الأنبياء، وتحريفهم للكتب، كل هذه الذنوب حُرِّمَ عليهم بسببها بعض الطيبات؛ ولذا كان نَبِيُّ الله عيسى ابن مريم (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) بُعث بأن يكون جميع عَمَلُهُ وأحكامه في الغالب عملاً بالتوراة، ولا يزيد إلا أن يُحلل لهم بعض ما حُرِّمَ عليهم بسبب ذنوبهم، كما سيأتي في قوله عن عيسى ابن مريم: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: الآية 50] فجاء تخفيف وتحليل على لسان عيسى ابن مريم، ولكنهم -قبحهم الله- لعداوته ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 205)، القرطبي (7/ 125)، البحر المحيط (4/ 244 - 245)، الدر المصون (5/ 207).

لم يقبلوا منه شيئاً، وزعموا أنه ابن زانية!! وقد يُشْكِلُ على كثير من الناس أنَّ مَنْ يزعمون أنهم على دين النصرانية دائماً يَفْصِلُون الدين من السياسة، ويزعمون أن الدين مقتصر على الكنيسة، وأنه لا دخل له في تنظيم العلاقات البشرية والأعمال الدنيوية!! وسبب ذلك: أن النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى ابن مريم، ودين عيسى ابن مريم جُلّ شريعته التي فيها الحلال، والحرام، والحدود، وإقامة صلاح المجتمع إنما هو بالكتاب الذي هو التوراة، وفي الإنجيل زيادات ليس فيها شرعٌ قائمٌ مستقل، فالنصارى لشدة بغضهم لموسى كذبوا بكتابه، ولم يأخذوا من شريعة عيسى إلا ما اختص به الإنجيل، وتركوا ما في التوراة مما بُعث عيسى بالعمل به، وصارت ليس في الإنجيل شريعة كاملة وافية يُفَصَّل فيها الحلال والحرام وأحكام علاقات الدنيا، فاضطروا إلى أن يجعلوا تشريعاً سموه (الأمانة الكبرى) وهي الخيانة العظمى!! كما هو معروف في تاريخهم (¬1). أما التوراة فهو كتابٌ فيه شرعٌ واضح تُبيَّنُ فيه العقائد، والحلال والحرام، وكل شيء، كما قال الله (جل وعلا) عن التوراة: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: الآية 145] مع أن الإنجيل جاء به بعض الأحكام: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ} [المائدة: الآية 47]. وكثيرٌ من أحكام الإنجيل يُحال فيها على ما أنزل الله على موسى في التوراة، كما قال الله في التوراة: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة: الآية 44]، وهذا معنى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 366).

هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}. {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} ذلك التحريم والتضييق جزيناهم بسبب بغيهم، أي: كفرهم وظُلْمِهم وعُدْوانِهِمْ، كما بَيَّنَهُ بقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: الآيتان 156، 157]، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: الآيتان 160، 161] وكقوله: {وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ} [النساء: الآية 155]، وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: الآية 21] هذا الظلم والبغي حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بسببه بعض ما كان حلالاً عليهم، كما قال هنا: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ}. وفي إعراب (ذلك) وجهان معروفان (¬1): أحدهما: أنها في محل رفع، الأمر ذلك الذي قصصنا عليك جَزَيْنَاهُمْ ذلك الجزاء ببغيهم. الثاني: أنها في مَحلِّ نَصْبٍ بِمَصْدَرٍ، أي: جزيناهم ذلك الجزاء، وهذا الإعراب اختاره غير واحدٍ، ولكن ابن مالك قال: إن اسم الإشارة لا يكون منصوباً على المصدر إلا إذا ذُكر بعده المصدر، كأن تقول: قمت هذا القيام، وقعدت ذلك القعود. أما لو لم تَذكر بعده المصدر كأن قلت: قمت هذا، تعني: القيام، أو جلست هذا، ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 245)، الدر المصون (5/ 207).

تعني: الجلوس، يزعم ابن مالك أن هذا لا يجوز (¬1). وقال بعض العلماء: هي مفعول أول لـ (جزيناهم)؛ لأن (جزى) تتعدى لمفعولين، تقول: جزيت عمراً خَيْراً، وجزيته شرّاً، فتكون (ذلك) أحد مفعولي (جزى)، أي: جَزَيْنَاهُمْ ذلك الجزاء بِبَغْيهِمْ، فتكون مفعولاً به مقدَّماً، وعليه فلا إشكال. والبغي: أصله الإرادة (¬2)، وكثيراً ما يستعمل في إرادة الظّلم. وقوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} صيغة الجمع للتعظيم، والله يقول: إني لصادق. معظماً نفسه، ومعلوم أن الله صادق على كل حال {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} [النساء: الآية 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} [النساء: الآية 87]. والسبب في هذا أن اليهُودَ زعَمُوا أن هذا الذي حُرِّمَ عليهم لم يكن جزاءً ولا عُقُوبَة، بل إنما كان حَرَاماً على إسرائيل، حَرّمَه إسرائيل على نفسه فاقتدوا به (¬3)، وقد تقدم أن الله أكذبهم في هذه الدعوى وألقمهم فيها حجراً في سورة آل عمران، في قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: الآية 93] فلما أفحمهم وقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} خجلوا ولم يأتوا بالتوراة، وعلموا أن القرآن مهيمنٌ على الكتب، كما قال: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: الآية 48] ولذا قال هنا: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِيما ذَكَرْنَا مِنْ أنَّا حَرَّمْنَا عليهم ذلك لظلمهم، لا أنه حَرَّمَهُ إسْرَائِيل على نفْسِه، ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 245)، الدر المصون (5/ 208). (¬2) انظر: المفردات (مادة: بغى) 136. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 206).

والذي حَرَّمَهُ إسرائيل على نفسه قد قدمنا في سورة آل عمران أن المفسرين يذكرون أن نَبِيَّ الله يعقوب أصابه المرض المسمَّى بعرق النسا وآلمه جِدّاً، فنذر لله إن شفاه الله ليُحَرِّمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه، وكان هذا النذر سائغاً في شرعهم إذ ذاك، فشَفَاهُ الله، فإذا أحب الشراب إليه لبن الإبل، وأحب الطعام إليه لحم الإبل، فَحَرَّمَهما على نفسه لذلك النذر (¬1)، وأن هذا معنى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: الآية 93] أي: وهو لبن الإبل ولحمها، وقد قدمنا في تفسير البقرة أن سيد اليهود المسلمين عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أنه لمَّا أسلم فحَسُن إسلامه كان يتقي [أكل] لحم الإبل (¬2) لِمَا كان متمرناً عليه من تحريمِهِ، فنزل فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} (¬3) [البقرة: الآية 208]. أي: ادخلوا في فُرُوعِ الإسلام وأحكامه بجميعها، لا تحرِّمُوا شيئاً أحَلَّهُ الإِسْلَام، ولا تَمْتَنِعُوا مِنْ أكْلِ شيء أحله الإسلام، وإن كان محرَّماً في شرع قَبْلَهُ، وهذا معنى قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ}. ومن أعظم بغيهم: افتراؤهم على مَرْيَم البتول، ودعواهم عليها أنها زانية؛ حيث قالوا لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28)} [مريم: الآية 28] يعنون: لم يكن أبوكِ فاحِشاً زانِياً، ولم تكن أمك بَغِيّاً زانية، فمِنْ أَيْنَ أتَيْتِ بهذا الغلام؟! يعنون رميها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (92) من سورة الأنعام .. (¬2) في الأصل: «لحكم أكل» وهو سبق لسان. (¬3) أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 67 عن ابن عباس رضي الله عنهما وإسناده ضعيف. وذكره الحافظ في العُجَاب منبهاً على ضعفه (1/ 529).

بالفاحشة، كما بَيَّنَهُ الله بقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156)} [النساء: الآية 156] ومِنْ أعْظَمِ بَغْيِهِمْ -قَبَّحَهُمُ الله! - زَعْمُهُمْ أنَّهُمْ قَتَلوا المسيح ابن مريم، وأنهم صلبوه، وتصْدِيق الجَهَلَةِ النَّصَارى لهم في ذلك؛ ولذا كان شِعَارُهُمْ الصَّليب، يزعمون أنَّها الخشبة التي صلب عليها عيسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- والله -هو أصدق من يقول- يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: الآية 157]. واعلموا أن كثيراً مِنْ طَلَبَةِ العِلْمِ مِنَ المسلمين استحْوَذَتْ عليهم آراء الإفرنج، فزَعموا أن عيسى مات، وأن اليهود قَتَلُوه، وأنه ليس حيّاً الآن، وأنه لا يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وكل هذه أكاذيب إنما حمل عليها ضعافَ طلبة العلم اغترارُهم بآراء الكفرة، وظواهر بعض النصوص، والحق الذي لا شَكَّ فِيهِ أن الأخبار متواترة (¬1) عن الصادق المصدوق -صلوات الله وسَلَامُهُ عليه- أنَّ اللهَ رَفَعَ عِيسى إليه حيّاً، وأنه حَيٌّ عند الله، وأنه يَنْزِل في هذه الأمة في آخر الزمان، وأن الله ينسخ على لسانه بعض الأحكام التي كانت مشروعة على لسان النبي، وهو أنه لا يقبل الجزية من أحد، فلا يبقى في زمنه إلا السيف أو الإسلام، ويقتل جميع الخنازير، ويضع الجزية، والتحقيق أن القرآن دلَّ على أنه حيٌّ، وأنه سينزل، وأن أهل الكتاب يؤمنون به؛ لأن الضمير في قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ¬

(¬1) انظر: إتحاف الجماعة بما جاء من الفتن والملاحم وأشراط الساعة (3/ 128)، إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان ص 7، أشراط الساعة للوابل ص 272، وقد نقل عن جماعة من أهل العلم القول بتواتر هذه الأحاديث ..

[النساء: الآية 159] التحقيق أنه عيسى، والمعنى: أنهم يؤمنون بعيسى قبل موت عيسى بعد نزوله، هذا التفسير هو الصحيح، وسياق القرآن يدل عليه، والأحاديث المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَدُلّ عليه، والدليل على أنه سياق القرآن: أن الله قال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ} أي: عيسى {وَمَا صَلَبُوهُ} أي: عيسى {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي: عيسى {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي: عيسى {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} أي: عيسى {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: الآيات 156 - 159] أي: عيسى، لتكون الضمائر على نسقٍ واحد (¬1). أما الرواية الأخرى التي جاءت عن ابن عباس أن المعنى: لا أحَدَ مِنْ أهْلِ الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل مَوْتِ أحَد أهل الكتاب، لا قبل موت عيسى، وأنهم قالوا لابن عباس: إذا قُطع رأسه غفلة فأين له أن يؤمن به قبل موته؟ وأنهم زعموا أنه قال: ينطق لسانه بعد أن فارق رأسُهُ جُثَّتَه بالإيمان بعيسى (¬2). هذا لا يخفى ضعفه وبطلانه، وعدم مساعدته على سياق القرآن، وكم من كِتَابِيٍّ يموت فجأة لا يؤمن بعيسى؟! فالتحقيق هو الأول، وقد دلت عليه الأحاديث المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (7/ 263 - 265)، قواعد التفسير (1/ 415). (¬2) هذا القول ثابت عن ابن عباس (رضي الله عنهما) من وجوه وطرق متعددة. وقد أخرج جملة منها ابن جرير في التفسير (9/ 382 - 386)، وابن أبي حاتم (3/ 1113 - 1114) وذكرها ابن كثير (1/ 576 - 577). وقال: «فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس. وكذا صح عن مجاهد، وعكرمة، ومحمد بن سيربن، وبه يقول الضحاك، وجويبر» اهـ.

[20/أ] نعم يبقى لطالب العلم هنا سؤال معروف وهو أن يقول:/ إن الله قال: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [آل عمران: الآية 55] فيقول: إن الله قال: إنه مُتَوَفِّيك، وقال بعد ذلك: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فهذا دليل على أنه توفاه، وقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: الآية 117]. أما قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فلا يستدل به إلا جاهل؛ لأن هذا من كلام عيسى يوم القيامة، ومعلوم أنه لا يأتي يوم القيامة إلا وقد مات عيسى، وإن كان حيّاً إلى آخر هذه الأمة؛ لأن ذلك يوم القيامة، يقول الله له: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} إلى أن قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة: الآيتان 116، 117] كل هذا قوله يوم القيامة، ومعلوم أنه يوم القيامة لا بد أن يكون تَوَفَّاهُ الله، بَل آية المائدة هذه تدل على أنّ توفيه الذي توفاه به ليس قبض روح؛ لأنه لم يقابله بالحياة؛ لأنه قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ولم يقل ما دمت حيًّا، وقابل ديمومته فيهم بقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فَعَلِمْنَا أنها وفاة جسد وروح لا وفاة روح فقط، إذ لو كانت وفاة روح لما قابلها بقوله: {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ولقابلها بقوله: «ما دمت حيًّا»؛ لأن الذي يُقابل بوفاة الروح إنما هو الحياة كما قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: الآية 31] ولم يقل: ما دمت فيهم. والجواب عن قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: الآية 55] من أوجه متعددة (¬1): ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (6/ 455)، القرطبي (4/ 99)، ابن كثير (1/ 366)، أضواء البيان (1/ 280).

أولها: أنه أجمع أهل اللسان العربي الذي نزل به القرآن أن العرب تقول: «توفَّاه، يتوفاه» إذا قَبَضَه إليه كاملاً تامّاً، كما تقول العرب: توفيتُ دَيْني من فلان؛ أي: قبضته، ولكن إطلاق التوفي على خصوص قبض الروح دون البدن اصطلاح عُرْفِيّ لا لغوي، فالاصطلاح اللغوي: يطلق على التوفي وقبض الشيء ببدنه ورُوحِهِ جميعاً (¬1)، وإطلاقه على الروح دون البدن إطلاق عُرْفِيّ لا لُغَوِي، ومع أن المعروف في الأصل عند أكثر العلماء أن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللّغَوية (¬2)، وأن الله إذا قال: توفى الله فلاناً. أن الأغلب الذي يسبق إلى الذهن أنها الروح دون الجسم؛ لأن هذا هو العُرْف، والعُرف ينسخ الحقيقة اللّغَوِيَّة، ولكن الحقيقة اللغوية هنا التي هي: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}؛ أي: قابِضك إليَّ كاملاً، ورافعك إليَّ بروحك وجسمك، هذه الحقيقة اللغوية وإن كانت تقدم عليها العُرْفِيَّة التي هي (قبض الروح دون البدن) إلا أنها اعتضدت بأحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصارت حقيقة لغوية معتضدة بأحاديث متواترة، ولا إشكال في ذلك. الثاني: أن الله لما أراد قَبْضَ عِيسَى إِلَيْهِ ألْقَى عليه النوم لئلا يزعجه الارتفاع إلى العالم العلوي، فقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: مُنِيمُكَ وقابِضُكَ في نَوْمَه، والعرب تطلق الوفاة على النوم، وجاء في القرآن إطلاق الوفاة على النَّوْمِ في مَوْضِعَيْنِ: ¬

(¬1) انظر: اللسان (مادة: وفى) (3/ 961). (¬2) انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 473 - 476)، شرح الكوكب المنير (3/ 433 - 436)، المذكرة في أصول الفقه 174 - 175، أضواء البيان (3/ 100)، (6/ 522)، (7/ 268)، نثر الورود (1/ 156)، قواعد التفسير (1/ 151).

أحدهما: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} أي: يعني في النوم {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام: الآية 60]. الثاني: قوله في الزمر: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: الآية 42]. الجواب الثالث: أن الله نعم قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: الآية 55]، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما، ولكنه لم يبين وقت ذلك التوفّي هل هو فيما مضى أو سيأتي بعد آلاف السنين؟ والتَّحَكُّم على الله بأنه أوقعه تَحَكُّم بلا دليل، والله متوفيه قطعاً وليس بمخلده، ولكن لم يُعَيِّن ذلك التوفي. فإن قال قائل: هذا التوفي قبل الرفع؛ لأنه قال بعده: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}. فالجواب: أن جماهير علماء العربية أن الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي التشريك (¬1) فيجوز بإجماع أهل اللسان العربي أن يكون المعطوف بها سابقاً على المعطوف عليه، تقول: «جاء زيدٌ وعمرو» ويكون عمرو هو الأول؛ لأن الواو إنما تقتضي التشريك فقط؛ ولذا قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: الآية 7] فقدم النَّبِي، وعطف عليه نوحاً بالواو، ونوح قبل النبي، وهذا لا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ العلماء. ¬

(¬1) انظر: الصاحبي 156، البحر المحيط للزركشي (2/ 253)، شرح الكوكب المنير (1/ 229)، مجموع الفتاوى (16/ 77)، أضواء البيان (7/ 269).

فإن قال قائل: قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث يدل على أن الواو تقتضي الترتيب، وهو تفسيره للواو في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} [البقرة: الآية 158] فبدأ بالصفا، وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» (¬1) وفي بعض رواياته: «ابدَؤُوْا بما بدأ الله به» (¬2). فالجواب عن هذا هو ما أجاب به غير واحد من علماء العربية: أن الواو من حيث وضعها العربي لا تقتضي تقديماً ولا تأخيراً، وإنما تقتضي مطلق التشريك، سواء كان المعطوف بها هو الأول أو هو الآخر، أو كانا مجتمعين في وقت واحد، كقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: الآية 15] لأن إنجاءهما في وقت واحد، إلا أنه إذا دلّ دليل خارجي على أنها يراد بها الترتيب فلا مانع، ولكن الترتيب بذلك الدليل الخارجي لا لأصل الواو في نفسها، ومنه قول حسّان، على من رواه بالواو (¬3): هَجَوْتَ مُحمداً فأجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ لأن الإجابة إنما هي بعد الهجاء لا مانع من أن تقتضي الترتيب إذا دل عليه دليل خارجي، وهنا لم يدل عليه دليل خارجي، وجماهير المفسرين - كما قاله كبير المفسرين أبو جعفر الطبري- أن معنى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: قابضك إليّ كاملاً وافياً بِجَسَدِكِ وروحك، ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم (1218) (2/ 886). (¬2) الحديث بهذا اللفظ: أخرجه أحمد (3/ 394)، الدارقطني (2/ 254)، والبيهقي (1/ 85). وقد حكم بعض العلماء على هذه اللفظة بالشذوذ. انظر: التلخيص الحبير (2/ 250)، خلاصة البدر المنير (2/ 11)، نصب الراية (3/ 54)، إرواء الغليل (4/ 316). (¬3) انظر: ديوان حسان ص 20.

وإنما كانت الحقيقة اللغوية هنا مقدمة على العُرْفِيَّة -التي هي قبض الروح-[لأمرين] (¬1): أحدهما: أن الله قد ثبت أنه رفع جسم عيسى إليه، والأحاديث الدالة المتواترة عن النبي أن الله رفع عيسى. وعلى كل حال فالمعروف عن الذين قتلوه أنهم قتلوه بأن صلبوه، والله نفى هذا الصلب نفياً باتّاً، قال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء: الآيتان 157، 158] فنفى أنهم قتلوه نفياً يقيناً، وهم معذورون؛ لأنهم ظنوا أنهم قتلوه، والله بَيَّنَ السبب الذي جاءهم منه الكذب والغلط؛ لأنه قال: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: الآية 157] لأن الله ألقى شبهه على رجل فصار مَنْ نظر إلى ذلك الرجل يجزم بأنه عيسى؛ لأن الله ألقى شبه عيسى عليه، فصار الناظر إليه لا يشك في أنه عيسى، فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه، واعتقدوا أنه عيسى، فبَيَّنَ الله سَبَبَ كَذِبِهِم، وعُذْرهم في غلطهم فقال: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أما هو نفسه فَقَدْ رَفَعَهُ اللهُ إليه، وهو عند الله (جل وعلا)، وسينزل في هذه الأمة آخر الزمان، ويقتل الدَّجَّال، وهذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتاً لا مطعن فيه، وإن أحْيَا الله مَنْ أدْرَكَهُ من هذه الأمة سيجد أخبار الصادق المصدوق حقّاً، وسيجد خرافات الكذابين من أتْبَاعِ الإفرنج باطلاً؛ لأن الله أصدق من يقول، وهو يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} ويقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء: الآيتان 157، 158]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} [النساء: الآية 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} [النساء: الآية 87] الله أصدق من يقول. ¬

(¬1) في الأصل: أمران.

{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ (147)} [الأنعام: الآية 147]. الواو في قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ} قال بعض العلماء (¬1): راجعة إلى اليهود؛ لأنهم أقرب مَنْ ذُكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} فإن كذبوك وقالوا: لم تُحرم علينا هذه الأشياء جزاءً ببغينا، بل ما كان حراماً علينا إلا ما حَرَّمَهُ إسرائيل على نفسه {فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}. الوجه الثاني: أنه راجع إلى كفار مكة الذين أُرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبَيَّنَ لَهُم أن شركهم بالله باطل، وأن تشريعهم الحلال والحرام بالكذب باطل، فإن كذبوك وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، والبَحِيْرَة حق، والسائبة حق، وما جرى مجرى ذلك، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة. وقال بعض العلماء: يرجع إلى الجميع، فإن كذبك الكفرة المعادون المعاندون من مشركين ويهود فقل لهم: ربكم الذي أنشأكم وأوجدكم ذو رحمة واسعة، إلا أن هذه الرحمة الواسعة ذكر الله في سورة الأعراف أنها مخصوصة بالمتقين حيث قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: الآية 156] لا لكل كافر وفاجر. وقد قَدَّمْنَا فِي تَفْسِير (البسملة) و (الفاتحة) أن (الرَّحْمَةَ) صفة من صفات الله، اشتق لنفسه منها اسم (الرحمن) و (الرحيم)، وأن ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 207)، البحر المحيط (4/ 245 - 246)، الدر المصون (5/ 209).

(الرحمن) هو: ذو الرحمة الشاملة في الدنيا لجميع المخلوقين [في الدنيا، و (الرحيم): هو الذي يرحم عباده المؤمنين في الآخرة] ( .... ) (¬1). {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: الآية 144] {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة: الآية 6] ووصف بعض خلقه بالكلام فقال: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: الآية 54] وقال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس: الآية 65] ولا شك أن لله كلاماً لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوقين كلام مناسب لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة كما بَيْنَ ذات الخالق والمخلوق. هذه صفات المعاني السبع (¬2) التي أقرّ بها من جحد كثيراً من الصفات. ¬

(¬1) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، وجرت عادة الشيخ رحمه الله في مثل هذا الموضع أن يذكر عقيدة أهل السنة في باب الصفات، وأنها تنبني على ثلاثة أسس، ثم يذكر عقيدة المُتَكَلِّمِينَ في هذا الباب وتقسيمهم الصفات قسمة سُداسية، ثم يرد عليهم، وهو كلام طويل أكتفي بالإحالة عليه في أحد المواضع، وذلك عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام، وكذا محاضرة الشيخ (رحمه الله) في الأسماء والصفات، وهي مطبوعة بعنوان: (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات). انظر ص 13 - 16، 19 - 22 من المطبوع. تنبيه: ما بين المعقوفين زيادة تم بها استدراك بعض النقص المتعلق بالكلام على صفة (الرحمة) وقد نقلته من كلام الشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية (133) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: شرح المواقف ص 75 فما بعدها، الاقتصاد في الاعتقاد ص 53 فما بعدها، منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص13.

كذلك الصفات التي يسمونها السَّلْبية، والصفة السَّلْبِية في اصطلاح المتكلمين: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودِيٍّ، وإنما تدل على سَلْبِ ما لا يليق بالله عن الله، وهي عند المتكلمين خمس صفات (¬1)، وهي: البقاء، والقِدَم، والغِنَى المطلق- الذي يسمونه: القيام بالنفس، يعنون به: الاستغناء عن المحل والمُخَصَّص- والمخالفة للخلق، والوحدانية. أما القِدَم والبقاء: فالمتكلمون أثبتوهما لله، وقد قال بعض العلماء: إنه ورد في مثل ذلك حديث، وبعضهم ينفي صِحَّتَهُ، والمتكلمون يقصدون بهما معنىً صحيحاً؛ لأن القِدَمَ عِنْدَهُمْ: هو سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ، والبقاء: هو سَلْب العدم اللاحق، زَاعِمِينَ أن الله أثبتهما لِنَفْسِهِ في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: الآية 3] أي: الأول الذي لا ابتداء لأوَّلِيَّتِهِ، والآخِر الذي لا انتهاء لآخِرِيَّتِه. قالوا: هذا معنى القِدَمِ والْبَقَاءِ. فنقول: القِدَم وَصفَ الله به المخلوقين، قال: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: الآية 39] {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: الآية 95] {أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: الآية 76] والبقاء وَصَفَ به الحادث؛ حيث قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: الآية 77] {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} [النحل: الآية 96] والوحدانية وَصفَ بها نفسه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: الآية 163] ووصف بعض المخلوقين بها قال: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ} [الرعد: الآية 4] والغِنَى وَصَفَ به نفسه: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: الآية 8]، ¬

(¬1) انظر: شرح المواقف ص 29 فما بعدها، منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 17.

{وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: الآية 6] وقال في بعض المخلوقين: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: الآية 6] {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ} [النور: الآية 32]. ولا شك أن ما وُصِفَ به الله من هذه الصفات مخالف لما وُصف به المخلوق، كمخالفة ذات الله لذات المخلوق، فلا مناسبة بين الذات والذات، ولا بين الصفة والصفة، فالله حق، وصفاته حق، والمخلوقون حق، وصفاتهم حق، إلا أن صفة كل بِحَسبِه، فصفة الله بالغة من الكمال والتَّنْزِيهِ ما تَتَعَاظَمُ أن تُشْبِه صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق تَتَعَاظَمُ أن تشبه ذوات المخلوقين. وهذه الصفات الجامعة (¬1)؛ كالعُلُوِّ، والكِبَر، والعِظَمِ، والمُلك، والجَبَرُوتِ، كل هذا جاء في القرآن العظيم وَصْفُ الخالق والمخلوق به، فقَدْ وَصَفَ تعالى نفسه بالعلو والكِبَر والعِظَم، قال في وصف نفسه بالعلو والعِظَم: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: الآية 255]. وقال في وصف نفسه بالعلو والكِبَر: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء: الآية 34] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ (9)} [الرعد: الآية 9] ( ... ) (¬2) فإن كذبوك وتمرَّدوا وكفروا فقل لهم، رغِّبْهُمْ ورهِّبْهُمْ، واجمع لهم بين الوعد ¬

(¬1) انظر الكلام على هذا النوع من الصفات في محاضرة الشيخ (رحمه الله) في الأسماء والصفات (ص 23 - 25). (¬2) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، ويمكن استدراك النقص بمراجعة محاضرة الشيخ (رحمه الله) في الأسماء والصفات (ص 17 - 19) مع مراجعة كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة في هذا التفسير عند الآية (133) من سورة الأنعام وغيره من المواضع بالإضافة إلى محاضرة (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات).

والوعيد، فأخْبِرْهُمْ أن ربك واسع الرحمة لمن أطَاعَهُ، يرحمه ويدخله جنته، شديد العقاب والنكال لمن عصاه؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين: هما جلب النفع ودفع الضر، ومن أمثال العرب: (سَوْط وتمرة) (¬1) ليكون الخوف والرجاء جناحين يطير بهما الإنسان إلى امتثال أمر الله، هذا الملك الجبار الذي أدعوكم إليه رحيم عظيم الرحمة الواسعة لمن أطاعه، شديد النكال والبأس لمن عصاه، فعليكم أن تخافوا بأسه ونكَالَهُ، وتَطْمَعُوا فِي رَحْمَتِهِ فتطيعُوهُ. قال بعض العلماء: ومن معاني قوله: {رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: الآية 147] حيث أمهلكم، وأغدق عليكم نعمه، وأعطاكم العافية والإمهال، وأنتم تكذبون رسله، وترتكبون مساخطه، وتتمردون عليه، فما أرحمه! وما أعظم لطفه (جل وعلا)! إلا أنه قال: {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ} إذا أراد بطشاً بقوم مجرمين لا يُرد بأسه عنهم، {بَأْسُهُ} أي: عذابه ونكَاله، لا يقدر أحد أن يَرُدَّهُ، لا بقوة ولا بشفاعة، ولا بغير ذلك، كبأس غيره من مُلُوكِ الدُّنْيَا الذي يُرَدّ بأسه بالقوة، ويُردّ بالشفاعة مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، فهو إذا أراد بقوم سوءاً فلا مردّ له. وكثيراً في القرآن أن يجمع اللهُ بَيْنَ الْوَعْدِ والوَعِيدِ، يَجْمَعُ بَيْنَ الخَوْفِ والطَّمَعِ، كقوله هنا: {ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ} وقوله في آخر هذه السورة: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: الآية 165]، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)} [الحجر: الآيتان 49، 50] ¬

(¬1) الذي وقفت عليه في كتب الأمثال: «تمرة وزنبور». كما في المستقصى في الأمثال للزمخشري (2/ 32)، معجم الأمثال العربية (1/ 270)، (2/ 311).

{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: الآيتان 2، 3] وقوله جل وعلا: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: الآية 6] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً أن لفظ (القوم) قال بعض العلماء: إنما سُمِّي قوم الرجل (قوماً) لأنه يرجع إليهم فيكونون قواماً له؛ لأنه لا يستغني الإنسان عن جماعة يستند إليهم فيُسَاعِدُوه في أمورِهِ. وقد قدمنا مراراً (¬1) أن القوم في الوضع العربي مُختص بالذكور، وأنه ربما دخل فيه الإناث بحكم التَّبَع، وبيَّنَّا أن الدليل على اختصاص القوم بالذكور: قول الله في الحجرات: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: الآية 11] فعطفه النساء على القوم يدل على المُغايرة، ونظيره قول زهير (¬2): وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ والدليل على دخول النساء في القوم بحكم التبع: قوله في بلقيس ملكة اليمن: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: الآية 43]. وقوله: {بَأْسُهُ} أي: عذابه ونكاله. وقوله: {المُجْرِمِينَ} هو جمع تصحيح للمجرم، والمجرم: اسم فاعل الإجرام، والإجرام: ارتكاب الجريمة، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من هذه السورة. (¬2) السابق.

والجريمة: الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه العذاب (¬1) كالذين كفروا بالله وجعلوا له الشركاء وسَاوُوا به شركاءه، وحَرَّموا ما رزقهم افتراء عليه، وحرَّموا وحلَّلوا بالباطل، وفعلوا الفواحش، وقالوا: الله أمرنا بها، هؤلاء كلهم من القوم المجرمين. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: الآية 148]. هذه الآية الكريمة من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر فيها عن أمر غيب، ثم تحقق ذلك الغيب طبقاً لما ذكر، قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ذكر أنهم سيقولونه في المستقبل، وهو أمر غيب، ثم بَيَّنَ الله أن إخباره عن ذلك الغيب وقع كما قال، بيّنه في (النحل) و (الزخرف)، حيث قال في (النحل): {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [النحل: الآية 35] وقال في (الزخرف): {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} [الزخرف: الآية 20] فتحقق ما قال: إنهم سيقولونه (¬2). وهذه شبهة جاء بها الكفار -عليهم لعائن الله- وتمسّك بها المعتزلة، فهذه الآية محطّ رِحَال عند المعتزلة في أن العَبْدَ يخلق عمل نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها (¬3) -سبحانه وتعالى عن قولهم وافترائهم- وكلام الزمخشري في هذه الآية في غاية الخبث والقبح؛ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: أضواء البيان (2/ 277). (¬3) مضى عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

لأنه يزعم أن هذه الآية تُبَرِّئ الله وتنَزِّهُهُ من أن يكون شيء من الشرّ بإرادته أبداً، وأن جميع الشرّ بإرادة العباد، في كلام قبيح خبيث (¬1). ولما أفْحَم القرآن الكفار في تحريم ما حَرَّمُوه بالأدلة والمناظرات، حيث قال: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام: الآية 143] وأفحمهم بالحجة في أنه لم يحرِّمْ هذا، وأفحمهم أنه ليس له شركاء، قال: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: الآية 141] وهو الخالق الصانع المدبر الذي لا حرام إلا ما حَرَّمَهُ، ولا حلال إلا ما أحَلَّهُ، ولا مَعْبُودَ إلا هو، لما أفحمتهم الأدلة، وألْقَمَتْهُمُ البراهينُ الحجر [قالوا كلمة] (¬2) حق أرادوا بها باطلاً، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا الكفر والتحريم، وتحريم البحائر والسوائب، وهذه الأنعام والحرث التي قلنا: إنها حِجْر، وهذا جَعْل النصيب لغير الله، هذا الكفر وهذا التحريم كله بمشيئة الله؛ لأن الله لو شاء أن يَمْنَعَنَا منه فهو قادر؛ لأنه قوي ونحن ضعفاء، فهو قادر جدّاً على أن يَمْنَعَنَا، فلما كان قادراً على مَنْعِنَا ولم يمنعنا عرفنا أنه راضٍ بفعلنا؛ لأنه إنْ رَآك تفعل شيئاً قبيحاً وهو قادر على أن يمنعك وتركك تفعله ولم يمنعك منه معناه أنه راضٍ بفعلك، وأنه حَسَنٌ عِنْدَهُ! هذا مقصودهم -قَبَّحَهُمُ الله! - كما أنهم لما قيل لهم: تصدقوا على المساكين! قالوا: الرِّزْق أكثر عند الله، وهو الذي خَلَقَهُ، والطعام أكثر عنده، فلو كان يُحِبّ أحداً أن يطعمه لأطعمه هو! كما يأتي في (يس) في قوله: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يس: الآية 47] فقد ¬

(¬1) انظر الكشاف (1/ 46). (¬2) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

احتجوا بهذه الحجة الباطلة، والكلام الذي هو من جهة حق أُريد به الباطل {لَوْ شَاء اللهُ} قالوا: نعم، إنّ شِرْكَنَا كُفْرٌ، وأنه مودي للنار، وإن ما حرمنا تحريمٌ افتراءٌ على الله، وأنَّا ندخل به النار، هذا الذي فعلنا بمشيئة الله، لو شاء الله عدم إشراكنا ما أشْرَكْنَا، ولو شاء أنْ لم نُحَرِّمْ شيئاً ما حرَّمْنَا شيئاً، فلما كان قادراً على مَنْعِنَا ولم يمنعنا دلّ ذلك على أنه راضٍ بفعلنا؛ ولذا قالوا: {لَوْ شَاء اللهُ} عدم إشراكنا {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} يعني: ولا أشرك آباؤنا، وإنَّمَا سَوَّغَ العطف هنا على ضمير الرفع المنفصل: الفصلُ بين العطف والمعطوف بـ (لا)، وهو مذهب الكوفيين، وهو صحيح؛ لأن القرآن جاء بمذهب الكوفيين هُنَا، وفي مذهب البصريين في (النحل)؛ لأن مذهب البصريين: أنَّ ضَمِيرَ الرفع المتصل لا يُعطف عليه إلا في الإتيان بضمير رفع منفصل كـ (نحن) في قوله في (النحل): {لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل: الآية 35] والكوفيون يقولون: يكفي أي فاصل (¬1) و (لا) هنا فاصلة، فهي تكفي، وهو الحق؛ لأن القرآن نزل به. {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 148] يعني هذا التحريم الذي فعلنا، والشرك الذي فعلنا هو بمشيئته، ولو شاء لمنَعَنَا، فلما لم يمنعنا عرفنا أنه راضٍ بفعلنا، وهذه الجُمل، قولهم منها: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} هذا كلام صحيح لا شك فيه، ولكنه كلام حق أُريد به باطل؛ لأنهم يزعمون أنه لما كان قادراً على منعهم ولم يمنعهم أن ذلك رضاً منه، والله يقول: ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 246)، الدر المصون (5/ 210)، التوضيح والتكميل (2/ 184)، النحو الوافي (3/ 630).

{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: الآية 7] فهو لا يَرْضَى بذلك الفِعْلِ، فهو أنْذَرَكُمْ وحَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ، وإن ارْتَكَبْتُمُوه فلا يَرْضَى بذلك الفعل، بل يدخلكم به النار، وحاصل هذا: أن الكفَّارَ احْتَجّوا بأن الله قادر على أن يمنعَهم [من الوقوع فيما وقعوا فيه] (¬1) من الشرك وتحريم ما حَرّموا، دلَّ ذلك على أنه راضٍ بذلك، فالله كَذَّبَهُمْ فِي هذه وقال: إن عدم منعه لهم مع قدرته على ذلك لا يدل على رضاه؛ لأن الله (جل وعلا) يأمر خَلْقَهُ جميعاً بالدعوة، ويُوَفِّقُ مَنْ شَاءَ، وَيَخْذِلُ مَنْ شَاءَ، فالذي وفّقَه للخير يرضى بفعله، والذي لم يُوَفِّقْه للخير لم يرض الله (جل وعلا) بالكفر، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا (¬2)، فالله (جل وعلا) قد أراد كوناً وقدراً كُفْرَ الكَافِرِين؛ لأن الله يقول: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: الآية 107] {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: الآية 13] {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: الآية 35] وهذا الكفر بمشيئته ولكنه ليس يرضاه، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا، وإنما يستلزم الرضا: الإرادة الشرعية الدينية، فما أحَبَّهُ الله شرعاً ورضيه ديناً وأراده ديناً هذا هو الذي يلازم الرِّضَا، أمَّا الإرَادَة الكونية القدرية فإنها لا تَسْتَلْزِم الرضا، فقد يريد الله كوناً وقدراً ما يَرْضَاهُ؛ كإيمان المؤمنين، وقد يريد كوناً وقدراً ما لا يرضاه ككفر الكافرين، وقد بَيَّنَّا احتجاج المعتزلة بهذا، وذكرنا بعض المناظرات التي توضح هذا (¬3)، والحاصل أن الله تبارك وتعالى ¬

(¬1) في هذا الموضع وُجد مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 475)، شرح الطحاوية ص 324 .. (¬3) راجع ما سبق عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

خلق خلقه، وسبق في سابق أزله أنَّ قَوْماً صائرون إلى الجنة، وقوماً صائرون إلى النار، ثم إن الله صرف بقدرته وإرادته قُدَرَهُم وإراداتهم إلى ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ الأزَلِيُّ، فأتَوْهُ طَائِعِينَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (¬1). وقَدْ بَيَّنَّا أنَّ عَبْدَ الجَبَّارِ المعتزلي لما جاء يَتَقَرَّب بهذا المذهب ويقول: «سبحان من تنزه عن الفحْشَاء!» يعني: أن الله لا يشاء السرقة والزنا؛ لأنهم يزعمون -في زَعْمِهِمُ البَاطِل- أن الله أكرم وأنْزَه وأجَلّ من أن تكون هذه القبائح بمشيئته؛ ولذا قال مُعَبِّراً عن هذا: «سبحان مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ!». فناظره أبو إسحاق الإسفراييني فقال: «سُبْحَان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!». فقال عبد الجبار: «أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟». فقال أبو إسحاق: «أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟». فقال عبد الجبار: «أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليَّ بالرَّدَى، دعاني إلى الخير، وأوضح لي طريق الخير، ولكن سدّ بابه دوني، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟!». قال: «إن كان الذي منعك حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان مُلكه المحض فإن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل» فَبُهِتَ عَبْدُ الجَبَّارِ. وقال الحاضرون: «والله ما لهذا جواب» (¬2). ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

وهذه المَسْأَلة بعينها هي التي ذكرنا أن البَدَوِيَّ الجاهل أسكت بها كبير المعتزلة عَمْرو بن عبيد المشهور الذي رثاه أبو جعفر المنصور؛ لأنه لما سُرقت له دَابَّة كان يعمل عليها، فجاء لعمرو بن عبيد فقال: ادع الله أن يردّها لي. قالوا: إنه قَامَ يَتَقَرَّبُ بهذا المذهب فقال: اللهُمَّ إِنَّها سُرقت، ولم تُرد سَرِقَتَها؛ لأنك أكْرَم وأجلّ وأَنْزه من أن تريد هذه الخسيسة القَبِيحَةَ! فالبدوي الجاهل قال له: نَاشَدْتُكَ الله يا هذا إلا ما كَفَفْتَ عني من دعائك الخبيث، إن كانت سُرقت ولم يُرِدْ سَرِقَتَها فقد يريد ردّها ولا تُرَدّ (¬1)! فهم حاولوا أن يُنَزِّهُوا الله عن أن تكون القبائح بمشيئته فَقَدَحُوا في قُدْرَتِهِ وإرَادَتِهِ، وجعلوا الخلق يفعلون شيئاً بلا قدرة الله ولا إرادته، أرادوا أن يُنَزِّهُوه فَقَدَحُوا في ربوبيته -والعياذ بالله- فمن كان منهم حسن الظن فقد وقع في أمر عظيم، ومن كان سيِّئَ الظن فهو سيِّئُ الظن، والإنسان قد يُحسن الظن ويريد البرّ ويقع في آثام عظيمة كبيرة، وقد قال الشافعي رحمه الله (¬2): رَامَ نفعاً فَضَرَّ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ ... وَمِنَ البِرِّ ما يكُونُ عُقُوقاً والحاصل أن الله (تبارك وتعالى) أعْلَمُ بخلقه، فخلق خلقه، وقدّر مقادير الكائنات قبل أن يخلقها، ثم إِنَّهُ خَلَقَ قَوْماً جَبَلَهُمْ على القبح والخساسة والخُبْثِ -عياذاً بالله! - وخلق قوماً جبلهم على الطهارة، ويسر كُلًّا لما خَلَقَهُ لهُ، فصَرَفَ الطَّيِّبينَ -صرف قدرتهم وإرادتهم- بقدرته وإرادته إلى ما شاء مِنْ خَيْر، فأتوه طائعين، فأدخلهم جَنَّتَهُ، وصرف قدرة قوم آخرين وإرادتهم بمشيئته وقدرته ¬

(¬1) السابق. (¬2) ديوان الشافعي ص 67.

إلى ما سبق به علمه فأتَوْهُ طائعين فدخلوا النار {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية30] فالله (جل وعلا) يَصْرِفُ قُدر الخلق وإراداتهم حتى يأتوا ما سبق به العلم الأزلي، يأتوه طائعين؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (¬1). ولا شك أن الجاهل يقول هنا: ما الحكمة عند الله وهو الرءُوفُ الرَّحِيم الكريم أن يخلق قوماً ويجبلهم على الخبث، ويصرف إراداتهم إلى ما يستوجبون به العذاب الأليم مع أنه الرّحْمَن الرحيم؟! هذا سؤال إلحادي قد يقع في قلوب كثير من الملاحدة. والجواب عن هذا: أن خالق السماوات والأرض الجبار (جل وعلا) غَنِيٌّ عن جميع الخلائق، غَنِيٌّ بذاته الغِنَى المطلق {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: الآية 8] وإنما خلق الخلق ليُظهر فِيهِمْ بَعضَ أسرار عظمته، وأسرار أسمائه وصفاته، فلو لم يخلق إلا المُطِيعينَ، ولم يكن -أبداً- إلا الثواب كان ذلك إدلالاً عليه، وسبباً للجراءة على الجناب الكريم؛ لأن الذي لا يخاف يدل بمحبته، وقد يقع في الجناب الأعظم بما لا يليق، ولما خلق قوماً أشقياء ظهر فيهم ما عنده من الإنصاف والحكمة البالغة، وظهر فيهم بعض أسرار أسمائه كالجبار، والقهار، وظهر فيهم عظمته وقوته وشدة عقابه ونكاله؛ ليحصل الخوف من جانب، وخلق قوماً آخرين ووفقهم إلى الخير؛ ليظهر فيهم بعض أسرار أسمائه وصفاته؛ من الرأفة، والرحمة، والحلم، والكرم، والجود؛ ليجمع بين المَحَبَّةِ ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

والخَوْفِ، فلو كانت محبَّة لا خوف فيها لكان لا عظمة في القلوب، ولوقع الناس في الجناب الإلهي؛ لأنهم لا يخافون من شيء، ولو كان خوفاً محضاً لا مَحَبَّةَ معه ولا رحمة لكان الكل يمقتون الله ويكرهونه، وكان ذلك غير لائق، فاقتضت الحكمة أن يقسم الخلق إلى صنفين؛ ليظهر في هؤلاء بعض أسرار أسمائه وصفاته؛ من الرَّأْفَة والرَّحمة والكرم والجود، وجبل قوماً آخَرِين على خلاف ذلك؛ ليُظهر فيهم بعض أسرار صفاته وأسمائه؛ من القوة والبطش والقهر والعظمة والجلال -سبحانه وتعالى- وله الحكمة البالغة في ذلك، وقد خلق خلقاً، وقال: هؤلاء للنار ولا أُبالي، وخلق قوماً وقال: هؤلاء للجنة ولا أُبالي. يقول الله جل وعلا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: الآية 148]. قد ذكرنا أن الكفار- قبحهم الله- لما أفحمتهم براهين القرآن وحججه في إشراكهم بالله، وتحريمهم ما أحل الله، وأفحمتهم براهين القرآن التجَؤوا إلى شبهة كافرة ضالة مُلْحِدَة، وقالوا: هذا الإشراك الذي تَنْهَانَا عنه يا نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التحريم الذي نحرِّمُه؛ كالبحيرة والسائبة، الذي تنهانا عنه، وتُقيم الحجج أنه حرام، نحن ما فعلناه إلا بمشيئة ربنا، فهو قادر على أن يمنعنا منه، لو شاء لمنعنا، ولمَّا تركنا عليه وهو قادر على مَنْعِنَا عرفنا أنه راضٍ عنَّا، وأن هذا الذي نفعل يرضيه؛ إذ لو كان لا يرضيه لمنَعَنَا منه؛ لأنه قادر على منعنا منه؛ إما مَنْعَ قَهْر، وإما منع لطف وتوفيق،

فيلطف بنا ويوفقنا! فصارت هذه المقالة شبهة فيها كلام حَقٍّ أُريد به باطل، فقولهم: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} هذا كلام حق لا شك فيه؛ لأنه لا يقع في الكون خير ولا شر، ولا تحريكة ولا تَسْكينة إلا بمشيئة الله {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: الآية 35]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: الآية 13]، {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: الآية 149]، فقول الذين أشركوا: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} هذا كلام صدق وحق لا شَكَّ فِيه. فَلِطَالِبِ العِلْمِ أنْ يَقُولَ: ما دام كلامهم حقّاً، وهم صادقون في قولهم: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} -أي: ولا أشرك آباؤنا- {وَلاَ حَرَّمْنَا} أي: نحن ولا آباؤنا شَيْئاً لم يحرمه الله؛ كالبحيرة والسائبة، وهذا الكلام الذي ذكر هنا أن الكفار سيقولونه في المستقبل صرح بأنهم قالوه في (النحل) و (الزخرف)، هو بالنظر إلى ذاته كلام حق لا شك فيه؛ لأن الله لو شاء ألا يشركوا ما أشركوا، ولو شاء ألا يحرموا شيئًا ما حرموا شيئًا. لطالب العلم أن يقول: إذا كان كلامهم هذا حقّاً، فَلِمَ قال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} وفي بعض القراءات -وقد تَمَسَّكَ بها المعتزلة لمذهبهم- قال: (كذلك كَذَبَ الذين من قَبْلِهِمْ) بالتخفيف (¬1)، فما وجه هذا التكذيب؟ وما قالوا إلا حقّاً. الجواب: أنَّهَا كَلِمَة حق أُريد بها باطل؛ لأنهم قالوا ذلك يستدلون به على أن الله راضٍ عنهم بفعلهم هذا، وهذه المقالة الكاذبة الكافرة هي التي أرادوها بكلامهم، فصار التكذيب مُنْصَبّاً عليها. ¬

(¬1) وهي قراءة شاذة. انظر: البحر المحيط (4/ 247)، الدر المصون (5/ 211).

المعنى عندهم: لو شاء الله أن لا نشرك ما أشركنا، فلما تَرَك بيننا وبين الشرك دلّ على رضاه به عنَّا! فادِّعَاؤُهُمْ أنَّ ذلك دال على الرضا هو محل الكَذِبِ، وهو الباطل الذي أرادوه بهذا الحق، وهو الذي يَنْصَبّ عليه التكذيب؛ ولذا قال لما قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} قدمنا أن هذه من المعجزات؛ لأنه أخبر عن غيب أنه سيقع قبل أن يقع جازماً بذلك ثم وقع كما قال، فتبين أنه لو لم يكن عالماً أنه وحي من الله لما تجرأ أن يقول: إنه سيقع، خوفاً من أن لا يقع فيقولون: كذاب، فلما أخبر بأنه سيقع جازماً بذلك غير مُحجم، ووقع فعلاً دَلَّ ذلك على أنه نبي صحيح، وأن الله أوحى إليه أن هذا الأمر سيكون فكان، وبَيَّنَ أنه كان بالفِعْلِ في سورة النحل في قوله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} الآية [النحل: الآية 35] وقال في (الزخرف): {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} [الزخرف: الآية 20] فبيّنَ أن ذلك الذي ذكر أنه سيقع أنه وقع بالفعل. وحاصل الآيات أن الكفار استدلوا بأن كفرهم واقع بمشيئة الله على أنه راضٍ به منهم (¬1)، وهذا الاستدلال باطل، وكونه واقعاً بمشيئته حق، وكون ذلك يدل على رضاه به هو مَحَل الكفر، فالله لا يرضى الكفر، كما قال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: الآية 7]، والله قد يريد بإرادته الكونية القدرية ما لا يرضى؛ لأنه لا يُرْضِيهِ إلا العمل الصالح، مع أنه خلق الخلق أزَلًا، وقدّر عليهم أعمالهم التي هم سيعملونها {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: الآية 63] ثم يسّر كُلاًّ لما خلقه له، فَصَرَفَت قُدْرَتُهُ وإرادتُه أَهَلَ الجنة- صَرَفَت قُدَرَهُم وإراداتهم- إلى فعل ¬

(¬1) مضى قريباً.

الخير، طبقاً لما سبق به العلم الأزلي، وصَرَفَت إرادات وقُدر غيرهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فوجّهت قدرةُ الله وإرادتُه كلَّ مخلوق لما سبق له به العلم الأزلي، فأتاه طائعاً {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30]. [20/ب] /ومن هنا يظهر سقوط استدلال المعتزلة بهذه الآية (¬1)؛ لأن هذه الآية عندهم هي محل خصب عظيم لدعواهم أن الإشراك ليس بمشيئة الله؛ لأنهم زعموا أن الكفار لما قالوا: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} كذبهم الله في أن الشرك بمشيئته وقال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} ولم يتفطنوا؛ لأن المنفي في الحقيقة هو استلزام تلك المشيئة بالرضا، هذا هو المنفي حقّاً، وقد قدمنا حل هذه الشبهة مراراً، فالمعتزلة -قبحهم الله- أرادوا أن يُنَزِّهُوا الله عن شيء فقدحوا في ربوبيته (جل وعلا)، فوقعوا في أعظم مِمَّا فَرُّوا مِنْه، أرادوا أن يجعلوا القبائح؛ كالشرك، والردة، والزنا، والسرقة أنها ليست بمشيئة الله وأنها بمشيئة العبد، يزعمون أنهم ينزهون الله عن غير اللائق، فَقَدَحُوا في ربوبية الله، وجَعَلُوا خَلْقه وكونه يقع فيه شيء من غير مشيئته، فوقعوا في أعظم مما فرُّوا مِنْهُ بِأَضْعَاف. والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يمكن أن يقع في العالم تَحْرِيكَة ولا تَسْكِينَةٌ، ولا خير ولا شر إلا بمشيئة الله (جل وعلا)، وادِّعَاء المعتزلة أن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لِقُدْرَةِ اللهِ فيها لا يخفى أنه قدح في ربوبية الله؛ إذ لا شيء أعْظَم مِنْ أن يكون خالق الكون يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته، هذا أعظم الكفر والقدح بالله ¬

(¬1) مضى قريباً عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

-عياذاً بالله- ففروا من شيء فَوَقَعُوا في أعظم مما فَرّوا مِنْهُ، والله (جل وعلا) يقدر الأشياء ويخلقها، وتضاف لمكتسبيها، فالسرقة والزنا لا تكون إلا بمشيئة الله، وكل شر لا يكون إلا بمشيئة الله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: الآيتان 1، 2] لأن كل ذلك الشر إنما خَلَقَهُ الله، فالله (جل وعلا) خالق، والعبد كاسب وفاعل، فلا تُضَافُ السَّرِقَةُ إلى الله، فلا يجوز أن تقول في حقه: سارق -سبحانه جل وعلا عن ذلك علوّاً كبيراً! - وإنما السارق مَنْ أَوْجَدَ الله منه الفعل وقَدَّره عليه، فالله (جل وعلا) يُوَجِّهُ إرادات المخلوقين وقدرتهم إلى مَا سَبَقَ به علمه الأزلي مما هم صائرون إليه، فيَتَوَجَّهون إليه بمشيئة الله طائعين فيعملونه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30] وهذه المسألة قد سأل عنها الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما أنهم سألوه: هذا العمل الذي نعمل أنعمله لأمر مُؤْتَنَف، ونُحْدِث به سعادة لم تكن سابقة، أو شقاوة لم تكن سابقة؟ فأخبرهم بأن الأمر ليس بأُنف، وأنه مفروغ منه، وأن القَلَمَ جَرَى بما هو كائن، وأن السَّعِيدَ مَنْ كُتِبَ عِنْدَ الله سعيداً، والشقي من كُتب شقيّاً، فسألوه: لِمَ لا يَتَّكِلُونَ على الكتاب الذي كَتَبَهُ الله، ويتركون الأعمال، فمن كُتبت له الجنة فهو داخلها، ومن كتبت له النار فهو داخلها؟ فبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أن كلاًّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له، فالذين سبقت لهم السعادة يستعملهم الله بقدرته وإرادته في فعل الخَيْرات، ويوجه قدرتهم ومشيئتهم إلى الخير بقدرته وإرادته، والعكس بالعكس (¬1) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام ..

وقد بَيَّنَّا مِرَاراً (¬1) القصص والمناظرات التي تدل على إفحام المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الأعمال السيئة بمشيئة العبد لا بمشيئة الله، وهذا تلزم عليه محاذير عظيمة: أحدها: القدح في علم الله؛ لأن الله (جل وعلا) عالم بما سيفعله خلْقُهُ، وما هم عاملون إلى يوم القيامة، مقدِّر ذلك في أزَلِهِ، فلو فرضنا -والعياذ بالله- قول مجوس هذه الأمة -المعتزلة- أن العبد يستقل بِعَمَل فعله، فلو كان سبق علم الله أن هذا العبد لا يزني يوم كذا وكذا، وأراد العبد بمشيئته أن يخترع ذلك الزنا، فإذا فعله بدون مشيئة الله فقد انقلب علم الله جهلاً -سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً- بل هو المحيط علمه بكل شيء، المقَدِّر كل شيء في الأزَلِ، الذي يقضي الأمور في أوقاتها التي قَدَّرها لها {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: الآيتان 49، 50]. فالمُجبِرَة ضُلاَّل؛ حيث ينفون عن العبد أن له فعلاً، والقدرية ضُلَّال؛ حيث ينفون أن هذا بمشيئة الله، ومذهب أهل السنة والجماعة خارج مِنْ بين المذهبين خروج اللبن من بين الدم والفرث لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، فهو لا كما تقوله الجبرية، ولا كما تقوله المعتزلة، فكل شيء بمشيئة الله، والله يصرف مشيئات الخلق إلى ما سبق به علمه الأزلي، فيأتونه طائعين {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30] والمعتزلة يقولون: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح، وإذا فَعَلَ لِلْعَبْدِ غير الأصلح فقد أَخَلَّ بالْوَاجِبِ عَلَيْهِ؛ ولذا عندهم لا يفعل للعبد إلا الأصلح، وسبب ترك أبي الحسن الأشعري لمذهبهم؛ لأنه كان على مذهب المعتزلة زمناً طويلاً، وألّف فيه مئات الكراريس، ينصر مذهب المعتزلة، ¬

(¬1) السابق.

وكان شيخه الجبائي كبيرَ المعتزلة؛ لأنه كان زوج أمه، والأشعري ربيب الجبائي، وكان يوماً معه يُقَرِّر أن الله يجب عليه فعل الأصلح، فقال الأشعري للجبائي: إذا كان يجب عليه فعل الأصلح فَلِمَ قَتَلَ الغلام صغيراً؟ ولِمَ لا تركه يكبر حتى يعمل كثيراً من عمل الخير فينال الدرجات العالية في الجنة؟ فقال له الجبائي: يقول له الله: قد سبق في علمي أني لو تركتك تكبر كنت كافراً فمت على الكفر، فكان الأصلح لك أن قتلتك صغيراً. فقال له الأشعري: إذاً يحتج عليه الكافر الكبير الذي مات، ويقول له: يا رب لمّا سبق علمك أن البعيد سيموت كافراً لِمَ لا تفعل له الأصلح فتقتله صغيراً قبل أن يكتب عليه، كما فعلت الأصلح لذلك الصغير؟ فانقطع الجبائي، وقال للأشعري: أبِكَ جُنون؟ قال: لا، ولكن وَقَف حمار الشيخ في العَقَبَة. ثم ترك مذهب المعتزلة، ورجع إلى مذهب أهل السنة (¬1)، وهذا من مذاهب المعتزلة الباطلة. وقد قَدَّمْنَا مراراً، وكرَّرْنَا بعض المناظرات الدالة على إدحاض مذهبهم، كمناظرات الإسفراييني لعبد الجبار، كررناها مراراً (¬2)؛ لأن العاقل إن نظر فيها يعلم أن أبا إسحاق الإسفراييني اهْتَدَى إلى مذهب أهل الحق فأفْحَم به مذهب أهل الباطل على لسان عبد الجبار مِنْ كِبَارِ المعتزلة المشهورين، جاء يَتَقَرَّب بهذا المذهب كما يقوله الزمخشري هنا: إن الله قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} يعني: أن شركهم بمشيئته، وأنه كذَّبَهُمْ في هذا وقال: ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 89). (¬2) مضى قريباً.

{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} وقال- ولا سيما القراءة الأخرى (¬1) -: (كذلك كَذب الذين من قبلهم) فجعل أن مَنْ قال: إن الشرك بمشيئة الله أنه كاذب عند الله، وأن الله نص على كذبه!! وهذا تحريف في آيات الله، وقَدْح في ربوبية خالق السماوات والأرض سبحانه أن يقع في ملكه شيء دون مشيئته (جل وعلا)؛ لأن من يقع في ملكه شيء بغير مشيئته صار ليس برب، ناقص القدرة الكاملة، والله يَتَعَالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فلما جاء عبد الجبار يَتَقَرَّب بهذا المذهب في مجلس الإسفراييني أبي إسحاق الشافعي المعروف، فقال عبد الجبار: سبحان مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفحشاء! يعني أن السرقة والزنا والشرك ليست بمشيئته. فقال أبو إسحاق: كلمة حق أُرِيدَ بها باطل. ثم قال: سُبْحَان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار: «أتراه يشاؤه ويعاقبني أنا عليه؟». فقال له أبو إسحاق: «أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟». فقال عبد الجبار: «أرأيْتَ إنْ دَعَانِي إلى الهدى وقضى عليَّ بالرَّدَى، بَيَّن لي الخير ودعاني إليه، وسد الباب دوني، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟!». قال: أرى أن الذي منعك إن كان حقّاً واجباً لك عليه، فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان مُلْكه المحض، فإن منعك فَعَدْل وإن منَحَكَ فَفَضْلٌ. فبُهِتَ عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب! ¬

(¬1) مضى قريباً.

وذكرنا مراراً أن رئيسهم الكبير عَمْرو بن عبيد -الذي يطريه الزمخشري غاية الإطراء، والذي رثاه أبو جعفر المنصور؛ لأنه توفي في خلافته، وهو من رؤساء وكبراء المعتزلة المشهورين- أفحمه بدوي جاهل، لا يعرف شيئاً؛ لأن الكبير العالم من أهل الإلحاد والضلال قد يُفْحِمُه العامِّي من أهل الحق، لظهور دلالة الحق؛ ذلك لأنه لما سُرقت دابته، وجاءه يسأل منه الدعاء أن يَرُدَّها الله عليه، وأراد التقرب بهذا المذهب، وقال: اللهم إنها سُرقت ولم تُرِدْ سَرِقتها، ولم تكن سَرِقَتُهَا بمشيئتك؛ لأنك أنزه وأعْظَم وأكْرَم وأجَلّ من أن تكون هذه الخسيسة بمشيئتك، ففهم البدوي الجاهل، وقال له: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث، إن كانت قد سُرقت ولم يُرد سرقتها فقد يُريد رَدَّها ولا تُرَدّ! فإن كان أول الأمر ليس بمشيئته فَلَسْتُ بواثق منه في آخر الأمر؛ لأن الرَّبَّ لا بد أن يكون كل شيء بمشيئته أولًا وآخراً، فأَفْحَمَه وألْقَمَهُ الحَجَرَ (¬1). والحاصل أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام أخْبَرَ الله فيها أن الكفار سيقولون: إن كُفْرَهُمْ وتَحْرِيمَهُم للحلال بمشيئة الله، وأن وقوعه بمشيئة الله دليل على رضاه به! فكذّبهم القرآن، والتكذيب مُنْصَبٌّ على أن كون ذلك بمشيئته لا يدل على رضاه، فلا يقع شيء إلا بمشيئته، ولا يرضيه إلا ما كان طاعة له، كما قال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: الآية 7] لأنه صرف قُدَر الخلق وإراداتهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فأتوه طائعين، فما كان إيماناً وطاعة فهو مرضي عند الله، وما كان كفراً وعصياناً فهو غير مرضي عند الله، وإن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.

كان كل شيء من خير أو شر بإرادته الكونية القدرية، فالله (جل وعلا) يعم جميع الخلق بدعوتهم إلى الدين، ثم يخصص من شاء للتَّوْفِيق، فالدعوة إلى الخير عامة، والتوفيق خاص {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: الآية 25]. وهذا معنى قوله: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} يعني: ولا أشرك آباؤنا من قبْلِنَا، والذي سوَّغ العطف هنا على الفاعل الذي هو ضمير الرفع المتصل: الفصل بلفظة (لا) وكل فاصل مسوِّغ، وهو مذهب الكوفيين، وهو الصواب، خلافاً لمذهب البصريين القائلين: لا بد من ضمير منفصل مُسَوِّغ للعطف، كما في آية النحل (¬1). وهذا معنى قوله: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} أي: ولا أشرك آباؤنا من قبلنا، ولا حرمنا من شيء؛ أي: لا مِنْ بَحِيرَة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام، ولا من أنعام، ولا من حرث، إلى غير ذلك. وقوله: {مِن شَيْءٍ} أصله مفعول (حرّمنا) وقد تقرر في علم الأصول أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة (مِنْ) نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم (¬2)، وذكره الشيخ سيبويه في كتابه. والنكرة في سياق النفي قد تُزاد قبلها لفظة (مِنْ) فتنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، ويكون ذلك قياساً مطرداً في ثلاثة مواضع لا رابع لها (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (148) من هذه السورة. (¬2) مضى عد تفسير الآية (38) من هذه السورة. (¬3) السابق.

أحدهما: أن تُزاد لفظة (مِنْ) قبل النكرة التي هي فاعل، كقوله: {مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: الآية 46] الأصل: ما أتاهم نذير. أو أن تكون قبل المفعول، كقوله هنا: {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 148] الأصل: «ما حرمنا شيئاً». {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} [الأنبياء: الآية 25] أي: ما أرسلنا قبلك رسولاً. الثالث: أن تُزاد قبل المبتدأ، نحو: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: الآية 73] الأصل: وما إله إلا إله واحد، فزِيدَتْ قبلها (مِنْ) لتنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم. قوله: {مِن شَيْءٍ} الشيء يطلق في اصطلاح الشرع على كل موجود حتى الله (جل وعلا) قد يطلق عليه اسم الشيء (¬1)، كما قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]، وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ} [الأنعام: الآية 19] والمعتزلة يَزْعُمُون أن الشيء يطلق على المعدوم، ومناقشاتهم في هذا لأهل السنة معروفة (¬2)، والدليل على أن المعدوم ليس الشيء، ولا يطلق عليه اسم الشيء: آيات قرآنية كثيرة، كقوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: الآية 9] فنفى عن العدم أن يكون شيئاً، وكقوله: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: الآية 67] فنفى ¬

(¬1) قال الإمام البخاري في صحيحه: «باب: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ} فسمى الله (تعالى) نفسه شيئاً، وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}». البخاري مع الفتح (13/ 402). (¬2) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام.

عنه في حال عدمه اسم الشيء، والمعتزلة يزعمون أن الشيء يطلق على المعدوم، وبعضهم يقول: المعدوم قسمان: معدوم ممكن، كإيمان أبي لهب، فإن إيمان أبي لهب معدوم قطعاً؛ لأن الله يقول: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: الآية 3] مع أن هذا المعدوم يمكن عقلاً؛ لأن إيمانه يجوز عقلاً؛ إذ لو كان مستحيلاً عَقْلاً لكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بالمحال، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. الثاني: أن يكون الشيء المعدوم مستحيلاً عقلاً، كشريك الله جل وعلا سبحانه عن ذلك وتعالى علوّاً كبيراً. وبعضهم يقول: إن الشيء يطلق على المعدوم مطلقاً. وبعضهم [يقول] (¬1): يُطلق على المعدوم الممكن دون المعدوم المستحيل. واستدلوا بأدلة لا تنهض، منها: قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس: الآية 82] قالوا: فسمَّاهُ (شيئاً) قبل أن يقول له: (كن)، وهو إذ ذاك معدوم، فدل على تسمية المعدوم (شيئاً). وهذا يناقضه قوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: الآية 9] وإنما أطلق عليه اسم الشيء نظراً إلى عادة العرب أنهم ينزلون الواقع المتحقق وقوعه كالواقع بالفعل، كما قال: {أَتَى أَمْرُ اللهِ} [النحل: الآية 1] ذكر أنه أتى فعلاً وهو لم يأت بالفعل؛ لأن تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، وهذا كثير في القرآن -فقد ذكر الله منه في سورة الزمر- جدّاً: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} معناه: سيكون ذلك يوم القيامة {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: يوم القيامة {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق.

وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر: الآيات 69 - 73] كل هذه الأفعال الماضية إنما هي بمعنى المستقبلات التي ستقع يوم القيامة؛ لأن تَحَقُّقَ وقوعها نزّلها منزلة الواقع فعلاً، كما هو معروف في فن المعاني (¬1). وهذا معنى قوله: {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ}. ثم قال الله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} كما كذب هؤلاء الكفرة الفجرة رسولي محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أن الله واحد لا شريك له، وأنه لا حرام إلا ما حرمه الله، كما كذبوه وادّعوا أن وقوع ذلك بمشيئة الله دليل على رضاه، كما كذبوه بهذه الشُّبَه الكافرة الملحدة {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} الرسل، {كَذَلِكَ} التكذيب، ولم يزالوا مكذبين {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} [الأنعام: الآية 148] أي: ذاقوا أليم عقابنا وشديد نكالنا، وقد يكون ذلك بهم في الدنيا كما وقع لقوم نوح حيث استأصلهم الطوفان بالغرق، ووقع لقوم هود حين أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، قال الله فيهم: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} أي: قتلى أمواتاً {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: الآيتان 7، 8] وكما فعلنا بقوم صالح حيث أُرسلت عليهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وكما أحرق قوم شعيب بالظلة، وكما رفع الأرض بقوم لوط وجعل عاليها سافلها، وكما أغْرَق فرعون وقومه في البحر، هذا من نكال العذاب الدنيوي، ويتلوه العذاب ¬

(¬1) انظر: تأويل مشكل القرآن 295، الصاحبي 364، فقه اللغة للثعالبي 301، البرهان للزركشي (3/ 372)، المزهر (1/ 335)، قواعد التفسير (1/ 292).

الأخروي -والعياذ بالله- كما قال تعالى في التنكيل بالمشركين يوم بدر مع اتصال العذاب الأخروي على ما ذكره بعض أهل العلم: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: الآية 21]. ومعنى: {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} لم يزالوا مُصِرِّين على تكذيب الرسل معاندين {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي: ذاقوا طَعْمَ ألم العذاب والنّكال الكائن مما في الدنيا، المتصل بعذاب الآخرة -والعياذ بالله- قل لهم يا نبي الله: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} دعواكم أن كل ما وقع بمشيئة الله هو راضٍ به حسن عنده؟ هل عندكم من علم بهذا أن الكفر الواقع بمشيئته أنه لما كان بمشيئته كان برضاه، وكان حسناً عنده؟ هل عندكم على هذه الدعوى الفاجرة من علم فتخرجوه لنا؟ أي: تبرزوه لنا، الفعل هنا منصوب، وأصله: (تخرجونه) إلا أن المقرر في علم النحو أن فَاءَ السَّبَبِيَّة إذا [جاءت] بعد طلب أو نفي محضين [فإن الفعل بعدها] ينصب بـ (أن) مضمرة (¬1)، والطلب هنا محض؛ لأنه استفهام {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: الآية 148]، ولو كان استفهام التقريع يقتضي النفي، فالنفي أيضاً مَحْض، فعلى كل حال فهو منصوب، كقوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} [الأعراف: الآية 53]. هَل مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فأَشْرَبَهَا ... أَمْ هَلْ سَبِيلٌ إلى نَصْر بْنِ حَجَّاجِ (¬2) وما جرى مجرى ذلك. ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (12/ 296)، مضى عند تفسير الآية (52) من هذه السورة. تنبيه: العبارة في الأصل هكذا: ((أن فاء السببية إذا جاء بعد طلب أو نفي محضين فإنه ينصب ... )) (¬2) البيت لفريعة بنت همَّام، وهو في اللسان (مادة: مني) (3/ 539).

وقوله: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} أصله مبتدأ جاءت قبله (مِنْ) والأصل: (هل عندكم علم)، فالعلم: مبتدأ استند على الظرف قبله، وهو خبره (¬1)، ويجب تقديم المبتدأ هنا؛ لأن الذي سوَّغ الابتداء به: النكرة التي كانت خبراً (¬2)، إلا أنَّا ذكرنا -الآن- أن زيادة لفظة (مِنْ) قبل النكرة في سياق النفي -الذي ينقلها من الظهور في العموم- إلى التنصيص الصريح في العموم مطرد في ثلاثة مواضع (¬3): تُزاد قبل الفاعل، وتزاد قبل المفعول، وقبل المبتدأ كما هنا، والأصل: هل عندكم علم فتخرجوه لنا؟ ولو قال: (هل عندكم علم) لأن الاستفهام هنا استفهام إنكار مشتمل على معنى النفي. {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي: فتُبْرِزُوهُ لنا وتظهروه لنا، وهذا -مَثَلاً- إعجاز؛ لأن الله يعلم أنهم ليس عندهم علم، وإنما قالوه تخرُّصاً وكذباً. ثم قال: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} والمعنى: لا علم عندكم ألبتة. {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} ما تتبعون في هذه الأمور إلا الظن، وأصل الظن في الاصطلاح: جُل الاعتقاد، والعرب تطلقه على الشك (¬4)، وجدتُم آباءكم يقولون شيئاً فاعتقدتموه، باطلاً وتقليداً أعمى من غير دليل. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 211). (¬2) قوله: «ويجب تقديم المبتدأ، إلى قوله: التي كنت خبراً» هذه الجملة فيها اضطراب في المعنى، والصواب أن يُقال: «يجب تأخير المبتدأ هنا؛ لأن الذي سوَّغ الابتداء به -وهو نكرة- تقدم الخبر وهو شبه جملة». (¬3) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬4) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

{وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} معناه: وما أنتم إلا تكذبون. الخرص هنا معناه: الكذب، ومنه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذاريات: الآية 10] لُعن الكذابون، وأصل اشتقاقه من الخَرْص الذي هو الحزر؛ لأن الكذاب لا يَتَحَرَّى حَتَّى يَتَحَقَّق وإنما يقول حَزراً وتخمينًا، ومن هُنَا أُطلق الكذب على الخرص (¬1)، وقوله: {وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} معناه: وما أنتم إلا تكذبون، كَذَبَة فَجَرَة؛ حيث زعمتم أن شرككم وإن كان واقعاً بمشيئة الله أن الله راضٍ به، وأنه حسنٌ عنده، كلا! لا دليل ولا علم بذلك، وإنما هو افتراء وكذب وتخرّص على الله، وهذا معنى قوله: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أي: والظنّ لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: الآية 36] وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» (¬2)، وهذا في الظن فيما يُطلب فيه اليقين، كعبادة الله (جل وعلا) وحده، فإن هذه أمور يقينية لا تختلجها ظنون. وتمسك ابن حزم بظاهر هذه الآيات أن كل اجتهاد باطل، وأن كل اجتهاد ظن، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً (¬3)، فهذا ليس على بابه؛ لأن الأمور العملية إنما يُعمل فيها بالظنون، وقد يكون الظاهر قطعيّاً لا شك فيه وباطن الأمر مظنون لا ندري أحق هو أم كذب؟ وقد دلَّ القرآن في بعض المواضع أن الظاهر يكون قطعيّاً لا شك فيه، والباطن باطن (¬4) لا شك فيه، وهذا الشرع الكريم لا يأمر في نفس الواقع ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة. (¬3) انظر: المحلى (1/ 68، 71). (¬4) يحتمل أن تكون: «باطل».

بمعرفة الواقع، فنحن جميعاً هؤلاء موجودون، كل واحد منا يُقال له فلان بن فلان، يُنسب إلى أبيه، وتكون أخوات أبيه عماته، ويرث في أبيه، ونحن لا نجزم قطعاً بأن كل واحد منا مخلوق من ماء أبيه، فقد تكون بعض النساء فاجرة، وتدخل لزوجها ولداً من غيره، وهذا الظن يُحكم له بالقطع، والله أمرنا بالبيِّنَة، قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية 2] فنحن نُشهد العَدْلَيْنِ، ونقتل المسلم بشهادة عَدْلَيْنِ، ولو سُئلنا: هل أنتم جازمون في نفس الأمر أنهما صادقان؟ لقلنا: لا والله، لا نجزم؛ لأنهما غير مَعْصُومَيْنِ، ويجوز في حقهما الكذب، ولكننا نظن ظنّاً غالباً لعدالتهما أنهما صادقان، فإن كانا صادقين فذلك، وإن كانا كاذبين فعليهما، ونحن نبْرَأُ من ذلك. ومن هذا المعنى ثَبَتَ في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أم سلمة أم المؤمنين -رضي الله عنها- هند بنت أمية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» (¬1) هذا حديث ثابت في الصحيحين، بَيَّنَ فِيهِ النَّبِيّ أنه ليس على يقين أن ما يقضي به مطابق للواقع في نفس الأمر، بل هو يقضي على نحو ما يسمع من ظواهر الدعاوي والبيِّنَات، وقد يكون الأمر مخالفاً في باطن الأمر؛ ولذا قال: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ». ¬

(¬1) أخرجه البخاري في المظالم، باب: إثم من خَاصَمَ في باطل وهو يعلمه، حديث رقم: (2458)، (5/ 107)، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث رقم: (1713)، (3/ 1337).

وقَدْ بَيَّنَ الله في سورة النور أن هذا التشريع الذي يُراعَى فِيهِ الظَّاهِر -ولو كان الظاهر باطلاً- أن الله إنما قَبِلَه رَأْفَةً بِهَذِهِ الأمة، وتسهيلاً عليها، أوضح ذلك في آية اللعان؛ لأنه لمَا جاء هلال بن أُمية (¬1)، وعويمر العجلاني (¬2)، ورمى كلّ منهما زوجته بالزنا لرجل، وقال هلال: رَأَتْ عَيْنِي وسمعت أذُنِي، وأنزل الله آية اللعان، قام الرجل فحلف أَيْمَانَه، وخمَّس باللعنة، يقول في الأَيْمَان الأربعة: أشهد بالله إني لصادق فيما رميتُهَا به من الزنا، ثم خمَّس في الخامسة باللَّعْنَةِ، لعنة الله عليه إن كان كاذباً فيما رماها به من الزنا، ثم قامت المرأة فحلفت أَيْمَانَها، وخمَّست بغضب. تقول: أشهد بالله إنه لكاذب عليَّ فيما رماني به من الزنا، ثم قالت في الخامسة: غَضِبَ الله عليها إن كان صادقاً فيما رماها من الزنا. فلما انتهت الأَيْمَان قال لهما الشرع الكريم: أنت مُصَدَّق، وأنتِ مُصَدَّقَة، ليس عليكَ أنْتَ قَذْفُ مُحْصَنَة، وليس عليكِ أنتِ حد الزنا، فصارت المرأة لا شيء عليها، والرجل لا شيء عليه، ونحن نَتَيَقَّن يقيناً جازماً أن باطن هذه القضية خراب!! لأنه لا بد أن واحداً منهما كاذب، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهُ أَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) حديث رقم: (4747) (8/ 449) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم في اللعان، حديث رقم: (1496) (2/ 1134) من حديث أنس رضي الله عنه مختصراً. (¬2) أخرجه البخاري في التفسير، باب: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حديث رقم: (4745) (8/ 448)، وانظر حديث رقم: (4746). ومسلم في اللعان. حديث رقم: (1492)، (2/ 1129) من حديث سهل بن سعد (رضي الله عنه). وقد جاء نحوه عن ابن عمر وابن عباس (رضي الله عنهما).

لَكَاذِبٌ» ولو لم يقلها - صلى الله عليه وسلم - فنحن نَعْرِفُهَا كل المعرفة، ونجزم كل الجزم أن الكاذب منهما في ظَهْرِهِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، فإن كانت كاذبة فعليها حد الزنا، وإن كان كاذباً فعليه حد القذف، هذا لا محيص منه. وهذا الحكم السماوي الذي أنزله خالق السماوات والأرض فيه هذا الحكم لهذه الأمة، صدّق الرجل، وصَدَّق المرأة، وذهبا مُصَدَّقَين، لم يثبت على أحدهما شيء. ونحن نعلم أن واحداً منهما خائن كاذب، ومحل الشاهد: أن الله لما فَصَّل هذا في آية اللعان أتبعه بقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} [النور: الآية 10] أي: لولا فضله عليكم، ورحمته بكم، وتوبته عليكم، وحكمته في تخفيف التشريع عليكم. وحذف جواب (لولا)، أي: لَمَا قَبِلَ منكم هذا، أو: لَفَضَح الكاذب على رؤوس الأشهاد، فهذا تسهيل، وهذا مما يدل على أنَّا في الشرائع العملية، لسنا مُكَلَّفِين بمعرفة الباطن في نفس الأمر، فالباطن عند الله، فعلينا أن نعمل بما ظهر من الظنون الغالبة على الظن، وإن كنا لا نجزم بالواقع في نفس الأمر، فتبين أن قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: الآية 36] فيما يُطلب فيه اليقين، كعبادة الله (جل وعلا) وحده، وتنزيهه عن الأولاد والشركاء، وأنه لا حرام إلا ما حَرّمَهُ، ولا حلال إلا ما أحَلَّه مما يجب فيه القطع والجزم اليقيني، أما المسائل العملية فما في باطن الأمر لا نجزم به، وكذا بأنّا نعمل بأخبار الآحاد بإجماع من يُعتد به من العلماء، ولو سُئلنا عنهم: أيجوز في حقهم الكذب؟ لقلنا: نعم؛ لأنهم غير معصومين!! وهذا معنى قوله: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: الآية 148].

{قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: الآية 149] إن احْتَجَجْتُمْ بأمور باطلة وشُبَه كاذبة فلِلَّه الحجة البالغة على خَلْقِهِ، وليس لأحد حجة على الله. والبالغة معناه: هي التي يبلغ بها صاحِبُهَا غَرَضَه لإِفْحَامِ خَصْمِه، وإظهار الحق. والعلماء يقولون: هذه الحجة البالغة هي إرسال الرسل، وإقامة المعجزات، وبيان أنه (جل وعلا) واحد لا شريك له. وظاهر القرآن يدل على أن هذه الحجة البالغة على مذهب الجبرية هي قوله جل وعلا: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فهذا داخل فيها دخولاً أوليّاً؛ لأن مُلْك التوفيق حجة بالغة على الخلق، وهذه الآية هي التي احتج بضمنها أبو إسحاق على عبد الجبار؛ لأنه كأنه قال له: مُلكه تعالى للتوفيق حجة بالغة على خلقه، فتمام الحجة البالغة أنك إذا قارنت بين سُنِّي- مثلاً- وجبري، فقال الجبري: إن كفره -والعياذ بالله- ومعاصيه كُتِبَ عليه في الأزل قبل أن يُولد، وإن الأقلام جفت، والصحف طُويت، وما كان فقد كان، ولم يبق شيء حادث إلا وقد سبق في الأزل، فيقول هذا الجبري الكافر: إن كفر البعيد قد كتبه الله عليه أزلاً، وإنه لو شاء أن يتخلص من ذلك المكتوب أزلاً لما كانت له القدرة؛ لأن علم الله الأزلي لا يَتَغَيَّر، فيقول البعيد: هو مقهور، وإذاً هو مجبور!! فله حجة في زَعْمِهِ على ربه، فكأن ربه يقول: جميع الأسباب التي اهتدى بها المهتدون أعطيتك إيَّاهَا، فالأعين التي أبصروا بها سمائي وأرضي وجبالي وبحاري وحدائقي وحيواناتي حتى عرفوا بها قدرتي، وأني رب كل شيء، وأني المعبود وحده، أعطيتك عيوناً مثلها، والآذان التي سمعوا بها مواعظي وآياتي وكتبي عن الرسل أعطيتك مثلها،

والقلوب التي عقلوا بها عن الله، وعرفوا مخالفة الخالق للمخلوق، وعرفوا بها عظمة جبار السماوات والأرض، وأنه جدير بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى أعطيتك قلباً مثل قلوبهم، فكل ما أعطيت المهتدين من أسباب الهداية أعطيتك مثل ما أعطيتهم، إلا خصوصية التوفيق، فقد تفضلت به على قوم ولم أتفضل به على آخرين، فمن تفضلت به فهو فضل مني، ومن لم أتفضل به فهو عدل مني، كما قال أبو إسحاق: «إن كان الذي منعك حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان مُلكه المحض فإن منعك فَعَدْل، وإن مَنَحَك ففضل» (¬1). ولذا قال هنا: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} على خلقه، وهي ما أنذرهم به من الإنذار، وما أرسل لهم من الرسل، وما أعطاهم من العقول والأسماع والأبصار {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: الآية 78] {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: الآية 149] لأنه قطع عُذر عبده بأن أعطاه كل ما أعطى المهتدين: إلا خصوص التوفيق، فهذا الذي منعه، وبملكه للتوفيق قامت حجته البالغة؛ ولذا أَتْبَعَه بقوله: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فلو شاء لمَنَحَكُمْ التوفيق كُلاًّ، ولكنه تفضل به على بعض، ولم يتفضل به على الآخرين، فَمَنْ تَفَضَّل به عليهم فهو فضل، ومن منعهم إياه فهو عَدْلٌ لا ظُلْمَ فيه؛ ولذا قال: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ومفعول المشيئة محذوف، وقد ذكرنا مِرَاراً أن فعل المشيئة إن كان معلقاً بشرط فإنه يكفي عن مفعوله جزاء الشرط (¬2). والأصل: فلو شاء ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

هدايتكم أجمعين لهداكم أجمعين، ولكنه لم يشأ، كما قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: الآية 13] وهذا معنى قوله: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: الآية 149]. وهذه تقضي على مذهب المعتزلة؛ لأن الله صرح بأنه لو شاء لهداهم أجمعين، فعُرف بأن شركهم بمشيئته، وأنه لو شاء أن لا يُشركوا ما أشركوا {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: الآية 13] {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: الآية 107] ونحو ذلك من الآيات. {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)} [الأنعام: الآية 150]. {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا} قل يا نبي الله لهؤلاء الذين حرموا السائبة والبحيرة والوصيلة والحام {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: الآية 139] {وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: الآية 138] أي: حرام. قل للمُحرِّمين هذه الأشياء، الزاعمين أن الله أمرهم بتحريمها، كما صرح به في (الأعراف) في قوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: الآية 28] قل لهم يا نبي الله: هذا الذي ادَّعَيْتُمْ على الله من أنه حَرَّم هذا وأمركم بتحريمه هَلُمَّ شهداءكم الذين يَشْهَدُون لكم على الله أنه حَرَّم هذا. و (هَلُمَّ) معناه: أحْضِرُوا وقَرِّبُوا. وهذه الكلمة -كلمة

(هَلُمَّ) - فيها خلاف، هل هي مفردة، أو مركبة؟ لا يعنينا بحثه الآن. وهي فيها لغتان (¬1): لغة الحجازيين التي نزل بها القرآن: أن لفظة (هَلُمَّ) اسم فعل لا فعل أمر؛ ولذا إذا خاطبوا الأنثى قالوا لها: «هَلُمَّ يا فلانة». ولم يقولوا: «هَلُمِّي» بياء المؤنثة. فيقول الحجازيون للذَّكر الواحد: «هَلُمَّ» وللذَّكَرين: «هَلُمَّ». وللذكور: «هَلُمَّ». وللإناث: «هَلُمَّ» فهي اسم فعل، وهي لغة القرآن؛ لأن المخاطب هنا جماعة، والأصل لو مشى على لغة التميميين من النجديين لقال: «هَلُمُّوا شهداءكم». أما لغة التميميين، وبعض القبائل النجديين: فـ (هَلُمَّ) فعل أمر لا اسم فعل؛ لأنهم يقولون للجماعة: «هَلُمُّوا» وللاثنين: «هَلُمَّا» وللأنثى: «هَلُمِّي» فإذا قالوا لها: «هَلُمِّي» دخلتها ياء المؤنثة المخاطبة، وهي من علامات الأفعال، كما قال في الخلاصة (¬2): (بتَا فَعَلْتَ، وَأَتَتْ، وَيَا افْعَلِي) ... ............................. فهي في لغة الحجازيين اسم فعل، وفي لغة التميميين وبعض القبائل النجديين فعل أمر، ويظهر الفرق في كونها اسم فعل، وبين كونها فعل أمر: أنها إن كانت فعل أمر اتصلت بها ضمائر المخاطبين، نحو: (هلموا) للرجال و (هَلُمُمْنَ) للنساء، و (هَلُمَّا) للاثنين، و (هَلُمِّي) للواحدة، والقرآن جاء فيها على لغة الحجازيين، أنها اسم فعل لا فعل أمر. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 129)، الكليات: ص 959، القاموس (مادة الهليم) 1511، الدر المصون (5/ 211)، معجم الإعراب والإملاء ص 438. (¬2) الخلاصة ص 9.

وتأتي متعدية ولازمة، فمن إتيانها متعدية قوله هنا: {هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} [الأنعام: الآية 150] أي: أَحْضِرُوا شهداءكم وقَرِّبُوهم، ومن إتيانها لازمة قوله في الأحزاب: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: الآية 18] أي: اقربوا قريباً منا، ولم تكن هناك متعدية، والمعنى: أَحْضِرُوا شهداءكم الذين يشهدون لكم أن الله حرم هذا الذي ادعيتم أنه حرام. ثم قال لِنَبِيِّه: فإن تجرءوا على الشهادة الكاذبة الباطلة -شهادة الزور على الله- فلا تشهد معهم؛ لأنهم كلهم كَذَبَة فَجَرَة مُتَعَاضِدُون على الكذب، يُصَدِّق بعضهم بعضاً في {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ}. ثم قال: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن النبي لا يتبع أهواء الذين كذبوا بآيات الله، هذا أمر لا شك فيه، كقوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: الآية 24]. ومعلوم أنه لا يطيع آثماً ولا كفوراً، هذا معروف، فالله (جل وعلا) يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطبة السيد لعبده، ومراده بخطابه -في أشياء لا تقع منه - صلى الله عليه وسلم - أبداً- ليشرع على لسانه لأمته، كما بيناه مراراً (¬1). ومن أمثال العرب: (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) (¬2) معناها: إياكِ أعْنِي، والمقصود عندي هي جارتك الأخرى، وهذا مَثَل مَعْرُوفٌ، وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروس مراراً أن أصل هذا المثل من أبيات رَجَز لرجل من بني فزارة يُسمَّى: سهل بن مالك الفزاري، نزل في بيت حارثة بن لأْم الطائي المشهور فوجده غائباً، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (114) من سورة الأنعام.

فأنزلته أخت حارثة وأكرمته، وأُعجب بجمالها، فخاطب داية (¬1) من داياتها لا أهمية فيها؛ لأنها من خَدَمِها، وقال لهذه التي هي من الدايات والخدم قال لها: يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالحَضَارَهْ ... كَيْفَ تَرينَ فِي فَتَى فَزَارَهْ ... أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ ففهمت الطائية أنه يريد خِطَابها، فأجابته جوابها المعروف: إِنِّي أَقُولُ يَا فَتَى فزَارَهْ ... لَا أَبْتَغِي الزَّوْجَ وَلَا الدّعَارَهْ ... وَلَا فِرَاقَ أَهْلِ هَذِي الحَارَهْ ... فَارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِاسْتِحَارَهْ ومن هنا صار بيت الرجز هذا مثلاً عند العرب (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) (¬2). [21/أ] والمعنى: إنك تخاطب واحداً ومقصودك/أن تُفْهِم ذلك الآخر. فالله يخاطب النبي ومقصوده إسماع أمته والتشريع لهم، والدليل القاطع على هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات أبواه وهو صغير؛ لأن أباه مات وهو حَمْل في بطن أمه، وأمه ماتت وهو صغير، ومعلوم أنهما وقت نزول سورة بني إسرائيل ماتا منذ سنين كثيرة، والله يقول للنبي مخاطباً له ببر الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ثم قال مخاطباً للرسول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: الآيتان ¬

(¬1) الداية: المرضع الأجنبية والحاضنة والقابلة (المعجم الوسيط مادة: دوى) (1/ 306). (¬2) راجع ما تقدم في الحاشية قبل السابقة.

23، 24] كل هذا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبواه قد ماتا من زمان، فدل على أن قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} أي: يبلغ عندك الكبر أحد والِدَيْكَ فبرّهما وقل لهما قولاً كريماً، أي: المراد خطابه ليُشرع لأمته، ومَنْ زَعَمَ من الناس أن هذا الخطاب -أي: قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} - أنه يخاطب به مطلق الإنسان المُخَاطَب وليس النبي؛ فهذا غلط محض؛ لأن كل هذه الخطابات للنبي - صلى الله عليه وسلم - {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [الإسراء: آية 28] والدليل عليه أنه قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: آية 39]، فدل أن الخطاب للمُوحَى إليه لا إلى مطلق الواحد من الناس. وآية الإسراء هذه نص صريح في أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخاطَب بالخطاب ليس هو المراد به، بل المراد التشريع لأمته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو المشرِّع لهم بأقواله وأفعاله، وهذا معنى قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ككفار قريش الذين كذبوا بآيات الله، لا تتبع أهواءهم في الشرك، ولا في تحريم ما أحل الله. {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ظاهر العطف أنهما طائفتان، والتحقيق: أنهما طائفة واحدة (¬1)، إلا أن المعروف في علم العربية أن الشيء يُعطف على نفسه بألفاظ مختلفة إذا كانت الصفات مختلفة، نزَّلوا تَغَايُر الصفات منزلة تغاير الألفاظ، فعطَفوه على نفسه؛ نظراً إلى تَغَايُر الصفات (¬2)؛ لأن صفة التكذيب بآياتنا، وصفة عدم الإيمان بالآخرة متغايرتان، فصار الموصوف كأنه متغاير لتغاير ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 248). (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

الصفات، ومن أمثلة هذا في كلام العرب: قول الشاعر (¬1): إِلَى السَّيِّدِ القَرْمِِ وِابْنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ وهو واحد. ومن أمثلته الواضحة في القرآن -غير هذا الموضع- قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمرْعَى (4)} [الأعلى: الآيات 1 - 4] وهو واحد (جل وعلا)، وإنما عطف بعضها على بعض لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ، وهذا هو التحقيق، أنهما طائفة واحدة، تغايرت صفاتها فعُطفت على نفسها نظراً لتغاير الصفات، كما قَرَّرْنَا. والأهواء: جمع (هوًى) بفتحتين، وألفه مبدلة من (ياء)؛ لأن أصله (هَوَيٌ) على وزن (فَعَل) والياء المتطرفة بعد ألف زائدة يجوز إبدالها همزة، كما هو معروف في فن التصريف (¬2). والهوى: ميل النفس، وأكثر ما يُستعمل في ميلها إلى ما لا ينبغي (¬3)، وهو المُراد هنا؛ أي: لا تتبع مهوياتهم الزائغة؛ من الإشراك بالله، وتحريم ما أحل الله، وجَعْل بعض الأرزاق التي خلقها الله للأصنام، لا تتبع مهوياتهم في شيء من ذلك. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} فهم جامعون بين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالبعث والآخرة -عياذاً بالله- وقد صرح (جل وعلا) بأن المكذب بالبعث أنه من أهل النار الذين يُجَرُّون بالسلاسل في أعناقهم في غير ما آية، مِنْ أصْرَحِهَا آية ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. وصدره: «إلى الملك ... ». (¬2) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

الرعد؛ لأن الله (جل وعلا) لما بَيَّنَ في سورة الرعد -في أولها- عظمته، وبراهين كماله وقدرته، وأنه المعبود وحده، وأبطل فيها أدلة الطبائعيين إبطالاً كليّاً لا شبهة فيه، حيث قال في السورة- في أولها: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ} -وفي القراءة الأخرى-: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} (¬1) {صِنْوَانٍ وَغَيْرِ صِنْوَانٍ} - وفي الأخرى: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} (¬2) {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} - وفي الأخرى -: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} (¬3) {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أتبع هذا بقوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} -في البعث-: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} هذا تعجُّب منكري البعث من البعث الذي هو خلق جديد، ثم قال مُخْبِراً عن هؤلاء الذين شَكّوا في البعث وأنكروه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد: الآيات 1 - 5]، والعياذ بالله، فهؤلاء جمعوا بين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالبعث. ثم قال جل وعلا: {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص251. (¬3) مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام ..

العرب تقول: عدل به، يَعْدِل به: إذا جعل الشيء عديلاً ونظيراً له يُمَاثِلُهُ ويُعَادِلُهُ، وهم يعدلون بالله؛ أي: يجعلون له العَدِيلَ والنَّظِيرَ والمثيل؛ حيث قالوا: {هَذَا لِلهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: الآية 136] فجعلوا له النظراء والعديلين بِسَبَبِ عبادتهم له مثله، وجَعْلهم له مثل ما جعلوا. والعرب تقول: أعَدَلْتَ بفلان فلاناً: إذا جَعَلْتَه عِدلاً ونظيراً له، وهو مشهور في كلام العرب، ومنه قول جرير (¬1): أَثَعْلَبَةَ الفَوَارِسَ أَمْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهيَّةَ والخِشَابَا أي: جعلتهم نظراء وأمثالاً لهم وليسوا كذلك. {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص 58، الكتاب لسيبويه (1/ 102) (3/ 183).

بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: الآيات 151 - 153]. يقول الله جل وعلا: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: آية 151] كان بعض السلف يقولون: من سرّه أن ينظر إلى وصيّة محمد - صلى الله عليه وسلم - عليها خاتمها لم يُفك فليقرأ هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1) وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام هي المحكمات المذكورات في آل عمران {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬2) [آل عمران: آية 7] لم ينسخ الله حكماً من أحكامها في شريعة من الشرائع قط، بل أحكامها مثبتة في جميع التشاريع السماوية منذ خلق الله الدنيا، فهي محكمات؛ ولذا قال ابن عباس: إنها المذكورة في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} كما قدمنا في آل عمران. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة الأنعام، رقم: (3070)، (5/ 264)، والطبراني في الكبير (10/ 114)، والأوسط (2/ 43)، والبيهقي في الشعب (14/ 63 - 64)، وابن أبي حاتم في التفسير (5/ 1414)، وابن جرير في التفسير (12/ 227 - 228)، وذكره السيوطي في الدر (3/ 54) وعزاه للترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من قول ابن مسعود (رضي الله عنه). وقد أخرج ابن جرير (12/ 227)، نحوه عن الربيع بن خثيم. وذكره السيوطي في الدر (3/ 54) وعزاه لعبد بن حُميد، وأبي عبيد، وابن المنذر. (¬2) أخرجه ابن جرير (12/ 226)، والحاكم في المستدرك (2/ 288) وصححه، ووافقه الذهبي. وأخرجه أيضاً بإسناد آخر (2/ 317) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي، كما أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1414) ..

وهذه الآيات تضمنت أصول الشرائع من عقائد ومعاملات واجتماعيات، كما سيأتي إيضاحه في محله. قل لهم يا نبيّ الله، الظاهر أنه خطاب لجميع الخلق، وإن كان الكلام السابق مع المشركين، قل لجميع البشر الذين أُرسلت إليهم: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (تعال) التحقيق أن (تعال، وهات) فعلا أمر، وغلط فيهما جماعة من علماء العربية [فزعموا] (¬1) أنهما اسما فعل (¬2)، والدليل على أن (هات) و (تعال) فعلا أمر: أنهما تلحقهما ياء المؤنثة المخاطبة، وياء المؤنثة المخاطبة من علامات الأفعال، ولا تلحق أسماء الأفعال، فالعرب تقول للأنثى: «تعَالَيْ يا فلانة» بياء المؤنثة المخاطبة، ومنه قول نابغة ذبيان (¬3): فَقُلْتُ: تَعَالَيْ نَجْعَلِ اللهَ بَيْنَنَا ... عَلَى مَا لَنَا، أَوْ تُنْجِزِي ليَ آخِرَهْ وكذلك (هات) فالعرب تقول للذكر: (هاتِ) بلا ياء، وللأنثى: (هاتي) بياء المؤنثة المخاطبة، فدلَّ أيضاً على أن (هات) كـ: (تعال) فعل أمر لا اسم فعل، خلافاً لمن زعم ذلك، ومن دخول ياء المؤنثة المخاطبة على (هات) قول امرئ القيس (¬4): إِذَا قُلْتُ هَاتِي نَوِّليني تَمَايَلَتْ ... عَلَيَّ هَضِيم الْكَشْحِ ريَّا المُخَلْخَلِ وهذه الكلمة أصلها خاص، ثم صار استعمالها عامّاً؛ لأن أصل (تعال) يقولها الذي هو مرتفع إلى من هو أسفل منه، فيقول له: ¬

(¬1) في الأصل: «فزعما». (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 20). (¬3) ديوان النابغة ص (121) وصدره: «فقال». (¬4) ديوان امرئ القيس ص (115).

تعال؛ أي: ارتفع حتى تحضر عندي، هذا أصلها، إلا أن العرب توسعت فيها فصارت تطلق (تعال) على: احضر عندي. ولو كان الآمر أسفل والمأمور أعلى، فيقول الرجل في الأرض لمن على السطح: تعال عندي، وهو في الحقيقة: تَسَافَلْ إليّ، إلا أن العرب صارت تطلق (تعال) بمعنى: احضر، من غير نظر إلى أصل العلو والسفل (¬1). فمعنى {قُلْ تَعَالَوْاْ} احضروا عندي، وادنوا مني، واقربوا مني {أَتْلُ} عليكم {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}. {أَتْلُ} معناه: أقْرَأُ وأَقُصّ، والمضارع مجزوم في جواب الأمر، وعلماء العربية يقولون: إن المضارع المجزوم في جواب الأمر أنه في الحقيقة مجزوم بشرط مقدر دَلَّ عليه الأمر، وتقديره: إن تَتَعالوا (¬2)، أي: إن تحضروا عندي أتل عليكم ما حَرَّم ربكم. و (أتل) معناه: أقرأ وأقص. وأصل (التلاوة) من (تلاه يتلوه) إذا تَبِعَهُ؛ لأن (التلاوة) مصدر سيال لا تحصل إلا من حرف يتلوه حرف، يتلوه حرف، يتلوه حرف، وهكذا. فأصلها من: (تلاه يتلوه) إذا تَبِعَهُ، والعرب تسمي التابع: تالياً، والمتبوع: متلوّاً. والتِّبَاعَةَ تلاوة، ومنه سموا الجمل: تالياً؛ لأنه يتبع النوق فيشمها ليعرف منها المستعدة للقاح واللاقح كما هو معروف (¬3). ومنه قول غيلان ذي الرمة (¬4): إِذَا الجَافِرُ التَّالِي تَنَاسَيْنَ عَهْدَهُ ... وَعَارَضْنَ أَنْفَاسَ الرِّيَاحِ الجَنَائِبِ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 131)، المصباح المنير (مادة: علو) ص (162). (¬2) مضى عند تفسير الآية (69) من سورة البقرة. (¬3) انظر: المفردات (مادة: تلا) (167)، القاموس (1634). (¬4) البيت في ديوانه ص (96). وفيه: «وصله» بدلاً من: «عهده».

أصل (التلاوة) مصدر سيال؛ لأنها من مقاطع حروف يتلو بعضها بعضاً. والمصادر قسمان: مصدر سيال، ومصدر غير سيال. فالمصدر الذي ليس بسيال هو الذي يحصل بأدنى مرة؛ كالضرب، فإنك لو ضربت شيئاً بشيء مرة واحدة حَصَلَتْ ماهية الضرب، فالضرب مصدر غير سيال، بخلاف التلاوة والكلام، فلو نطقت بحرف واحد لم تحصل التلاوة؛ لأنها مصدر سيال لا بد مِنْ بَعْض يتبع بعضاً حتى يتم معنى المصدر. قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (ما) هنا: موصولة، وهي على التحقيق في محَلّ المفعول مفعول (أتل)، معناه: أقرأ وأقص عليكم الذي حَرَّمَهُ ربكم عليكم، وقيل: إنها استفهامية مُعَلَّقة للفعل، وهو ضعيف؛ لأن المعروف في علم العربية أن الاستفهام إنما يعلق أفعال القلوب، والتلاوة ليست من أفعال القلوب، فالتحقيق أن (ما) موصولة، وأنها في محل المفعول؛ أي: تعالوا أقرأ وأقص عليكم الذي حَرَّمَ رَبّكم عليكم (¬1). والتحريم في لغة العرب معناه: المنع، وهو يطلق في الشرع وفي اللغة؛ يطلق في الشرع على ما حرمه الله؛ أي: منعه على لسان نبيه، وتوعد مرتكبه بالعقاب (¬2)، ويطلق في اللغة على مَنْعِ الشيء، فكل شيء منعته بالقوة ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 131)، البحر المحيط (4/ 249)، الدر المصون (5/ 213). (¬2) انظر: الكليات ص (400).

فقد حرمته (¬1)، ومن إطلاقه بمعناه الشرعي: قوله هنا: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فهو تحريم شَرْعِيٌّ، ومن إطلاق التحريم بمعناه اللغوي في القرآن: قوله في بني إسرائيل وهم في التِّيْه، قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: آية 26] فإنه تحريم كوني قَدَري؛ لأن الله منعهم إياه، لا تحريم شَرْعِيّ على التحقيق، ومن إطلاق العرب التحريم على التحريم بمعنى المنع لا بمعنى الشرع: قول امرئ القيس (¬2): جَالَتْ لتَصْرَعُنِي فقُلتُ لهَا اقْصُرِي ... إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ أي: لا تَقْدِرينَ عَلَيْه، ومنه: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء: الآية 95] فهو من التحريم الكوني القدري لا الشرعي، ومنه قول الشاعر (¬3): حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَا الكَرَى ... وَأَنْ تُرْقَآ حَتَّى أُلَاقِيْكِ يَا هِنْدُ والتحريم هنا (¬4) شرعي. {عَلَيْكُمْ} في قوله: {عَلَيْكُمْ} وجهان (¬5): ¬

(¬1) انظر: المقاييس في اللغة (كتاب الحاء، باب الحاء والراء وما يثلثهما) ص (256)، المصباح المنير (مادة: حرم) 51. (¬2) ديوان امرئ القيس ص (157). (¬3) البيت في الكشاف (2/ 65)، مشاهد الإنصاف ملحق في آخر الكشاف ص (29)، البحر المحيط (4/ 305)، الدر المصون (5/ 335). (¬4) يعني في آية الأنعام. (¬5) انظر: القرطبي (7/ 131)، البحر المحيط، (4/ 249)، الدر المصون (5/ 213).

أحدهما: أنه يتعلق بـ {حَرَّمَ}، (حرمه عليكم) أو يتعلق بـ {أَتْلُ} أتلو عليكم ما حرم ربكم. والثاني: سيأتي في الجواب عن الأشكال الذي في لفظة (لا) من قوله: {أَلَّا تُشْرِكُواْ}. و {رَبُّكُمْ} معناه: سيدكم وخالقكم المدبر لشؤونكم. وقوله: {أَلَّا تُشْرِكُواْ} بدأ هذه الوصية بعدم الإشراك بالله؛ لأن إخلاص العبادة لله وعدم الإشراك به هذا رأس الأمر، وهو الذي بعث الله جميع الرسل من أجله، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل والأمم، والله قد أوضح في كتابه ذلك إجمالاً وتفصيلاً، قال على سبيل الإجمال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} بِمَ بعثنا؟ {أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: آية 36]، وقوله: {أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ} هو حظ الإثبات من (لا إله إلا الله)، {وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} هو حظ النفي من (لا إله إلا الله)، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا يُوْحى إِلَيْهِ}، وفي القراءة الأخرى: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} (¬1) {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: آية 25]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف: آية 45] هذه الآيات الإجمالية ونظائرها في القرآن. أما التفصيل: فإنَّا إذا نظرنا إلى دعاوى الرسل وقصصهم مع أممهم وجدنا هذا هو دعوة كل نبي (¬2)، فأول من بُعث بعد الكفر في الأرض: نوح، يقول الله فيه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} ماذا قال ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 301. (¬2) مضى عند تفسير الآية (65) من سورة الأعراف.

نوح؟ {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 59] ثم قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا، ماذا جاءهم به؟ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ} [الأعراف: آية 65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} ماذا قال؟ {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 73] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} ماذا قال؟ {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 85]، وهكذا على سبيل التفصيل. فالسماوات والأرض إنما قامت على أشرف كلمة، هي كلمة (لا إله إلا الله) هي التي خُلقت من أجلها الجنة والنار، وامتُحن الخلق فيها، ودخل من دخل الجنة بالعمل بها، ودخل من دخل النار بعدم العَمَلِ بها، وهي مركبة من جُزْأَين: نَفْي وإِثْبَات. فمعنى نفيها: خَلْعُ جميع أنواع المعبودات في جميع أنواع العبادات غير خالق السماوات والأرض (جل وعلا). ومعنى إثباتها: إفراده (جل وعلا) وحده بالعبادة التي هي التقرُّبُ إلى الله بما أمر أن يُتَقَرَّبَ إليه به على وجه الذل والخضوع والمحبة، فلا يكفي الذل والخضوع عن المحبة، ولا المحبة عن الذل والخضوع، وضابط هذا: من أراد أن يخلص هذه الكلمة لله فلينظر إلى كل شيء أمر الله أن يتقرب إليه به، وأن يتعبد به خلقه، وليخلص في هذا لله، فإنه يلقى الله مسلماً موحِّداً، وليحذر كل الحذر من أن يصرف شيئاً من حقوق الخالق للمخلوق؛ لأن مَنْ لَقِيَ الله لا يُشْرِك به شيئاً دَخَلَ الجنة، والأحاديث في ذلك في حكم المتواترة لكثرتها.

من أشهرها: حديث أبي ذر الثابت في الصحيحين: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّةَ»، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». حتى قال في الثالثة: «وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ»، وكان أبو ذر إذا حدَّث بالحديث يقول: «وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ» (¬1). والعبد إذا لقي ربه بقراب الأرض ذنوباً ولم يشرك به شيئاً لقيه بقرابها مغفرة. وهو يقول في محكم كتابه: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48]، وفي بعض الروايات عن سبب إسلام الوحشي -وإن زعم قوم أنها غير ثابتة، إلا أنها ذكرها بعض العلماء- أن الوحشي عبد جبير بن مطعم لما قال له: إن قتلت عم محمد - صلى الله عليه وسلم - يعني حمزة- بعمي طُعَيْمَة بن عدي الذي قتله يوم بدر فأنت حر، وحضر الوحشي -وأصله عبد حبشي مملوك لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- أُحداً لا يريد إلا حمزة؛ لأجل أن يُعْتِقَهُ سَيِّدُهُ، فأخذ حربة حبشية ذات حدَّين، وكمن في صَخْرَة من صخرات سَفْح جبل أُحد، حتى رأى حمزة، فرماه فأصابه في ثُنَّتِه تحت السرة فخر صريعاً (رضي الله عنه وأرضاه)، بعد أن قتل حمزة لم يف له سيده بوعده بالعتق، فغاضب سيده، وهَمَّ أن يأتي النبي ويُسْلم، زعموا في هذه ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله. حديث رقم: (1237)، (3/ 110) وأخرجه في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث: (1408، 2388، 3222، 5827، 6268، 6443، 7487). ومسلم في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. حديث رقم: (94)، (1/ 94).

القصة أنه كاتَبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- إني أردت الدخول في دينك فمَنَعَتْنِي آية مما أُنزل عليك، قَنَّطَتني من رحمة الله، وهي قول ربك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69)} [الفرقان: الآيتان 68،69] قال: ربك صادق لا يكذب، وقد قال: إن من فعل هذه الثلاث إنه يلقى العذاب ويخلد فيه مهاناً، فإذاً لا فائدة لي في الإسلام، ولا طمع لي في الخير بعد أن فعلت الثلاثة -يعني نفسه البعيد- قالوا: فأنزل الله: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: آية 70] زعموا أن النبي بعث بها إليه، وأنه لما نظرها رد إليه الجواب وقال: ربك يقول: {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} فهذه علي شَرْط قوي، ومن يقدر على العمل الصالح؟ فقد لا أقوم بهذا الشرط، فأنزل الله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] فأرسل إليه بها، فلما تأملها قال: هو يعلق على مشيئته، يقول: {لِمَن يَشَاءُ} ومن هو الضامن والكفيل لي أنه يشاء؟ فأرسل بها إليه، فأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: آية 53] قالوا: فتأملها، فقال: أما هذه فنعم، وأسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه بهذا السياق: الطبراني في الكبير (11/ 197)، ح (11481)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (62/ 413)، وانظر: مختصر ابن منظور (26/ 262 - 263) عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، وعزاه الهيثمي في المجمع (7/ 101) للطبراني في الأوسط، وقال: «وفيه أبين بن سفيان ضَعَّفَهُ الذَّهَبِي» اهـ كما أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (336)، وقد أورده السيوطي في أسباب النزول ص (245) وأشار لضعفه. كما ذكر نحوه (مختصراً) في الدر المنثور (5/ 78) عن سعيد بن جبير مرسلاً، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وأخرج ابن جرير (24/ 14) نحوه مختصراً عن عطاء بن يسار مرسلاً.

هكذا قاله بعض العلماء، مَعَ أن غيره يقول: لم يثبت ترتيب النزول على هذا الوضع. والحاصل أن هذه الآية من أعظم الآيات التي خاطب الله بها هذه الأمة؛ لأن الخطاب بها لخصوص المسرفين على أنفسهم، لم يقل: «يا عبادي الذين آمنوا» بل قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} وهذا يستثنى منه الشرك، فإن الله لا يغفره، كما صرح به في قوله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] فحقه في العبادة لا مسامحة فيه ولا مُهَاوَدة، ولا يقبل إشراك أحد معه فيه، وغير ذلك من الذّنُوب إنْ شَاءَ عفَاهُ عن صاحبه، وإن شاء أخذه به، كما هو معلوم. فعلينا أن نتأمل هذه الآيات، ونَحْذَر كل الحذر مِنْ أنْ نَصْرِفَ شَيْئاً من حقوق الله لأحد مِنْ خَلْقِهِ، بل نفرق بين حقوق الخالق وحقوق المخلوق، ونُفْرِد الخالق بحقوقه، ونُعطي المخلوقين حقوقهم، ومن حقوق الله التي غَلِطَ فيها كثير من عوام المسلمين فصرفها لغير مستحقها ودخل بذلك أمراً هائلاً عظيماً: هو أنه قَرَّرَ الله في كتابه في آيات واضحة: أن الإنسان إذا أنزل الله به الكروب والشدائد التي لا يقدر على رَفْعِهَا

إلا الله فالالتجاء في هذا الوقت [إلى الله يُعَدّ] (¬1) من خصائص الربوبية، وحقوق خالق السماء الخالصة. فنحن علينا معاشر المسلمين -ونسأل الله العافية- إذا نزل بأحدنا كرب أو مكروه أو داهية، أن يعلم أنَّ الِالْتِجَاءَ في ذلك الوقت من خصائص الربوبية، كخلق السماوات والأرض، وقد أوضح الله هذا في آيات كثيرة، ومِنْ أَصْرَحِ الآيات التي أوضح فيها أن الالتجاء وقت نزول الكروب والشدائد التي لا يقدر على كشفها إلا الله: آيات في سورة النمل؛ لأن الله بَيَّنَ ما يختص به، وما يلزم لربوبيته من الحقوق فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ (59)} وفي قراءة أخرى: {أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2) ثم قال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)} ثم قال وهو محل الشاهد: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} ثم قال: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ} يستحق هذه الحقوق؟ ثم قال: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)} [النمل: الآيات 59 - 64]، فهذه حقوقه الخالصة، وسيد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه- لعلمه ¬

(¬1) مابين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص 334 ..

بالوحي ونور بصيرته بالقرآن، كان إذا نزلت به الشدائد والكروب عرف مَنْ صاحب هذا الحق، وصَرَفَ هَذا الحق لمن هو له؛ ولذلك لما نَزَلَتْ به أعظم كُرْبَةٍ يَوْم بدر، وكانت معه طائفة قليلة من المسلمين، كما قال الله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: آية 123] ولو قُتلت تلك الطائفة لم يُعْبَدِ الله في الأرض قَطّ، كما صَرَّحَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة: «اللهُمَّ إن تَهْلِك هذه الطَّائِفة فإنك لن تُعْبَدَ في الأرْضِ» (¬1) والمشركون في قوة عَدَدِهِمْ وعُددهم، وهذا أعظم الكرب، ولا يَقْدِر على كشفه إلا الله، وهو - صلى الله عليه وسلم - على وَعْدٍ من الله أن يُعْطِيَهُ إحدى الطائفتين {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: آية 7] وهو يَتَضَرَّع إلى الله: «رَبّ أنجِزْ مَا وعَدْتَنِي، رب أنجِزْ مَا وعدْتَنِي» حتى يسقط رداؤه عن ظهره، فيأتي أبو بكر رضي الله عنه، ويجعل الرداء على ظهره ويقول: حسبك، فإن ربك لن يخلفك، وأنزل الله في هذا -كَما ثبت في الصحيح-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (¬2) [الأنفال: آية 9]. فعلينا -معاشر المؤمنين- أن نعلم حقوق خالقنا، وأن نكون لمحبة رسولنا وتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - واتباعه نقر عينه بإفراد خالق السماوات والأرض بحقوقه (جل وعلا)؛ فإن الشيطان يدخل لبني آدم من طرق خَفِيَّةٍ، فإذا قيل للجهلة: هذا حق خالص لله كخلقه ¬

(¬1) سيأتي تخريجه قريبًا إن شاء الله .. (¬2) البخاري في الجهاد، باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب، حديث رقم: (2915)، (6/ 99)، وأخرجه في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث: (3953، 4875، 4877).

للسماوات والأرض وخلقه للبحار، وسيد الخلق كان يصرف هذا الحق لله، فنحن -اتباعاً له - صلى الله عليه وسلم - ومحبَّةً وتَعْظِيماً- نَصْرِفُ هذَا الحق لمن هو له، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يصرفه فالشيطان يُردِيْه هذا الإخلاص لله، ويعلم أنه إقرار لعين الرسول، ومرضاة لله، وتعظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة له واتباع، وهذا يغيظ الشيطان ويبغضه، فيقول: من يقول لك هذا فهو من الذين لا يعظمون الرسول ولا الصالحين، ويمنعونك من أن تصرف لهم هذه الحقوق، هذه فلسفة شيطانية، والقرآن يبيّن أن هذا الحق من خصوص الربوبية حق خالص لله، والرسل يصرفونه لله، فنحن إنما علينا -لمحبة الرسل وتعظيمهم- الاقتداء بهم، وأن نُخْلِصَ لله حَقَّهُ كما كانوا يخلصونه له، والكفار -مع جهلهم- صرحت عنهم الآيات التي لا تكاد تُحْصَى في المصحف أنهم كانوا يعرفون هذا، فإذا نَزَلَتْ بهم الكروب والشدائد العظام صَرَفُوا الحق في ذلك الوقت لمستحقِّه تَماماً، فإذا أمِنوا رجعوا يصرفونه لغيره! والآيات في المصحف الدالَّة على هذا لا تكاد أن تحصيها {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يعني: إذا ركبوا في السفن، واضطربت عليهم أمواج البحر ورَأوُا الكروب وخافوا الموت دعوا الله مخلصين له الدين {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: آية 65]، ويصرفون الحَقَّ لغير من هو له {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: آية 32]، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى

فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)} [الإسراء: الآيات 67 - 69] {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: يصرفون الحق لغير صاحبه، {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس: الآيتان 22، 23]، والآيات بمثل هذا لا تحصى في المصحف، وقد قَدَّمْنَا مراراً (¬1) أن المعروف في التاريخ أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل (رضي الله عنه) أنه كان شديد العداوة في الجاهلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مِنَ الجماعة الذين جاءوا من وراء الصحابة يوم أُحد -لما تركوا المركز في سفح الجبل، وبقي أميرهم عبد الله بن جبير وطائفة حتى قُتِلُوا- هو وصفوان بن أمية في الجماعة الذين جاءوا من وراء ظهور المسلمين حتى دارت رَحَى الحرب على المسلمين، وجرح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشُجَّ حتى غاصت فيه حِلَق المغفر، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وشُقَّت شفته، ومُثِّل بعمه وابن عمته، وقُتل سبعون من خيار الأنصار، وكذلك هو يوم فتح مكة من أشد الناس [حماسة] للقتال (¬2)؛ ولذلك قال حِمَاس بن قيس الذي كان يقول لامرأته: سأجعل لك خدماً من نساء محمد، وإذا جئتك هارباً فأَغْلِقِي الباب دوني، فجاء هارباً يوم فتح مكة! فقالت له: أين ما كنت تقول؟ فقال رجزه المشهور (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (40 - 41) من سورة الأنعام. (¬2) في الأصل: «عداوة» وهو سبق لسان. (¬3) الأبيات في السيرة لابن هشام ص (1250)، معجم البلدان (2/ 393). وقد وقع هنا في الأبيات الثلاثة بعد الأول شيء من التقديم والتأخير، والذي في المصدرين السابقين. وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نَهِيتٌ خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

إِنَّكِ لَوْ شَهَدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وفَرَّ عِكْرمهْ ... وأَبو يزيدَ قائمٌ كالمُؤْتِمَهْ ... وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ المُسْلِمَهْ ... لَهمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ ... يَقطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمَهْ ... ضَرْباً فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ ... لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ كان عكرمة بالغاً هذا من معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، وعرف عكرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اسْتَتَبَّ لَهُ الأمر في مكة، فرَّ هارباً إلى الحبشة بغضاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فَرَكِبَ في سفينة في البحر الأحمر ذاهباً إلى الحبشة، فلمَّا تَوَسَّطَتْ بهم بطن البحر الأحمر هاجت عليهم عواصف الريح، وهاجت عليهم الأمواج، وأيقنوا بالهلاك، فإذا جميع من في السفينة ينادي بعضهم بعضاً من أطراف السفينة؛ احذروا في هذا الوقت أن تدعوا غير الله لئلا تهلكوا؛ لأنه لا ينقذ من هذه الكروب والأهوال إلا هو وحده (جل وعلا)، فجاءت في رأس عكرمة، ثم قال: والله إن كان لا ينجي من ظلمات البحر إلا هو فلا ينجي في كربات البر إلا هو، ثم قال: اللهم لَكَ عليَّ عهد إن أنْقَذْتَنِي من هذه فلأضَعَنَّ يَدِي في يد محمد - صلى الله عليه وسلم - فلأجدنَّه رؤوفاً رحيماً. وعلى كل حال فإِخْلَاص حقوق الله لله مرضاة لله، ومرضاة للرسول، وإقرار لعين الرسول، واتباع له وتعظيم، وعمل بالعلم والقرآن. وهذا مما ننصح به أنفسنا وإخواننا على ضوء كتاب الله تعالى.

وقوله جل وعلا: {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام فيها إشكال معروف مشهور، وأجوبة العلماء عنه معروفة مذكورة مشهورة. اعلموا أولاً: أن قوله هنا: {شَيْئاً} فيه وجهان من الإعراب (¬1): أحدهما: أنه ما ناب عن المصدر فهو مفعول مطلق في المعنى؛ أي: لا تشركوا بالله شيئًا من الإشراك، أي: لا إشراكاً صغيراً كالرياء، ولا إشراكاً كبيراً، فعليه يكون اسم (الشيء) واقعاً على الإشراك/ فيكون في معنى المصدر، [21/ب] ويُعرب ما ناب عن المطلق؛ أي: لا تشركوا بالله شيئاً؛ أي: لا تشركوا به إشراكاً؛ أي: شيئاً من الإشراك، قليلاً أو كثيراً. الثاني: أنه مفعول به بـ {أَلَّا تُشْرِكُواْ} أي: لا تشركوا به شيئاً من الشركاء؛ لأن حقوقه الخالِصَة لا يُشْرَكُ معه فيها أحد كائناً ذلك الأحد من كان، سواء كان نبيّاً أو مَلَكاً أو غيرهما، وأكره ما يكره الأنبياء والملائكة أن يُشْرَكَ بالله غيره؛ كما قال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: آية 80] وقد أمر الله سيد الخلق أن يصدع بذلك الأمر المؤسف العظيم (¬2) في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 218). (¬2) أي: يصدع في بيان بطلانه، ويعلن منابذته، أي: الشرك.

[آل عمران: آية 64] أي: مخلصون لله العبادة وحده، لا نتخذ غيره ربّاً، ولا نشرك به غيره. أما محل السؤال والإشكال في الآية: فهو في لفظة (لا) لأنه يقول: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فمعناه: أن هذا الذي يتلوه مُحَرَّم، وقوله: {أَلَّا تُشْرِكُواْ} عدم الشرك ليس بمحرم بل هو واجب حَتم {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} بر الوالدين ليس بمحرم، بل هو واجب حتم، فصار الإشكال في لفظة (لا) وهو إشكال معروف عند العلماء. وللعلماء عنه أجوبة كثيرة (¬1): منها ما ذَكَرَهُ جماعة من العلماء أن مِنْ أسَالِيبِ اللغة العربية زيادة لفظ (لا) لتوكيد الكلام وتقويته إذا كانت القرينة تدل على أنها لا يُقصد بها نفي (¬2)، وزيادة لفظة (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أجمعَ عليها جميع علماء العربية في الكلام الذي فيه معنى الجحد -أعني الكلام المُشم برائحة النفي- لا خلاف في هذا بين العلماء، وهو كثير في القرآن، ومنه قوله: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه: الآيتان 92، 93] يعني: ما منعك أن تتبعني، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: آية 12] أي: ما منعك أن تسجد. على أصح التفسيرين (¬3)، بدليل قوله في (ص): {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: آية 75]، {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: آية 29] أي: ليعلم أهل الكتاب، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: آية 65] أي: فوربك ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 215)، القرطبي (7/ 131)، البحر المحيط (4/ 249 - 250)، الدر المصون (5/ 213 - 218). (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: فتح القدير (2/ 191).

لا يؤمنون {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: آية 34] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 109] على أحد التفسيرين (¬1)، وهو كثير في كلام العرب معروف، ومن أمثلته في كلام العرب قول أبي النجم (¬2): وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا ... لمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا وقول الآخر، وأنشده ابن هشام لهذا المعنى في المغني (¬3): وتَلْحَيْنَنَي في اللَّهْوِ أَنْ لَا أُحِبَّهُ ... وَلِلَّهوِ دَاعٍ دَائِبٍ غَيْرِ غَافِلِ ( .... ) (¬4) وأنشد الفراء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر (¬5): مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ دِينَهُمُ ... وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ يعني: والأطيبان أبو بكر وعمر. وأنشد الجوهري لزيادة (لا) في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد قول الراجز (¬6): فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ ... بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ ¬

(¬1) انظر المصدر السابق (2/ 152). (¬2) مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة. (¬3) المغني (1/ 200). (¬4) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وهو غير مؤثر هنا. (¬5) مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة وأورده الفراء في معاني القرآن (1/ 8). (¬6) البيت للعجاج، وهو في الخصائص (2/ 477)، معاني القرآن للفراء (1/ 8)، اللسان (مادة: حور) (1/ 750)، الصحاح (مادة: حور) (2/ 639)، الخزانة (2/ 95 - 98)، (4/ 490).

لأن الحور هو الهلكة معنى، والمقصود: في بير هلكة وقع، و (لا) زائدة، والكلام هنا ليس فيه معنى الجحد. وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) لتقوية الكلام في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد قول ساعدة بن جؤية الهذلي (¬1): أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ ... غَابٌ تَسَنَّمَهُ قِرَابٌ مُثْقَبُ يعني: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ، كما هو معروف. وأنْشَدَ بعضهم له قول الآخر (¬2): تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ صَميمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ أي: كاد يتقطع. قالوا: هذا أُسلوب معروف، و (لا) هنا صلة دل المقام عليها، وهي تفيد تقوية الكلام، والنهي عن الشرك. هذا قول بعض العلماء. وقال بعض العلماء: (أنْ) هنا تفسيرية. وهو التحقيق، وهي مُفَسَّرَةٌ لـ {حَرَّمَ} (¬3)، وإذا فسرنا التحريم كان {أَلَّا تُشْرِكُواْ} هو معنى التحريم؛ لأن {أَلَّا تُشْرِكُواْ} هو معنى تحريم الشرك. وضابط (أنْ) التفسيرية عند علماء العربية: أن تتقدمها جملة فيها معنى القول وليس فيها حروف القول (¬4)، فتكون (أَنْ) مفسرة للتحريم، وما بعدها هو تفسير التحريم؛ لأن النهي عن الشرك هو معنى تحريم الشرك بعينه، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة، وفيه: «وكاد ضمير ... ». (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 249)، الدر المصون (5/ 213). (¬4) انظر: البحر المحيط (4/ 250)، الدر المصون (5/ 213)، الكليات ص 193، معجم الإعراب والإملاء ص 88.

وعلى هذا فلا إشكال، فـ (أَنْ) يُفَسِّر ما بعدها ما قبلها، وهي (أَنْ) التفسيرية كما هو معروف. وقال بعض العلماء: قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} انتهى الكلام. وقوله: {عَلَيْكُمْ} ابتداء كلام، و {عَلَيْكُمْ} اسم فعل، كما قال في الخلاصة (¬1): والفعل من أَسْمَائِه عَلَيْكَا ... والمعنى: عليكم ألا تشركوا بالله. {عَلَيْكُمْ}: الزموا واحتزموا، وعليكم ألا تشركوا بالله، وعليكم أن تُحسنوا بالوالدين إحساناً، وعليكم ألا تقتلوا أولادكم من إملاق ... إلى آخره. وقال بعض العلماء -وهو ليس بوجيه-: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أتلوه عليكم لئلا تشركوا بالله شيئاً. وأظهر الأوجه وأحسنها: هو ما دل عليه القرآن؛ لأن خير ما يُفَسَّر به القرآن: القرآن أن معنى قوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي: ما حَرَّمَهُ عليكم فعلاً وتركاً، وأن التحريم فعلاً وتركاً هنا مُضَمَّن معنى: {وَصَّاكُمْ بِهِ} (¬2) فكأنه يقول: أتلو ما وصاكم ربكم به تحريماً وإباحة، والدليل على هذا: أن الله لما علم أن في الآية شِبْه إجمال أوضحه في آخرها فقال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فعرفنا أن ذلك التحريم هو معنى الوصية، فيكون معنى: {حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أي: حرم عليكم فعلاً وتركاً؛ أي: وصاكم ¬

(¬1) الخلاصة ص 54، انظر: شرح الأشموني على الألفية (2/ 201). (¬2) وهو اختيار ابن جرير. انظر جامع البيان (12/ 215)، وانظر: أضواء البيان (2/ 278).

بأن تفعلوه أو تتركوه، كما فسره بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ونظيره في كلام العرب قول الراجز (¬1): حَجَّ وأوْصَى بِسُلَيْمَى الْأَعْبُدا ... أَنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أَحَدَا وَلاَ يَزَلْ شَرَابُها مُبرَّدا وهذا معنى قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً، جرت العادة في القرآن أن الله يقرن بِرَّ الوالدين بتوحيده (جل وعلا) في عباداته كقوله هنا: {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: آية 23] {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] إلى غير ذلك من الآيات، ولا شك أن الله لم يجعل بِرَّ الوالدين مقروناً بتوحيده دائماً إلا لعظمة بر الوالدين، فإن بر الوالدين من أعظم الحسنات والقُرُبَاتِ عند الله، وعقوق الوالدين من أخْبَثِ الخبائث وأكبر الذنوب، فعلينا معاشر المسلمين أنَّ مَنْ كَانَ عنده إما والد أو والدة أن يتحمل أذاه ويبره ويحسن إليه، ويسارع في مرضاته الأيام القليلة من الدنيا، حتى يموت وهو عنه راض. واعلموا أن من أعطاه الله شائباً أو شائبة أباً أو أمّاً، فكأنه أعطاه وسيلة الجنة سهلة، ومن قَصَّر فيها فهو مُفَرِّط مُضَيِّع، مع أن عقوق الوالدين مع ما فيه من إسخاط الله وإغضاب خالق السماوات والأرض وسبب دخول النار، وفيه أيضاً القُبْح وعدم الإنسانية وخساسة فاعله. فعلينا معاشر المسلمين أن نفهم هذا، وأن نعلم أن ربنا يجعل ¬

(¬1) وهو في ابن جرير (12/ 216).

بر الوالدين دائماً مع توحيده ومن كان منا عنده والد أو والدة فَلْيَسْعَ كل السعي في أن يبره، ولْيَعْلَم أن الكبير لا يتحمل على أذاه إلا من عنده تقوى؛ لأنه إذا شاب وكبرت سنه كان لا يُتَحَمَّل؛ لأنه يكثر سؤاله عن الأشياء التي لا تعنيه، وتكثر أغراضه فيما لا تعنيه، وهذا يستلزم صبراً، فعلى الولد أن يَتَحَمَّلَ، ويُثَابِر على أن يفتيه في كل ما سأل مما لا يعنيه، ويصبر على جميع أذاه، ويحسن إليه، ويبرّه حتى يَمُوت وهو عنه راضٍ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت عنه الأحاديث التي لا تُحْصَى في الترغيب في بر الوالدين واسْتِجْلَابِهِ الجنة، والترهيب من عقوق الوالدين، وما فيه من العقوبات، ونحن لا نحتاج أن نُنَوِّه بشيء من هذا بعد أن نرى خالق السماوات والأرض يجعل بر الوالدين مقروناً بتوحيده في عبادته جل وعلا. فعلينا جميعاً معاشر المسلمين أن نعتبر بهذا، وأن نبر أمهاتنا وآباءنا، ونصبر على أذاهما، ولا نُغلظ لهما القول، ولا نمنعهما من شيء يحبانه، بل نسارع في مرضاتهما بحسب الإمكان، ويكفيكم على هذا دليلاً هو نص القرآن العظيم على أن الوالد يبره ولده وإن كان الوالد كافراً؛ لأن آية العنكبوت نزلت في أُميمة والدة سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه وأرضاه) (¬1)، فإنه لما أسلم حلفت أمه أُميمة أن لا تأكل، ولا تشرب، ولا تدخل الظل حتى يرجع عن دين الإسلام، فَمَكَثَتْ في الشمس ما شاء الله حتى خَرَّت مغشيّاً عليها، وجاءوه وقالوا له: أمك ستموت! فجاءها ثم قال لها: والله لو كانت ¬

(¬1) أمه هي حمنة بنت سفيان بن أُمية بن عبد شمس. انظر: الآحاد والمثاني (1/ 166)، (مختصر تاريخ دمشق لابن منظور) (9/ 253)، السير (1/ 96)، فتح الباري (7/ 84). وفي الآحاد والمثاني: «حمنة بنت أسد».

لك مائة نفس ومتِّ مائة موتة بكل نفس من تلك الأنفس فإني لا أرجع عن دين الإسلام أبداً، إن شئت فكُلي وإن شئت فموتي! فأنزل الله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: آية 8] ثم قال (¬1): {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (¬2) [لقمان: آية 15] فأمره بأن يصاحبهما بالمعروف وهما كافران، فما بالك بالمُؤمِنَين؟! وقد جاء عن بعض العلماء أن سبب نزول الآية التي في سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: آية 8] أن أسماءَ بنت أبي بكر (رضي الله عنها) ليست شقيقة عائشة وعبد الرحمن؛ لأن عائشة وعبد الرحمن شقيقان، أمهما أم رومان الفراسية من بني فراس، من بطون كنانة، وأسماء أمها امرأة أُخرى تسمى: قَيْلَة، وقد جاءت إلى المدينة زائرة ابنتها أسماء، والأم كافرة، فما رضيت أسماء أن تُنزل أمها حتى تستشير النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أنها جاءت زائرة! ومعها هدايا من هدايا البادية، فأمرها النبي أن تنزلها وتحسن إليها (¬3). قال بعض العلماء: ¬

(¬1) هذه ليست من آية العنكبوت كما لا يخفى، وإنما هي من سورة لقمان. وقد جاء في بعض الروايات ما يدل على أن الآيتين نزلتا فيه. (¬2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه)، حديث رقم: (1748)، (4/ 1877). (¬3) البخاري في الهبة، باب الهدية للمشركين، حديث رقم: (2620)، (5/ 233)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (3183، 5978، 5979)، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين ... ، حديث رقم: (1003)، (2/ 696).

وفيها نزلت: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} (¬1). فالحاصل أن على المسلم أن يبر والديه ولا يعقهما، فبِرّ الوالدين من أعْظَمِ الذّخَائر عند الله، ومن أعظم أسباب دخول الجنة، وعقوق الوالدين من كِبَائِرِ الذنوب الموجبة لسخط الله ولدخول النار مع قُبْحِهَا في الدّنيا. وقوله: {إِحْسَاناً} مصدر، قال بعض العلماء: منصوب بفعل محذوف {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً (¬2). وقوله جل وعلا: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} [الأنعام: آية 151] قال هنا في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} وقال في سورة بني إسرائيل- وهي سورة الإسراء-: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: آية 31] قال بعض العلماء (¬3): بين الآيتين فَرْق؛ لأن آية الأنعام تدل على أن الرجل يكون فقيراً في هذا الوقت ويقتل ولده للفقر الحاضر، وهو معنى قوله: {وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} أي: من أجل الإملاق، وهو الفقر الحاضر. الثانية: أن يكون غير فقير، ولكنه يخاف الفقر في المستقبل، ¬

(¬1) صرح بذلك سفيان بن عيينة عقب رواية الحديث، كما عند البخاري في كتاب الأدب (10/ 413). وقد ورد ذلك صريحاً من طريق آخر لا تخلو من ضعف. (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 215)، القرطبي (7/ 132). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 251)، الدر المصون (5/ 219)، أضواء البيان (2/ 278).

فيقتله لئلا يفتقر في المستقبل، وهي قوله: {وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}. وجماهير علماء العربية على أن (الإملاق) أصله مصدر: (أملق الرجل، يُملِق، إملاقاً) إذا كان فقيراً، قال بعض العلماء: واشتقاقه من (المَلَقَات) (¬1)، و (المَلَقات): الحجارة الضخام (¬2)، وهو معروف [في كلام] (¬3) العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (¬4): أُتيْحَ لَهَا أُقَيْدِر ذُو حَشِيفٍ ... إِذَا سَامَتْ عَلَى المَلَقَاتِ سَامَا فكما يقولون: تَرِبَتْ يداه: لم يَبْقَ عنده إلا التراب، يقولون: أملق: لم يبق تحت يده إلا الجبال والصخور العظام التي لا يقدر أن يحصل منها شيئاً. وقال بعض العلماء: كانت لغة لخم من قبائل قحطان أنهم يطلقون (الإملاق) على الجوع (¬5). وقال بعض العلماء: الإملاق يطلق على الإنفاق، تقول العرب: «أملق ماله». إذا أنفقه (¬6)، قالوا: ومنه: (التَّمَلُّق) في ¬

(¬1) انظر: اللسان، (مادة: ملق) (3/ 527). (¬2) انظر: المصدر السابق. (¬3) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬4) البيت لصخر الغي الهذلي، وهو في اللسان (مادة: ملق) (3/ 527)، القرطبي (10/ 252). (¬5) انظر: القرطبي (7/ 132)، الدر المصون (5/ 218)، أضواء البيان (2/ 278). (¬6) انظر: المصدر السابق.

الكلام؛ لأن الإنسان يعطي باللسان ما ليس عنده في قلبه في الحقيقة. والمشهور الذي عليه جمهور المفسرين وعلماء اللغة: أن (الإملاق) هنا هو الفقر (¬1)، وكان العرب يئدون بناتهم خوف أن يفتقروا فتجوع بناتهم؛ لأن جوع بناتهم قد يسبب لهن أن يزوجوهن من غير الأكفاء، وأن يقعن في معرات لا تليق، وقد يخافون عليهن من السبي، فكانوا يقتلوهن لهذا السبب!! يقولون: إذا جاعت ابنته اضطرت إلى أن تتزوج غير كفء، وكانوا يتشددون في مصاهرة غير الأكفاء، ويقتلون البنات خوفاً من هذا، وإذا خاف الرجل أن يفتقر وتبقى ابنته في جوع وبؤس، فإنها إذا كانت في جوع وبؤس قد تضطر إلى أن تتزوج غنيّاً ليس بكفء لها فيئدونهن. وقد ذكرنا مراراً أن عقيل بن عُلَّفة المري لما خُطِبَت عنده ابنته الجرباء أنشد رجزه المشهور (¬2): إنِّي وَإِنْ سِيقَ إلَيَّ المَهْرُ ... عَبْدٌ وَأَلْفَانِ وَذَوْدٌ عَشْرُ أَحَبُّ أَصْهَارِي إِليَّ الْقَبْرُ وكانوا يقولون: إِنَّ الزَّوْجَ الذي يسترها ويكفي عارها تماماً إنما هو القبر، كما قال الشاعر وعنده ابنة تُسمى مودة (¬3): مودَّةُ تهوى عُمْرَ شيخٍ يسرُّه ... لها الموتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لوْ أنَّها تَدْرِي ¬

(¬1) انظر ابن جرير (12/ 217)، القرطبي (7/ 132)، الدر المصون (5/ 218)، أضواء البيان (2/ 278). (¬2) مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

يَخَافُ عليْهَا جَفْوَةَ النَّاسِ بَعْدَهُ ... وَلَا خَتَن يُرْجَى أَوَدّ مِنَ الْقَبْرِ والخَتَن في اللغة: زوج البنت (¬1). يعني: لا زوج للبنت يُرجى أرجى من القبر؛ لأنه يستر عارها، ويمنعها من تزويج غير الأكفاء، ومن الإهانات على زعمهم الفاسد. ولما كان صخر أخو الخنساء كل عام يُقاسم الخنساء ماله، ويجعله شطرين، ويعطيها الشطر الأوفى، وقالت له امرأته: تقاسم مالك كل سنة مع الخنساء وزوجها مِتْلاَف سفيه يُضيع مالك، أنشد راجزاً (¬2): وَكَيْفَ لَا أَمْنَحُهَا خِيَارَهَا ... وَهْيَ حَصَانٌ قَدْ كَفَتْنِي عَارَهَا ... ولو هلكتُ لَبِسَتْ إزارها فعندهم الشهامة العربية والغيرة الكاملة على الحريم، إلا أن كل شيء إذا زاد عن قدره صار بلاء وخسيساً، فالأمور ينبغي أن لا تُزَادَ وَلَا تنقص عن حدودها. فلا تَغْلُ في شيء من الأمر واقتصِد ... كِلاَ طَرفي قَصْدِ الأمورِ ذميم (¬3) فالغلو في الغيرة جرَّهُم إلى أن دفنوا بناتهم خوف أن يجوعوا وتجوع البنات فَيَضْطَرِرْنَ بذلك إلى الوقوع فيما لا ينبغي، أو إلى ¬

(¬1) انظر: المصباح المنير (مادة: ختن) ص (63). (¬2) في الشعر والشعراء ص (220) هكذا: والله لا أُمْنَحُها شرارَها ... ولو هَلَكتُ مَزَّقَتْ خِمَارَهَا ... وجَعَلَت من شَعَر صِدَارَها وفي الإصابة (4/ 289): والله لا أمنحُها شِرَارَهَا ... وهي التي أَرْخَص عنى عارها ... ولو هلكتُ خرقَت خِمارَها ... واتَّخَذت من شَعَر صِدَارَهَا (¬3) البيت لمحمد بن مسلمة، وهو في الخزانة (1/ 281).

الزواج من غير الأكفاء، هكذا زعمهم الفاسد! وقد صح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: أي الذنب أعظم؟ قال: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» قيل: ثم أي؟ قال: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قال: ثم أي؟ قال: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» (¬1). وهذا مأخوذ من قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} فالحديث كأنه مطابق لآية الفرقان، ثم إن الله قال هنا: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} كأنه يقول لهم: يا سفهاء العقول، يا مجانين، تقتلون أفلاذ أكبادكم خوفاً من الفقر؟! فرزقهم علينا، نحن نرزقكم ونرزقهم، ورزق الجميع علينا، قال هنا: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لأنهم فقراء في الحين حيث قال: {مِّنْ إمْلاَقٍ} أي: من فقر واقع، وقال هناك لما أرادوا أن يقتلوهم من خشية فقر مستقبل: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ} بدأ بالأولاد {وَإِيَّاكُم} [الإسراء: الآية 31]. وهذه الآيات تدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يستثقل كثرة أولاده خوفاً من الجوع والفقر؛ لأن خالق السماوات والأرض يرزق الجميع، وهذه من أوضح الآيات على أن ما يَتَلَاعَب به الشيطان على المتسمين باسم الإسلام مما يسمونه (تحديد النسل) وأن يمتنعوا من أن تكثر أولادهم، أن هذا جهل واقتفاء -في الجملة- للجاهلية ¬

(¬1) أخرجه البخاري في التفسير، باب قول الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حديث رقم: (4477)، (8/ 163)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم: (4761، 6001، 6811، 6861، 7520، 7532)، ومسلم في الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده، حديث رقم: (86)، (1/ 90).

الذين يقتلونهم؛ وذلك لأنهم مشتركون في العلة، والعلة قد تُعَمَّم معلولها؛ لأن الله صرح بأن الجاهلية إنما قتلوهم من خشية الإملاق، وهؤلاء يريدون من تقليل عددهم من خشية الإملاق، فالعلة هي العلة، وكأن قوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لم يطرق أسماعهم -أبداً- ضمان خالق السماوات والأرض لأرزاق الجميع، كأنهم لم يسمعوه، وكأنهم في جاهلية جهلاء، وظُلمة ظلْمَاء؛ لأن الله ضامن رزق الجميع، وكلما كثر النسل، وكثرت الأيدي العاملة كثر الإنتاج، وكثرت خيرات الله وأرزاقه؛ لأن الله ينزل رزقه بعدد خلقه، وصرح بهذا وهو لا يخلف الميعاد {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فهذه الآيات تدل على أن القائلين بتحديد النسل أنهم شاركوا الكفار في العلة، وإن لم يشاركوهم في الحكم، والعلة تكون واحدة وتكون لها أحكام متعددة، كما تقرر في الأصول (¬1)، فالسرقة علة واحدة، وقد تتعدد أحكامها؛ لأن من أحكامها ما هو قطع اليد، ومن أحكامها ما هو غُرْم المال -عند من يقول بِغُرْم المال- فعلة الجميع واحدة، وهي خوف الفقر وضيق المعاش، هذه هي علة الكفار التي قَتَلُوا مِنْ أجْلِهَا أوْلَادَهُمْ، وعلة التابعين لأذناب الإفرنج في تقليلهم عددهم وعُددهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» (¬2) ¬

(¬1) انظر: نثر الورود (2/ 473) .. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 158، 245)، وابن حبان (الإحسان 6/ 134)، والبيهقي (7/ 81) من حديث أنس (رضي الله عنه)، وأبو داود في النكاح، باب النهي عن تزويج مَنْ لَمْ يلد من النساء، حديث رقم: (2035) (6/ 47)، والنسائي في النكاح، باب كراهية تزويج العقيم (6/ 65)، حديث رقم: (3227)، والحاكم (2/ 162)، والبيهقي (7/ 81)، والطبراني في الأوسط (5742). وانظر: صحيح النسائي (2/ 680)، صحيح أبي داود (2/ 386) آداب الزفاف (89، 132)، إرواء الغليل (6/ 195)، المشكاة (3091).

والكثرة خَيْرٌ مِنَ القلة، والله (جل وعلا) بارئ لكل ذي نسمة شق فاها بارئ لها رزقها كما صَرَّحَ بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: آية 6] فهؤلاء شاركوهم في العلة وخالفوهم في الحكم، مع أن هناك بعض المقاربة. فعلينا معاشر المؤمنين أن نعلم أولًا أن كُلَّ ما أراد الله أن يخلقه من النسمات لا بد أن يخلقه، ولو حاول الخلق ما حاول من تقليل النسل، ثم إن كل نَسَمَة خلقها الله فهو رازِقُها إلى أن تموت، وإلى أن تستكمل رزقها، وأن دَعْوَى تَحْدِيد النسل خوف الفقر أنها أذهان الكفار وأقوال الكفار وعقول الكفار التي لم تستضئ بضوء القرآن العظيم؛ لأن الله يقول يفند هذا الرأي: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: آية 151] {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: آية 31]، فلا تضق أذهانكم يعني من الرزق، فالرزق عندنا كثير، ونحن سنرزق الجميع من خزائن رزقنا، ولذا لما أراد المنافقون أن يحاصروا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حصاراً اقتصاديّاً وقالوا: {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} قال الله: {وَلِلهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: آية 7] أي: ومن كانت عنده خزائن السماوات والأرض لا يُضَيِّقُ رزق أحد شاء أن يرزقه، وهذا معنى قوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.

والرزق عند الجمهور: هو ما رزقه الله للإنسان، سواء كان حلالاً أو حراماً (¬1). فالله يرزق الإنسان بالحلال الطيب الهنيء، ويرزقه بالحرام، ثم يؤاخذه عليه، خلافاً للمعتزلة القائلين: إِنَّ الرزق من الله إنما هو الحلال، وإن الحرام لا يُسمى رزقاً؛ لأن العبد أخذه بمشيئته لا بمشيئة الله، كما كنا نقرر ونوضح، وبَحْثُ المتكلمين في الرزق هل يختص بالحلال أو الحلال والحرام معروف ومن يخصه بالحلال فهو مبني على مذهب الاعتزال؛ لأن الله (تبارك وتعالى) كما يشاء من العباد أن يقعوا في المعاصي وتذهب إرادتهم ومشيئتهم إلى المعاصي، كذلك إلى أن يرتزقوا بالحرام فذلك بمشيئته وجّه قدرتهم ومشيئتهم إليه، وهو مؤاخذهم عليه بأعمالهم، وكل مُيَسَّر لما خُلق له. وهذا معنى قوله: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} هذا من وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي لم يُفك عنها خاتمه هي هي كما أُنزلت مما أوصى به - صلى الله عليه وسلم - مبلغاً تلك الوصية عن الله نهي جميع الخلائق عن أن يقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلاَ تَقْرَبُواْ} فيه سر عظيم، وتعليم كبير؛ لأنه لم يقل: وَلَا تفعلوا الفَوَاحِش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ لم ينه عن فعلها فحسب، بل نهى عن قربانها؛ لأن من قرب من الشيء قد يقع فيه، والراتع حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه، فبيَّن في هذه الآية أن الفواحش -وسَنُبَيِّن معناها- أن الإنسان مَنْهِيٌّ عن أن يقربها؛ لأن ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 132، 541 - 546).

القرب منها مظنة للوقوع فيها، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه (¬1)، وهذه الآية الكريمة من الأدلة القرآنية على وجوب سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لأن القرب من الشيء ذريعة للوقوع فيه، فإذا نُهي عن القرب منه كان ذلك سَدّاً لذريعة الوقوع فيه، وقد أجمع العلماء على وجوب سَدِّ الذَّرَائِعِ في الجملة، ودل عليه في الجملة الكتاب، والسنة، والإجماع (¬2). وتفصيل ذلك: أن الذرائع عند علماء الأصول ثلاثة أقسام: قسم يجب سَدُّه بِإِجْمَاعِ المُسْلِمين، وقسم لا يجب سده بإجماع المسلمين، وواسطة هي محل الخلاف، هي المعروفة عند أهل الأصول بـ (الذريعة الوسطى) التي لم تبلغ درجة المُجْمَع على سَدِّهِ ولم تتنازل إلى درجة المُجْمَع على عدم سده، أما المُجمَع على وجوب سَدِّهِ فهو الذي يكون ذريعة إلى الحرام، ويكون ارْتِكَابُهُ مظنة للوقوع في الحرام، وهذا ممنوع بإجماع العلماء، ومن أمثلة هذا القسم المجمع على سده: سب الأصنام إذا غلب على ظن مَنْ سَبَّهَا أن عَبَدَتَها يسبون الله، وقد قدمنا هذا في هذه السورة في قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: آية 108] فسب الأصنام بالنظر إلى ذاته طيب حلال كماء المزن، إلا أنه إن كان ذريعة لِأَنْ يَسُبَّ عبدتُها اللهَ كان حراماً؛ لأنه ذريعة إلى أن يُسَبَّ الله، والذريعة إلى هذا المنكر الأكبر يجب سدها، ومِنْ هذا القسم: أن يشتم الرجل أبَا رَجُل أو أمه، وهو عالم أن ذلك الرجل يَنْتَقِم منه فيسب أباه -انتقاماً- وأمه؛ لأن هذه ذريعة إلى أن يتسبب الرجل في أن يُذم أبوه أو أن تُذم أمه، والواجب عليه برهما ¬

(¬1) انظر: فتح المجيد 389. (¬2) مضى عند تفسير الآية (108) من هذه السورة.

لا عقوقهما بالتسبب في ذمِّهِما، وقد ثبت في الحديث المتفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ مِنَ العقوق شَتْمَ الرجل والِدَيْهِ». قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم، يَسُبّ أبَا الرَّجُلِ فيسبّ أبَاهُ، ويسبّ أمه فيسُبّ أمَّهُ» (¬1) فهذا حديث صحيح لا مطعن فيه، صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ذريعة السب: الشتم، وسب الوالدين حرام، فالذريعة إليه حرام، ومن أمثلة هذا النوع من الذريعة التي يجب سدها بالإجماع: أن يحفر الرجل بئراً في طريق المسلمين ويغطي وجهه بغطاء ليتردى فيه المار، فنفس حفر البئر ليس هلاكاً لمسلم ولا لماله، ولكنه ذريعة للترَدِّي الذي فيه الإهلاك. فهذا النوع من الذريعة يجب سَدّه بإِجْمَاع المسلمين؛ لأنه يؤدي إلى محذور تأْدِيَة معلومة أو غالبة على الظن، فهذا يجب سَدّه؛ لأن الراتع حول الحمى يُوشِكُ أن يقع فيه، ومنه: القرب من أسباب الذنوب، فإنه يكون ذريعة للوقوع فيها. أما الذريعة التي أجمع العلماء على أنها لا يجب سدها، وأنها تُلغى وتُهدر: هي أن تكون الذريعة إلى المفسدة تُعارضها مصلحة عظمى أكبر منها، فإن المصالح العظام الكبار تُقدم على المفاسد الصغيرة، وتحرير هذا المقام: أنه إن تعارضت مفسدة أو مصلحة، فإن كانت المفسدة أكبر حُرِّم الفعل إجماعاً؛ لأن مفسدة سب الله أكبر من مصلحة سب الأصنام، وإن كانتا متساويتين وجب إلغاء المصلحة إجماعاً، أما إن كانت المصلحة راجِحَة هي أكبر وأرجح، والمفسدة صغيرة مرجوحة، ففي هذا تُلغى المفسدة، ويُلغَى سَدّ الذَّرِيعَة إليها؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام.

تقديماً لِلْمَصْلَحَةِ الكبرى، ومِنْ أمْثِلَةِ هذا النوع الذي لا يجب سده؛ لأن المصلحة فيه أعظم من المفسدة: غَرْسُ أشجار العِنَبِ، فإن غرس شَجَرِ العِنَب ذريعة إلى عصر الخمر منه، وهي أم الخبائث -قبحها الله- إلا أن هذه المفسدة أرجح منها عموم جميع الخلق بالزَّبِيب والعنب في أقطار الدنيا. وانظر تَدلِّي دوَالي العِنَبِ ... فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ (¬1) لأن العنب والزبيب منفعتان ينتفع بهما جميع الناس، وعصر الخمر من العنب إنما يفعله أفراد قليلة، فذلك الضرر القليل يُلغَى في جنب تلك المصلحة العامة العظمى، ومن أمثلة هذا النوع مِنَ الذَّرَائِعِ الذي أجمع العلماء على أن سَدَّهُ لا يجب؛ لأن المصلحة أرْجَحُ من المفسدة: مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد؛ لأن مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد بأن تكون هذه الدُّور متجاورة، هذه الدار فيها هذا الرجل وبناته وزوجاته وأخواته، وجاره الذي بجنبه معه أيضاً بناته وزوجاته وأخواته؛ لأن المعاونة بين الرجال والنساء مصلحة عامة لا يستغني عنها العالم، فإن المرأة تقوم بشؤون خدمات البيت في خدرها وبيتها، فترضع الرضيع من الأولاد، وتحنو على الفطيم، وتُؤَانِسُ المَرِيضَ، وتقوم على شؤون البيت، وتكنس، وتعجن، وتخبز، فيأتي الرجل من عمله، أو من جهاده فيجد قرينه الآخر الكريم -الذي هو امرأته- قام له بجميع مصالح الدنيا، فهم محتاجون إلى هذا التعاون والاجتماع، مع أن اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون ذريعة إلى وقوع الزنا من بعض الأفراد؛ ¬

(¬1) هذا البيت من منظومة مراقي السعود، وهو في المتن ص (156).

لأن الرجل يمر من الطريق فتلقي إليه المرأة من الطاقة ورقة فيها موعد يجتمعان فيه، أو يعلو إلى السطح وهي على سطح فيتسايران، كما قال نصر بن حجاج السلمي (¬1): لَيْتَني في المُؤَذِّنِينَ نَهَارَا ... إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مَنْ فِي السُّطُوحِِ ... فَيُشِيرُونَ أَوْ يُشَارُ إِلَيْهِمْ ... حَبَّذَا كُلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيحِ فهذا قد يقع منه الوصول إلى الزنا من بعض الأفراد، إلا أن هذه المفسدة التي تنشأ من اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد تنشأ من أفراد قليلة، وهي مغمورة في المصلحة العامة بمعاونة الجنسين التعاون الكريم كما بَيَّنَّا؛ ولهذا لم يَقُلْ أحَدٌ من العلماء في جميع الدَّهْرِ: إنه يجب سد هذه الذريعة، فَيَجِبُ أن يُعْزَل جميع الإناث من القرية، وأن يُعْزَلَ جميع الذكور إلى جهة، وأن يكون جميع الإناث في حصن من الحديد عليه أبواب حديد قوية وأسلاك شائكة، لا يستطيع أحد خَرْقَهَا، وتكون المفاتيح في يد رجل شائب ذي زوجات معروف بالتقى والعفاف، لم يقل هذا أحد من العلماء! فهذه الذريعة أُلْغِيَتْ لهذه المصلحة التي هي أعظم منها. أما الذَّرِيعة الوسطى التي اختلف فيها العلماء: فَكَبيوع الآجال المعْرُوفَة في عرف أصحاب مذهب مالك ببيوع الآجال، ويسميها الشافعيون والحنبليون: (بيوع العينة) فإن العلماء اختلفوا فيها (¬2)، كأَنْ تَبِيعَ سلعة بعينها لرجل إلى أجل -كأن تبيع له السلعة بأجل إلى شَوَّال- ويكون الثمن عشرة مثلاً، ثم تشتري عين السلعة من ذلك ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (108) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام.

الرجل بدين وأجل مسمى إلى جمادى مثلاً، فإن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، فالسلعة رجعت ليد صاحبها، فكأنه آل الأمر أنه يأخذ عشرة في شوال، فإذا كان جمادى أخذ عشرين عن العشرة التي أخذ في شوال (¬1)، فهذا بالنظر إلى ما يؤول إليه عين الربا، وهو عشرة بعشرين مؤجلة، أما بالنظر إلى ذات العقدين فالعقد الأول عقد على سِلْعَة بِأَجَل دَيْن إلى أَجل مسمى، والعقد الثاني عقد أيضاً على سلعة بأجل إلى أجل مسمى، وكان الشافعي (رحمه الله) يجيز مثل هذا ويقول: إن هذا مباح؛ لأن كلا العقدين مباح في ذاته، وكان غيره يحرمه؛ سدّاً للذريعة؛ لئلا يقصد ببيع السلعة وشرائها أن تكون السلعة أداة لأن يأخذ عشرة ويأخذ بعدها عشرين، وكانت عائشة ترى أن هذا حرامًا، وكان زيد بن أرقم (رضي الله عنه) من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى -رأي الشافعي في هذا- أنه حلال، قالت عائشة لامرأته: قولي لزيد: إن لم يرجع عن هذا الربا فإنه يبطل جهاده مع رسول الله (¬2)، وكان الشافعي (رضي الله عنه) يقول: اختلف زيد وعائشة، والقياس يؤيد قول زيد؛ لأن كلا العقدين سلعة بيعت بثمن إلى أجل معين. وغيرهم من العلماء -وهم الأكثر- يقولون: هذا قد يكون ذريعة إلى الربا فيجب سدها؛ لأن بيع السلعة ¬

(¬1) في المثال المذكور هنا شيء من الاضطراب، وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) هذه المسألة عند تفسير الآية رقم (151) من سورة (الأنعام) ومثَّل لها بقوله: «كما لو باع إنسان سلعة إلى أجل معين بعشرة دراهم مثلاً، ثم اشتراها بثمن أكثر لأبعد من الأول، أو بثمن أقل من الثمن الأول بدون الأجل» اهـ. والعلماء مختلفون في تفسير العينة، والمشهور في معناها: أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من المشتري قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. انظر: نيل الأوطار (5/ 207)، القاموس الفقهي ص 270. (¬2) مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام ..

بعشرة إلى شوال، ثم شراءها بعشرين إلى جمادى، فترجع السلعة إلى موضعها، فكأنها لم تخرج، فيؤول الحال إلى أن يستلم عشرة في شوال، ثم يأخذ عوضاً عنها عشرين في جمادى، فهذا ذريعة إلى الربا يجب أن تسد، فهذه هي الواسطة المُختَلَف فيها، فالشافعي وأصحابه وزيد بن أرقم من الصحابة يرون جواز مثل هذا، وأن هذه ذريعة لا يجب سدها، ومالك وأحمد وعائشة وطوائف من العلماء يرون وُجُوب سد هذه الذريعة، فهذا هو الكلام باختصار على أنواع الذرائع، وما يجب سده منها بالإجماع، وما لا يجب بالإجماع، وما اختُلف فيه. ومن الأدلة على سد الذريعة في الجملة: هذه الآية الكريمة؛ لأن الله لما قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ} ولم يقل: لا تفعلوا الفواحش. علمنا أنه أراد سد الطريق إليها بعدم القرب منها؛ لأن القرب من الشيء ذريعة إلى الوقوع فيه، [22/أ] /والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والخطاب لعامة الناس. والفواحش: جمع فاحشة، وقد تقرر في علم النحو أن (الفَاعِلَة) تُجمع جمع كثرة -جمع تكسير- على (فَوَاعِل) بقياس مطرد (¬1)، والواو في (الفواحش) مُبْدَلَة من الألف التي في مفرد الفاحشة (¬2). فـ (الفَاعِلَة) تُجمع على (فَوَاعِل) بقياس مطرد. ومعنى الفاحشة: أصل الفُحْش في لغة العرب: هو كل شيء ¬

(¬1) انظر: الأشموني (2/ 449). (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص (212).

بلغ نهايته تسميه فاحشة (¬1). والفاحشة في اصطلاح الشرع: الخصْلَة المُتَنَاهِيَة في القُبْحِ (¬2)، فكل خصلة تناهت وبلغت غايتها في القبح [تُسميها] (¬3) العرب فاحشة، ومن قال: إن أكثر إطلاقها في القرآن على الزنا ودلالة اللسان (¬4)، فهو خلاف التحقيق؛ لأن الفاحشة تطلق على كل خصْلَةٍ رديئة بالغة في القُبح والفحش، هذه هي الفاحشة، وكل بالغ غايته في الشيء فهو فاحش، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته (¬5): أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَدِّدِ يعني بقوله: (الفاحش) البالغ غاية الحرص على ماله، و (الفواحش) هنا: هي السيئات العظام المتناهية في القبح، نهى الله خلقه عن أن يقربوا من كل خصلة سوء قبيحة يحرمها الشرع ويحذر الله منها، ثُمَّ عَمَّمَ هذا تعميماً عظيماً فقال: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: آية 151] فقوله: {مَا} بدل من (الفواحش) و {وَمَا بَطَنَ} عطف عليه، والمعنى: احذروا كل الحذر، وتجنبوا كل التجنب جميع الفواحش، سواء في ذلك ما هو ظاهر ¬

(¬1) انظر: المصباح المنير (مادة: فحش) ص (176)، المفردات (مادة: فحش) (626). (¬2) انظر: الكليات ص (675). (¬3) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬4) انظر: الكليات ص (674). (¬5) شرح القصائد المشهورات (1/ 83).

منها، وما هو باطن منها، كما قدمنا في قوله: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: آية 120]. اعلموا أن في {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} تفسيرات خاصة لبعض السلف، ليس المراد بها الحَصْر، وإنما المراد بها التمثيل للظاهر والباطن (¬1)، كقول بعض العلماء: إن العرب كانوا على قسمين فيهم أراذل أنذال يزنون بالنساء في الحواري، من غير محافظة من مرأى الناس، وفيهم ناس لهم نخوة، يجتنبون الزنا بمرأى من الناس، فيتخذون الصديقات والخدينات، ويزنون بهن سرّاً من غير أن يطّلع الناس، فنهى الله عن باطن الزنا وعن ظاهره، وكقول بعض السلف: إن {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: هو ما تفعله الجوارح؛ مِنْ سَرِقَة وزنا وغصب وغير ذلك، و {وَمَا بَطَنَ} هو ما يحتوي عليه القلب من الكبائر القلبية؛ كالعُجْب والرياء والكبر والحسد، وما جرى مجرى ذلك من أمراض القلوب كل هذا من الأمثلة. والتحقيق: أن الآية الكريمة عامة، والخطاب بها عام، فيجب على كل مُكَلَّف أن يَتَباعَدَ من كل معصية خسِيسَةٍ، سواء كان ذلك ظاهراً بمرأى الناس، كالذي يزني والناس ينظرون، أو يقتل والناس ينظرون، أو يرتكب محرَّماً ظاهراً علناً يراه الناس، وكالذي يفعل الفواحش سرّاً من غير اطلاع الناس، سواء الذي يزني من غير أن يراه الناس، والذي يسرق خفية من غير أن يراه الناس، وهذا لا يفعله إلا مَنْ هو في غاية الجهل؛ لأنه إذا خاف أن يطّلع الناس عليه، وترقّب للفاحشة أن تكون باطنة لا يراها الناس، أليس هو يعلم أن خالقه ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 218 - 220).

يَرَاهُ؟ وأن الحفظة الملائكة الكرام حاضرون معه، يُسَجِّلُون عليه ما فعل؟! فَعَلَى المسلم إذا خلا بالأمر، وسَوّلَ له الشيطان أن يفعل تلك الفاحشة؛ لأن الناس لا يرونه، وأنه لا يطّلع عليه أحد، كالذي يخلو بامرأة في محل مقفول، يأمن عيون الناس فيه، فيُخَوِّل له الشيطان الريبة معها، عليه أن ينظر أن الله رقيب عليه، وأن الملائكة الكرام معه {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: آية 7]، وعلى الشخص أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: الآيات 10 - 12] فالذي يستحيي من البشر الضعاف الذين لا يقدرون أن يضروه، ولا يستحيي من خالق السماوات والأرض، فهو مجنون جاهل. واعلموا أولاً أنَّا نذكر أشياء في ضوء آيات القرآن عامَّة، على سبيل النصيحة والإرشاد لعموم إخواننا المسلمين، في ضوء القرآن العظيم، من غير أن نقصد التعريض بشخص معين، ولا بجهة معينة. وإذاً فإنَّا نعلم أن من الفواحش الباطنة أكل الرُّشَا، فهذا الإنسان الخسيس الذي يخاف أعين الناس، ثم يأخذ الرّشوة بحيث لا يراه أحد ظلماً وعدواناً، خيانة لولي أمر المسلمين، الذي ولاه المركز على أنه يكون ناصحاً في غاية النصح والنزاهة والأمانة، وخيانة لربه المطّلع عليه، حيث يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله! وعلى هذا فاعلموا أن الرشوة أقسام: منها ما يُرادُ بِهِ إبطال حق أو إحقاق باطل، كالذي يَدْفَعُ مالاً لمسئول بيده الأمر، ولّاه إياه ولي أمر المسلمين، ليُبطل له حقّاً أو يُحق له باطلاً، فهذا النوع من أخبث الرُّشَا وأخسّها، وصاحبه من أهل النار؛ لأنه أخذ هذا الأخذ الخسيس

الخبيث الخائن، وهذه الفاحشة الباطنة، يريد أن يحقق بها ما أبطله الله، ويبطل بها ما أحَقَّهُ الله، فعَلَيْنَا جميعاً أن نعلم أن مثل هذه الأفعال بالغة من الخساسة والانحطاط ما ينبغي لمن كان له [عقل] (¬1) حتى ولو لم يكن له دين وله نخوة وإنسانية وضمير أن يتباعد عن هذا الخلُق الخسيس المنحطّ؛ لأن أكبر نعمة في الدنيا يراها الإنسان أن يكون إذا راجع نفسه فيجد نفسه مرضياً ضميره، لم يرتكب خسيسة، ولا شيئاً يفضحه، هذه أكبر نعمة، وأخس الأشياء: الذي يرتكب الخسائس والفواحش الباطنة مسْتَخْفِياً بها من الناس ولم يستخف بها من الله، يتجرأ على خالق السماوات والأرض، ويستخفي من الناس [وكان الواجب عليه أن يراقب ربه، ويجتهد في أن يُقدم للناس] (¬2) خدمة نزيهة إنسانية، يلقى بها ثوابه عند الله، ويرضي بها ضميره، ويرضي بها الحَفَظَة الملازمين له، مع أنه يتقاضى من بيت مال المسلمين على ذلك شيئاً يسد أَوَدَه وخَلَّتَه، لئلا يضطر إلى ما لا ينبغي، فعلى هذا المسلم أن يُنَزِّهَ ضَمِيره، ويكرم ربه، ويكرم الملائكة الذين مَعَهُ، وأن يُكْرِمَ وَلِيَّ أمر المسلمين الذي حَطّه في ذلك الموضع، ولا يخون؛ لأن الإنسان إذا كان يَجِيئه مِسْكين ضعيف، له حق ثابت له شرعاً، سواء كان إداريّاً أو قضائيّاً، ثم إنه يُسوِّفه ويقول له: بعد بُكرَة، ثم بعد بُكْرَة، ثم بعد أسبوعين!! وهو حقه جاهز لا شيء دونه ولا عقبة، ولم ينقصه إلا ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى. (¬2) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى ..

التوقيع، يريد بذلك أن يضطر المسكين إلى أن يعتصر منه فلوساً ظلماً بسطوة الحكومة وسلطتها، خيانة ومكراً وغدراً!! فهذا الشيء الذي يعرق منه الجبين، فعلى الإنسان أن يتجنبه كل التجنب؛ لأنه مما بَطَنَ من الفواحش، ومع شدة حرمته عند الله، وخساسته من جميع الوجوه، وأن صاحبه لم يتق الله، بل خاف الناس، ولم يفعله أمام الناس خوفاً من الناس، ولم يتق خالقه الذي شق عينيه، وفتح فمه وأنفه، ولم يتق الحَفَظَة الكاتبين معه، فهذه أمور فظيعة شنيعة، نرجو الله أن ينقذنا وإخواننا المسلمين من الوقوع في أمثالها من السفالات التي تربأ الحمير عنها بأنفسها؛ لأن هذا أمْرٌ قَبيح، والأمر إذا كان جامعاً بين شدة القبح وشدة التحريم عند الله فلا ينبغي للعاقل أن يرتكبه. إِنَّ لِلْعَارِ فَاخْشَهَا مُوبِقَاتٍ ... تُتَّقَى مِثْلَ مُوبِقَاتِ الذُّنُوبِ (¬1) وعلى كل حال فهذه الآية الكريمة -من سورة الأنعام- نهى الله فيها جميع خلقه عن أن يقربوا من خصلة خسيسة محرمة، أن يقربوا منها فضلاً عن أن يرتكبوها، سواء كان في الظهور والعلن بحيث يراه الناس، أو في الباطن بحيث لا يطلع عليه إلا الله والحفظة الكرام الكاتبون معه، والله (جل وعلا) يقول: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: آية 18] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: آية 16] فعلى كل مسلم إذا قام بخدمة لأمته أن يخدم أمته بشرف وكرامة ونزاهة؛ ليرضي بذلك الله، ويرضى عنه الحفظة الذين معه، ولا يرفعوا عنه في ليله ونهاره إلى ¬

(¬1) لم أقف عليه.

السماء إلا عملاً يبيض وجهه، ويرضي الله، ثم يكون مُرضياً ضميره، أما الذي يُلغي هذه الأوامر، ويتنازل إلى هذه الخسة لينال عرضاً قليلاً من الدنيا فهذا ساقط المروءة والدين، وهو عند الله في شرّ مكانة -والعياذ بالله- ألا ترون أن عنترة بن شداد كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولم يأته نذير، بل هو جاهلي، إلا أن عنده ضميراً حيّاً وشيمة عربية، يقول في معلقته (¬1): وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ ... حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَأْكَلِ فالذي يكون غير محتاج، وهو يقع في هذه المآثم الخسيسة، هذا لا ينبغي، فنحن نُحَذِّرُ منه إخواننا، ونرجو الله لنا وللجميع أن يوفقهم إلى ما يرضيه من نزاهة تليق، ومعاملة سليمة، والقيام بالخدمة على الوجه اللائق الذي يرضي الله، ويرضي الضمير الإنساني، ويُرْضِي وَلِيَّ الأمْرِ الذي جعل الشخص ممثلاً له في ذلك المحل، والآية عامَّة. هذا معنى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ} [الأنعام: آية 151] لا شك أن قتل النفس التي حرم الله أنه داخل في (الفواحش) إن فعله علناً أمام الناس فهو داخل فيما ظهر، وإن قتله غيلة من حيث لا يراه الناس فهو داخل فيما بطن؛ لأن قتل النفس من الفواحش، والله (جل وعلا) خصّه مع أنه داخل في العموم، وفي ذلك حكمتان (¬2): أحدهما: تفظيع القتل وتهويل أمره؛ لأن الله يقول: {وَمَن ¬

(¬1) ديوان عنترة ص (98). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 252)، الدر المصون (5/ 219).

يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93)} [النساء: آية 93]. النكتة الثانية: أن القتل منه ما هو بحق، فلا بد أن يُستثنى بقوله: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: آية 151] والاستثناء الذي هو {إِلَّا بِالْحَقِّ} لا يمكن حتى يُخرج القتل من عموم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وقوله: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ} أي: التي حرم الله قتلها بأن جعلها معصومة، والنفس المعصومة: هي المعصومة بـ (لا إله إلا الله) من أنفس المسلمين. والمعصومة بأداء الجزية كالذميّين الذين يُؤَدُّون الجزية عن يد وهم صاغرون، فَعِصْمَة دمائهم وأموالهم كالمسلمين، وكذلك المعاهدون الذين يعطيهم الإمام أو غيره من المسلمين عهداً؛ لأن المسلمين يقوم أدناهم -يعني- بعهدهم، فلو أعطى الإمام عهداً لمعاهد يدخل ( ... ) (¬1) فهو إذاً من النفس المحرمة. وجاء في قتله أحاديث مشددة أن صاحبه لا يشم ريح الجنة. فالنفس التي حرم الله: إما بالإسلام، وإما بالذمة، وإما بالمُعَاهَدَة. فقوله: {إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي: لا تَقْتُلوهَا إلا بالطريق الحَقِّ الموجبة لقتلها (¬2) شرعاً عند الله، وهذه الطريق حصرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود المتَّفَقِ عليه في ثلاث حيث قال: «لَا يَحِلُّ دَمِ ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والمعنى مستقيم بدونها. (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 220)، القرطبي (7/ 133).

امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» (¬1) يعني: المرتد؛ لأن في الحديث الصحيح: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬2) هذا الحديث الصحيح حَصَرَ قتل النفس بالحق في ثلاثة أشياء، وزاد العلماء على هذه الثلاثة أشياء أخرى دَلَّتْ عليها نصوص (¬3)، منها ما هو مختلف فيه. زاد بعضهم على هذا: المحاربين، على قول مالك ومن وافقه أن آية المحاربين لم تتنزل على أحوال؛ لأن مالكاً لا يقول {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ} [المائدة: آية 33] أي: إذا قتلوا {أَوْ يُصَلَّبُواْ} إذا قتلوا وأخذوا المال {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} إذا أخافوا الطريق ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً. التنزيل على هذه الأحوال، يقول مالك وجماعة من فقهاء الأمصار (¬4): إن هذا ليس بصحيح، وإن القرآن العظيم لا يجوز أن تُزاد فيه قيود لم يدل عليها كتاب ولا سنة. وهذه القيود التي عليها جماهير من العلماء لم يأتِ بها نص صحيح، وإنما جاء فيها حديث ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} حديث رقم: (6878)، (12/ 201)، ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم، حديث رقم: (1676)، (3/ 1302) من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما. وقد جاء نحوه من حديث عائشة وعثمان (رضي الله عنهما) مع تغاير في الألفاظ، وليس شيء منها في أحد الصحيحين. (¬2) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 323 - 335)، الفتح (12/ 202 - 204). (¬4) انظر: القرطبي (6/ 152).

عن أنس ضعيف، لم يقل أحد بصلاحيته للاحتجاج (¬1). فقولٌ عند مالك ومن وافقه في التخيير يقولون: إن الإمام مُخيَّر بين هذه الثلاثة، إن شاء قتلهم وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً، وإن شاء قطع أيديهم وأرجُلَهم من خلاف وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً، وإن شاء نفاهم من الأرض، وعلى هذا القول فقتل النفس بالحرابة جائز على الثلاثة. ومما يزداد على الثلاثة ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» (¬2) هذا نص من النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الناس إن بايعت خليفة، ثم جاء واحد آخر فبويع له فإنه يُوجب شق العصا وإراقة دماء المسلمين، فيُقتل الأخير ليستتب الأمن، وتتفق كلمة المسلمين على الأول الذي بايعوه. وفي صحيح مسلم من حديث عرفجة (رضي الله عنه): «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ وَاحِدٌ، عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ شَقَّ عَصَاكُمْ وَتَفْرِيقَ جَمَاعَتِكُمْ فَاقْتُلُوهُ» وفي رواية: «فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» (¬3)، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «مَنْ بَايَعَ إِمَاماً وَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرٌ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ ¬

(¬1) وفيه: «قال أنس: فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله ... » أخرجه ابن جرير، وأشار لضعفه في التفسير (10/ 250، 267) وفي سنده ابن لهيعة، والكلام فيه معروف. وانظر النسائي (7/ 98). (¬2) أخرجه مسلم في الإمارة، باب إذا بُويع لخليفتين، حديث رقم (1853)، (3/ 1480). (¬3) مسلم في الإمارة، باب حكم من فَرَّق أمْر المسلمين وهو مجتمع، حديث رقم: (1852)، (3/ 1479).

الْآخَرِ» (¬1)، هذه أحاديث ثابتة عن صحابة بِقَتْل هذه النفس، زيادة على الثلاث المذكورة. وزَاد جمهور العلماء عليها: تارك الصلاة (¬2)، فإن جمهور العلماء -منهم مالك، والشافعي، وأحمد- على أنَّ تَارِكَ الصلاة يُقْتَل، واستدلوا على قتله بمفاهيم كثيرة من أحاديث كثيرة وآيات، كقوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: آية 5] وكقصة الرجل الثابتة في الصحيح، الذي تكلم في النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: قِسْمَة ما أُريد به وجْه الله!! فقال بعض الصحابة: دَعْنِي أضرب عنقه. قال: «أَلَيْسَ يُصَلِّي»؟! قال: يُصلي ولا صلاة له!! قال: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ» (¬3) يعني: المصَلِّين، فدل ¬

(¬1) مسلم في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، حديث رقم: (1844)، (3/ 1472). (¬2) انظر: التمهيد (4/ 224) فما بعدها، الاستذكار (5/ 341) فما بعدها، المغني (2/ 298 - 302)، (10/ 85)، نيل الأوطار (1/ 287)، كتاب الصلاة لابن القيم. (¬3) ما ذكره الشيخ (رحمه الله) هنا مُرَكَّب من حديثين وَهِم الشيخ (رحمه الله) فأدخل أحدهما في الآخر. أما الأول: فمن حديث ابن مسعود (رضي الله عنه) ولفظه: قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قَسْماً، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله. فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: «يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» وقد أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخُمس ونحوه، حديث رقم: (3150)، (6/ 251)، وأطرافه في: (3405، 4335، 4336، 6059، 6100، 6291، 6336)، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، حديث رقم: (1062)، (2/ 739). وأما الحديث الثاني: فهو من حديث عبد الله بن عدي الأنصاري (رضي الله عنه) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينا هو جالس بين ظهراني الناس جاء رجل يستأذنه أن يُسَارَّه، فأذن له فَسَارَّه في قتل رجل من المنافقين يستأذنه فيه، فجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلامه فقال: «أليْسَ يشهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ؟» قال: بلى، ولا شهادة له. قال: «أليْسَ يَشْهَدُ أن محمَّداً رَسُولُ اللهِ؟» قال: بلى، ولا شهادة له. قال: «أَلَيْسَ يُصَلِّي؟» قال: بلى، ولا صلاة له. قال: «أولَئِكَ الَّذِين نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ». وهذا الحديث بعضهم يرويه موصولاً مسنداً، وبعضهم يرويه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار -وهو الذي رواه عن عبد الله بن عدي الأنصاري- مرسلاً. وقد أخرجه مالك في الموطأ (119)، والشافعي في الأم (6/ 157)، وعبد الرزاق (10/ 163)، وأحمد (5/ 432 - 433)، وعبد بن حميد (1/ 177)، والبيهقي (3/ 367)، وابن حبان (الإحسان 7/ 584)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 912 - 914)، وللحديث شواهد، انظر: التمهيد (10/ 149).

بمفهومه على أن الذي لا يُصلي أنه يُقتل، وفي الحديث المشهور في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أئمة السوء، وأنه سيلي عليكم قوم تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا له: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ» (¬1)، فدل على أن المانع من قتلهم إقامة الصلاة. والأحاديث في مثل هذا كثيرة، ولذا كان ثلاثة من الأئمة على أن تارك الصلاة يُقتل، ومشهور مذهب مالك ومذهب الشافعي أنه يقتل حدّاً لا كفراً، بناء على حديث عبادة بن الصامت الذي يقول فيه: «إِنَّهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ» -إلى أن قال في آخر الحديث-: «وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ ¬

(¬1) مسلم في الإمارة، باب: خيار الأئمة وشرارهم، حديث رقم: (1855)، (3/ 1481).

غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» (¬1)، وكان الإمام أحمد في أصَحِّ الروايتين يرى أنَّ تَارِكَ الصلاة يُقْتَلُ كُفْراً (¬2)، وقَدْ دلَّت على ذلك أحاديث كثيرة: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ»، «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ تَرْكُ الصَّلَاةِ» (¬3) في أحاديث تُصَرِّحُ بأنه كافر، وأكثر العلماء على أنَّ قَتْلَهُ حد، وأصرح الأدلة تدل على أنه كافر، وهي أكثر وأشْهَر من حديث ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ، في صلاة الليل، باب الأمر بالوتر، حديث رقم (266) ص (90)، وعبد الرزاق رقم: (4575)، وأحمد (5/ 315 - 316، 319)، وابن أبي شيبة (2/ 296)، والحميدي رقم: (388)، والدارمي (1/ 371)، وأبو داود في الصلاة، باب المحافظة على وقت الصلوات، حديث رقم: (421)، (2/ 93) وفي باب: فيمن لم يوتر، حديث رقم: (1407)، (4/ 294)، والنسائي في الصلاة باب المحافظة على الصلوات الخمس، حديث رقم: (461)، (1/ 230)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، حديث رقم (1401)، (1/ 249)، والبيهقي (1/ 361)، (2/ 8، 215، 467). والحديث صححه ابن عبد البر في التمهيد (23/ 288)، وساق طرقه في الاستذكار (5/ 261) وانظر: صحيح أبي داود (1/ 85، 266)، صحيح النسائي (1/ 100)، المشكاة رقم: (570). (¬2) الجملتان من حديث واحد عن بُرَيْدَة (رضي الله عنه) مرفوعاً، أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم: (2621)، (5/ 13 - 14)، والنسائي في الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، حديث رقم: (463)، (1/ 231)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم: (1079)، (1/ 342)، والحاكم (1/ 7). وانظر: صحيح الترمذي (2/ 329)، صحيح ابن ماجه (1/ 177)، المشكاة، رقم (574) تخريج الإيمان لابن أبي شيبة (46). (¬3) الجملتان من حديث واحد عن بُرَيْدَةَ (رضي الله عنه) مرفوعاً، أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم: (2621)، (5/ 13 - 14)، والنسائي في الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، حديث رقم: (463)، (1/ 231)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم: (1079)، (1/ 342)، والحاكم (1/ 7). وانظر: صحيح الترمذي (2/ 329)، صحيح ابن ماجه (1/ 177)، المشكاة، رقم: (574) تخريج الإيمان لابن أبي شيبة (46).

عبادة بن الصامت، إلا أن الجمهور الذين قالوا: إن قتله ليس بكفر، قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَمَّاهُ كُفْراً، ولَكِنَّهُ قد يجيء في الشرع تسمية أشياء بالكفر وليست بمُخْرِجَة عن الإسلام، كقوله: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» (¬1) والمراد: أنه ليس بكفر حقيقي، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي رَأَيْتُ النَّارَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء». قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بِكُفْرِهِنَّ» هذا ثابت في الصحيح. فلما استُفسر عن كفرهن، قال: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ» (¬2) واسْتَدَلوا بعموم الآيات، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، حديث رقم: (48)، (1/ 110)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديث: (6044، 7076)، ومسلم في الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» حديث رقم: (64)، (1/ 81). (¬2) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) منهم: 1 - ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات، حديث رقم (79)، (1/ 86). 2 - أبو سعيد الخدري (رضي الله عنه) عند البخاري في كتاب الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، حديث رقم: (304)، (1/ 405)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (1462، 1951، 2658)، ومسلم في صلاة العيدين، حديث رقم: (889)، (2/ 605). وراجع في حديث أبي سعيد أيضاً: البخاري، الأحاديث: (101، 1249، 7310)، ومسلم حديث رقم: (2633). 3 - زينب امرأة ابن مسعود عند الترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة الحُلِي، حديث رقم: (635، 636)، (3/ 19). وأصله في الصحيحين: البخاري في الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، حديث رقم: (1466)، (3/ 328)، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، حديث رقم: (1000)، (2/ 694).

كقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] فالحاصل أن جمهور العلماء وفقهاء الأمصار -منهم الأئمة الثلاثة- على أن تارك الصلاة يُقْتَل؛ لأن الله يقول: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: آية 5]. أما مانع الزكاة فإنه يقاتل، يُقال له: أخرج الزكاة، فإن أبَى أُخرجت قسراً عليه، فإن مَنَعَها قُوتل دونها (¬1)، والقتال غير القَتْل، وهو الذي فعله أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) مع مانعي الزَّكَاة، قاتلهم، فالذي يُفعل بمانع الزكاة قِتال لا قتل؛ لأنه يُؤْمَر بإِخْرَاجِهَا، فإن أبَى أُخِذَت منه قَهْراً، فإن جاء دونها قُوتل حتى يُقْتَل، هذا هو المعروف. وفي كون تارك الصلاة يُقْتَل عند الجمهور، عند من يقول إنه يُقْتَل كُفْراً، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد، وهو رواية عن مالك، ودلت عليه أحاديث صريحة صحيحة في صحيح مسلم وغيره أنه كافر، وعلى قول مالك والشافعي: أنه يُقتل حدّاً، قالوا: لم يُعْرَف عن السلف أن الذي كان لا يصلي أنهم لا يَرِثُون بعده، ويجعلونه كالكافر المُرْتَدّ الذي يُرد نصف ماله إلى بيت مال المسلمين، هكذا قالوا، والخلاف مشهور، فبهذا نعلم أن تارك الصلاة: الشرع يقتله، وأن الحياة التي يعيش بها ليست حياة شرعية، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حسّاً، فمثال تارك الصلاة عند أرْبَابِ العُقُولِ مثال الميتة، الإنسان الميت الذي هو منتن في ريحه، فيمشي بين الناس يأكل ¬

(¬1) انظر: المغني (2/ 435 - 438).

ويشرب؛ لأن حياته التي يَعيشُ بها ليست حَيَاةً شَرْعِيَّة، وإنما هي حياة غير شرعية، والمعْدُوم شرعاً كالمعدوم حسّاً. وخالف في هذا أبُو حَنِيفَةَ الجمهور، فقال: لا يُقْتَلُ تَارِكُ الصَّلَاةِ (¬1)، واستدل بحديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حصر القتل في ثلاث: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ»، قال أبو حنيفة: هذا حصر من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث، ولم يذكر فيها تارك الصلاة، فلا يمكن أن نخرق هذا الحصر، مع أن قتل تارك الصلاة أغلب أدِلَّتِهِ مفاهيم الأحاديث، وظواهر من آيات لا تكون مثل الصريح في قوله: «لَا يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» (¬2) هذا مذهب أبي حنيفة ووجهة نظره. وزاد بعض العلماء أشياء أُخَر، منها: الساحر، فإنه يُقْتَل عند العلماء (¬3)، وجاء في بعض روايات البخاري من حديث بَجَالَة: «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ» (¬4) وثبت عن ثلاثة مِنَ الصَّحَابَةِ قتل ¬

(¬1) مضى قريباً عند تفسير هذه الآية. (¬2) مضى قريباً عند تفسير هذه الآية. (¬3) انظر الفتح (10/ 236)، الاستذكار (25/ 237) فما بعدها. (¬4) هذا الأثر قطعة من كتاب عمر لبعض عُمَّالِهِ، فهو موقوف عليه، وقد أخرجه عبد الرزاق (9972، 9973، 18745 - 18746، 18748، 18756)، وأحمد (1/ 190 - 191)، وأبو عبيد في الأموال رقم: (77) ص (35)، وأبو داود في الخراج والفيء والإمارة، باب في أخذ الجزية من المجوس، رقم: (3027)، (8/ 294)، وأبو يعلى رقم: (861،860)، (2/ 166 - 163)، والبيهقي (8/ 136، 247 - 248)، وابن حزم في المحلى (11/ 394، 397)، وابن عبد البر في الاستذكار (37942 - 37943)، وقد أخرج البخاري أصل الحديث من غير موضع الشاهد، كما في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، رقم (3156)، (6/ 257)، كما أخرجه مختصراً من غير موضع الشاهد آخرون كالشافعي في الرسالة والأم، والدارمي، والترمذي، والطيالسي، وغيرهم.

الساحر؛ عن عمر بن الخطاب (¬1)، وحفصة أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب (¬2)، وجندب (رضي الله عنه) في قتلته المشهورة للساحر الذي كان عند الوليد بن عقبة بن أبي معيط في أيام عثمان بن عفان (رضي الله عنه) (¬3). وزاد بعض العلماء: مَنْ زنى ببهيمة من البهائم، فإن بعض العلماء يقول: من وَقَعَ على بهيمة من البهائم قُتِلَ هو وقُتِلَتْ هي. وهذا ورد فيه حديث أخرجه أبو يعلى وابن ماجه، قال صاحب مجمع الزوائد في السند الذي أخرجه به أبو يعلى: فيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رواته ثقات، فهو صالح للاحتجاج (¬4)، ¬

(¬1) راجع الأثر المتقدم، وورد من فعله -أيضاً- عند عبد الرزاق، رقم: (18755)، وابن حزم في المحلى (11/ 397). (¬2) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر، رقم: (1585) ص (628). عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة بلاغاً، وقد جاء موصولاً عند عبد الرزاق رقم (18747، 18757)، والبيهقي (8/ 136)، وابن عبد البر في الاستذكار (37921 - 37924)، وابن حزم في المحلى (11/ 394، 395). (¬3) أخرجه عبد الرزاق (10/ 181 - 182)، والبيهقي (8/ 136)، وابن عبد البر في الاستذكار (25/ 240)، وابن حزم في المحلى (11/ 396). (¬4) أخرجه أبو يعلى (5987)، (10/ 389) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحافظ في التلخيص (4/ 55): «وفي إسناده كلام» اهـ. وقال الهيثمي (6/ 273): «رواه أبو يعلى» وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات» اهـ. وانظر: الإرواء (8/ 15).

أما حديث ابن ماجه، وهو من رواية داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس (¬1). وبعض علماء الحديث يقولون: داود بن الحصين ثقة في غير عكرمة، كما هو معروف في محله (¬2). ففي ظاهر حديث ابن عباس هذا الذي أقلّ درجاته الحُسْن أخذ بعض العلماء، فقال: يُقتل الزاني بالبهيمة، وتُقتل البهيمة معه. ومن العلماء من يقول: لا يُؤكل لحمها، ومنهم من يقول: يُؤكل لحمها، كما هو معروف في الفروع (¬3)، وأكْثَر العلماء يقولون: مَنْ زَنَى بِبَهِيمَةٍ لا يُقْتَل؛ لأن حديث ابن مسعود الذي حصر أكْثَر القتل في ثلاث لا يُنقَض حصْرُهُ بهذا الحديث الذي سَنَدُهُ أضْعَف منه (¬4). ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (13492)، وأحمد (1/ 269، 300)، وأبو داود في الحدود، باب فيمن أتى بهيمة، حديث رقم: (4440)، (12/ 157) وقال: «ليس هذا بالقوي» اهـ. والترمذي في الحدود، باب ما جاء فيمن يقع على البهيمة، حديث رقم: (1455)، (4/ 56)، وابن ماجه في الحدود، باب من أتى ذات محرم، ومن أتى بهيمة، حديث رقم: (2564)، (2/ 856)، والبيهقي (8/ 232، 233، 234)، والحاكم (4/ 355)، والدارقطني (3/ 126 - 127)، وأبو يعلى (2462، 2743)، (4/ 346 - 347، 5/ 128 - 189) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) قال الحافظ في التلخيص (4/ 55): «وفي إسناد هذا الحديث كلام» اهـ. وانظر: الدراية (2/ 104)، نصب الراية (3/ 342)، الإرواء (8/ 13)، صحيح أبي داود (3/ 844)، صحيح ابن ماجه (2/ 83)، صحيح الترمذي (2/ 75). (¬2) انظر: تهذيب التهذيب (3/ 157)، التقريب ص (305). (¬3) انظر: المغنى (10/ 164 - 165) .. (¬4) المصدر السابق: (10/ 163 - 164).

وزادوا أيضاً: فاعل فاحشة اللواط، فإنه جاء حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بِهِ» (¬1) وهذا الحديث أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم وغيرهم، وصحَّحه بعض الحفاظ، وبه عمِل جماعة من العلماء، قالوا: إن من فعل فاحشة قوم لوط إنه يُقتل الفاعل والمفعول معاً، ففي هذا الحديث زيادة على الثلاثة، فهذه أشْيَاء دَلَّتْ عَلَيْهَا نصوص أُخَر اختلف فيها العلماء، فمن يقول: إن صاحبها يُقتل. يقول: ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (13492)، وأحمد (1/ 300)، وأبو داود في الحدود، باب فيمن عَمِل عَمَل قوم لوط، حديث رقم: (4438)، (12/ 153)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي، حديث رقم: (1456)، (4/ 57)، وابن ماجه في الحدود، باب من عَمِلَ عَمَل قوم لوط (2561)، (2/ 856)، والدارقطني (3/ 124)، والبيهقي (8/ 232)، والحاكم (4/ 355)، وأبو يعلى (2463، 2743)، (4/ 348، 5/ 128 - 129)، وابن الجارود (2/ 119 - 120) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) وانظر: الدراية (2/ 103)، نصب الراية (3/ 339)، والإرواء (8/ 16 - 17)، صحيح أبي داود (3/ 844)، صحيح الترمذي (2/ 76)، صحيح ابن ماجه (2/ 82 - 83)، المشكاة (3575)، وضعفه الحافظ في الفتح (12/ 204). وجاء نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند الترمذي في الحدود، باب ما جاء في حَدِّ اللوطي (4/ 58). وقال: «هذا حديث في إسناده مقال، ولا نعرف أحداً رواه عن سهيل بن أبي صالح غير عاصم بن عمر العمري، وعاصم بن عمر يُضعف في الحديث من قِبَل حفظه» اهـ. قال الحافظ في التلخيص (4/ 54): «وإسناده أضعف من الأول -يعني حديث ابن عباس- بكثير» اهـ. وقال أيضاً (4/ 55): «وحديث أبي هريرة لا يصح» اهـ. وكذلك ضعفه في الفتح (12/ 204). وانظر: نصب الراية (3/ 340)، الدراية (2/ 103)، والإرواء (8/ 17).

هي داخلة في قوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ}. ومن يقول: إن صاحبها لا يُقتل. يقول: لم تدخل في قوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} لأنها عارضها ما هو أقوى منها، وهو حديث ابن مسعود المتفق عليه: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ... » الحديث (¬1)، وهذا معنى قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}. ثم قال جل وعلا: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: آية 151]. الإشارة مفردة، والمُشار إليه كثير؛ لأن هذا شامل لـ {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} هذه الآية الأولى من هذه الآيات المحكمات تضمنت خمسة أحكام شرعها الله في جميع الأديان، ولم يَنْسَخ شيئاً منها في لسان نبي، والمعنى: ذلكم المذكور؛ لأن (ذا) إشارة إلى مفرد، والمشار إليه جماعة، وهذا معروف في كلام العرب أن يُشيروا إلى التثنية أو الجمع بإشارة المفرد؛ لأن المقصود: (ذلكم المذكور) وقد أوضحنا هذا في البقرة (¬2)، في الكلام على قوله: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: آية 68] أي بين ذلك المذكور من الفارض والبكر فرجع المفرد على الاثنين، ونظيره من كلام العرب: قول عبد الله بن الزّبَعْرى (¬3): إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلَا ذَلِكَ لَهُ وَجْهٌ وَقَبَلْ ¬

(¬1) مضى قريباً عند تفسير هذه الآية. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

فأشار بـ (ذلك) إلى اثنين. ولمّا سُئل رؤبة بن العَجاج في رَجَزِيَّتِه القَافِيَّة المشهورة، قال فيها (¬1): فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي اللَّيْلِ تَوْليعُ البَهَقْ فقال له قائل: لِم قلت: «كأنه» بإفراد الضمير المذكر، إن كنت تعني الخطوط كان اللازم أن تقول: «كأنها» وإن كنت تعني السواد والبلق كان اللازم أن تقول: «كأنهما» فمن أين جئت بقوله: «كأنه»؟ قال: أعني (كأنه) أي: جميع ما ذُكر، ولذلك قوله: {ذَلِكُمْ} أي: جميع ما ذُكر من الأحكام الخمسة وصى به الله. وهذه الآية الكريمة فيها سرّ لطيف؛ لأن الذي يوصيك كأنه يعتني بك، ويجعل الأمر إليك. والوصية في لغة العرب: هي الأمر المؤكد (¬2). تقول: أوصيتُ فلاناً على كذا: أمَرْتُهُ بِهِ أَمْراً مُؤَكَّداً. {ذَلِكُمْ} المذكور {وَصَّاكُمْ} الله {بِهِ} على لسان نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -، أمركم به ... {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (لعل) في القرآن فيها أقوال معروفة للعلماء (¬3)، أقربها وأشهرها قولان: أحدها: أنها على بابها من التَّرَجِّي، والمعنى: ذلكم وصاكم به على رجاء أنكم تعقلونه عن الله، وهذا الرجاء مُنْصَرِف إلى الآدميين الذين لا يعرفون عواقب الأمور، أما هو (جل وعلا) فهو عالم عاقبة الأمور، وما يجري عليه معنى (لعل)، ولذا قال لموسى وهارون في ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 134)، البحر المحيط (4/ 252). (¬3) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: آية 44] أي: على رجائكما أنه يتذكر، والله يعلم أنه لا يذكر ولا يخشى. القول الثاني: هو ما قالته جماعة من علماء التفسير: أن كل (لعل) في جميع القرآن معناها التعليل إلا التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: آية 129] زعموا أنها بمعنى: (كأنكم). والتحقيق: أن (لعل) تكون حرف تعليل، هذا لا شك فيه، وعليه فالمعنى: وَصَّاكُمْ به لأجل أن تعقلوا هذه الوصية عنه، فتمتثلوا أمره، وقال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: آية 78] أي: جعل لكم هذه الأسباب والنعم لأجل أن تشكروه، ومن إتيان (لعل) في كلام العرب بمعنى التعليل قول الشاعر (¬1): فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُروبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِق فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكْمِ ... كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالمَلَا مُتَأَلِّق فقوله: (كفوا الحروب لعلنا نكف) أي: كفُّوا عنّا لأجل أن نكف عنكم. هذا معروف في كلام العرب. وقوله: {تَعْقِلُونَ} معناه: تدركون بعقولكم؛ لأن العقل هو الذي فيه الإدراك، والعقل: نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية، وقد ذكرنا فيما مضى أن مركزه القلب لا الدماغ (¬2)، كما صرح به الله، وصرح به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن مَنْ ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

خَلَق العقل وأبْرَزَهُ مِنَ العدم إلى الوجود، أنه أعلم بموضعه من كَفَرَةِ الفَلَاسِفَة الذين يَتَحَكَّمُون على الله ويخالفونه من غير دليل ولا برهان، وهؤلاء الذين ينفون هذا؛ لأنهم يقولون -زعموا- أن بعض الناس صار يُجعل له قلبُ واحدٍ آخر، ولو أن هذا -لو فرضنا- صح، وأنه يدل على أن العقل ليس في القلب، فهذا لا دليل فيه؛ لأن العقل أصله نور روحاني -آلة للنفس- تُدْرِكُ بِهِ النَّفْسُ العُلُومَ الضَّرُورِيَّة والنظرية، ومحله القلب الذي في الصدر، كما قال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] فَلَوْ فرضنا أن الله خرق العادة وأزال القلب، ولم يمت الإنسان، لم يمنع أن يكون العقل باقياً في محله الذي كان فيه، وقد زالت الأداة الذي كان فيها. وكذلك لو جُعل قلب آخر، فقد دل القرآن في سورة النور أن القلب كأنه زجاجة، ونور الإيمان فيها الذي يُضاء به كأنه نور، وإذا انكسرت الزجاجة فلا مانع من أن تأتي زجاجة أخرى ويكون فيها النور الذي كان في الزجاجة التي قبلها، وعلى كل حال فلا أحَدَ أصْدَق من الله ولا مِنْ رَسُول الله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} [البقرة: آية 140] والله يقول في نبيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4] وقد صرح الله ونبيه أن العقل محله القلب، ومن خلق العقل أعلم بمحل العقل، ونحن نعرف أن جميع ما يُؤثِّر على الدماغ يُؤثِّر على العقل، وهذا لا يقتضي أن يكون محل العقل الدماغ؛ لأنه كَمْ مِنْ مَوْضِع من الجسد إذا اخْتَلَّتْ خَانَة من خانات الدماغ اختل ذلك الموضع، وليس يلزم أن ذلك الموضع المختل كان محلُّه في الدماغ، بل هو خارج عن الدِّمَاغ، مشروط بسلامة الدماغ، فالعقل محلّه القلب، ولكن سلامته مشروطة بسلامة

الدماغ، وقد ذكرنا ما ذكره بعضهم جمعاً بين القولين: أن مركزه في القلب، كما قال الله ورسوله، وأن شعاع نوره متصل بالدماغ، فمن قال: إنه في الدماغ قد يكون هذا سائغاً على هذا القول؛ بناء على أن شعَاعَ نُورِهِ متصل بالدماغ، ولكن هذا القول قد قدمنا أنهم لم يستدلوا عليه إلا بدليل استقرائي غير مُقْنِع، والدليل الاسْتِقْرَائِيّ: هو تتبُّع الأفراد، وهو حجة عند الأصوليين، قالوا: قد اسْتَقْرَيْنا نوع البشر، ووجدنا كل رجل أو امرأة إذا كان طويل العنق طولاً مُفْرِطاً خارجاً عن عادة أعناق الناس، لا بد أن يكون في عقله دَخَل. قالوا: وذلك لتباعد ما بين طرفي العقل؛ لأنه إذا بعُد طرف نوره الأعلى من طرفه الأسفل قد يَتَغَشَّى النور الروحاني المعلوم الذي به الإدراك وينقص الإدراك. هكذا زعموا، ولا دليل عليه، والله أصدق من يقول. يقول الله (جل وعلا): {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: آية 152]. قوله (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} كانت عادة العرب أن يأخذوا من اليتيم ماله الذي ترك أبوه، ويظلموه في حقه، ويظلموا المرأة، ويقولون: إن الذي يستحق المال هو من يحمي الذمار، ويُدافع عن الحريم، وهم الرجال الذين يستعينون بالمال على الدفاع، أما اليتيم والمرأة فإعطاء المال لهما ضياع له، وإذا كانوا يدفعون اليتيم عن حقه ويظلمونه كما في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)} [الماعون: الآيتان 1، 2] والدَّعُّ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ؛ أي: يدفعه بقوة عن حَقِّهِ ويَظْلِمُه (¬1)، والله (جل وعلا) أرسل هذا النبي الكريم (صلوات الله وسلامه عليه) بكمال الإنصاف، ومكارم الأخلاق، والمحافظة على حقوق الضعيف الذي لا يقدر على الدفاع عن نفسه؛ ولذا نهى عن قُربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ونهى عن ظلم المرأة، وبيَّن أنَّ مَنْ ظَلَمَ المَرْأَةَ تعرض إلى بطش ملك جبار عظيم، حيث قال في سورة النساء: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: آية 34] أي: لا تظلموهن إن أطعنكم وكُنَّ غير ظالمات، ثم أتبع ذلك بقوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} يعني: من يحافظ على حقوقهن وينتقم لمن ظلمهن عليَّ كبيرٌ عظيمٌ، يُرْهَب منه وتُخافُ سطْوَته. كذلك قال هنا: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} تكلمنا على الحكمة في النهي عن قُرب الشيء، وأن المراد بها سدّ الذريعة والتباعد منه بالكلية، ومال اليتيم: هو ماله الذي هو ملك له، سواء ورثه من أبيه، أو حصل له بطريق أُخرى، واليتيم (فَعِيْل) من اليُتم، واليُتم في لغة العرب معناه: الانفراد، تقول العرب: هذه يتيمة عصماء، يعنون: ياقوتة منفردة لا نظير لها، وإنما قيل لليتيم (يتيم) لانفراده عن وَلِيِّهِ الذي من شأنه أن يَقُومَ بِأَمْرِهِ وهو أبوه (¬2). واليتيم في بني آدم: هو مَنْ مَاتَ أبوه وإن كانت أمه حيّة، ولا يُتم بعد بلوغ بإجماع العلماء (¬3)، فالبالغ لا يُسمَّى يتيماً بإجماع العلماء. واليتيم: هو ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: دع) (314). (¬2) انظر: المصباح المنير (مادة: يتم) (260)، المفردات (مادة: يتم) (889). (¬3) انظر: المغني (7/ 306)، القاموس الفقهي ص 392.

الصغير الذي لم يبلغ إذا كان أبوه قد مات، ولو كانت أمه حيّة، هذا هو اليتيم، ويُجمع على (يتامى)، ويستوي في الجمع ذكره وأُنثاه، تقول في جمع اليتيمة: يتامى، وفي جمع اليتيم: يتامى، كما تقدم في قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: آية 127] والمعنى: إذا مات والد الإنسان، وبقي الطفل صغيراً مسكيناً لا يقدر على الدفاع عن نفسه، ولا يقدر على حفظ ماله، فلا تأخذوا ماله وتظلموه لِضَعْفِهِ، بل لا تقربوا مَالَهُ إلا بالتي هي أحسن؛ أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال وأنفعها لليتيم، وذلك بالمحافظة عليه وتَنْمِيته وتثميره بالتجارة في مواقع النَّظَرِ والسَّدَادِ، كما قالت عائشة: «اتجروا في [22/ب] أموالِ الْيَتَامَى لا تأكلها/ الزكاة» (¬1)، ¬

(¬1) الحديث بنحو هذا اللفظ جاء مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بروايات متعددة (وكلها ضعيفة) ومنها: 1 - من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة مال اليتيم، حديث رقم (641)، (3/ 33)، وأشار عقبه إلى ضعفه، وأخرجه أيضاً الدارقطني (2/ 110)، وأبو عبيد في الأموال (1299)، والبيهقي (4/ 107). 2 - عن يوسف بن ماهك مرسلاً عند عبد الرزاق (4/ 66)، والشافعي في الأم (2/ 29)، وأبو عبيد في الأموال (1300)، والبيهقي (4/ 107). وفي الكلام على هذه الرواية والتي قبلها، انظر: تنقيح التحقيق (2/ 1380 - 1384، 1386)، نصب الراية (2/ 331 - 332)، تلخيص الحبير (2/ 157 - 158)، إرواء الغليل (3/ 258). 3 - عن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، عند الطبراني في الأوسط (4164). انظر: نصب الراية (2/ 332)، التلخيص (2/ 158)، الإرواء (3/ 259). وقد ورد موقوفاً على عمر (رضي الله عنه)، عند مالك في الموطأ -بلاغاً- في الزكاة، باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها، حديث رقم: (588) ص (167)، كما أخرجه الشافعي في الأم (2/ 29)، وأبو عبيد في الأموال (1301)، وابن أبي شيبة (3/ 149 - 150)، والدارقطني (2/ 110)، والبيهقي (4/ 107). وانظر: الاستذكار (9/ 82)، تنقيح التحقيق (2/ 1384)، نصب الراية (2/ 333) تلخيص الحبير (2/ 158)، إرواء الغليل (3/ 259). وإنما الذي ورد عن عائشة (رضي الله عنها) في هذا الباب إنما هو من فعلها، والله أعلم.

فالتي هي أحسن: المحافظة عليه من الضياع، والتثمير: هو تنميته بالرِّبْح بالوجوه المأمونة، التي يغلب على الظن -بحسب العادة- أن فيها سلامة وربحاً لا ضياعاً، ومن التي هي أحسن: أن القائم على مال اليتيم -وإن اشتغل في حفظه والتجارة فيه- إن كان له مال لنفسه يأكل من مال نفسه، ويثمّر لليتيم ماله مجاناً (¬1)، كما تقدم في قوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ} [النساء: آية 6] وهذه من الدلالات على أن هذا الشرع الكريم شرع سَمَاوِي، يراعي حقوق الضعيف، ويحافظ على مكارم الأخلاق. وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (حتى) حرف غاية بمعنى (إلى)، والمُغيَّا بها: النهي عَنْ قُرْبِ مَالِ اليتيم بغير التي هي أحسن، والمضارع بعد (حتى)، منصوب بـ (أن) محذوفة، وهو في محل جر بـ (حتّى) والمعني بـ (حتى): إلى، إلى أن يبلغ أشده؛ أي: إلى بلوغ أشُده. وظاهر هذه الغاية ليس مراداً بإجماع العلماء (¬2)؛ إذ ليس ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 221)، القرطبي (7/ 134). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 252)، الدر المصون (5/ 220)، أضواء البيان (2/ 278 - 279).

المعنى: لا [تقربوا] (¬1) ماله إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده فاقربوه بغير التي هي أحسن، ليس هذا مراداً بإجماع العلماء، وإنما الغاية تتعلق بمحذوف دل المقام عليه، أي: فحتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده وآنستم منه رشداً فادفعوا إليه ماله. وإنما كانت الغاية: لأنه إذا كان بالغاً أشده مستكملاً قوته وعقله، لا يقدر أحد على أن يغتصب منه ماله، فهو كسائر الرجال. والأشُد هنا: التحقيق الذي لا شك فيه أنه بلوغ الحُلم مع إيناس الرشد (¬2)؛ لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وقد قال الله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: آية 6] فدلت آية النساء على أن الأشد في الغاية هنا: أنه أن يبلغ الحلم، ويُؤنس منه الرشد؛ لأن ببلوغ الحلم يتقوى بدنه ويكون في قوة الرجال، وبإيناس الرشد يتقوى عَقْلُهُ ونَظَرُهُ، فاجتمع أشده بدناً وفكراً ونظراً، فعند ذلك يُعطى ماله، وخير ما يُفَسَّرُ به القرآن القرآن. أما الأشُد من حيث هو: فهو يطلق على خمس وعشرين، وعلى ثلاثين سنة، وعلى أربعين، وعلى ستين، وعلى خمسين (¬3). ومن إطلاقه على الخمسين قول سحيم بن وثيل الرياحي (¬4): ¬

(¬1) في الأصل: «تبلغوا» وهو سبق لسان. (¬2) انظر: أضواء البيان (2/ 279). (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 222)، القرطبي (7/ 135)، البحر المحيط (4/ 252)، الكليات 540، الدر المصون (5/ 221)، أضواء البيان (2/ 279، 280). (¬4) البيت في القرطبي (7/ 135)، أضواء البيان (2/ 280).

أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشّؤُونِ فهذه الأقوال المرْوِيَّة عن العلماء في الأشُد -من خمس وعشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، إلى ستين- لا ينبغي أن تُذْكَرَ في هذا الموضع؛ لأن بلوغ اليتيم أَشُدَّه صرح القرآن بأنه بُلُوغُ الحُلُمِ مَعَ إيناس الرّشد، كما أوضحته آية النساء {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} [النساء: آية 6] أما أقوال العلماء في (الأَشُد) فينبغي أن تكون عند آية قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: آية 15] لأن بلوغ الإنسان الأَشُد بالنسبة إلى غير دفع ماله إليه هو الذي ينبغي أن تكون فيه الأقوال المعروفة (¬1). وكلام أهل اللغة في الأشُدّ معروف (¬2)، قال بعضهم: الأشُد واحد لا مفرد له من لفظه، وإتيان المفرد على وزن (أفْعُل) نادر جدّاً، ومنه قولهم: (آنُك) و (الآنُك) هو الرصاص، وهو مفرد على وزن (أفْعُل)، وقال سيبويه: الأشُد جمع (شِدَّة)، كنعمة وأَنْعُم، وشِدّة وأشْدُد، أصله: (أَشدُد)، وعلماء العربية يقولون: إن قول الشيخ سيبويه من قبيل اللغة معروف؛ لأن العرب يقولون: بلغ الغلام شِدته: إذا قَوِيَ واشْتَدَّ، إلا أن جمع (فِعْلة) على (أفْعُل) لم يُعرف في كلام العرب. أما قول سيبويه: إن النعمة تجمع على أنْعُم. فقد قالوا: ليس ذلك كذلك، وإنما الأنْعُم جمع نُعْم، كما تقول العرب: نُعْمٌ وأنْعُم، وبُؤْس وأَبْؤُس، و (الفُعْل) قد يُجْمَع على (أفْعُل)، وقال ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 280 - 281). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 253)، الدر المصون (5/ 220 - 221)، أضواء البيان (2/ 279).

بعض العلماء: الأَشْدُ جمع (شَدّ) -بالفتح- ككلب وأكلُب، وشَدّ وأشدُد. والأشدّ: أصله (أشْدُد) حصل فيه الإدغام. وقال بعضهم: مفرده (شِدّ) بالكسر، كذئبِ وأَذؤُب، وهذه أقوال العلماء فيه، والمعنى صائر إلى شيء واحد. والأَشُد هنا لا شك أنه بلوغ الحلم مع إيناس الرشد. ومعنى (بلوغ النكاح) وهو بلوغ الحلم، وللبلوغ علامات معروفة عند العلماء (¬1)، منها السّن، وأكثر العلماء على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة (¬2)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته ردّ أبناء أربع عشرة سنة، وأذِن في الغزو لأبناء خمس عشرة سنة (¬3)، فدل ذلك أنهم صاروا رجالاً، وعن مالك: أن أقله بالسن ثمان عشرة سنة، وعن أبي حنيفة: تفريق بين الذكور والإناث معروف في فروع المذاهب، وليس فيه تحديد بنص من النصوص، وإنما هي اجتهادات في تحقيق المناط، كل يقول: إذا بلغ هذه السن فقد بلغ مبلغ الرجال، وكان بعض العلماء واللغويين يرى أنه إذا كان خمسة أشبار أنه بلغ مبلغ الرجال (¬4)، وهذا القول يُروى عن علي بن أبي طالب، ¬

(¬1) انظر: الفتح (5/ 277)، أضواء البيان (2/ 279). (¬2) أضواء البيان (2/ 279). (¬3) البخاري في الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم، حديث رقم: (2664)، (5/ 276)، وأخرجه في موضع آخر، انظر الحديث رقم: (4097)، ومسلم في الإمارة، باب بيان سن البلوغ، حديث رقم: (1868)، (3/ 1490). (¬4) انظر: أضواء البيان (2/ 279).

واعتمده الفرزدق في شعره حيث قال (¬1): ما زالَ مُذْ عَقَدَتْ يداهُ إِزَارَهُ ... فَسَما فأَدْرَكَ خَمْسَةَ الأَشْبَار ... يُدْنِي خَوافِقَ مِنْ خَوافِقَ تَلْتَقي ... في ظِلِّ مُعْتَبطِ الْغُبَارِ مُثَارِ فقوله ببلوغه: (خمسة الأشبار) يعني أنه بلغ مبلغ الرجال، وأسباب البلوغ كثيرة معروفة في الفروع، منها: إنبات العانة، وليس المراد به إنبات الشعر؛ لأن الشعر ينبت عليها من الطفل، وإنما المراد خشونة وغلوظة تعرض للمحل عند البلوغ، والعلماء يذكرون له أسباباً كثيرة، ومنها بلوغ الحلم، كما قال: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} [النور: آية 59]؛ أي: صاروا بالغين مبلغ الرجال {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ومعنى (بلوغ الحُلُم): أن الصَّبِيَّ إذا رأى في نَوْمِهِ أنه يجامع لا ينزل منه مني، بخلاف البالغ، إذا رأى في النوم أنه يجامع، فإنه ينزل منه المنيّ، وذلك معنى بلوغه الحلم؛ أي: إنزال المني بسبب ما يَرَاه في حلم النائم، وهذا معنى قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: فإن بلغ أشده فادفعوا إليه ماله إن آنَسْتُمْ مِنْهُ رشداً، كما تقدم في سورة النساء. وهذه الآية الكريمة تدل على أن ظلم اليتيم حرام، ولما أنْزَلَ الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: آية 10] خاف الصحابة الذين عندهم أيتام، وعزلوا مال الأيتام عن مالهم، وطعامهم عن طعامهم، حتى صار ما فضل عن اليتيم من طعامه يبقى ولا يجد مَنْ يأكله؛ خوفاً منه، وربما فسد، ¬

(¬1) البيتان في اللسان (مادة: خمس) (1/ 901)، ضياء السالك (2/ 153)، أضواء البيان (2/ 279).

فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله آية البقرة المعروفة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ} (¬1) [البقرة: آية 220] {لأعْنَتَكُمْ} أي: لحملكم العنت والمشَقَّة بحفظ أموالهم وطعامِهم معزولاً عن طعامكم؛ لأن ذلك فيه حرج ومشقة، إلا أنه خَوَّفَهُمْ بقوله: {وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} فمن خالط اليتيم، وخلط ماله بماله يريد مصلحة اليتيم والتوفير له، فالله يعلم نيته ويُثيبه، ومن كان يريد بمخالطة مال اليتيم وطعامه لطعامه أن يأكل مال اليتيم خديعة في غضون ذلك، فالله يعلم نيته، ويجازيه على ذلك، وهذا معنى قوله: {وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} وقال هنا: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وأتمها وأحوطها وأحفظها لمال اليتيم، بالمحافظة عليه وتثميره وتنميته بالطرق المأمونة، التي يغلب على الظن أنها لا خسار فيها ولا ضياع، وهذا معنى قوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في الوصايا، باب مخالطة اليتيم في الطعام، حديث رقم: (2854)، (8/ 73) والنسائي في الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه، حديث رقم: (3669، 3670)، (6/ 256)، والحاكم (2/ 103، 303، 318)، والبيهقي (6/ 284)، وابن جرير (4/ 349، 350، 351، 352، 353، 354)، والواحدي في أسباب النزول ص (72) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وانظر: صحيح أبي داود (2/ 554 - 555)، وصحيح النسائي (2/ 779) وقد جاء ذلك أيضاً في روايات مرسلة عن سعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد. انظر ابن جرير (4/ 350 - 352)، أسباب النزول للواحدي 71 - 72.

أي: يبلغ الحلم، وُيؤنَس منه رُشد، فادفعوا إليه ماله، وأشهدوا عليه إذا دَفَعْتُمُوه إليه. ثم قال: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} هذه أوامر اجتماعية عظيمة، تدل على كمال تشريع الإسلام، ورعاية دين الإسلام لمصالح البشر، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها. والمكيال والميزان هما الآلتان التي جعلهما الله (جل وعلا) لتُضبط بهما المبيعات، وهذا من فَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ بخلقه؛ لأن الله خلق الإنسان محتاجاً للغذاء، ومُفْتَقِراً للنِّسَاء، وخلق له ما في الأرض جميعاً، ولم يَتْرُكْه سدًى، فَأَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى طَعَامِ أخيك، وأخوك محتاج إلى طعامٍ آخر عندك، فلو لم يجعل الله المقادير بمكيال وميزان تَعْرِف به قدر ما تدفع وقدر ما تأكل لتَهَارَشْتُمْ على ذلك تَهَارُشَ الحُمُر والكلاب، فالميزان والمكيال آلات جعلها الله (جل وعلا) لِخَلْقِهِ ليأخذ كل واحد منهم غرضه من أخيه طيبة نفسه، عارفاً قدر ما أَخَذَ، وقدر ما أُخذ منه، طيب النفس بذلك، بحيث ينتفع كلٌّ من أخيه، وتتبادل المصالح عن طيب نفس وسماحة وسخاء، ولذا قال: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} قال بعض العلماء: الكيل هنا معناه المكيال، وإيفاء الكيل وإيفاء المكيال راجعان إلى شيء واحد (¬1)، وكذلك إيفاء الميزان وإيفاء الوزن معناهما واحد، والله (جل وعلا) يعلم أن بعض الأخِسَّاء من الذين يتولّون الكيل والوزن عندهم حيل دقيقة، ينقصون بها حقوق الناس إذا كانوا يكيلون ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 136) ..

للناس، ويزيدون حقوقهم إذا كانوا يكيلون لأنفسهم، فحَذَّرَهُم الله من هذا الفِعْل الخسيس، وعظّم شأنه، وتوعد عليه التوعد العظيم الهائل بالويل؛ وذلك لأن المال هو شريان الحياة، والطعام الموزون المكيل هو الذي به حياة الدنيا وقوامها {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: آية 8] فالآلات التي نُصبت عدلاً لذلك ينبغي الاحتياط الكامل في إقامتها على وجهها، وعدم الغش والخديعة فيها؛ ولذا كثر في القرآن العظيم الإيصاء بإيفاء الكيل والوزن، كما قال جل وعلا: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ (182)} [الشعراء: الآيتان 181، 182] وذكر الله عن نبيه شعيب مواضع متعددة من ذلك {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} [هود: آية 85] وفي آية أخرى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} (¬1) [الأعراف: آية 85]، والله جل وعلا يقول: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: الآيات 7 - 9] ومن عصى هذه الأوامر ولم يتتبعها فيا ويله! ويا ويله! لأن خالق السماوات والأرض يقول في الذين يُخسرون الكيل والميزان: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)} ويكفيك من التهديد والوعيد لفظة (ويل) المتوجهة من الله إلى من يفعل هذا الفعل الخسيس الدنيء الرذيل، ثم فسَّر المطففين بأنهم {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: الآيتان 1، 2] يعني: إذا كان الكيل لهم من الناس كالوا كيلاً وافياً، وإذا كالوا من متاعهم للناس أو وزنوا للناس يخسرون؛ أي: ينقصون ¬

(¬1) والشاهد قوله تعالى قبله في نفس الآية: {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} ..

بالحيل الخفية؛ لأن مَنْ تَمَرّن على الكيل والوزن يعلم حيلاً لا يعلمها غيره، يحسب الناظر أن المكيال تام، وأن الميزان بتمام، وهناك نقص خَفِيّ يعرفه أصحاب الصنعة بحيلهم الدقيقة، هذا معروف، فحذرهم الله من هذا، وهذا يدل على أن كل مَنْ تَوَلَّى مصلحة اجتماعية عليه أن ينصح إخوانه المسلمين فيها، فالقرآن يُذكر منه الآيات ليُنَبَّه بها على غيرها. فهذه مصلحة اجتماعية عامة؛ لأن كل الناس يحتاج إلى طعام يكيله، أو إلى حاجة يزنها، وهذا به قوام الناس في حاجاتهم ومصالحهم المتبادلة، فالذي يغش فيه وينقص ويُخسر خسيس من أخبث خلق الله، ويكفيه خبثًا ورداءة أن خالق السماوات والأرض يهدده بالويل، وأي شيء أعظم من تهديد الله للعبد بالويل؟! {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} ثم قال: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: الآيات 1 - 6] ويُفهم من فحوى الآيات: أنهم إذا بُعثوا إلى ذلك اليوم العظيم وقام الناس لرب العالمين واجتمع الخلائق الأولون والآخرون في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويُسمعهم الداعي، أن ذلك الخائن الناقص في الكيل والوزن يُنادى به على رؤوس الأشهاد، ويفتضح على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وفضيحة القيامة ليست كفضيحة الدنيا؛ لأن الإنسان يفتضح في الدنيا ويضيع عرضه ويبقى صحيح البدن سالماً يأكل ويشرب غير متألم، وإذا كان رذيلاً دنيّاً لا يُؤْلمُه ضياع العرض، إنما يتألم مِنْ ضياعِ الأعراض أصْحَابُ الشّؤون والهيئات والشرف، وقد ذكر العلماء أنَّ أعْظَمَ ما يصاب فيه الإنسان بعد نفسه إنما هو

-مثلاً- قُرباؤُه: كأولاده أو ماله أو عرضه أو دينه، فإذا أصيب في دينه فتلافيه سهل؛ لأنه إذا أناب إلى الله قد يتوب الله عليه، وقد يكون انكسار التوبة يبلغ به مرتبة عند الله أحسن مما كان قبل فِعْلِ الذَّنْبِ؛ لأن الإنابة إلى الله والتوبة والتذلل والخضوع والانكسار من الذنوب قد يكسب العبد درجة أعظم من درجته قبل أن يواقع الذنب، والمال قد يخلفه شيء بسيط، فصفقة واحدة قد يربح منها أضعاف ما خسر، والأنفس قد تُعَوَّض بالولادة، فيموت له ولد فيولد له عشرة أولاد، قالوا: أما العِرْض فإذا ضاع من الإنسان فلا شيء يخلفه؛ لأنه إذا ضاع عرضه، وعُرفت الفضيحة أمام الناس لم يمكن أن يداوي ذلك، ولو رجع إلى مكارم الأخلاق، فتلك الفضيحة بقيت فيه، لكن فضيحة الدنيا وإن كانت من أعظم المصائب، ففضيحة الآخرة أعظم وأطَمّ؛ لأن المفتضح في الآخرة إنما يُفْضَح بذنوب تؤديه إلى العذاب والنكال يوم القيامة -والعياذ بالله- فَعَلَى مَنْ وَلَّاه الله الكيل أو الوزن أن يَحْذَرَ من الله، ويخاف من فضيحة الآخرة، ويوفي الكيل إيفاءً تامّاً، ويوفي الميزان، ولا يغش وينصب فيستوفي لنفسه وينقص للناس، وهذا معنى قوله: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام: آية 152] القِسْط في لغة العرب معناه: العدل، والقَسط -بالفتح- الجور (¬1)، فالمقسطون من أهل الجنة، والقاسطون من أهل النار، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)} [الجن: آية 15] لأن القاسط اسم فاعل القَسْط -بالفتح- من قَسَط الثلاثية، وهو الجائر الحائد عن الهدى، والمُقْسِط: من القِسْط، وهو العدل. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: قسط) (670).

ومعنى كونه بالقسط؛ أي: بالعدل التام، بحيث لا يزيد ولا يَنْقُص، فلا يطلب المشتري زيادة على حَقِّهِ، ولا ينقص البائع المشتري عن حَقِّهِ، فليكن الحق كاملاً وافياً من غير [زيادة] (¬1) ولا نقصان، وهذا معنى إيفائه بالقسط. ولما كان الإنسان قد يبالغ جهده في أن يوفي المكيل، وقد يتفاوت ذلك؛ فبعض المكاييل يبني عليه المكيل، ويرتفع بعضه فوق بعض، حتى يكون وافياً، وبعض الناس يجتهد في أن يفعل ذلك، ويختل عليه شيء من غير قصد منه، إذا كان الله يعلم صلاح نيته وقصده للإيفاء، إلا أنه وقع تقصير أو نقص من غير قصده، فهذا معفوّ عنه، بدليل قوله: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: آية 152] فهذا الإيفاء في الكيل والوزن الذي كَلَّفْنَاكُمْ بِهِ إنما نعني به حسب ما تستطيعون، فمَنْ بَذَلَ مجهودَهُ في إيفاء الكيل والوزن ثم وقع نقص من غير قصده فهو معفوّ عنه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، هذا سبب نزول الآية (¬2)، وهي عامة؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، أي: طاقتها، وهو الشيء الذي في طاقتها وقدرتها لا تعجز عنه، ولا يشق عليها مشقة عظيمة، وهذا من التسهيل على هذه الأمة، لا يكلفها الله ما أخطأت فيه وما نسيت، وقد جاء في الذكر المحكم: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: آية 5] وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ من خواتيم سورة البقرة {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: آية 286] قال الله: نعم قد فعلت. ¬

(¬1) في الأصل: «تمام» وهو سبق لسان. (¬2) انظر: أضواء البيان (2/ 281).

(نعم) في رواية أبي هريرة، و (قد فعلت) في رواية ابن عباس، وكلتاهما ثابتة في صحيح مسلم (¬1)، والله (جل وعلا) يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: آية 5] فالخطأ والنسيان وما لا يقصده الإنسان مَعْفُوٌّ عنه؛ ولذا قال: {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. ثم قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: آية 152] وهذه الآية عظيمة جدّاً، وهي من الآداب الاجتماعية العامة، البالغة في العظمة، وهي تشمل أشياء كثيرة، إذا كنت تشهد بحق فلا تشهد عند القاضي إلا بعدل، واخش شهادة الزور لأجل قريب، أو رشوة أو غير ذلك، وإذا كنت قاضياً فلا تقل إلا الحق، واحذر أن تميل لقرابة أو لغرض أو رشوة {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: آية 58] وإذا كلمت أخاك المسلم فلا تقل إلا عدلاً، ولا تقل له شيئاً يُؤْذِيه، ولا تكذب عليه، وإذا حدثت عن قصة ماضية فلا تقل إلا عدلاً ولا تكذب، وإذا حدّثت عن الله فلا تقل في صفاته إلا اللائق الكريم، وإذا قلت في كل قول فلا تقل إلا أمراً كريماً عدلاً. ومن حفظ لسانه وكان لسانه معتدلاً لا يقول إلا ما يرضي الله فإن هذا من أحكم الآداب الاجتماعية التي يُطفَأُ بها الشرر العظيم المتفشِّي في المجتمع؛ لأن أكثر الأضْرَار الاجتماعية هي جنايات اللسان، وعدم اعتداله في قوله، فيقول على هذا ما لم يفعل، ويلمز هذا بما يؤذيه، ويشهد على هذا بالزور، ويحكم على هذا بالباطل، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام.

فإذا كان يزن قوله بميزان الشرع ولا يقول إلا عدلاً، كان هذا من أعظم الآداب الاجتماعية، وأكثر المنافع للمجتمع وأعظمها تفادياً لكثرة الأضرار الناشئة عن عدم العدل في القول؛ ولذا قال جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يعني: لا تحملك قرابة أحد على أن لا تعدل في القول فتشهد له بباطل لِقَرَابَتِهِ، أو تشهد على خصمه بما يُؤْذِيه، أو تشهد على الشاهد لِخَصْمِهِ إن جرحه، أو نحو ذلك، فلا تحملنَّك القرابة أن تقول إلا عدلاً، ولا يصدر منك كلام إلا على الحق والعدل المطابق لما يرضي الله (¬1)، كما قدمنا في قوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ} [المائدة: آية 8] وفي الآية الأخرى: {كونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: آية 135] أي: ولا يحملك أيضًا أن هذا فقير وهذا غني، فتشهد على الغني رحمة بالفقير، أو تكتم الشهادة على الفقير رحمة به للغني لا تفعل هذا، فَقُل الحق على بابه كائناً من كان على القريب وعلى الفقير وعلى الغني. وآية النساء هذه: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} وما بعدها فيه سرّ أعظم وتعليم أكبر؛ لأن الله يعلم أنه سيأتي في آخر الزمان مذاهب هَدَّامة، تتصل إلى سلب حقوق الناس أموالهم بدعوى أن هذا فقير وأن هذا غني، وأن هذا الغني ابْتَزَّ ثروات الفقراء، وأنه ينبغي أن يُنْزَع مال الغنيّ ليستوي هو والفقير باسم العدالة الاجتماعية! فالله (جل وعلا) علم أن هذا سيقع، وبَيَّن حكمه قبل أن يقع، فقال: لا تتخذوا من كون هذا غنيّاً وكون هذا فقيراً طريقاً ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 281).

تتصلون بها إلى ظلم الناس، وأخذ أموال الناس؛ اتباعاً للهوى {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ} [النساء: آية 135] وتتخذوا من ذلك طريقاً تأخذون بها أموال الناس من غير رضاهم {فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فعلى المسلم أن يعمل بقوله: {وَإذَا قُلْتُم فَاعْدِلوُا} فإذا أراد أن يَتَكَلَّم تأمل في الكلام الذي يقوله، فإذا كان حقّاً صواباً مرضياً لله فليقدم عليه، وإذا كان جوراً غير حق فليُحْجِمْ عَنْه، كأن يعيب الإنسان، أو يشهد بشهادة الزور أو يحكم بباطل، أو يقول عن إنسان ما ليس فيه، أو يحكي قصة فيحرِّفها، إلى غير ذلك، وهذا من المصالح العامة التي تدل على أن هذا الدين سماوي، وأن هذا كلام خَالِق الخَلْق {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: آية 152] أي: ولو كان المقول عليه من شهادة أو حكم أو أنه ظالم {ذَا قُرْبَى} أي: صاحب قرابة، حتى ولو كان على نفسك، كما بيّنته آية النساء. ثم قال: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ} هذه أيضاً من الآيات العظام الشاملة للمسائل الاجتماعية والإلهية، فهي من غرائب التشريع؛ لأنها شملت أحكام دين الإسلام؛ لأن العهد المضاف إلى الله هنا هو على التحقيق يشمل أمرين: أحدهما: عهد بين المخلوق والخالق، كالنذور التي ينذرها طاعة لله، والله يقول: {وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: آية 29] وقد مدح أهل الجنة بذلك حيث قال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)} [الإنسان: آية 7] وقد يكون عهد الله فيما بين عبيده؛ لأن العهد فيما بينك وبين أخيك هو عهد لله؛ لأنه أخذ على كل منكما العهد أن يفي لأخيه بما عاهده عليه، وأن لا يفعل معه إلا

خيراً، ومن عهود الله التي يجب الوفاء بها: وَصَايَاه التي أوْصَانَا بها في هذه الآيات المحكمات، وجميع أوامره ونواهيه، وامتثال أمر الله واجتناب نهيه، كل هذه عهود الله على خَلْقِهِ في جميع التشريع يجب الوفاء بها، وكذلك عهدك على أخيك، كأن تقول له: لك عَلَيَّ كذا، أو أشترط عليك كذا، أو أعْهَدُ إليك بكذا، فإنه يجب الوفاء في ذلك. وفي هذه الآية تعليم عظيم؛ لأن كثيراً من الفقهاء غلطوا غلطاً فاحشاً في حديث، يرفع ذلك الغلط آيات من كتاب الله، منها هذه الآيات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء عنه في حديث أنه قال: «مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ» (¬1)، فكان ابن حزم (¬2) ومَنْ غَرَّهُ كَلَامُه وكثير من الفقهاء الذين لم يتدبروا معاني القرآن يَظُنّون أن كل شرط لم ينص القرآن على عينه أنه باطل؛ ولذا أبطل بعض العلماء كثيراً من الشروط، كأن تَشْتَرِطَ عَلَى أخِيكَ كَذَا في البيع من أمر مباح، أو تشترط المرأة على الزوج في عقد النكاح أمراً مباحاً، ويقولون: هذه الشروط ليست في كتاب الله، فهي باطلة. والتحقيق: أن كل شرط لا يُحل حراماً، ولا يحرِّم حلالاً فهو في كتاب الله؛ لأن الله أمر بالوفاء بالعهد أمراً عامّاً، كقوله هنا: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: آية 1] فكل شرط اشترطه مسلم على ¬

(¬1) أخرجه البخاري في المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، حديث رقم: (2561)، (5/ 187)، ومسلم في العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، حديث رقم: (1504)، (2/ 1141). (¬2) انظر: المحلى (9/ 44).

مسلم، ولم يكن هذا الشرط يبيح حراماً حرّمه الله، أو يحرم حلالاً أحلّه الله، بل كان مشترطاً أمراً جائزاً، فهذا الشرط في كتاب الله؛ لأن الله أمر المسلمين بالوفاء بالعهود في آيات كثيرة، وهي شروط عامة، كقوله هنا: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ} يعني: أن عهد الله هنا يشمل جميع الأمانات؛ من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ويدخل فيه الوفاء بالنذور، ويدخل فيه عهود المسلمين بعضهم على بعض، وشروط بعضهم على بعض؛ لأن المسلمين عند شروطهم، فكل شرط اشترطه مسلم على مسلم، وكان ذلك الشرط لا يحل حراماً حرَّمه الله، ولا يحرم حلالاً أحله الله، فهو في كتاب الله؛ لعموم الأدلة على وجوب الوفاء بالعهود، والشروط من أوكد العهود التي أمر الله بالوفاء فيها، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه أنه قال: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» (¬1) فما تشترطه المرأة على زوجها بالعقد إن كان لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً. أما الشرط الذي أحل حراماً أو حَرَّمَ حلالاً فهو ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن كان مئة شرط، وهذا معنى قوله: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا}. ثم أعاد الله (جل وعلا) الوصية وكَرَّرَهَا علينا، ثم قال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} ذلكم المذكور في هذه الآية من التباعد من أكل مال اليتيم، ومن بخس المكيال والميزان، ومن عدم العدل في القول، ومن الإيفاء بالعهد، هذه الأمور التي أمَرَكم الله بها، وحذركم عن ¬

(¬1) البخاري في الشروط، باب: الشروط في المهر عند عقدة النكاح، حديث رقم: (2721)، (5/ 323)، وطرفه في (5151)، ومسلم في النكاح، باب: الوفاء بالشروط في النكاح، حديث رقم: (1418)، (2/ 1035).

أضدادها وصاكم بها؛ أي: أمركم بها أمْراً مُؤَكَّداً، فعليكم أن تحتزموا بها، فلا تَقْربوا مال اليتيم بغير الأحسن، وَلَا تقولوا إلا ما هو عدل، ولا تنقضوا العهود، إلى غير ما جاء في الآيات. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قرأه هنا حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بتاء واحدة وذال مخففة، وأصله (تَتَذَكَّرُونَ) فحذفت إحدى التاءين، وقَرَأَهُ الجمهور، وهم الباقون: {لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ} بتشديد الذال وإدغام إحدى التاءَيْنِ في الذال، وعلى قراءة حفص وحمزة والكسائي: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬1) فقد حُذفت إحدى التاءين، والمضارع المبدوء بتاءين يجوز حذف إحداهما بقياس مطرد: وَمَا بِتَاءَيْن ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ ... فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ العِبَرْ (¬2) وعلماء العربية مختلفون اختلافاً لا طائل تحته ولا دليل عليه في التاء المحذوفة من التاءين هل هي تاء المضارعة أو التاء الأخرى؟ (¬3) هذا الخلاف لا طائل تحته، ولا دليل عليه، والمدار على أن إحدى التاءين محذوفة، وهذا معنى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: آية 152]. كان بعض العلماء يورد في هذه الآيات سؤالاً، وهو أن يقول: عبّر في الآية الأولى بـ {وَلَا تَقْتُلُواْ اْلنَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالحَقِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} [الأنعام: آية 151] وفي هذه الثانية ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران (204). (¬2) الخلاصة ص (79). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 253)، الدر المصون (5/ 223).

بـ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وأجابوا عن ذلك بأجوبة -الله أعلم بها- (¬1) منها: أن قالوا: إن المذكورات في الآية الأولى واضحة لا خفاء فيها؛ لأنها هي عدم الإشراك بالله، وعدم قتل الأولاد، والبر بالوالدين، وعدم قتل النفس التي حَرَّمَ الله إلا بالحق، وهذه أمور ظاهرة؛ ولذا قال لما كانت ظاهرة لا تحتاج إلى تفكر وتذكّر؛ لظهورها ووضوحها، قال: قلت لكم هذا لتُدْرِكُوهُ عنّي بِعُقُولِكُمْ؛ لأنه أمر واضح، وأن المذكورات في الآية الأخيرة تحتاج إلى تأمُّلٍ وإلى تفكّر، كإيفاء الكيل والميزان، وعدم بخس الناس أشياءهم، وكالتحرِّي في الأقوال لِيُعْلَمَ العدْل منها مِنْ غَيْرِ العدل، والوفاء بالعهود أن هذه أمور فيها خفاء، فعبّر بعدها بالتذكر؛ لأنها تحتاج إلى تذكر، هكذا يقولون، والله تعالى أعلم. يقول الله جل وعلا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: آية 155] ذكرنا أنه جرت العادة أن الله ينوّه بالتوراة والقرآن معاً؛ [23/أ] لأنهما أعظم الكتب المنَزَّلة؛ لأنه قبل/ نزول القرآن كانت التوراة أعظم الكتب المنزلة وأجمعها للأحكام، كما قال الله فيه: {وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء} [الأنعام: آية 154]، فلما نزل القرآن كان أشمل كتاب وأعظمه؛ لأنه جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وزاد فيه أشياء لم تنزل على غيره؛ ولذا لما نزلت التوراة في قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ} [الأنعام: آية 154] نوّه ¬

(¬1) انظر: ملاك التأويل (1/ 480)، درة التنزيل وغرة التأويل ص74، البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني ص69، فتح الرحمن بكشف ما يلْتبس في القرآن ص181 - 182، البحر المحيط (4/ 253)، الدر المصون (5/ 222)، فتح المجيد ص (41).

بالقرآن العظيم بعده فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: آية 155] ومثل هذا يَتَكَرر في القرآن، كقوله في التوراة: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: آية 91] ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: آية 92] فأتبع التنويه بالتوراة التنويه بالقرآن، كقوله: {وَمِن قَبله كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً وَهَذَا} يعني: القرآن {كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [هود: آية 17] وكقوله: {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: آية 48] وفي القراءة الأخرى (¬1): {سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا} [والجن] (¬2) الذين استمعوا القرآن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: آية 30]. ومعنى الآية الكريمة: وهذا الذي تُتْلَى عليكم آياته كهذه الآيات المحكمات: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } إلى آخر الآيات [الأنعام: آية 151]، {وَهَذَا} الذي تُتلى عليكم آياته جامعة هذا من الأحكام والتشاريع، {كِتَابٌ} هو كتاب الله (جل وعلا) الذي هو آخر كتاب نَزَلَ من السماء، وهو أعظم كتاب سماوي على أعظم رسول أرْسَلَهُ الله في الأرض، فهو آخر الكتب السماوية، ونازلٌ على آخر الرسل وخاتمهم - صلى الله عليه وسلم -، جمع الله فيه علوم الكتب السابقة، ولذا صار القرآن مهيمناً على الكتب السابقة، كما قدّمناه في سورة المائدة في قوله: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: آية 48] ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص341. (¬2) في الأصل: «واليهود» وهو سبق لسان.

ولذا ما حَرَّفَهُ اليهود بيَّن القرآنُ أنه محرَّف، وكان اليهود يختلفون في أشياء لا تعلم علماؤهم حقائقها من غوامض التوراة، فبيّنها لهم القرآن وأوضحها لهم، لهيمنته على الكتب قبله {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} [النمل: آية 76] أي: ويوضحه لهم، ولمّا أنزل الله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: آية 160] قال اليهود: ما حُرِّم علينا شيء بسبب ذنب، وإنما حُرِّم علينا ما كان محرَّمًا على أبينا إسرائيل من الأطعمة. وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فلمَّا زعموا أن الله لم يحرم عليهم إلا ما كان محرَّماً من الطعام على إسرائيل كذّبهم القرآن، وألْقَمَهُم الحجر، فقال: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: آية 93] فلما قال لهم: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} خافوا وخجلوا ولم يأتوا بها (1). كذلك قصة اليهوديين الزانيين المشهورة (2)، بأنه زنى يهوديان

من يهود خيبر أو ما يقرب منها، فأرسلوا ليهود المدينة: سلوا لنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الزاني المحصن، فإن أتاكم بجَلد أو شيء غير القتل فاقبلوا حكمه، ونخرج من العُهدة أمام الله بأنهما حَكَمَ فيهما نبيٌّ كريم؛ لأنهم يعلمون أنه نبي كريم - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} [المائدة: آية 41] يعنون: إن أعطاكم الحكم السهل من عدم رَجْمِ الزانيين فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا! وعلى كل حال ثبت في الصحيحين في قصة الزانيين المشهورة أنهما أتوا بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحَكَّمه فيهم (¬1)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَأَحْكُمُ فِيهِمْ بِالحُكْمِ الذي أنْزَلَ اللهُ في التَّوْرَاة» وهو الرَّجْم. وكان رئيسهم الديني في ذلك الوقت: عبد الله بن صُورِيَّا الأعور، فقال له: ليس في التوراة الرجم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَلَى، إن في التوراةِ لآيَة تدلّ على الرجم، فأتوا بالتَّورَاة». فجاءوا بالتوراة، فقرأ ابن صوريا ما قبل آية الرجم وما بعدها، وجعل يده على آية الرجم يخفيها إخفاءً للحق، فجاء عبد الله بن سلام (رضي الله عنه وأرضاه) وهو يهودي أصلاً من يهود بني قينقاع، وهو من خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأفاضل الصحابة الكرام، فهو الذي أنزل الله فيه في الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن ¬

(¬1) هكذا العبارة في الأصل، والصواب أن يقال: «أنهم أتوا بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكموه فيهم ... ».

بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (¬1) [الأحقاف: آية 10] هذا الشاهد: هو عبد الله بن سلام، وكان أعلمهم بالتوراة، فقال لابن صوريا: ارفع يدك!! وقرأ آية الرجم، فحكم النبي عليهما بالرجم، ورجمهما الصحابة. وفي الصحيحين: أن بعض الصحابة رأى الرجل يجنؤ على المرأة؛ أي: ينحني عليها ليقيها الحجارة، فَرُجِمَا وقُتِلَا (¬2)، وهذا من هَيْمَنَةِ القرآن على الكتب، وإنما سُمِّيَ هذا القرآن كتاباً؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)} [البروج: الآيتان 21، 22] ومكتوب في صحف عند الملائكة لما جُمع كله في بيت العزة في السماء الدنيا، كما في قوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14)} [عبس: الآيات 11 - 14] ولأنه مكتوب أيضاً عند المسلمين، كما قال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة: الآيات 1 - 3]. ¬

(¬1) كما في حديث سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) عند البخاري، وكما جاء من حديث عبد الله بن سلام نفسه عند الترمذي وابن جرير وغيرهما، وكذا حديث عوف بن مالك عند أحمد، وابن حبان، والحاكم، والطبراني في الكبير، وأبي يعلى، وابن جرير. وحيث إن الشيخ (رحمه الله) لم يُورِدْ رِواية هنا فإني أكتفي بهذا الإجمال .. (¬2) البخاري في المناقب، باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ}. حديث رقم: (3635)، (6/ 631)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (1329، 4556، 6819، 6841، 7332، 7543)، ومسلم في الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، حديث رقم: (1699)، (3/ 1326).

فلما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ، وفي الصحف عند الملائكة، وبالصحف بأيدي المسلمين قيل له: (كتاب) وأصل الكتاب: (فِعَال) بمعنى (مفعول) وإتيان (الفِعَال) بمعنى (المفْعُول) مسموع في لغة العرب في كلمات غير كثيرة، ككتاب بمعنى مكتوب، ولباس بمعنى ملبوس، وإله بمعنى مَأْلُوه، أي: معبود، ونحو ذلك في أوزان غير كثيرة. وأصل مادة الكتابة، مادة (الكاف، والتاء، والباء) (كتب) معناها في لغة العرب التي نزل بها القرآن: الضَّمّ والجمع، فكل شيء ضممت بعضه إلى بعض وجمعت بعضه إلى بعض فقد كَتَبْتَهُ، ومِنْ هنا قيل للخِيَاطة كتابة، وفي لُغَز الحريري (¬1): وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ ... حَرْفاً وَلَا قَرَؤُوا مَا خُطَّ في الْكُتُبِ يعني بالكاتبين: الخيَّاطين. ومنه قول عمرو بن دارة يهجو بني فزارة من قبائل غطفان كانت العرب تعيّرهم بالفاحشة مع إناث الإبل، يزعمون أنهم يزنون بالنوق، تعييراً لهم، فَعَيَّرهم هذا الشاعر فقال (¬2): لَا تَأْمَنَنَّ فَزَارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ ... عَلَى قُلُوصِكَ وَاكْتُبْهَا بَأَسْيَارِ يعني: خِط فرجها بأسيار لئلا يزني بها، وهذا معنى معروف في كلام العرب. ومنه قيل للرقعة التي تكون في السقاء، وقيل لها: كُتْبَة، وقيل للسَّيُر الذي تُخاط به الرقعة أيضاً: (كُتْبة)؛ لأنَّه يضم الرقعة إلى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من هذه السورة. (¬2) السابق.

السقاء، ومنه قول غيلان ذي الرمة (¬1): مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ ... كَأَنَّهُ مِنْ كُلًى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ ... وَفْرَاءَ غَرفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزَهَا ... مُشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتُبُ يعني: بـ (الكُتب): قيل: السيور التي تُخاط بها الرقع، أي: مَسْك الرقع، يُشَبَّه كثرة دموعه بماء السقاء إذا اتسع موضع السير الذي خيطت به؛ لأنها جماعة ينضمّ بعضها إلى بعض، ويتشكل مع بعض، فسُميت الخياطة كتابة؛ لأن الخيّاط يضم طرفي الثوب أو الأديم، ويجمع بعضها إلى بعضٍ بالخياطة، كذلك قيل للكتابة (كتابة) لأن الكاتب يضمُّ نقوشاً بعضها مع بعض، يضع حرفاً منقوشاً ثم حرفاً ثم حرفاً، حتى يتكون من ذلك كلام يدل على المعاني؛ فلأجل هذا فالكتابة مصدر سيّال. أي: وهذا قرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي الصحف عند الملائكة، وفي صحف مطهرة بأيدي المسلمين. {أَنْزَلْنَاهُ} يعني: هذا الكتاب أنزلناه من عندنا ومن كلامنا، وصيغة الجمع للتعظيم، وجملة الفعل وفاعله في {أَنْزَلْنَاهُ} في محل النعت للكتاب (¬2)؛ لأن النكرات تُنعت بالجُمل، كما هو معروف (¬3)، و (مبارك) نعت آخر (¬4)، والأصل أن يُقدم النعت بالمفرد ثُمَّ بشبه الجملة ثم بنفس الجملة كما في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 256)، الدر المصون (5/ 229). (¬3) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬4) انظر: البحر المحيط (4/ 256)، الدر المصون (5/ 229).

فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: آية 28] فبدأ بالنعت بقوله: {مُّؤْمِنٌ} لأنه مفرد، ثم أتبعه بشبه الجملة، وهي: {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ثم أتبعه بالجملة {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} هذا هو الأصل المُقَرَّر في المعاني، ورُبَّما قُدِّم النعت بغير الجملة، وربما قُدم النعت بغير المفرد على النعت بالمفرد، فمثال تقديمه بشبه الجملة: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} فالجار والمجرور نعت قُدِّم على النعت المفرد في قوله: {عَظِيمٍ} [الزخرف: آية 31] ومثال تقديم الجملة على المفرد قوله هنا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فجملة {أَنزَلْنَاهُ} نعت قُدِّم على النعت بالمفرد، ونظيره من كلام العرب قول طرفة بن العبد (¬1): وَفِي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شَادِنٌ ... مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ فإن قوله: (شادن ومظاهر) مفردان، قدّم قبلهما النعت بالجملة في قوله: (ينفض المرد) وهذا معروف (¬2). وقوله: {مُبَارَكٌ} معناه: أن هذا الكتاب مبارك، أي: كثير البركات، والخيرات، فمن تَعَلَّمَهُ وعمل به غمرته الخيرات في الدنيا والآخرة؛ لأن مَا سَمَّاهُ الله مباركاً فهو كثير البركات والخيرات قطعاً، وكان بعض علماء التفسير يقول: اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات والخيرات في الدنيا؛ تصديقًا لقوله: {كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ مُبَارَكٌ} ونرجو أن يكون لنا مثل ذلك في الدنيا، وهذا الكتاب المبارك لا ييسر الله للعمل به إلا الناس الطيبين المباركين، فإنه كثير البركات والخيرات؛ ¬

(¬1) البيت في معلقته. وقوله: (أحوى): هو ظبي في ظهره خُطتان خضراوان، و (المرد): ثمر الأراك، و (شادن): ظبي ليس بالكبير، و (مظاهر): قد جمع بين اللؤلؤ والزبرجد. انظر: شرح القصائد المشهورات (1/ 56). (¬2) انظر: النحو الوافي (3/ 496 - 497).

لأنه كلام رب العالمين، إذا قرأه الإنسان وتدبَّر معانيه ففي كل حرف عشر حسنات في القراءة، وإذا تدَبَّر معانيه عرف منها العقائد التي هي الحق، وعرف أصول الحلال والحرام، ومكارم الأخلاق، وأهل الجنة وأهل النار، وما يصير إليه الإنسان بعد الموت، وما يسبب له النعيم الأبدي، وما يسبب له العذاب الأبدي، فكله خيرات وبركات؛ لأنه نور ينير الطريق التي تميز بين الحسن من القبيح، والنافع من الضار، والباطل من الحق، فهو كله خيرات وبركات، من عمل به غمرته الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، وأصلح له الله الدارين. ومن غرائب الأشياء وعجائبها أن أكثر أهل المعمورة ممن يؤمنون بأنه كلام الله الذي أنزله على رسوله يطلبون الهدى في غيره، ويطلبون التشاريع والتحليلات والتحريمات من غيره! فهذا من الغرائب! إذ كيف يعدل عاقل عن كلام خالق السماوات والأرض؟ فهو النور المبين، والحبل المتين الذي بينه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - بسنته الصحيحة، يعدل عن هذا زاعمًا أنه ليس بصالح لهذا الوقت، وأن الحياة تطورت بعد نزوله تطوراً لا يلائم هذا القرآن! ومن أنزل القرآن عالمٌ بما يحدث من التطورات، وما يكون، فجعل القرآن ديناً خالداً لا ينسخه دين، باقٍ إلى يوم القيامة، وهو عالم بما ينزل وما يحدث في الدنيا، بل لو عملت الدنيا أجمعها بهذا الكتاب الكريم لأزال جميع مشاكلها، وأزال عنها كل ضرر، ونظّم علاقات حياتها على الوجوه الكاملة، وأراها الطريق الواضحة التي تحصل بها على خير الدنيا والآخرة، وهو دائماً يحث على التقدم والرُّقِيّ في جميع ميادين الحياة؛ لأنه كلام ربِ العالمين.

القرآن يحث الإنسان على أن يُعْطِي جسده حظه، وأن يعطي روحه حظها (¬1). وإذا قرأ الإنسان القرآن فهم كيف يدعو الإنسانَ إلى الجَدِّ والكَدْحِ في هذه الحياة الدنيا، وإلى طاعة خالق هذا الكون، ونَحْنُ نُقَرِّرُ في المناسبات وفي الدروس دائماً أن هذا الحيوان الذي هو الإنسان، أنه حيوان مركب من جوهرين مختلفين بالذات اختلافاً جَذْرِيّاً حقيقيّاً، وأَصْلَاه اللَّذان تَرَكَّبَ منهما متنافيان كل التنافي -أعني بهما روحه وجسده- فحقيقة الروح من العالم العلوي، والجسد من العالم السفلي، وبين الروح والجسد تَبَايُن وتنافٍ تام بالجوهر والعنصر وجميع الصفات، والله رَكَّبَ الإنسان منهما، فالروح وَحْدَه ليس بإنسان، والجسد وحده ليس بإنسان، وإنما هو حيوان مركب منهما، ومعلوم أن الروحَ له متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الجسم، وأن الجسم له متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الروح، فللجسم متطلبات لا بد منها، كالقوة الجسمية، والله (جلّ وعلا) يحث على هذا كل الحث؛ لأن من أعظم أنواع تربية القوة الجسمية هو إعداد القوة الكافية، والوحدة حولها وحدةٌ حقيقية صحيحة، والله يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] فهذه الآية الكريمة بظاهرها تساير التطور مهما بلغ التطور من أنواع القوة؛ لأن الله يأمر بإعداد كل ما يدخل في طاقة الإنسان من إعداد القوة لِيَتَقَوَّى بها المسلمون، ويردوا بها الهجوم المسلّح، ويحافظوا بها على بيضة الإسلام، فهذا مِنْ أَعْظَمِ الأمر بأسباب القوة، وكذلك يأمر بالاجتماع؛ لأن البلايا كلها من المخايلات وعدم اتحاد القلوب، واختلاف القلوب وتباغضها، وهذا هو السبب ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

الأكبر للضعف، وهو السبب الذي يدخل منه العدو فيضرب بعضهم ببعض، ويبقون -مثلًا- لأن المختلفين لا ينجحون؛ ولهذا يقول الله في محكم كتابه: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: آية 46] ويقول (جل وعلا): {وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: آية 103] ويحض على الاجتماع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة، وقد بيّنَ القرآن في سورة الحشر أن اختلاف القلوب ومعاداة البعض للبعض منشؤه إنما يكون من ضعف العقول، كما قال في قوم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: آية 14] ثم كأن قائلاً قال: ما الموجب الذي صيّر قلوبهم شتى وهم أمة واحدة متفقة في الأهداف والأغراض، ما الموجب الذي صيّر قلوبهم شتى؛ أي: مختلفة متنافرة؟! فبيّن العِلة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} وليس المراد هنا نفي العقل من أصله، والمعنى: (أنهم لا يعقلون) نفي كمال العقل، يعني: أن عقولهم ليست ناضجة كما ينبغي، أمّا هم في الحقيقة فمن جملة العقلاء، وهذا يدل على أن هذه الفِرَق -التي تدّعي الإسلام- المختلفة، التي يبغض بعضها بعضاً، وإن تجاملت في ظاهر الأمر، أن سبب ذلك إنما هو ضعف العقول في بعضها، وقد يكون المختلفان أحدهما عنده عقل كامل، يدعو إلى الطريق المستقيم بعقله المستقيم، والآخر ضعيف العقل، يَفِرّ من تلك الطريق ويخالف، فهذا من ضعف العقل، وقد بيّنَّا في هذه السورة الكريمة أن ضعفَ العقول وموتها علاجه القرآن؛ لأنه يصير به الميت حيّاً، ويصير به الذي كان في الظلام في النور {أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: آية 122] فبيّن أن اتباع القرآن حياة بعد الموت، ونور بعد الظلام؛ لأن تشريع خالق

السماوات والأرض ينوّر الأفكار ويضيء الطريق، ويدل الخلق على ما هم عاجزون عليه من مصالحهم، ولا شك أن هؤلاء الذين يعدلون عن القرآن، والله يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: آية 153] ويسميه النور الذي يضيء، فيرى في ضوئه كل حق وكل باطل وكل حسن وكل قبيح وكل نافع وكل ضار؛ ولذا كثيراً ما يطلق على القرآن اسم النور، كما قال: {وَاتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: آية 157]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174)} [النساء: آية 174] {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن: آية 8] {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء} [الشورى: آية 52]، فالآيات المصرحة بأن هذا الكتاب نور، والنور هو الذي يُرى في ضوئه الحق حقّاً والباطل باطلاً والنافع نافعاً، إلى آخره، فالذين يعدلون عن هذا النور -الذي هو كلام رب العالمين، المبيّن بسنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - زاعماً أن هذا لا هدى فيه، ويطلب الهدى في نُظُمٍ وَضْعِيَّة ألَّفَهَا خُبَثاء كفرة فجرة خنازير أبناء خنازير، أن هذا من طمس البصائر الذي يُؤسَف له ويُبكي العيون -والعياذ بالله- والحق الذي لا شك فيه أن الذي سَبَّبَ هَذَا إنَّمَا هو طمس البصائر؛ لأن البصيرة إذا ضعفت جدّاً كانت لا تتحمل النور العظيم، والنور العظيم يقضي على ذي البصر الضعيف {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: آية 20] فالذين يعدلون عن كتاب الله إلى نظم وضعية زَاعِمين أنها أحسن منه، وأبلغ في تنظيم الحياة في جميع ميادينها، فهم في الحقيقة بالحرف الواحد والكلام المطابق: خفافيش البصائر، أعماهم نور القرآن كما تعمي الشمس الخفافيش:

خَفَافيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (¬1) مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى ... نُوراً وَيُعْمِي أَعْيُنَ الخُفَّاشِ (¬2) والدليل على هذا أن الله بيّن أن الذي لا يعلم أحقية القرآن، أن الذي منعه من ذلك عَمَاه، مع وضوح دلالة القرآن، قال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فبيّن أن الذي منعه أن يعلم أنه الحق إنما منعه عَمَاه (¬3). إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ فلو حاولت أن تُري الشمس للأعمى لا تستطيع، فنور القرآن أعظم من نور الشموس، والذين يطلبون الهدى في غيره أضعف بصائر من الخفافيش، فمن هذا جاءت البلية، فعلينا جميعاً أن نعرف أن القرآن نور الله المبين وحبله المتين، المعتصم به ظافر؛ والمحتج به غالب، لا يخذل من تمسك به أبداً؛ لأنه كلام الله، ولذا قال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: آية 155] أي: ولا تتبعوا غيره من السبل الزائغة الضالة. ومعنى {فَاتَّبِعُوهُ}: أحِلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعتقدوا عقائده، واعتبروا بأمثاله، وعاملوا أعداءكم بما فيه من الحِكَم؛ لأن القرآن يوضح جميع المرافق الحيوية من جميع مرافقها، وقد بيّناه مراراً، وسنضرب لذلك مثلاً بسيطاً؛ لأنه معروف أن جميع المصالح في الكتب السماوية، أنها تدور حول ثلاث، هي: دفع الضرر، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من هذه السورة. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

المعروف بدرء المفاسد، الذي يُقال له في الأصول: (الضروريَّات)، وجلب المصالح، المسمى في الأصول بـ (الحاجيات)، والجري على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات. فجميع الشرائع السماوية إنما تدور حول هذه المصالح الثلاث؛ إمّا أن يتضمن التشريع نفي ضرر وإبعاد مفسدة، أو جلب مصلحة، أو جرياً على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. وإذا نظرنا في كتاب الله وجدنا فيه العَجَبَ العُجَابَ الذي يبهر العقول من المحافظة على هذه المصالح، ولو تكلمنا على هذا لما وسع الوقت شيئاً قليلًا منه، ولكن نضرب بعض الأمثال فنقول مثلاً: أطبق عامة العقلاء أن المظالم التي تتظالم بها الناس في دار الدنيا، ويكون بعضهم ظالماً بعضاً ومعتدياً على حق بعض، أنها هي السِّتُّ المعروفة بالضروريَّات: ستة أشياء (¬1)، وهي: أولها: الدين: والعدوان على الدين مِنْ أعْظَم الجَنَايات وأكبرها، ومن ذلك أن تكون أولاد المسلمين على الفطرة الصحيحة، وهم في غاية الاستعداد لقبول ما كان عليه آباؤهم من الدين والصلاح، فيأتيهم قوم فيجعلون لهم مدارس يعلمونهم فيها العقائد الزائفة والإلحاد والفِكَر الهدامة، فيضيّعون دينهم، فهذا ظلم وعدوان على الدين، وهو من أعظم المظالم وأشنعها. هذا واحد من الستة: الدين. الثاني: النفس: وهو الإنسان الذي يعدو على الإنسان فيقتله ويُذهِبَ نفسه. الثالث: العقل: ومن يعدو على الإنسان فيضيّع عقله. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

الرابع: النسب: وهو من يتجرأ على المجتمع فيضيّع بعض أنسابه. الخامس: المال. السادس: العِرض. فإن جميع المظالم في دار الدنيا تدور حول هذه الأشياء، وهي العدوان على دين الإنسان، أو العدوان على نفسه، أو العدوان على عقله، أو العدوان على نسبه، أو العدوان على ماله، أو العدوان على عرضه، فهذه الجواهر الستة التي تدور حولها المظالم في دار الدنيا لا تجد نظاماً أحوط لها وأحصن لها، وأشد محافظة عليها من نظام السماء، الذي تضمنه هذا الكتاب المبارك، المنزّل مِنْ رَبِّ العَالَمين، فتراه يحافظ على الدين أشد المحافظة، فيقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: آية 193] أي: حتى لا يبقى في الدنيا شرك ولا فساد دين، ويقول: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬1) ويقول: {يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة: آية 217] يحثهم على أنهم يجاهدون كل المجاهدة من أراد أن يغيّر دينهم ويردهم عنه. وأما النفس فقد جعل القرآن دونها حائطاً من حديد، وهو القصاص؛ لأن أعظم صيانة للنفوس ومحافظة عليها: شرع القصاص؛ لأن الله يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: آية 179] ومعنى أن كون القصاص لنا به الحياة: أن الرجل ينزغ فيه الشيطان فيغضب فينوي أن يقتل الذي أغضبه، فيأخذ الخنجر أو السكين، أو آلة القتل، ثم يذهب مصمماً على أن يقتله، فيتذكر أنه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

إن قتله يتذكر صَلْبَه على الخشبة مقدماً لوليّ المقتول ليقتله أمام الناس، فإذا تذكر ذلك الموقف الذي يصير إليه أمره خاف، وارتعدت فرائصه، وهاب القتل، فحيي المقتول وحيي هو، وقَتْل نفس واحدةٍ قصاصاً يُحيي الله به ملايين الأنفس، وهذه حكمة القرآن وشرعه. وهؤلاء الكفرة الذين تشبعوا بالآراء الإفرنجية، الذين يقولون إن القصاص من السفاهات، أن هذا الرجل قتل رجلاً ونقص به عدد المجتمع، فكيف نضايف بأن ننقص عدد المجتمع برجل آخر؟!! هذه فلسفة شيطانية، أصحابها لا يعرفون الحقائق، فإن الرجل الذي قَتَلْنَا أحيينا بقتله آلاف النفوس؛ لأن الشيطان ينزغ بين الناس، ويُغضِب السفهاء حتى يُقدموا على القتل، ولا يردعهم إلا القصاص، فإذا أراد أن يقتل تَذَكَّرَ مَوْقِفَهُ أمَامَ الناس مصلوباً على خشبة، أو ممسوكاً مجعولاً على عينيه غطاء ليقتله ولي الدم، فإذا تذكر موقفه أمام الناس ليُقتل خاف وحاسب، فحيي هو وحيي المقتول، ونحن نقول مثلاً -وقصدنا بيان دين الإسلام ومحاسنه وصيانته للحقائق، لا إطراء زيد ولا عمرو- أن هذه البلاد لمّا كانت تحكم بالقصاص، وتقطع يد السارق- نرجو الله أن يُسدد الحاكمين عليها للخير، ويديمهم على الحكم بحكم الإسلام- إذا وُجدت الإحصاءات العالمية في جنايات القتل أو السرقة تجد هذه البلاد أقل من جميع البلاد المتحضِّرَة المترقية حوادث وجنايات، فكل ذلك بفضل الله ثم بفضل هذا النظام السماوي، الذي وضعه خالق السماوات والأرض؛ حياطة للنفوس وحياطة للأموال. ثم إنا إذا وجدنا الأنساب، نجد الشرع الكريم حافظ على

أنساب المجتمع غاية المحافظة؛ ولذا حرم الزنا خَوْفَ أن يختلط ماء رجل بماء امرأة، وخَوفَ أن تحمل النساء من رجال غير معروفين، فتبقى الأولاد لا آباء لهم، فتضيع أنسابهم؛ ولأجل محافظته على الأنساب أوجب العدة، عندما يحصل فراق بموت أو طلاق يجب على المرأة العِدة، بأن تمكث عدة معينة {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: آية 228] وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: آية 4] بالغ في الصيانة حتى ألزم العدة للتي لا تحيض؛ مبالغةً في الصيانة جدّاً، حتى إنه من شدة محافظته على [الأنساب] (¬1) منع سقي الزرع بماء غيره؛ ولذا منع تزويج المرأة الحامل؛ لأن الرجل إذا تزوج امرأةً حاملاً كان يسقي بوطئه لها -كان ماؤه يسقي- ذلك الزرع الذي كان في بطنها قبله، فسقي الزرع بماء الغير كأن الولد يكون فيه حظ لهذا وحظ لهذا، فمنع سقي الزرع بماء الغير؛ حياطةً للأنساب، كما قال: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: آية 4]. وإذا نظرنا العقول فلا نجد نظامًا يحافظ على العقل مثل نظام القرآن العظيم؛ ولذا حرّم شرب كل مُسكِر، كل شيء يضيع العقل حرَّم تعاطيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: آية 90] وأوجب الحد في شرب الخمر محافظةً على عقول المجتمع. وكذلك الأعراض، منع القرآن وقوع المسلم في عرض أخيه، ¬

(¬1) في الأصل: «العقول» وهذا سبق لسان.

قال: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: آية 12] {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: آية 11] إلى غير ذلك من الآيات، ثم بيّن للإنسان خبث عرض أخيه وقال له: كأنك إن أكلت عرض أخيك فأكلت لحمه، ووقعت في عرضه كأنك أكلته ميتاً بعد أن أنتن، وصار فيه الدود، وصرت تبتلع لحمه، في قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: آية 12] وهذا غاية التقبيح من الوقوع في أعراض الناس، والكلام فيهم بالغيبة، ثم إن الله جعل حدّ القذف ثمانين جلدة، حفاظاً على أعراض الناس {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: الآيتان 4، 5] كل هذا محافَظَةً على أعْرَاضِ النَّاس. وأوْجَبَ حَدَّ السَّرِقَةِ؛ محافظة على أموال المجتمع. ونحن نذكر مرارًا (¬1) أن الذين طمس الله بصائرهم، ونظروا إلى التشريع السماوي بنظرة غير صحيحة، وصوّره لهم أعداء الدين بصورة مشوهة غير حقيقية، يزعمون أن قطع اليد أنه عمل وحشي، وأنه لا ينبغي أن يكون في النظم التي يُعامل بها الإنسان، وهو عمل عدالة اجتماعية من أحسن الأعمال في العدالات الاجتماعية، ومن أحسن الأعمال في الآداب الروحية أيضاً، فهو عمل جامع بين الجسم والبدن؛ ذلك أن الله خلق هذه اليد وفرق أصابعها وأبعد إبهامها من سبابتها، فلو كان الإبهام موضوعاً بقرب السبابة كقرب الوسطى منها لما قدر أن يعقد شيئاً ولا أن يحل شيئاً. وشدّ له رؤوس أصابعه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

بالأظفار؛ لتكون هذه اليد خير أداة عاملة لبناء المجتمع، والمعاونة على الخير {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: آية 2] فلمّا مدت أناملها الخائنة الخسيسة الخائسة لتأخذ مال الغير على أقبح وجه وأردئِه وأخسه كانت هذه اليد في نظر الشارع الذي خلقها كأنها نجسة، فنجست هذا العضو بقذارتها وقذارة خستها وفعلها، فأمر الشارع بإزالتها كعملية تطهيرية، كعضو فاسد يفسد جميع البدن وينتنه، فهي عملية تطهيرية لإزالة عضو منتن فاسد؛ ليصح بقية البدن ويطهر؛ ولذا ثبت في حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين (¬1) ما يؤيد أنه إن أُقيم عليه الحد وقُطعت يده أن ذلك يطهِّره من تلك الخسيسة، فتطهر بقية البدن، مع أن المال هو شريان الحياة الذي به إقامة كل شيء؛ إذ لا عسكرية إلا بالمال، ولا اجتماع إلا بالمال، ولا ثقافة إلا بالمال، فهو شريان الحياة وأساس حجرها الأساسي الذي يَتَرَكَّز عليه كل شيء من مرافق الحياة. والسرقة أخذه على وجه خبيث خسيس يعسر التحرز منه؛ لأن السارق ينظر الغفلاتِ، وأوقات الخلوات التي لا يُطَّلع عليه فيها غالبًا، فلو تركناه ولم نردعه ردعاً بالغاً لأمكن لليد السارقة الواحدة أن تبطل ملايين الأيدي، فتترك ملايين الأيدي عاطلة! فكيف نترك يداً واحدة تعيث وتفسد آلاف الملايين من الأيادي؟! فبقطعها يطهر بقية البدن، فيغفر الله للإنسان تلك الخسيسة، فيطهر من ذلك التنجيس والتقذير المعنوي، ثم إنه بعد ذلك ينزجر السفهاء عن سرقة أموال الناس، فتكون عدالةً اجتماعية، وتطهيراً سماويّاً من ذنب الخبيث، وهذه حكمة بالغة. فمعروف أن قطع السرقة فيه سؤال معروف، وهو أن ¬

(¬1) السابق.

الجنايات على المال أنواعها كثيرة، كأن يغصبه من إنسان أو يختطفه أو يتعدى عليه بعدوان غير السرقة، والله ما جعل القطع بِنَوْعٍ مِنَ العُدْوَان على المال إلّا في النوع الواحد الذي هو السرقة، فَمَنْ غَصَبَ مَالَ إِنْسَان مكابرة لا تُقطع يده، والعلماء أجابوا عن هذا (¬1): بأن العدوان على المال بالأوجه غير السرقة أنه غالباً يكون ظاهراً لا يخلو من أن يجد عليه بيّنة تشهد له عند ولي الأمر، فيردع وليُّ الأمر الظالم، ويرد للمظلوم حقه. أما السرقة فلا تكاد توجد عليها البَيِّنَة؛ لأن السارق يتحرى أوقات الغَفَلَات، وأوقات الخفاء الذي لا يطلِع عليها أحد، ولا توجد عليها بيّنة، فجعل الشارع الحد فيها أقوى وأجدى وأغلظ، لتبقى للمسلمين أموالهم، وليطهّر السارق أيضاً من رذيلته، وأمثال هذا كثيرة، فهذا هَدْيُ القرآن ومحافظته على الحقوق، ومساواته بين الناس في الحقوق، إذا قتل أكبرُ رجل أصغر رجل يُقتل به، وهو يساوي بين الناس في حقوقهم؛ فاتباع نظام السماء إذا اتبعوه انتشرت بينهم المؤاخاة والمحبة الصادقة، والعدالة الاجتماعية بمعناها الصحيح، والموادّة والمحبة والإنصاف، وإذا اعتدى بعضهم على بعض فالعمل السماوي النازل من عند الله (جل وعلا) في الردع عن ذلك الفعل هو أعظم الأشياء وأوقعها موقعها، ولكن من أعماه الله فلا مبصِّر له، من يُضِله الله فلا هادي له. وعلى كل حال فالهدى كل الهدى في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن كفيل بتنظيم الحياة بجميع أنواعها، بتنظيم حياة الرجل في نفسه، وما يأمره أن يكون عليه من الصفات الكريمة؛ من عدم الغش ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

وعدم الخيانة، ومن السخاء والتضحية والمعاونة والشجاعة والصبر والشكر ... إلى غير ذلك من أوصاف النفوس الحميدة، والنهي عن الأوصاف الخبيثة؛ كالعجب والرياء والحسد والكبر، وما جرى مجرى ذلك، فيأمره كيف يعامل زَوْجَهُ وأوْلَادَهُ أكمل معاملة، وَمِنْ أَوْضَحِ ذَلِكَ أنه يحذره أولاً من ضرِّهم؛ لأن أولاده وزوجته قد يضيعون دينه، والله يقول: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ} [المنافقون: آية 9] فإن الأولاد قد يحملون الرجل على بعض المخالفات، والمرأة قد يحمله خاطرها على بعض المخالفات، والله يقول: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] فيأمرهم بالحذر أولاً من أن يوقعوهم فيما لا ينبغي، ثم إن الله يعلم أنه لا بد أن يقع منهم شيء يسوء الرجل، فبعد ذلك يأمره بالصفح والعفو عنهم، ويحذره أولاً منهم، ثم يأمره بعد الوقوع بالمعاملة الحسنة معهم: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. [23/ب] / أي: وإن وجدتم ما لا يليق فقابلوهم بالصفح والعفو والرحمة، يأمر أولاً بالحذر خوفاً منهم، وثانياً بمعاملتهم بالإحسان إذا وقع منهم بعض الشيء. ويأمرنا بما نعامل به الأعداء، وما نعامل به الإخوان، يقول: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: آية 29] فالمسلم رحيم بالمسلم، شديد على عدو المسلم، وقال (جل وعلا): {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: آية 54] فيبيّن أن صفات المسلم أن يكون ليناً هيّناً على أخيه المسلم، وأن يكون غليظاً فظّاً على أعدائه؛ ولذا يقول للنبي

في حق المسلمين: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: آية 88]، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: آية 215] {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [الأعراف: آية 159] ويقول في غير المؤمنين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 73] {قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: آية 123]. وجميع ما في القرآن والسنة هو الهدي الصحيح الذي ينير معالم الطريق للإنسان في جميع المصالح الدنيوية والأخروية، ويجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وإذا قَرَأْتُمْ آيتين من سورة النساء فيهما صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} [النساء: آية 102] إلى آخر الآيتين. هذا وقت التحام الكفاح المسلَّح، والمفروض أن الرجال يموتون، والقرآن في هذا الوقت يعلّم المسلمين وَجْه الخطة العسكرية، وكيف يكونون؛ ليمكنهم بذلك أن يؤدوا لله (جل وعلا) طاعة من طاعاته، وأدباً روحيّاً من آداب السماء، وهو الصلاة في الجماعة. فهكذا يكفل القرآن المحافظة والقوة في الدنيا، والاتصال بخالق هذا الكون، وتهذيب الروح على ضوء تعاليمه، والاتصال به. ويقول في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ} [الأنفال: آية 45] فقوله: {فَاثْبُتُواْ} هذا تعليم سماوي عسكري، ومعنى: {فَاثْبُتُواْ} هو أمر العسكريين بالصمود في خطوط النار الأمامية في وجه العدو في الميدان، وهذا تعليم

عسكري قوي، وفي هذا الوقت بعينه يقول: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} فعاملوا الأعداء في الدنيا بالقوة والغلظة بجميع أنواعها، ولا تقطعوا صلتكم بمن خلقكم لتأكيد حظ أجسادكم وحظ أرواحكم، ومَنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الطرفين ظهر فيه ما ظهر، الآن (¬1) الكفرة كالكتلة الشرقية والغربية نجحوا في خدمة الإنسان من حيث كونه حيواناً جسديّاً، وأنتجوا من القوة المادية والتنظيمية ما كان لا يدخل في حسبان أحد حتى في النوم، ولكنهم أفلسوا كل الإفلاس في الناحية الرّوحية؛ لأن أرواحهم خبيثة كأرواح البهائم والسباع، ليست مُرَبَّاةً على ضوء نورٍ سماوي، ولا تعليم إلهي، فصارت هذه القوة الطاغية كأنها في يَدِ سَفِيهٍ جَاهِل لا يدري ماذا يفعل بها؛ ولذا تجد العالم كله في قلق مِنْ أَنْ تَنْفَجِرَ هَذِهِ القوة وتُفني كثيراً من الدنيا، وتراهم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر، والمجلس بعد المجلس ليتخلصوا من تلك القوة التي بذلوا فيها النفس والنفيس. وأنا أؤكد لكم تماماً أنه لو كان أحد الطرفين يعلم أنه لو بادر فَدَمَّرَ ما عنده من القوة الفَتَّاكَة لفعل الثاني كما فعل، إنهم يبادرون ليتخلصوا من شَرها وخوفها والقلق بها، ولكن الكل يخاف إن بدأ بإتلاف ما عنده أن يحتفظ الثاني بالقوة التي عنده ويهلكه بها، في الوقت الذي ليس عنده قوة تدافعها، كل هذا إنما جاءهم من أنهم أهملوا ناحية الروح، واعتنوا بناحية الجسد. والاهتمام بناحية الجسد لا ينفع ولا يصلح إلا إذا كان مزدوجاً مع الاهتمام بالروح، فلو كانت الأيادي التي صنعت هذه القوة مُرَبَّاة تربية سماوية على ضوء نور إلهي لكانت في غاية العدالة، وكان الناس في أمن تام أنهم لا يبطشون بها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

إلا في أمر يرضي الله ويكون في مصلحة العَالَمِ البَشَرِي؛ ولذا فهم كأنياب الأسد وأظفاره، أنياب الأسد وأظفاره قوة حيوانية بهيمية فتاكة، ولكن النفس التي تديرها نفس بهيمية طبيعتها الافتراس والابتزاز والهدم، فلا مصلحة بها لبني الدنيا؛ لأن الذي يديرها يوجهها توجيهاً لا فائدة فيه، كذلك المسلمون عندهم تراث عظيم روحي، ضيعوا هذا التراث! وكان الواجب على المسلمين أن يفهموا أن ما أنتجته الحضارة الغربية من خدمة جسم الإنسان أن فيه أشياء نافعة عظيمة يجب أخذها، وهو ما أنتجته من القوة من الناحية المادية والتنظيم، وأن فيها أضراراً عظيمة وسموماً قاتلة، وهي ما أحدثته من الإفلاس الخُلُقي والتمرد على نظام السماء، والكفر الصريح، والانْحِطَاط الخلقي في جميع ميادين الأخلاق والقيم الإنسانية الرّوحية، فهم مُفْلِسون في هذه الناحية، أغنياء في هذه الناحية، فكان على المسلم أن يعلم أن الحضارة الغربية أنتجت ماءً زلالاً نافعاً، وسمّاً فتاكاً قاتلاً، فيأخذ الماء الزلال، ويحذر من السمّ القاتل، فينتفع بتعلم ما أحدثته من القوة في سائر الميادين، وفي ذلك يأمر القرآن، ويحذر مما جَنَتْهُ من التمرد على نظام السماء، حتى إن بعض الكاتبين منهم لينفون خالق السماوات! وبعض طرقهم الهدامة مبناها على أنه لا خالق لهذا الكون ولا دين والعياذ بالله. والمؤسف كل الأسف أن أغلب من يديرون الدفة -إلا من شاء الله- غالباً يعكسون الأمر فيأخذون من الحضارة سُمّها الفتاك، وهي الانحطاط الخلقي، والتمرد على نظام السماء، ورمي القرآن وراء ظهورهم، في الوقت الذي لا يستفيدون فيه قوة.

مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا ... وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ (¬1) فعلينا أن نعلم أنه لا يكفي نصيب الروح دون نصيب الجَسد، ولا نصيب الجسد دون نصيب الروح، فلو بقي المسلمون في المساجد يصومون النهار، ويقومون الليل، ويتلون القرآن، ويعبدون الله، ولم يزاولوا شيئاً من القوة التي يردون بها الكفاح المسلح عن أوطانهم، كانوا لم يأتوا بمدلول القرآن ولم يطيعوا الله؛ لأن التكاسل والضعف وعدم إعداد القوة مخالفة للشرع السماوي، وتمرّد على نظام السماء، وكذلك الذين أعدوا جميع القوة، وخالفوا أوامر خالق السماء، فالكل من هؤلاء وهؤلاء ليس على هدى، والهدى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو إعداد القوة الكاملة في جميع الميادين، مع المحافظة على إرضاء خالق هذا الكون، والعمل بما شرّعه من تحليل وتحريم وآداب ونحو ذلك؛ ولذا قال الله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} يعني: اتبعوا ما فيه [من الهدى والرشاد، فإنكم لو فعلتم ذلك ... ] (¬2) لَكَفَاكُمْ شَرَّ الدنيا وشر الآخرة، ولكنتم خير أمة وفقتم جميع البَشَر، وغلبتم جميع مَنْ فِي الدنيا؛ لأن من أطاع الله صار حِزْبَ الله، وحزب الله لا يُغلب، وطاعة الله والتمسك بكتابه هي جند لا يُغلب، فالله (جل وعلا) يأمر المؤمنين بالاستعداد، مع أن إيمانهم بالله قوة لا يغلبها شَيْء. فنحن نعطيكم أمثلة قرآنية تدلكم على ذلك: ألا تعلمون غزوة الأحزاب، المعروفة بغزوة الخندق، التي قَصَّها الله في سورة الأحزاب، أن المسلمين كانوا في قلة عدد وفي جوع وفي ضيق ¬

(¬1) البيت لأبي العتاهية، وهو في ديوانه ص 174. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زياد يتم بها الكلام.

اقتصاد، وجميع مَنْ في الأرض من الناس يقاطعهم في السياسة والاقتصاد، لا روابط بينهم وبين أحد لا سياسية ولا اقتصادية، وجاءتهم تلك الجيوش جيوش الأحزاب ومعها اليهود وقريش، وجاءوا بعشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة ذلك الحصار العسكري التاريخي المشهور، الذي نوّه الله بشأنه، ووصف شدته البالغة في سورة الأحزاب بقوله: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)} [الأحزاب: الآيتان 10، 11] {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} من الله أمر عظيم فظيع! هذا الحصار العسكري، المسلمون في ضعف من العَدَد والعُدَد والعتاد والمال، وجميع الناس يقاطعونهم، فما هذا السلاح الذي قابلوا به هذا الحصار العسكري، والقوة العسكرية الشيطانية؟! الجواب: هو سلاح الإيمان بالله (جل وعلا)، كما نص الله عليه بقوله: {وَلمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22)} [الأحزاب: آية 22] هذا الإيمان الثابت الراسخ بالله والتسليم لله، كان هو السلاح القاضي على هذه الأعداء، صرّح الله بنتيجته بقوله: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25)} [الأحزاب: آية 25] يعني: إن كنتم ضعافاً أذلاء فهو قوي عزيز لا يذل من التجأ إليه، ولا من أخْلَصَ لَهُ حَقًّا. ثم قال: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ} أي: من حصونهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا} ثم ختم وقال: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب: الآيتان 26، 27] إن

كانت قدرتكم ضعيفة فقدرته ليست بضعيفة، فهو قويّ قادر لا يُغْلَب، ولا يُغلب من كان حزبه حقّاً. ولما علم الله مِنَ الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة الحديبية عَلِمَ مِنْ قلوبهم الإخلاص والإيمان الكامل، وَنَوَّه به بالاسم المبهم -الذي هو الموصول- بقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: آية 18] يعني: إخلاصاً وإيماناً كما ينبغي، فكان من نتائج ذلك الإخلاص والإيمان التام بالله أن قال: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} فصرّح بأن إمكانياتهم العَدَدية والعُددية لا تقدرهم عليها، قال: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا}؛ لأنه القادر، فأقدركم عليها بقدرته {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الفتح: آية 21]، فالمسلمون إذا استمسكوا بالدين غلبوا الأعداء، وهذا الذي ذكر الله يوم الخندق شيء ما كان في حسبانهم، وما كانوا يظنونه، فهو أمر إلهي من الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: آية 9] فالمسلمون إذا تمسكوا بالدين كما ينبغي، فالقرآن يأمرهم بإعداد القوة الكاملة، ولو باغتهم العدو قبل أن يستعدوا العدة الكاملة و ( ... ) (¬1) للكفاح، فالنصر يأتي من السماء من حيث لا يَدْرُون، فَقَدْ يُسَلِّطُ الله على العدو الطاعون فيهلكه، وقد يسلط عليه عدوّاً آخر فيهلكه، وقد يخالف قلوب بعضه فيضرب بعضه بعضاً، والنصر يأتي من الله من الوجوه التي لا يعرفونها. فالحاصل: أن القرآن لا يأمر بالتكاسُلِ والتواكل، بل إنما يأمر ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة والمعنى مستقيم بدونها.

بالقوة والاستعداد لكل هجوم، والمتمسك به أيضاً لو بُوغِتَ قبل أن يستعد، أو في حالة ضعف فإن الله يُقَوِّيهِ ويَنْصُره على عدوه بالطرق التي يعلمها هو وحده، وإن لم تكن في حسبان المسلمين، كما نصر أهلَ الأحزاب -النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- بالريح وبجنود لم تَرَوْهَا نصرهم بالريح، كلما نصبوا خِباءً في البر نسفته الريح، وكلما وضعوا قدراً ليطبخوا فيه نسفته الريح، فبقوا مثلاً لا قرار لهم، لا كِنَّ يكنهم، ولا طعام يأكلونه، فاضطروا للفرار، حتى قال رئيسهم أبو سفيان بن حرب: ارتحلوا وأنا أول مرتحل. وكان حذيفة بن اليمان العبسي (رضي الله عنه) معهم في ذلك الوقت عيناً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكروا عنه في السيرة أن أبا سفيان ركب على بعيره وهو معقول، قال: وأنا الذي فتحت عقال البعير، ولو لم يأمرني النبيّ بأني لا أُحْدِث شَيْئاً لكنْتُ قَتَلْتُ أَبَا سُفْيَان في ذلك الوقت (¬1). هذا دين الإسلام، وهذا شأن المتمَسِّكِينَ به، أما الذين ينصرفون عنه ويَتْرَكونه محتقرين إياه، زاعمين أنه لا ينظِّم الحياة، وأن الحياة تطورت، وأن تنظيم علاقات الدنيا يحتاج إلى أمور جديدة، كما يرتبه الكفرة الفجرة، هؤلاء عُمي البصائر، خفافيش البصائر، وإن سموا أنفسهم مسلمين، فالنصر لا يأتيهم من عند الله؛ ¬

(¬1) أصل الخبر في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، حديث رقم (1788)، (3/ 1414)، وانظر: السيرة لابن هشام ص 1043 - 1044، وما ذكره الشيخ (رحمه الله) هنا من أن حذيفة (رضي الله عنه) هو الذي حل عقال بعير أبي سفيان، لم أقف عليه في شيء من المصادر التي رجعت إليها.

لأن الله ميّز الذين وعدهم بالنصر، ميّزهم بصفاتهم الكاشفة، قال في الذين وعدهم بالنصر، ميّزهم في سورة الحشر تمييزاً كاشفاً: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} من هم الذين وعدهم الله بالنصر؟ {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: الآيتان 40، 41] أما الذين إذا مكن لهم في الأرض غيروا معالم الدين، وضيّعوا الشرع، ووضعوا المذاهب الهَدَّامَة، وأضاعوا ما في الإسلام من أخلاق، وغَيَّرُوا مَعَالم الدين، وجاءوا بالفساد والطرق الملحدة المستوردة، هؤلاء ليس عندهم وعد من الله بنصير ألبتّة، ومثالهم مثال العامل الذي عاقده رَجُل ليعمل له فامتنع مِنْ أَنْ يَعْمَل، ثم لما جاء الوقت جاء لصاحب العمل، وقال: أعطني أجرتي. قال: كيف تطلب مني أجرتك وأنت لم تعمل شيئاً؟ أنت رجل مجنون!! فهؤلاء مثل هذا يعصون الله ويناصبونه بالعداء، ويغيِّرُون مَعَالِمَ دِينِهِ، ويتحاكمون إلى الطاغوت، ثم يقولون: نحن مؤمنون ينصرنا الله!! هذا جنون وهَوَسٌ وقلب للحقائق، فالمؤمنون الذين ينصرهم الله هم الذين إن مكنهم الله في الأرض أقاموا دينه وشرعه، وعملوا بنور كتابه، كما قال هنا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ} قال بعض العلماء: اتقوا تحريفه وحمله على غير معانيه، وقال بعض العلماء: اتقوا الله واجعلوا وقاية بينكم وبين سخطه وعذابه باتباع هذا القرآن العظيم (¬1)، وعلى كل حال فمتبع القرآن مُتَّقٍ، فقوله: {وَاتَّقُواْ} كالعطف المؤكد لقوله: {فَاتَّبِعُوهُ}، وقوله: {لَعَلَّكُمْ ¬

(¬1) انظر ابن جرير (12/ 239)، القرطبي (7/ 143) ..

تُرْحَمُونَ} اتبعوه لأجل أن يرحمكم الله، أي: اتبعوه راجين أن يرحمكم الله. ثم إن كفار قريش كانت لهم حجة قَطَعَهَا الله تبارك وتعالى خصوصاً لكفار قريش: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: الآيتان 156، 157] هذا قطع لحجة كفار مكة، وإلقام لهم الحجر، يعني: هذا كتاب مبارك أنزلناه بلغتكم الواضحة الفصحى. أنزلناه {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ} (أن) هنا: اختلف البصريون والكوفيون في المقدر قبلها (¬1)، فكان البصريون يُقدرونه مضافاً، يعني: أنزلنا عليكم هذا الكتاب بلغتكم كراهة أن تحتجوا حجة باطلة و {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} وكراهة أن تقولوا: {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، والكوفيون يقولون: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ} لئلا تقولوا كذا أو تقولوا كذا. فهو متعلق بـ {أَنزَلْنَاهُ} فـ (أن) متعلقة بـ {أَنزَلْنَا}، بعضهم يُقدِّر: (أنزلناه كراهة أن تقولوا كذا) وبعضهم يقول: (أنزلناه لئلا تقولوا كذا)، وهذا جارٍ في كل ما يماثله في القرآن، نحو {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: آية 176] أي: لئلا تضلّوا، أو كراهة أن تضلوا {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: آية 6]، كراهة أن تصيبوا، أو: لئلا تصيبوا، وهو كثير في القرآن، وبعض العلماء يقول: {أَنزَلْنَاهُ}: العامل فيه محذوف؛ لأن {أَنزَلْنَا} ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 239)، البحر المحيط (4/ 256 - 257)، الدر المصون (5/ 229).

المذكورة حالَ بينها وبين المعمول أجنبيّ، والمعنى متقارب، والمعنى: كأنه يقول: يا كفار مكة: أنزلنا هذا الكتاب المبارك بلغتكم وبلسانكم كراهة أن تتعللوا بعلل فاسدة، وأن تقولوا: {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ} وهم: اليهود والنصارى، وكتاب اليهود: التوراة، وكتاب النصارى: الإنجيل. {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} لأن الطائفتين كلاهما جماعة وخلق (¬1)، فقال: {عَن دِرَاسَتِهِمْ} ولم يقل: عن دراستهما. {غَافِلِينَ} وإنما غفلنا عنها؛ لأن لسان هؤلاء أعجمي، ولساننا عربي، ولا نفهم كلامهم، ولا يفهمون كلامنا، فلو أردنا أن نعرف منه أوامر الله ما قدرنا؛ لأنه ليس بلغتنا ولا بلساننا، ولا نفهم ما يقول أهله، ولا يفهمون ما نقول، يعني: كراهة أن تقولوا هذه الدعوى، وتعتلوا هذا الاعتلال أنزلنا عليكم كتاباً سماويّاً واضحاً بلغتكم، لنقطع هذا العذر؛ أي: أنزلناه لئلا تقولوا، أو: كراهة أن تقولوا: {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} اليهود، وهو: التوراة، والنصارى، وهو: الإنجيل. {وَإِن كُنَّا} (إن) هي المخففة من الثقيلة (¬2)، وهي هنا مهملة لا عمل لها. واللام في قوله: {لَغَافِلِينَ} لام الفرق، الفارقة بين (إنْ) المخففة من الثقيلة، و (إن) النافية (¬3)، وكونهم غافلين عنها ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 257). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 257)، الدر المصون (5/ 230). (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 257)، الدر المصون (5/ 230 - 231)، الكليات ص 783.

لا يفهمونها؛ لأنها ليست بلغتهم، ولا يعرفون معانيها؛ لأنها ليست بلغتهم، يعني: فقد قطعنا هذا العذر، وأنزلنا إليكم كتاباً بلسانكم، أو تقولون: لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل التوراة على اليهود، أو كتاب كما أُنزل الإنجيل على النصارى، لعملنا بذلك الكتاب، وكنا أهدى منهم، ولكنا لنا عذر، وهو أنهم أنزل عليهم كتاب، ونحن لم ينزل علينا كتاب، هذا العذر، {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} فكأن الله يقول: إن ادعيتم هذه الدعاوي، واعتللتم بهذه العلل، فقد جاءكم كتاب منزل بلسانكم ولغتكم، تعرفون معناه فسمى القرآن (بيّنة) لأن البيّنة هي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وسُمي الشهود (بيّنة) لأنهم يبيّنون الحق بشهادتهم. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} هدى إرشاد للجميع، وهدى توفيق لمن اتبعه، ورحمة يرحم الله به مَنْ عَمِلَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ المؤمنين ووفَّقَه لذلك. ثم إن الله قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي: لا أحد أظلم {مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ} وهم كفار قريش، بعد أن نزل عليهم الكتاب، وقطع به عذرهم، {كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ} وقال: هي سحر، شعر، كهانة، أساطير الأولين. {وَصَدَفَ عَنْهَا} صَدَفَ تُسْتَعْمَل استعمالين (¬1): صدف تستعمل ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 244) القاموس (مادة: صدف) 1068، البحر المحيط (4/ 258)، أضواء البيان (2/ 282)، مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

بمعنى: أعْرَضَ، تقول: صدفت عن الأمر أصدف عنه، بمعنى: أعرضت عنه، ومنه قول الشاعر (¬1): إِذَا ذَكَرْنَ كَلَاماً قُلْنَ أَحْسَنَهُ ... وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ أي: عن كل سوء معرضات، ومنه قول عبد الله بن رواحة أو غيره (¬2): عَجِبْتُ لِلُطْفِ اللهِ فِينَا وَقَدْ بَدَا ... لَهُ صَدْفُنَا عَنْ كُلِّ وَحْيٍ مُنزَّلِ أي: إعراضنا، وعليه فـ (صَدَفَ) لازمة، بمعنى: أعرض، وتستعمل (صدف) متعدية، تقول: صدف زيدٌ عمراً؛ أي: صدّه عن طريقه، وجعله معرضاً عنها. واختلف العلماء في (صدف) هنا، هل هي متعدية محذوفة المفعول؟ وهو قول السُدّي (¬3)، وهو الظاهر؛ لأنه يكون جامعاً بين الضلال والإضلال. {كَذَّبَ بِآيَاتِ} أي: كفر هو بنفسه، وصدف الناس؛ أي: صدَّ الناس عن الإيمان بها، فهو جامع بين الضَّلَالِ والإِضْلَالِ، وعَلَى هذا القول لو قلنا: إن (صدف) لازمة، تتكرر مع قوله: {كَذَّبَ بِآيَاتِ} لأن المكذب بآيات الله صادف عنها، فيكون تكراراً، وروي عن ابن عباس أن (صدف) هنا لازمة (¬4)، أي: كذب بآياتنا وأعرض عنها، ووجهه: أنه كذب بها بلسانه وأعرض عنها ¬

(¬1) البيت لابن الرقاع، ولفظه في المصادر التي وقفت عليها، ومنها: أضواء البيان: «إذا ذكرن حديثاً». وقد مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 244)، أضواء البيان (2/ 282). (¬4) المصدران السابقان.

بجوارحه، كقوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} [القيامة: آية 31] أي: لا صدق بلسانه ولا صَلَّى بِجَوَارِحِه. وقوله: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ} سنجازي الذين يصدفون؛ أي: يصدون الناس {عَنْ آيَاتِنَا} بناءً على أنَّ صَدَفَ مُتَعَدِّيَة، أو سنجزي الذين يُعْرِضُونَ {عَنْ آيَاتِنَا} بناءً على أنها لازمة. {سُوءَ الْعَذَابِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: سنجزيهم العذاب السيئ، وهذا يدل على أنها متعدية؛ لأن {سُوءَ الْعَذَابِ} عذاب مضاعف لِضَلَالِهم وإضلالهم، كما قال: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ} أي: كفروا في أنفسهم، وصدوا الناس عن سبيل الله {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: آية 88] أي: لإضلالهم وضلالهم. {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} وفي هذه الآية بعض الأسئلة المعروفة اللغوية: أحدها: أنه قال: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ} فأفرد الكتاب، ثم بيّن بقوله {عَلَى طَآئِفَتَيْنِ} أنهما كتابان، كيف يفرد الكتاب، وهما كتابان: التوراة والإنجيل؟ هذا سؤال وارد معروف. والجواب عنه معروف، وهو أن المفرد إذا كان اسم جنس جاز استعماله مفرداً مراداً به الجمع أو التثنية؛ لأن المراد به الجنس في حالاته الثلاث، ونعني بحالاته الثلاث: أن يكون مُنَكَّراً، أو مُعَرَّفاً بالألف واللام، أو مضافاً، ونحو هذا كثير في القرآن (¬1). ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

فمن أمثلته معرَّفًا قوله هنا: {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ} وليس بكتاب واحد، وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: آية 119] أي: بالكتبَ كلها، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: آية 45] أي: الأدبار. {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: آية 75] أي: الغرف، بدليل: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: آية 20]، وقوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالمَلَكُ} أي: والملائكة، بدليل قوله: {صَفّاً صَفّاً} [الفجر: آية 22] لأن المَلَكَ الواحد لا يكون صفّاً صفّاً، {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور: آية 31] أي: الأطفال، وهو كثير. ومثاله واللفظ مُنَكَّر: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر: آية 54] يعني: وأنهار، بدليل: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: آية 15] {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: آية 5]؛ أي: أطفالًا. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً} [المؤمنون: آية 67] أي: سامرين. {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} [المائدة: آية 6] أي: أجناباً أو جنبين. {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} [النساء: آية 4] أي: أنفساً. {وَالمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: آية 4] أي: مظاهرون، وهو كثير في القرآن. ومن أمثلته واللفظ مضاف: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ} [النحل: آية 18] أي: نعم الله. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: عن أوامره. {إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي} [الحجر: آية 68] أي: أضيافي، وكان سيبويه (رحمه الله) في كتابه أَلَمَّ بهذا الموضع (¬1)، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

وقال: إن إطلاق المفرد إذا كان اسم جنس مراداً به الجمع أنه يوجد في كلام العرب بغير كثرة، بقلة. ونحن نرى باستقراء اللغة العربية أنه كثير، وأنشد له سيبويه في كتابه بيتين: أحدهما قول علقمة بن عَبَدَة التميمي (¬1): بِهَا جِيَفُ الحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ أي: وأما جلودها فصليبة. والثاني قول الآخر (¬2): كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعُفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُم زمنٌ خَمِيصُ أي: بعض بطونكم، ونحن نراه في كلام العرب وأشعارها بكثرة، فمنه قول عقيل بن علّفة المرّي (¬3): وَكَانَ بَنُو فزَارَةَ شَرَّ عَمٍّ [أي: أعمام] ... وَكُنْتُ لهُمْ كَشَرِّ بَنِي الْأَخينَا وقول عباس بن مرداس السُلمي (¬4): فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أخُوكُمْ ... وَقَدْ سَلِمتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ أي: إخوانكم. وقول جرير (¬5): إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ المقْرِفَاتِ مِنَ الْعِرَابِ أي: وآباؤك، وهو كثير في كلام العرب كما بيّنَّا. ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) السابق.

فبهذا يعلم أن إطلاق الكتاب مراداً به جنس الكتاب الصادق بالتوراة والإنجيل واضح لا إشكال فيه، وهذا معنى قوله: {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} وقوله: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} بيّن أنهم كذبوا في هذه حيث قال: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ} [فاطر: الآيتان 42، 43] وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ} إلى أن قال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قِبَلاً} وفي الأخرى: {قُبُلاً} {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الأنعام: الآيات 109 - 111]، وبهاتين الآيتين قطع الله حجة كفار قريش. يقول الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيهُمُ المَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)} [الأنعام: آية 158]، هذا استفهام معناه النفي، والمعنى: أن هؤلاء الكفار، والذين يكذبون بآيات الله ويصدفون عنها، يكذبون بها ويصدفون الناس عنها، ويحملونهم على الإعراض عنها، ما ينظرون، أي: ما ينتظرون؛ لأن معنى قوله هنا: {هَلْ يَنظُرُونَ} هل ينتظرون، والعرب تطلق (نظر) بمعنى: انتظر، والدليل عليه هنا أنه بيّنه في آخر الآية فقال: {قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} ونظيره من كلام العرب، من إطلاق (نظر) وإرادة: (انتظر) قول امرئ القيس (1):

خَليليَّ مُرَّا بي عَلَى أُمِّ جُنْدَبٍ ... لتُقْضَى لُبانَاتُ الفُؤَادِ المُعذَّبِ ... فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعُنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ وقوله: «تنظراني» أي: تنتظراني، يعني: ما ينظر هؤلاء المكذبون إلّا إحدى الدواهي العِظام الآتية: {إِلَّا أَن تَأْتِيهُمُ المَلآئِكَةُ} جمهور المفسرين على أن المراد بإتيان الملائكة: إتيان الملائكة لقبض أرواحهم (1)؛ لأن ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس له أعوان كثيرة يقبضون الروح. قال بعض العلماء: حتى يبلغوها الحلقوم فيأخذها ملك الموت (2). وقد قال جل وعلا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: آية 61] فدل على أنها رسل متعددة أعوان ملك الموت؛ ولذا أسند التوفي لرسل متعددة {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} وأسنده مرة لملك الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: آية 11] وأسنده مرة لنفسه {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: آية 42] وإسناده لنفسه واضح؛ لأن كل شيء واقع بمشيئته، وإسناده لملك الموت؛ لأنه الملك الموكل بقبض الأرواح، وإسناده لرسل متعددة؛ لأن لملك الموت أعواناً كثيرة من الملائكة يقبضون معه الأرواح. قال بعض العلماء: ينزعونها إلى الحلقوم فيأخذها هو؛ أي: ملك الموت (3). والمعنى: ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة فتقبض أرواحهم على الشقاء والكفر، فيخلدون في النار تخليداً مؤبَّداً.

{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي: يأتيهم الله لفصل الخطاب يوم القيامة، فيعذبهم العذاب الأكبر عندما يأتي ليحاسب الناس على أعمالهم، وإتيان الرب هنا هو معنى قوله جل وعلا (4): {وَجَاء رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22)} [الفجر: آية 22] وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة: آية 210]. وهذه الآيات ونحوها من الآيات، كمجيء الرب في هذه الآيات، الذي أخبر به عن نفسه، كنزوله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر يقول: «هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيب لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِر لَهُ» (1)، كل هذه من آيات الصفات وأحاديثها أشكلت على آلاف الخلق، وضل فيها ملايين الناس من حذاق النظار، الفحول العلماء؛ لأن التوفيق بيد الله. ونحن نُحَرِّرُ لكم هذا المقام تحريراً شافياً واضحاً على ضوء نور القرآن العظيم، بحيث يَتَيَقَّن العاقل أنَّ مَنْ مَاتَ عليه لقي الله سالماً، اعلموا أيها الإخوان أنا نوصيكم وأنفسنا بهذا الذي نقوله لكم في الخروج من هذا المأزق الأكبر، ومزلة الأقدام التي زلت فيها أقدام الآلاف ممن ينتمي للعلم، في آيات الصفات، فمن مُعَطِّلٍ نافٍ لها، ومن مُشَبِّه مُجَسِّم، ومن مغير لها آت بغيرها، والحق الفصل في هذا: هو أن البيان بالقرآن، والله أوضح هذه المسألة إيضاحاً شافياً

لا لبس في الحق معه، ولكن الله يهدي من يشاء، أما الذين يؤولون صفات الله، ويقولون: لها ظاهر غير مراد؛ لأنه ظاهر يُفهم غير اللائق بالله! فيصرفونها ويأتون بشيء بدل ذلك من عند أنفسهم! فهم كما قال الشافعي (رحمه الله) -لأنهم يقصدون الخير، ولكنهم غلطوا ووقعوا في شرٍّ مما فرّوا منه، وقول الشافعي المذكور- بيته المشهور (2): رَامَ نَفْعاً فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ... وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقاً والمخرج من هذا المأزق: هو الاعتماد على ثلاثة أصول كلها من كتاب الله، فمن لقي الله معتقداً لها ومات عليها لقي الله سالماً على المحجة البيضاء التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن أخل بواحدٍ منها دخل في مهواة وبلايا قد لا يتخلص منها، فأوصيكم بهذه الأصول الثلاثة القرآنية؛ لأنها هي المخرج الإلهي القرآني من هذا المأزق العظيم (¬1). الأول من هذه الأصول الثلاثة: هو أساس التوحيد، والحجر الأساسي لمعرفة الله معرفة على الوجه الصحيح، وهو تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة شيء من خَلْقِهِ، هذا هو الأصل الأكبر، والحجر الأساسي لمعرفة الله على الوجه الصحيح اللائق، تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة شيء من خلقه في صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم. ومن هم الخلق يا إخوان؟ من هم الخلق؟! أليسوا أثراً من آثار قدرته وإرادته، وصنعة من صنائعه؟ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من هذه السورة.

وكيف يخطر في ذهن العاقل أن الصنعة تشبه صانعها؟ لا، وكلا!! فمن رزقه الله علم هذا الأساس، وهذا الأصل الأكبر، وأساس العقيدة الصحيحة الذي هو تنزيه خالق السماوات والأرض عن أن يشبه شيئاً من خلقه في شيء من صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم فقد رزقه الله أساس التوحيد، وحجره الأساسي، وهذا إذا امْتَلَأَ منه قلب المؤمنِ، وعرف أن صفة الله عندما تُسند إلى خالق السماوات والأرض تمتلئ القلوب من الإجلال والإعظام والإكبار، وتنزيه صفة الله عن أن تشبه شيئاً من صفات خلقه، هذا هو الأصل الأول وهو في ضوء قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4] {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: آية 65] أي: مسامياً يساميه في المكانة والقوة والفضل. إذا استحكم هذا الأساس في قلب العبد، وكان قلبه طاهراً من أقْذار تنجيس التشبيه منزِّهًا لله، عالماً أن وَصْفَ الله أجَلُّ وأعْظَمُ وأكبر وأنْزَهُ من أن يُشْبِهَ صِفَة المخلوق/ فإذا استحكم هذا الأصل في قلبه ... ... [24/أ] فالأصل الثاني: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، إيماناً مبنيّاً على أساس هذا التنزيه؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} [البقرة: آية 140] ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله، الذي قال فيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4] فهذا الذي قلت لكم في هذين الأصلين - أن الأول: تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة الخلق، والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به نبيه إيماناً مبنيّاً على أساس ذلك التنزيه- ما قلته لكم من تلقاء

نفسي، ولا رواية عن زيد ولا عمرو، بل في ضوء نور المحكم المنزل، الذي هو آخر الكتب السماوية عهداً بالله، وهذا تعليم رب العالمين، وذلك الإيضاح السماوي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11]، فاعلموا أيها الإخوان أن الإتيان بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه سرّ أعظم، ومغزى أكبر، وتعليم سماوي، لا يترك في الحق لبساً؛ لأن السمع والبصر صفتان هما أشد الصفات توغّلاً في التشبيه، فجميع الحيوانات تسمع وتبصر؛ ولذا جاء بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يعني: لا تتنطع يا عبدي، وتشبِّه صفتي بصفة مخلوقي، وتنفي عني سمعي وبصري، بدعوى أنك إن أثْبَتَّ لِي السمع والبصر شَبَّهْتَنِي بالحَمِير والآدميين وغيرهم من الحيوانات التي تبصر!! لا يا عبدي، أثبت لي سمعي وبصري، ولكن لَاحِظْ في ذلك الإثبات قولي قبله متصلاً به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] فإثبات السمع والبصر على أساس نفي المماثلة. فأول الآية الكريمة فيه النفي التام للتشبيه والتمثيل، وآخرها فيه الإيمان بالصفات من غير تكييف ولا تعطيل على أساس التنزيه عن التشبيه والتمثيل. فعلينا أن نعمل بأول الآية، فننزه ربنا، وذلك هو الأساس، فإذا نزهناه عن مشابهة خلقه وحملنا أوصافه في القرآن والسنة على الأوجه الكريمة اللائقة، كان من السهل علينا أن نؤمن بالصفات؛ لأننا نؤمن بها على أساس التنزيه عن مشابهة الخلق.

فالأصل الأول: وهو أساس التوحيد: تنزيه الله عن مشابهة شيء من خلقه بشيء من صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم. والأصل الثاني: عدم جحد شيء مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، بل يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله إيماناً مبنيّاً على أساس ذلك التنزيه، على غرار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11]. الأصل الثالث: هو أن نعْلَمَ أنَّ العقول مخلوقة واقفة عند حدِّها، لا تحيط علماً بخالقها، فهي عاجزة عن إدراك كيفية الاتِّصَاف بالصِّفَات، والله يقول: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: آية 110]. فمعلوم أن المتكلمين الذين نفوا كثيراً من صفات الله بالأدلة العقلية المفرغة في قوالب أقيسة منطقية قسموا الصفات قسمة سداسية، قالوا: منها صفة نفسية، ومنها صفة معنى، ومنها صفة معنوية، ومنها صفة فعل، ومنها صفة جامعة، كتقسيمهم المعروف (1). ونحن نبيّن لكم أن كل هذه الصفات جاءت الآيات القرآنية بوصف الخالق بها، وبوصف المخلوق بها، والكل من ذلك حق، فالخالق حق، وصفاته حق، والمخلوق حق، وصفاته حق، ولكن صفة المخلوق ملائمة لذات المخلوق، وصفة الخالق لائقة بذات الخالق، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، لا مناسبة ألبتة بين الذات والذات، ولا بين الصِّفَةِ والصِّفَةِ.

هذه صفات المعاني السبعة، الذي يقر بها من ينكر أكثر الصفات الوجودية غيرها، وهي عندهم: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. جاءت في القرآن. هذا السمع والبصر يقول الله فيه عن نفسه: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: آية 75] في وَصْف نفسه وَصَف نفسه بأنه سميعٌ بصير، ووَصَف بعض خلقه أيضاً بالسمع والبصر، قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: آية 38] وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)} [الإنسان: آية 2] ولا شك أن لله سمعاً وبصراً حقيقيين لائقين بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر حقيقيان مناسبان لعجزه وفنائه وافتقاره، وبين سمع الخالق وبصره وسمع المخلوق وبصره من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. وقال (جل وعلا) في وصف نفسه بالحياة: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: آية 255]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: آية 58]، {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر: آية 65]. ووصف بعض خلقه بالحياة، قال: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15)} [مريم: آية 15]، {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: آية 30]، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: آية 31]. فنحن نقطع أن لله حياة عظيمة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوقين حياة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين الصفة والصفة من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات.

ووصف نفسه بالعلم، قال: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 282]، {لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: آية 166]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: آية 7]. ووصف بعض خلقه بالعلم، قال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: آية 28]، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68]، {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: آية 12]. ولا شك أن لله علماً حقيقيّاً لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوق علماً مناسباً لعجزه وفنائه وافتقاره، فصفة الله حق، وصفة المخلوق حق، وكل بحسبه؛ فصفة الله لائقة بذاته، وصفة المخلوق مناسبة لذاته، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كما بين ذات الخالق والمخلوق. ووصف نفسه بالإرادة، فقال: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: آية 16]، {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء: آية 28]. ووصف بعض خلقه بالإرادة: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: آية 67]، {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب: آية 13]. ولا شك أن لله إرادة حقيقية لائقَةٌ بكَمالِهِ وجلاله، وللمخلوق إرادة حقيقية مناسبة لحاله وعجزه وافتقاره وفنائه، فبين الإرادة والإرادة من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات. ووصف نفسه بأنه متكلم: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: آية 164]، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: آية 144]، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} [التوبة: آية 6].

ووصف بعض خلقه بالكلام فقال: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: آية 54]، وقال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس: آية 65]. ولا شك أن لله كلاماً لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوقين كلام مناسب لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة كما بين ذات الخالق والمخلوق. هذه صفات المعاني السبع التي أقَرَّ بها مَنْ جَحَدَ كثيراً من الصفات، كذلك الصفات التي يسمونها السلبية، والصفة السلبية في اصطلاح المتكلمين: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله. وهي عند المتكلمين خمس صفات: وهي البقاء، والقدم، والغنى المطلق، الذي يُسمونه: القيام بالنفس، يعنون به الاستغناء عن المحل والمُخَصّص، والمخالفة للخلق، والوحدانية (¬1). أما القِدَم والبقاء: فالمتكلمون أثبتوهما لله، وقد قال بعض العلماء: إنه ورد بمثل ذلك حديث، وبعضهم ينفي صحته، والمتكلمون يقصدون بهما معنىً صحيحاً؛ لأن القِدَم عندهم: هو سلب العدم السابق، والبقاء: هو سلب العدم اللاحق، زاعمين أن الله أثبتهما لنفسه بقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: آية 3] أي: الأول الذي لا ابتداء لأوليَّتِهِ، والآخر الذي لا انتهاء لآخرِيَّتِهِ. قالوا: هذا معنى القِدَم والبَقَاء. فنقول: القِدم وصف الله به المخلوقين قال: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (147) من هذه السورة.

الْقَدِيمِ} [يس: آية 39]، {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: آية 95]، {أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: آية 76]، والبقاء وَصَف به الحادث حيث قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: آية 77]، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} [النحل: آية 96]. والوحدانية وصف بها نفسه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: آية 163]. ووصف بعض المخلوقين بها قال: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ} [الرعد: آية 4]. والغنى وصف به نفسه: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: آية 8]، {وَاللَهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: آية 6]. وقال في بعض المخلوقين: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: آية 16]، {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ} [النور: آية 32]. ولا شك أن ما وُصف به الله من هذه الصفات مخالف لما وُصف به المخلوق كمخالفة ذات الله لذات المخلوق، فلا مناسبة بين الذات والذات، ولا بين الصفة والصفة، فالله حق، وصفاته حق، والمخلوقون حق، وصفاتهم حق، إلا أن صفة كل بحسبه، فصفة الله بالِغة من الكمال والتنزيه ما تتعاظم أن تشبهه صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق تتعاظم أن تشبه ذوات المخلوقين. وهذه الصفات الجامعة (¬1) كالعلو، والكِبَر، والعظم، والملك، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (147) من هذه السورة.

والجبروت، كل هذا جاء في القرآن العظيم وَصْف الخالق والمخلوق به، فقد وصف تعالى نفسه بالعلو، والكِبَر، والعظم، قال في وصف نفسه بالعلو والعظم: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: آية 255]. وقال في وصف نفسه بالعلو والكِبَر: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء: آية 34]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ (9)} [الرعد: آية 9]. ووصف المخلوقين بالعظم، والكِبَر، والعلو، فقال في وصف المخلوق بالعظم: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: آية 63]، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء: آية 40] {وَلَهاَ عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: آية 23]، {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: آية 129]. وقال في وصف المخلوق بالكِبَر: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: آية 31] {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: آية 11]، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: آية 63]. وقال في وصف المخلوق بالعلو: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: آية 50]، {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57)} [مريم: آية 57]. وقال في وصف نفسه بالملك: {يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ} [الجمعة: آية1]، {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: آية 23]. ووصف بعض خلقه بالملك فقال: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}

[يوسف: آية 50]، {وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: آية 43]، {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: آية 79]، {تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاء} [آل عمران: آية 26]. ولا شك أن ما وُصف الله به من العلو، والكِبَر، والعظم، والملك مخالف لما وُصف به الخلق من العظم، والكِبَر، والعلو، والملك، فصفة المخلوق لائقة بعجزه وفنائه وافتقاره، وصفة الخالق لائقة بجلاله وكماله، فصفة كلٍّ بحسبه. ووصف نفسه بأنه متكبِّر جبَّار، قال: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إلى أن قال: {الْجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: آية 23]. ووصف بعض خلقه بالجبار والمتكبر كما قال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: آية 60] {وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)} [الشعراء: آية 130] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: آية 35]. ووصف نفسه بأنه يغفر، قال: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: آية 173]، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} [آل عمران: آية 129]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: آية 6]. ووصف بعض خلقه بالمغفرة، قال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: آية 43]، {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللهِ} [الجاثية: آية 14]، {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: آية 263].

ووصف نفسه بأنه حليم، قال: {وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: آية 59]. ووصف بعض خلقه بأنه حليم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: آية 114]، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: آية 101]. ووصف نفسه (جل وعلا) بالعزة، قال: {يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الجمعة: آية 1]. ووصف بعض خلقه بالعزة قال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف: آية 51]، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: آية 23]. ووصف نفسه بالقوة فقال: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ (58)} [الذاريات: آية 58]. ووصف بعض خلقه بالقوة، وجمع المثالين قوله: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: آية 15]، {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: آية 54]، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: آية 52]. ووصف نفسه بأنه رؤوف رحيم، قال: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: آية 7]. ووصف بعض خلقه -وهو سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} إلى قوله: {بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: آية 128]. وإذا نظرنا إلى صفات الأفعال فنجده (جل وعلا) يصف نفسه بالفعل، ويصف عباده بالفعل، وجميع ما وصف الله به نفسه لائق

بكماله وجلاله، وجميع ما وصف به خلقه مناسب لحال خلقه وفقرهم وعجزهم وفنائهم، وبين الصفة والصفة من المنافاة كما بين الذات والذات. فمن صفات الأفعال: أن الله وصف نفسه بأنه يفعل رزْق عباده، قال: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ (58)} [الذاريات: آية 58]، وقال: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: آية 39]، {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: آية 11]. ووصف بعض خلقه بأنه يفعل الرّزق أيضًا، قال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} [النساء: آية 8]، وقال: {وَعلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: آية 233]. ورَزْق الله لخلقه ليس كَرَزْق الناس بعضهم لبعض، فبين الفعل والفعل من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات. ووصف نفسه بأنه يعمل، قال جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: آية 71]. ووصف نفسه بالفعل الذي هو العمل. ووصف خلقه بالعمل، قال: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: آية 17]. ووصف نفسه بأنه يُعلِّم خلقه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: الآيات 1 - 4]، {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: آية 65].

ووصف خلقه بأنهم مُعَلّمُون، كقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: آية 129]، وجمع المثالين قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} [المائدة: آية 4]. ووصف نفسه بأن يُنبئ، ووصف بعض خلقه بأنه يُنبئ، قال: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: آية 3]. وأمثال هذا في القرآن لا تكاد تحصى، وقصدنا أن نُمثّل بجميع الصفات أن الله وصف بها نفسه، ووصف بها خلقه، وأن لله صفات حق، وللمخلوقين صفات حق، وصفة الخالق لائقة بجلاله وكماله، وصفة المخلوق مناسبة لحاله وعجزه وفنائه وافتقاره. وكذلك وصف نفسه بالاستواء على العرش بسبع آيات من كتابه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: آية 54]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: آية 5]. ووصف بعض خلقه بالاستواء على مخلوق كقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: آية 13]، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: آية 44]. واستواء الخالق ليس كاسْتِوَاء المَخْلُوق، فبينهما من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، وهكذا في جميع صفات الله، إذا وصف نفسه بإتيان أو مجيء فإتيانه أو مجيئه لائق بكماله وجلاله، كسمعه وبصره، وقدرته وإرادته، منزه عن مشابهة إتيان الحوادث ومجيئهم، فكلّ ما يخطر في المعاني من إتيان الخلائق ومجيئهم، فصفة الخالق (جل وعلا) منزهة عنه كسائر صفاته.

فعلينا أولاً أن نُنَزِّهَ الله، ثم نثبت لَهُ مَا أثْبَتَ لنفسه على أساس التنزيه، ثم نقطع طمعنا عن إدراك الكيفية. ونحن نقول لكم: إن هذه الأيام والليالي سائرة بنا بسرعة إلى القبور، ثم إلى عَرَصَاتِ القيامة، فعن قريب ونحن أمام الله في عرصات القيامة، والله يقول: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: آية 6]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: الآيتان 92، 93] ومما يوشك أن يسألنا عنه: ماذا كنتم تقولون في صفاتي التي مدحت بها نفسي؟ هل كنتم تنفونها وتكذبونني وتدّعون عليَّ أني أمدح نفسي بشيء لا يليق؟ أو كنتم تنزهونني وتثبتون لي صفاتي، وتعلمون أني لا أمدح نفسي إلا بوصف كمال وجلال، وأن صفتي لا تشابه صفة خلقي؟ فهذه الأسس الثلاثة من مات عليها مات على دين محقَّق وعقيدة سلفية صحيحة، وأنا أضْمَن له أنه لا تأتيه بليّة من واحدة من هذه الأصول الثلاث، ولا يأتيه من قِبلها لَوْم ولا توبيخ ولا عذاب بهذه الأسس الثلاث، فلا يقول الله له: لِمَ تُنَزِّهني عن مشابهة خَلْقِي في صفاتهم وأفعالهم وذَوَاتِهِمْ؟ لا، وكلا، هذه طريق سلامة محقَّقَةٍ. ولا يقول له ربه: لِمَ تصدقني فيما أثنيت به على نفسي، وتصدق نبيي فيما أثنى عَلَيَّ به تصديقاً مبنيّاً على أساس التنزيه؟ لا، وكلا، هذه طريق سلامة محققة. ولا يقول له: لِمَ لا تَدَّعِي أن عقلك محيط بي؟ فلا يقول له ذلك أبداً، فكل هذه الأسس الثلاث طريق سلامة محققة في ضوء

القرآن، وكل البلايا وكل الشر من أن يسبق في الذهن تفسير الصفة بما لا يليق، فإذا سبق في الذهن تفسير الصفة بتفسير قذر نجس فيه تشبيه اضطر الإنسان المسكين إلى أن ينفيها، فإذا وضعتم مثلاً مقارنة بين مذهب السلف الذي كان عليه السلف الصالح، من الإيمان بالصفات إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، والتصديق بها، كما قال الإمام مالك لما قال له الرجل: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف اسْتَوَى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأمر أن يُخرج عنه (¬1). فالسلف الصالح رضي الله عنهم من القرون المشهود لهم بالخير، قبل أن يظهر في الوجود الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، ما كان في الدنيا ولا في العلماء أحد ينفي شيئاً من صفات الله، ولا يفسرها بمعنى غير لائق، بل جميع الأمة إذا سمعوا الوصف مسنداً إلى الله امتلأت قلوبهم من الإجْلَالِ والإعْظَامِ، وعَلِمُوا أَنَّ ذلك الوصف لا يُشْبِه شيئاً من صفات المخلوقين، وأنه بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فَهَانَ عليهم الإيمان به؛ لأن إثبات الأوصاف الكريمة لله هَيِّنٌ على كل مسلم. أما إذا فسر الصفة بتفسير خبيث يرمي إلى التشبيه، ويُدَّعَى أن ظاهره التشبيه، فمن هنا تأتي البلايا وتأتي الويلات، ويقع الإنسان في مَشَاكل؛ لأنه إذا تنجس القلب بِقَذَرِ التشبيه اضطر إلى أن ينفي الصفة. ونضع -مثلاً- مقارنة: الله تعالى- مثلاً- قال: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5]، وقال: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: آية 158]، وقال: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: آية 284]، فالسَّلَفي يقول: هذه القدرة منزهة عن قُدر المخلوقين وشبهها، وهذا الاستواء منزه عن استواء المخلوقين، لا يشبهه في شيء من المشابهة، وهذا الإتيان إتيان لائق بكمال الله وجلاله، مُنَزَّه عن كل ما يخطر في العقول من إتيان البشر، فإذا كان قلبه ممتلئًا من الإعظام والإجلال، وحمل هذه المعاني على المعاني اللائقة الكريمة الجليلة اللائقة بالله، المنزهة عن كل ما لا يليق، كان أولاً: مُنَزِّهًا، وكان ثانيًا: مؤمناً غير جاحد ولا مُعَطّل. مثلاً كان السلف الصالح إذا سمعوا {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5]، يقول: هذا الاستواء بالغ من غايات الكمال والجلال والعظمة واللياقة بالله ما يقطع جميع أوهام علائق المشابهة بَيْنَهُ وبَيْنَ صفات المخلوقين، ومن هم المخلوقون حتى يُشبه استواء الله باستوائهم؟ وهم أثر من آثار قدرته، وصنعة من صنعته، والصنعة لا تشبه صانعها! فإذا حملوا الاستواء على المعنى العظيم اللائق بجلال الله المُنَزَّه عن كل استواء للمخلوقين يخطر في ذِهْن الإنسان، كان الإيمان بذلك الاستواء سهلًا عليهم؛ لأنهم يحملونه على معنى شريف كريم لائق بجلال الله، وإذا سُئل أدنى الناس عقلاً، سُئل مُطْلَق عاقلٍ، وقيل له: يا إنسان، إذا وصف الله نفسه بوصف يمدح به نفسه فما الظاهر المتبادر من ذلك الوصف؟ أظاهره المتبادر منه أنه في غاية الكمال والجلال والتنزيه واللياقة بالله حتى نقرّه على ظاهره الكريم إيماناً وتنزيهاً؟ أو ظاهره أنه يشبه صفات الخلق، وأنه قذر نجس حتى نحتج إلى أن ننفيه بالتأويلات، ونثبت

شيئاً بدله؟! فلا شك أن أطرف مؤمن يقول: كل وصف أُسند لله فهو بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين. والأعراب البدو في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا سمعوا صفة من هذه الصفات، كالاستواء والنزول، وكصفة اليد ونحوها لا يخطر في أذهانهم صفة المخلوق؛ لأنهم يعرفون أن مخالفة الرازق للمرزوق، ومخالفة الخالق للمخلوق، ومخالفة المُحيي للمُحْيَا، ومخالفة المُميت للمُمات تجعل بين صفاتهم مخالفات هائلة لا يعلمها إلا الله، فلا يفهمون من صفة هذا أنها تميل إلى شيء من صفة ذلك؛ إذ لا مناسبة بين الخلق وخالقه، وهم أثر من آثار قدرته وإرادته. إذاً فنعرف أن مذهب السلف هو المذهب الصحيح؛ لأن صاحبه أولاً: كان قلبه ممتلئاً من تعظيم الله وإجلال الله، سالماً من أقذار التشبيه، يحمل استواء الله، ونزول الله وإتيان الله على أكمل المعاني وأجْمَلِهَا وألْيَقِهَا وأنْزَهِهَا عن مشابهة المخلوقين، ثم إنه يؤمن بها على أساس هذا التنزيه، على غرار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11]، ويكون أولاً: منزّهاً، وثانيًا: مؤمناً مصدقاً، ثم يقطع طمعه عن إدراك الكيفية؛ لأن الله يقول: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: آية 110]. فلو تنطع متنطع وقال: نحن لا نعقل نزولاً، ولا مجيئاً، ولا استواء، ولا قدرة إلا يشابه صفات المخلوقين، فبيّنوا لنا كيْفِيَّةً مُنَزَّهة لنعقلها! فنقول: فلا نقول كما قال مالك (¬1): السؤال عن هذا بدعة، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

بل نتنَزَّل معه ونقول له: يا مسكين، أعرفت كيفية الذات الكريمة المقدَّسة، المتصفة بهذه الصفات؟! فلا بد أن يقول: لا، فنقول: معرفة كيفية الاتصاف متوقفة على معرفة كيفية الذات! فسبحان من تَعَاظَمَ وتَكَبَّرَ وتنَزَّه عن كل ما لا يليق، وعن كل مشابهة الحوادث من جميع وجوهها، وهو (جل وعلا) متصف بصفات الكمال والجلال. أما الذي يسمونه مذهب الخلف مثلاً -ويزعم كثير أنه أعلم وأحكم- فإنه إذا خطر في قلب الواحد: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5] قال: هذا الاستواء ظاهره تشبيه الخلق، كاستوائي على هذا السرير، فيكون أولاً: قد ظلم نصوص القرآن، وحملها على محامل غير شريفة وغير لائقة بالله؛ لأن كون النص ظاهره التشبيه فهذا معنى بالنسبة إلى الله معنى قذر نجس وسخ؛ لأن خالق السماوات والأرض لا يشبه شيئاً من خلقه، فكان هذا أول الضرر وأول السوء. وهو الفهم من النصوص أنها تدل على معانٍ غير لائقة، ثم إذَا تَقَرَّرَ في ذِهْنِهِ أن ظاهر هذا النص أنه كاستواء المخلوق، اضطر المسكين إلى أن يَنْفِيَهُ؛ لأنه لا أحد يقول: (لا إله إلا الله) يرضى أن يَثْبُتَ لله وصف غير لائق، فينفي الاستواء عن نفسه، فيكون الوصف الذي مدح الله به نفسه قد ظلم هذا الإنسان القرآنَ، وجعل أن ظاهره قذر وسخ نجس، وهو مشابهة المخلوقين، ثم يجرّه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي الاستواء، ويقول: الاستواء ممنوع، ولا يمكن أن يكون؛ لأن فيه نقصاً لله، ومشابهة للمخلوقين! فيكون قد ظلم أولاً القرآن، وحمل ما مدح الله به نفسه على الذم، وهذا لا يليق بالله، بل الاستواء الذي مدح الله به نفسه في غاية الكمال والجلال، والبعد عن مشابهة المخلوقين، والنزاهة

الكاملة عن أي تشبيه كائناً ما كان، ثم إنه إذا نفى الاستواء يريد أن يأتي ببدل من تلْقَاء نفسه، فيقول: معناه: (استولى). فنقول له: يا مسكين، أولاً: ظلمت الوحي، وادَّعَيْتَ على نصوص الوحي أن ظاهرها التشبيه، والله يعلم أنها بريئة من ذلك، بل ظاهرها التنزيه، ثم نفيتها من تلقاء نفسك بلا دليل من كتاب وسنة، ثم جئت بمعنى من عند نفسك وهو (استولى)، فنقول لك يا مسكين: قد شبهت الله باستيلاء خلقه؛ لأنك إذا وصَفْتَهُ بالاستيلاء فقد شبهته باستيلاء العرفجي على حماره، وباستيلاء الأمير على جيشه، وباستيلاء بِشْرٍ على العراق، الذي أنشدوا له البيت (¬1): قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ فنقول: قد ماثلْتَ استواء الله باستواء بِشْر! فرجعت إلى التمثيل! فإذا قال: استواء الله منزه عن استواء بِشْر، فنقول: كذلك يا مسكين كان ينبغي أن تقوله في الأول، وتعلم أن نفس الاستواء الذي مدح الله به نفسه أنه بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين. فعلينا معاشر المؤمنين أن نعرف الحق، ونعرف من ضوء القرآن عقيدة السلف، ونعلم أن الله لا يمدح نفسه إلا بوصف كريم، وأن الاستواء الذي مدح به نفسه بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فهو في غاية النزاهة والكمال وعدم المشابهة، فنقرّه على ظاهره مِنَ الْكَمَال واللياقة بالله، ونعلم أن وصف الله لا يمكن أن يُشبه وصف مخلوق، ¬

(¬1) البيت في البيت في تفيسير قاتل (5/ 103، 192)، الأزمنة والأمكنة للمرزوقي صـ36، اللسان، مادة: (سوى) 2/ 248).

وأن الله لا يمدح نفسه بوصف فيه تشبيه ولا فيه محذور، ولا يلزم منه مشابهة مخلوق، بل هو استواء لائق بالله، كقدرته وإرادته وعلمه وسمعه وبصره، مخالف لاستواء المخلوقين كمخالفة ذات الله لذوات المخلوقين، فنكون أولاً عَدَلْنَا وأقْسَطْنَا مع النصوص، فحملناها على معانيها الكريمة الشريفة اللائقة بالله، وآمنا بذلك التَّنْزِيه. أما هؤلاء الذين يقولون: ظاهر الاستواء أنه كاستواء المخلوقين، فقد ابتدؤوا أولاً بظلم النصوص، وحملوها على معانٍ خبيثة غير لائقة، لا يمدح الله بها نفسه، ثم جرهم هذا التشبيه إلى أن نفوها وجاؤوا ببدلها. وهذا الذي جاؤوا به فيه من التشبيه أكثر مما فرّوا منه أولاً، فالذي يقول: الاستواء ظاهره كاستواء المخلوق ثم ينفيه بهذا الظاهر المحذوف، ويؤوله بالاستيلاء، وأن معناه (استولى). فنقول له: رجعت النتيجة في حافرتها، أن استواء بِشْر معناه: استيلاء بِشر على العراق. فنقول: قد شبهت استيلاء الله على عرشه باستيلاء بِشْر على العراق، والاستيلاء كذلك صفة من صفات الخلق، فالعرفجي يستولي على حماره، والأمير يستولي على الجيش، والمالك يستولي على دابته، فالاستيلاء الذي فسرت به الاستواء هو أوغل في التشبيه من الاستواء. فإذا قال: هذا الاستيلاء الذي فسرت به الاستواء استيلاء مُنَزَّه عن استيلاء المخلوقين، قلنا له: كان مِنْ حَقِّكَ أن تقول هذا من أوَّلٍ، قبل أن تقع فيما وقعت فيه، وتقول: استواء الله مُنَزَّه عن مشابهة استواء المخلوقين.

فعلينا جميعًا أن نعلم أن الاعتقاد الذي كان عليه السلف الصالح قبل ظهور الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، هو على هذه الأسس الثلاث: أولها: وهو الحجر الأساسي العظيم: تنزيه خالق السماوات والأرض عن أن يُشْبِهَ شيئاً من خَلْقِهِ بشيء من ذَوَاتِهِمْ وصفاتهم وأفعالهم، وحمل معاني القرآن والسنة على المعاني الشريفة اللائقة بالله كل اللياقة، المناسبة لعظمته وجلاله وكبريائه، ثم نؤمن بها إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، وكل هذا التعليم حصره الله لنا في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] فإنا لا نعلم في الدنيا سمعاً ولا بصراً إلا هما حادثان خسيسان، يموت صاحبهما ويأكلهما الدود! فإذا كنا نذهب بكل شيء فلقائل أن يقول: السمع والبصر ظاهره التشبيه بسمع الحمار وبصره، وسمع الإنسان وبصره، فَلْنَنفِه ونثبت غيره، ولا فرق بين الصفات. والحاصل أن الله حق وصفاته حق، وأن المخلوقين حق وصفاتهم حق، وأن صفة الخالق لائقة بذات الخالق، وصفة المخلوق مناسبة لذات المخلوق، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كَمِثْلِ ما بين ذات الخالق والمخلوق، فنحن نثبت الصفات لله مُصَدِّقِينَ رَبَّنَا، ومصدقين نبينا [- صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، مراعين في ذلك الإثبات ما بيّنه الله (تعالى) في كتابه، ذلك البيان الأوضح] (¬1) والتعليم الأكبر، والمغزى الأعظم حيث جاء بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] فإن ¬

(¬1) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} السمع والبصر صفتان هما أشد الصفات توغلاً في التشبيهِ بالمخلوقات، فالله مدح بهما نفسه بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يعني: أثبِت لي صفاتي، وما مدحت به نفسي، ولكن راع في ذلك الإثبات قولي قبله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} واعلم أنه إثبات مُنَزَّه لا يُشابه إثبات المخلوقين، فلا يذهب قلبك إلى صفات المخلوقين. فأساس الخير كله في هذا المقام هو أن يكون القلب أولاً مستولياً عليه تعظيم الله وتنزيهه عن مشابهة خلقه، فهذا أساس الخير، وهو معنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فمن رزقه الله هذا العلم بمدلول {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعرف قداسة الله وعظمته، وعظمة أسمائه وصفاته، ونزاهتها عن مشابهة المخلوق، حمل ما مدح الله به نفسه على أكمل الوجوه وأتمها وأشرفها، وأبعدها مشابهة للخلق، وآمن بها على أساس ذلك التنزيه، أما الذي يزيغ به الشيطان إلى أن يحمل النصوص على أنها يُراد بها -ظاهرها- صفات المخلوقين، فمن أين للمخلوقين أن يُشَبِّهوا صفات خالقهم؟ وأين تُذكر صفة المخلوق عند صفة الخالق، وهو أثر مِنْ آثارِ قُدْرَتِهِ وإرادته وصنعة من صنائعه؟ وأنا أؤكد لكم كل التوكيد أن الواحد منا إذا مات على هذه الأسس الثلاثة: أولًا: اعتقاده تعظيم الله وتنزيهه عن مشابهة خلقه. والثاني: الإيمان، وتصديق الله بما مدح به نفسه، أو مدحه به رسوله، إيماناً وتصديقاً مبنيّاً على أساس التنزيه عن مشابهة الخلق، على غرار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقطع الطمع عن إدراك الكيفيات،

أنه يلقى الله سالماً من هذه الورطات والبلايا، أما الذي يَدَّعِي على الله أنه مدح نفسه بالاستواء في قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5] أن ظاهر هذا القرآن المتبادر منه التشبيه، وقذر ونجاسة لا تليق بالله، ثم يَتَجَرَّأ فينفيه، ثم يأتي بـ (استولى) فإن هذا لا يليق بكمال الله، والذين فعلوا هذا هم في الحقيقة أكثرهم مقصدهم حسن، لا يقصدون إلا تنزيه الله، إلا أنهم غلطوا أولاً في تفسير معاني الكتاب والسنة، وحملوا مداليل الآيات والأحاديث على أن ظاهرها التشبيه، فاضطروا إلى أن يَنْفوا، ولو فهموا منها أولاً معانيها الصحيحة الكريمة اللائقة المنزهة لما وقعوا في شيء من هذه المحاذير، فهم كما قال الشافعي رحمه الله (¬1): رَامَ نَفْعاً فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ... وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقَا وطريق الحق واضحة لا شك فيها: وَالحَقُّ أَبْلَجُ لَا تَزِيغُ سَبِيلُهُ ... وَالحَقُّ يَعْرِفُهُ أُولُو الْأَلْبَابِ (¬2) لأن مَنْ نَزَّهَ اللهَ كل التنزيه عن مشابهة الخلق، ثم صَدَّقَهُ فيما وصف به نفسه تصديقاً مبنيّاً على أساس التَّنْزِيهِ، ووقف عند حدِّه فَعَرَفَ أن عَقْلَهُ لا يدرك كُنْه الكيفيات، فهو مؤمن مَاشٍ في ضوء القرآن، لم يَتَكَلَّفْ شيئاً، لم يحمل مَعْنًى من معاني نصوص الكتاب والسنة محملاً خبيثاً، ولم يَنْفِ عَنِ الله شيئًا أثْبَتَهُ لنفسه، ولم يأتِ من نفسه ببدل، مع أن مَنْ أوَّلَ لا بد أن يَرْجِعَ إلى ما هو أوْغَل في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (148) من هذه السورة. (¬2) البيت في اللسان (مادة: خيل) (1/ 932). ولفظه: والصدق أبلج لا يُخيل سبيله ... والصدق يعرفه ذوو الألباب

التشبيه، فالذين فَسَّرُوا الاستواء بالاستيلاء، وقالوا: الاستواء ظاهره كاستواء المخلوقين فيجب صَرْفُهُ عن ظاهره، ويقال فيه: «اسْتَوْلَى» فقد وقعوا في ثلاثة محاذير: الأول: أنهم قالوا على الله: إن ظاهر ما مدح به نفسه أنه غير لائق، وهذا افتراء على الله وعلى كتابه وعلى نبيّه؛ لأن الله لا يصف نفسه إلا بأكرم المعاني وأشرفها وأنزهها وأجلها، فما هنالك إلا المعنى الشريف اللائق بكمال الله، المنزه عن مشابهة المخلوقين. المحذور الثاني: أنه اضطروا أن ينفوا ما وصف الله به نفسه فنفوا الاستواء، والله يثبته في سبع آيات من كتابه، ثم جاءوا بدله بالاستيلاء! قالوا: معنى استوى: استولى، فنقول: التشبيه الذي فَرَرْتُمْ منه في {اسْتَوَى} جئتم بأضعافه في قولكم: «استولى» لأن (استولى) أوغل في التشبيه، فالعرفجي يستولي على حماره، والمالك يستولي على ملكه، والرجل يستولي على امرأته، وبِشْر يستولي على العراق، وهذه الاستيلاءات خسيسة، قد شبهتم بها صفة الله! فإن اضطُر في الآخر أن يقول: هذا الاستيلاء مُنَزَّه عن استيلاء المخلوقين، قلنا له: الاستواء الذي وصف الله به نفسه لائق كريم جليل منزه عن أن يُشبه شيئاً من استواء المخلوقين. هذه هي طريقة السلف، وهذا العلم القرآني هو المنَجِّي من هذا المأزق الذي ضلت فيه أقدام الآلاف من فحول الرجال، فعلى المسلم أن يستضيء بضوء القرآن، وأن يَتَنَبَّه لكتاب الله؛ لأن فيه حلّ كل معضلة، والمخرج من كل ويلة وبليّة، والله علمنا أولاً أن ننزهه عن كل ما لا يليق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأن نثبت له صفاته، وإن كانت المخلوقات يتصفون باسمها؛ ولذا قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ

البَصِيرُ} بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونعرف قدر عقولنا أنها لا تحيط بكيفيات صفات خالق الكون، كما نصّ عليه في طه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: آية 110] فوالله لو مات الواحد منا وحُشِرَ، وجاءه السؤال يوم القيامة، لا تأتيه بليّة، ولا لوم، ولا توبيخ، ولا عذاب من واحد من هذه الأسس الثلاثة، والله لا يلومه الله ويقول له: لِمَ تنزهني يا عبدي عن صفات خلقي؟ ولمَ تحمل المعاني التي مدحت بها نفسي على المعاني الشريفة الجليلة الكريمة؟ لا والله أبداً؛ فهذه طريق سلامة محققة، ولا يقول له الله موبخاً له: لِمَ تصدقني فيما أثْنَيْتُ به على نفسي، وتثبت لي ما أثبتُّه لنفسي على أساس التنزيه؟! لا والله؛ فهذه طريقة محققة السلامة، ولا يقول له الله: لِمَ لا تدَّعي أن عقلك المسكين المخلوق محيط بإدراك كيفيات صفاتي؟ لا والله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)}. فعلينا معاشر المسلمين أن نأخذ قُلُوبنا أولاً بتعظيم الله وتنزيهه عن مشابهة خلقه، فإذا اسْتَوْلَى التنزيه والتعظيم والإجلال على القلوب كان سهلاً عليها أن تؤمن بصفات الله إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، ثم تقطع الطمع عن إدراك الكيفية، فتسلم من جميع الورطات، فتكون ما حملت معنى القرآن إلا على المعنى الكريم اللائق، ولا نفيتَ شيئًا أثبته الله، ولا جئتَ بشيء من تلقاء نفسك، هذا المذهب الذي كان عليه السلف الصالح، ودرج عليه عامة المسلمين، ومن نظر في كتب فقهاء الأمصار، كالأئمة رحمهم الله، وأمثالهم من فقهاء الأمصار؛ كالسفيانَيْن، والليث، ووكيع، ومن جرى مجراهم، يجدهم كلهم على هذه العقيدة، يُنَزِّهُون الله عن

مشابهة خلقه، ويؤمنون بما وصف الله به نفسه إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، ولا يشبهونه بخلقه، ولا ينفون شيئًا أثبته (جل وعلا) لنفسِه. هذا هو الذي ينبغي أن يُعتقد في صفات الله: أولًا: تنزيه، ثم إيمان مبني على أساس التنزيه، ثم قطع الطمع عن إدراك الكيفيات {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: 110] هذا الذي نعتقده ونوصي إخواننا به؛ لأنه طريق سلامة محققة؛ لأنه سالم من تشبيه الله بخلقه، وسالم مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ الله، وتكذيب الله فيما أثْبَتَهُ لنفسه، وسالم من كل سوء، طريق سلامة محققة. ولم يبقَ إلا لو قال القائل: هذه الصفات التِي تَزْعُمون أنها منزهة ما فهمنا كيفيتها، فما نَفْهَم كيفية إتيان مُنَزه عن إتيان المخلوقين، ولا كيفية مجيء منزه عن مجيء المخلوقين، ولا كيفية استواء منزه عن استواء [24/ب] المخلوقين، فبينوا لنا الكيفية؟ فنقول له:/ يا مسكين أعرفت كيفية الذات المقدسة التي اتصفت بهذه الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بهذه الصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، والله يجيء كما قال على الوجه اللائق بكماله وجلاله، على أشرف الوُجُوه وأليقها وأتمها كما قال، مع أن جميع الكائنات بيده (جل وعلا) أصغر مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، فنحن نُقرّ بما جاء عن الله، ونؤمن بما قال الله، وننزه الله تعالى أكمل التنزيه وأتمّه عن مشابهة شيء من خَلْقِه، على ضوء القرآن، وعلى غِرَار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11]. يقول الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيهُمُ المَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ

مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)} [الأنعام: آية 158]. تكلمنا على أول هذه الآية، ونبدأ الكلام الآن من قوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، أو يأتيهم خالق السماوات والأرض لفصل الخطاب، عندما تشرق الأرض بنور ربّها {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: آية 69]، {وَجَاء رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22)} [البقرة: آية 22] {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} [البقرة: آية 210] وقد تكلمنا على ما دل عليه القرآن في آيات الصفات وأحاديثها. وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أي: يأتيهم بعض آيات ربك، والمراد بذلك البعض: البعض الذي إذا جاء لا يُقبل من كافر إيمان، ولا من مذنب توبة. فهذه تخاويف وتهديدات عظيمة، تهديد بمجيء الملائكة لقبض الأرواح، وبإتيان خالق السماوات والأرض لفصل القضاء، وبإتيان الآيات التي يمتنع عند مجيئها إيمان الكافر، وتوبة العاصي {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} هذا البعض هنا كأنه مبهم، أبهمه هنا ثم فصّله بأنه البعض الذي إذا جاء لا يقبل من كافر إيمان، ولا يقبل من عاص توبة، بل يغلق باب التوبة بمصراعيه، حتى كأنه لم يكن بينهما فتح قط، وتختم الأعمال على ما كان، وتضع الحفظة أقلامها، ويبقى الناس إلى ذلك الوقت على ما قَدّموا، وهذا معنى قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}.

وهذا البعض الذي هُدِّدُوا بإتيانه قال فيه: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أي: بعض علاماته العظام الكبرى، فالآية هنا من معنى العلامة. {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} إذا أرَادَتْ أنْ تُجَدِّدَ الإيمان بعد إتيان بعض تلك الآيات لا ينفع منها ذلك الإيمان، وجماهير علماء التفسير، والأحاديث الصحيحة دلت على أن المراد ببعض الآيات التي إذا جاءت لا يُقبل إيمان من كافر، ولا توبة من عاص، أن المُراد به طلوع الشمس من مغربها (¬1)؛ لأن الشمس ستطلع يوماً من مغربها يقيناً، كما تواترت به الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثابت في الصحاح، في الصحيحين وغيرهما، وفي صحيح البخاري: أنها إذا طلعت من مغربها فرآها الناس آمن جميع مَنْ عَلَى وَجْهِ الأرض، ولم يكن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت (¬2). وهذا فيه إشكالات معروفة؛ لأن الأحاديث الصحيحة هنا فيها إشكالات معروفة، ونحن في الحقيقة لم نر مَنْ حَرَّرَ المقام فيها تحريراً شافيًا (¬3)؛ لأن كون الآية التي إذا أتت هي طلوع الشمس مِنْ مَغْرِبِهَا، هذا ثابت في الصحيحين وفي غيرهما، وهو يدل على أن طلوع الشمس من مغربها ليس أول الآيات، وأن مجيء الدجال يُقْبَل بعده إيمان الكافر وتوبة العاصي، ونزول عيسى يُقبل بعده إيمان ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 245)، القرطبي (7/ 145). (¬2) أخرجه البخاري في الرقاق، حديث رقم (6506)، (11/ 352)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، حديث رقم: (157)، (1/ 137) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) انظر: فتح الباري (11/ 353 - 357)، التذكرة للقرطبي ص 707.

الكافر كما قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: آية 159]، وهذا يدل على أن طلوع الشمس من مغربها ليس أول الآيات. ويُشكل عليه حديثان ثابتان في صحيح مسلم وغيره، فإنه في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ الآياتِ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬1) وفي صحيح مسلم أنه قيل له (¬2): إن مروان بن الحكم يقول: إن أول الآيات خروج الدجال. فقال: ما قال مروان شيئاً، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬3) وهذا الحديث مُشْكِلٌ، إِذَا كان طلوع الشمس من مغربها قبل الدجال، والعلماء مجمعون على أنه لا إيمان يُقبل من كافر بعد طلوع الشمس مِنْ مَغْرِبِهَا، إذاً يكون زمن الدجال وعيسى ابن مريم لا تنفع فيه الأعمال، وهذا مخالف لِظَوَاهِرِ النصوص الكثيرة، ففي حديث عبد الله بن عمرو هذا أعظم إشكال. ومن الأحاديث المشكلة أيضاً: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ»، ثُمَّ ذَكَرَ الثَّلاث: «الدَّجَّالُ، والدَّابَّةُ، وطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬4) وهذا يدل على أنه لا تَوْبَةَ تُقبل بعد مجيء الدجال، وهذا خلاف الظاهر المعروف من النصوص، فَحَدِيثَا مُسْلِمٍ هذان ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: خروج الدجال ومكثه في الأرض ... حديث رقم: (2941)، (4/ 2260). (¬2) أي: عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬3) راجع الحاشية التي قبل السابقة. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، حديث رقم: (158)، (1/ 138).

مشكلان جدّاً على قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} وعلى ما عليه جمهور العلماء من أنه طلوع الشمس، والإشكال في هذه الأحاديث لم نجد من حرَّر المقام فيه تحريراً شافياً يجب الرجوع إليه. والذي يظهر لنا: أن الآيات العظام نوعان: فَقَدْ ثَبَتَ في صحيح مسلم أن الآيات الكبار عشر، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أُسيد الغفاري (رضي الله عنه) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» (¬1) وهذه الآيات العشر عند العلماء هي العلامات الكبار، ثم عَدَّهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عنه مسلم من حديث حذيفة بن أُسيد الغفاري رضي الله عنه، وعدّ منها ثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج دابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، والدخان. وهذا الدخان الذي ذكره مسلم في صحيحه هنا قال بعض العلماء: إنه هو المذكور في سورة الدخان، وأنه لم يأتِ إلى الآن، وأنه هو في قوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10)} [الدخان: آية 10] قالوا: وهو دخان يمكث أياماً يأخذ بنفس الكافر، ويأخذ المؤمن منه شبه الزكام، وأنه من العلامات التي ستأتي ولم يأتِ إلى الآن (¬2)، وكان عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) يقول: إن الدخان المذكور قد مضى، وهو ما أصاب ربيعة ومضر من الجوع لما دعا ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: في الآيات التي تكون قبل الساعة، حديث رقم: (2901)، (4/ 2225). (¬2) انظر: ابن جرير (25/ 111 - 115)، ابن كثير (4/ 138 - 140).

النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم وقال: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ» (¬1) وأنهم جاءهم من الجوع ما أكلوا معه العِلْهِز، والعِلْهِز: شيء كانوا يصنعونه مِنَ الوَبَرِ والدَّمِ، يأكلونه عند شدة الحاجة، كأن الإنسان لشدة الجوع يُخيَّل له أن أمام عينيه شبه الدخان، وأن ذلك الذي يُخيل لعينيه مما يشبه الدخان من شدة الجوع أنه هو معنى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ} أي: فيما تظنه أعينهم لشدة القَحْطِ والجُوع، هذا تفسير عبد الله بن مسعود وطائفة من العلماء للدخان (¬2). وفسّره جماعة آخرون بالدخان الذي عدّه مسلم في الآيات العشر العظام التي هي: الدخان، والدابة، والدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم وفي بعض الروايات بدل نزول عيسى ابن مريم: ريح تلقيهم في البحر، وخسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، وآخرها: نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو ترحل الناس إلى المحشر (¬3)، هذه الآيات العشر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الأذان، باب: يهوي بالتكبير حين يسجد، حديث رقم: (803)، (2/ 290) وطرفه في: (797، 804، 1006، 2932، 3386، 4560، 4598، 6200، 6393، 6940)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، حديث رقم: (675)، (1/ 466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم بالسنين عدة أحاديث من أشهرها حديث ابن مسعود (رضي الله عنه) المخرَّج في الصحيحين، وفيه وصف بعض ما وقع لهم من الشدة بعد دعائه - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) راجع المصادر المدونة في الحاشية التي قبل السابقة. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

أما الأحاديث الصحيحة الثابتة في أنه تخرج نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى (¬1)، فهذه قد مضت بلا نزاع، وهي النار التي اشتعلت في الحرّة، واشتعالها وتأريخ اشتعالها معروف (¬2)، فقد فاتت، وهي من معجزاته. - صلى الله عليه وسلم - وكان الشيخ ابن الجوزي يقول: إن الخسوف الثلاثة قد مضت، وأنه وقع في عراق العجم خسف عظيم، هو خسف المشرق، هلك فيه خلق عظيم، وأنه وقع كذلك في المغرب، ويزعم أنه وقع في جزيرة العرب (¬3)، فعلى كل حال هذه الآيات العشر هي التي ذكرها مسلم في صحيحه أنها الآيات العظام، العلامات الكبرى للقيامة، وقد بَيَّنَّا أن جلّ علماء التفسير، والأحاديث الصحيحة تبين أن بعض الآيات التي إذا أتى لا ينفع نفساً إيمانها: أنه طلوع الشمس من مغربها، وستطلع من مغربها يقيناً بلا شك؛ لأن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - بيّن أنها ستطلع من مغربها بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وهو الصادق المصدوق، لا يقول إلا الحق، وطلوعها من مغربها أكبر دليل على تخريف وخرق أصحاب الهيئة الكذابين الذين ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الفتن، باب: خروج النار، حديث رقم: (7118)، (13/ 78)، ومسلم في الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، حديث رقم: (2902)، (4/ 2227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) وذلك ليلة الأربعاء بعد العشاء، ثالث جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة. انظر تفصيل ذلك: في التذكرة للقرطبي ص (636)، البداية والنهاية (13/ 187)، فتح الباري (13/ 79). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 147).

يقولون: إن حالة الشمس والقمر دائبة لا تتغير ولا يعروها تغير، فسيرى الحاضرون منهم لذلك الوقت أنها تتغير، وأنها تطلع صباحاً من مغربها كما كانت تطلع مِنْ مَشْرقها، ويعلمون أن لها صانعاً حكيماً مُدَبِّراً، هو الذي يجريها كيف يشاء، على النحو الذي يشاء. ووجه إشكال حديث مسلم: أن حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬1) وطلوع الشمس من مغربها لا خلاف بين العلماء أنه من بعض الآيات التي إذا جاءت لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمَنَتْ مِنْ قبل، فيلزم على هذا الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه لا إيمان ولا توبة أيام الدجال وعيسى، وهذا خلاف التحقيق، فالحديث مشكل. والحديث الثاني: هو مَا ثَبَتَ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً» وذكر الثلاث فقال: «الدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬2). فعلى مقتضى هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم أن العمل لا يقبل أيضاً بعد الدجال، وهو خلاف الظاهر والتحقيق، وقد ذكرنا أنا لَمْ نَرَ مِمَّنْ تكلموا على أحاديث مسلم من شفى الغليل في هذا شفاء واضحاً تتفق به الأحاديث مع الواقع، والذي يظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن الآيات العظام الكبار على نوعين (¬3): ¬

(¬1) مضى قريبًا. (¬2) مضى قريباً. (¬3) انظر الفتح (11/ 353).

أحدهما: آياتٌ أرْضِيَّة تَدُلّ على حدوث أمور عظام هائلة في العالم السُّفْلِي والأرض، وأول هذه: الدجال، كما كان يقولونه؛ لأن الدجال ينزل قبل نزول عيسى ابن مريم؛ لأن [عيسى ابن مريم] يدرك [الدجال] (¬1) فيقتله، وبعض العلماء يقول: إن عيسى ابن مريم ينزل قبل الدجال، ويصلي في إمام المسلمين المهدي، الذي ثبتت الأحاديث الصحاح به (¬2)، وعقد له أبو داود كتاباً باسم (المهدي) (¬3) وهو أيضاً آت لا محالة، وإن أنكره من أنكره؛ لأن الأحاديث الصحيحة ثابتة بمجيئه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتاً لا مَطْعَنَ فيه، فأول الآيات الأرْضِية العظام نزول الدجال؛ لأن الدجال أكبر حادث يقع في الأرض، وأعظم فتنة تقع في الأرض، وقد صرحت الأحاديث: أنه منذ خلق الله الدنيا لم تقع في الأرض فتنة أعظم من الدجال؛ لأن معه ناراً ونهراً، وناره ماء، ونهره نار؛ ولأنه يأتي القوم فيصدقونه، فيقول للسماء: أمطري، وللأرض: أنبتي، فتطيعه في ذلك، فتروح سارحتهم أعظم ما كانت ضروعاً، وأمَدّه خواصر، ويُحْيي للرجل أبَاه وأمَّه، ويشق الرجل نصفين حتى يروه نصفين، ثم يجمع بين نصفيه، فيرون أنه يحييه، وهو أعظم فتنة في الأرض (¬4). كأن -مثلًا- من قال: إن أول الآيات خُرُوجاً ¬

(¬1) في الأصل: ((لأن الدجال يدرك عيسى ابن مريم فيقتله)). (¬2) انظر عقد الدرر في أخبار المنتظر للسلمي، والاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر للتويجري، والرد على من كذّب الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي للعباد. (¬3) عون المعبود (11/ 361). (¬4) انظر جملة من الأحاديث الواردة فيما سبق، في البخاري (13/ 89 - 91)، مسلم (4/ 2249 - 2258).

الدَّجَّال، يعني: أول الأحداث الأرضية، التي تكون في الأرض، تؤذن بأمور عظام، وقرب انقضاء الدنيا، وأن طلوع الشمس من مغربها أول الآيات التي هِيَ مِنَ العالم العلوي، المؤذنة بزوال العالم العلوي وانقضائه. فيكون كون الشمس أول الآيات يعني باعتبار ما هو من جِنْسِهَا، كتَغْيِير العالم العلوي، ويكون الدجال أول الآيات باعتبار العالم الأرضي. وعلى كل حال فالشمس إذا طلعت من مَغْرِبها أُغلِق باب التوبة، وطلوع الشمس والدابة مترادفان بينهما قليل، جاء في بعض الأحاديث أن الشمس إذا طلعت مِنْ مَغْرِبِهَا خرجت الدابة ضحى (¬1)، والدابة هي التي يأتي ذكرها في النمل، في قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ إنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} وفي القراءة الأخرى: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا} الآية (¬2) [النمل: آية 82]، قال بعض العلماء (¬3): والحكمة في إتيان الدابة بعد الشمس: أن الشمس إذا طلعت من مغربها خُتِم على الأعمال، ولم يقبل من كافر إيمان، ولم يقبل من عاص توبة، وانقطع تجديد إيمان جديد، أو توبة جديدة، فيرسل الله بعد ذلك الدابة، فتكتب على جبهة كل إنسان: (سعيد) أو (شقي) يعرفه من يراه، لتبين حال الناس عند انقطاع أعمالهم، من هو الكافر منهم ومن هو السعيد؟ والحاصل: أن أكثر أهل العلم، والأحاديث الصحيحة دَلَّتْ على أن الآية التي إذا جاءت لا يُقبل من أحد إيمان: هو طلوع الشمس من ¬

(¬1) وهو حديث عبد الله بن عمرو، وقد مضى قريباً. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص (335). (¬3) انظر: فتح الباري (11/ 353).

مَغْرِبها (¬1)، وفيها أحاديث كثيرة، وفيها حديث أبي ذر المشهور: أنها تسير كل يوم، فتسْجُد لمستقر لها تحت العرش، ثم تستأذن فيؤذن لها فترجع، فإذا كان اليوم الذي يريد الله طلوعها من مغربها تستأذن فلا يُؤذن لها (¬2). ويقول المفسرون وبعض المحدثين (¬3): إن تلك الليلة تطول جدّاً، وينتظر الناس الصباح، فيطول عليهم الليل، فتستأذن الشمس فيقال لها: اطلعي من مغربك، فتصبح طالعة للناس من مغربهم، فإذا رَأَوْهَا آمن جميع مَنْ فِي الأرض، وعلموا أن للكون خالقاً حقّاً، ولم يبق أحد منهم إلا وهو مؤمن، وذلك الوقت {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} وذهب بعض العلماء، ونصره أبو عبد الله القرطبي (¬4): أنها بعد طلوعها من مغربها سترجع إلى عادتها وتطلع من مشرقها، وترجع الدنيا إلى حالها، وأنه إذا تَقَادَمَ عَهْدها، وصار الناس يسمعون بِخَبَرِهَا، أنه حينئذ تقبل توبة الكافر إذا تَابَ، والعاصي إذا تاب، وهذا قال به بعض العلماء، ولكنه خلاف التحقيق؛ لأن ظاهر الأحاديث الكثيرة، والآية الكريمة، أنه بعد إتيان الآية لا ينفع نفساً إيمانها، وهو نفي مطلق إلى يوم القيامة. وقال بعض ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 246)، ابن كثير (2/ 193 - 195). (¬2) أخرجه البخاري في التفسير، باب: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم (38)} حديث رقم: (4802، 4803) (8/ 541)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يُقبل فيه الإيمان حديث رقم: (159) (1/ 138). (¬3) انظر: التذكرة ص 705 فتح الباري (11/ 355)، الدر المنثور (3/ 57 - 61) .. (¬4) انظر: تفسير القرطبي (7/ 147، 148)، التذكرة ص (706).

العلماء (¬1): تؤمر الحفظة بطي الصحف، وطرح الأقلام، ولا ينفع أحداً عمل، ويُخْتَم على كُلٍّ بِعَمَلِهِ. وقوله: {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} يفهم منه أن النفس التي طلعت عليها الشمس من مغربها وهي مؤمنة من قبل أنها في خير، وعلى خير، وأن إيمانها نافع لها. وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} يُفهم منه أن النفس المؤمنة التي كانت تعمل الخير أنها في خير وعلى خير، وأما النفس التي كانت مؤمنة ولم تَعْمَلْ في إيمانها الخير، بأن كانت ترتكب المعاصي وتخالف الله، ثم أرادت عند طلوع الشمس أن تتدارك ذلك بالتوبة فلا يُقبل ذلك منها؛ لقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} وكان بعض العلماء يقول: من طلعت عليه الشمس من مغربها وهو على الاستقامة وطاعة الله كُتب له ما كان يفعل دائماً (¬2). وهذا القول وإن كان ظاهر الآية لا يساعد عليه، إلا أنه غير بعيد؛ لأنه دلت نصوص أخر على أن الإنسان المواظب على الخير إذا عَاقَه عنه عائق كمرض أو سفر أنه يُكتب له ما كان يواظب عليه من الخير إذا عاقه عنه مرض، وهو أحد التفسيرين (¬3) في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: الآيتان 5، 6] فعلى أحد التفسيرين في الآية: أن الإنسان إذا رُدّ أسفل سافلين إلى أرذل العمر، وكان هرماً لا يعقل، أنه يُردّ إلى أسفل ¬

(¬1) انظر: فتح الباري (11/ 355). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 146) من التفسير، وفي التذكرة ص (705). (¬3) انظر: ابن جرير (30/ 246 - 247).

السافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم من الأجر ما كان يُكتب لهم، هذا وجه في الآية، ولكن الوجه الصحيح فيها عند المفسرين: أن معنى: {رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: جعلناه إلى دركات النار {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} وهو الجنة، وهذا معنى قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا}، {نَفْساً} لم تكن آمنت من قبل لا ينفعها إيمان جديد بعد طلوع الشمس من مغربها، وقد ثبت في الصحيح أنها إذا طلعت مِنْ مَغْرِبِهَا آمن كل مَنْ عَلَى وجه الأرض مِنَ البشر بالله (جلّ وعلا) (¬1)، ولكنه إيمان غير مقبول؛ لأنهم ما آمنوا حتى فات الوقت وانتهت المدة، وانقضت الفرصة {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ}، ولا ينفع نفساً عاملة للخير لم تكن عملت في إيمانها السابق خيراً، فالذي ينفع: الإيمان السابق، وعمل الخير السابق في الإيمان، أما العمل الذي يُجَدّد بعد الطلوع، والإيمان الذي يُجَدّد بعد الطلوع فلا ينفع، واستثنى بعض العلماء من هذا مَنْ طَلَعت عليه الشمس وهو مستقيم على اجتناب نواهي الله، وامتثال أوامره، أنه يكتب له ما كان يعمل، وقال بعضهم (¬2): إن المؤمن تُقبل توبته لإيمانه السابق، وظاهر الآية خلاف ذلك، وأنها إذا جاءت خُتم لكل بما كان يعمل، وانقضى العمل، فمَنْ جَاءَتْه وهو على الإسلام والخير فهو إلى الجنة، ومن جاءته على الشَّرِّ والكفر -عياذاً بالله- فهو إلى النار، ولا تقال لأحد عثرة، ولا تقبل منه توبة بعد نزول الآيات، وهذا معنى قوله: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}. ¬

(¬1) مضى قريباً. (¬2) انظر: التذكرة للقرطبي ص (706) ..

ثم إن الله لما قال للكفار المكذبين لرسوله: ما تنتظرون إلا بلايا تأتيكم، إما أن تأتيكم الملائكة لقبض أرواحكم، أو يأتي خالق السماوات والأرض لفصل الخطاب فيحكم بتعذيبكم، أو يأتيكم بعض الآيات المانعة من قبول العثرة والتوبة، إذا كان يهددهم هذا التهديد، فقد أتبعه بقوله: {قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} فإنكم تنتظرون السوء ونحن ننتظر الخير؛ لأنا إذا جَاءَتْنَا الملائكة فقبضت أرواحنا ونحن على الاستقامة كان فيه أعظم البشارة لنا، وأحسن العُقبى، وإذا أتَانَا ربنا لفصل القضاء حكم لنا بأحسن الحكم وأكرم النعيم لطاعتنا واستقامتنا، وإذا جاء بعض الآيات المانعة مِنَ التوبة وجدتنا على هدى وتوبة وإنابة، فلم يضرنا مجيئها؛ ولذا قال: {قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} كقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ} [التوبة: آية 52]. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159)} [الأنعام: آية 159]. [قرأ الجمهور] (¬1) غير حمزة والكسائي: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} بتشديد الراء، وعدم ألف بعد الفاء، وقرأه حمزة والكسائي: {إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} (¬2) أما على قراءة حمزة والكسائي: {فَارَقُوا دِينَهُمْ} فالمعنى واضح؛ لأنهم ارتدوا -والعياذ بالله- عن الدين وفارقوه، وصاروا طوائف كافِرَة، كل طائفة مُلْحِدَة كافرة غير ¬

(¬1) في هذا الموضع وُجد مسح في التسجيل وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص 205.

الأخرى، وأما على قراءة الجمهور: {فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} فالمراد بتفريقهم الدين: أن كل طائفة تنتحل نحلة تزعم أنها هي الدين (¬1)، فهي في أهل الأهواء والبدع والضلالات، ويدخل فيهم اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: آية 113] فقد فرقوا دينهم، ومعناه: أن كل طائفة وفِرْقَة انْتَحَلَتْ نِحْلَةً تَزْعُمُ أنها هي الدين الحق، وأن ما سواه باطل، والجميع كله ضلال وبدع وأهواء، كما ذكرنا في الحديث: أن النبي بين هذا التفريق، وأن اليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، وهذه الإحدى والسبعين فرقت دينها، وجعلته إحدى وسبعين فرقة، كل واحدة تَدّعِي أنَّهَا عَلَى الحَقِّ، وأَنَّ غيرها ضال، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، كل فرقة تزعم أنها على الحق، وأن غيرها ضال، وستَفْتَرِق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، تَزْعُمُ كل واحدة أنها على الحق، وجَمِيعُ الفِرَقِ في النار إلا فِرْقَة واحدة (¬2). ¬

(¬1) انظر: حجة القراءات ص 2780 (¬2) أخرجه أحمد (2/ 332) وأبو داود في السنة، باب: شرح السنة، حديث رقم: (4572)، (12/ 340)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة، حديث رقم: (2640)، (5/ 25)، وقال الترمذي: «وفي الباب عن سعد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك. قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث صحيح» اهـ. وأخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: افتراق الأمم، حديث رقم: (3991)، (2/ 1321)، وابن حبان (الإحسان 8/ 48)، والحاكم (1/ 128)، وأبو يعلى (10/ 5910)، والآجُرِّي في الشريعة ص (15)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد جاء في هذا المعنى عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة؛ كأنس بن مالك، وعوف بن مالك، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم. وانظر: صحيح أبي داود (3/ 869)، صحيح الترمذي (2/ 334)، صحيح ابن ماجه (2/ 364)، السلسلة الصحيحة رقم: (203)، التعليق على التنكيل (2/ 53)، صحيح الجامع رقم: (1083).

وعلامة هذه الفرقة الواحدة: هي الخالية مِنَ البِدَعِ والأهواء والمبتدعات بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - المخالفة لشرعه، بل هي التي تمشي على الجَادَّةِ والمحَجَّةِ البيضاء التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، هذه الفرقة هي الناجية: وهي المسماة بأهل السنة والجماعة، وإن كانوا قليلاً؛ لأن أكثر الأرض على الضلال، أكثر من في الأرض ضلال في النار، والذين هم على الهدى وأهل الجنة قلة جدّاً، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصيب الجنة من الألف واحد، ونصيب النار من الألف تسع وتسعون وتسعمائة، وهذا ثابت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولما شقّ هذا على أصحابه أخبرهم بكثرة المشركين، وأن هناك قَبِيلَتَيْنِ قد تكون الألف منهم والواحد منكم: يأجوج ومأجوج (¬1)، ويأجوج ومأجوج من العلامات العشر التي ذكرها مسلم لم نذكرها، وهذه الفِرَقُ كلها في النار، ونصيب الجنة واحد من الألف لكثرة الكفار، والله يقول: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: آية 116] {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: آية 8]، {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} [الصافات: آية 71] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم: (3348)، (6/ 382)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث: (4741، 6530، 7483)، ومسلم في الإيمان، باب: قوله: «يقول الله لآدم: أخرج بعث النار ... »، حديث رقم: (222)، (1/ 201).

آية 103] فالأكثرية أهل النار، وهي التي منها هذه البدع والأهواء والفِرَق الضَّالَّة الزائغة عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والهدى لا يخفى: الَحقُّ أَبْلَجُ لَا تَزِيغُ سَبِيلُهُ ... وَالَحقُّ يَعْرِفُهُ أُولُو الْأَلْبَابِ (¬1) لأن من هو على هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ؛ لأنه خال من الابتداع، والدعاوى الكاذبة، والتضليلات، والتخريفات، والتَّهْرِيجات الزائفة، بل هو على صراط مستقيم، عامِل بهدي رسول الله، عارف أوَامِرَ القرآن ونَوَاهيه، عالم بسنة رسول الله وبأحكامها، متبع ما جاء عن الله، مؤتمر بأوامر الله، مُنْزَجِر عما زجر الله عنه، على المحَجَّةِ البَيْضَاءِ، سالم من الدَّعَاوى الخرافية، والضلالات المبتدعة التي لم يعرف لها عهد في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فالفرقة الناجية: هي التي كانت على ما عليه النبي وأصحابه من العقيدة الصحيحة، وامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه على الوجه الصحيح الكامل، فالصحابة (رضي الله عنهم) لم يدّعوا شيئاً مما يَدَّعِيهِ المضلِّلُون من أنهم يرون النبي يقظة ويجتمعون به دائما! لم يقولوا شيئاً من ذلك لصدقهم وعدالتهم، هذا أمير المسلمين في زمانه: عثمان بن عفان أعَزّ فتى في قريش، وهو أمير المؤمنين، والإسلام في شدة قوته، ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب أن يذهب بالهدايا إلى مكة لما حاصروهم في الحديبية قال له: أنا لا أستطيع؛ لأن بني عدي لا يمكن أن يمنعوني مِنْ قُرَيْشٍ، ولَكِن أدلك على رجل أعز مني، وهو عثمان بن عفان، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعزته ومكانته في قريش، وأرسل معه الهدايا وتلقاه بنو ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (158) من هذه السورة.

عمه يقولون: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَلَا تَخَفْ أَحَداً ... بَنُو سَعِيدٍ أَعِزَّةُ الحَرَمِ (¬1) وهو بهذه العزة في قريش، وهو أمير المؤمنين، وصهر رسول الله على ابنتيه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ذُبح في داره ظلماً، والحجرة النبوية بجنبه، لم يأته النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحُل لهم المشكلة. وهذه عائشة (رضي الله عنها) ذهبت إلى العراق، ووقعت قصة الجمل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معها في الحجرة، لم تستطع أن تلقاه، ولم تأخذ رأيه: هل تفعل؟ بل قد ندمت كل الندم على ما صدر منها. ولما نزلت مسألة العول: ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها في خلافة عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن أعطيت الزوج النصف لم يبق ثلثان، وإن أعطيت الأختين الثلثين لم يبق نصف، فماذا أفعل؟ وأسفوا كل الأسف على أنهم لم يسألوا النبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم -، فما قال أحد منهم: إنهم يسألونه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أرسله الله لمهمة وقد بلّغها على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنصحها، ثم تركها محَجَّة بيضاء ليلها كنهارها، ثم اختاره الله إلى ما عنده من الكرامة، ونقله إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه. والشاهد أن الذين هم على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سالمون من الدعاوى الكاذبة والخرافات المُضَلِّلَة، بل هم على صراط مستقيم، وهدي واضح لا دعاوى فيه ولا تضليل ولا تهريج، يقتفون ¬

(¬1) البيت لأبان بن سعيد بن العاص، وهو في تاريخ دمشق (6/ 134)، الاستيعاب (1/ 75)، الإصابة (1/ 14)، سير أعلام النبلاء (1/ 261). (¬2) انظر: المحلى (9/ 263)، وانظر ما سيأتي عند تفسير الآية (12) من سورة الأعراف.

آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمل بكتابه وسنته، ومجالسهم كأن على رؤوسهم الطير فيها، فمن كان على هديه - صلى الله عليه وسلم - في الأعمال والأقوال والأفعال والسمت والعقيدة فهو الفرقة الناجية، وغيره هي الفرق الضالة المضلة التي فرقت دينها وجعلته شيعاً. وقوله: {وَكَانُوا شِيَعاً} الشيع جمع شِيعَة، وكل قوم تشيعوا واجتمعوا على نصرة رجل، أو على نحلة ينتحلونها فهم شيعة، سواء كانت في الخير أو في الشر (¬1)، ومنه قوله في نوح: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} [الصافات: آية 83] أي: من جماعته الذين هم على دينه وهديه، ومنه قول الكُمَيْت (¬2)، وهو من الشيعة الذين يَتَشَيَّعُون لِآلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: وَمَا لِيَ إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ ... وَمَا لِيَ إِلَّا مَذْهَبَ الحقِّ مَذْهَبُ {شِيَعاً} أي: فرقاً مختلفة، كل فرقة تَنْصُر صاحب بدعة مثلاً، أو رأس ضلالة يشيعونه وينصرونه. {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} معناه: أنت بريء منهم، وهم بُرَءَاء منك، لست على دينهم وليسوا على دينك، والعرب إذا كان الإنسان بريئاً من الإنسان يقولون: لستُ منك ولستَ مني، ومنه قول نابغة ذبيان (¬3): إِذَا مَا رُمْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي ¬

(¬1) انظر: المصباح المنير (مادة: شيع) ص (126). (¬2) البيت في شذور الذهب ص 263، تلخيص الشواهد لابن هشام ص 82، قطر الندى (246). (¬3) البيت في ديوانه، ص (138). وروايته في الديوان: «إذا حاولت ... ».

يعني: أَنَا بريء منك، وأنت بريء مني. ثم قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ} إنما أمرهم ومصيرهم إلى رَبِّهِمْ، فالله هو الذي حَكَمَ عَلَيْهِمْ في دار الدنيا بذلك الشقاء والخذلان وطمس البصيرة، وهو الذي يجازيهم يوم القيامة على ما كان منهم، وذلك معنى قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ}. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم} يوم القيامة؛ أي: يخبرهم إذا جاءُوه بالذي كانوا يعملونه في الدنيا، فيجدون كل ما عملوه في كتاب لا يُغَادِرُ صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويقال للإنسان: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)} [الإسراء: آية 14]، فيجد الإنسان كُلَّ مَا قَدَّمَ وَأَخَّر {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: آية 30] وهذا معنى قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} والمراد بالتنبئة هنا ليس مجرد الإخبار، ينبئهم ليقرّوا ويعترفوا فيعلمون أنه إنما عاقبهم على عدل وليس بظلم، والنبأ في لغة العرب أخص من مُطْلَقِ الخَبَر؛ لأن كل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ؛ لأن العرب لا تطلق النبأ إلا على الخبر الذي له شأن وخطب، فيقولون: جاءنا نبأ الجيوش، ونبأ الأمير، وخبر الجيوش، وخبر الأمير. أما لو قال قائل: تلقّينا اليوم نبأً عن حمار الحجام، فإن هذا لا يكون من كلام [25/أ] العرب (¬1)؛ لأن/ حمار الحجام لا أهمية له، وإطلاق النبأ عليه وضع للنبأ في غير موضعه، فاللائق أن يقول: خبر حمار الحجام؛ لأن النبأ لا يُطلق إلا على ما له شأن (¬2)، وكون التنبئة هنا لها شأن لعظمة الله ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام (¬2) السابق.

بإحصائِه إياها، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرَّة، ولِعَظَمَةِ الخَطْبِ عَلَيْهِمْ، كما قالوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: آية 49]. يقول الله جل وعلا: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: آية160]. لما أمر الله الخلق بسلوك صراطه المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل لئلا تتفرق بهم عن سبيله، ثم بَيَّنَ أن بعضاً منهم لم يمتثلوا ذلك، بل اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيله في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} [الأنعام: آية 159] بيّن أنه (جل وعلا) بالنسبة إلى من عصاه فاتبع تلك السبل الضالة، وبالنسبة إلى من أطاعه فاتبع ذلك الصراط المستقيم، أن معاملته للمحسنين في غاية الإكرام والتمام والكمال، وللمسيئين في غاية الإنصاف والعدالة، فقال: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} يعني: من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة التي كان يعملها في دار الدنيا، فقول بعض أهل العلم هي: «لا إله إلا الله» كالتمثيل؛ لأن المراد بالحسنة: كل خصلة تُرضي الله (جل وعلا)، سواء كانت (لا إله إلا الله) أو غيرها من العقائد وأفعال الجوارح وأعمال القلوب (¬1)، كل مَنْ جَاءَ إلى الله يوم القيامة بالخصلة الحسنة من طاعة الله من [كل] (¬2) خصلة ترضي الله (جل وعلا)، فالله (جل وعلا) يُضاعفه على أقل التقديرات عشر أمثالها، أي: فله عشر حسنات، كل حسنة مثلها، فأقل المضاعفة للمحسنين ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 275)، البحر المحيط (4/ 261). (¬2) في الأصل: ((جميع)).

عشرة. ثم إنه بيّن في بعض المواضع أنه يضاعف إلى سبعمائة، وفي بعضها أنه يضاعف حسب مشيئته بحيث لا يعلمه إلا هو حيث قال في المضاعفة إلى سبعمائة: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فجاءت الحبة بسبعمائة حبة، وهي مضاعفة الحسنة بسبعمائة. ثم قال: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: آية 261] أي: يضاعف لمن يشاء من الأضعاف ما شاء، فأقَلّ المضاعفة عشر حسنات، إلى سَبْعِمِائة، إلى ما شاء الله. فتوضع الحسنة في الميزان بعشر حسنات. ثم قال: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ} أي: بالخصلة السيئة التي تسوء صاحبها إذا رآها في صحيفته يوم القيامة {فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} فجزاء السيئة سيئة واحدة مثلها، وجزاء الحسنة على أقل التقديرات عشرة أمثال، فمن غلبت آحاده عشراته فلا خير فيه، ولا يهلك على الله إلا هالك؛ لأن هذه الحنيفيَّة السمحة التي جاء بها سيد ولد آدم (عليه الصلاة والسلام) هَيَّأَ الله فيها طريق الجنة ويَسَّرَها تيسيراً عجيباً، رفع فيها الأثقال والآصَار والتَّكَالِيفَ، من شقّ عليه السفر فليفطر، وليقصر الصلاة (¬1)، ومن لم يقدر على الصلاة قائماً صلى قاعداً، وهكذا في أنواع التخفيف، فمع هذا فالحسنة تكتب له بعشر حسنات كل حسنة مثلها، والسيئة إنما تكتب عليه سيئة واحدة مثلها، ومن هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، بل قد تكون حسنة، إن كان تركه لها ¬

(¬1) معلوم أن القصر والفطر في السفر لا يتوقفان على وجود المشقة.

لأجل ابتغاء مرضاة الله، فهذه الآيات من أعظم المبشرات للمسلمين؛ لأن جميع حسناتهم عند الوزن الذي قال الله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: آية 8] إذا كانت حسنتك تضاعف عشر مرات، وسيئتك إنما تُجازى بسيئة واحدة مثلها، ففي هذا أعظم البشارة للمسلمين، وعليهم أن يكثروا من الحسنات. ومن الحِكَم العظيمة وجوامع الكلم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا» (¬1) يعني: إن صدرت منك سيئة فأتبعها بحسنة؛ لأن السيئة تُجعل في كفة الميزان سيئة واحدة؛ وتجعل الحسنة في الكفة الأخرى عشر حسنات فيثقل وزنها عليها، وهذا معنى قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: آية 160] أصل الحسنة: هي الصفة المشبهة من حسُن يحسن، فهو حسَن، والأنثى حسنة، وقد جَرَتْ عادة العرب بأن يجعلوا لفظ الحسنة والصالحة كأنهما اسما جنس للخصلة الطيبة والفعلة الكريمة، حتى كادوا يتناسون الوصفية فيهما، ومنه هنا: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} أي: بالخصلة الحسنة، فَحُسْنها هو كونها تُرضي الله (جل وعلا)، وتطابق ما أمر به ونهى عنه، وقد وعد الثواب عليها، وكذلك قال: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البقرة: آية 25] فالصالحة كالحسنة؛ أي: هي الخصلة التي هي صالحة؛ لأن الله أمر بها، ووعد فاعلها الخير، وهذا معروف في كلام العرب، أما في الحسنة فمشهور، وأما ¬

(¬1) أخرجه أحمد (5/ 153، 158، 177)، والترمذي: كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس، حديث رقم: (1987)، (4/ 355) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وانظر: السلسلة الصحيحة (3/ 361 - 362)، صحيح الترمذي (2/ 191)، المشكاة رقم: (5083).

في الصالحة فمعروف في كلام العرب، ومنه قول الحطيئة (¬1): كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي أي: خصلة طيبة. وقول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): بِنْتُ الْأَمِينِ جَزَاهَا اللهُ صَالحةً ... وَكُلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِالَّذِي عَلِمَا وسُئل أعرابي عن الحب ما هو؟ فقال (¬3): الحُبُّ مَشْغَلَةٌ عَنْ كُلِّ صَالِحَةٍ ... وَسَكْرَةُ الحُبِّ تَنْفِي سَكْرَةَ الْوَسَنِ فالصالحة، والحسنة، والسيئة كأنها أسماء أجناس، ثنتان للخصلة الطيبة، وواحدة للخصلة الخبيثة. وأصل السيئة (¬4): (سيوِئَة) ووزنها بالميزان الصرفي: (فَيعِلَة) فـ (ياء) (الفَيعِلَة) زائدة، اجتمعت هي والواو التي في مكان العين؛ لأن أصلها من (سَوَأ) فمادة الكلمة: فاؤها سين، وعينها واو، ولامها همز (سَوَأ)، فقيل في السيئة: (سيوِئة) على وزن (فَيْعِلة) اجتمعت ياء (الفَيعِلة) الزائدة، والواو التي في محل العين سكنت إحداهما قبل الأخرى سكوناً غير عارض، فأُبدلت الواو ياء على القاعدة التصريفية المشهورة، فقيل: (سيئة) فالياء الأولى زائدة، والثانية مُبْدَلة من الواو التي في محل عَيْنِ الكَلِمَة (¬5). ¬

(¬1) البيت في شواهد الإنصاف ص 126، الدر المصون (1/ 211). (¬2) البيت في طبقات ابن سعد (8/ 21)، الاستيعاب (4/ 312)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (29/ 44)، أعلام النساء (2/ 110). (¬3) البيت في الأضواء (4/ 9). (¬4) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 146. (¬5) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن الكريم ص (146).

والسيئة: هي الخصلة التي تسوء صاحبها إذا رآها في صحيفته يوم القيامة (¬1). {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران: آية 30]. {فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} ومن هنا تعرفون أن ما يجري على ألسنة العامة: أن السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف الحسنات، أن ذلك الإطلاق لا يجوز؛ لأن مضاعفة السيئات ممنوعة قطعًا؛ لأن الله يقول: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} وهو نص صريح قرآني في أن السيئات لا تُضَاعَف، ولكن السيئة في حرم مكة مثلا تعظم؛ لأن السيئة تعظم بحسب عظم الزمان والمكان، فإذا عظمت السيئة عظم جزاؤها؛ لأن الجزاء بحسب الذنب، إذا عظم الذنب عظم الجزاء، وإذا صَغُرَ الذنب صغر الجزاء، فهو من عظم الذنب، وعظم الجزاء تبعاً لعظم الذنب، لا من المضاعفة؛ لأن السيئات لا تضاعف، ولكنها تعظم وتكون أكبر في زمان من زمان، وفي محل من محل؛ ولذا قال في حرم مكة: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: آية 25] وقال في الأشهر الحرم: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثم قال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: آية 36] مع أن ظلم النفس في غيرهن حرام (¬2). وهذا معنى قوله: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: والجميع لا يظلمون، فلا يُزاد في سيئات المسيئ، ولا يُنقص من حسنات المحسن، بل حسنات المحسن تُزاد، وسيئات ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: سوأ) (441). (¬2) انظر: زاد المعاد (1/ 51).

المسيئ إما أن يُعفى عنها أو يُتجاوز، وإن عُومل بها عُومِلَ بِوِزْرِهَا فَقَطْ عَدْلاً وإِنْصَافاً. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (161)} [الأنعام: آية 161]. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي} قرأه الجمهور: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفتح اثنان من السبعة منهما نافع: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1) {دِيناً قِيَماً} قرأ أربعة من السبعة، وهم الكوفيون الثلاث: عاصم، وحمزة، والكسائي، والشامي- وهو ابن عامر-: {دِيناً قِيَماً} بكسر القاف وفتح الياء مخففة. وقرأ الحرميان، أعني: نافعًا وابن كثير، والبصري-وهو أبو عمرو- قرؤوا: {دِيناً قَيِّماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (¬2). وقرأ جمهور القراء ما عدا هشاماً عن ابن عامر: {إِبْرَاهِيمَ} بكسر الهاء ممدودة بياء، وقرأ هشام عن ابن عامر: {إبراهام حنيفًا} بفتح الهاء ومدها بألف، وهما لغتان في إبراهيم صحيحتان، وقراءتان سبعيتان صحيحتان (¬3). لما بيّن الله انقسام الخلق إلى مُهْتَدٍ وضَالّ، ومفرقين دينهم شيعاً ومهتدين، أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يُصَرِّحَ عَلَى رؤوس الأشهاد أنه لم يتبع السبل الزائغة، ولا الطرق الضالة، وأنه على الهدى المستقيم، والمحجَّة البيضاء التي هداه إليها ربه، قل يا نبي الله: ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص (206). (¬2) انظر: المصدر السابق ص (205). (¬3) انظر: السبعة لابن مجاهد 169، الموضح (1/ 299 - 301)، الإقناع لابن الباذش (2/ 602)، النشر (2/ 221)، البدور الزاهرة (113).

{إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي} أي: أرْشَدَنِي ودَلَّنِي ووَفَّقَنِي لِلْعَمَلِ {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. الصراط في لغة العرب: الطريق الواضح (¬1)، ومنه قول جرير (¬2): أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه، طرفه بيد المسلمين، وطرفه الآخر في الجنة. وقوله: {دِيناً} أعربوه أعاريب مختلفة (¬3)، أجودها: أنه بدل محل من قوله: {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لأنه مجرور في محل نصب، والأصل: (هداني ربي صراطًا مستقيماً) لأن (هدى) تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها دون حرف الجر، كقوله: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (118)} [الصافات: آية 118] {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6)} [الفاتحة: آية 6] {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [الفتح: آية 20] وقد يتعدى بـ (إلى) كقوله هنا: {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وقد يتعدى بـ (اللام) إلى المفعول الثاني، كقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: آية 9] فهو وإن جُر بـ (اللام) أو بـ (إلى) فهو في محل نصب؛ لأن الفعل يتعدى إليه بنفسه، ومعروف أن مراعاة المحل في الإعراب أمر معروف: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (87) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 282)، القرطبي (7/ 152)، البحر المحيط (4/ 262)، الدر المصون (5/ 238).

وَجُرَّ ما يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ ... رَاعَى في الاتْبَاعِ المَحَلَّ فَحَسَنْ (¬1) كما قاله ابن مالك في الخلاصة، فقوله: {هَدَانِي رَبِّيَ إِلَى صِرَاطٍ} مجرور في محل نصب، إذ (هداني) تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، فكأنه قال: (هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً) فـ (الدين) بدل من (الصراط المستقيم) وهو بدل محل؛ لأنه منصوب أُبدل من مجرور، لكن المجرور في محل نصب. وأعربه بعضهم حالاً من (الصراط) أي: إلى صراط مستقيم في حال كون ذلك الصراط المستقيم ديناً قيماً، والنكرة إذا نُعِتَت أو خُصصت جاز مجيء الحال متأخرة منها. وبعضهم قال: هو منصوب بـ (هداني) بتضمينها معنى (عرفني)، ولا يخلو من بعد، وفيه أعاريب غير هذا أظهرها ما ذكرنا. {هَدَانِي رَبِّيَ} أي: أرشدني وَوَفَّقَنِي إلى طريق واضح لا اعْوِجَاجَ فِيهِ. {دينًا قيّماً} على قراءة: {قيّماً} فهو الصفة المشبهة من: قَامَ، يقوم، فهو قَيّم، بمعنى: اسْتَقَامَ، يَسْتَقِيم، فهو مستقيم، والعرب تطلق (قام) وتريد: استقام، ومنه: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} أي: مستقيمة على دين الحق {يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: آية 113]، فالقَيِّم هو الصِّفَة المشبهة من: قام، يقوم، بمعنى: استقام، يستقيم، فهو كالتوكيد لما قبله. وقال بعضهم: هذا الدين (قيّم) معناه: أن اتِّبَاعه يقوم بشؤون الدين، وينظم علاقاتها ومصالحها في الدنيا والآخرة، من ¬

(¬1) الخلاصة ص (39).

قولهم: فلان قَيِّم على أهله، أي: قائم بمصالحهم وشؤونهم، ودين الإسلام جامع بين الوَصْفَيْنِ، هو قيِّم يعني بأحوال الدنيا والآخرة؛ لأن مُتَّبِعَه يصلح له جميع أموره من جميع الجهات في دنياه وأخراه. وعلى أنه (فَيْعِل) من قام بمعنى: استقام، فهو أيضًا في غاية الاستقامة، وهو كالتوكيد لما قبله. أما على قراءة عاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر: {دِيناً قيّماً} فالقِيَمُ هنا مصدر قليل، كقولهم: كبُر كِبراً، وعَظُم عِظَمًا، وشَبعَ شِبَعاً، وقام قِيَماً، فهو مصدر بمعنى (القيام) نُعت به، و (قام) التي مصدرها (قِيَماً) هنا من (قام) التي بمعنى (استقام)، فهو راجع في المعنى إلى الأول، إلا أنَّه من النعت بالمصدر، والعرب إذا نعتت بالمصدر كقولهم: رجل كَرَم، وفلان عَدْل؛ لأن العدل مصدر، إذا نعتت بالمصدر فقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: ذو قِيَم؛ أي: استقامة، زيد كَرَم؛ أي: ذو كَرَم، أو كأنهم بالغوا فيه حتى جعلوه عين القِيَم، بمعنى الاستقامة، وكأنهم بالغوا في كرم زيد حتى جعلوه عَيْنَ الْكَرَمِ. الثاني: أن المصدر المُنَكَّرَ يؤول بالوصف، فيرجع معنى المصدر إلى معنى (قيِّماً)، الذي هو الصفة المشبهة من (قام)، فيرجع معنى الأقوال إلى شيء واحد؛ لأن النعت بالمصدر معناه: ذو قِيَم؛ أي: استقامة، أو هو استقامة بعينه، كأنه لشدة استقامته سُمِّيَ (استقامة) لشدة استقامته، أو لأنه مصدر أُريد به الوصف، فيكون (قِيماً) بمعنى: قيِّماً. هذه الأقوال الثلاثة معروفة في النعت

بالمصدر، كما قال في الخلاصة (¬1): ونَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيراً ... فَالْتَزَمُوا الْإِفَرَادَ وَالتَّذْكِيرَا فعلى قراءة (قِيَماً) فهو من النعت بالمصدر، فالقِيَم: مصدر كالشِّبَعِ، والصِّغَرِ، والكِبَر، وعلى قراءة من قرأ {قَيِّماً} فالأمر واضح (¬2). وقوله: {مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} هذه بدل من الدين (¬3)؛ لأن الدين القيم هو ملة إبراهيم، والملة: الشريعة والطريقة، قال بعض العلماء: اشتقاقها من (الإملال)، و (الإملال) بلامين، وهو ما يسمونه الإملاء -بالهمزة- أن تلقي على الكاتب جملة فيكتبها، ثم تُملي عليه جملة أخرى فيكتبها، ومنه قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: آية 282] {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: آية 282] معنى أنه يملل، أي: يُلقي على الكاتب جمل عقد المداينة حتى يكتبها، أبدلوا اللام الأخيرة همزة، فجعلوه إملاء، وأصله (إملال) قالوا: لأن الملة -وهي الشريعة- تنزل جُمَلاً جُمَلاً جُمَلاً حتى تتم (¬4) كما وقع في ديننا، فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلاً قبل الهجرة، ثم فُرِضَتِ الزَّكَاةُ والصيام في عام اثنين من الهِجْرَة، وفُرِضَ الحَجّ في عام تسع على أصَحِّ الأقْوَال، شيئاً بعد شيء حتى تَتِمَّ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام. (¬2) انظر هذه القراءات وتوجيهها في: المبسوط لابن مهران ص 205، ابن جرير (12/ 282)، حجة القراءات ص 278، القرطبي (7/ 152). (¬3) انظر: الدر المصون (5/ 238). (¬4) انظر: المفردات (مادة: ملل) 773.

وقوله: {إِبْرَاهِيمَ} هو نبي الله إبراهيم، الذي جعله الله للناس إماماً، وشهد له شهادته بالوفاء {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: آية 37] {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: آية 124] وقيل لنبيّنا: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم} [النحل: آية 123] وقيل له هنا: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مِلَّة إبراهيم. وهنا سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم: دلت هذه الآيات على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمر أن يتبع ملة إبراهيم، والمتبوع أفْضَل مِنَ التابع، فإذاً قد يكون إبراهيم أفضل من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، حيث أمر باتباعه (¬1)؟ والتحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الخلق، وأفضل البشر، وأفضل من خلق الله، وأفضل من إبراهيم، ومن عامة الرسل، وسيظهر فضله على الرسل يوم القيامة، وقد ظهر ذلك فيما مضى؛ لأنه (صلوات الله وسلامه عليه) ليلة الإسراء لما اجتمع بالرسل -أرْوَاحُهُمْ مُجَسَّدَة بصور أجسادهم- وخاطبوه وكَلَّمَهُمْ، ارْتَفَعَ حَتَّى بَلَغَ مقاماً أعلى من مقاماتهم، ولما نزل إلى الأرض في بيت المقدس، في محل مبعث الرسل وديارهم صار إماماً للجميع بإشارة من جبريل (¬2)، ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام. (¬2) حديث الإسراء والمعراج مستفيض مشهور مُخَرَّج في الصحيحين وغيرهما، وقد رواه جماعة من الصحابة، أما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء فذلك ثابت في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم، حديث رقم: (172)، (1/ 156 - 157). وأما ما روي من تقديم جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليؤمهم في الصلاة فهو عند ابن سعد في الطبقات (1/ 143 - 144) وابن عساكر في تاريخ دمشق (مختصر ابن منظور 2/ 129 - 130) من حديث ابن عمر، وأم سلمة، وعائشة، وأم هانئ، وابن عباس (رضي الله عنهم) (دخل حديث بعضهم في بعض). وانظر الدر المنثور (4/ 149). وساق في الدر (4/ 154) عن علي (رضي الله عنه) بنحو هذا المعنى، وعَزَاه للبزار، وأورد (4/ 154) من رواية ابن الحنفية نحوه -أيضاً- وعزاه لأبي نعيم في الدلائل. وقد ورد هذا المعنى في حديث أنس عند النسائي في الصلاة، باب: فرض الصلاة. حديث رقم: (450)، (1/ 221 - 222)، قال ابن كثير (3/ 5 - 6) من التفسير: «وفيها -أي الرواية- غرابة ونكارة جدّاً». كما أورد ابن كثير (3/ 6 - 7) رواية عند ابن أبي حاتم تدل على ما سبق، وعقبها ابن كثير بقوله: «هذا سياق فيه غرائب عجيبة» اهـ.

فتبين أنه سيدهم في السماوات والملأ الأعلى، وسيدهم في الأرض (صلوات الله وسلامُه عليه). والجواب عن هذا: أن أمره باتباع إبراهيم مما يدل على أفضليته عليه؛ لأن كل ما كان عند إبراهيم من الشرائع التي وَفَّاهَا وحَازَ بِهَا الفَضْل يُؤمر هو باتباعها، فيساويه فيها، ثم يُزَاد بِتَشَارِيع وأمور عظيمة لم تنزل على إبراهيم ولم تَكُنْ فِي شَرْعِهِ، فيأخذ ما عنده ثم يزيد عليه، ومن هنا يتبين الفضل، وأن أمره باتباع الرسل في هذه السورة الكريمة سورة الأنعام الذي قدمناه في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90] أنه يقتدى بما عندهم من الهدى، ثم يُزاد مِنْ أنْوَاع الهدى أشياء عِظاماً لم تكن عندهم ولم يُعْطوها، فيظهر فضله على الجميع (صلوات الله وسلامه عليه).

وقوله جل وعلا: {مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} {حَنِيفاً} هنا حال من إبراهيم (¬1)، والمعروف أن الحال لا تكون من المضاف إليه إلا إذا كان المضاف هو عامل الحال، أو كان المضاف كأنه جزء من المضاف إليه كما هنا، أو شبه الجزء (¬2)، بدليل أنه لو حُذف لمَا ضَرَّ، لو قلت مثلاً: ديناً قيّماً مِلَّة إبراهيم، لو قلت: اتبعوا إبراهيم، لكفى عن: اتبعوا ملة إبراهيم. والحنيف في لغة العرب: أصله الذي به حَنَف، وأصل الحَنَف في لغة العرب: هو أن يميل القدم الأيمن إلى جهة القدم الأيسر، والقدم الأيسر إلى جهة القدم الأيمن، فيكون في كلتا الرجلين اعْوِجَاجٌ، كل منهما تَعْوَج إلى الأخرى (¬3)، فيقال للرجل: أحْنَف، وللمَرْأة: حَنْفَاء، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم كذلك، وفيه سُمِّي الأحْنَف، وكانت أمه تُرقصُه وهو صبي، وهي تقول (¬4): واللهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ هذا أصل الحَنَف، وصار أكثر ما يُستعمل الحَنَف في الميل عن الأديان الباطلة إلى الدين المستقيم (¬5)، فالحَنِيفُ: المَائِل عن كل دين بَاطِل لا يُرضي الله إِلَى الدين المستقيم الذي يرضي الله، فهذا معنى كون إبراهيم {حَنِيفاً} أي: مائلاً صَادّاً عن جميع الأديان الباطلة إلى ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 152)، البحر المحيط (4/ 262). (¬2) انظر: ضياء السالك (2/ 229). (¬3) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام. (¬4) السابق. (¬5) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام.

الدين المستقيم الذي يُرْضِي اللهَ جَلَّ وَعَلَا. {ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} نفي هذا الكون الماضي، بأن الله نفى عن إبراهيم الشرك في الكون الماضي، معناه: أنه لم يقع منه كَوْنُ الشِّرْكِ فيما مضى أبداً، وهذا حق لا شَكَّ فيه، والآيات الدالة عليه كثيرة، كقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (123)} [النحل: آية 123] وهذا يكثر في القرآن -نفي كون الشرك الماضي عن إبراهيم- وبهذه الآيات وأمثالها في القرآن من تَبْرِئَةِ إبراهيم من شرك ماض أبداً، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} [الأنبياء: آية 51] تعلمون أنه غَلِطَ كِبَارٌ مِنْ كِبَارِ العُلَمَاءِ، منهم كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري، والروايات المرْوِيَّة عن ابن عباس وغيره من أجلاء علماء التَّابِعِين، أنها كلها غلط لا شَكَّ فِيهِ؛ وذلك لأنهم زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ إبراهيم المتقدم في الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] زَعَمُوا أنه كان يظن أنه ربه وقت قوله ذلك، ولو كان يَظُن ربوبية الكوكب لكان من أشد المشركين شركاً، والله ينفي عنه الشرك في الكون الماضي، فدَلَّ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} في آيات كثيرة، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء: آية 51] أن قوله في الكوكب: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} أنه ما كان يظن ربوبية الكوكب أبداً، إذ لو كان يظنها لكان سبق عليه شرك ماض، وظَنُّ ربوبيَّة غير الله هو أكبر أنواع الشرك وأكفرها، والله يقول: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: آية 66] فقول ابن جرير: إن إبراهيم كان يظن رُبُوبِيَّة الكوكب أولاً، وروايته لهذا عن ابن عباس وجماعة

غلط فاحش لا شك فيه (¬1)؛ لأن الله يقول عن إبراهيم: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} ونفي الشرك في الكون الماضي يدل على الاستغراق؛ لأنه من المعروف عند العلماء أن الفعل قسمان: فعل حقيقي، وفعل صناعي. أما الفعل الحقيقي فهو الذي يسميه علماء النحو بالمصدر، وهو الحدث المتجدِّد، كالضرب والكلام والقعود، والفعل الصناعي: هو المعروف في صناعة النحو بالفعل، مما يسمونه: ماضياً، أو مضارعاً، أو فعل أمر، وهذا الفعل الصناعي عند عامة النحويين ينْحَلّ عن مصدر وزمن (¬2)، وبيَّنه في الخلاصة بقوله (¬3): المَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ ... مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ وعند المحققين من علماء البلاغة كما حَرَّرُوه في مبحث الاستعارة التبعية: أن الفعل الصناعي يَنْحلّ عن مصدر، وزمن، ونسبة، فالمصدر كامن في جوفه إجماعاً (¬4). وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (كان) فعل صناعي، فعل ماض ناقص يكمن في جوفه مصدره قطعاً، ففيه نَفْيُ كَوْنِ الشِّرْكِ المَاضِي قطعاً، نفياً باتّاً من الله، فلم يكن من إبراهيم شرك ألبتة، كما صرح به الله في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} في آيات كثيرة. ولا شك أن طالب العلم يخطر في ذهنه الآن أن يقول: برَّأْتُمْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة .. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬4) انظر: جواهر البلاغة ص 310، الكليات (102).

إبْرَاهِيمَ من كل شرك ماض؛ لأن الله نَفَى كَوْنَ الشرك الماضي عنه، وهو يستغرق ماضي الزمن إلى الأزل، ولكن ماذا تقولون في قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76]؟ والجواب: قَرَّرْنَاهُ في محلِّهِ مِنْ هَذِهِ السورة (¬1)، وسنُلم بنموذج قليل منه، منه: أن هذا إنما قاله نبي الله إبراهيم على سبيل التنازل الجدلي، ليمكنه إفحام خصمه؛ لأن من أمهات الجدل أن تُسلم الكذب المحض لخصمك ليمكنك إفحامه؛ لأن إبراهيم لو قال أولاً: الكوكب لا يمكن أن يكون ربّاً. لقالوا: أنت رجل جاهل كذاب، الكوكب رب، ولم يحصل شيء، فكأنه قال: سلمنا على زعمكم الكافر الكاذب الباطل، هذا ربي! أي: على زعمكم الكافر الملحد الفاجر، فَلِمَ يأفل؟ وكيف يأفل الرب ويسقط؟! ولذا قال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} فلو لم يتنازل ويُسلمهم التسليم الجدلي ويقل لهم: هذا ربي؛ أي: فرضاً على كُفْرِكُمْ وقَوْلِكُم البَاطِل، لو لم يتنازل هذا التنازل لما أمكنه إفحامهم كما يقول الله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: آية 22] {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَّابْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء: آية 42] أي: لو كان ربًّا لما كان آفلًا! ولو لم يُظهر لهم بعض الموافقة للكذب الباطل لما أمْكَنَهُ إفْحَامُهُم. والوجه الثاني: أن همزة (¬2) الاستفهام الإنكاري محذوفة دل المقام عليها، والأصل: أهذا ربي؟! وهمزة الاستفهام إذا دل المقام ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة. (¬2) السابق.

عليها جاز حذفها. والدليل عليها وعلى أن إبراهيم ما كان ظانّاً ربوبية الكوكب هو عظم إبراهيم، وشهادة الله له في القرآن أنه لم يكن مشركاً قط، وفي نفس الآية قرائن واضحة قاطعة على أنه ما كان يظن الكوكب ربّاً؛ لأن الله قال في أول الآيات: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: آية 75] فلما حكم له بأنه من الموقنين الذين لا يخالج يقينهم شك رتب على ذلك بالفاء قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] فكيف يظن أنه ربه والله يقول: {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ} فرتب على كونه من الموقنين قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} وهمزة الاستفهام حذفها مطرد إذا كان مع (أم) لا نزاع فيه. وزعم الأخفش الصغير -أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير- أن حذف همزة الاستفهام إذا دل عليه قرينة أنه مطرد في اللغة العربية قياسي لا يحتاج إلى سماع، ومن أمثلته في القرآن: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: آية 34] والمعنى: أفإن مِتَّ أفهم الخالدون؛ لأن محل استفهام الإنكار في قوله: «أفَهُمُ الخالِدُونَ» وهو كثير في كلام العرب دون (أم)، ودون ذكر الجواب، ومع (أم)، ومع ذكر الجواب (¬1). فمن أمثلته دون (أم) ودون ذكر الجواب قول الكميت (¬2): طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ ... وَلَا لَعِباً مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة.

يعني: أوَذو الشيب يلعب؟ فحذف همزة استفهام الإنكار. ونظيره قول الآخر واسمه خويلد (¬1): رَفوني وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ ... فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ يعني: أهُم هُم؟ فحذف همزة الاستفهام على التحقيق، وكما جزم به غير واحد. ومن أمثلته دون (أم) مع ذكر الجواب: قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي (¬2): ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا، قُلْتُ بَهْراً ... عَدَدَ النَّجْمِ والحَصَى وَالتُّرَابِ فقوله: «ثم قالوا: تحبها» يعني: أتحبها؟ فحذف همزة الاستفهام. أما هو مع (أم) فهو مُطَّرِد لا يخالف فيه أحد، وأنشد له سيبويه قول ابن يعفر التميمي (¬3): لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِياً ... شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ يعني: أشعيث بن سهم؟ ومنه في كلام العرب قول ابن أبي ربيعة المخزومي (¬4): بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ... وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ فَوَاللهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ ... بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة (¬4) السابق.

يعني: أبسبع رميت الجمر أم بثمان؟ ومنه قول الخنساء السُلمية الشاعرة، الخنساء بنت عمرو بن الشريد المشهورة (¬1): قَذًى بِعَيْنَيْكَ أَمْ بِالْعَيْنِ عُوَّارُ ... أَمْ خِلْتَ إِذْ أَقْفَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا الدَّارُ تعني: أقذى بعينك؟ ومنه قول أُحيحة بن الجُلاح الأنصاري (¬2): وَمَا تَدْرِي وَإِنْ ذَمَّرْتَ سَقْباً ... لِغَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيلُ يعني: ألغيرك؟ وقول امرئ القيس (¬3): تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَوْ تَبتَكِرْ ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِرْ وهو كثير في كلام العرب. والحاصل أن قوله هنا: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} يدل على نفي الشرك عن نبي الله إبراهيم في الزمن الماضي كله أبداً، وهذا معنى قوله: {مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}. {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: الآيتان 162، 163]. قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)} بفتح ياء {وَمَحْيَايَ} وسكون ياء {وَمَمَاتِي}، وقصر ألف {وَأَنَا} وعدم مدّها. وقرأ نافع وحده دون عامة القراء: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة.

وَمَحْيَايْ} بخلاف عن ورش فيه، واتفاق عن قالون: {وَمَمَاتِيَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بفتح ياء {وَمَمَاتِي} (¬1)، وقرأ -مثلًا-: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} وهي لغة تميم مدّ لفظة {وَأَنَاْ} وقرأه عامة القراء غير نافع: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} بلا مدّ {وَأَنَاْ} (¬2). والمعنى: قل لهم يا نبي الله، إن جميع عباداتي مُنْصَرِفَة إلى مَنْ خَلَقَنِي لا أشرك فيها غيره معه، فأنا مُوَحِّد صِرْفاً، مخْلِص لِرَبِّي في عِبَادَتِي {إِنَّ صَلاَتِي} إذا صليت {وَنُسُكِي} أكثر العلماء على أن النسك هنا معناه: النحر في الضحايا والهدايا، ونحري إذا نَحَرْت {لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، كقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: آية 2] وعلى هذا فالنسك خاص بالذبح (¬3). والمعنى: أنه لا يُنْحَر لِغَيْرِ اللهِ، ولا يُذْكَر عَلَى الذَّبِيحَة اسم غير الله، كَمَا لا يُصَلَّى لِغَيْرِ اللهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}. وقال بعض العلماء: {وَنُسُكِي} معناه: جميع عباداتي؛ لأن التنسك: التعبد، و (النسك) يطلق على جميع العبادات، ويدخل فيه دخولاً أَوَّلِيّاً: النحر والتقرُّب بالدم؛ لأن التقرب بالدماء في الضحايا والهدايا من أعظم القُرَب إلى الله، وصرفه لِغَيْرِ الله صَرْف لحقوق الخالق إلى المخلوق، وذلك معروف ما فيه، فعلى أن (النسك) خصوص الذبح فالآية كقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص (206). (¬2) انظر: السبعة لابن مجاهد 187، الموضح (1/ 338)، الإقناع لابن الباذش (2/ 610)، النشر (2/ 230 - 231)، البدور الزاهرة (114). (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 283 - 285)، أضواء البيان (2/ 284).

فخص هاتين العبادتين وغيرهما من العبادة مثلهما، وعلى أن النسك جميع العبادة فقد شمل الذبح وغيره (¬1). وهذا معنى قوله: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي}. {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} اختلف العلماء في معنى قوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} قال بعض العلماء: إن الذي يستحق مني أن أخصه بصلاتي وبنحري وبجميع عباداتي هو الذي بيده روحي، يملك مَوْتِي ويَمْلِكُ حَيَاتِي، إن شاء أمَاتَنِي وإن شاء أحْيَاني، فالذي يملك إحيائي وإِمَاتَتِي هو رَبِّي ومَعْبُودِي الذي يَحِقّ لي أن أُخْلِصَ له حقه في عبادته. وقال بعض العلماء: {وَمَحْيَايَ} هو ما قَدَّمْتُ في حياتي مِنْ جَمِيعِ الأعمال الصالحة مخلصاً فيه لله وحده (¬2). {وَمَمَاتِي} قيل: هو ما أَوْصَيْتُ أَنْ يُفعل بعد مماتي من إجراء قُرُبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ تجري عَلَيَّ، كل ذلك مخلص فيه لله. أو {وَمَمَاتِي} أي: ما جَاءَنِي عليه الموت من الأعمال الصالحات التي أدْرَكَنِي المَوْتُ وأَنَا مُقِيمٌ عَلَيْهَا، كما قال نبي الله يعقوب: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: آية 132] كل ذلك مخلص فيه لله (جل وعلا) وحده لا أشرك معه غيره (¬3). [25/ب] وهذا تعليم لنا أننا نخلص [عبادة] (¬4) / خالقنا له (جل وعلا) ولا نشرك معه فيه غيره؛ لأنه أغْنَى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 152)، أضواء البيان (2/ 254). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 152)، البحر المحيط (4/ 262). (¬3) انظر: المصدرين السابقين. (¬4) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

من أحد أشرك معه غيره، وكل شيء يغفره إن شاء إلا الإشراك به {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] وهذا معنى قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ} في شيء من ذلك، لا شريك يُصلى له غيره، ولا شريك يُنحر ويتقرب إليه بالنحر غيره، ولا شريك يُميت ويُحيي غيره، ولا شريك يقام على الأعمال لرضاه مخلصاً له في الحياة غيره، ولا شريك يُوصَى بالأعمال الصالحة بعد الممات يُراد بها رِضَا شريك غيره، بل هو وحده الذي له الإخلاص في جميع ذلك كله، ثم قال: {وَبِذَلِكَ} الذي ذكرت لكم من إخلاص العبادة لله طول أيام الحياة، وما يُوصى به بعد الممات، وما يموت عليه الإنسان من الأعمال، إخلاص التوحيد والقُرَب لله في ذلك وحده {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} هكذا أمرني ربي، وأنا عبد مأمور، وقد أمرني بالإخلاص له في جميع عباداتي. فعلينا أن نعلم أن هذا الذي أُمر به سيدنا - صلى الله عليه وسلم - من تحقيق العبودية لله، وإخلاص حقوق الله لله، وتحقيق معنى (لا إله إلا الله) علينا أن نتبع فيه نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}، قوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} أي: أول المسلمين من هذه الأمة؛ لأنه هو الذي دَعَاها إلى الإسلام، فهو أول مَنْ أسْلَمَ؛ لأنه نزل عليه الوحي فآمَنَ به ثم قام يدعو الناس إليه، أي: من هذه الأمة لا مِنْ جَمِيع الناس. أما المسلمون قبله من الأمم الأخرى فهم كثير جدّاً، وكل الأنبياء قبله مسلمون، وهذا نبي الله إبراهيم يقول الله فيه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: آية 131] وهذا نبي الله نوح

يقول: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (72)} [يونس: آية 72] وهذا نبي الله يوسف يقول: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: آية 101] والله يقول: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} [المائدة: آية 44] وأمثال هذا في القرآن كثيرة، فالمسلمون قبله كثير، ودين الإسلام قبله منتشر في شرائع الرسل. ومعنى {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} أي: من هذه الأمة التي بعثني الله بشيراً ونذيراً إليها. {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [الأنعام: آية 164]. {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} يقول علماء التفسير: إن سبب نزول هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام: أن المشركين قالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اعبد معنا آلهتنا مرة ونعبد معك إلهك مرات أُخرى، فأمره الله أن يُنكر عليهم هذا القول، ويقول لهم: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً} والمعنى: أأبغي ربّاً غير الله حتى أعْبُدَ صنماً وأتخذه ربّاً؟ لا يمكن أن يكون هذا مِنّي، {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} يعني: لا أبْغِي ربّاً غير الرب الذي هو الرب الحقيقي، الذي هو رب كل شيء، أي: خالق كل شيء، ومدبر شؤون كل شيء، إليه المرجع والمآبُ، هو وحْدَهُ الَّذِي هو رَبّي؛ لأن غيْرَهُ مخْلوق مربوب مملوك له (جل وعلا)، وهذا معنى قوله: {أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وإنما قدم المفعول؛ لأن محلّ الإنكار مُنْصَبٌّ على غيريّة الله، واتخاذ الربوبية إنكاره منصب على غيريّة الله؛ ولذا قَدَّم غير الله؛ لأنه محل مصب الإنكار، والحال

هو -أي: الله- {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} فالذين تدعونني أن أعبدهم هم مخلوقون لله، ومربوبون له، فهو رب كل شيء، ومعبود كل شيء، فهو المعبود وَحْدَهُ، فلا أعبد غيره، ولا أتَّخِذُ غَيْرَهُ رَبّاً. ثم قال: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} والمعنى: لا تَكْسِبُ كل نفس ذنباً إلا عليها. {كُلُّ نَفْسٍ} يعني لا تكسب ذنباً إلا على نفسها، وأنا إن عبدتم أنتم الأصنام فضَرَرُ ذَلِكَ عليكم، وإنما يضرّنِي لو كنت وافقتكم؛ ولذا قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} العرب تقول: وَزَرَ الذنب: إذا تحمّلَهُ، أي: ولا تحمل نفس وازرة، أي: مُذْنِبَة متحمّلة للآثام، لا تحمل وِزْرَ ذَنْبِ نفس أخرى، بل كل نفس عليها ذنبها، وهذا كالتأكيد لقوله: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} وهذا بَيِّن، ولو كانت أقرب الأنفس إلى النفس لا تحمل عنها من وِزْرِهَا شيئاً، كما يأتي في قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: آية 18] وكان بعض العلماء يقول: سبب نزول هذه الآيات: أنهم لما دعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يعبد معهم آلهتهم مرة ويعبدون معه إلهه مرات، وقنّطهم من ذلك، وأمره الله أن يقول: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} قالوا له: أنت وأصحابك اتبعوا سبيلنا واعبدوا معبوداتنا ونحن نتحمل عنكم جميع الآثام، ونضمن لكم خير الدنيا والآخرة، فكل ما يهمّكم في ذِممنا وعلينا، كما قال: إنهم قالوا: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: الآيتان 12، 13] أي: أثقال ضلالهم، وأثقال إضلالهم؛ ولذا قال هنا: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} فكسبنا وآثامنا لا تكون عليكم، ولا يمكن أن تتحملوها لو أطعناكم

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل نفس مذنبة -يعني- ذنب نفس أخرى، بل كل وعمله، والله لا يأخذ أحداً بعمل غيره، فالكل مؤاخذ بما عمل. وهذه الآيات فيها موعظة عظيمة وسؤال؛ أما الموعظة العظيمة: فهي أن يعلم الإنسان أن حركاته في الدنيا وسكناته أن ما فيها من نفع فهو عائد إلى خصوص نفسه، وما فيها من ضرّ فهو عائد إلى خصوص نفسه، فليجتهد الإنسان وقت إمكان الفرصة أن يُسَلِّم نفسه من البلايا، وأن يُكسبها الخيرات، فحركات الإنسان في دار الدنيا إنما يبني بها بيته الذي إليه مصيره الأخير، وهو إما غرفة من غرف الجنة أو سجن من سجون النار، فعلى كل مكلف أن يتأمل في نور القرآن في الحياة الدنيا في صحته وفراغه، ويعلم أن حركاته من أقواله وأفعاله ونيّاته وقصوده إنما يبني بها مقرَّه الأخير النهائي: إما غرفة من غرف الجنة، وإما سجن من سجون النار. الثاني: أن يُقال: في هذه الآية سؤال: لأن الله نص فيها أنه لا يؤاخذ أحداً بفعل أحد آخر، وقد جاءت مسألتان وقعت فيهما المؤاخذة بفعل الغير: إحداهما: تحمّل العاقلة للديّة، فقد يقتل رجل إنساناً خطأ فتُجعل الديّة على عاقلة ذلك الرجل، فيُكلفون بغرم لا ناقة لهم فيه ولا جمل، فهذه الأنفس قد أُخذت بذنب نفس أُخرى وهي لا ذنب لها فيه. الثاني: ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر (رضي الله

عنهما) أنه قال: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» (¬1) وهذا كأنه عُذب بفعل غيره، والحديث ثابت في الصحيح، وتكذيب عائشة لابن عمر في هذا الحديث -توهيمها له، وأنه غَلِطَ نظراً لهذه الآيات- غلَطٌ منها هي (رضي الله عنها)، والصواب مع ابن عمر؛ لأنه حافظ سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - غير شاك ولا متوهم (¬2). فهذان سؤالان: لِمَ وجبت الدية على العاقلة وهي من فعل غيرها؟ ولِمَ عُذِّب الميت ببكاء أهله وهو من فعل غيرِهِ؟ والعلماء أجابوا عن هذا بأجوبة، قالوا (¬3): أما العاقلة: فإن الإنسان القاتل خطأ لا ذنب عليه؛ لأنه لا يقصد شيئاً ولا مؤاخذة عليه عند الله إجماعاً؛ لأن الله يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: آية 5] ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَئاً} [النساء: آية 92] والكفارة التي وجبت عليه قال بعض العلماء: إنما هي مؤاخذة لعدم شدة التحفظ والتحرز أولاً والتسبب في عدم وقوع الخطأ، أما بعد وقوع ¬

(¬1) البخاري في الجنائز، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» إذا كان النوح من سنته، حديث رقم: (1286)، (3/ 151 - 152)، وطرفه في: (1287 - 1290، 1292، 3978). ومسلم في الجنائز، باب: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، حديث رقم: (928) (2/ 640)، وانظر الأحاديث الأُخرى التي أخرجها في الباب نفسه. (¬2) انظر: فتح الباري (3/ 154)، الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص (67). (¬3) انظر: المغني (9/ 489)، فتح الباري (2/ 246).

الخطأ فلا إثم فيه قطعاً. قالوا: هذا رجل مسلم لزمته دية، وهو لم يقصد سوءاً، ولم يقصد بها ذنباً ولا جريمة، فالله (جل وعلا) أمر عاقلته من أهل ديوانه -ممن يقول بالديوان- أو من عصبته- ممن يقصرها على العصبة- أمرهم أن يساعدوه، وخالق السماوات والأرض يُدبِّرُ على البعض من البعض، ويأمر البعض بمساعدة البعض؛ إكراماً وجرياً على مكارِمِ الأخلاق، كما أمر بأن تؤخذ الزكاة من أغنيائنا وتُرَدّ على فُقَرَائِنَا، فهذه إعانة محض، ومكارم أخلاق جاء القرآن بها معاونة لذلك الإنسان، كما أوْجَبَ الزَّكَاة؛ مساعدةً لِلْفَقِير، وما جرى مجرى ذلك. أما حديث ابن عمر فَلِلْعُلَمَاءِ عنه أجوبة كثيرة (¬1)، منها: أنهم حملوه على الميت الذي أوصاهم أن يبكوا عليه؛ أي: عرف أنهم إذا مات يبكون عليه ولم ينههم، وكانت هذه عادة العرب، ويوضحه قول طرفة بن العبد في مُعَلَّقَتِهِ (¬2): فَإِنْ مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ فهذا إذا شقّت عليه الجيب وبكت عليه فلا إشكال في تعذيبه ببكائها؛ لأنه أمره بها في الدنيا وهو من فعله، وكذلك من علم أنه إذا مات يفعلونه ولم ينههم، فهو مُتَسَبِّب بِعَدَمِ نَهْيِهِمْ. وقال بعض العلماء: تعذيبه ببكاء أهله أن أهله إذا بكوا عليه أن الله يُطلعه على ذلك ويأسف ويحزن من حزن أهله، إلى غير ذلك من الأقوال، وأظهرها الأول، وهذا معنى قوله: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ¬

(¬1) انظر: فتح الباري (3/ 152 - 155)، أحكام الجنائز للألباني ص 41 - 42. (¬2) شرح القصائد المشهورات (1/ 92).

إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} المرجع هنا: مصدر ميمي، بمعنى: الرجوع، والمصدر الميمي إذا لم يكن من مادة واوية الفاء يكون قياسه (مفعَل) بفتح العين (¬1)، فالقياس أن يكون (المرجَع) بفتح الجيم، ولكن هذا سماع مانع للقياس، فهو مصدر ميمي على (مفعِل) سماعاً لا قياساً، ومعناه: إليه رجوعكم يوم القيامة {فَيُنَبِّئُكُم} أي: يخبركم إخبار مجازاة {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بالذي كنتم تختلفون فيه، يعني: أهؤلاء الذين كانوا شيعاً وفرقوا دينهم واتبعوا الأهواء والضلالات، وهؤلاء الذين كانوا على الصراط المستقيم، مرجعهم جميعاً إلى الله، فيخبرهم بالحقيقة، ويبيِّن لهم الضَّال من المُهْتدِ، ويعاملهم بحسب ما كانوا عليه من هدى وضلال، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)} [الأنعام: آية 165]. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} قال بعض العلماء: هذه منّة تخص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَهُوَ} أي: الله {الَّذِي جَعَلَكُمْ} يا أمة محمد خلفاء الأرض؛ لأنه لا يأتي نبي بعد نبيكم، ولا شرع بعد شرعكم، فيكون الحكم في الأرض تبعاً لشرعه، بل شرعكم ودينكم هو الباقي الخالد في الأرض، المُحَكَّم في جميع مَنْ في الأرض؛ في دمائهم وأموالهم وأديانهم وأعراضهم وفروجهم فأنتم خير الأمم، وأنتم ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

خلفاء الأرض، لا يأتي شرع ينسخ شرعكم، ولا نبي بعد نبيكم، فأنتم خلفاء الأرض إلى يوم القيامة، وإن شرعكم باق، ونبيكم لا نبي بعده، ودينكم باق إلى يوم القيامة، وعلى هذا فالمنّة على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الامتنان يقتضي أن تعطوا الخلافة في الأرض حقها، وتقتفوا آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتخلِّفُوه خلافة حقّاً، فتُرضوا الله بأن تنفذوا أوامره في أرضه، وتضعوا العدالة في أرضه، وتجعلوا المحكّم في الدنيا نظامه الذي شرع، وتجعلوا كلمته هي العليا، وتستعدوا بكل قوة حتى تجعلوا كلمة الذين كفروا السفلى، فعلى هذا القول فهو منّة على هذه الأمة. وقال بعض العلماء: ( ... (¬1)). ••• ¬

(¬1) ملحوظة: انقطع التسجيل بعد هذا الموضع.

سورة الأعراف

سورة الأعراف قوله تعالى: {المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف: 1 - 3] قد تَكَلَّمنا فيما مضى مراراً على الحروف المقطعة في أوائل السور، وذكرنا كلام العلماء فيها، وسَنُلِمُّ هنا ببعض قليل منه. رُوي عن ابن عباس وغيره أن قوله: {المص (1)}: أنا الله أَفْصِل (¬1). كما روى عنه: «أنا الله أعلم» (¬2) في {الم}. ورُوي عن جماعة أن الألف واللام والميم والصاد أنها من أول اسمه المُصوِّر (¬3)؛ لأن اسمه المُصوِّر تحته غرائب وعجائب تُبْهِر ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (12/ 293)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص120، والنحاس في القطع والائتناف ص111، وإسناده ضعيف وعزاه السيوطي في الدر (3/ 67) لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وأبي مردويه. (¬2) أخرجه ابن جرير (1/ 207)، وابن أبي حاتم (1/ 27)، والنحاس في القطع والائتناف ص110 - 111، وإسناده ضعيف، وعزاه في الدر (1/ 22) إلى وكيع، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 293).

العقول، إذا رأيتم الناس يوم جمرة العقبة مجتمعة من أقطار الدنيا وجدتموها على صَبَّة واحدة: الأنف ها هنا، والعينان ها هنا، والفم ها هنا، على نمط وأسلوب واحد، مع أنه لم تشتبه صورة رجل بصورة رجل حتى لا يُفرَق بينهما، ولا صورة امرأة بصورة امرأة، فكل منهم له صورة يُطبع عليها، سابق علم الله بها، مُنفَّذ في تصويره بها. وهذا مما يدل على كمال وعظمة خالق السماوات والأرض. ولكن تفسير الحروف المقطعة بأنها تدل على حروف من أسماء الله، هذا التفسير وإن قال به بعض أهل العلم، وإن كان له أصل في الجملة في اللغة العربية؛ لأن من أساليبها: وضع الحرف مراداً به الكلمة، كما قال الراجز (¬1): قُلْتُ لهَا: قِفِي فَقَالَتْ لِي: قَافْ ... لاَ تَحْسَبِي أنَّا نَسِينَا الإِيجافْ يعني بقوله: «قاف» وقفت. ومنه قول الآخر (¬2): بِالخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرّاً فَا ... وَلاَ أُرِيدُ الشَّرَّ إِلاَّ أَنْ تَا يعني: وإن شرّاً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فجاءوا بالحرف واستغنوا عن الكلمة. لكن هذا التفسير لم يقم عليه دليل، ولا يجب الرجوع إليه. وقد يفتح باب هذا التفسير للباطنية الزنادقة حيث يفسرون الكلام برموز وألغاز غير مرادة. ¬

(¬1) البيت للوليد بن عقبة. وهو في ابن جرير (1/ 212)، تأويل مشكل القرآن ص308. (¬2) البيت لتميم بن أوس. وهو في ابن جرير (1/ 213)، الكتاب لسيبويه (3/ 321).

وقال بعض العلماء (¬1): إن معنى قوله: {المص (1)} أنه اسم لهذه السورة. وبعضهم يقول (¬2): اسم من أسماء الله. وبعضهم يقول (¬3): هو من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. وأظهر أقوال العلماء فيها -مع كثرتها وانتشارها أظهرها- قول واحد؛ لأنه دل عليه استقراء القرآن في الجملة، وما دل عليه استقراء القرآن فهو أقرب من غيره. والقول الذي دل عليه استقراء القرآن هو قول بعض العلماء: إن المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور: إظهار إعجاز القرآن، فكأن الله يقول للبشر: {المص (1)} هذه حروف من الحروف المتداولة بين أيديكم تركبون منها كلامكم، فلو كان هذا الكلام من عند غير الله وهو مُؤلَّف من حروفكم المتداولة بين أيديكم لكنتم تقدرون على تأليف مثله، فَلِما عَجَزْتُم عن تأْلِيف مثله وهو من الحروف المعْرُوفة لَدَيْكُمْ مركب منها، عرفنا بذلك أنه تنزيل من حكيم حميد لا مِنَ البَشَرِ. ووجه الاستقراء الذي دل على هذا القول: أن الله في جميع القرآن في جميع السور المبدوءة بحروف مقطعة لم تُذكر منها سورة واحدة إلا وجاء بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من شأنه، فدل هذا على هذا، ولم يخلُ من هذا في سائر القرآن إلا سورتان: سورة مريم، وسورة القلم، أما غير ذلك فلا تُذكر الحروف المقطعة إلا ذُكر بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من أمرهِ. قال في البقرة: {الم (1)} فأتبعه بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (1/ 206). (¬2) انظر: المصدر السابق (1/ 206)، (12/ 293). (¬3) انظر: المصدر السابق (1/ 209).

لِّلْمُتَّقِين (2)} [البقرة: الآيتان 1، 2] وقال في آل عمران: {الم (1) الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} فأتبعه بقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} الآية، [آل عمران: الآيات 1 - 3] وقال هنا في الأعراف: {المص (1)} ثم أتبعه بقوله: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: الآيتان 1، 2] وقال في سورة يونس: {الر} ثم أتبعه بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: آية 1] وقال في سورة يوسف: {الر} ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبين} [يوسف: آية 1] وقال في الرعد: {المر} ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ} الآية [الرعد: آية 1]، وقال في سورة الخليل: {الَر} ثم قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: آية 1]، وقال في سورة الحجر: {الَر} ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: آية 1] وهكذا في سائر القرآن إلا في سورة مريم والقلم؛ حيث أتبع الحروف المقطعة في سورة مريم في قوله: {كهيعص (1)} بقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)} [مريم: الآيتان 1، 2] وقال في القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: آية 1] مع أن هذه يُحتمل أن المراد بـ {وَمَا يَسْطُرُونَ} هو هذا القرآن العظيم؛ لأنه أعظم ما يُسطر، فيكون في مريم فقط. وقوله: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [لأعراف: الآية 2] أكثر العلماء على أن الكتاب خبر مبتدأ محذوف (¬1)، وحذف المسند إليه إذا دل المقام عليه نوع من الإيجاز معروف مقبول في النحو وفي المعاني، لا اختلاف فيه، وهذا هو الأظهر، أن قوله: {كِتابٌ} خبر مبتدأ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 295)، الدر المصون (5/ 241).

محذوف: هذا كتاب أُنزل إليك. خلافاً لمن زعم أن {المص (1)} اسم لهذه السورة، وأنه في محل مبتدأ، وأن {كِتَابٌ} خبره (¬1)، والمعنى: السورة المسماة {المص (1)} كتاب أُنزل إليك. والقرآن يطلق على كل سورة منه أنها كتاب وأنه كتب عديدة؛ لأنه مكتوب في صحف كثيرة، كما بينه تعالى في سورة البينة حيث قال: {رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة: الآيتان 2، 3] فعبر عن القرآن بأنه كتب قيمة. ولكن الأظهر هو ما عليه الجمهور: أن قوله: {كِتَابٌ} خبر مبتدأ محذوف: هذا كتاب. والكتاب (فِعال) بمعنى: (مفعول) والمعنى: كلام الله مكتوب، فالكتاب بمعنى المكتوب. وإنما قيل له كتاب: لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال الله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)} [البروج: الآيتان 21، 22] ومكتوب في صحف بأيدي الملائكة، كما قال تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)} [عبس: الآيتان 13 - 15] وكون الكتاب بمعنى المكتوب هو (فِعَال) بمعنى (مفعول). والقرآن وإن كان مكتوباً في اللوح المحفوظ فنزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ليس أن جبريل ينظر في اللوح المحفوظ (¬2)، بل الله (جل وعلا) يكلم جبريل بما يريد إنزاله من أنجم القرآن، فيسمعه جبريل من كلام الله على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله. وإذا تكلم الله ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 160)، الدر المصون (5/ 241). (¬2) للشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- رسالة بعنوان: (الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم) رد فيها على مَنْ زَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ (عليه السلام) أخَذَ القُرْآنَ من اللوح المحفوظ، وقد طُبعت مُسْتَقِلَّة، كما أنها ضمن المجموع في فتاواه (1/ 214).

بوحيه صعق أهل السماوات من عظمة كلام رب العالمين (جل وعلا) كما جاء مبيناً في الأحاديث الصحيحة (¬1)، وأول من يرفع رأسه منهم جبريل، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. فيسمعه جبريل من كلام رب العالمين، يتكلم به الله على الوجه اللائق بكماله وجلاله، المخالف لكلام خلقه من جميع الجهات، ثم يأتي جبريل فيكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأنواع الوحي بَيَّنَهَا النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث بكثرة. ولما كان هذا القرآن مكتوباً في اللوح المحفوظ، وفي الكتب عند الملائكة سُمِّي الكِتَاب. وقال الله فيه هنا: {كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيكَ} والكتاب (فِعَال) بمعنى (مفعول)، أي: مكتوب، وإتيان (الفِعَال) بمعنى (المفعول) مسموع في كلام العرب وليس قياساً مُطَّرِداً، وتوجد في العربية منه أوزان معروفة، ككتاب بمعنى: مكتوب، وإله بمعنى: مألوه، أي: معبود، ولباس بمعنى: ملبوس، وإمام بمعنى: مؤتم به. فكلها (فِعَال) بمعنى اسم المفعول. وأصل مادة الكاف والتاء والباء (كتب) في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناها الضم والجمع (¬2)، فكل شيء ضممت بعض أجزائه إلى بعض فقد كَتَبْتَهُ، ومنه قيل للكبكبة من الجيش: (كتيبة) لأنها طائفة من الجيش جُمع بعض أطرافها إلى ¬

(¬1) من حديث النواس بن سمعان، وابن مسعود، وأبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء عن ابن عباس، والضحاك، والشعبي مختصراً. كما جاء عن ابن مسعود موقوفاً. وقد خرجت جميع هذه الروايات في الدراسة التي وضعتها على مناهل العرفان (1/ 253 - 254)، فراجعه إن شئت. (¬2) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام.

بعض، كما قال نابغة ذبيان (¬1): وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ ولذلك قيل للخياطين: (كاتبين) فالعرب تسمي الخائط كاتباً، وتسمي الخياطة كتابة؛ لأن الخياط يضم أطراف الثوب بعضها إلى بعض، وكذلك الخَرَّاز تسميه العرب كاتباً؛ لأنه يضم بعض أطراف الجلد إلى بعض ويخرزها فيجمعها بالسير، فقيل له: كاتب؛ لأنه ضم بعض الأجزاء إلى بعض. وفي لُغَز الحريري في مقاماته (¬2): وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ ... حَرْفاً وَلاَ قَرَءُوا مَا خُطَّ فِي الْكُتُبِ يعني بهم الخياطين؛ ولذا تسمي العرب الخُرْزَة الذي يجمع السير وجهيها تسميها (كُتبة) وتسمي السير أيضاً الذي يجمعها (كُتبة) (فُعلة) من الكَتْب بمعنى الضم والجمع، ومن هذا المعنى وهو تسمية الخُرْزَة التي يجمع السير طرف وجهيها في خياطة الجلود أنها تسمى (كُتْبة) وتجمع على (كُتَب) بضم الكاف وفتح التاء، ومن هذا المعنى: قول غيلان ذي الرمة (¬3): مَا بَالُ عَيْنَيْكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ ... كَأَنَّهُ مِنْ كُلى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ ... وَفْرَاءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزهَا ... مُشَلْشَلٌ ضيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الكُتَبُ يعني أن دمعه يسيل بِكَثْرَةٍ؛ كما أن الخُرَز إذا اتَّسَعَتْ عَنِ السَّير وصارت فيها فجوات انْصَبَّ الماءُ مِنْهَا من السّقاء بكثرة؛ ولذا كانت العرب تقول: «اكْتُب بغْلتك، واكْتُب ناقتك» يعنون: أن يجمع طرفي ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام.

فرجها بحلقة لئلا يُنْزَى عليها الذكر فتحمل، وكان يقول الشاعر يهجو بني فزارة من قبائل ذبيان من قيس عيلان بن مضر، كانت العرب تعيرهم بأنهم كانوا يفعلون الفاحشة مع إناث الإبل، وكان الشاعر يقول (¬1): لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ ... عَلَى قُلُوصِكَ وَاكْتُبْهَا بِأَسْيَارِ يعني: خِط فرجها بأسيار لئلا يزني بها إن خلا بها، وقصدنا بهذا الكلام الخبيث بيان لغة العرب، لا المعاني الخسيسة التافهة؛ لأن معاني لغة العرب يُسْتَفَاد منها ما يعين على فهم كتاب الله وسنة رسوله، وإن كان مُفْرَغاً في معاني خسيسة تافهة فنَحْنُ نَقْصِدُ مُطْلَق اللّغَة لا المعاني التافهة التي هي تابعة لها. إذا عرفتم هذا فالْكِتَابة مصدر سيال، سُميت كتابة؛ لأن الكاتب يضم حرفاً إلى حرف، ويجمع حرفاً مع آخر، وحرفاً مع آخر، حتى تحصل من هذا نقوش وحروف تدل على معاني الكلام؛ ولهذا سُمِّيَ الكتاب كتاباً. وقوله: {أُنُزِلَ إِليْكَ} الجملة الفعلية في قوله: {أُنزِلَ إِليْكَ} في محل النعت لقوله: {كِتابٌ} لأن (¬2) النكرات تُنعت بالجمل، ويربط بينها وبين النكرة بالضمير كما هو معروف. وفاعل الإنزال محذوف، والأصل: أنزله الله إليك، وإنما حذف الفاعل اختصاراً؛ لأن من المعلوم أن هذا القرآن العظيم المُعجز الجامع لكل خير، الشامل لعلوم الأولين والآخرين ليس هناك من يقدر على إنزاله إلا خالق السماوات والأرض. ولما كان المُنْزِل معلوماً كان هذا ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

الاختصار والإيجاز واقعاً موقعه؛ لأن الفاعل معروف، فلو حُذف لما ضر حذفه؛ ولذا قال: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيكَ} أي: أنزله الله إليك. وقد أنزله الله إليه أنجماً، منجماً في حوالي ثلاث وعشرين سنة. وقوله: {فَلاَ يَكُن في صَدرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} يعني: هذا الكتاب أنزله الله إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فاللام في قوله: {لِتُنذِرَ} - الآتي- يتعلق بقوله: {أُنزِلَ} (¬1) يعني: أُنزل إليك لأجل أن تُنذر به وأن تُذكر به، فلا تعجز عن ذلك الإنذار، ولا يضق صدرك عنه. {فَلاَ يَكُن في صَدرٍكَ حَرَجٌ مِنْهُ} صدر الإنسان معروف، وإذا جاء على الإنسان أمر يثقل عليه أو يشق عليه أورثه ضيقاً في صدره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يشق عليه ويضيق بصدره التبليغ من حيث إن الكفار يكذبونه ويقولون له: أنت كذاب، أنت ساحر، أنت شاعر، أنت كاهن، هذه أساطير الأولين عَلَّمَكَها بشر، فتكذيبهم له وأذيتهم له يشق عليه، كما قال الله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)} [الحجر: آية 97] وقال: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيُحْزِنُكَ} [الأنعام: آية 33] وفي القراءة الأخرى: {لَيَحزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} (¬2) أي: {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} أي: ضيق. يعني: أَوْسِع صدرك، وتحمل الأذى، وشُقَّ الطريق في تبليغ هذا القرآن العظيم، والإنذار به، والتذكير به، لا تضعف، ولا تجبن، ولا تخف من الأذى، ولا يضق صدرك به. والحرج في كلام العرب أصله: الضيق (¬3)، وقد يُسمون الشجر ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 242). (¬2) مضى عند تفسير الآية (33) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: المفردات (مادة: حرج) ص 226، اللسان (مادة: حرج) (1/ 599).

الملتف الذي لا تصل إليه راعية يسمونه: (حَرَجَة) لضيق مكانه، وقد كانوا يقولون في قصة غزوة بدر: «فإذا أبو جهل كالحَرَجَة» -يعني لشدة ازدحام قريش عليه وصيانتهم له- يقولون: أبو الحكم لا يُخلص إليه (¬1) كالشجرة الملتف عليها الشجر لا يمكن أن يُوصل لها، هذا أصل (الحرج) في لغة العرب الضيق، وقد بَيَّنَّاه في قوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: آية 125]، ومنه قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: آية 78] أي: ما جعل عليكم من ضيق، وأحرجه: أوْقَعَهُ في الحَرَج؛ ولذا سُميت الطلقات الثلاث (المُحَرِّجَات) لأنها تُضَيِّق على صاحبها وتمنعه مِنْ رَجْعَةِ امْرَأته، واليمين قد تكون مُحَرِّجة؛ لأنها تمنع من المحلوف عليه، وهذه المعاني معروفة في كلام العرب، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل بن معمر، على الخلاف المعروف في الشعر المشهور (¬2): قَالَتْ: وَعَيْشِ أَبِي وَحُرْمَةِ إِخْوَتِي ... لأُنَبِّهَنَّ الحَيَّ إِنْ لَمْ تَخْرُجِي فَخَرَجْتُ خَوْفَ يَمِينِهَا فَتَبَسَّمَتْ ... فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينَهَا لَمْ تُحْرَجِ أنها يمين ليست مضَيّقة، وأنها كلا شيء. وكذلك قول العَرْجِي بن عمر بن عثمان (¬3): ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ص674. (¬2) البيت في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص83، عيون الأخبار (4/ 93)، الأضواء (2/ 286). (¬3) البيت في عيون الأخبار (4/ 90)، الأضواء (2/ 286). قال ابن قتيبة: «هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكان ينزل بموضع قبل الطائف يقال له: العرج، فنُسب إليه» اهـ الشعر والشعراء ص386.

عُوجِي عَلَيْنَا رَبَّةَ الهَوْدَجِ ... إِنَّكِ إِلاَّ تَفْعَلِي تُحْرَجِي يرويه كثير ممن رواه: (إنك إلاَّ تفعلي تَحْرجي) أي: تقعي في الحرج الذي هو الإثم والضيق بالذنوب، والأظهر أن أصله (تُحْرِجِي) أي: توقعي صاحبك في حرج وضيق، حيث هجرتِهِ، هذا أصل الحرج في لغة العرب. وعليه فالآية كقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُك أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} [هود: آية 12] وكقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)} [الكهف: آية 6] وروي هنا عن جماعة من كبار المفسرين أن الحرج في هذه الآية: الشك (¬1) أي: فلا يكن في صدرك شك منه أنه مُنَزَّلٌ من الله (جل وعلا). وعلى هذا فالآية كقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: آية 147] أي: من الشاكين، وقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس: آية 94]. وتفسير الحرج في آية الأعراف بالشك في هذا الموضع قال به جماعة من أجلاء المفسرين. وعلماء العربية يقولون: إنه -مع أنه رُوي عن بعض أجلاء أهل التفسير أنه- سائغ في اللغة العربية؛ لأن الشاك قلق صدره ضَيِّق لا يميل إلى طرف الإثبات ولا إلى طرف النفي، وِمما يؤيد هذا: أن الريب في جميع القرآن معناه: الشك. كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: آية 2] أي: لا شك فيه. مع أن أصل الريب في لغة العرب: مصدر رابه، يريبه، ريباً إذا أزعجه وأقلقه. وفي حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم رأى ظبياً حاقفاً (¬2) ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 103 - 107)، (295 - 296)، الأضواء (2/ 285 - 286). (¬2) أي: نائماً قد انحنى في نومه.

فقال: «لاَ يَرِيبُهُ أَحَدٌ» (¬1) يعني: لا تزعجوه، ولا تُقْلِقُوه، ولا تنفروه؛ لأنَّكم مُحْرِمُون لا يجوز لكم إزعاج الصيد. ومن هذا المعنى قول توبة بن الحُمَيِّر (¬2): وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تَبرقَعَت ... فقد رابني منها الغَدَاة سفُورُها رابني: يعني أزعجني وأقلقني؛ لأن أهلها كانوا شَكَوه إلى الوالي فأهدر دَمَهُ إنْ زارها، وكان إذا جاءها لبست برقعها عنه، فأنذروها وأنها إن أعلمته فعلوا بها وفعلوا، فلما زارها سفرت وكشفت عن وجهها، فشرد توبة بن الحُميِّر هارباً وقال: وكنتُ إذا ما جئت ليلى تَبرقَعَت ... فقد رابني منها الغَدَاة سفُورُها فعلم أنها ما كشفت عن وجهها إلا لأن النار تحت الرماد. والشاهد أن قوله: (فقد رابني منها) أزعجني وأقلقني، وأن الريب أصله الإزعاج والإقلاق، وهو في القرآن يطلق على الشك؛ لأن نفس الشاك غير مطمئِنَّة، بل هي قلقة مضطربة لا تدري أتميل إلى طرف النفي أو إلى طرف الثبوت. وهذا معنى قوله: {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَج مِّنْهُ}. وقوله: {لِتُنذِرَ بِهِ} التحقيق أنها لام كي المعروفة بلام التعليل، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، وهي تتعلق بقوله: {أُنزِلَ} (¬3) يعني: أُنزل إليك هذا الكتاب لأي حكمة أُنزل إليك؟ ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ ص241، حديث رقم (785)، والنسائي في الحج، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد. حديث رقم (2818)، (5/ 182 - 183) وانظر: صحيح النسائي (2/ 594). (¬2) البيت في اللسان (مادة: برقع) (1/ 200). (¬3) انظر: الدر المصون (5/ 242).

{لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِين (2)}. وقوله: {لِتُنذِرَ} أصله مضارع أنذره ينذره إنذاراً، والإنذار في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو خصوص الإعلام المقترن بتهديد خاصة وتخويف، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً؛ لأن الإنذار: الإعلام المقترن بتخويف وتهديد خاصة (¬1). وأصل ماضي هذا الفعل: (أنذر) بالهمزة، وكان لو جرى على الأصل لقيل: «لِتُؤَنْذِرَ به» لكن (¬2) القاعدة المقررة في فن التصريف أن كل فعل بُني ماضيه على (أَفْعَل) أن همزة (أَفْعَل) تحذف وجوباً بقياس مطرد في مضارعه، واسم فاعله، واسم مفعوله. ومفعول الإنذار هنا محذوف، وقد دل عليه التفصيل؛ أي: لتنذر به الكفار المتمرِّدين العاتين، وتذكر به المؤمنين (¬3). فالقرآن إنذار لقوم تمرّدوا وعتوا، وتذكرة وبشرى لقوم آخرين كقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً (97)} [مريم: آية 97] والمعنى: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتخوف به الخلق الذين كذّبوه ولم يتبعوه. وفي هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات زواجر عظيمة ينبغي لنا أن نعتبرها؛ لأن خالقنا (جل وعلا) بَيَّن لنا في أول هذه السورة الكريمة -سورة الأعراف من هذا المحكم المنزل الذي هو آخر كتاب نزل من السماء على آخر نبي بعثه الله في أرضه (صلوات الله وسلامه عليه) - قال: إنه أنزل عليه هذا الكتاب ليخوف به الخلق من عقوبات خالق السماوات والأرض وسخطه، فإنه الجبار الأعظم الذي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (76 - 77) من سورة البقرة. (¬3) انظر: أضواء البيان (2/ 286).

إذا سخط عاقب العقوبة المهلكة المستأصلة. فبهذا يجب علينا أن نتأمل في معاني القرآن، ونعرف أوامر ربنا التي أمرنا بها فيه، ونواهيه التي نهانا عنها، ونخاف من هذا الإنذار والتهديد الذي أُنزل هذا القرآن على الرسول ليفعله بمن لم يعمل بهذا القرآن العظيم. فالإنسان يجب عليه أن يتدبّر هذا القرآن العظيم، وينظر أوامره، وينظر نواهيه، ويعمل بما فيه من الحلال والحرام، فالحلال ما أحله الله في هذا القرآن وبينته السنة الكريمة، والدين ما شرعه الله؛ لأنه لا حكم إلا لله، فكل الأحكام هي لله، والتشريع لله، والتحليل والتحريم لله، وقد أنزل علينا هذا الكتاب ليخوفنا إذا لم نعمل بما فيه من العبر والآيات، فَنُحل حلاله، ونُحرِّم حَرَامَه، ونعتقد عقائده، ونعمل بمحْكَمه، ونؤمن بمتشابهه، ونعتبر بما فيه من الأمثال، وتلين قلوبنا لما فيه من المواعظ وضروب الأمثال. فهذا الإنذار لا ينبغي للمسلم أن يهمله ويعرض عنه صفحاً. وقوله: {وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِينَ (2)} الذكرى هنا مصدر مؤنَّث تأنيثاً لفظيّاً بألف التأنيث المقصورة، وأصله بمعنى: التذكير، أي: لأجل الإنذار لمن عَتَى وتمرد، وللتذكير للمؤمنين العاملين به. والذكرى: هي الاتِّعَاظ؛ لأن المؤمنين يذكرهم فتنفعهم الذكرى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: آية 55]. وقوله: {وَذِكْرَى} في محل إعرابه ثلاثة أوجه معروفة (¬1): أظهرها: أنه في محل خفض معطوف على {لِيُندرَ بِهِ} أي: للإنذار وللتذكير، ويجوز أن يكون منصوباً عطفاً على محل {لِيُندرَ بِهِ} لأنه ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 244).

وإن جُرَّ فهو في معنى مفعول لأجله، ويجوز أن يكون مبتدأ، ويكون -أي: يجوز- معطوفاً على قوله: {كِتَابٌ} كتاب أنزلناه إليك، وذكرى للمؤمنين أنزلناها إليك. والأول هو الأظهر. والمؤمنون: عباد الله المصدقون بقلوبهم تصديقاً تساعده جوارحهم، فيكون القلب مصدقاً وتظهر آثار ذلك التصديق على الجوارح، بأن تطيع الله، وتمتثل أمره، وتجتنب نهيه. فالإيمان في لغة العرب يطلق على التصديق (¬1)، ومنه {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: بمصدقنا في أن يوسف أكله الذئب {وَلَو كُنَّا صَادقِين (17)} [يوسف: آية 17]. وهو في اصطلاح الشرع (¬2): التصديق من جهاته الثلاث: وهو تصديق القلب بالاعتقاد، وتصديق اللسان بالإقرار، وتصديق الجوارح بالعمل. فالإيمان قول وعمل، ينقص ويزيد بحسب الأعمال الصالحة وعدمها على مذهب أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه نصوص الوحي في القرآن والأحاديث الصحيحة بكثرة، كقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح آية 4] {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: آية 2] وما جرى مجرى ذلك من النصوص، وفي الحديث الصحيح: «إن الإيمانَ بِضْعٌ وسَبْعونَ -وفي بعضها: وَسِتُّونَ- شُعْبَةً أعْلاهَا: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وأدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عن الطَّريق» (¬3) وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إماطة الأذى عن الطريق إيماناً، وقد سمى الصلاة إيماناً في قوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: آية 143] أي: صلاتكم إلى بيت ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

المقدس قبل نسْخ القبلة إليه. وهذا معنى قوله: {وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِينَ}. ولما بيَّن (جل وعلا) أنه أنزل هذا الكتاب العظيم على هذا النبي الكريم، وأنه أنزله عليه لينذر به ويُذَكِّر، وأنه يجب على أمته أن تَأْتَسِي به في الإنذار بالقُرْآنِ والتذكير به، أَمَر من ذُكِّروا وأنذروا -أمرهم- بما ينبغي أن يفعلوا حول ذلك الإنذار والتذكير الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 3] هذا الأمر للوجوب بإجماع العلماء، وصيغة (افعل) وإن اختلف فيها علماء الأصول هل هي تقتضي الوجوب، أو تقتضي الندب، أو تقتضي مطلق الطلب الصادق بالندب والوجوب، أو إن كانت في القرآن اقْتَضَتِ الوجوب، وإن كانت في السنة اقتضت الندب، هذه الأقوال وإن ذكرها علماء الأصول (¬1) فالصحيح المعروف الذي دَلَّ عليه الشرع الكريم واللغة التي نزل بها القرآن: أن صيغة (افعل) إذا جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانت مقتضية لوجوب الامتثال، إلا أن يدل دليل آخر صارف عن ذلك الوجوب، ويكون ذلك الدليل يجب الرجوع إليه، والأدلة على هذا كثيرة: منها أن الله لما قال للملائكة: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة: آية 34] كانت لفظة {اسْجُدُواْ} صيغة أمر، وهي لفظة (افعل) ومعروف أن المقرَّرَ في المعاني وفي أصول الفقه: أن الصيغ الدالة على الأمر التي تقتضي الوجوب أنها أربع صيغ لا خامسة لها (¬2): ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (44) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المذكرة في أصول الفقه ص188، نثر الوررد (1/ 176)، الأضواء (5/ 233).

الأولى منها: فعل الأمر الصريح، نحو: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [الإسراء: آية 78] وقوله هنا: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 3]. والثاني: اسم فعل الأمر، نحو: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ} [المائدة: آية 105]. والثالث: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، نحو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63]، {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: آية 29]. والرابعة: هي المعروفة عند النحويين بالمصدر النائب عن فعله، نحو قوله: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: آية 4] يعني: فاضربوا رقابهم. وكقول هند بنت عتبة يوم أُحد لما انهزم المشركون هزيمتهم الأولى، وقُتل حَمَلَة اللواء من بني عبد الدار، وبقي لواء قريش طريحاً حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية التي يقول فيها حسان (¬1): وَلَوْلاَ لِوَاءُ الحَارِثِيَّةِ أصْبَحُوا ... يُباعونَ في الأسْوَاقِ بَيْعَ الجَلائِبِ عند ذلك قالت هند بنت عتبة بن ربيعة العَبْشَمِيَّة: صَبراً بني عَبْدِ الدَّار صَبْراً حُمَاةَ الأدْبَار ضَرْباً بكُلِّ بتَّار (¬2) ¬

(¬1) ديوان حسان ص29، السيرة لابن هشام ص859. (¬2) السيرة لابن هشام ص846.

فكل هذه المصادر مصادر نابت عن أفعالها، ففيها معنى الأمر. تعني: اصبروا يا بني عبد الدار، واضربوا بكل بتَّار. هذه هي صيغ الأمر. وقد دل القرآن والسنة ولغة العرب على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب، فمن الدليل على ذلك: أن الله لما قال للملائكة: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة: آية 34] كانت {اسْجُدُواْ} صيغة (افعل) فلما امتنع إبليس وبَّخه وحكم عليه بالعصيان، وقال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} موبِّخاً له، فَدَلَّ على أن عدم امتثال صيغة الأمر أنه معصية، ويؤيِّدُ ذلك أن نَبِيَّ الله موسى قال لأخيه هارون لما أراد السفَر إلى الميقات، قال لأخيه هارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: الآية 142] وهذه صيغة أمر، فلما ظن أنه لم يتبعها قال: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه: آية 93] فصرح بأن مخالفة صيغة (افعل) معصية، ومن الأدلة على ذلك أن الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: آية 63]، وقد قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: آية 36] وفي القراءة الأخرى: {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1)، ومن قضائه للأمر هو أن يقول: (افعل كذا) فدلت آية الأحزاب هذه على أن أمره تعالى قاطع للاختيار، موجب للامتثال، والأدلة في هذا كثيرة. ووجه دلالة اللغة العربية على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب: أن السيد المالك لعبد لو قال لعبده: (اسقني ماءً) فامتنع ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص358.

العبد ولم يسق سيده فأدَّبَه وضربه أن عامة أهل اللسان يقولون: إن هذا العتاب واقع موقعه، فلو قال العبد للسيد: أنت ظلمتني بعقابي هذا؛ لأن قولك (اسقني) صيغة (افعل) وهذه لا تُوجب ولا تلزم شيئاً!! لقال له أهل اللسان العربي: كذبت يا عبد، بل الصيغة ألزمتك، ولكنك امتنعت، فلسيدك أن يعاقبك. هذا وجه دلالة اللغة العربية على ما ذكرنا. وعلى كل حال فقوله: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} هذا الأمر واجب بإجماع العلماء، فيجب على كل مسلم أن يتبع ما أنزله الله في هذا القرآن الكريم على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. والسنة جميعها إنما هي قطرة من بحر القرآن العظيم؛ لأن القرآن بحر لا ساحل له، والسنة قطرة من بحره؛ لأن جميع ما جاء في سنة رسول الله يدخل في قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: آية 7] والعمل بما جاء عن رسول الله عمل بالقرآن العظيم، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه جاءته امرأة تسأله عن ابنتها يريدها زوجها أن تُزف إليه، وقد تمعَّط شعرها، يعني: سقط شعرها، والشعر جمال المرأة، فهي تريد أن تصل شعر رأسها بشيء تجملها به لزوجها، فذكر ابن مسعود أن الواصلة شعرها بشعر غيرها ملعونة في كتاب الله، فجاءته المرأة بعد ذلك وقالت له: لقد قرأت ما بين اللوحتين أو ما بين الدفتين فلم أجد لعن الواصلة في كتاب الله!! فقال لها: إن كنت قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وجدتيه، أوَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}؟ قالت: بلى. قال: هو صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة (¬1). وهذا مما يدل على أن كل ما في سنة رسول الله فالعمل ¬

(¬1) هنا وقع للشيخ (رحمه الله) وَهْمٌ حيث أدخل حديثاً في حديث آخر؛ ذلك أن حديث ابن مسعود في أنه لعن النامصات .. إلخ، فراجعته امرأة من بني أسد محتجة بأنها لم تجد هذا اللعن في كتاب الله وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير، باب (وما آتاكم الرسول فخذوه) حديث رقم (4886) , (8/ 630)، وأخرجه في مواضع أخرى انظر: الأحاديث (4887، 5931، 5939 5943، 5948)، ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، حديت رقم (2125)، (3/ 1678). وأما المرأة التي سألت عن وصل شعر ابنتها: فهي امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنة لها زوَّجتها فمرضت فتساقط شعرها، قالت: أفأصل شعرها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلة ... » إلخ. وقد روى هذا الحديث من الصحابة: 1 - عائشة (رضي الله عنها) وقد أخرجه البخاري في اللباس، باب: وصل الشعر، حديث رقم: (5934)، (10/ 374)، وطرفه في: (5205). ومسلم في اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، حديث رقم: (2123)، (3/ 1677). 2 - أسماء (رضي الله عنها) وقد أخرجه البخاري في اللباس، باب: وصل الشعر. حديث رقم: (5935)، (10/ 374). وطرفاه: (5936، 5941). ومسلم في اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، حديث رقم: (2122)، (1676). هذا وقد ورد في لعن الواصلة أحاديث أخرى منها حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة (رضي الله عنهما) وهما في الصحيحين.

به عمل بكتاب الله. {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} فعلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يعملوا بهذه الأوامر السماوية المنزَّلة من خالق السماوات والأرض، الذي فتح أعينهم في وجوههم، وصبغ لهم بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفتح لهم آنافهم وأفواههم، وأعطاهم الألسنة، وأنبت لهم الأسنان، وشق لهم المحل

الذي ينزل عنهم منه البول والغائط، وفتح لهم العروق والشرايين ليجري فيها الدم، فهذا لو لم يثقبه رب العالمين ويفتحه لما قدر أحد على أن يثقبه!! هذا الذي هذه عظمته، وهذا سلطانه وقدرته عليكم يأمركم بوحيه المنزل من فوق سبع سماوات أن تتبعوا أوامره ونواهيه التي أنزلها على رسله، ولا تتبعوا أولياء غيره (جل وعلا)، ولا تشريعات غير شرعه (جل وعلا)، فيجب على جميع المسلمين أن يعلموا أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حَرَّمَه الله، والدين هو ما شرعه الله، والمُتَّبَعُ هو نظام الله الذي أنزله في هذا القرآن على سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه). فالذين يتمردون على هذا الأمر ويسمعون في القرآن: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} ويقولون: لا، لا يمكن أن نتبع ما أُنزل إلينا من ربنا بل نتبع قانون نابليون، أو قانون فلان، أو فلان من القوانين الوضعية المستوردة المتمردة على نظام خالق السماوات والأرض!! هذا أمر لا يليق، وصاحبه ليس من الإيمان في شيء؛ لأن هذا الكون ليس فوضى، وإنما له خالق جبار ملك عظيم قهار خالق كل شيء، وبيده كل شيء، وإليه مرجع كل شيء، ولا يقبل أبداً ولا يرضى أبداً أن يُتبع شيء إلا الشيء الذي أنزل هو (جل وعلا) على رسوله الكريم لينذر به ويذكر به المؤمنين، فهذا هو الذي ينبغي أن يُتبع، وهو نظام السماء الذي يحفظ لبني آدم في دار الدنيا أديانهم أتم الحفظ، ويحفظ لهم أنفسهم، ويحفظ لهم عقولهم، ويحفظ لهم أنسابهم، ويحفظ لهم أموالهم، ويحفظ لهم أعراضهم، إلى غير ذلك من مقوماتهم الدينية والدنيوية، فيجب اتباعه وعدم العدول عنه إلى غيره.

وبهذا تعلمون أن من يقوم ويعلن في وقاحة أمام جميع الدنيا أنه لا يتبع ما أنزله الله إلى سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه)، والله يأمر باتباع ما أنزل وتَرْكِ اتباع غيره، وهو يعلن إذا كان رئيساً لقوم باسم الذين يزعم أنه مُمَثِّلهم أنه لا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله، بل يحكم بقانون آخر وَضْعِي وضَعَه زنادقة كَفَرَة فجرة مُظْلِمَةٌ قلوبهم، هم في أصل وضعه عالة على علماء المسلمين، زنادقة كفرة فجرة، يرْغَب عن تَنْزِيل رب العالمين المأمور باتباعه فيذهب إلى وضع الخنازير الكفرة الفجرة، يعتقد أنه هو الذي ينظم علاقات الحياة، زاعماً أن القرآن تقاليد قديمة، وأنَّ رَكْبَ الحضَارَة تَطَوَّرَ عنها، وأن الدنيا تطورت في أحوالها الراهنة تطوراً بعد نزول القرآن لا يمكن أن ينظمها القرآن!! فهذا كلام الفَرَاعنة الجهلة المتمردين على نظام السماء، ولا يوجد في الدنيا نظام يضبط علاقات الخلق وينشر الطمأنينة والرخاء والعدالة مثل نظام السماء الذي وضعه خالق السماوات والأرض (جل وعلا). والقرآن بَيَّنَ لنا في آيات كثيرة أن الذي يَتَمَرَّد على هذا الأمر في آية سورة الأعراف: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} ولم يتبع ما أُنزل إليه مِنْ رَبِّه، واتبع القوانين والنُّظم الوضعية بين لنا في غير ما آية أنه كافر، وأن ربه الشيطان، وأن مصيره إلى النار خالداً مخلداً. [1/ب] / [والآيات القُرْآنية الدَّالة على هذا كثيرة جدّاً، من ذلك ما بَيَّنَّاهُ مراراً أن إبليس عليه لعنة الله، لما جاء تلامذته وإخوانه من أهل مكة، وأراد أن يُهيئ لهم وحي الشياطين ليجادلوا به النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: سلوا محمداً عن الشاة تُصْبِح ميتة، من هو الذي قتلها؟ فلما أخبرهم أن الله هو الذي قتلها، قالوا له من وحي الشيطان: ما

ذبحتموه بأيديكم -يعنون المذكاة - تقولون: حَلاَل وطاهر وطيب مستلذ، وما ذبحه الله بيده الكريمة -يعنون الميتة، أن الله قتلها- تقولون: هو حرام ميتة مستقذر، فأنتم إذاً أحسن من الله!! وأنزل الله في وحي الشياطين جواباً لنبيه عنه قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] يعني: الميتة، وإن زعم أولياء الشيطان أنها ذبيحة الله، ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: وإن أكل الميتة لفسق، وخروج عن طاعة الله، ثم قال -وهو محل الشاهد-: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وإن أطعتموهم في تحليل الميتة إنكم لمشركون. اعلم أن تحليل الميتة وتحريمها ليس عقيدة من العقائد، ولا أصلاً من الأصول، وإنما هو فرع من الفروع، مضغة لحم شرّع الله على لسان نبيه تحريمها؛ لأنها ماتت ولم يُذكر عليها اسم الله، وشرّع إبليس على لسان أوليائه تحليلها، فهذا نظام إبليس، وهو تحليل الميتة، وهذا نظام خالق السماوات والأرض الذي شرعه على لسان نبيه. فالله يقول: هذه ماتت حتف أنفها، ولم تُذَك ولم يُذكر اسم الله عليها. والشيطان يُشرّع بفلسفته ويقول:] (¬1) الحلال ما قتله الله، وهو ذبيحة الله، وأن المذكاة التي سُمي عليها الله أنها ليست أحل من الجيفة؛ لأنكم أنتم الذين قتلتموها، وقَتْل الله أحل من قتلكم!! هذا وحي الشيطان، وفلسفة الشيطان، يريد أن يحلل لحم الميتة!! ونظام السماء يحرم لحم الميتة على لسان الرسول مأموراً بقوله: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} ومنه تحريم الميتة، أنزل الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل وتم استدراك النقص مما سبق عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] يعني: الميتة، وإن زعم أولياء الشيطان وأتباعه الذي يوحي إليهم أنه ذبيحة الله بسكين من ذهب، وأنه أحل من ذبيحة المسلمين. قال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ} ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: خروج عن طاعة خالقكم. ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} يُعنى بـ (وحي الشيطان): قوله: ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذاً أحسن من الله!! ثم قال -وهو محل الشاهد-: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] هذا فَصْل الله (جل وعلا) بين المتحاكمين إلى قانون الشيطان والمتحاكمين إلى قانون الرحمن، فقد اختصم أتباع الشيطان وأتباع رسل الرحمن في مضغة من لحم: هي لحم الميتة، فقال أتباع الشيطان: إنه حلال. واستدلوا على ذلك بوحي الشياطين: أنها إنما قتلها الله، وما قتله الله ذبيحة الله، وذبيحة الله أحَلّ [من] (¬1) كلِّ شيء. هذا وحي الشيطان وتشريع الشيطان وإلقاء الشيطان إلى أتباع الشيطان. ثم إن الذي أنزل الرحمن على رسل الرحمن أن الميتة التي ماتت ولم تُذَكَّ ولم يذكر اسم الله عليها أنها ميتة يحرم أكلها {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: آية 173] {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] فهذه طائفة الشيطان تتبع قانونه ونظامه: أن هذا اللحم حلال!! وهذه طائفة أتباع رسل الرحمن تحكم بأن هذا اللحم حرام بتشريع خالق السماوات والأرض، ثم هذا فَصْلُ الله وحكمه بين الطائفتين، قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] وإن أطعتموهم في تشريع إبليس، واتباع قانونه ونظامه في تحليل الميتة إنكم لمشركون بخالق السماوات والأرض؛ لأن التحريم والتحليل لا يكون إلا ¬

(¬1) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.

للسلطة العليا التي لا يمكن أن تكون فوقها سلطة، وحكم الله هو كعبادته، فكما أنه يجب إفراده في عبادته يجب إفراده في حكمه؛ ولذا قال: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: آية 110] وقال: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (110)} [الكهف: آية 26] فجعل الحكم كالعبادة. وفي قراءة ابن عامر -كبير القراء، قارئ أهل الشام-: {ولا تُشْرِكْ في حكمه أحدًا} (¬1) أي: لا تشرك أيها العبد في حكم ربك أحداً، فالحكم لله؛ لأن الحكم لا يمكن أن يكون إلا للأعظم الأكبر الأجل الذي ليس فوقه ولا أجلَّ منه شيء، كما قال تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: آية 12] فقوله: {الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} هي مُمَيِّزة لمن يستحق أن يكون الحكم له، فإن كان الطواغيت الذين يتبع الخفافيشُ تعليمهم وأحكامهم هم العَلِيُّون الأكبرون فليتقدموا، وإن كانوا هم الأصاغر الأخسون الأذلون فليعلموا أن الحكم ليس إليهم وإنما هو للعلي الكبير خالق السماوات والأرض جل وعلا. وقوله في هذه الآية: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] هذا الشرك هو شرك أكبر مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، فمن زعم أن الميتة حلال، وأنها ذبيحة الله، وأن وحي الشيطان حق، وأن نظامه أحق أن يُتبع، فإنه كافر بإجماع المسلمين، كما صرح الله بقوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} وهذا الشرك هو شرك أكبر مخرج عن الملة. وهؤلاء المشركون المتبعون قانون الشيطان ونظام إبليس، هم الذين يوبخهم الله في سورة يس يوم القيامة على رؤوس الأشهاد: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَ تَعْبُدُوا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام ..

الشَّيْطَانَ} معنى عبادتهم للشيطان ليس معناها: أنهم سجدوا له ولا صاموا ولا صلوا، وإنما معناها: أنهم اتبعوا ما شرع لهم من وحي الشياطين، وأخذوا بقانونه ونظامه في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، قال الله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61)} ثم قال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} والله لقد أضل الشيطان منكم جمعاً وخلائق كثيراً، ويدخل فيها الدخول الأولي: هؤلاء الذين اتبعوا قانونه ونظامه وأعرضوا عن نظام الله المذكور في قوله: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} ثم قال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً}، ثم وبخهم لخساسة عقولهم ودناءتها فقال: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} أليست عندكم عقول تعلمون أن من يطاع ويتبع تشريعه، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه هو خالق السماوات والأرض لا إبليس؟! ثم بين مصيرهم النهائي: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 60 - 65] وفي التنزيل: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً (117)} [النساء: آية 117] يعني: ما يعبدون إلا الشيطان؛ لأنهم اتبعوا نظامه وقانونه، وتركوا نظام الله الذي شرعه على ألسنة رسله. والذين يتحاكمون إلى غير ما أنزل الله، ويزعمون الإيمان، بَيَّن الله في سورة النساء أن دعواهم هذه كاذبة يُتعجب من كذبها، وكيف تجرءوا على قولها، حيث قال لنبيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ

ضَلاَلاً بَعِيداً (60)} [النساء: آية 60] فَعَجَّب نبيه كيف ادّعوا الإيمان وهم يريدون التحاكم إلى غير ما أنزل!! والكفار -مع أنهم كفرة فجرة يعبدون الأصنام- إذا غيروا تشاريع الله، واتبعوا تشريع الشيطان مخالفاً لشيء شرعه الله كان ذلك كفراً جديداً زائداً على كفرهم الأول، كما صرح الله بهذا في سورة التوبة في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] والمراد بالنسيء: تأخير الشهر الحرام؛ لأن النَّسْءَ في اللغة: التأخير. وربا النسأ: ربا التأخير. ونسأ الله في أجله: أخَّره وطول حياته. كانت ثلاثة من الشهور الحُرُم متوالية، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فكانوا تطول عليهم ثلاثة أشهر متوالية لا يأكل بعضهم بعضاً، ولا يغير بعضهم على بعض، فكانوا يقولون: إنما نُنسئ الشهر الحرام ونؤخره!! فيحلون المحرم فيقاتلون فيه، ويؤخرونه إلى صفر، قال جل وعلا: {إِنَّمَا النَّسِيءُ} أي: تأخير الشهر الحرام، إحلاله وتحريم شهر آخر كان حلالاً تحليل لما حرمه الله، وتحريم لما أحله الله، قال في هذا: {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} ولإحلالهم ما حرم الله ازدادوا كفراً إلى كفرهم (¬1). وأول من نسأ من العرب: بنو فُقِيم من كنانة (¬2)، وكان شاعرهم يقول في شعره المشهور (¬3): أَلسْنا النَّاسئين على مَعَدٍّ ... شُهُورَ الحِلِّ نجعلُها حَرَاما ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 243). (¬2) انظر: السيرة لابن هشام ص56. (¬3) لبيت لعمير بن قيس جَزْل الطّعَانِ، أحد بني فراس بن غَنْم، وهي في السيرة لابن هشام ص56، البداية والنهاية (2/ 206 - 207).

فَجَعْلُهم شهور الحل حراماً هو النسيء الذي كان زيادة في كفرهم إلى كفر آخر، فإذا كان الكافر الذي يسجد للصنم إذا غيَّر حكم الله، وحرَّم ما أحل الله، وأحل ما حرمه الله كفر كفراً جديداً زيادة إلى كفره الأول، فما بالكم بالمؤمن الذي يدَّعي أنه مسلم إذا غيَّر منار الإسلام، وحرَّم ما أحله الله، وحلل ما حرمه الله مدعياً أن تحليل الله وتحريمه تطورت عنه الدنيا، وأن نظام السماء كان لائقاً في ذلك الوقت، وأن ركب الحضارة تقدم عن ذلك، وأنه يحتاج إلى شيء جديد يُلائم التطور الجديد!! هذا كلام المتزندقين الجهلة الذين يزعمون أنهم تقدُّمِيُّون!! وهم أشد الناس تأخُّراً، وأخس الناس عقولاً؛ حيث تنكروا لخالقهم، وسيُقِرُّون يوم القيامة أنهم لا عقول لهم؛ حيث يقولون في جملة إخوانهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: آية 10]. فالتقدم كل التقدم -التقدم الحقيقي- هو طاعة خالق السماوات والأرض، وامتثال أوامره، واتباع ما أُنزل إلى النبي الكريم، مع أن هذا الذي أمرنا الله أن نتبعه في قوله: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 3] يأمرنا بالتقدم في جميع الميادين الحيوية غاية التقدم، ودين (¬1) الإسلام يأمر الإنسان بأن يكون متقدماً قويّاً في جميع ميادين الحياة، وأن يكون مُتَّصِلاً بربِّه، مُربياً روحه على ضوء تعليم السماء، مُنَوِّراً بصيرته بنور القرآن السماوي، فيكون علمه وعمله مزدوجاً معطياً للجسم نصيبه، معطياً للروح نصيبها، هذا تعليم السماء وأمره الحق الذي لا شك فيه. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ومن تدبر آيات القرآن وَجَدَ القرآن العظيم يدعو إلى كل تقدم حيوي في جميع ميادين الحياة، إلا أنه يدعو الخلق إلى أن يطيعوا خالقهم، ويسترشدوا بإرشاد خالق السماوات والأرض، ليدلهم على ما يصلحهم في دينهم ودنياهم، ومعاشهم، ومعادهم، سبحانه (جل وعلا) ما أحكمه! وما أجهل من خالف تعاليمه! إلا أن الذي يذهب عن نور القرآن هو في الحقيقة كالخفاش، وأنتم تعلمون أن الخفاش لا يكاد ينتفع بنور الشمس؛ لأن نور الشمس لا ينتفع به إلا من أعطاه الله بصيرة، أما الخفافيش الذين سلب الله بصائرهم لا يكادون ينتفعون بنور الشمس، فإذا انتشرت أنوار الشمس، وانتشر العالم في ضوء سبيل لا ينفق الإنسان فيه على كهرباء، ولا على زيت، ولا فتيلة، فنور رب العالمين سبيل مبذول للأسود والأحمر، فالخفاش في ذلك الوقت لا ينتفع بهذا النور، فإذا كان الظلام خرج من محله يطير ويفرح ويمرح؛ لأن الظلام هو الذي يلائمه!! فالقرآن العظيم إنما يلائم البصائر النيرة، والأرواح الكريمة، أما الأرواح الخنازيرية الخسيسة البهيمية فهي خفافيش البصائر، لا يلائمها إلا الظلام والنتن، كما أن الجُعَل لا يلائمه إلا النتن، وكما أن الخفاش لا يلائمه إلا الظلام. خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (¬1) {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: آية 20] لأن القرآن أعظم نور، والخفافيش البصائرية يقضي عليها ويعميها زيادة {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] والعياذ بالله جل وعلا. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

والحاصل أن خالق السماوات والأرض يقول في كتابه المحفوظ الذي تولى حفظه بنفسه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: آية 9] يقول مخاطباً لجميع الخلائق {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 3] يعني: اتبعوا ما أنزله الله على لسان هذا النبي الكريم سيد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه- وخاتم الأنبياء، الذي جاء بالحنيفية البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} الأولياء في لغة العرب: جمع ولي، وقد تقرر في فن التصريف: أن (الفعيل) إذا كان وصفاً اطرد جمعه جمع تكسير على (فُعَلاءْ) إلا إذا كان معتل اللام أو مُضَعَّفاً فإنه يَطَّرِد جمعه جمع تكسير على (أَفْعِلاء) كتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء، وسخي وأسخياء، وولي وأولياء، كما هنا (¬1). والولي في لغة العرب: هو كل مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَك وبَيْنَهُ سَبَبٌ يجعلك تواليه ويواليك (¬2)؛ ولذا كان الله ولي المؤمنين، والمؤمنون أولياء الله {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: آية 257] {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: آية 62] لأنهم يوالونه بالطاعة، وهو يواليهم بالنصرة والثواب الجزيل، وإصلاح الدنيا والآخرة. وهؤلاء الذين يتخذون أولياء كالذين يتخذون الشياطين أولياء فيتبعون قانون الشيطان وتشريع الشيطان، وكالذين يتخذون بعض رؤساء الكفرة الضُلاَّل أولياء فيتبعون تشاريعهم، ويحلون حلالهم، ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 404 - 405). (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

ويحرمون حرامهم، فهؤلاء كَفَرَةٌ فَجَرَةٌ، وقد ثبت في الحديث عن عدي بن حاتم (رضي الله عنه) أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: آية 31] كيف اتخذوهم أرباباً؟! - وكان عدي في الجاهلية نصرانيّاً - قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألمْ يُحِلُّوا لهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ؟» قال: بلى. قال: «بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَاباً» (¬1). فمن اتبع تشريع ولي تَوَلاهُ من شيطان، أو طاغية، أو كافر، أو صاحب قانون، أو بدعة فاتبع ما أحل من الحرام، وما حرم من الحلال فقد اتَّخَذَ ذلك رَبّاً، وخرج عن قانون نظام السماء الذي وَضَعَهُ خَالِقُ السماوات والأرض -جل وعلا - على لسان سيد الخلق، وهذا معنى قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} أي: غيره {أَوْلِيَاء}. ثم قال: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3)} في هذا الحرف ثلاث قراءات سَبْعِيَّات (¬2): قرأه ابن عامر وحده: {قليلاً ما يتذكرون (3)} بزيادة ياء، وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} بتاء واحدة مع تخفيف الذال على حذف إحدى التاءين، وإذا كان أول الفعل مبدوءاً بتاءين جاز حذف إحداهما تخفيفاً بقياس مطرد، وقرأه بقية القراء السبعة، وهم: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر - وهو شعبة - عن عاصم، قرءوا: {قليلاً ما تذّكرون} بتشديد الذال. فعلى قراءة: {تَذَكَّرُونَ} أصله: (تتذكرون) حُذفت إحدى التاءين. وعلى قراءة: {تذّكرون} فقد أُدغمت إحدى التاءين في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص207.

الذال، وعلى قراءة ابن عامر: {يتذكرون} فهو من الغَيْبة لا مِنَ الخِطَاب، فالفعل للغائبين لا للمخاطبين (¬1). وقوله: {قَلِيلاً} يعربونه مصدراً (¬2)، والمعنى: تتذكرون تَذَكّراً قليلاً؛ لأن الكفار ربما تذكروا تذكراً قليلاً فآمنوا، ولكنهم يراجعهم شركهم وكفرهم كما قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)} [يوسف: آية 106] وزعمت جماعة من علماء العربية أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يطلقون القِلَّة ويريدون بها العَدَمَ المحْضَ (¬3)، يقولون: مررت بأرض قليل بها الكرَّاث والبصل. يعنون: لا كُرَّاثَ فيها ولا بصل. وهذا أسلوب معروف، ومنه قول غيلان ذي الرمة (¬4): أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدة فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلاً بهَا الأَصْوَاتُ إلا بُغَامُهَا يعني: لا صوت فيها البتة إلا بُغام ناقته. ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حكيم يمدح يزيد بن المُهلب (¬5): أَشَمٌّ نَدِيٌّ كَثِيرُ النَّوَادِي ... قَلِيلُ المَثَالِبِ وَالقَادِحَهْ ¬

(¬1) انظر: حجة القراءات ص279. (¬2) لعله سبق لسان، والمراد: نعت مصدر محذوف. انظر: البحر المحيط لأبي حيان (4/ 267)، الدر المصون (5/ 246). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 329 - 230)، بصائر ذوي التمييز (4/ 293)، القرطبي (2/ 26)، ابن عاشور (1/ 600)، أضواء البيان (2/ 287). (¬4) البيت في مشاهد الإنصاف ص145، دفع إيهام الاضطراب ص79. (¬5) البيت في ديوانه ص86، دفع إيهام الاضطراب ص78، وشطره الأول في الديوان: أشم كثير البوادي النوال ... . . . . . . . . . . . . . . .

يعني: لا مثلبة فيه ولا قادحة البتة، وهذا معروف، ومنه في كلام العرب قوله (¬1): فَمَا بَأْسَ لَوْ رَدَّتْ عَلَيْنَا تَحِيَّةً ... قَلِيلاً لَدَى مَنْ يَعْرِفُ الحَقَّ عَابُهَا يعني لا عيب فيها البتة عِنْدَ مَنْ يَعْرِف الحق، وظاهر القرآن هو الأول، أنهم يتذكرون تذكُّراً قليلاً لا يُجْدِي، ولو تذكروا وآمنوا بالبعض لا ينفعهم ذلك كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [البقرة: آية 85] وهذا معنى قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: آية 3]. والحاصل أن هذه الآية الكريمة يجب على كل مسلم أن يتدبرها، ويعلم أن النظام المتبع هو نظام الله لا نظام إبليس، ولا قانون الشيطان؛ لأن قانون الشيطان صرح الله بأن من اتبعه مشرك في قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] وآية الأنعام هذه: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} هي عند علماء العربية مثال لحذف لام التوطئة، قالوا: الأصل: (ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون) فحُذفت لام توطئة القسم، قالوا: وهذه الآية دليل على ذلك، والقرينة على أن هناك لام التوطئة محذوفة أنه لو كان شرطاً محضاً خالياً من قَسَم لقال: وإن أطعتموهم فإنكم لمشركون؛ لأن جواب الشرط إذا كان ليس يصلح فعلاً للشرط وجب اقترانه بالفاء كما هو معروف في علم العربية، فلو لم يكن هنالك قسم مقدر لقال: ¬

(¬1) البيت في مغني اللبيب (2/ 6)، وأول شطره الثاني: «قليل» وذكره الشيخ (رحمه الله) بالنصب في دفع إيهام الاضطراب ص79.

وإن أطَعْتُموهم فإنكم لمشركون. والتحقيق أن القرآن ليس فيه حذف الفاء في جملة جزاء الشرط إذا كانت جملة اسمية أو طلبية، أو غير ذلك من الجمل التي لا تصلح أن تكون فعلاً للشرط (¬1)، وما زعموا من أن قراءة نافع في سورة الشورى (¬2): {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: آية 30] فإن المصحف الكبير الذي بقي في المدينة عند عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فيه: {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم} بلا فاء، والمصاحف التي أُرسلت للعراق وغيره فيها الفاء: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ (30)} قالوا: (ما) هنا شرطية، والفاء لم تأت في قراءة نافع وابن عامر: {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت} بلا فاء. والحق أن آية الشورى هذه لا حجة فيها؛ لأن لفظة (ما) على قراءة نافع وابن عامر: موصولة لا شرطية (¬3). والمعنى: والذي أصابكم من مصيبة هو كائن بما كسبت أيديكم. فلا شرط فيه أصلاً على قراءة نافع وابن [عامر] (¬4)، والمقرر في علم القراءات وعلوم القرآن: أن القراءتين كالآيتين، تكون هذه القراءة لها معنى، وهذه لها معنى (¬5). فلا مانع من أن تكون (ما) على قراءة الجمهور شرطية، فجيء بالفاء، وعلى قراءة نافع ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 213)، الدر المصون (5/ 132). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص395. (¬3) انظر: حجة القراءات ص642. (¬4) في الأصل: «وابن كثير» وهو سبق لسان. (¬5) راجع ما مضى عند تفسير الآية (33) من سورة الأنعام.

وابن [عامر] (¬1) موصولة، فلم يُحتج إلى الفاء. وهذا معنى قوله جل وعلا: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3)}. والرب: هو السيد المدبر للشؤون، وربنا: هو خالقنا وسيدنا والمدبر لشؤوننا، الذي لا نستغني عنه، وكل من يدبر الشؤون ويدبر الأمور ويسوسها تسميه العرب (ربّاً) فيقولون: مَنْ رَبُّ هذا البلد؟ يعني: من هو السيد الذي يسوس أموره ويدَبِّرها، وهذا معروف في كلام العرب (¬2)، ومنه قول عَلْقَمَة بْن عَبَدة التميمي، وهو عربي قُح جاهلي (¬3): وكُنْتَ امرأً أفْضَتْ إليكَ ربَابَتي ... وقَبْلكَ رَبَّتني فَضِعْتُ رُبُوبُ فسمى الساسة الذين كانوا يسوسونه: (ربوباً) جمع (رب) وأصله من: (ربَّه يربُّه) إذا أصلحه وساس شؤونه، ومنه بهذا المعنى: (الربيبة) وهي بنت امرأة الرجل؛ لأن زوج أُمها في الغالب يسوسها ويدبر شؤونها، وقد يكون بعضكم قرأ في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حُنَيْن لما صَلَّى الصبح وانْحَدَر في وادي حنين في غَلَس ظلام الصبح بعد الصلاة، وكان مالك بن عوف النَّصْرِي جمع له هوازن في مضيق وادي حنين، فدخل المسلمون فيهم في غَلَس ظلام الصبح، فشدوا عليهم شَدَّة رجل واحد، فصارت الرِّمَاح والنِّبَال كأنها مطر تزعزعه الريح، ووقع بالمسلمين ما ذكر الله في قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ ¬

(¬1) راجع التعليق في الحاشية قبل السابقة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: آية 25] وكان صفوان بن أمية من أعْدَى خلق الله لِرَسُولِ الله؛ لأن النبي قتل يوم بدر أبَاه أميّة، وأخاه علي بن أمية، وقتل يوم أُحد عَمَّه أُبيّ بن خلف، فهو من أشد الناس عداوة لرسول الله، وهو الذي استعار منه النبي سلاحاً لغزوة حنين، وأمهله مدة ينظر فيها في أمره، وكان حاضراً لِمَا وقع للمسلمين، فقال رجل معه (ابن أخيه من الأم، أو قريب له): «الآن بطل سحر محمد» فعند ذلك قال صفوان: «اسكت فُضَّ فُوك، والله لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن» (¬1) وهو محل الشاهد؛ لأنه لو كانت غلبت هوازن النبي -لا قدر الله- لكانت السيادة لهم فحكموا قريشاً، فهو يقول: أن يربني ابن عمي محمد صلى الله عليه وسلم يسودني فيسوسني أحب إلى من أن يسودني رجل من هوازن، والشاهد: أن قوله: «لأن يربني» لأن يسودني فيسوسني ويدبر أمري، هذا أصل معنى الرب، ورب السماوات والأرض: هو خالق هذا الكون وسيده ومدبر شؤونه الذي لا يستغنى عنه طرفة عين. [2/أ] / قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: الآيات 4 - 7]. لما أمر الله (جل وعلا) جميع خَلْقِهِ أن يتبعوا ما أُنْزِلَ إليهم من ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

ربهم في قوله: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: الآية 3] ونهاهم أن يتبعوا أولياء من دونه -سواءً كانوا من أولياء الشياطين المضلين، أو من أولياء الإنس المضلين- في قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} ثم سفَّه من اتبع أولياء من دونه فقال: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} لما أمر باتباع ما أنزل الله، ونهى عن اتباع غيره حذر هذا التحذير العظيم من اتباع غير ما أنزل الله، وبيَّن أن قبلكم أمماً كثيرةً اتبعت غير ما أنزل الله، وامتنعت من اتباع ما أنزل الله، فأهلكها الله وَدَمَّرَها تدميراً مستأصلاً، وعَذَّبَهَا في الدنيا عذاباً نكراً متصلاً بعذاب الآخرة، يحذر خلقه أن يتبعوا غير ما أنزل لئلا يوقع بهم ما أوقع بمن قبلهم؛ ولذا قال بعد قوله: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} قال بعد ذلك مهدداً ومخوفاً لمن اتبع غير ما أنزل، وامتنع من اتباع ما أنزل: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} [الأعراف: الآيتان 4، 5]. قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ} (كم) في اللغة العربية هنا معناها الإخبار بعدد كثير، ومميزها هو المجرور بـ (من) معناه: وكثير من القرى أهلكناه ودمرناه؛ لأنهم اتبعوا غير ما أنزلنا، وتركوا اتباع ما أنزلنا. فـ (كم) هنا هي الخبرية، والمراد بها: الإخبار بعدد كثير. والمعنى: وكثير من نوع القرية أهلكناه ودمرناه. وإنما أَنَّث الضمير في {أَهْلَكْنَاهَا} لأنه عائد إلى القرية، إلا أن هذه القرية عددها كثير كما دل عليه قوله: (كم) لأنه يخبر بعدد ضخم من القرى الظالمة أهلكها الله ودمرها؛ لأنها لم تتبع ما أنزل. فمعنى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ} كثير من نوع القرية أهلكناه. و (كم) هنا في موضع رفع على أنها مبتدأ،

وجملة {أَهْلَكْنَاهَا} خبره، على أجود الإعرابين. ويجوز أن تكون منصوبة على الاشتغال، منصوبة بـ (أهلكنا) مضمرة دلت عليها {أَهْلَكْنَاهَا} (¬1) على حد قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: آية 49] إلا أن الرفع هنا على الابتداء أجود؛ لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير (¬2). والقرية تطلق في اللغة العربية إطلاقين (¬3): تطلق على مطلق الأبنية من الحجارة والطين والأُسس والسقوف، وتطلق على أهل القرية التي هي عامرة بهم، دل القرآن على إطلاقها هذين الإطلاقين. والتخويف بإهلاك أهلها وإن كان نفس القرى والأبنية يدمره الله ويهلكه، إلا أن التخويف الشديد إنما هو بإهلاك أهلها، والمراد بالإهلاك: إهلاك أهلها؛ لأن الله قال بأن المراد الأهل، قال: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4)} فقوله: {هُمْ قَآئِلُونَ} يدل على أن المراد هو السكان؛ لأن نفس الأبنية لا يقال فيها: {هُمْ قَآئِلُونَ} فلا بد هنا من تقدير: (أهل القرية) على كل حال (¬4)؛ لأن الله قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4)} فقال بعضهم: يقدر في قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: أهلكنا أهلها {فَجَاءهَا} أي: القرية، والمراد: أهلها {بَأْسُنَا بَيَاتاً} بدليل قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ}. وقال بعض العلماء: لا حاجة إلى تقدير (الأهل) في الأول: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: دمرنا أبنيتها وجعلناها خاوية ¬

(¬1) انظر الدر المصون (5/ 247). (¬2) انظر: البرهان للزركشي (3/ 104)، قواعد التفسير (1/ 362). (¬3) انظر: المفردات (مادة: قرى) ص669. (¬4) انظر: الدر المصون (5/ 248).

على عروشها لما سخطنا على أهلها {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} في حال كون أهلها بائتين، أو في حال كونهم قائلين، أي: مستريحين وقت القيلولة. وفي هذه الآية الكريمة حذف النعت، وحذف النعت يقول بعض علماء العربية: إنه قليل، كما قال ابن مالك في الخلاصة (¬1): وَمَا مِنَ المَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ... يَجُوزُ حَذْفُه وفِي النَّعْتِ يَقِل ولكنه بِتَتَبّع اللغة العربية يُعلم أن حذف النعت كثير. والنعت المحذوف هنا هو قوله: «وكم من قرية ظالمة عاصية غير متبعة ما أُنزل إليها». والدليل على هذا النعت المحذوف: أن الله لا يهلك قرية إلا قرية ظالمة، كما صرح به في قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص: آية 59] فدلت هذه الآيات على أن القرية يُحذف نعتها هنا. أي: «وكم من قرية ظالمة عاصية ممتنعة من اتباع ما أنزلنا، متبعة للأولياء المضلين غير ما أنزلنا، كم من قرية بهذه المثابة أهلكناها». وحَذفُ النعت (¬2) مشهور في كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)} [الكهف: آية 79] لأن المراد كل سفينة صحيحة صالحة؛ إذ لو كان يأخذ المعِيبَة المَخْرُوقَة لما كان في خرق الخضر للسفينة فائدة؛ لأنه لما خرقها خرقها ليعيبها لتسلم بذلك العيب من أخذ الملك الغاصب لها؛ لأن عيبها بالخرق يزهده في أخذها؛ ولذا قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (71) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: آية 79] أي: لئلا يأخذها الملك الغاصب، فدل كون الملك لا يأخذ السفينة المعيبة على حذف النعت في قوله: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} أي: صحيحة صالحة غير معيبة ولا مخروقة. وحذف النعت معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب قول المُرقَّش الأكبر (¬1): وَرُبَّ أَسِيلَةِ الخَدَّينِ بِكْرٍ ... مُهَفْهَفَةٍ لها فَرْعٌ وَجِيْدُ يعني: لها فرع فاحم، وجيد طويل، فحذف النعت لدلالة المقام عليه، ومنه قول عبيد بن الأبرص الأسدي يمدح رجلاً (¬2): مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ وَمَنْ فِعْلُهُ ... فِعْلٌ وَمَنْ نَائِلُهُ نائِلُ يعني: من قوله قولٌ فصلٌ، وفعله فعلٌ جميل، ونائله نائلٌ جَزْل، فحذف النعوت لدلالة المقام عليها، والمعنى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ} أي: وكثير من نوع القرية الظالمة العاصية المتبعة غير ما أنزل الله أهلكناها بسخطنا عليها فدمرناها تدميراً مستأصلاً؛ لأنها لم تتبع ما أنزلنا واتبعت غير ما أنزلنا. وهذه القرى بينها الله بكثرة إجمالاً وتفصيلاً (¬3)، كقوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9)} ثم بين عذابهم الأخروي فقال: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً} الآية [الطلاق: الآيات 8 - 10] وكقوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) انظر: الأضواء (2/ 288).

مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45)} [الحج: آية 45] والمعنى: أن آبارها تعطلت لم يبق من يستقي عليها لهلاك أهلها وفنائهم عن آخرهم. وكقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15)} [الأنبياء: الآيات 11 - 15] والآيات بمثل هذا كثيرة. ومن هذه القرى التي أهلكها الله قرى قوم لوط (سدوم) وغيرها، رفعها إلى السماء وقلبها فجعل عاليها سافلها، وأرسل عليها حجارة السجيل؛ ولأجل أنه قلبها وجعل عاليها سافلها سُميت القرى: (المؤتفكات) وسُميت عاصمتها: (المؤتفكة) لأن جبريل أَفَكَها، أي: قلبها فجعل عاليها سافلها. والإفك: قلب الشيء، ومنه قيل لأسوأ الكذب (إفك) لأنه قلب للحقائق عن ظواهرها. ومن تلك القرى: قوم مدين (أصحاب شعيب) الذين أهلكتهم الظُّلة، وقوم صالح الذين واعدهم ثلاثة أيام وعداً غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ومنهم قوم هود أرسل الله عليهم الريح العقيم فَدَمَّرهُم، ومنهم قوم نوح أرسل الله عليهم الطوفان فدَمَّرَهم، كما جاء مفصلاً في الآيات القرآنية. وكل هؤلاء القرى التي دمَّرها الله إنما دَمَّرَهَا لأنه أنزل إليها وحياً وتشريعاً على لسان نبي كريم وقال لها: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} ولا تتبعوا غيره. فتمردوا، ولم يتبعوا ما أنزل الله، واتبعوا غيره فَدَمَّرَهُم اللهُ تدميراً مستأصلاً؛ ولذا يُحذر هذه الأمة على لسان نَبِيِّها أن لا تتَّبِعَ غير ما أنزل الله، لئلا يهلكها بهلاك مُسْتَأْصِل.

وهذه الآيات فيها تخويف عظيم، وتهديد كبير من رب السماوات والأرض؛ لأنهم إذا تركوا العمل بما أنزل الله، وذهبوا يعملون بغير ما أنزل الله، فقد استحقوا العقوبة والهلاك، فهم مستحقون للعقوبة والهلاك، فعليهم أن يتبعوا ما أنزل الله، ويتركوا اتباع غير ما أنزل الله؛ ليسلموا بذلك من استحقاق عقوبات الله وإهلاكه العظيم؛ ولذا قال: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: إهلاكاً مستأصلاً لم يبق منها داع ولا مجيب {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} أي: عذابنا وهلاكنا المستأصل. والبأس يطلق على كل نكال شديد (¬1)، والمراد به هنا: إهلاكهم وتدميرهم عن آخرهم. وقوله: {بَيَاتاً} مصدر مُنكّر في موضع الحال (¬2)، أي: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} أي: جاء أهلَها بأسُنا في حال كونهم بائتين، أي: نائمين في الليل في بيوتهم، أو جاءهم بأسنا في حال كونهم وهم قائلون. والتحقيق: أن الجملة الحالية إذا عُطفت بأداة عطف حُذف منها واو العطف لاستثقال تكرر أدوات العطف (¬3)، هذا هو التحقيق، ومناقشات النحويين في عدم حذفه كلها ساقطة. والحق الذي لا شك فيه أن الجملة الحالية إذا عُطفت على حَال بأداة عطف تُحذف منها واو الحال؛ لأن واو الحال تشبه أداة العطف، فَيُسْتَثْقَل إثباتها مع حرف العطف، ويكون الربط بالضمير؛ لأن ربط الجملة الحالية بالضمير يكفي عن ربطها بالواو. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: بؤس) ص153. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 249). (¬3) انظر: السابق (5/ 250).

والبيات: أصله مَصْدر بَاتَ الرجل يبيت بيتُوتة، وبياتاً (¬1)، وسُمِّيَ البيت بَيْتاً؛ لأنه يُبَاتُ فيه، وهو مصدر مُنكَّر في مَوْضِع الحال، والمصادر المُنكَّرة تقع أحوالاً بكثرة. أي: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} أي: جاء أهْلها بأسُنا في حال كونهم بائتين نائمين في غفلة. أو جاءها بأسنا في حال كونهم وهم قائلون. والقائلون: جمع القائل، وهمزته منقلبة عن ياء؛ لأن الفاعل من الأجوف تُبدل عينه همزة، سواء كانت واواً أو ياء، فإن قلت: قال زيد، يقول، فهو قائل، الهمزة مبدلة من واو؛ لأن أصل الأجوف واوي العين من (القول). وإن قلت: قال زيد، يقيل. معناه: استراح في وقت النهار، يعني من العمل، سواء كانت القيلولة استراحاً مع نوم أو غير نوم. تقول: قال، يقيل، فهو قائل، كـ: (باع، يبيع، فهو بائع) فالهمزة مبدلة من ياء؛ لأن (قال، يقيل) من (القيلولة) أجوف يائي العين، و (قال، يقول) من (القول) أجوف واوي العين، والهمزة تُبدل من الواو والياء، وهي هنا مبدلة من ياء؛ لأن (القائلين) هنا جمع (قائل) وهو اسم فاعل (قال، يقيل) كـ (باع، يبيع) من (القيلولة) وهي الاستراحة في نصف النهار وقت شدة الحر، سواء كانت مع نوم أو مع غير نوم (¬2). وهذان الوقتان وقت راحة ودعة واستراحة، فإتيان العذاب والإهلاك فيها أفظع، وقد أهلك الله قوم شعيب في وقت القائلة؛ حيث أرسل عليهم الظُّلة في شدة النهار وأحرقتهم، وأهلك قوم لوط قبل ¬

(¬1) المصدر السابق (5/ 249). (¬2) انظر: المصدر السابق (5/ 252)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص230.

أن يستيقظوا مِنْ نوْمِهِمْ عند انصداع الفجر، كما قال: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)} [هود: آية 81] والله (جل وعلا) يخوف الظالمين المتبعين لغير ما أنزل بأن يهلكهم وقت البيات، أو وقت القيلولة، أو أن يهلكهم في أوقات أُخر كما قال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: الآيات 97 - 99]، وقال جل وعلا: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: الآيات 45 - 47] إلى آخر الآيات التي يخوف الله بها خلقه من معاصيه. وعلينا جميعاً أن نعرف أن خالق السماوات والأرض هو الجبار العظيم، شديد البطش والنكال {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} [البروج: آية 12] وهو يخوف خلقه أن يعملوا بمعصيته، وأن يتبعوا غير ما أنزل، فيجب على كل مسلم أن يخاف من عقوبات الله وسخطه وإهلاكه، وأن يحذر كل الحذر من أن يتبع غير ما أنزل الله، فيجب على كل أحد أن يتبع ما أنزل الله ويدع غيره. واستدلال ابن حزم وغيره من الظاهرية بهذه الآية على منع القياس سنبسط الكلام عليه في قصة إبليس - عليه لعائن الله - الآتية في الآيات القادمة قريباً إن شاء الله. وقوله جل وعلا: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} [الأعراف: الآيتان 4، 5] يعني: لما أهلك الله القرى بظلمها ودمرها تدميراً مستأصلاً لم يكن عندها عذر ولا حجة مقبولة؛

لأن الله (جل وعلا) هو العدل الذي لا يأخذ ظلماً: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: آية 40] فلا يأخذ أحداً بعذاب إلا وهو مستحق كل الاستحقاق لذلك العذاب؛ ولذا القرى التي دَمَّرَها لم تكن عندها دعوى ولا معذرة تقول: يا ربنا إنك ظلمتنا؛ أو عاقبتنا ولم تنذرنا!! لأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجته ويُعذر إليه من جميع الجهات، كما قال جل وعلا: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: آية 165] فلو كان عذبهم قبل أن ينذرهم لاعتذروا وقالوا: أنت لم تُنْذِرْنَا ونحن جاهلون معذورون، ولكن الله يقول: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وهذه الحجة التي أشار لها في سورة النساء أوضحها في سورة طه، وأشار لها في سورة القصص، حيث قال في طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134)} [طه: آية 134] وقال في القصص: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [القصص: آية 47] فلما قطع عذرهم بالرسل والآيات والمعجزات لما جاءهم الهلاك لم تكن عندهم دعوى يعتذرون بها، ولا حجة يبدونها إلا الإقرار والاعتراف بأنهم الخبثاء الظالمون؛ ولذا قال: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} [الأعراف: آية 5] لم يكن عندهم عذر ولا دعوى؛ ولذا قالوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. فقوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} قال بعض العلماء: فما كان قولهم؛ لأنهم لا حجة لهم ولا دعوى.

وقال بعض العلماء: لم يكن عندهم ادعاء ولا معذرة إلا قولهم: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. وقال بعض العلماء: الدعوى هنا بمعنى الدعاء، لم يكن عندهم دعاء ولا تضرع إلا الاعتراف بالذنب حين لا ينفع الاعتراف، والندم حيث لا ينفع الندم. والدعوى تطلق على القول، وعلى الادعاء، وعلى الدعاء (¬1). أي: فما كان قولهم ومعذرتهم حين جاءهم العذاب إلا الاعتراف {إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. وأظهر القولين هنا (¬2) أن {دَعْوَاهُمْ} في محل رفع اسم لكان، وأن قوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في محل نصب خبراً لكان؛ لأنه إذا كان الفاعل والمفعول أو الاسم والخبر معرفتين كان الأُولى منها يستحق أن يكون هو الفاعل أو الاسم إلا بدليل يدل عليه. وقول بعض العلماء: إن {دَعْوَاهُمْ} هنا منصوب بدليل قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا} [النمل: آية 56] فجعل {إِلاَّ أَن قَالُوا} هو المرفوع، و {جَوَابَ} هو المنصوب، كذلك {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ} فيه فرق؛ لأن {جَوَابَ} يظهر فيه النصب فيتعين الاسم من الخبر، وقوله: {دَعْوَاهُمْ} لا يتعين فيه الاسم من الخبر؛ لأنه لا يظهر عليه النصب، فالأَولى أن يكون الأول هو المرفوع، والثاني هو المنصوب إلا بقرينة تدل عليه. والمعنى فما كان دعواهم وادعاؤهم إلا قولهم: ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: دعا) (316)، بصائر ذوي التمييز (2/ 601). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 253).

{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} يعني: إنا كنا ظالمين فيما كنا عليه من اتباع غير ما أنزل الله، وترك اتباع ما أنزل الله. والظالمين جمع تصحيح للظالم، وهو خبر كان منصوب، والظالم: اسم فاعل الظلم، وقد قدمنا مراراً (¬1) أن الظلم في لغة العرب التي نزل بها القرآن أنه وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم. وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه: وضع العبادة في غير الخالق (جل وعلا)؛ ولذا كان الشرك بالله وعبادة غيره هو النوع الأكبر من أنواع الظلم، كما قال العبد الحكيم لقمان: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: آية 13] وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82] قال: بِشِرْك. ثم تلا قول لقمان: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] (¬2) ونظيره في القرآن: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] وقوله: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: آية 106] هذا أصل الظلم في لغة العرب. أعظم أنواعه: وضع الشيء في غير موضعه، وضع العبادة في غير مَنْ خلق، وهي الكفر بالله. ومن أنواع الظلم وضع الطاعة في غير موضعها بأن يطيع عدوه إبليس ويعصي خالقه (جل وعلا)، فمن أطاع إبليس واتبع تشريعه، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

وعصى الله ولم يتبع ما أنزل فهو ظالم؛ لأنه وضع الطاعة في غير موضعها، والمعصية في غير موضعها، والله يقول: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: آية 50] وكل مَنْ وَضَعَ شيئاً في غير موضعه تسميه العرب (ظالماً) ومن ذلك قولهم للذي يضرب لبنه قبل أن يروب: هو ظالم؛ لأنه وضع الضرب في غير موضعه؛ لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده، وإضاعة زبده وضع للضرب في غير موضعه، ومنه سُمي الذي يضرب لبنه قبل أن يروب (ظالماً) وفي لُغَز الحريري في مقاماته (¬1): هل يجوز أن يكون الحاكم ظالماً؟ قال: نعم إذا كان عالماً. يعني بقوله: «ظالماً» أنه يضرب لبنه قبل أن يروب ويسقيه الناس. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلَى العَكَدِ الظَّلِيمُ قولها: (ظلمت لكم سقائي) يعني سقيتكم إياه قبل أن يروب ويؤخذ زبده. وقوله: (وهل يخفى على العَكَد الظليم) العَكد: عصب مؤخر اللسان؛ لأن اللسان يذوق فيعرف ما نُزع زبده من اللبن وما لم ينزع. ومنه بهذا المعنى قول الآخر (¬3): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لمْ تَرُبْنِي شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وفي ظَلْمِي لَهُ عَامِداً أَجْرُ يعني: أنه صبَّ سقاءه فسقاه الناس قبل أن يروب، ويقول: ظلمي لهذا السقاء ظلم أُريد به الأجر عند الله، ولذا قال (¬4): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (129) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

وَصَاحِبِ صِدْقٍ لمْ تَرُبْنِي شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وفي ظَلْمِي لَهُ عَامِداً أَجْرُ ورواية البيت: (ظَلمي) بفتح الظاء، من (ظَلَمَه، يَظْلِمُه، ظَلْماً) لأن (الفَعْل) بالفتح والسكون، هو قياس مصدر الثلاثي المعدّى. أما الظُلم -بضم الظاء- فهو اسم مصدر الظَلم المعروف. والرواية في البيت: وَصَاحِبِ صِدْقٍ لمْ تَرُبْنِي شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وفي ظَلْمِي لَهُ عَامِداً أَجْرُ ومنه قيل للأرض التي حُفر فيها وليست موضعاً للحفر قيل: مظلومة؛ لأن الحفر وُضِعَ في غير موضعه، ومنه على التحقيق قول نابغة ذبيان (¬1): وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلالاً أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جواباً وَمَا بِالرّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلاَّ الأَوَاريَّ لأْياً مَا أبَيِّنُها ... والنُّؤي كالحوضِ بالمظْلُومَةِ الجَلَدِ النؤي هنا: يريد به ما يحفره الأعراب -البدو- حول خيامهم لِئَلا يجترفها السيل، فيحفرون حولها حفيراً يذهب معه الماء عن الخيمة، وإنما قال: إن هذه الأرض مظلومة؛ لأنها فلاة ليست محلاّ للحفر سابقاً؛ ولذا قيل للتراب المحفور من القبر (ظليم) أي: مظلوم؛ لأن العادة أنه لا يُحفر قبر في محل هو محل لحفر سابقاً؛ ومنه بهذا المعنى قول الشاعر يصف رجلاً جُعل في قبره (¬2): فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ ... مِنَ العَيْشِ مَرْدُودٌ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا وأمثال هذا في لغة العرب كثيرة، أصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

وهو في اصطلاح الشرع (¬1): وضع العبادة في غير موضعها، وهو الشرك بالله. أو وضع الطاعة في غير موضعها، كطاعة إبليس، ومعصية الله. وقد جاء الظلم في القرآن في موضع واحد يُراد به النقص (¬2) وهو قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف: آية 33] يعني أي: ولم تنقص منه شيئاً. وهذا معنى قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} [الأعراف: آية 5] أي: واضعين الشيء في غير موضعه حيث كنا نضع الاتباع في غير موضعه، فنتبع قانون الشيطان ونترك اتباع ما أنزل الله، ونطيع الشيطان ونعصي (¬3) أمر الله. فهم متبعون ما لا ينبغي أن يُتبع، وتاركون ما ينبغي أن يُتبع، فقد وضعوا الأمر في غير موضعه، وأوقعوه في غير موقعه، وذلك معنى الظلم في لغة العرب. ولذا قال: {قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}. وفي الآية التي ذكرنا إشكال معروف وسؤال مشهور عند العلماء، وهو الفاء في قوله: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} (¬4)؛ لأن المعروف في لغة العرب: أن الفاء حرف تعقيب، وأن ما بعدها آتٍ بعد ما قبلها؛ لأنك لو قلت: جاء زيد فعمرو. معناه: أن عَمْراً جاء بعد مجيء زيد، عقبه. والقرآن هنا قال: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا} فجعل مجيء البأس كأنه واقع عقب الإهلاك، ومجيء البأس ليس واقعاً عقب الإهلاك، بل مجيء البأس هو عين الإهلاك، فالتعقيب بالفاء ¬

(¬1) السابق. (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬3) في الأصل (غير) وهو سبق لسان. (¬4) انظر: الدر المصون (5/ 248 - 249).

هنا فيه إشكالاً معروفًا وسؤلاً مشهورًا عند العلماء؛ لأن طالب العلم يقول: كيف يقول: {أَهْلَكْنَاهَا} ثم يقول عقبه {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} فكأن البأس لم يأتها إلا بعد أن أُهلكت، والواقع خلافه؛ لأن البأس جاءها وهو إهلاكها. فهذا وجه السؤال. والجواب عنه للعلماء من أوجه معروفة مشهورة في التفسير: أحدها: أن الكلام على حذف الإرادة. أي: أردنا إهلاكها بإرادتنا المُصَمِّمَة الأزلية، فنفذنا ذلك، فجاءها بأسنا، وحَذْفُ فعل الإرادة كثير في القرآن جدّاً، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي: أردت أن تقرأ القرآن {فَاسْتَعِذْ بِالله} [النحل: آية 98] {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ} [المائدة: آية 6] أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا. وحَذْفُ فعل الإرادة معروف في القرآن وفي كلام العرب. الثاني: أن المراد بقوله: {أَهْلَكْنَاهَا} يعني: حكمنا بإهلاكها. يعني: في سابق أزلنا؛ أي: حكمنا عليها بالإهلاك، وجعلناه قدراً مقدوراً محكوماً به، فجاءها تنفيذاً لذلك القدر {بَأْسُنَا}. وهو قريب من الأول. [الثالث] (¬1): أن معنى {أَهْلَكْنَاهَا} أن الإهلاك -والعياذ بالله- هو الخذلان؛ أي: خذلناها وأضْلَلْنَاهَا فلم تتبع ما أنزل الله، ومن خذله الله ولم يوفِّقْهُ فهو الهالك، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور إنه ترك أمَّتَهُ على المحَجَّةِ الْبَيْضَاء، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِك (¬2). فسمى الزائغ عن الطريق: هالكاً، فمعنى: ¬

(¬1) في الأصل: «الثاني» وهو سبق لسان. (¬2) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، ولفظه: ((تركتكم على البيضاء))، وفي رواية: ((على مثل البيضاء)). وبنحوه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. أخرجه أحمد (4/ 126، 127)، والدارمي (1/ 43)، وأبو داود في السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم: (4583) (2/ 358)، والترمذي في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع. حديث رقم: (2676)، (5/ 44)، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث رقم: (42، 43، 44)، (1/ 15 - 17)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 17 - 20)، والمروزي في السنة ص26 - 27، وابن حبان (كما في الإحسان 1/ 104)، والطبراني في الكبير (18/ 246 - 248)، والآجري في الشريعة ص46 - 47، والحاكم في المستدرك (1/ 95 - 97)، وفي المدخل إلى الصحيح ص79 - 81، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 22، 74 - 76) وأبو نعيم في الحلية (5/ 220 - 221)، والبيهقي في الكبرى (10/ 114)، وفي الاعتقاد ص113، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 1163 - 1164)، والبغوي في شرح السنة (1/ 205).

{أَهْلَكْنَاهَا} خذلناها حتى زاغت عن الطريق، وكفرت، وعتت عن أمر ربها، فجاءها بأسنا نتيجة لذلك الإهلاك الذي هو الضلال الذي خذلها الله فأضلها. وقال بعض العلماء: جرت عادة العرب في لغتهم أن كل فعلين معناهما واحد يرتبون ما شاءوا منهما بالفاء على الآخر. وعليه فالفاء تفسيرية؛ لأن الفاء قد تكون [تفسيرية، نحو: توضأ فغسل وجهه] (¬1) ويديه ورجليه. فقوله: «فغسل» هنا: الفاء تفسير لتوضَّأ، فهي تفسيرية؛ ولذا {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: آية 4] فيكون مجيء البأس تفسيراً للإهلاك. والعرب تقول: إن كل فعلين معناهما واحد يُرتب كل منهما على الآخر بالفاء والواو كالتفسير، كأن تقول: شتمني فأساء إلي، وأساء إلي فشتمني. ونحو ذلك وهذا مستفيض ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام كما في الدر المصون (5/ 249).

في كلام العرب. وهذه أوجه الجواب عن هذا الإشكال. ومعنى قوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: آية 5] ثم إن الله (جل وعلا) علم بأنه أنزل هذا الكتاب الأعظم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والإنذار به، ثم أمر باتباعه، ونهى عن اتباع غيره، ثم بيَّن أن من لم يتبع ما أنزل الله يهلكه الله ويدمره، وأنه إذا جاءه الإهلاك والتدمير ليس عنده إلا الإقرار، بيَّن أنه يوم القيامة سيسأل جميع الخلائق من مرسلين ومرسل إليهم ماذا كان موقفهم من هذا القرآن العظيم الذي أمرهم باتباعه في دار الدنيا، فيسأل المرسلين: هل بلغتم كتابي؟ وماذا أجابوكم؟ ويسأل المُرسل إليهم: هل بلغكم رسالاتي؟ وماذا أجبتم به المرسلين؟ ومما يفسر الآية: قوله جل وعلا: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: آية 109] يعني: ماذا أجابتكم به الأمم لما أمرتموهم باتباع ما أنزلت، ونهيتموهم عن اتباع غيره؟ ثم قال في الأمم: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء} وفي قراءة: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلَونَ} [القصص: الآيتان 65، 66] (¬1) فالله (جل وعلا) في ذلك الوقت يسأل جميع الخلائق ويقول للمرسلين: هل بلَّغتم رسالاتي؟ ويقول لهم أيضاً: ماذا أجابتكم به أممكم؟ هل قبلت منكم ما جئتم به أو ردته عليكم؟ ويقول للذين أُرسل إليهم: هل بَلَّغَتْكُم الرسلَ رسالاتي، وماذا أجبتم رُسُلي؟ فالذي عرف أن الله أقسم في هذه الآية أنه يسأل الرسل، ويسأل المُرسل إليهم، يلزم عليه في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة أن يكون من المُصدقين للرسل، المتبعين ما أنزل الله لئلا يقع في الويلة العظمى والهلاك الأكبر عند ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص238.

هذا السؤال الهائل المخيف. وهذا معنى قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} يعني: بماذا أجابوا الرسل، وهل بلغتهم الرسل؟ {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: آية 6] هل بلغوا الأمم؟ وماذا أجابتهم الأمم (¬1)؟ كقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: آية 65] {يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: آية 109] فعلى المؤمن أن يكون متبعاً لما أنزل الله ليكون جوابه عند هذا السؤال جواباً سديداً. وقد قدمنا أن الأمم الكافرة إذا سُئل الرسل وقالوا: (قد بلغناهم) ينكر الأمم ويقولون: ما بلغونا ولا شيئاً، ولو بلغونا لأطعنا ربنا!! فيقول الرسل: والله لقد بلغناهم أكمل تبليغ وأتمه. فيقول الله للرسل - هو يسأل الجميع، وهو أعلم - ليُظهر براءة الرسل ونزاهتهم وأمانتهم، ويُظهر خيانة الكفرة وعنادهم وكفرهم، فيكون فضلاً لهؤلاء ونكالاً لهؤلاء، فإذا أنكر الكفار أن الرسل بلغوهم، وقيل للرسل: هل عندكم من شهداء؟ فيقولون: نعم، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد لنا، فيُدعى بنا -معاشر هذه الأمة الكريمة- فنشهد في ذلك الموقف العظيم للرسل الكرام بأنهم بلغوا ونصحوا وتحمَّلُوا الأذى، وبلغوا الدعوة على أكمل وجوه التبليغ، مع تحمّل الأذى على أكمل الوجوه، وأن الأمم الكافرة هي التي آذتهم وأهانتهم وطغت وتجَبَّرَتْ وتَكَبَّرَت عن قبول رسالات ربها. فيقول الأمم: يا ربنا كيف تقبل علينا شهادة أمة محمد وهم وقت إرسال الرسل إلينا لم يبرزوا للوجود، فهم في ذلك الوقت معدومون؛ لأنهم آخر الأمم، وكيف يشهدون على شيء وقع قبل أن يكونوا في الوجود؟! فنُسأل عن ذلك، ¬

(¬1) انظر الأضواء (2/ 289) ..

فنقول: نعم، نحن في ذلك الوقت كنا معدومين، ولكنا بعد وجودنا حصل لنا اليقين الجازم، ومدار الشهادة على اليقين الجازم، فما شهدنا إلا بيقين جازم لا تختلجه الشكوك ولا الأوهام؛ لأنك يا ربنا أرسلت إلينا رسولاً كريماً هو خير الرسل وأصدقهم وأعظمهم أمانة، وأنزلت عليه كتاباً محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فما جاءنا في ذلك الكتاب، وأخبرنا به ذلك النبي الكريم، فنحن نقطع به ونجزم به أشد قطعاً وجزماً مما عايناه بأعْيُنِنَا وسمعناه بآذاننا، وهؤلاء قد قصصت علينا أخبارهم في آياتك المحكمات قصصاً لا يختلجه شك، فهو قطع مجزوم به، فهؤلاء الكفرة قوم نوح قصصت علينا قضيتهم وأذاهم له، وما تحمل من أذاهم، وما نصح لهم من النصح، وما مكث فيهم من الزمن يبلغهم {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: آية 14] وأنه قال: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7)} [نوح: الآيات 5 - 7] وهؤلاء قوم هود قصصت علينا قصصهم في آيات كثيرة، كقولهم له: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: آية 53] وهؤلاء قوم صالح قصصت علينا أخبارهم في آيات كثيرة، كقولهم له: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى آخر الآيات [الأعراف: آية 77]، وقد قدمنا أن هذا معنى قوله: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: آية 143] ومن هذا ( ... ) (¬1). ¬

(¬1) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل وذهب معه بعض الكلام .. ويمكن أن يستدرك أول المسألة الآتية من كلام الشيخ رحمه الله في الأضواء حيث قال: «وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} وقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24)} وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: ... » إلخ. الأضواء (2/ 290). كما يمكن أن يُستدرك بقية الكلام السابق بمراجعة كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة عند الكلام على الآية (93) من سورة الأعراف.

[2/ب] / {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: آية 78] وقال: {لاَ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: آية 39] فنفى سؤال الناس عن ذنوبهم، وأنه لا يُسأل أحد عن ذنبه مع أن قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: الآيتان 92، 93] من جملة ما كانوا يعملون: ذنوبهم، فإنهم يُسألون عنها (¬1). ووجه الجواب: أشهر أجوبة العلماء عن هذا جوابان: أحدهما: أن السؤال قسمان: سؤال توبيخ وتقريع، وهو من جنس التعذيب، وسؤال استخبار واستعلام واستكشاف، فالمنفي في الآيات: سؤال الاستخبار والاستعلام والاستكشاف؛ لأن الله هو العالم المحيط علمه بكل شيء، فليس كقضاة الدنيا الذين يَسْألون عن الحقيقة ليستفيدوا منها علماً، فهو عالم بما صنعوا، مُسَجِّل له عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فلا يقال للواحد منهم: هل فعلت الذنب الفلاني؟ سؤال استعلام واستكشاف، بل هو مسجل عليه ذنبه، محقق عليه، لا يُسأل عنه بهذا المعنى أبداً، وإنما ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 290 - 291) , (7/ 753 - 754)، دفع إيهام الاضطراب ص 131.

يُسال عن ذنبه سؤال توبيخ وتقريع، ويُقال له: لِمَ فعلت هذا؟! ألم أنهك يا خبيث عن هذا؟! وإذا وَجَدْتَ أسئلة الكفار في القرآن وجدتَها كلها أسئلة توبيخ وتقريع، كما قال لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: آية 71] {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} [الصافات: آية 25] {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} [الطور: آية 15] كل الأسئلة أسئلة توبيخ وتقريع، وأما سؤال المرسلين فليس سؤال توبيخ ولا تقريع، والمراد به أن المرسلين إذا سُئلوا وقالوا: (بلَّغنا ونصحنا) رجع اللوم والتقريع على الأمم. ومن ذلك القبيل: سؤال الموءودة، وهي البنت التي كانوا يدفنونها حية، كما في قوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: الآيتان 8، 9] لأن سؤال الموءودة ليس توبيخاً ولا تقريعاً للموءودة؛ لأنها لا ذنب لها، وإنما تقول: قُتِلْتُ ودُفنت حية في غير ذنب؛ ليتوجه العتاب الشديد واللوم العظيم على من فعل ذلك بها، فسؤال المرسلين وسؤال الموءودة إنما يُراد به: شدة توبيخ الكفار الذين كذبوا المرسلين، ووأدوا الموءودة. هذا معنى الآيات، وهذا معنى قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: الآية 6] والدليل على أن سؤال الله للكفار سؤال توبيخ وتقريع، وأن سؤاله للمرسلين ليجيبوا بأنهم بلَّغوا فيتوجه التوبيخ والتقريع على الكفار زيادة على زيادة. الدليل على هذا -أنه لا يسألهم سؤال استعلام واستخبار واستكشاف- أنه أتبعه بقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: آية 7] يعني: لا نسألهم لنستفيد منهم شيئاً لم نعلمه، بل نحن نقص عليهم جميع ما عملوا بعلم حقيقي أزلي محيط بكل شيء، وما كنا في دار الدنيا غائبين عن شيء فعلوه، فلا نسألهم

سؤال استعلام واستكشاف، وإنما نسألهم سؤال توبيخ وتقريع، أما في الكفار فبالمباشرة، وفي المرسلين فليبرءوا أنفسهم بأنهم بَلَّغوا، فيتوجه التقريع العظيم على الكفار الذين كذبوهم {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} فوالله لنقصن عليهم بعلم. ومعنى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} نذكر لهم أعمالهم فذلك قصة، قصة، قصة، فيقول الله للعبد: يا فلان بن فلان ألم تعلم أنك فعلت في اليوم الفلاني، في الوقت الفلاني، في الساعة الفلانية، من الشهر الفلاني، في البقعة الفلانية، عملت كذا وكذا، وكذا وكذا؟ ثم يسرد عليه أعماله قصة قصة، وقعة بعد وقعة، حتى يأتي على جميع ما فعل، وكذلك تشهد عليهم بقاع الأرض؛ لأن الإنسان إذا عصى الله في بقعة من بقاع الأرض يومئذ ينطقها الله، وتشهد عليه البقعة، وتقول: أشهد على فلان بن فلان أنه في ساعة كذا في يوم كذا في شهر كذا فعل عليَّ كذا وكذا. كما يأتي إيضاح هذا في سورة الزلزلة في قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} إلى قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: الآيات 1 - 5] تُحدث الأرض أخبارها فتخبر بما فعل الناس عليها، كما أنهم في ذلك الوقت تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم وجلودهم، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: آية 65] ولما لاموا جلودهم في الشهادة عليهم {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: آية 21] والله (جل وعلا) يخبر أنهم في دار الدنيا ما كانوا يتسترون على أعضائهم خوف أن تشهد عليهم، لا يظنون أنها تشهد عليهم {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ

وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: الآيتان 22، 23] يعني: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} [الأعراف: آية 7] على الأنبياء والأمم ما فَعَلَهُ كلّ إِنْسان على رؤوس الأشهاد، فَعَلْتَ كذا وكذا، مع أنه يجد كل ما فعل من حين يخط عليه القلم إلى أن يموت مكتوباً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ وإذا وضع الكتاب خاف أهل الذنوب خوفاً هائلاً شديداً؛ ولذا قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} مشفقين: أي خائفين خوفاً عظيماً يتخلَّلُه الإشفاق على أنفسهم من الهلاك {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: آية 49] وفي ذلك الوقت يُعطى كل إنسان كتابه على رؤوس الأشهاد، ويؤمر بأن يقرأه هو بنفسه، كما قال جل وعلا: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)} [الإسراء: الآيتان 13، 14] فإذا عرف (¬1) الإنسان أن جميع ما يقول في دار الدنيا سيُلقى على رؤوس الأشهاد ويُقص عليه أمام الخلائق في الآخرة: فعلتَ كذا وكذا، في يوم كذا، في تاريخ كذا، وأنه يُلَقَّاه في كتاب منشور على رؤوس الأشهاد، إذا كان المسلم يعرف هذا وعنده مسكة من عقل يجب عليه في دار الدنيا -وقت إمكان الفرصة - أن لا يخزي نفسه ويخجلها على رؤوس الأشهاد خزياً وخجلاً يجره إلى النار، فيُحاسِبُ، وينظر إلى الملكين المصاحبين له، وأن لا يقول ولا يفعل إلا شيئاً إذا رآه مسجلاً عليه يوم القيامة، أو قيل له: أنت فعلت، كان يُبَيِّضُ وجهه، ولا يُسَوِّده، ولا يخزيه، ولا يفضحه. وعلى كل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام.

واحد منا أن يعلم الحقائق القرآنية، وأسرار الوحي، ولا يبقى كالبهيمة التي تأكل النهار وتنام الليل، هذا لا ينبغي؛ لأن الرحيل قريب والقضاء قريب، والمحاسبة حق، وكل ما فعله الإنسان مُسَجَّل عَلَيْهِ، وسيُقرأ على رؤوس الأشهاد، وسيجده في كتاب منشور، فعلينا معاشر الإخوان أن لا نفضح أنفسنا يوم القيامة، وأن لا نُفوِّت الفرصة وقت الإمكان ونضيعها في قال وقيل حتى يضيع العمر المحدد، ويُجر الإنسان إلى القبر وهو صفر الكفين، فقير ليس عنده حسنات، لا ينشر عنه يوم القيامة إلا ما يفضحه ويخزيه، وفضيحة الآخرة وخزيها ليست كفضيحة الدنيا، فالذي يُفضح في الدنيا يكون خسيس العرض وهو في أشد الفضيحة وهو يفرح ويمرح، ويأكل ويشرب، صحيح الجسم، لا أثر عليه، أما فضيحة الآخرة فإنها يتبعها العذاب المخلد، والجر بالنواصي والأقدام إلى النار. فعلينا كُلاًّ أن ننتهِز الفرصة قبل أن يضيع الوقت، وأن لا نُفرِّط لئلا نندم حيث لا ينفع الندم، لأن الله (جل وعلا) مسجل علينا كل ما فعلنا؛ ولذا قال: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)}. وقد أجمع جميع العلماء أن مثل هذه الآيات لم ينزل الله من [السماء إلى الأرض] (¬1) واعظاً أكبر، ولا زاجراً أعظم من هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، الذي لا تكاد تقلب ورقة واحدة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم؛ لأن جبار السماوات والأرض، خالق الخلق يقول لكم: يا عبادي الأذلاء الضعفاء المساكين: اعلموا أني مطلع على كل ما تفعلون من الخسائس والخبائث، أُسجله عليكم بعلم حقيقي أَزَلِيّ ¬

(¬1) في الأصل: «من الأرض إلى السماء» وهذا سبق لسان.

إلهي، ولست غائباً عن شيء تفعلونه، بل كل ما تفعلون بمرأى مني ومسمع، فاحذروا أن تنتهكوا حُرماتي، وأن تستوجبوا سخطي وعذابي يوم القيامة. وضرب بعض العلماء (¬1) لهذا مثلاً -ولله المثل الأعلى- وقد كررناه في هذه الدروس تكراراً كثيراً لكثرة تكرار القرآن له في جميع الآيات، لو فرضنا أن هذا البراح من الأرض فيه ملك - ولله المثل الأعلى - إذا انتُهكت حُرماته يغضب غضباً شديداً، ويُنكِّل بمن أغضبه أشد النكال وأعظمه، وحول هذا الملك نساؤه وبناته وجواريه، أترون أن الحاضرين يخطر في بال أحد منهم أن يشير إلى جارية من جواريه، أو إحدى بناته؟ لا، بل كل منهم خاشع الطرف، خاضع الأعضاء، غايته السلامة، لا يتحرك، ولا يفعل أي شيء يُغضب ذلك الملك وهو ينظر إليه. هذا - ولله المثل الأعلى - في ملك من الآدميين، يموت ويأكله التراب والدود، فكيف - ولله المثل الأعلى - بخالق السماوات والأرض، وهو أشد بطشاً وأعظم نكالاً، وهو مطلع عليكم، يقول لكم: اعلموا أن كل ما تفعلون أني مطلع عليه. فلو علم أهل بلدة من البلاد أن أمير ذلك البلد يطلع على كل ما يفعلونه من الخبائث والخسائس في الليل، وأنه يراه، لباتوا متأدبين لا يفعلون إلا شيئاً حسناً خوفاً من عقابه، مع ضعف عقاب ملوك الدنيا - ولله المثل الأعلى - فالله يقول: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: آية 61] ولأجل أن هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، هو أعظم أسباب طاعة الله؛ لأن من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

راقب الله، ولاحظ أن الله مطلع عليه - إن كان عاقلاً - استحيا من الله، ولم يرتكب ما يسخط الله، ولا يفضحه هو ويخزيه يوم القيامة. أراد جبريل عليه السلام أن يُعَلِّم الصحابة (رضي الله عنهم) هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، فجاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قصة حديث جبريل المشهورة، وقال له: «يا محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أخبرني عن الإحسان» والإحسان: هو أن تأتي بالعمل حسناً على الوجه اللائق عند الله (جل وعلا)، والإحسان هو الذي خُلقنا من أجله؛ لأن الله يقول في أول سورة هود: {خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ثم بين الحكمة في خلقه الخلائق فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] ولم يقل: أكثر عملاً. وقال في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بين الحكمة في خلق الأرض وزينتها قال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: آية 7] وقال في أول سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بين الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] فهذه الآيات دلت على أنه خلق الخلق ليمتحنهم، وهذا لا ينافي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: آية 56] أي: إلا لآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي عَلَى ألسنة رسلي، وأمتحنهم فيظهر المحسن منهم وغير المحسن، فلما كان الإحسان هو الذي خُلقنا من أجله، أراد جبريل أن ينبه الصحابة على الطريق إليه فقال: «يا محمد أخبرني عن الإحسان» صلى الله عليه وسلم، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طريق الإحسان محصورة في هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، وهو أن يعلم العبد الضعيف الذليل المسكين أن جبار السماوات والأرض مطلع عليه، حاضر لا يغيب عن شيء من فعله، يعلم كل ما يفعل؛ ولذا

قال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1)، فجميع الخَلائق الله (جل وعلا) مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، لا يغيب عنه شيء من أعمالهم؛ ولذا قال: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: آية 7]. وآية الأعراف هذه وغيرها من الآيات تدل على بطلان مذهب المعتزلة النافين للصفات (¬2)، فيقولون: إن الله عالم لا بعلم قام بذاته، قادر لا بقدرة قامت بذاته ... إلى آخرها. ويقولون: إن العلم لو كان ثابتاً لكان موجوداً أزليّاً قديماً، والقديم لا يتعدد. وهذا من سخافة عقولهم، والله أثبت لنفسه أنه عالم بعلم فقال: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} وأثبت لنفسه صفة العلم ونظيرها قوله: {لَكِنِ الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: آية 166] وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم له صفة العلم والقدرة في دعاء الاستخارة المشهور المأثور: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» (¬3) فأثبت له صفة العلم وصفة القدرة. فهذه النصوص القرآنية النبوية من الآيات والأحاديث تدل على بطلان سخافة المعتزلة في نفيهم لصفات المعاني وإثباتهم أحكامها؛ ولذا قال جل وعلا: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ}. {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} [الأعراف: آية 7] صيغة الجمع في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة .. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 291). (¬3) أخرجه البخاري في التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى. حديث رقم (1162)، (3/ 48)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الأحاديث رقم: (6382، 7390).

قوله: {وَمَا كُنَّا} للتعظيم، وقد جاء عن ابن عباس (رضي الله عنه) أن السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهما في يد الله (جل وعلا) أصغر من حبة خردل في يد أحدنا (¬1)، وله المثل الأعلى فهو العلي الأعظم، الكبير الأكبر، الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه شيء، فعلينا جميعاً أن نعلم أن كل ما نفعل أن ربنا مطلع عليه، ومُدَّخره لنا فمجازينا عليه، وليعلم كل واحد منا أن حركاته في دار الدنيا هي بيته الذي يبنيه، والذي يصير مصيره الأبدي إليه، فإن كانت حركاته طيبة كلها طاعة لله فإنه يبني بها غرفة من غرف الجنة، ينال فيها الحور العين، والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، والنظر إلى وجه الله الكريم، وإن كانت حركاته في دار الدنيا حركات سيئة مخالفة (¬2) لما أنزل الله فإن تلك الحركات إنما يبني بها منزله ومصيره الأخير، وهو سجن من سجون جهنم؛ لأنه لا مسكن في الآخرة إلا غرف الجنة أو سجون جهنم، وقد يُدخل الواحد من أهل جهنم في سجنه ومقره كما يُدخل الوتد في الحائط لشدة ضيق مكانه عليه، كما قال جل وعلا: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13)} [الفرقان: آية 13] فعلى كل مسلم أن لا يضيع الفرصة، وأن يعلم أنها ليست فوضى، وأنه عبد مملوك مربوب، عليه رقابة إلهية عظمى تُسجل عليه ما يفعل من خير وشر، فليتحرَّ، وأن لا يفعل إلا ما يرضي ربه، ولا يخزيه ولا يفضحه يوم القيامة على رؤوس ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1090)، (2/ 476)، وابن جرير (24/ 25)، والذهبي في العلو (314)، ص117. (¬2) في الأصل: «مخالفة لغير ما أنزل الله» وهو سبق لسان.

الأشهاد؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك جاءه الموت من حيث لا يشعر، وقد يأتيه بغتة فتضيع عليه الفرصة ويندم حيث لا يفيد الندم. {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9)} [الأعراف: الآيتان 8، 9] (¬1). [3/أ] / بيّن الله (جل وعلا) في أول هذه السورة الكريمة - سورة الأعراف - أنه كتاب أنزله، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذر بهذا الكتاب المنزل إليه، وأن لا يكون في صدره حرج، ثم أمر عامة الناس باتباع ما أنزل، ونهاهم عن اتباع غيره، ثم بين لهم أنه أهلك كثيراً من القرى لما أعرضوا عن اتباع ما أنزل واتبعوا غيره. بين في هذه الآية الكريمة أن هذا الكتاب الذي أنزل إليكم والسنة المفسرة المبينة له التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمركم الله بالعمل بكل ما أنزل في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بين لكم أن المفرط والممتثل منكم ليس واحد منهما يُترك فوضى سُدى، بل لا بد أن يُحصى على كل إنسان ما عمل من يوم تكليفه إلى يوم يموت، وأن جميع ما قدم من خير أو شر يوزن يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فتوزن حَسَنَاتُهُ وسيئاته بميزان عدل، لا ينقص شعيرة قال: {وَالْوَزْنُ} أي: وزن أعمال الإنسان ممَّا قَدَّمَ في دار الدُّنْيَا من حسنات وسيئات. {يَوْمَئِذٍ} تقرر في علم العربية أن تنوين (يومئذ) أنه تنوين عوض عن جملة (¬2)، والجملة التي تُعوض عنها نون التنوين تكون ¬

(¬1) الآية غير موجودة في التسجيل. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 15).

مذكورة سابقاً في أول الكلام والمعنى، فنون التنوين في {يَوْمَئِذٍ} عوض عن قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: الآيتان 6، 7] أي: ووزن الأعمال يومئذ نسأل الذين أُرسل إليهم ونسأل المرسلين. وزن أعمال الخلائق يومئذ، أي: يوم ذلك السؤال المتقدم وهو يوم القيامة. {الْحَقُّ} قوله: {وَالْوَزْنُ} مبتدأ بلا خلاف. واختلف المعربون من علماء العربية في خبره (¬1)، وقال بعضهم: خبره {يَوْمَئِذٍ}، والمعنى: والوزن الحق كائن يومئذ، يوم سؤال الرسل والمرسلين، وعليه فالخبر هو الظرف الذي هو (يومئذ) يُقدر له الكون والاستقرار، والوزن كائن يومئذ، أي: يوم ذلك السؤال المذكور. وقال بعض العلماء: خبر المبتدأ هو (الحق) أي: والوزن في ذلك اليوم الحق. فـ (الوزن) مبتدأ، و (الحق) خبره. وعلى القول الأول فهو يدل على أن الذين أجازوه من علماء العربية -وهم جماعة كثيرة من علماء العربية والمفسرين- يدل على أنهم يرون أن المبتدأ إذا كان منعوتاً لا تمتنع الحيلولة بينه وبين نعته بالخبر. هكذا ظاهر صنيعهم وإعرابهم، أن (يومئذ) خبر، و (الحق) نعت للوزن. وأظهر الإعرابين: أن (الحق) هي خبر (الوزن)، و (يومئذ) ظرف، أي: والوزن في ذلك اليوم الحق العدل. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 255).

وأصل الحق: الثابت الذي لا يضمَحِلّ، والمراد بالحق فيه أنه عدل ثابت لا جور فيه ولا حيف، فلا يُزاد في سيئات مسيئ، ولا يُنقص من حسنات مُحْسِن، فهو وزن في غاية الحق، وفي كمال العدالة والإنصاف، لا يُظلم صاحبه شيئاً (¬1)، ولكن قد يُزاد المحسن حسنات إلى حسناته: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا} [النساء: آية 40] وفي القراءة الأخرى (¬2): {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}. وهذا الوزن فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر، يعني: يا عبادي ما دمتم في دار الدنيا فانتهزوا الفرصة، ولا يضع عليكم الوقت، واعلموا أن كل ما تقدمون وما تقولون وما تفعلون من خير سيوزن بميزان عدل حق قسط على رؤوس الأشهاد، لا يخيس شعيرة، فمن ثقلت موازينه بالحسنات فهو المفلح، ومن خفت موازينه بكثرة سيئاته وقلة حسناته فلا يلومن إلا نفسه. واعلموا أن جماهير العلماء من عامة المسلمين، سلفهم وخلفهم، على أن هذا الوزن وزن حقيقي، وأنه يقع بميزان له لسان وكفتان (¬3)، توضع السيئات في كفة، والحسنات في كفة، فيثقل الله ما شاء منهما، فإن كانت حسناته أكثر ثقلت كفة الحسنات فصار إلى الجنة، وإن كانت سيئاته أكثر خفت موازينه لِقِلَّةِ حسناته وكثرة سيئاته، وحُقَّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحُقَّ لميزان ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 292). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص179. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 311)، التذكرة للقرطبي ص313، الجامع لأحكام القرآن (7/ 165)، شرح الطحاوية ص609.

توضع فيه السيئات أن يخف، والحق إنما كان ثقيلاً في الميزان يوم القيامة؛ لأنه ثقيل على النفوس في دار الدنيا، والباطل إنما كان خفيفاً في الميزان يوم القيامة لخِفَّتِه على النفوس في دار الدنيا، وهذا الوزن التحقيق الذي عليه السلف أنه وزن حقيقي، بميزان حقيقي، له لسان وكفتان، ينظر إليه جميع الخلائق، توضع أعمال العبد في كفة، الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فإن ثقلت كفة الحسنات صار إلى الجنة، وإن خفت كفة الحسنات صار إلى النار. واختلفوا في كيفية هذا الوزن على ثلاثة أقوال لا يكذب بعضها بعضاً (¬1)، وقال بعض العلماء: لا مانع من أن يقع جميعها فذهب أكثر المفسرين إلى أن الموزون هو صحائف الأعمال؛ لأن كل إنسان له كتاب وصحائف فيها عمله، كما قدمنا في قوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ} [الإسراء: الآيتان 13، 14] فهذا الكتاب متضمن جميع صحف عمله، وأن هذه الصحف يوضع ما كُتب منها فيه الحسنات في كفة، وما كتب فيه السيئات في كفة، وعلى هذا القول الأكثر، واستدلوا له بحديث البطاقة المشهور الذي أخرجه الترمذي وغيره (¬2) وصححه ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 310 - 314)، الجامع لشعب الإيمان (2/ 69)، ابن كثير (2/ 202)، التذكرة للقرطبي ص313، الجامع لأحكام القرآن (7/ 165)، شرح الطحاوية ص610. (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أخرجه أحمد (2/ 213، 221)، والترمذي، كتاب الإيمان، باب: ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، حديث رقم: (2639)، (5/ 24)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة. حديث رقم (4300)، (2/ 1437)، والحاكم (1/ 6)، (529)، والبيهقي في الشعب (2/ 71)، وابن جرير (12/ 313)، والبغوي في التفسير (2/ 149)، وانظر: السلسلة الصحيحة، حديث رقم (135).

بعض أهل العلم أن رجلاً يوم القيامة يُجاء له بتسع وتسعين سجلاً كلها مملوءة من السيئات، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يقول له ربه: هل تنكر شيئاً من هذا؟ فيقول: لا. هل ظلمتك رسلي؟! لا .. ثم يُؤتى ببطاقة -والبطاقة: القطعة الصغيرة قدر الأنملة- مكتوب فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، فيقول: وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات العظيمة الكثيرة؟! فيقال له: إنك لا تُظلم. فتوضع تلك البطاقة الصغيرة في كفة الميزان وتلك السجلات العظيمة الهائلة في الكفة الأخرى، فطاشت تلك السجلات، وثقلت تلك البطاقة؛ لأن اسم الله (جل وعلا) لا يعادله شيء. استدلوا بهذا الحديث على أن الموزون هو صحائف الأعمال لذكر وزن السجلات ووزن البطاقة التي فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وذهبت جماعة من العلماء، ورواه غير واحد عن ابن عباس (¬1): أن الموزون نفس الأعمال، وأن الله يُحوِّل الأعمال الحسنة إلى أجرام حسنة مضيئة نيرة، والله (جل وعلا) قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يقلب ما ليس بجسم أن يقلبه جسماً، وقد جاء ما يدل على هذا كما جاء في حديث الترغيب في الزهراوين البقرة وآل عمران أنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو فرقان من طير ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الشعب (2/ 69)، والبغوي في التفسير (2/ 149)، ونقله عنه ابن كثير (2/ 202)، وذكره السيوطي في الدر (3/ 70)، وهذا الأثر لا يصح عن ابن عباس (رضي الله عنهما) لأنه من طريق الكلبي عن أبي صالح.

صواف (¬1)، وكما جاء في الحديث أن عمل الإنسان يتجسم له في صورة إنسان طيب الريح، وكذلك العمل الخبيث (¬2)، وكما جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يتمثل لصاحبه في قبره (¬3)، وأمثال هذا كثيرة جدّاً، وعلى كل حال فالله قادر على أن يقلب الأعمال أجساماً، فهو قادر على كل ما يشاء، فيجعل الأعمال الصالحة في صور نيرة حسنة. والأعمال القبيحة في صور مظلمة قبيحة، فتوضع هذه في كفة الحسنات وهذه في كفة السيئات، فتثقل موازين بعض، وتطيش موازين آخرين والعياذ بالله. وقال بعض أهل العلم: إن ما يوزن أصحاب الأعمال، واستدلوا بالحديث المعروف المشهور: أن الرجل السمين -الأكول الشروب- يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة (¬4)، وفي مناقب عبد الله بن مسعود: أنهم لما رأوا دقة ساقيه قال لهم صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة. حديث رقم (804 - 805)، (1/ 553 - 554)، من حديث أبي أمامة والنواس بن سمعان (رضي الله عنهما). (¬2) كما في حديث البراء (رضي الله عنه) مرفوعاً عند أحمد (4/ 295)، وأصله في الصحيحين. (¬3) كما في حديث بريدة (رضي الله عنه) عند أحمد (5/ 352)، وابن ماجه في الأدب، باب ثواب القرآن، حديث رقم (3781)، (2/ 1242)، وأورده الألباني في صحيح ابن ماجه (3048)، وقال: ضعيف يحتمل التحسين. (¬4) أخرجه البخاري في التفسير، باب: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} حديث رقم (4729)، (8/ 426)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم (2785)، (4/ 2147).

«إنها فِي المِيزانِ أَثْقَل مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ» (¬1). وما قاله ابن فورك وغيره من المتكلمين: إن وزن حقيقة الأعمال مستحيل؛ لأن ما ليس بجسم يستحيل أن يكون جسماً (¬2)!! لا يُعوَّل عليه لأن الله قادر على كل ما يشاء، لا يتعاصى على قدرته شيء، فهو قادر على ما شاء، وقادر على ما لم يشأ أيضاً، فهو قادر على هداية أبي بكر وأبي لهب، وقد شاء أحد المقدورين وهو هداية أبي بكر، ولم يشأ مقدوره الثاني وهو هداية أبي لهب. فهذه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الموزون صحف الأعمال. والثاني: أن الموزون الأعمال، تُقلب أجساماً في صور موزونة. الثالث: أن الموزون أصحاب الأعمال. وكان ابن جرير الطبري -كبير المفسرين - يرى أن كفة الحسنات يكون فيها نفس الشخص وحسناته، وأن الكفة الأخرى فيها سيئاته (¬3)، هكذا يقوله العلماء، وعلى كل حال فالتحقيق أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان وكفتين. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 420، 421)، والطبراني في الكبير (9/ 75 - 76)، (19/ 28)، وابن أبي شيبة (12/ 113)، والحاكم (3/ 317). (¬2) عبارة ابن فورك: «وقد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها، ومن المتكلمين من يقول ... » اهـ التذكرة ص313، وانظر: القرطبي (7/ 165). (¬3) ابن جرير (12/ 314).

وظاهر القرآن تعدّد هذه الموازين؛ لأنه قال في سورة الأنبياء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} وفي القراءة الأخرى (¬1): {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: آية 47] وقال في القارعة: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: الآيات 4 - 11] وقال في سورة (قد أفلح المؤمنون): {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} [المؤمنون: الآيات 101 - 104] فهذه الآيات تعبر بالجمع في الميزان، وظاهرها التعدد. وذهبت جماعة من العلماء إلى أن الميزان واحد، وأنه أُطلق عليه اسم الجمع لكثرة ما يُوزن فيه من أنواع الأعمال، وكثرة الأشخاص العاملين الموزونة أعمالهم (¬2). وعلى كل حال فكل ما قدمت أيها الإنسان في دار الدنيا سيوضع لك في كفة، وما قدمت من شر سيوضع في كفة، فإن رجح خيرك على شرك ذهبت إلى الجنة فرحاً مسروراً، وإن رجح شرّك ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص302. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 166)، شرح الطحاوية ص610.

على خيرك فلا تلومن إلا نفسك، وربنا (جل وعلا) يذكرنا بهذا ويعظنا به في دار الدنيا، في وقت إمكان الفرصة؛ لئلا تضيع علينا الفرصة، فعلينا أن نكثر من الحسنات، ونُجانب السيئات؛ ليكون ما في موازيننا يثقل عند الله فنفرح به ونُسر وندخل الجنة، فالسَّفِيهُ كل السَّفِيه والمتأخِّر حق المتأخر هو الذي لا يُراعي أوامر الله، وإنما يجمع في الدنيا من السيئات ليثقل بها كفة السيئات وتطيش كفة الحسنات، فيفضح على رؤوس الأشهاد ويجر إلى النار. هذا الخبيث المغفّل وإن سَمَّوه في الظروف الراهنة متقدماً متنوراً مسايراً ركب الحضارة!! فهو الحمار المغفل الذي لا يفهم ما أمامه، وهو أشد الناس تأخراً، وسيعلم أنه الأرذل المتأخر إذا مات وفارقت روحه جسده، ووجد ما عند الله من العدل والإنصاف، ووجده لم يقدم إلا السيئات والخبائث والتمرد على مَنْ خَلَقَهُ، فإذا وزنت سيئاته، وكانت كثيرة جدّاً، ولم توجد له حسنات فعند ذلك سيعلم هل هو كان متقدماً أم لا؟! وهل كان عاقلاً فطناً أم لا؟! بل يعلم أنه هو المتأخر الفدم (¬1) البليد الحمار الذي لا يفهم عن الله شيئاً! وعما قليل ستنكشف الحقائق {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: آية 38] فسيقع ما سيقع، فعلى المؤمن أن يكون عاقلاً فطناً، وأن لا يهلك نفسه بيده، وأن يلاحظ أنه يوم القيامة ستوزن سيئاته وحسناته على رؤوس الأشهاد، فإن كانت سيئاته أرجح جُرَّ مخزياً مفضوحاً إلى النار، وإن كانت حسناته أرجح جاء مسروراً كريماً إلى الجنة، فعلى الإنسان أن لا يُهلك نفسه في دار الدنيا باتباع الشهوات واتباع ¬

(¬1) الفدم: بعيد الفهم قليل الفطنة. انظر: المصباح المنير (مادة: فدم) ص177.

المضللين، وأن لا تَطَّبِهِ الشعارات الزائفة المضللة التي تصرفه عن طاعة مَنْ خلَقَهُ إلى طاعة الشيطان فيخيب يوم القيامة ويخسأ عند الوزن. فعلى كل أحد أن يُعد لهذا الوزن عدته يوم القيامة. وقد قدمنا أن جمهور علماء المسلمين أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان وكفتين. وهنا سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم: ما اعتل به الضالون المعتزلة النافون للميزان، القائلون: إنه ليس هناك ميزان حقيقي. يقولون: إن الله عالم بأعمال خلقه فما حاجته إلى أن يزنها، فهو عالم كُلاًّ منها غاية العلم، محيط بقدر حسناته وبقدر سيئاته، فأي حاجة إلى وزن الأعمال والرب (جل وعلا) عالم بحقيقتها بعلمه المحيط بكل شيء، عالم أيها الراجح؟! (¬1). والجواب: أن الله (جل وعلا) يزن أعمال خلقه يوم القيامة ليُري خلقه كمال عدالته وإنصافه، وإن كان ذلك لا يحتاج، كما يكتب عليهم ذلك في كتب ويُسجِّله عليهم ويقول للواحد: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)} [الإسراء: آية 14] هذا خزياً له وتسجيلاً على رؤوس الأشهاد، وكذلك يُشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، وجلودهم، وهو غني عن كل ذلك، كل هذا لإظهار إنصافه وعدالته، ولتوبيخ أولئك الخبثاء الأخساء على رؤوس الأشهاد. ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 312)، شرح الطحاوية ص63، البحر المحيط (4/ 270).

أمَّا المعتزلة فقد قالوا: إن الميزان لا حقيقة له، وإنما المراد بالوزن: العدالة في الجزاء، قالوا: وهذا معروف في كلام العرب، يقولون: هذا الكلام يوازن هذا الكلام، وهذا الرجل يوازن هذا الرجل. والميزان معناه: القسط التام والعدالة، وأن لا يُظلم إنسان شيئاً. قالوا: وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬1): قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهْ أي: ما يوازن كلامه وحجته. ومع الأسف قد سبق المعتزلة لهذا القول مجاهد، والضحاك، والأعمش (¬2)!! وهو قول باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة كما ذكرنا. وإن كان الوزن يطلق على العدل، إلا أن الأحاديث النبوية، وظواهر القرآن العظيمة، وسائر المسلمين -إلا من شذّ- كلها متفقة على أنه ميزان حقيقي له لسان وكفتان كما ذكرنا، والأحاديث بمثله كثيرة لا ينكرها إلا مكابر، وهو الحق الصحيح إن شاء الله، وهذا معنى قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: آية 8]. متعلَّق (الوزن) هنا محذوف، و (الوزن) مصدر (وَزَنَ، يَزنُ، زِنَةً، ووزناً)، كوعد، يَعِدُ، عِدَةً، ووَعْداً، ووَصَلَ، يَصِل، صِلَةً، ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: وزن) (3/ 921)، وفيه (مِرَّة) بدل (قوة). (¬2) انظر: قول مجاهد في ابن جرير (12/ 309)، (311)، (315)، البغوي (2/ 149)، الدر المنثور (3/ 69)، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم، وعزاه إليه القرطبي وإلى الضحاك والأعمش. انظر: الجامع لأحكام القرآن (7/ 165)، التذكرة ص313، البحر المحيط (4/ 270)، ولعل نسبته إلى الأعمش والضحاك لا تصح، والله أعلم.

ووصْلاً، ومتعلَّق المصدر محذوف، والوزن للأعمال في الموازين كائن يوم القيامة {يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} العدل الذي لا جور فيه، فلا يُزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن. {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي: بكثرة حسناته. جَمَعَ الموازين لأن (من) هنا بمعنى جماعة كثيرة، سواء قلنا: إنها شرطية، أو موصولة فإنها تعم، وهي لجماعة كثيرة، بدليل قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولم يقل: (فذلك هو المفلح) بالإفراد، فإفراد الضمير في قوله: {مَوَازِينُهُ} والجمع في الإشارة والضمير في قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأول بالنظر إلى لفظ (من). والثاني: بالنظر إلى معناها (¬1). وقد قدمنا أن ظاهر الآيات تعدد الموازين، وأن كثيراً من العلماء قالوا: إنه ميزان واحد، وأُطلق عليه اسم الجمع تفخيماً له، والعرب تطلق الجمع وتريد المفرد كعكسه، كما يقولون: سار فلان إلى البصرة بالسفن، وهو في سفينة واحدة، وراح إلى الشام على البغال وهو راكب بغلة واحدة. وقال بعض العلماء: الموازين جمع موزون، والموزون هو الحسنات والسيئات. وجمع (الموزون) على موازين جمع قياسي مُطَّرِد، وعلى هذا فلا سؤال ولا إشكال (¬2). وعلى أنه جمع (ميزان) فظاهر القرآن التعدد، كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: آية 47] أو أنه لفظ جمع أُطلق وأُريد المفرد نظراً لكثرة ما يُوزن فيه من الأعمال. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 315). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 166)، شرح الطحاوية ص609، البحر المحيط (4/ 270)، الدر المصون (5/ 256).

{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: آية 8] أي: كانت حسناته أكثر، ولا يهلك على الله إلا هالك؛ لأن الحسنة الواحدة توضع في الميزان بعشر حسنات، والسيئة توضع في الكفة الأخرى سيئة واحدة وإن شاء الله غفرها، فمن غلبت آحاده عشراته فلا خير فيه!! وربما كانت الحسنة توضع بسبعمائة حسنة، فدرهم الإنفاق يوضع بالميزان حسنته بسبعمائة ضعف، كما قال جل وعلا: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} ثم بين أن المضاعفة قد تزيد قال: {وَالله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: آية 261] وقوله: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: آية 245] فالأضعاف الكثيرة أكثر من عشرة، فالله (جل وعلا) كريم لا يهلك عليه إلا هالك، فالحسنة أقل درجاتها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، والسيئة إما أن يغفرها، وإن لم يغفرها وُضعت في الميزان سيئة واحدة [فعلينا أن نُحاسِب] (¬1) وأن نكثر من الحسنات، ونتجافى عن السيئات، ونخشى من خالق السماوات والأرض، فمن أكثر السيئات في دار الدنيا، وأقل الحسنات فإنما يهلك نفسه بيده؛ لأنه إذا حضر الوزن، ورأى كثرة السيئات، وقلة الحسنات، والفضيحة، والجرّ بالنواصي والأقدام إلى النار ندم في ذلك الوقت حيث لا ينفع الندم، فعلينا جميعاً أيها الإخوان المسلمون أن ننتهز الفرصة وقت الإمكان، وأن لا نُضيعها لئلا نندم حيث لا ينفع الندم؛ لأن الفرصة إذا فاتت بالموت انتهى كل شيء، والله يقول: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} كيف يتناولون ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

العمل الصالح وقد مضى أوانه بالموت، وهذا معنى قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي: ثقلت كفة الحسنات بكثرة الحسنات، وطاشت كفة السيئات؛ لأنها صارت أرجح منها كفة الحسنات. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الجمع في قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ} نظراً إلى معنى (من) (¬1)، وإفراد الضمير في (موازينه) عائد إلى لفظ (من)، ولفظها مفرد ومعناها جمع. و (المفلحون) جمع تصحيح للمفلح، والمفلح: هو اسم فاعل أفلح يُفلح فهو مُفلح. وأصل الفلاح في لغة العرب: اسم مصدر بمعنى الإفلاح؛ لأن مصدر (أفلح) القياسي أن يقال: إفلاحاً؛ لأن (أفْعَل) إذا كانت صحيحة العين ينقاس مصدرها على (الإفعال) بقياس مطرد. فالفلاح اسم مصدر نائب عن (الإفعال). والفلاح في لغة العرب يُطلق إطلاقين مشهورين، وكل منهما يدخل في الآية الكريمة (¬2): الأول من إطلاقي الفلاح: أن العرب تقول: (أفلح فلان) إذا فاز بمطلوبه الأكبر، فكل إنسان كان يحاول مطلوباً أعظم ثم ظفر به وفاز بما كان يرجو فهذا قد أفلح، ومنه قول لبيد بن ربيعة (¬3): اعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 315). (¬2) انظر: المفردات (مادة: فلح) ص644، اللسان (مادة: فلح) (2/ 1125)، الأضواء (6/ 204). (¬3) البيت في ابن جرير (1/ 250).

يعني: أن مَنْ رَزَقَهُ اللهُ نُورَ العقل فَقَدْ فَازَ بالمطلوب الأكْبَر الذي يطلبه كل إنسان؛ لأن العقل يعقل صاحبه عن كل ما لا ينبغي، ويحجزه عن كل ما يَشِين، ومنه بهذا المعنى أيضاً قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: آية 1] فهو محتمل للمعنيين أيضاً، والفلاح في جميع القرآن محتمل للمعنيين المذكورين: الأول: هو ما ذكرنا: أنه الفوز بالمطلوب الأكبر. الثاني: أن المراد بالفلاح: الدوام والبقاء السَّرْمَدِي في النعيم، فكل من كان له دوام وبقاء في النعيم تقول العرب: نَالَ الفَلاحَ. وهذا المعْنَى معروف في كلامهم. ومنه قول الأضبط بن قريع، أو كعب بن زهير على أحد القولين (¬1): لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمُومِ سَعَهْ ... وَالمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ يعني: أن تعاقب الليل والنهار لا بقاء للإنسان في دار الدنيا معه، ومنه بهذا المعنى قول لبيد بن ربيعة في رجزه (¬2): لَوْ أَنَّ حَيّاً مُدْرِكَ الْفَلاَحِ ... لنَالَهُ مُلاعِبُ الرِّمَاحِ يعني: لو كان إنسان خالداً لا يموت لنال الخلود ملاعب الرماح، يعني: عمه أبا براء عامر بن مالك، المعروف، أحد بني أم البنين الأربعة. وبهذين المعنيين فُسر حديث الإقامة والأذان (حي على الفلاح) قال بعض العلماء: حيّ: بمعنى هَلُمَّ وتعالوا إلى الفوز بالمطلوب الأكبر، وهو الجنة والسعادة ورضا الله؛ لأن أكبر أسباب ذلك الصلاة. ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (111) من سورة الأنعام.

القول الثاني: (حي على الفلاح) هَلُمَّ إلى البقاء السرمدي في جنات النعيم؛ لأن أكبر أسباب ذلك: الصلاة؛ لأن الصلوات الخمس هي أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين. وهذا معنى قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} الخِفَّةُ معناها: الطيش وعدم الرّجْحَان، ومن طاشت موازينه سواء قلنا إنها الكفة التي فيها السيئات، أو نفس السيئات عند من يقول: أي: خفت كفة الميزان لقلة ما فيها من الحسنات؛ لأن الحسنات إن كانت قليلة كان الميزان خفيفاً؛ لأن المعتبر في الحقيقة ثِقَلُهُ: الحَسَنَات، فإن كَثُرَتْ ثَقُل الميزان، وإن قلت خَفَّ الميزان [وثقلت] (¬1) الكفة الأخرى التي فيها السيئات، ومعنى: {خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} كثرت سيئاته -والعياذ بالله- على حسناته. {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} فأولئك الذين خفت موازينهم لقلة حسناتهم وكثرة سيئاتهم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم}، والله (جل وعلا) قال هنا إنهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم قد رُزِئُوا في أنفسهم، وأكبر الأدلة على خسرانهم أنفسهم: أنهم إن صاروا إلى النار أكبر مُنْيةٍ يتمنونها، وأكبر غرض يطلبونه: هو أن يموتوا وتعدم أنفسهم فتصير لا شيء؛ ولذلك يقولون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77)} [الزخرف: آية 77] ولكن أمنيتهم العُظْمَى الَّتِي هِيَ الموت لا يحصلونها أبداً؛ لأن الله يقول: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: آية 36] ويقول (جل وعلا) في الكافر: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: آية 17] {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيى} [طه: آية 74] فمن كانت أمنيته الموت، وغايته الكبرى أن يستريح من نفسه من ¬

(¬1) في الاصل: «وخفت»، وهو سبق لسان.

وجودها إلى العدم فمعلوم أنه خسرها؛ ولذا قال: {خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} [الأعراف: آية 9] وأصل الخسران في لغة العرب: هو نقصان مال التاجر، سواء كان نقصاً في ربح المال، أو نقصاً في رأس المال (¬1). والخسران في اصطلاح الشرع: هو غبن الإنسان في حظوظه من ربه (جل وعلا)؛ لأن الإنسان إذا غُبن في حظوظه من ربه (جل وعلا) فقد خَسِرَ الخُسْرَان المبين، وقد أقسم الله (جل وعلا) - وهو أصدق من يقول - في سورة كريمة من كتابه - وكل سورة منه كريمة- ألا وهي (سورة العصر) أن الخسران لا ينجو منه إنسان كائناً ما كان إلا بأعمال معينة مبينة، وذلك في قوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} {إِنَّ الْإِنسَانَ} معناه: إن كل إنسان كائناً من كان {لَفِي خُسْرٍ} {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: الآيات 1 - 3] فهذا الخسران لا يُنجي منه شيء أبداً كما أقسم عليه رب السماوات والأرض إلا الإيمان والأعمال الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، هذا الذي يُنجي من الخسران. وقَدْ بَيَّنَّا في هذه الدروس مِرَاراً أن العلماء ضَرَبوا لهذا الخسران مثلين: أحد ذينك المثلين: أن كل إنسان كائناً من كان أعطاه الله في دار الدنيا رأس مال، ورأس مال الإنسان هو جواهر نفيسة، وأعلاق عظيمة لا يماثلها شيء من الدنيا، فهي أعظم من كل اليواقيت، وأعظم من كل الجواهر، ولا يماثلها شيء في الدنيا أبداً. هذه ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: خسر) ص281.

الجواهر التي هي رأس ماله هي ساعات عمره، أيام عمره وشُهُوره ولياليه وأعوامه، فهذا رأس مال الإنسان. فاعلم أيها الإنسان أن عمرك هو رأس مالك (¬1): إِذَا كَانَ رَأْسُ المَالِ عُمْرَكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإنْفَاقِ في غَيْرِ وَاجِبِ فإن كان صاحب رأس هذا المال رجلاً متقدماً حقيقة لَبِقاً عارفاً حاذقاً اتَّجَرَ مَعَ رَبِّه برأس هذا المال، فنظر ساعات العمر، فكل وقت منها يتوجه فيه أمر من خالق السماوات والأرض، كأوقات الصلوات، وأوقات الصوم، والعبادات المؤقتة، يبادر إلى مرضاة خالقه، فيتَّجر مع خالقه (جل وعلا) ويُحرِّك رأس المال مع خَيْر من يتجر معه، وهو رب السماوات والأرض (جل وعلا) ويكثر من طاعات رَبِّه ومرضاة رَبِّهِ، وينظر كل شيء حَرَّمَهُ خالقه أو نهى عنه فيجتنبه ويتباعد منه، وهذا هو تحريكه رأس المال وتجارته مع رب العالمين؛ ولذا سمى الله هذا العمل الصالح وإنفاق العمر فيما يُرضي الله، سماه في آية: تجارة، وفي آية: بيعاً، وفي آية: شراء، وفي آية: قرضاً، والكل بمعنى واحد. قال: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: آية 245] فسمى العمل الصالح قرضاً. وقال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} ثم بين عوض هذا التاجر: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلى آخر الآيات [الصف: الآيات 10 - 12]، وقد سماه بيعاً وشراءً في قوله: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: آية 111] وقال: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: آية 111] ¬

(¬1) البيت في الخزانة (1/ 31).

فالإنسان اللبق الحاذق لا يضيع هذه الجواهر النفيسة، والأعلاق العظيمة، التي هي ساعات عمره ودقائقه وثوانيه، بل يحرك رأس هذا المال، ويتجر به مع خير من يُتجر معه، وهو خالق السماوات والأرض، إن جئت بحسنة جاءك بعشر حسنات إلى سبعمائة إلى ما لا يعلمه إلا الله، إن جاءه عبده يمشي أتاه ربه هرولة، وإن تقرب إليه باعاً تَقَرَّبَ (جَلَّ وَعَلا) إليه ذراعاً، سبحانه ما أعظمه وما أكرمه! فالإنسان العاقل يَتَّجِرُ بِرَأْسِ هذا المال مع رَبِّ العالمين، فلا تضيع عليه هذه النفائس والأعلاق الثمينة، فيصرف أوقاته فيما يُرْضِي اللهَ، وإذا كان معه تَعَبٌ فليكف عما لا يُرْضِي رَبَّهُ، فيكون عمله إما أن يكون خيراً يستجلبه، وإما أن يكون سلامة من الشرور، فيكون على خير، فيربح من هذه التجارة: الحور، والولدان، وغُرف الجنان، ومجاورة رب غير غضبان، والنظر إلى وجه الله الكريم، ومُلك لا ينفد {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)} [الإنسان: آية 20]. وإذا كان صاحب رأس هذا المال مغفلاً أحْمَقَ، قليل الفهم عن الله، ليس عارفاً بحقائق الأمور، لا يدري الفرق بين التقدم والتأخر، ولا بين التَّنَوُّر وغير التَّنَوُّر، فإنك تراه يتلاعب بهذه الجواهر النفيسة التي أعطاه الله، وهي أيَّام عمره، ولا يُقدرها، ويُمضيها في قيل وقال، وربما أمْضَى أكْثَرَهَا في مساخط الله، وما يستوجب غضب الله، من الوقوع في محارمه، والتمرد على نظامه، واتباع كل ناعق من شياطين الإنس والجن الذين يدعون إلى النار، وإلى سخط الله (جل وعلا)، حتى ينقضي الوقت المحدد من أيام عمره، فيؤخذ روحه من بدنه فيموت فيضيع عليه رأس المال، فيُجر إلى القبر وهو

مُفْلِس فقير، والآخرة يا إخوان دار لا تصلح للفقراء المفاليس؛ لأنها ليس فيها سلف ولا بيع، ولا إرفاق، وإنما فيها ما قدم الإنسان من عمل في دار الدنيا (¬1): لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوْتِ يَسْكُنُهَا ... إِلاَّ التِّي كَانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيهَا ... فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا والآخرة ليس فيها منزل إلا غرفة من غرف الجنة، أو سجن من سجون النار -والعياذ بالله- وسنتكلم -إن شاء الله- في أثناء هذه السورة الكريمة على أصحاب الأعراف، وما قصتهم، وما الذي جعلهم على الأعراف، ونذكر كلام العلماء فيه، فعلينا جميعاً أن لا نضيع رأس هذا المال، فَمَنْ ضَيَّعَ رَأْسَ ماله وأفنى عمره فيما لا يرضي ربه ضاع رأس المال، وإذا ضاع رأس المال فالربح أضيع وأضيع، فيصير إلى سجن من سجون جهنم -والعياذ بالله- هذا أحد مثلي الخسران الذي ضرب العلماء له. المثل الثاني: هو ما جاء به حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2)، وحسنه بعض العلماء، ولا بأس به -إن شاء الله- أن كل إنسان كائناً من كان له منزل في الجنة ومنزل في النار، فالله يجعل منزلاً في الجنة ¬

(¬1) من قصيدة منسوبة لعلي (رضي الله عنه) وهي في الديوان المنسوب إليه ص154. (¬2) جاء في هذا المعنى حديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً عند الإمام أحمد (2/ 512)، وذكره الهيثمي في المجمع (10/ 399)، وقال: «وفي رواية: لا يدخل أحد النار إلا رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة، ولا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، رواه كله أحمد ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح» اهـ.

باسم كل إنسان، ومنزلاً في النار باسم كل إنسان. فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أطلع أهل الجنة على منازلهم في النار لو أنهم كفروا بالله وعصوه لتزداد غبطتهم وسرورهم بما هم فيه، وعند ذلك يقولون: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} [الأعراف: آية 43] ثم إنه يُري أهل النار منازلهم في الجنة لو أنهم أطاعوا الله وآمنوا واتقوا لتزداد ندامتهم وحسرتهم، وعند ذلك يقول الواحد منهم: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: آية 57] ثم إن الله يحكم بمنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، وبمنازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومن كانت صفقته بيع منزله في الجنة بمنزل غيره في النار فصفقته خاسرة، وهو من الخاسرين بلا شك. هكذا قال بعض العلماء وهذا معنى قوله: {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: آية 9]. (ما) هنا مصدرية، والباء سببية. يعني: خسروا أنفسهم بسبب كونهم ظالمين بآياتنا. قال بعض العلماء (¬1): إنما عدّى الظلم هنا بالباء لأنه مُضمّن معنى الكفر والجحود، والجحود يُعدّى بالباء كقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا} وقد جاء في القرآن تسمية الجحود في الآيات (ظلماً) كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً} [النمل: آية 14]. وقوله: {بِآيَاتِنَا} قد قدمنا في هذه الدروس (¬2) أن الآيات ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 257). (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

جمع آية، وأن أكثر علماء الصرف على أن وزنها (فَعَلَة)، وأن أصلها (أَيَيَة) فاؤها همزة، وعينها ياء، ولامها ياء، بعدها هاء تأنيث لفظية. وقد اجتمع فيها موجبَا إعلال؛ لأن فيها حرفي لين كل منهما متحرك بِحَرَكَةٍ أصلِيَّةٍ بعد فتح، فالياءان كل منهما تستوجب إعلالاً، والمقرر في علوم العربية: أنه إذا اجتمع موجِبَا إعلال كان الحرف [الأخير هو الذي وقع فيها الإعلال، ولكنه وقع هنا في الحرف الأول على خلاف القاعدة الكثيرة المطردة، وهو جائز. وقيل: أصلها: (أَيَاه) ولكن الإعلال وقع هنا في الحرف الأول فصار (آية)، ولها في اللغة معنيان: المعنى الأول: بمعنى (العَلامة)، تقول العرب: الآية بيني وبينك كذا؛ أي: العلامة بيني وبينك كذا. ومنه قوله تعالى:] (¬1). [3/ب] / {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} أي: علامة ملك طالوت عليكم {أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الآية [البقرة: آية 248] وهذا معروف في كلام العرب، وقد جاء في شعر نابغة ذبيان -وهو جاهلي عربي قُح- تفسير الآية بالعلامة حيث قال (¬2): تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامِ سَابِعُ ثم بيَّن أن مراده بالآيات: علامات الدار؛ حيث قال بعده: رَمَاد كَكُحْلِ العينِ لأْياً أُبينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجِذمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ ¬

(¬1) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل. وتم استدراك النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) في موضع سابق عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام (بتصرف). (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

هذا هو المعنى المشهور للآية، أن معناها العلامة، فآية كذا: علامة كذا. المعنى الثاني: أن العَرَبَ تطلق الآية وتريد الجماعة، تقول: جاء القوم بآيتهم؛ أي: بجماعتهم، ومنه بهذا المعنى قول بُرج بن مُسْهِر الطائي (¬1): خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا ... بِآيَتنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ المَطَافِلاَ يعني: بجماعتنا، فإذا علمتم أن الآية في اللغة تطلق على العلامة، وعلى الجماعة، فهي في القرآن العظيم باستقراء القرآن العظيم تطلق إطلاقين: أحدهما: الآية الْكَوْنِيَّة القَدَرِيَّة، وهي ما نصبه الله (جل وعلا) ليدل به خلقه على أنه الواحد الأحد الأعظم الصمد المستحق لأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَه كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: آية 164] أي: لعلامات واضحة جِازِمَة قاطعة بأن مَنْ خَلَقَهَا هُوَ رَبُّ هَذَا الْكَوْنِ، وهو المعبود وحده (جل وعلا) سبحانه عما يشركون، وهذا كثير. وتطلق الآية في القرآن إطلاقاً آخر، ومعناها: الآية الشَّرْعِيَّة الدينية، كآيات هذا القرآن العظيم، ومنه قوله هنا: {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: آية 9] لأنه قال: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 3] وذلك الذي أُنزل إليهم من ربهم أعظمه الآيات السماوية القرآنية التي تُتلى، وآيات الكتب، فلما ظَلَمُوا بها وجحدوا بها كانوا ظالمين ودخلوا النار. ومن الآية الشرعية الدينية قوله تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله} [الطلاق: آية 11] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: آية 2] فالآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة بلا نزاع، والآية الشرعية الدينية قيل هي من الآية بمعنى الجَمَاعة؛ لأن كل آية اشتملت على جماعة وجملة من حروف القرآن وألفاظه متضمنة لبعض ما فيه من الإعجاز والعقائد والحلال والحرام. وقيل أيضاً: إنها من العلامة؛ لأنها علامات على صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا؛ ولأن لها مبادئ ومقاطع هي علامات على انتهاء هذه الآية وابتداء الأخرى. وهذا معنى قوله: {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: آية 9]. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} [الأعراف: الآيات 10 - 13]. لما أمر الله (جل وعلا) خلقه في أول هذه السورة الكريمة فقال لهم: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف: آية 3] ثم إنه وعظهم وأخبرهم أنه يسألهم، وأنه يقصُّ عليهم أعمالهم بعلم، وأنه لم يكن غائباً عن شيء عملوه في دار الدنيا، وأنه يزن أعمالهم بميزان فلا يخيس شعيرة، بيّن لهم أنه أنعم عليهم في دار

الدنيا من أنواع الإنعام إنعاماً عظيماً ينبغي لهم أن يشكروا له ذلك الإنعام، وأن لا يستعينوا بإنعامه على معصيته، فإن من أعظم أنواع اللؤم والخساسة أن ينعم علينا رب السماوات والأرض العظيم الأعظم بنعمه الكثيرة ثم نستعين بها على معصيته وما لا يرضيه!! هذا مِنْ أَقْبَحِ القبيح، وأشنع الشنيع الذي لا ينبغي لأحد أن يفعله. وقد نَبَّهَنَا في هذه الآيات على بعض الإنعام الذي أنعم علينا قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: آية 10] والله لقد مكناكم في الأرض؛ أي: جعلناكم متمَكِّنِينَ فيها، مُتَصَرِّفِين قادرين على استجلاب المعايش والرفاهية والراحة بما هيأنا لكم من الأسباب، جعلنا لكم الأرض ساكنة قابلة؛ لأن تبنوا عليها، وتبنوا منها البيوت التي هي هنيّة لذيذة للمقام، ثم جعلناها قابلة لأنواع الازدراع لتزرعوا فيها ما تأكلون وما تلبسون، ثم خلقنا لكم الأنعام، وذللناها لكم، فمنها ركوبكم ومنها تأكلون، أنبتنا لكم فيها الأصواف والأوبار والأشعار لتلبسوا منها، وجعلنا لكم لحومها لتأكلوا منها، وأسمانها، وألبانها، وأزبادها، وجعلنا لكم الحديد لتستعينوا به على أمور دنياكم وفلاحتكم، إلى غير ذلك من سائر الأسباب والتمكين الذي مكنه لنا في الدنيا. وقال بعض العلماء: (مكناكم فيها) أي: جعلنا لكم فيها أمكنة تسكنون بها في الدنيا ذاهبين وراجعين. والله جعل لنا الأرض تضمُّنَا على ظهرها أحياء، وفي بطنها أمواتاً كما يأتي في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً (26)} [المرسلات: الآيتان 25، 26] {كِفَاتاً} أي: محلاً لكفتكم. أي: ضمكم. والكَفْت في لغة

العرب: الضَّمُّ. أي: تضمكم على ظهرها في دار الدنيا أحياء متنعمين بما فيها من المنافع والمعايش، وتضمكم في بطنها أمواتاً إذا متم (¬1). ولذا قال هنا: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} والله (جل وعلا) مكَّن لعباده في الأرض، هيأ لهم الأرزاق، وأنزل لهم المطر، وأنبت لهم النبات، وخلق لهم الحيوانات وجميع المرافق التي تُعِينُهُمْ على دنياهم. وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف: آية 10] قرأه عامة القراء بالياء (¬2) {مَعَايِشَ} بكسر الياء غير مهموز، وما رواه خارجة بن مصعب عن نافع من أنه قرأها: {معائِش} بالهمز لا أصل له، والرواية ضعيفة جدّاً، ومخالفة للقانون العربي، وكذلك ما رُوي عن ابن عامر من السبعة كله ضعيف لم يثبت، وهو مخالف للعربية، وقد زعم قوم أن همز {مَعَايِشَ} رُوي عن علي بن زيد والأعمش (¬3). والتحقيق أن القراءة التي عليها عامة المسلمين، منهم السبعة والعشرة وحفاظ من روى عنهم، وعامة القراء إلا من أشرنا إليه قرءوا: {مَعَايِشَ} بالياء المكسورة من غير همز. والقاعِدَة المقررة في فنِّ التصريف: أن المَدَّة الثالثة إذا كانت زائدة وجب إبدالها همزة، كـ (صحيفة) فإن الياء زائدة؛ لأن الصحيفة أصلها من (صَحَفَ) بصاد، فحاء، ففاء، والياء زائدة. فهذه المَدَّة الزائدة تُقْلَب في جمع التكسير [هَمْزاً] (¬4)، فتقول في جمع (الصحيفة): صحائف. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: كفت) ص713. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص207. (¬3) انظر: المصدر السابق، ابن جرير (12/ 317)، القرطبي (7/ 167). (¬4) في الأصل: «ياء» وهو سبق لسان.

وفي جمع (المدينة) مدائن، وكذلك الواو والألف كلها إذا كانت زوائد أُبدلت من مَدَّتها في جمع التكسير المتناهي: هَمْزاً، فتقول في (السحابة): سحائب. فتبدل الهمزة من الألف، وفي (القلادة): قلائد، وفي (العجوز) ... -بالواو- عجائز، فالهمزة مبدلة من الواو؛ لأن المَدَّة الثالثة زائدة. أما (معيشة) فالياء التي بعد العين فأصلها من الكلمة، أصلها: مَعْيِشَة (مفعِلة) -بكسر العين- وقيل: مَعْيَشَة (مَفْعَلة) -بفتح العين- والأول أظهر، نُقلت حركة العين المعتلة للساكن الصحيح، وسكونه إليها، فصارت (معيشة) فالياء أصلية (¬1). فيجب أن تُجمع على معايش بكسر الياء. وكذلك غيرها من الواويات يجب تصحيح الواو إذا كانت المَدَّة أصلية، فتقول في (المَقَام): مَقَاوِم، وفي (المَعُونة): مَعَاوِن، وتقول في كل ما هو أصلي بالواو كمَخَافَة، ومَخاوِف، ومَلامَة، ومَلاوِم؛ لأن المَدَّة فيها أصلية، كمعيشة، ومعايش. ومن تصحيح ما أصله واو قول الشاعر (¬2): وَإِنِّي لَقَوّامٌ مَقَاوِمَ لمْ يَكُنْ ... جَرِيرٌ وَلاَ مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُهَا صحح واو (مَقَاوِم) ولم يقل: مقائم؛ لأن الألف في المقام أصلية في محل العين، ومنه قول الآخر (¬3): وَمَا هِيَ إِلاَّ بِنْتُ خَمْسٍ وَأَرْبَعٍ ... مَغَاوِر هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمِ فصحح الواو، وهو جمع (مُغار) من: أغار القوم على القوم، ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص198. (¬2) البيت للأخطل وهو في ديوانه ص322. (¬3) لم أقف عليه.

يغيرون إغارة، ومُغاراً، وألِفُ المُغار أصلية. والحاصل أن المَدَّة الأصلية تُصَحَّح في جمع التكسير، سواء كانت ياء، أو واواً، والمَدَّة الزائدة تُبدل همزة، سواء كانت ألفاً، أو ياء، أو واواً (¬1). فالقراءة الصحيحة التي عليها العشرة وجمهور القراء الموافقة لقاعدة اللغة العربية: {مَعَايِشَ} بكسر الياء. والمعايش: جمع معيشة، والمراد: ما يعيشون به في دار الدنيا، مما سبَّبَ لهم من أسباب المعيشة، مما جعل لهم من الثمار، والزروع، والدواب، وجعل لهم في الدواب من الألبان، والأسمان، والأزباد، واللحوم إلى غير ذلك مما هيأه لهم في دار الدنيا إكراماً منه عليهم يعيشون به في دار الدنيا. وهذا معنى قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف: آية 10]. ثم إن الله عابهم فقال: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: آية 10] فـ {قَلِيلاً} نعت لمصدر محذوف، و (ما) توكيد للقلة. والمعنى: {تَشْكُرُونَ} شكراً قليلاً ما؛ لأنه لا يخلو إنسان من شكر في الجملة. وأصل الشكر في لغة العرب (¬2): أصل مادته تميل إلى معنى الظهور، والعرب تقول: ناقة شكور: إذا كان يظهر عليها السِّمن، والشكر يُطلق في القرآن من الرب لعبده، ومن العبد لربه، فمن إطلاق شكر العبد لربه قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 316 - 317)، القرطبي (7/ 167 - 168)، الدر المصون (5/ 257 - 258). (¬2) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

آية 14] {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: آية 19] ومن شكر الرب لعبده قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: آية 158] وقوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: آية 34] فمعنى شُكر العبد لربه: هو معناه في الاصطلاح. وأصل الشكر في لغة العرب: فعل يُنبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه مُنْعِماً. والحمد في لغة العرب (¬1): هو الثناء بالثناء الجميل باللسان على المحمود بجميل صفاته، سواءً كان من باب الإحسان أو من باب الاستحقاق. والحمد لغة: يطلق على الشكر اصطلاحاً، والشكر اصطلاحاً يطلق على الحمد لغة، فبينهما تَعَاوُرٌ وتعاقُبٌ. والمراد بشكر العبد لربه: هو أن تظهر نِعْمَة ربه عليه، فَيُظهر تلك النعمة، ويستعمل جميع ما أنعم الله عليه في طاعة مَنْ خَلَقَهُ (جَلَّ وَعَلا) (¬2). فهذه العيونُ التي تبصرون بها نِعَمٌ عظيمة أنعم الله عليكم بها، فشكر من خَلَقها عليها أن لا تنظروا بها إلا في شيء يُرْضِي من خَلَقها، فلا تَنْظُرْ أيها العبد بعينيك اللتين أنعم الله بهما عليك في شيء حَرَّمَهُ الله عَلَيْك، فتكون مستعيناً بنعمته على معصيته!! هذا فعل لا يليق، فعل خبيث، فعل يدل على لؤم صاحبه وحمقه وقلة عقله، وشكر هذه اليد التي أعطاك الله إياها، وفرّق لك ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

أصابعها، وأبعد إبهامها من سبابتها ليُمكنك العقد والحلّ بها - فلو جعل الإبهام مقترناً بالسبابة لما حللت شيئاً ولا عقدت شيئاً - شكر هذه اليد أن لا تبطش بها في شيء إلا شيئاً يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا (جل وعلا)، فلا تكتب بها ما لا يرضي الله، ولا تضرب بها ضرباً لا يرضي الله، ولا تفعل بها فعلاً لا يرضي الله. وهَذِهِ القَدَمُ الّتي أنْعَمَ الله عليك بها، تمْشِي بها، شُكْرُهَا: أن لا تسعى بها لشيء إلا لشيء يرضي مَنْ خَلَقَها، وهكذا. فالمال الذي أنْعَمَ اللهُ عَلَيْكَ به شُكْرُهُ: أن لا تَسْتَعيِن به إلا في شيء يُرْضِي مَنْ أَعْطَاكَ إِيَّاهُ، وكذلك الجاه، إذا أعطاك اللهُ جَاهاً ومَنْزِلَة ومكانة يمكنك التصرُّف فيها وتسهيل الأمور فلا تَسْتَعِنْ بِتِلْكَ النعمة إلا على شيء يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا، لا لنفسك ولا لغيرك، فلا تشفع بِجَاهِكَ في وصول إنسان إلى محرَّم، أو ظلم إنسان لإنسان، فكل ذلك من كُفْرِ النِّعْمَةِ وعَدَمِ شُكْرِهَا. فعَلَيْنَا جميعاً أن نشكر خالِقَنَا، وأن نستعين بِنِعَمِهِ على ما يُرْضِيهِ؛ لأنَّ العَبْدَ إذا عرف قَدْرَ ذُلِّه وضعفه ومهانته، وعرف قَدْرَ عِظَمِ رَبِّه وجَلالة شَأْنِهِ، وعرف ما أنعم عليه ربه به من النِّعَمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ صرف تلك النِّعَم فيما يُسْخِط اللهَ ويُغْضِبه ولا يرضيه، واستعان بِنِعَمِهِ على ما يَكْرَهُهُ فإن هذا أشد اللؤم وأعظم الوقاحة، ولا يَنْبَغِي أَنْ يُقدم عليه عاقل! فعلينا جميعاً أن نُلاحِظ نِعَمَ اللهِ عَلَيْنَا، وأن لا نَسْتَعْمِلَهَا في شيء لا يرضيه؛ لأن استِعَانَتَنَا بنعمه على ما يسخطه أمر قبيح منا، ولؤم شنيع لا ينبغي لعاقل أن يُقْدِمَ عَلَيْهِ. أما شكر الرب لعبده فقد قال بعض العلماء: هو أن يُثيبَهُ

الثواب الجزيل من عمله القليل، كما بيَّن أن العبد يَعْمَلُ حَسَنة واحدة فيجعلها الله عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله. ومادة الشكر تتعدَّى بنفسها إلى المفعول إذا كان المفعول هو النعمة، وتتعدّى باللام في اللغة الفصحى إذا كان المفعول هو المُنْعِم، فهنا فرق دقيق في العربية لا يلاحظه كثير من طلبة العلم، فالفعل الذي هو (شكر) إن كان مفعوله النعمة تعدّى إلى النعمة بنفسه لا بحرف تَعَدٍّ، كقوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: آية 19] فـ {نِعْمَتَكَ} مفعول به لـ {أَشْكُرَ}. أما إذا كان الشكر للمنعم فاللغة الفصحى التي لم يأتِ في القرآن غيرها أنه لا يتعدى الشكر إلى المنعم إلا باللام، فتقول: شكراً لك، وأنا أشكر لك، وأحمد الله وأشكر له. ولا تقول: وأشكره؛ ولذا يقول الله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: آية 152] ولم يأتِ في القرآن تعدية الشكر إلى المنعم إلاَّ بحرف الجر الذي هو اللام، فهذه هي اللغة الفصحى بلا نزاع بين من يحمل القلم العربي، أما لو قال: «وأشكره» من غير لام فقد أفرط قوم وقالوا: هذا لحن لا يجوز في العربية، والتحقيق: أن تعدية الشكر إلى المنعم بدون لام أنها لغة مسموعة جائزة، إلا أنها ليست هي اللغة الفصحى المشهورة، ومن شواهد هذه اللغة قول أبي نُخيلة (¬1): شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى ... وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

فقد قال: (شكرتُك) ولم يقل: شكرت لك، ومنه بهذا المعنى قول جميل بن معمر في شعره المشهور (¬1): خَلِيلَيَّ عُوجَا الْيَوْمَ حَتَّى تُسَلِّمَا ... عَلَى عَذبَةِ الأنْيَابِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ ... فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُمَا لِي سَاعَةً ... شَكَرْتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي قَبْرِي فقد قال: (شكرتكما) فتحصَّل من هذا الكلام أن الشكر يقع على النعمة بلا حرف جر إجماعاً، وأن شُكْر المنعم يتعدى باللام في اللغة المشهورة، وربما تعدّى بنفسه (¬2). وقوله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: آية 10] نعت لمصدر، أي: تشكرون شكراً قليلاً. و (ما) تأكيد للقلة، ولفظة (ما) تأتي لتأكيد النكرة في قلتها وحقارتها. قال بعض العلماء: لا يخلو أحد مِنْ شُكْرٍ في الجملة إلا أنه شكر قليل، والشكر القليل لا يفيد؛ لأن من عمل ببعض الكتاب وترك أكثره كَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، كما قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: آية 85] وقد قدمنا فيما مضى أن بعض علماء التفسير يقولون: إن القرآن تُطلق فيه القلَّة ويُراد العدم (¬3). والمراد لا تشكرون النعمة أصلاً؛ لأن المفرِّط المستعمل أغلب نعم الله فيما يسخط الله لا يُعد من الشاكرين، وهذا التفسير مخالف لظاهر القرآن؛ لأن القرآن دل على أن هناك شكراً قليلاً، وهو مخالف لظاهر القرآن؛ ولا تجوز مخالفة ظاهر القرآن إلا لدليل (¬4) يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة، أما اسْتِعْمَال القِلَّة في ¬

(¬1) السابق. (¬2) راجع ما سبق قريباً. (¬3) مضى عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف. (¬4) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.

العَدَمِ فهو استعمال صحيح في لغة العرب مَعْرُوف لا شَكَّ فِيهِ بين العلماء، وقد ذكرنا في الدروس السابقة له أمثلة كثيرة، كقول غيلان ذي الرمة (¬1): أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلٍ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلا بُغامُها لأن مراده بالقلة: العدم المحض. يعني: لا صوت بتلك الفلاة ألبتة إلا بُغام ناقته. ومنه بهذا المعنى قول الطِّرِمَّاح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب (¬2): أَشَمٌّ نَدِيٌّ كَثِيرُ النَّوَادِي ... قَلِيلُ المَثَالِبِ وَالقَادِحَهْ يعني: لا مَثْلَبَةَ فِيهِ ولا قَادِحَةَ، وتقول العرب: مَرَرْتُ بأرض قليل فيها البَصَل والكُرَّاثُ. يعنون: لا بَصَلَ ولا كُرَّاثَ فِيهَا ألْبَتَّةَ، ومنه قول الشاعر -وهو شاهد على أن (ما) تأتي موضع (لا) التي لنفي الجنس- في قوله (¬3): فَمَا بَأْسَ لَوْ رَدَّتْ عَلَيْنَا تَحِيَّةً ... قَلِيلاً لَدَى مَنْ يَعْرِفُ الحَقَّ عَابُهَا ولكن هذا الإطلاق وإن كان صحيحاً في لغة العرب فظاهر القرآن يخالفه ويدل على أنه لا يخلو إنسان من شكر في الجملة، إلا أن الشكر القليل مع الكفر الكثير لا ينفع، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)} [يوسف: آية 106] وهذا معنى قوله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: آية 10]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (3) من هذه السورة. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (3) من هذه السورة.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)} [الأعراف: آية 11]. في هذه الآية الكريمة إشكال معروف؛ لأن الله قال بصيغة الجمع: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} وهذا يتبادر منه أن المخاطبين في قوله: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ذرية آدم، إلا أنه رتّب عليه قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} و (ثم) تقتضي الترتيب والمهلة، فيكون الله بعد أن خلق ذرية آدم وصورها قال للملائكة: اسجدوا لآدم، وهذا خلاف الواقع؛ لأنه أمرهم بالسجود له عندما نفخ فيه الروح قبل أن يولد له شيء، كما دلّ عليه قوله في سورة الحجر: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)} [الحجر: الآيتان 28، 29] وقوله في سورة ص: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: الآيتان 71، 72] فيخطر في ذهن طالب العلم إشكال، وهو الترتيب بـ (ثم) فيقول: كيف يقول: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ} [الأعراف: آية 11] بعد تصوير ذرية آدم، وخلقها؟! وهذا خلاف الواقع، فهذا إشكال معروف في الآية، مشهور عند علماء التفسير، وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة (¬1): أحدها: وهو الذي اختاره كبير المفسرين -محمد بن جرير الطبري وغيره- أن المراد بالجمع في {خَلَقْنَاكُمْ} و {صَوَّرْنَاكُمْ} آدم وحده، وإنما أُطلق عليه صورة الجمع لأنه لما كان أبا البشر ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 317 - 323)، البغوي (2/ 150)، القرطبي (7/ 168 - 169)، ابن كثير (2/ 202)، الدر المصون (5/ 260).

ووجوده أصلٌ في وجوده كان خلقه وتصويره كأنه خلق وتصوير للجميع. ونحو هذا الأسلوب معروف في القرآن؛ لأن الله يخاطب اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: آية 57] والذين ظُلل عليهم الغمام وأُنزل عليهم المن والسلوى أجداد أجداد أجدادهم، قبلهم بعشرات القرون، فَدَلَّ على أن أصْلَ الإنسان الذي هو منه قَدْ يُخَاطَب الإنسان والمراد به ذلك الأصل، وهذا كثير في القرآن، كقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ} [البقرة: آية 61] {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: آية 55] المخاطب به الموجودون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والقائلون أجدادهم الموجودون قبلهم بقرون. وعلى هذا فلا إشكال في قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: آية 11] لأن (ثم) على بابها من الترتيب والمهلة، غاية ما في الباب أنه أطلق الأصل وأراد شموله لفروعه، ونظائره في القرآن كثيرة كما مثلنا. القول الثاني: هو ما قاله بعض العلماء: معنى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أيها الخلق في أصلاب آبائكم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} هذه الصور العظيمة في بطون أمهاتكم. وهذا من غرائب صنعه وعجائبه؛ لأن تصويره لنا في بطون أمهاتنا فيه من غرائب صنعه ما يبهر العقول، والله في كتابه يُعجّب خلقه كيف ينصرفون عن تصويره لهم في الأرحام، أولاً قال في ذلك: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: آية 6] ثم بيّن تصويره لنا في الأرحام بحالة تبهر العقول، ثم عجّب خلقه كيف ينصرفون عن التدبر في هذا!! لأنكم كلكم أيها الحاضرون تعلمون أنه ليس واحد

منكم يدخل بطن أمه في أول دخوله له وفيه يد ولا رجل ولا عين ولا أنف ولا فم، بل يدخلها نطفة من ماء مهين مستوية الأجزاء، ليست مفصلة ولا مُخَلَّقَة، ثم إِنَّ رَبَّ العالمين بقدرته العظيمة ينقله من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، ينقله من النطفة إلى علقة -وهي الدم الجامد الذي إذا صُبَّ عليه الماء الحار لم يذب- ثُمَّ يَنْقِل العَلَقَة مُضْغَة، ويُصيّر المضغة عظاماً، فيركِّب هذه العظام بعضها في بعض هذا التركيب الدقيق المحكم الهائل، لو نظرت تركيب الأنملة بالأنملة، وفقرة الظهر بفقرة الظهر، والمفصل بالمفصل، وتركيب عظام الرأس بعضها إلى بعض، وخياطة بعضها مع بعض على ذلك الوجه العظيم الهائل، ونظرت في الإنسان - لأن الإنسان إذا نظر في موضع رأس إبرة من جسده وجد من عجائب صنع الله وغرائبه ما يبهر العقول- بعد أن دخل بطن أمه نطفة من مَنيّ فإذا هو مصور هذا التصوير العظيم، مخلوق منه هذا الهيكل العظيم، العظام شُدّ بعضها ببعض على أحْكَمِ وَجْهٍ وأَتْقَنِهِ وأَبْدَعِهِ، ومنه قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)} [الإنسان: آية 28] الأسر: أصله شدّ الشيء بالإسار، والإسار في لغة العرب (¬1): القِدّ، وهو الجلد الذي لم يُدبغ؛ لأن الجلد الذي لم يُدبغ إذا أخذت سيوره وشددت بها شيئاً وهي مبلولة يبست فاستحكم الشدّ غاية الاستحكام {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} المعنى: شددنا بعض عظامهم إلى بعض كما يُشد الشيء إلى الشيء بالإسار، وهو الجلد غير المدبوغ، ومنه قيل للأسير: (أسير) لأنه يُشَدُّ بالإسار غالباً، فلو كان الذي شدّ يدك بمعصمك، ومعصمك بمرفقك، ومرفقك بمنكبك، لو كان غير ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: أسر) ص76، القاموس (مادة: الأسر) ص437 ..

متقن لتحرك الإنسان فسقطت يده!! وقيل: مع الأسف كان شدّ يده بمعصمه غير وثيق فطاحت يده، أو سقط منكبه، أو سقطت فخذه، أو سقط رأسه عن رقبته، لا، كل هذا مشدود بشد محكم، والعظام بعضها ملصق ببعض على أبدع أسلوب وأحكمه، ثم إن الله فتح في الوجه هاتين العينين، وصبغ بعضهما بصبغ أسود، وبعضهما بصبغ أبيض، ثم جعل فيهما نور البصر، ثم فتح فمه، ثم جعل فيه اللسان ليُعبِّر به عن ضميره، ويردّ به شاذ الطعام على الأضراس ليمكنها طحنه ليمكن المعدة هضمه، ثم إنه فتح هذا الأنف وجعله مثقوباً من جهتين، وجعل فيه حاسة الشم، وزين الفم بالفك الأعلى، والفك الأسفل، ثم إنه جعل ماء العين مِلْحاً لئلا تنتن شحمتها، وجعل له شحمة لئلا يجففها الهواء، ثم أنبع عيناً عذباً في فم الإنسان وهي ريقه يبتلع بها الطعام؛ لأن الله لو أخذ ريق الواحد منكم لا يمكن أن يبتلع شيئاً ولو زبداً ذائباً، فجعل له الريق ليبل به الطعام فيسهل بلعه، وإذا أكل كثيراً يأتيه من مدد الريق ما يبلُّ له الطعام الكثير العظيم الهائل، وإذا لم يحتج إليه في الأكل أمسك عنه جمّ الريق وكثرته لئلا يُتعبه التفل، ثم إنه وضع العينين في الرأس ولم يضعهما في الرجلين، وركب فقار الظهر بعضها مع بعض، وجعل مخها داخلها، وجعل الدماغ في مخلاة حصينة، ثم جعل عليها العظام وحصنها بها، وخاط العظام خياطة هائلة محكمة، ثم خلق الكبد ووضعها في موضعها اللائق بها، ووكّلها بوظيفتها البدنية، وفعل كذلك بالكليتين والطحال والمرارة، ثم ثقب الأمعاء ليخرج منها الثُّفْل، ثم ثقب الدُبر ليخرج منه الغائط، ثم ثقب محل البول، ثم ثقب العروق والشرايين ليدور معها الدم، ولو فكرنا وشرحنا عضواً واحداً من أعضاء الإنسان

لرأينا من غرائب صنع الله وعجائبه ما يبهر العقول ويعتقد به الإنسان أن خالقه ذو القدرة العظيم، الذي لا يُعبد إلا هو وحده، ولا يطاع إلا هو وحده؛ ولذا من لُطْفِهِ بالإنسان: كل شيء يحتاج إلى قَطْعِه كشعره وأظفاره نَزَعَ منه روح الحياة؛ ليسهل عليه قص الأظافر وحلق الشعر، وتقصيره؛ إذ لو جعل في الأظافر الحياة كما جعلها في سائر البدن، وجعلها في الشعر لا يمكن قصُّ ظُفر إلا بعملية، ولا حلق شعر إلا بعملية! ثم إن القفا -الذي لم يجعل عنده عينين- جعله عظماً قوياً لو ضربه شيء عليه لم يضره. والأشياء الضعيفة كالكبد والطحال التي إذا مسه شيء عليها أثر عليه - وهي جهة البطن - جعل عليها الحارسَين وهما العينان، يحرسانها مِنْ أَنْ يضرَّهَا شَيْء. وهذه قطرة من بحر من غرائب صنع الله وعجائبه، والله (جل وعلا) فعل هذا من العمليات بكل واحد منا، وأنا أؤكد لكم أنه لم يحتج أن يأخذ لأمه غرفة في صِحِّيّة (¬1)، وأن يُبنجها ويُنومها ويُشق طبقة بطنها العليا، ثم طبقة بطنها السُّفلى، ثم ينزع المشيمة التي على الولد، ثم يسلط الأشعة الكهربائية لينظر ماذا يفعل؟! فأطباء جميع الدنيا لو اجتمعوا عن بكرة أبيهم من مشارق الأرض ومغاربها وأرادوا أن يعملوا عملية في جنين في رحم امرأة فيستحيل أن يقدروا على أن يعملوا شيئاً حتى يشقوا طبقات بطنها الثلاث، ثم يسلطوا الأشعة الكهربائية وينزعوا المشيمة عن الولد، ثم يعملون العملية، فقد يموت وهو الأغلب، وقد لا يموت، فخالق السماوات والأرض يفعل في العبد مئات العمليات، وهو لم يشق بطن أمه، ولم يحتج إلى أشعة كهربائية، بل العلم والبصر والقدرة نافذ تمام النفوذ، يفعل كيف يشاء {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: ¬

(¬1) أي: عيادة صِحِّية.

آية 6] وإنما قصصنا عليكم هذا النموذج من قدرة الله، وصنعه فيكم، وعدم شقّه لبطون أمهاتكم؛ لأن الله أمركم أن تنتبهوا إليه، وأن لا تُصرفوا عنه. وذلك في السورة الكريمة، سورة الزمر -وكل سورة من القرآن كريمة- أعني قوله في الزمر: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة؛ لأن المشيمة تكون منطوية على الولد لا يراه إلا من قشعها عنه {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ثم قال وهو محل الشاهد: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: آية 6] يا ناس!! فأنى تصرفون؟! أين تروح عقولكم عن قدرة خالق السماوات والأرض الجبار الأعظم ولا تنظرون فعله فيكم وأنتم في بطون أمهاتكم {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: آية 6] {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار الآيات: 6 - 8] وهذا التصوير فيه من غرائب صنع الله وعجائبه ما يبهر العقول؛ لأنكم كلكم أيها الحاضرون طُبعتم على طابع واحد، وصُببتم صبّة واحدة، فالأنف من جميعكم في محل الأنف، والعينان في محل العين، والفم في محل الفم، والأذن في محل الأذن، ولم يشتبه منكم اثنان حتى لا يُعرف أحدهما من الآخر، كل من رآكم يعرف أن هذه صورة فلان، وهذه صورة فلان، ولو جاء من الخلق أعداد ملايين الحصى لم يضق علم خالق السماوات والأرض حتى يعلم لكل واحد منهم صورة فيطبعه عليها لا تشابه صورة الآخر، ولم تتشابه أصواتكم ولا آثاركم في الأرض، ولا بصماتكم في الورق، كل واحد طُبع على طابع مستقل، لم يشاركه فيه غيره، ولم يشابهه غيره، وهذا يدل على كمال العلم

والقدرة الباهرة العظيمة التي يجب على الإنسان أن يعلم عظمة المتصف بها ويطيعه ولا يتمرد عليه، وهذا معنى قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: آية 11]. وعلى هذا القول -أن المراد بخلق بني آدم في الأصلاب، وتصويرهم في أرحام الأمهات- يكون قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ} تكون (ثم) هنا للترتيب الإخباري، أي: ثم أخبرناكم بعد ذلك أنّا قلنا للملائكة: {اسْجُدُواْ لآدَمَ}. ولفظة (ثم) قد تأتي في القرآن للترتيب في الذكر لا لترتيب الحقيقة الواقعة في زمنها، وهذا الأسلوب وإن كان غير ظاهر فهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى في الأنعام -يعني شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو آخر الأنبياء: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} ثم قال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: الآيتان 153، 154] وإتيان موسى الكتاب قبل نزول هذا على النبي صلى الله عليه وسلم بقرون، فدّل على أن (ثم) هناك ليست للترتيب الزماني وإنما هي للترتيب الذكري، ونظير ذلك في القرآن قوله في سورة البلد: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)} [البلد: الآيات 11 - 17] لأنه ليس المراد أنه مثلاً يقتحم العقبة، وأنه يطعم ذا المسغبة، ويفعل كذا وكذا، ثم بعد ذلك يكون من الذين آمنوا، لا، ليس هذا هو المراد، وإنما هي للترتيب الذكري، لا للترتيب الزماني المعروف، ومن إتيان ذلك في كلام العرب قول الشاعر (¬1): ¬

(¬1) البيت للأقيشر الأسدي، وهو في ديوانه ص115، وفيه (من شرها).

سَأَلْتُ رَبِيعَةَ مَنْ خَيْرُهَا ... أَباً ثُمَّ أُمّاً فَقَالُوا: لِمَهْ؟ لأن قوله: (من خيرها أباً ثم أمّاً) المعنى: من خيرها أباً وأمّاً؟ ولا ترتيب هنالك، وقول الآخر (¬1): إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ لأن سيادة الأب وسيادة الجد قبل سيادة الابن، وقد عُطفت عليها بـ (ثم)، فتبين أن الترتيب في الذكر لا في الزمان. هكذا قال بعضهم، والأول أظهر. وهذا معنى قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ} [الأعراف: آية 11]. هذا القول قاله الله معلَّقاً أولاً - بلا نزاع - قبل أن يخلق آدم؛ لأنا ذكرنا في سورة «ص» وسورة «الحجر» التصريح بذلك حيث قال في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)} [الحجر: الآيتان 28، 29] وقال في ص {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ} [ص: آية 71]. [4/أ] أمرهم بالسجود له، وهذا السجود / تعظيم لله (جل وعلا)؛ لأنه امتثال أمره، لا عبادة لآدم، ولا سجود إلا لأمر الله (جل وعلا)، والأمر إن كان ممتثلاً به أمر الله فالمطاع فيه الله، ونظيره أن ملَكَ الموت يقال له: اقبض روح محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء. فأي جريمة في الدنيا أعظم من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ونزع روحه، وقتل الأنبياء والأولياء؟ لكن ملك الموت مأمور من الله، فهو مطيع في ذلك الفعل؛ لأنه إنما فعله بأمر الله. ¬

(¬1) البيت في مغني اللبيب (1/ 107).

{اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: آية 11] قال بعض العلماء: إن الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم لمَّا عظَّموا أنفسهم وحقروا بني آدم لما قال لهم الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة: آية 30] ثم أثنوا على أنفسهم وقالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: آية 30] امتحنهم الله وعلم آدم الأسماء كلها، ثم قال لهم: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء} [البقرة: آية 31] فعجزوا وقالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: آية 32] ثم قال لآدم: تعال أنت فبين هذا العلم الذي عجزوا عنه وجهلوه. فقام آدم وبيّنها تماماً؛ ولذا قال: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} [البقرة: آية 33] إن هذا الذي حقرتم يعلم ما لا تعلمون، وعنده من الخصال ما ليس لديكم. وكلام العلماء في تفضيل الملائكة والآدميين لا يعنينا؛ لأن أكثر الناس مختلفون فيه، وكلٌّ يَحْتَجُّ بِظَوَاهِر من كتاب الله، ولا دليل جازماً يجب الجزم واليقين به، ولا حاجة تدعو إليه، واختلاف العلماء فيه معروف (¬1)، وعلى كل حال فالله أظهر فضل آدم هنا حيث علمه ما جهله كل الملائكة وأمَرَهم بالسجود. قال بعض العلماء: أمرهم بالسجود لمَّا عَلِم ما لم يعلموا، ويرشد له قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: آية 30] {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)} [البقرة: آية 31] وبعد ذلك قال: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

{قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ... } الآية [البقرة: آية 33]. وعلى هذا القول فالملائكة لما أُمروا أن يسجدوا لآدم، أُمر جميع الملائكة، كما دل عليه قوله: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الحجر: آية 30] واستثنى في جميع السور التي ذكر فيها سجود الملائكة بجميعها كالبقرة، والأعراف، وطه، والحجر، وص، كلها بيّن فيها سجود الملائكة إلا إبليس {اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الأعراف: آية 11] أي: فسجدوا كلهم أجمعون، بدليل قوله: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: آية 30]. إبليس: هو الشيطان اللعين عليه لعائن الله، ومَنْعُه من الصرف لأنه اسم عجمي عَلَم، والعُجْمَة والعلمية يمنعان الصرف. وقال بعض العلماء: أصل (إبليس) عربي؛ لأنه (إفعيل) من الإبلاس، والإبلاس: القنوط واليأس من رحمة الله، حتى يبقى اليائس من شدة يأسه ساكتاً لا يحير كلاماً، ومنه قوله: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: آية 44] ولكنه يشكل على قولهم أنه لو كان عجميّاً؛ لأن العَلَم إذا وُضع على (إفعيل) كان منصرفاً؛ لأنه ليس فيه علتان مانعتان من الصرف. وأجاب من قال هذا: بأن (إبليس) أصله من (الإبلاس) وهو القنوط واليأس من رحمة الله، ومُنع من الصرف للعلمية وشبه العجمية؛ لأن هذا اللفظ يشبه الألفاظ العجمية، هكذا يقولون، والأول أظهر (¬1). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (44) من سورة الأنعام.

وقوله: {لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: آية 11] لم يسجد مع الملائكة، ثم إن الله (جل وعلا) سأله سؤال توبيخ وتقريع قال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12] في (لا) هنا وجهان (¬1): أحدهما: أن {مَا مَنَعَكَ} مضمّنة معنى فِعل و (لا) في بابها ليست زائدة، أي: ما ألجأك وأحوجك إلى أن لا تسجد؟ ما المانع الذي ألجأك وأحوجك إلى أن لا تسجد؟! وتضمين الفعل معنى فعل معروف، قال به عامة علماء النحو من البصريين (¬2). وأظهر القولين في هذا: أن (لا) هنا جيء بها لتأكيد النفي؛ لأن (منعك) في معنى الجحود والنفي، وإتيان (لا) زائدة في الكلام الذي فيه معنى الجحد مطّرد (¬3)، ذكر الفراء وغيره من علماء العربية أنه مطرد (¬4). والدليل على هذا أن خير ما يُفسر به القرآن القرآن، وقد قال تعالى في هذه القصة بعينها في سورة «ص»: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: آية 75] ولم يأت بلفظة (لا)، وخير ما يُفسر به القرآن القرآن، فعلمنا أن لفظة (لا) لتوكيد النفي. واعلموا أن علماء العربية مطبقون على أن لفظة (لا) تُزاد لتأكيد المعنى وتقويته، أما في الكلام الذي فيه معنى الجحد فلا خلاف بينهم في ذلك، وشواهده في القرآن وأمثلته كثيرة، فمن أمثلته في ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 324)، القرطبي (7/ 170)، الدر المصون (5/ 261 - 263)، الأضواء (2/ 293). (¬2) مضى عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) معاني القرآن (1/ 374).

القرآن: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: آية 29] والمعنى: ليعلم أهل الكتاب. فقد جيء بـ (لا) لتوكيد المقام، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: آية 65] فوربك لا يؤمنون، {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} [طه: الآيتان 92 - 93] أي: أن تتبعني، {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ} [فصلت: آية 34] أي: والسيئة، على أشهر التفسيرين، وقوله جل وعلا: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء: آية 95] على أحد القولين، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 109] على أحد التفسيرين، {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: آية 151] على أحد التفسيرات التي قدمنا في الآية (¬1). وهذا كثير في كلام العرب، ومنه في كلام العرب قول أبي النجم في رجزه (¬2): فَمَا أَلُومُ البِيْضَ أَلاَّ تَسْخَرَا ... لمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا يعني: لا ألوم البيض أن تسخر. أي: لا ألومها على سخريتها. وأنشد الفراء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر (¬3): مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ دِينَهُمُ ... وَالأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ يعني: وعمر، و (لا) زيدت لتوكيد معنى الجحد، وأنْشَدَ الجَوْهَرِيّ لزيادة (لا) في الكلام الذي ليس فيه معنى جحد قول ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

رؤبة بن العَجَّاج، أو قول العَجَّاج (¬1): فِي بِئْر لاَ حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ ... بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ شَجَرْ يعني: (في بئر حور) أي: هلكة، و (لاَ) زائدة. وأنشد الأصمعي لزيادتها في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد (¬2) قول ساعدة بن جُؤَيَّةَ الهذلي (¬3): أَفعنك لاَ بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ ... غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ والتحقيق أن (لا) زائدة، لا عاطفة على جملة محذُوفَة كما زَعَمَهُ بعضهم، ومن شواهد ذلك قول الشاعر (¬4): تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابةٌ ... وكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لاَ يَتَقَطَّعُ أي: كاد يتقطع، و (لا) مزيدة في هذا، وهي كذلك في قوله: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: آية 1] لأن المعنى: أقسم بهذا البلد، كما قال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3)} [التين: آية 3] على أحد الأوجه المعروفة، ومثل هذا كثير في كلام العرب، فقوله: (لا) على وجهين: أحدهما: أن تكون صلة لتوكيد الكلام، ومن أساليب اللغة العربية زيادة لفظ (لا) لتوكيد الكلام كما بيَّنا الآيات الدالة عليه {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: آية 29] أي: ليعلم أهل الكتاب، {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} [طه: آية 92] ما منعك أن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬2) البحر المحيط (4/ 273)، الدر المصون (5/ 262). (¬3) مضى عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام. (¬4) السابق.

تتبعني، {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ} [فصلت: آية 34] لا تستوي الحسنة والسيئة. إلى غير ما ذكرنا من الآيات، وأبيات العرب التي ذكرنا، ويدل أنها هنا صلة لتوكيد الكلام: أن الله حذفها في (ص) حيث قال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: آية 75]. واختار بعض العلماء - وهو اختيار ابن كثير (¬1)، وابن جرير (¬2) - أن الفعل مُضَمَّن كما يذهب إليه علماء البصرة، وأن (لا) على بابها. والكلام في معنى: ما أحوجك وألجأك إلى أن لا تسجد. وهذا معنى قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12] أي: حين أمرتك. وهذه الآية الكريمة من أدلة العلماء على أن صيغة (افعل) تأتي للوجوب؛ لأنه قال: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: آية 11] فلما لم يمتثل إبليس وبَّخَه على ذلك، وقال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12] فدل على أن صيغة الأمر لا يجوز خلافها، ولما قال نبي الله موسى لأخيه: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: آية 142] بعد ذلك لما ظن أنه خَالَفه قال: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: آية 93] فسمى مخالفة صيغة (افعل) معصية، فدل على أنه يراها للوجوب كما ذكرنا أدلته مراراً (¬3)، وهذا معنى قوله: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: آية 11]. واعلم أن العلماء (رضي الله عنهم) اختلفوا في إبليس هل هو من الملائكة أو أصله ليس من الملائكة (¬4)؟ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 203). (¬2) تفسير ابن جرير (12/ 325، 326). (¬3) راجع ما سبق عند تفسير الآية (44) من سورة الأنعام. (¬4) انظر: ابن جرير (1/ 502 - 508)، القرطبي (1/ 294 - 295)، ابن كثير (1/ 75)، (3/ 88 - 89)، مجموع الفتاوى (4/ 346)، البداية والنهاية (1/ 55)، أضواء البيان (4/ 119 - 121).

فذهبت جماعة كثيرة من السلف إلى أن أصله كان من الملائكة، وأن الله نسخه من ديوان الملائكة فصيّره شيطاناً. قالوا: ويدل على هذا: استثناؤه من الملائكة في جميع السور التي فيها قصة إبليس وآدم، والأصل في الاستثناء الاتصال، ولا يجوز أن يُحمل على الانفصال إلا لدليل يدل عليه. وقال بعض [أهل] (¬1) العلم: أصل إبليس لم يكن من الملائكة، ولكنه جنّي خلقه الله من مارج من نار، كان يتعبد مع الملائكة ويعمل بأعمالهم فنُسب إليهم، كالرجل الحليف في القبيلة الذي ليس منها يُنسب إليها وهو ليس في الحقيقة منها. ورجحوا هذا القول بمرجحين: أحدهما: شهادة الله للملائكة بالعصمة حيث قال: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: آية 26] {لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: الآية 6] وإبليس اللعين عصى الله ما أمره. فدلّ على أنه ليس من العباد المكرمين الذين هم الملائكة، وقال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} [الأنبياء: آية 27] وهذا اللعين لم يعمل بأمره، فدلّ هذا أنه ليس من الملائكة. الدليل الثاني: أن الله صرح بأنه من الجن في سورة الكهف حيث قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: آية 50] فصرح أنه كان من الجن، وكونه من الجن هو السبب الذي جعله لم يفعل كما فعل الملائكة؛ إذ لو كان من عنصر ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

الملائكة وجنس الملائكة لفعل كما فعل الملائكة، فلما بيّن أنه أبى وعصى وتمرد وبين قوله إنه: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: آية 50] تبين أنه من غير الملائكة، ولم يأت في الوحي دليل أظهر في محل النزاع من آية الكهف هذه حيث صرحت بأن إبليس من الجن، ونفته من الملائكة؛ لأنه لو كان من الملائكة لفعل كما فعل الملائكة. والذين قالوا: إن جمهور العلماء على أن أصله كان ملكاً، وأنه كان يسمى: عزازيل، وأنه كان قائماً بأمر السماء الدنيا، يقولون: إن الجن قبيلة من الملائكة خُلقوا من النار من بين سائر الملائكة، وهذا خلاف ظاهر القرآن، وإن كانت العرب تُسمي الملائكة جنّاً فتسمية الملائكة جنّاً معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى يمدح سليمان (¬1): وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ المَلائِكِ تِسْعَةً ... قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أَجْرِ فقال: (من جن الملائك). وقال بعض المفسرين: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: آية 158] قالوا: يعني بالجِنَّة: الملائكة؛ لأنهم يُجنُّون عن العيون فلا تراهم كما لا ترى الجن، وزعموا أن معنى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: آية 158] هو قولهم: الملائكة بنات الله، هكذا قاله بعض العلماء، وهذا خلافٌ مشهور، وأظهر شيء في محل النزاع آية الكهف هذه التي قالت: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: آية 50] ثم رتب على كونه من الجن بالفاء {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: آية 50] فدل بمسلك الإيماء ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

والتنبيه أن علّة فسقه عن ربه كونه من أصل الجن لا مِنْ أصْلِ الملائكة، هذا أظهر شيء في محل النزاع. وقد دلّ القرآن على أن إبليس له ذرية، ودَلَّتِ الأحاديث الصحيحة على أنه يرسلها للتضليل، وقد قال جل وعلا: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: آية 50] وجاء في صحيح مسلم (¬1) أن الشيطان الذي يوسوس للإنسان في صلاته حتى يُشغله عنها اسمه (خِنْزَب) فهو من أولاد إبليس. واختلف العلماء في الكيفية التي بها كان نسل إبليس، وسُئل الشعبي (رحمه الله) قيل له: هل تزوج إبليس؟ فقال: ذلك عرس ما حضرناه (¬2). وزعموا أنه بعد ذلك لما قرأ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: آية 50] قال: نعم يمكن أن يكون تزوج، وهذا لا يدل على أنه تزوج، ولم يقم دليل من كتاب ولا سنة على ذريته كيف تناسلت. وكيف جاءت منه ذرية، هل هي من زوجة أو كما يقول بعضهم إن له آلة امرأة وآلة رجل، يُدخل هذا في هذا فتخرج منه بيضات، فتنفلق البيضات عن الشياطين فتنتشر. هكذا يقولونه من شِبْه الإسرائيليات ولم يقم دليل عليه (¬3)، والذي دلّ عليه القرآن: أن له ذرية، كما قال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: آية 50] وهذا معنى قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: آية 11]. ¬

(¬1) مسلم، كتاب السلام، باب: التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، حديث رقم (2203)، (4/ 1728). (¬2) سير أعلام النبلاء (4/ 312). (¬3) انظر: أضواء البيان (4/ 122).

ثم إنه (جل وعلا) سأله: ما المانع له من السجود؟ قال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}؟ فأجاب إبليس بقوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: آية 12] وجواب إبليس هذا يحتمل كلاماً كثيراً لا تسعه بقية هذا الوقت، فنرجو الله (جل وعلا) أن يحفظنا من مكايد إبليس، وأن يؤيسه، ويخيبه منا، اللهم لا تضلنا بإبليس، اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، ونعوذ بالله من همزات الشياطين، ونعوذ بالله أن يحضرنا الشياطين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... يقول الله جل وعلا: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} [الأعراف: الآيتان 12، 13]. تكلّمنا على قوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وقوله (جل وعلا) حكاية عن إبليس: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} كأن الله لما سأل إبليس -وهو عالم؛ لأنه (جل وعلا) أعلم بالمُوجِب الذي بسببه امتنع إبليس من السجود- قال له: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}؟ وهو أعلم، فأجاب إبليس -عليه لعائن الله- بما كان يضمره من الكِبْرِ، وكأنه اعْتَرَضَ على رَبِّهِ، وواجه ربه (جل وعلا) بأن تكليفَهُ إياه أمر لا ينبغي ولا يصلح!! فخطَّأ ربه (جل وعلا) سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً!! وجعل ذلك ذريعة له ومبرراً في زعمه الباطل لعدم السجود، قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} كيف تأمرني أن أسجد لآدم؟ وأنا أفضل من آدم، والفاضل ليس من المعقول أن يُؤمر بالسجود للمفضول، فهذا التكليف ليس واقعاً موقعه!! فهذا قول اللعين لعنه الله!!

{أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} (خير) تُستعمل استعمالين (¬1): تستعمل اسماً للخير الذي هو ضد الشر، وكثيراً ما تُستعمل في المال، كقوله: {إِن تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: آية 180] أي: مالاً. وتستعمل صيغة تفضيل، وهو المراد هنا. فقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} أصله: أنا أَخْيَر منه. أي: أكثر خيراً منه لفضل عُنصري على عُنصره. ولفظة (خير) و (شر) جعلتهما العرب صيغتي تفضيل، وحذفت همزتهما لكثرة الاستعمال، كما قال ابن مالك في الكافية (¬2): وغَالِباً أَغنَاهُم (خَيرٌ) و (شَرّ) ... عَنْ قَوْلِهم (أخْيَر منه) و (أَشَرّ) قال إبليس اللعين: أنا خير من آدم، والذي هو الفاضل، والذي هو أكثر فضلاً وخيراً لا ينبغي أن يُهْضَم ويؤمر بالسجود لمن هو دونه، فهذا التكليف ليس واقعاً مَوْقِعَهُ؛ ولذا لا أمتثله!! فتَكَبَّر وتجبَّر، وجَعَلَ تَكْلِيفَ رَبِّه له واقعاً غير موقعه -عليه لعائن الله- فباء بالخيبة والخسران -نعوذ بالله (جل وعلا) - قال إبليس: أنا خير من آدم. ثم بيَّن سبب الخيريَّة فقال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} [الأعراف: آية 12] يعني: أن عنصري أشرف من عنصره؛ لأن النار -في زعمه- أشرف من الطّين؛ لأن النار مضيئة نيرة، طبيعتها الارتفاع، خفيفة غير كثيفة، وأن الطين منسفل كثيف مظلم ليس بمرتفع!! هذا قوله في زَعْمِهِ، وزعم أن الفرع تابع لعنصره في الفضل، فقاس نفسه على عنصره الذي هو النار، وقاس آدم على عنصره الذي هو الطين، ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: خير) ص301، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

واستَنْتَجَ من ذلك أنه خير من آدم؛ لأن عنصره في زعمه خير من عنصره [ورتَّبَ على ذلك معصية الأمر] (¬1) الذي هو: اسجدوا لآدم -على إبليس لعنة الله- وأول من قاس قياساً فاسداً وردّ به نصوص الله وأوامره ونواهيه هو إبليس اللعين -عليه لعائن الله- فكل من ردّ نصوص الشرع الواضحة بالقياسات الباطلة عناداً وتكبراً فإمامه إبليس؛ لأنه أول مَنْ رَدَّ النصوص الصريحة بالمقاييس الكاذبة عليه لعنة الله. وقياس إبليس هذا باطل من جهات عديدة (¬2): الأول منها: أنه مخالف لِنَصِّ أمْرِ رَبِّ العالمين؛ لأن الله يقول: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: آية 11] وكل قياس خَالَفَ أمر الله الصريح فهو قياس باطل باطل باطل، وقد تَقَرَّرَ في علم الأصول (¬3): أن كل قياس خالف نَصّاً مِنْ كِتَابٍ أو سنة فهو باطل، ويُقدح فيه بالقادح المسمى (فساد الاعتبار) ومخالفة القياس للنص تُسمى (فساد الاعتبار) وتدُلّ على بطلان القياس، فهذا وَجْهٌ مِنْ أوْجُهِ بطلانه؛ لأنه مخالف للنص الصريح، ولا إلحاق ولا قياس مع وجود النصوص الصريحة. الثاني: أن إبليس كاذب في أن النار خَيْرٌ مِنَ الطين، بل الطين خير من النار؛ لأن طبيعة الطين: الرزانة، والتُؤدة، والإصلاح، ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (15/ 5 - 6) بدائع الفوائد (4/ 139 - 143)، أضواء البيان (1/ 73). (¬3) انظر: المذكرة في أصول الفقه ص285، نثر الورود ص551.

والجمع، تُودِعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتودعه النواة فيعطيكها نخلة، وإذا نظرت إلى البساتين المغروسة في طين طيب ووجدت ما فيها من أنواع الثمار الجنية، والروائح، والأزهار، والثمار عرفت قيمة الطين، أما النار فطبيعتها الطيش، والخفة، والتفريق، والإفساد، فكلما وضعت شيئاً فيها فرَّقته وفسَّدته، وطبيعتها الطيش والخفة، يطير الشرر من هنا فيحرق ما هناك، ثم يطير الشرر من هناك فيحرق ما وراءه، والذي طبيعته الطيش والخِفَّة والإفساد والتفريق لا يكون خيراً من الذي طبيعته التؤدة والرزانة والجمع والإصلاح، تودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتودعه النواة فيعطيكها نخلة!! فالطين خير من النار بأضعاف؛ ولذا غلب على إبليس عنصره وهو الطيش والخفة، فطاش وتمرد على ربه، وخسر الخسران الأبدي، وغلب على آدم عنصره الطيني فلما وقع في الزلة رجع إلى السكينة والتؤدة والتواضع والاستغفار لربه حتى غفر له. الثالث: أنَّا لو سلمنا تسليماً جَدَلِيّاً أن النار خير من الطين، فَشَرَفُ الأصل لا يدل على شرف الفَرْعِ، فكم من أصل شريف وفرعه وضيع، وكم من أصْلٍ وَضِيع وفَرْعُهُ رَفِيع. لَئِنْ فَخِرْتَ بَآبَاءٍ لهُمْ شَرَفٌ ... قُلْنَا صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوا (¬1) فكم من أصل رفيع وفرعه وضيع!! واعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس، ويذمون الرأي، ويقولون: إنَّ مَنْ قَاسَ فقد اتبع إبليس؛ لأنه أول مَنْ رَدّ ¬

(¬1) البيت لابن الرومي، وهو في ديوانه (2/ 305)، وشرح ديوان المتنبي للعكبري (4/ 145).

النصوص بالقياس. وعن ابن سيرين رحمه الله: ما عُبدت الشمس إلا بالقياس (¬1). ويكثر في كلام السلف ذَمّ الرَّأْيِ والقِيَاسِ. ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس: الظاهرية، وبالأخص أبو محمد بن حزم -عفا الله عنا وعنه- فإنه حمل على أئمة الهدى -رحمهم الله- وشنع عليهم تشنيعاً عظيماً، وسَخِرَ منهم سخرية لا تليق به ولا بهم، وجزم بأن كل من اجتهد بشيء لم يكن منصوصاً في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه ضال، وأنه مُشَرِّع!! وحمل على الأئمة وسَخِرَ من قياساتهم، وجاء بقياسات كثيرة للأئمة وسَفَّهَهَا وسخر من أهلها، فتارة يسخر من أبي حنيفة - رحمه الله - وتارة من مالك، وتارة من أحمد، وتارة مِنَ الشَّافِعِي، لم يسلم منه أحد منهم في قياساتهم!! ومن عرف الحق عرف أن الأئمة -رحمهم الله- أنهم أولى بالصواب من ابن حزم، وأن ما شنع عليهم فهم أولى بالصواب منه، وأنه هو حمل عليهم وهم أوْلَى بالخير منه، وأعلم بالدين منه، وأعمق فهماً بنصوص الكتاب والسنة منه، وهذا باب كثير، فابن حزم يقول: لا يجوز اجتهادٌ كائناً ما كان، ولا يجوز أن يُتكلم في حكم إلا تبعاً لنص من كتاب أو سنة، أما من جاء بشيء لم يكن منصوصاً في الكتاب ولا السنة فهو مُشَرِّع ضال، ويزعم أن ما ألحَقَهُ الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال، ويستدل بعشرات الآيات، إن لم تكن مئات الآيات فلا أقل من عشرات الآيات (¬2). يقول: الله قال: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف: آية 3] والمقاييس لم تنزل علينا ¬

(¬1) انظر: إعلام الموقعين (1/ 254). (¬2) انظر: الإحكام ص1055، فما بعدها.

من ربنا!! ويقول: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: آية 50] فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس. ويقول: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: آية 49] والمقاييس لم تكن مما أنزل الله. ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: الآيات 44، 45، 47] والقياس لم يكن مما أنزل الله، ويأتي بنحوها الآيات من هذا بشيء كثير جدّاً، ويقول: إن القياس لا يفيد إلا الظن، والله يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: آية 36] وفي الحديث: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» (¬1). ويقول: إن كل ما لم يأتِ بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه [لأنه عفو] (¬2). ومن ذلك: أن الله حرم أشياء، وأحَلَّ أشْيَاءَ، وَسَكَتَ عَنْ أشْيَاء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها (¬3)، وفي حديث: «مَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» (¬4). ويقول: إن ما لم يأتِ في كتاب ولا سنة فالبحث ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة. (¬2) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى. (¬3) مضى عند تفسير الآية (145) من سورة الأنعام. (¬4) الترمذي في اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، حديث رقم (1726)، (4/ 220)، وقال: «وفي الباب عن المغيرة، وهذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التميمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف قوله، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظاً ... » إلخ. وابن ماجه في الأطعمة، باب أكْلِ الجُبْنِ والسّمن. حديث رقم (3367)، (2/ 1117)، والبيهقي (10/ 12)، والحاكم (4/ 115)، والعقيلي (2/ 174)، وهو في صحيح ابن ماجه (2715)، وصحيح الترمذي (1410)، وغاية المرام (2، 3)، والمشكاة (4228)، عن سلمان (رضي الله عنه)، وأخرجه الحاكم (2/ 375)، والبزار (كما في كشف الأستار (1/ 79، 3/ 58) من طريق عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء (رضي الله عنه) مرفوعاً. وقال البزار في الموضع الأول الذي خرَّج فيه هذا الحديث: «إسناده صالح» اهـ وقال في الموضع الآخر: «لا نعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، وعاصم بن رجاء حدَّث عنه جماعة، وأبوه روى عن أبي الدرداء غير حديث، وإسناده صالح ... » اهـ وقال الهيثمي (1/ 121): «إسناده حسن ورجاله موثقون» اهـ وانظر (7/ 55)، وهدا الإسناد منقطع؛ لأن رجاء لم يلق أبا الدرداء كما نبه عليه الحافظ في التهذيب (3/ 230) والله أعلم. والحديث أخرجه أيضاَ العقيلي (2/ 174) عن الحسن مرسلاً. وعقبه قوله: «هذا أولى» اهـ كما أخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعاً، وضعَّف إسناده.

عنه حرام، وهو مَعْفُوٌّ لا مؤاخذة به (¬1). وهو غالط من جهات كثيرة، منها: أن ما سكت عنه الوحي منه ما يمكن أن يكون عفواً كما قال، فنحن مثلاً أُوجِبَ علينا صوم شهر واحد من السنة وهو رمضان، وسكت الوحي عن إيجاب شهر آخر، فلم يجب علينا إلا هذا؛ لأن ما سُكِتَ عنْه فهو عفو، وأُوجبت علينا الصلوات وغيرها لم يكن علينا، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ضمام بن ثعلبة قال: «لا» لمّا قال له الأعرابي ضمام: هل عليّ غيرها؟ قال: «لاَ، إِلاّ أَنْ تَطوّعَ» (¬2). أما إنها توجد أشياء لا يمكن أن تكون عَفْواً ولا بد من ¬

(¬1) انظر: الإحكام ص1060، فما بعدها. (¬2) البخاري في الإيمان، باب: الزكاة في الإسلام، حديث رقم (46)، (1/ 106)، وأطرافه في (1891، 2678، 6956)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الصلوات الخمس التي هي أحد أركان الإسلام. حديث رقم (11)، (1/ 40).

النظر فيها والاجتهاد، وَمَنْ نَظَر إلى جمود ابن حزم علم أنه على غير هدى، وأن الهدى مع الأئمة رحمهم الله. والذي يجب اعتقاده في الأئمة -رحمهم الله- كالإمام مالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد، والشافعي -رحمة الله على الجميع- أن ما اجتهدوا فيه أكثره أصابوا فيه، فلهم أجر اجتهادهم وأجر إصابتهم، وأنه لا يخلو أحدٌ من خطأ، فلا بد أن يكون بعضهم أخطأ فيما اجتهد فيه، فما أخطئوا فيه فَهُمْ مَأْجُورُونَ لاجتهادهم، معذورون في خطئهم -رحمهم الله- والصحابة كانوا يجتهدون كما كان يجتهد الأئمة -رحمهم الله- وسنلمُّ بأطراف من هذا؛ لأن هذا باب واسع لو تَتَبَّعْنَاهُ لمكثنا فيه زمناً طويلاً! ولكن نُلم إلمامات بقدر الكفاية: أولاً: ليعلم السامعون أن ما كل ما سكت عنه الوحي يمكن أن يكون عفواً، بل الوحي يسكت عن أشياء لا بد ألبتة من حَلِّها. ومن أمثلة ذلك: مسألة العَوْل، فكما قال الفَرَضِيُّون: إن أول عَوْل نزل في أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه (¬1) - ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها، فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال الزوج: يا أمير المؤمنين: هذه تركة زوجتي، ولم تترك ولداً، والله يقول في محكم كتابه: ¬

(¬1) أخرجه البيهقي (6/ 253)، والحاكم (4/ 340)، وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» اهـ وابن حزم في المحلى (9/ 264)، وانظر: تلخيص الحبير (3/ 89).

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: آية 12] فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد، فَلِي نِصْف ميراثها بهذه الآية، ولا أتَنَازَل عن نصف ميراثي بدانق. فقامت الأختان فقالتا: يا أمير المؤمنين هذه تركة أختنا، ونحن اثنتان، والله يقول: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: آية 176] والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق. فقال عمر -رضي الله عنه-: ويلك يا عمر، والله إن أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وإن أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج نصف!! فنقول: يا ابن حزم كيف نسكت عن هذا؟ وكيف يكون هذا عفوًا؟! والوحي سكت عن هذا ولم يبين أيَّ النَّصَّيْنِ ماذا نفعل فيهما؟! فهذا لا يمكن أن يكون عفواً، ولا بد من حلّه!! فلا نقول لهم: تهارشوا على التّركة تهارش الحمُر، أو ننزعها من واحد إلى الآخر، فلا بد من إلحاقٍ للمسكوت عنه بالمنطوق به، وحل معقول بالاجتهاد. فجمع عمر -رضي الله عنه- الصحابة، وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العول بمثل هذا، وقال له العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين، أرأيت هذه المرأة لو كانت تُطَالَب بسبعة دنانير دَيْناً، وتركت ستة دنانير فقط، ماذا كنت فاعلاً؟! قال: أجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء، وأُعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيباً من الستة. قال: كذلك فافعل، أصل فريضتها من ستة؛ لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين. وثُلثا الأختين يخرجان من ثلاثة، ومخرج الثلث ومخرج النصف متباينان، فنضرب اثنين في ثلاثة بستة، ثم اجْعَل نَصْفَة زائدة هي المسماة بالعَوْل، فهي فريضة عائلة بسدسها إلى سبعة، فجعل تركة المرأة سبعة أنصباء، وقال للزوج:

لك نصف الستة -وهي ثلاثة- فخذ الثلاثة من سبعة، فبقي من السبعة أربعة، فقال للأختين: لكما الثلثان من الستة -وهما أربعة- فخذاها من سبعة. فصار النقص على كل واحد من الوارثين، ولم يُضِع نصّاً من نصوص القرآن. وكان ابن حزم في هذه المسالة يُخطِّيء جميع الصحابة ويقول: إن العباس وعامة الصحابة على غلط، وأن هذا الفعل الذي فعلوا لا يجوز، وأن الحق مع ابن عباس وَحْدَه الذي خالف عامة الصحابة في العَوْل، وقال: الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في شيء واحد نصفاً وثلثين (¬1). فرأي ابن عباس أن يُنظر في الورثة، إذا كان أحدهما أقْوَى نُقَدِّمُه، ونكمل له نصيبه، ونجعل النقص على الأضعف، فابن عباس في مثل هذا يقول: إن الزوج يُعطى نصفه كاملاً؛ لأن الزوج لا يحجبه الأبوان، ولا يحجبه الأولاد، بخلاف الأختين فهما أضعف سبباً منه؛ لأنهما يحجبهما الأولاد ويحجبهما الأب. قال: وُيعطي للأختين نصفاً، وهذا تلاعب بكتاب الله!! الله يقول: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: آية 176] وهو يقول: فلهما النصف. فهذا عمل بما يناقض القرآن. مع أن ابن حزم ورأي ابن عباس تقضي عليه وتبطله المسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبرية، وإنما سُميت بالمنبرية؛ لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه) أفتى بها وهو على المنبر في أثناء خطبته؛ لأنه ابتدأ خطبته على المنبر فقال: الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرُّجعى. فسمع قائلاً يقول: ما تقولون فيمن هلك عن زوجة ¬

(¬1) أخرجه البيهقي (6/ 253)، وابن حزم في المحلى (9/ 264)، وأورده السيوطي في الدر (2/ 127) وعزاه لسعيد بن منصور.

وأبوين وابنتين؟ فقال علي (رضي الله عنه): «صار ثُمْنُها تُسعاً» ومر في خطبته (¬1). وقوله: «صارت ثُمْنُها تُسعاً» لأن هذه الفريضة فيها ابنتان وأبوان وزوجة، الابنتان لهما الثلثان، والأبوان لكل واحد منهما السدس، فذلك يستغرق جميع التركة؛ لأن السدسين ثلث، وتبقى الزوجة، تعول الفريضة، وأصلها من أربعة وعشرين. والأربعة والعشرون ثُمُنُها: ثلاثة، فيُعالُ بها في ثُمن الزوجة. والثمن من أربعة وعشرين: ثلاثة. وإذا ضُم الثمن الذي عالت به الفريضة إلى أصل الفريضة ضمَّت ثلاثة العول وهو الثمن الذي عيل به للزوجة إلى الأربعة والعشرين التي هي أصل الفريضة، صارت: سبعة وعشرين، والثلاثة من السبعة والعشرين تُسعها، ومن الأربعة والعشرين ثمنها. فهذه لو قلنا لابن حزم: أيهما يحجب؟ هل البنتان تحجبان؟ لا والله. هل الأب والأم يحجبان؟ لا والله. هل الزوجة تحجب؟ لا والله. ليس فيهم من يحجبه أحد، وكلاهما أهل فروض منصوصة في كتاب الله، ولا يُحجب أحد منهم أبداً!! فبهذا يبطل قوله: إن مَنْ هُوَ أضْعَف سبباً بأنه يُحْجَب يُقدَّم علَيْهِ غيْرُهُ. ثم لتعلموا أن الحقيقة الفاصلة في هذا أنه ورد عن السلف مِنَ الصَّحَابَةِ ومَنْ بَعْدَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الآثَارِ المستفيضة في ذَمِّ الرَّأْيِ ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور (1/ 19)، عن سفيان عن أبي إسحاق قال: ((أُتي علي ... )). وابن أبي شيبة في المصنف (11249)، (11/ 288) عن وكيع عن سفيان عن رجل. والدارقطني (5)، (4/ 68)، والبيهقي (6/ 253). وفي إسنادهما شريك بن عبد الله، والحارث الأعور. وذكره عبد الرزاق (10/ 258) بغير إسناد. قال الألباني في الإرواء: (1706)، (6/ 146) عن إسناده عند البيهقي (ومثله الدارقطني): ((وهذا سند ضعيف من أجل الحارث وهو الأعور، وشريك، وهو ابن عبد الله القاضي. وكلاهما ضعيف)) ا. هـ.

والقِيَاسِ، وأجْمَعَ الصَّحَابَةُ والتَّابِعُونَ على العمل بالقياس واستنباط ما سُكت عنه مما نطق به الوحي. هذا أمر لا نزاع فيه، فمن جمد على النصوص ولم يُلحق المسكوت عنه بالمنطوق به فَقَدْ ضَلَّ وأَضَلَّ. ومن هذا النوع: ما أجمع عليه جميع المسلمين حتى سلف ابن حزم -وهو داود بن علي الظاهري- كان لا ينكر القياس المعروف الذي يسميه الإمام الشافعي: «القياس في معنى الأصل» ويقول له: «القياس الجلي» وهو المعروف عند الفقهاء بـ «مفهوم الموافقة» و «وإلغاء الفارق» ويسمى: «نفي الفارق» وهو نوع من تنقيح المناط (¬1). فقد أجمع جميع المسلمين على أن المسكوت عنه فيه يُلحق بالمنطوق، وأن قول ابن حزم: «إنه مسكوت عنه، لم يُتعرض له» أنه كذب محض، وافتراء على الشرع، وأن الشرع لم يَسْكُتْ عَنْه، فقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: آية 23] يقول ابن حزم (¬2): إن هذه الآية ناطقة بالنهي عن التأفيف، ولكنها ساكتة عن حكم الضرب!! ونحن نقول: لا والله، لما نهى عن التأفيف الذي هو أخَفّ الأذى فَقَدْ دَلَّتْ هَذِه الآية مِنْ بَابٍ أَوْلَى عَلَى أنَّ ضَرْبَ الوالدين أشد حُرْمَة، وأشد حُرمة، وأن الآية غير ساكتة عنها بل نَبَّهَت على الأكبر بما هو أصغر منه، فلما نهت عن التأفيف وهو أقل أذيّة من الضرب لم تسكت عن الضرب. ونقول إن قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)} [الزلزلة: الآيتان 7، 8] أن هذه الآية ليست ساكتة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (145) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: جواب ابن حزم عن هذه الإلزامات في الأحكام ص932، فما بعدها.

عمن عمل مثقال جبل أُحد، فلا نقول: نصّ على الذّرة، وما فوق الذرة -وهو أثقل منها- لا يؤخذ من الآية، فهي ساكتة عنه. بل نقول: إن الآية غير ساكتة عنه، وإن ذلك المسكوت يُلحق بهذا المنطوق. وكذلك قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: آية ?] لو جاء بأربعة عدول فلا نقول: أربعة عدول مسكوت عنها. بل نقول: إن الآية التي نصّت على قبول شهادة العَدْلَيْنِ دَالّة على قبول شهادة أربعة عدول. ونقول: إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: آية 10] لا نقول كما يقول ابن حزم: إنها ساكتة عن إحراق مال اليتيم وإغراقه؛ لأنها نَصَّتْ عَلَى حُرْمَةِ أكْلِهِ فَقَطْ. بل نقول: إن الآية التي نهَتْ عَنْ أَكْلِهِ دلت على حرمة إِغْرَاقِهِ وإحراقِهِ بِالنَّارِ؛ لأن الجميع إتلاف. ومما يدل على أن ما يقوله ابن حزم لا يقول به عاقل: أن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البول في الماء الراكد (¬1) يقول ابن حزم: لو بال في قارورة وصبها في الماء لم يكن هذا من المكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عن هذا، وإنما قال: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ». ولم يقل: لا يبولن أحدكم في إناء ثم يصبه في الماء الراكد. فهذا لا يعقل!! أيعقل أحد أن الشرع الكريم ينهى عن أن يبول إنسان بقطرات قليلة أقل من ربع وزن الكِيْل ثم إنه يجوز له أن يملأ عشرات التنكات من البول بعدد مئات الكيلوات ثم يصبها في الماء؟ وأن هذا جائز (¬2)!! [وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْضِينَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان»، لأن الغضب من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

مشوشات الفكر، فيدخل في حكمه ما لو كان في .. ]. حزن مُفْرِط يذهل عقله، أو فرح شديد مُفْرِط يدهش عقله، أو في عطش شديد مُفْرِط يدهش عقله، أو في جوع شديد مُفْرِط يدهش عقله، ونحو ذلك من [4/ب] مشوشات الفكر التي هي أعظم من الغضب/ فليس في المسلمين من يعقل أنه يقال للقاضي: احكم بين الناس وأنت في غاية تشويش الفكر بالجوع والعطش المُفْرِطَين، أو الحزن والسرور المُفْرِطَين، أو الحَقْن والحَقْب المُفْرِطَين، أو الحزن، والحقن: مدافعة البول، والحقب: مدافعة الغائط؛ لأن الإنسان إذا كان يدافع البول أو الغائط مدافعة شديدة كان مَشَوَّش الفكر، مشغول الخاطر، لا يمكن أن يَتَعَقَّل حججَ الخصوم؛ فمثل هذا إذا قال العلماء: إن القاضي لا يجوز له أن يحكم وهو مُشَوَّش الفكر. فنعلم أن قول ابن حزم أنهم إنما جاءوا بتشريع جديد أنه كَذِبٌ، وأن حديث: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» (¬1) يدل على أن من كان فكره متشوشاً تشويشاً أشد من الغضب أولى بالمنع من هذا الحكم. وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالشاة العوراء (¬2) لا نقول: إن العلماء ما نهوا عن التضحية بالشاة العمياء أن العمياء مسكوت عنها، وما سكت الله عنه فهو عفو، فله أن يضحي بالعمياء. هذا مما لا يقوله عاقل!! وكذلك قال الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: آية 4] ولم يصرح في الآية إلا بأن يكون القاذف ذكراً والمقذوفة أُنثى، فلو قذفت ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام .. (¬2) السابق.

أنثى ذكراً، أو قذف ذكر ذكراً، أو قذفت أُنثى أُنثى، كيف نقول إن هذا عفو، وإن هذا القذف لا مؤاخذة فيه؛ لأن الله إنما نص على قذف الذكور للإناث، حيث قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: آية 4] ولما أراد ابن حزم هنا أن يدخل الجميع في عموم المحصنات فقال: المحصنات نعت للفروج (والذين يرمون الفروج المحصنات) فيشمل الذكور والإناث (¬1)، يُرد عليه: أن المحصنات في القرآن لم تأتِ قط للفروج، وإنما جاءت للنساء، وكيف يجري ذلك في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: آية 23] وهل يمكن أن تكون الفروج غافلات مؤمنات؟! هذا مما لا يعقل. وكذلك نص الله (جل وعلا) على أن المبتوتة إذا طلقها الأول ثلاث طلقات فصارت مبتوتة حراماً عليه إلا بعد زوج، ثم تزوجها زوج فدخل بها ثم طلقها هذا الزوج الأخير فإنه يجوز للأول أن ينكحها؛ لأنها حلت بنكاح الثاني. والله إنما صرح في هذه السورة بنص واحد، وهو أن يكون الزوج الذي حل لها إنما طلقها لأنه قال في تطليق الأول: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلآ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: آية 230] ثم قال في تطليق الزوج الذي حللها: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلآ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي: على الزوجة التي كانت حراماً؛ والزوج الذي كانت حراماً عليه {أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: آية 230] فنص على طلاق المحلل خاصة. {فَإِن طَلَّقَهَا} أرأيتم لو حللها وجامعها مئة مرة حتى حلّت، وكانت كماء المزن، ثم مات قبل أن يطلقها، أو فسخ حاكم عقدهما بموجب آخر بالإعسار بنفقة أو غير ¬

(¬1) انظر: كتابه الإيصال (ملحق في آخر المحلى) (11/ 270).

ذلك من أسباب الفسخ، أيقول مسلم: إن هذه لا تحل للأول؛ لأن الله ما نص إلا على قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا} ولو مات لم تحل؛ لأن الموت ليس بطلاق!! هذا مما لا يقوله عاقل!! وأمثال هذا كثيرة جدّاً. فنحن نقول: إن هذا الذي يقول ابن حزم: «إن الوحي سكت عنه» الوحي لم يسكت عنه، وإنما أشار إليه لتنبيهه لبعضه على بعضه، فالغضب يدل على كل تشويش فكر. والمحصنات لا فرق بين المحصنات والمحصنين. وقوله: {فَإِن طَلَّقَهَا} [البقرة: آية 230] لا فرق بين ما لو طلقها أو مات عنها، فَبَعْدَ أنْ جَامَعَهَا وفارَقَهَا تَحِلّ للأَوَّلِ سواء كان الفراق بالطلاق المنصوص في القرآن، أو بسبب آخر كالموت والفَسْخِ. وهذا مما لا ينازع فيه عاقل، وإن نازع فيه ابن حزم. ثم إن ابن حزم يسخر من الإمام أبي حنيفة (رحمه الله)؛ لأن الإمام أبا حنيفة (رحمه الله) يقول: إن التشهد الأخير يخرج الإنسان به من الصلاة بكل مناف للصلاة. ورُوي عنه: حتى أنه لو انتقض وضُوؤُه فضرط أنه خرج من الصلاة؛ لأن الضراط مناف لها. وكان ابن حزم يسخر عليه من هذا فيقول: ألا ترون قياس الضراط على (السلام عليكم) الوارد في النصوص!! إن لم يكن قياس الضراط على (السلام عليكم) قياساً فاسداً فليس في الدنيا قياس فاسد!! ويسخر من الإمام مالك في مسائل كثيرة ويقول: إنه يقيس قياسات الألغاز؛ لأن مالكاً (رحمه الله) جعل أقل الصداق رُبْعَ دِينار، أو ثلاثة دراهم خالصة. قال: قياساً على السرقة بجامع أن كلّاً منهما فيه استباحة عضو في الجملة؛ لأن النكاح فيه استباحة الفرج بالوطء، والقطع فيه استباحة اليد بالقطع، فابن حزم يسخر من مالك ويقول:

هذه ألغاز ومحاجاة بعيدة من الشرع، وتشريعات باطلة. وأمثال هذا منه كثيرة (¬1). ونحن نضرب مثلاً: فإنه من أشد ما حمل فيه على الأئمة -رحمهم الله- مسألة حديث تحريم رِبَا الفَضْلِ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه في الأحاديث الصحيحة أنه قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بمِثْل، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» (¬2) ابن حزم يقول: ليس في الدنيا ما يحرم فيه ربا الفضل إلا هذا. ويقول: الدليل على أنهم مُشَرِّعون، وأن أقوالهم كلها كاذبة؛ لأن بعضهم كالشافعي يقول: علة الربا في البر: الطعم، فيقيس كل مطعوم على البر فيقول: إن المطعومات كالفواكه كالتفاح وغيره من الفواكه يحرم فيه الربا قياساً على البر بجامع الطعم. وأبو حنيفة وأحمد يقولان: العلة: الكيل، فيقولان: كل مكيل يحرم فيه الربا قياساً على البر. فيحرمان الربا في النُّورة والأشنان وكل مكيل. فيقول ابن حزم: هذا يقول: «العلة الطعم» ويُلحق أشياء، وهذا يقول: «العلة الكيل» ويُلحق أشياء أخرى، وكل منهم يُكَذِّب الآخر (¬3)!! فهذه القياسات ¬

(¬1) انظر الإحكام ص1082. (¬2) البخاري في البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، حديث رقم (2176، 2177، 2178)، (4/ 379)، ومسلم في المساقاة، باب: الربا، حديث رقم (1584)، (3/ 1208، 1211)، من حديث أبي سعيد الخدري، وقد جاء في هذا المعنى عدة أحاديث، منها حديث أبي بكرة عند البخاري (2175)، (2182) ومسلم (1590)، وحديث عمر عند مسلم (1586)، وفيه أيضاً عن عبادة (1587)، وأبي هريرة (1588)، وفضالة بن عبيد (1591). (¬3) انظر: الإحكام ص1065، 1082.

المتناقضة، والأقوال المتكاذبة، والأحكام التي ينفي بعضها بعضاً لا يشك عاقل في أنها ليست من عند الله. وأمثال هذا كثيرة. ونحن نضرب مثلاً بهذه المسألة فنقول: إن الأئمة (رضي الله عنهم)، أبا حنيفة، وأحمد، والشافعي - رحمهم الله - الذين سخر ابن حزم من قياساتهم هم أولى بظواهر النصوص من نفس ابن حزم. ونقول لابن حزم مثلاً: أنت قلت: إنك مع الظاهر، وقلت: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي ظَاهِرِيّ وَأَنَّنِي ... عَلَى مَا بَدَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ (¬1) فهذا الإمام الشافعي الذي قال: «إن علة الربا في البر: الطعم». استدل بحديث ثابت في صحيح مسلم، وهو حديث معمر بن عبد الله (رضي الله عنه)، الثابت في صحيح مسلم، قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ ... » الحديث (¬2) فالشافعي فيما سخر منه ابن حزم أقرب لظاهر نصوص الوحي من ابن حزم. وكذلك الإمام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل -رحمهما الله تعالى- اللذان قالا: «إن علة الربا في البر: الكيل» استدلاَّ بالحديث الثابت في الصحيح: «وَكَذَلِكَ المِيزان»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر المكيلات وبين أن الربا حرام فيها قال: «وكذلِكَ المِيزان». والتحقيق: أن الموزونات مثل المكيلات، فجعل معرفة القدر علة للربا. وقوله: «وكذلك الميزان» ثابت في الصحيحين (¬3). ¬

(¬1) البيت في مطمح الأنفس لأبي نصر الإشبيلي صـ281، وفيات الأعيان (3/ 327)، سير أعلام النبلاء (18/ 207)، وصدره: «ألم تر». (¬2) مسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام بالطعام مثلاً بمثل، حديث رقم (1592)، (3/ 1214). (¬3) البخاري في البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، حديث رقم (2201، 2202)، (4/ 399)، وأطراف حديث (2201)، في (2302، 4244، 4246،7350)، وحديث (2202)، أطرافه في (2303، 4245، 4247،7351). ومسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل. حديث رقم (1593)، (3/ 1215)، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.

وفي حديث حيان بن عبيد الله الذي أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن أبي سعيد الخدري لما ذكر الستة التي يحرم فيها الربا قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَكَذلِك كُلّ ما يُكَال أو يُوزَن» (¬1). وهذا الحديث حاول ابن حزم تضعيفه من ثلاث جهات، وقد ناقشناه في الكتاب الذي كتبنا على القرآن مناقشة وافية (¬2). والتحقيق: أن حيان بن عبيد الله ليس بمجروح، وأن زعمه أن أبا مجلز الذي روى عنه الحديث لم يلق ابن عباس أنه كذب، وأنه أدرك ابن عباس وأبا سعيد الخدري (رحمهم الله)، وأن الحديث لا يقل عن درجة القبول بوجه من الوجوه عند المناقشة الصحيحة كما بَيَّنَّاهُ في الكتاب الذي كَتَبْنَا في القرآن، وهذا الحديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «وكذلك كل ما يُكَالُ أو يُوزَن». وهذا أقرب لظاهر نص النبي صلى الله عليه وسلم من ابن حزم الذي يسخر من أبي حنيفة والإمام أحمد -رحمهما الله- وليس قصدُنا في هذا الكلام أن نتكلم على ابن حزم؛ لأنه رجل من علماء المسلمين، وفحل من فحول العلماء، إلا أن له زلات، ولا يخلو أحد من خطأ، ومقصودنا أن نبين لمن نظر كتب ابن حزم فقط أن حملاته على الأئمة ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 42 _ 43)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ وتعقبه الذهبي بقوله: «حيان فيه ضعف وليس بالحجة» اهـ. (¬2) انظر: أضواء البيان (1/ 240).

أن الغلط معه فيها لا معهم، وأنهم أقرب للصواب، وأولى به منه، وأعلم منه، وأكثر علماً وورعاً منه، فهم لا يحملون على أحد، ولا يعيبون أحداً. والحاصل أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق أمر لا شك فيه، وأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، والله (جل وعلا) قد بين نظائر في القرآن كثيرة يُعلم بها إلحاق النظير بالنظير. والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إلى ذلك في أحاديث كثيرة (¬1)، فمن ذلك: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القُبْلة للصائم، فقال له: «أرَأَيْتَ لو تمَضْمَضْت» (¬2)؟! فهذا إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قياس المضمضة على القُبْلة بجامع أن القُبْلة مقدمة الجماع، وأن المضمضة مقدمة الشرب، فكل منهما مقدمة الإفطار وليست بإفطار. فمحل كون القُبْلة كالمضمضة: إذا كان صاحبها لا يخرج منه شيء، أما إذا كانت القبلة تخرج منه شيء فهو كالذي إذا تمَضْمَضَ ابتلع شيئاً من الماء، فحكمه حكمه، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة ثابتة في الصحيحين: أنه سأله رجل مرة، وامرأة مرة، عن دَين يقضيانه على ميت لهما، مرة تقول: أبي، ومرة تقول: أمي. وكذلك الرجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتِ لو كان على أمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟» قالت: نعم. قال: «فدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» (¬3). هو تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على قياس دَين الله على دَين الآدمي. بجامع أن الكل حق يطالب به الإنسان، وأنه يقضى عنه بدفعه ¬

(¬1) انظر: جواب ابن حزم عن مثل هذه الأدلة في الإحكام ص966، فما بعدها. (¬2) مضى عند تفسير الآية (145) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

لمستحقه. وأمثال هذا كثيرة. ومن أصرحها: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل، كان الرجل أبيض، وامرأته بيضاء، وولدت له غلاماً أسود، فأصاب الرجل جَزَعٌ مِنْ سَوَادِ الغُلامِ، وظن أنها زَنَتْ بِرَجُلٍ أسْوَد وجاءت منه بهذا الولد، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم مُنْزَعِجاً وأَخْبَرَهُ أنها جاءت بولد أسْوَدَ، وكان يريد أن يلاعنها وينفي عنه الولد باللّعَانِ زَعْماً أن هذا الولد مِنْ زَانٍ أسود، وأنه ليس ولده؛ لأنه هو أبيض وزوجته بيضاء. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم. قال: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قال: حمر الألوان. قال: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق؟» (والأورق المتصف بلون الوُرْقة، والوُرْقة لون كلون حمام الحرم، يعني: سواد يعلوه بياض يكون في الإبل) قال الرجل: إن فيها لوُرْقاً؟ قال: «وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْهَا تِلْك الوُرقة؟» آباؤها حمر وأمهاتها حمر، فمن أين جاءتها الوُرقة؟ قال: لعل عرقاً نزعها! قال له: «وهَذَا الوَلَدُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ» (¬1). فاقتنع الأعرابي. وهذا إلحاق نظير بنظير، وبالجملة فنظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، وهذا مما لا يُشك فيه، وأن القياس منه قياس صحيح لا شك فيه كالأمثلة التي ذكرنا، ومنه قياس فاسد، والقرآن ذكر بعض الأقيسة الفاسدة، وبعض الأقيسة الصحيحة، فمن الأقيسة الصحيحة في القرآن قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: آية 59] كما اليهود قالوا: إن عيسى لا يمكن أن تَلِدَهُ مَرْيم إلا مِنْ رَجُلٍ زَنَى بها، وقالوا لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28)} [مريم: آية 28] وهذا الولد لا بد أن يكون له والد، وهذا الوالد رجل فَجَرْتِ معه وزنيتِ به. فالله (جل وعلا) ¬

(¬1) السابق.

قاس لهم هذا الولد على آدم بجامع أن آدم وُلِدَ ولم يكن له أم ولا أب، خُلق ولم يكن له أم ولا أب، فالذي خَلَقَ آدَمَ ولمْ يَكُنْ له أب ولا أم فهو قادِرٌ على أن يخلق عيسى من أُمٍّ ولم يكن له أب، كما خلق حواء من ضلع رجل. فالله (جل وعلا) جعل خلق الإنسان قسمة رباعية: بعضٌ خلقه لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم، وبعض خلقه من أنثى دون ذكر وهو عيسى ابن مريم، وبعض خلقه من ذكر دون أنثى وهي حواء؛ لأن الله يقول: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: آية 1] والقسم الرابع: خلقه من ذكر وأنثى فقاس عيسى على آدم بجامع أن الذي أوجد آدم بقدرته يوجد عيسى بقدرته. وأمثال هذا كثيرة. وكذلك قاس الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم الماضية، وقال لهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ثم بين إلحاق النظير بالنظير فقال: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: آية 10] فكأن الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فرع، والكفار المتقدمون أصل، والحكم الذي عمهم المهدد به: العذاب والهلاك، والعلة الجامعة: تكذيب الرسل، والتمرد على رب العالمين. وأمثال هذا في القرآن كثيرة. وكذلك ما يسمونه: (قياس العلة) - وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة (¬1) - يكثر في القرآن جدّاً، كقوله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت: آية 39] فقاس إحياء الموتى الذي ينكره منكرو البعث على إحياء الأرض المشاهد؛ لأن كلاًّ منهما إحياء. ¬

(¬1) انظر: المذكرة في أًصول الفقه ص243، نثر الورود ص442.

وهذا الإحياء للموجود يدل على قدرة قادر كاملة باهرة يقدر بها من اتصف بها على إحياء الموتى كما أحيا الأرض بعد موتها، وكما استدل (جل وعلا) بقياس الأولى على الأدنى، واستدل بأن من خلق السماوات والأرض لا يعجز عن خلق الإنسان الصغير الحقير بعد الموت، كما قال: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)} الآية [النازعات: الآيات 27 - 29] وقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: آية 57]، ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر، وقال جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [الأحقاف: آية 33] وقاس النشأة الأخرى على النشأة الأولى فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: آية 62] والإيجاد الأول، فهلا قستم عليه النشأة الأخرى والإيجاد الأخير، وعلمتم أن مَنْ قَدَر على الأول قادر على الثاني، كما قال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: آية 79] وأمثال هذا كثيرة جدّاً. أما القياس الفاسد الذي بُني مخالفاً للنصوص كقياس إبليس لعنه الله، وكالأقيسة المخالفة للنصوص، وكأقيسة الشَّبَه المبنية على الفساد (¬1)، فإن الكفار جاءوا بقياس الشبه كثيراً باطلاً - ومِثْلُه باطل - كما قالوا في يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: آية 77] فأثبتوا السرقة على أخي يوسف؛ لأن يوسف قد سرقَ قَبْلَهُ، قالوا: الأخ يشابه الأخ، فيلزم من مشابهتهما أن يكونا متشابهين في الأفعال، وأن هذا ¬

(¬1) انظر: كلام الشيخ (رحمه الله) على قياس الشبه في المذكرة في أصول الفقه ص265، نثر الورود ص509.

سرق كما سرق ذلك!! وهذا قياس شَبَهٍ باطل. وهذا النوع من القياس كقياسات إبليس الباطلة؛ والكفار - لعنهم الله - كذبوا جميع الرسل بقياسات شَبَهٍ باطلة؛ لأنه ما جاء رسول إلى قوم إلا قالوا له: أنت بشر، وكونك بشر يجعلك تشبه سائر البشر، ولا نقبل أن تكون رسولاً من رب العالمين وأنت تأكل كما نأكل، وتشرب مما نشرب، وتمشي في الأسواق كما نمشي فيها!! ونص الله على أن هذا مَنَعَ كل أمة، قال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَّسُولاً (94)} [الإسراء: آية 94] فشبهوا البشر بالبشر قياس شبه، واستنتجوا من ذلك أنه لا تكون له أفضلية على البشر، والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - ردوا عليهم هذا القياس، ورده الله عليهم في آيات لما قالوا للرسل: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم: آية 10] أجابهم الرسل قالوا: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: آية 11] فمشابهتنا في البشرية لا تستلزم [عدم] (¬1) تفاوتنا في فضل الله، كما قال جل وعلا: {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: آية 6] {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (34)} [المؤمنون: آية 34] وقالوا فيه: {يَأكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: آية 33] {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: آية 24] وهذا كثير في القرآن، وهذه الأقيسة الفاسدة. والحاصل أن القياس منه صحيح ومنه فاسد، فالصحيح هو الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون وعامة المسلمين. وأحكام الصحابة في القياس لا يكاد أحد يحصيها، فقد جاء في صحيح ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق ..

البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن المجتهدين يختلفون في اجتهادهم، وكلهم لا إثم عليه ولا ضَيْر عليه؛ لأنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَان سَامِعاً مطيعاً فلا يُصَلِّينَّ العصْرَ إلا في بَنِي قُرَيْظَة» (¬1). هذا نص صريح صحيح سمعه الصحابة بآذانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا من المدينة إلى ديار بني قريظة وأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فاختلفوا في فهم هذا الحديث، وكُلٌّ اجْتَهَدَ بحسب ما أدى إليه فهمه، فجماعة قالوا: ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن نؤخر صلاة العصر عن وقتها، ولكن مراده الإسراع إلى بني قريظة، فلنصلِّ ونسرع، فصلوا العصر وأسرعوا، وجماعة قالوا: العصر وجبت علينا على لسانه صلى الله عليه وسلم، فلو قال لنا: اتركوها إلى يوم القيامة تركناها إلى يوم القيامة، ولو قال: اتركوها إلى قريظة تركناها إلى قريظة، وجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصلوا، واجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وهم في خلاف بين مُشَرِّق ومُغَرِّب؛ لأن من صلى ومن لم يصل مختلفان، فهو صلى الله عليه وسلم قررهم جميعاً ولم يُخَطِّئ أحداً منهم، ولو كان واحد منهم فعل غير صواب وأمراً حراماً لما أقره الرسول عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقر على باطل، ولا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. وثبت في صحيح البخاري عن الحسن البصري ¬

(¬1) البخاري في صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً، حديث رقم (946)، (2/ 436)، وطرفه في (4119)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، حديث رقم (1770)، (3/ 1391)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. تنبيه: في البخاري (العصر) وفي مسلم (الظهر). وانظر كلام الحافظ على الروايتين في الفتح (7/ 408 - 409).

(رحمه الله) ما مضمونه ومعناه: أنه كان يقول: لولا آية من كتاب الله أشفقت على المجتهدين، وهي قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ... } الآية [الأنبياء: آية 78] (¬1)؛ لأن الله (جل وعلا) صَرَّحَ بأنهما حَكَمَا حيث قال: {إِذْ يَحْكُمَانِ} بألف الاثنين الواقعة على داود وسليمان ثم قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ولم يذكر شيئاً عن داود، فَعَلِمْنَا أن داود لم يفهمها؛ لأنها لو فهمها الأب لما اقتصر على الابن، ولَمَا كان للاقتصار على سليمان فائدة مع أنهما فهماها، ولو كان هذا وحياً من الله لما فهمه أحدهما دون الآخر؛ لأن الوحي أمر لازم للجميع، فدل على أنهما اجتهدا، وأن داود لم يُصِبْ في اجتهاده، وأن سليمان أصاب في اجتهاده، فالله أثنى على كل منهما، ولم يؤنب داود، بل قال بعدها: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (¬2) [الأنبياء: آية 79] وقد ثبت في الصحيحين ما يُستأنس به لهذا؛ لأنه قد ثبت في الصحيحين أن داود (عليه السلام) في زمنه جاءته امرأتان نُفستا، وجاء الذئب فاختطف ابن واحدة منهما، وكانت التي اختطف ولدها هي الكبرى، وبقي ولد الصغرى فقالت الكبرى: هذا ولدي، وتنازعتا، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى اجتهاداً منه، لأمارات ظهرت له، أو لشيء في شرعه يقتضي ظاهره ذلك الاجتهاد. فرجعتا إلى سليمان، فلما رجعتا إلى سليمان قال: كل واحدة منكما تدعيه!! هاتوا بالسكين أشقه بينهما نصفين، فأُعطي نصفه لهذه ونصفه لهذه. وكان أبو هريرة يقول: ما سمعت بالسكين إلا ذلك اليوم، ما كنا نقول لها إلا المُدْيَة. فلما قال إنه ¬

(¬1) البخاري في الأحكام، باب: متى يستوجب القضاء (13/ 146). (¬2) انظر: جواب ابن حزم عن هذه الأدلة في الإحكام ص699 ..

يشقه جزعت أمه التي هي الصغرى، وأدركتها الرأفة على الولد فقالت له: لا، يرحمك الله، هو ابنها وأنا لا حق لي فيه. وكانت الكبرى راضية بأن يُشق لتساويها أختها في المصيبة، فعلم سليمان أن الولد للصغرى، فقضى به للصغرى (¬1). وذكر ابن عساكر في تاريخه ما يشبه هَذِهِ القِصَّةَ عَنْ دَاوُد وسليمان، إلا أَنَّهُ فِي تاريخ ابن عساكر -والله أعلم بصحة القصة وعدم صحتها- إلا أن هذا الذي ذكرنا الآن اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة. والقصة التي ذَكَرَها ابن عساكر في تاريخه: أنه كان أربعة من أشراف بني إسرائيل راودوا امرأة جميلة من بني إسرائيل عن نفسها، وكانت بارعة الجمال، [فمنعتهم وحاولوا أن يصلوا] (¬2) إليها فامتنعت، فاتفقوا على أن يحتالوا عليها حيلة فيقتلونها، فجاءوا وشهدوا عند داود أن عندها كلباً علمته الزنا، وأنها تزني بكلبها، وكان مثل هذا عند داود يقتضي حكم الرجم، فدعا داود بالشهود فشهد الأربعة على أنها تزني بكلبها فرجمها داود. قالوا: وكان سليمان إذ ذاك صغيراً، فجمع سليمان الصبيان وجعل منهم شُرَطاً، قال: فلان وفلان جعلهم كالشرطيين، وأخذ قوماً وجعلهم شهوداً، وجاءوا يشهدون، وجعل رجلاً كأنه المرأة، وقالوا: نشهد أن هذه زنت بكلبها، ثم قال سليمان للصبيان الذين جعلهم كالشُّرط: خذوا كل واحد منهم وفرقوهم وأتوني بهم واحداً واحداً. فجاءوه بالأول فقال: ما تقول في شهادتك؟ قال: ¬

(¬1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعال: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ ... } حديث رقم (3427)، (6/ 458)، وطرفه في (6769)، ومسلم في الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين، حديث رقم (1720)، (3/ 1344). (¬2) في الأصل: «فمنعتهما وحاولا أن يصلا».

أقول إنها زنت بكلبها. قال له: وما لون الكلب؟! قال: كان كلبها أحمر، ثم دعا بالثاني فقال: وما لون الكلب؟ قال: كان كلبها أسود، ثم دعا الآخر فقال: أغبر، فاختلفت أقوالهم في لون الكلب، فعلم أنهم كَذَبَة، فقال: اقتلوهم؛ لأنهم قتلوها. فسمع داود الخبر، فأرسل بالشهود حالاً وفرقهم، وجاءوه واحداً واحداً فسألهم فاختلفوا في لون الكلب، فعلم أنهم شهدوا عليها شهادة زور ليقتلوها حيلة، فقتلهم قصاصاً، هكذا قال، والله أعلم (¬1). وعلى كل حال فالقياس هو قسمان: قياس صحيح، وقياس فاسد. فما جاء به الظاهرية -من ذم القياس- والسلف هو ينطبق على القياس الفاسد، والصحابة كانوا مجمعين على القياس الصحيح (¬2). وقد جاء عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن جاءه ثلاثة نفر يختصمون في غلام، كلهم يقول: هو ابني. فقال: اقترعوا على الغلام، فوقعت القرعة لواحد [منهم] (¬3) فقال للذي جاء الغلام في نصيبه: خذ الغلام وادفع لكل واحد منهما ثلث الدية -ثلث دية الغلام- قالوا: فلما بلغ قضاؤه النبي صلى الله عليه وسلم ضحك من قَضَاءِ عَلِيٍّ هذا حتى بدت نواجذه (¬4). ¬

(¬1) تاريخ دمشق (22/ 232)، وهي في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/ 120 - 121). (¬2) انظر: مناقشة ابن حزم لذلك في الإحكام ص979. (¬3) في الأصل: (منهما). (¬4) عبد الرزاق (13472، 13473)، وأحمد (4/ 373، 374)، وأبو داود في الطلاق، باب: من قال بالقرعة إذا تنازعوا في الولد، حديث رقم (2252 - 2254)، (6/ 359 - 362)، والنسائي في الصغرى، كتاب الطلاق، باب: القرعة في الولد إذا تنازعوا فيه. حديث رقم (3488 - 3492)، (6/ 182 - 184)، وفي الكبرى رقم (5988)، وابن ماجه في الأحكام، باب: القضاء بالقرعة. حديث رقم (2348)، (2/ 786)، والبيهقي (10/ 267). وهو في صحيح أبي داود (1986 - 1987)، وصحيح ابن ماجه (1901)، وصحيح النسائي (3264 - 3267).

ومن ذلك حديث معاذ الذي قال له: «بِمَ تَقْضِي؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإنْ لَمْ تَجِدْ؟» فبسنة رسول الله. قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قال: أجْتَهِدُ رَأْيِي. فقال: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (¬1). وهذا الحديث يقول ابن حزم: إنه باطل (¬2) لا أصل له؛ لأنه رواه الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة، عن ناس من حمص مجهولين، هو رواية مجهول عن مجاهيل، وأن الاستدلال به ضلال. وقد قال ابن كثير في مقدمة تفسيره: إنه رواه أصحاب السنن بإسناد جيد (¬3) وذكر بعض العلماء أنه جاء من طريق عبادة بن نُسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل. وهذا الإسناد من هنا صحيح لا شك في صحته؛ لأن رجاله معروفون، إلا أن البلية مما قبل عبادة بن نُسي، والظاهر أن الذي رواه عن عبادة بن نسي هو محمد بن حسان (¬4) المصلوب، الذي صلبه أبو جعفر المنصور في ¬

(¬1) أحمد (5/ 236)، (242)، والدارمي (1/ 55)، وأبو داود في القضاء، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، حديث رقم (3575، 3576)، (9/ 509)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي. حديث رقم (1327، 1328)، (3/ 607)، وانظر: ضعيف أبي داود (770، 771)، والمشكاة (3737)، وضعيف الترمذي (224)، والسلسلة الضعيفة (881). (¬2) انظر الإحكام ص698، 773. (¬3) تفسير ابن كثير (1/ 3). (¬4) هو محمد بن سعيد بن حسان، ويقال له: ابن أبي حسان. قيل: «قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى» اهـ (التقريب ص847) وانظر: ص836.

الزندقة، وهو كذاب لا يُحتج به. فالحاصل أن حديث معاذ لا طريق له إلا طريق السنن التي فيها الحارث بن عمرو، عن قوم من أصحاب معاذ من أهل حمص. والذين قالوا: إن الحديث صحيح، وإنه يجوز العمل به، استدلوا بأمرين: أحدهما: أن الحارث بن عمرو المذكور وَثّقَهُ ابْنُ حبان، وإن كان ابن حبان له تساهل في التوثيق فالحديث له شواهد قَوِيَّة يَعْتَضِدُ بِهَا، كحديث الصحيحين: «إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» (¬1). قالوا: أصحاب معاذ بن جبل ليس فيهم مجروح، بل كلهم عدول. وإذا كان الحارث موثقاً، وأصحاب معاذ كلهم عدول فالحديث مقبول. وكذلك قالوا: إن علماء المسلمين تَلَقَّوْا هَذَا الحديث خلفاً عن سَلف، وتَلَقِّي العُلَمَاءِ للحديث بالْقَبُولِ يَكْفِيهِ عَنِ الإِسْنَادِ، وَكَمْ من حديث اكتُفي بصحته عن الإسناد، واكتُفي بعمل العلماء به في أقطار الدنيا؛ لأن هذه الأمة إذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلاً، واكتفي بذلك عن الإسناد. وعلى كل حال فالقياس الباطل هو المذموم، والقياس الصحيح -وهو إلحاق النظير بالنظير على الوجه الصحيح- لا شك في ¬

(¬1) البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث رقم (7352)، (13/ 318)، ومسلم في الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، رقم الحديث (1716)، (3/ 1342).

صحته، وأن الصحابة كذلك كانوا يفعلون، يُلحقون المسكوت عنه بالمنطوق به، وهذا كثير، وقد مثلنا له بأمثلة كثيرة. [5/أ] / يقول الله جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: آية 31] قَدْ تَقَرَّر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول أن له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو معروف في مصطلح الحديث (¬1). وإذا علمتم ذلك فاعلموا أن مسلم بن الحجاج (رحمه الله) في آخر صحيحه أخرج عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير أنَّ هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف نزلت فيما كان يفعله المشركون من أنهم يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله النهي عن ذلك (¬2)، والتجمل بلباس الزينة، وستر العورة للطواف وللصلاة في جميع المساجد، فالسبب خاص واللفظ عام، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب (¬3) كما سنوضحه إن شاء الله. والمعروف في مختلقات (¬4) العرب التي كانوا يفعلون: أنَّ غير الحُمس، والحُمس: جميع قريش (¬5)؛ لأنَّ من قريش أهل بطاح ¬

(¬1) انظر: معرفة علوم الحديث ص20، البرهان للزركشي (2/ 172)، النكت على ابن الصلاح (2/ 530، 531)، تدريب الراوي (1/ 193)، قواعد التفسير (1/ 54، 178). (¬2) مسلم في التفسير، باب قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} حديث رقم (3028)، (4/ 2320). (¬3) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. (¬4) انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (6/ 357). (¬5) المصدر السابق (6/ 362)، وانظر: ابن جرير (3/ 557).

وأهل ظواهر، وجميعهم هم وحلفاؤهم يُسمّون: «الحُمس» وأهل البطاح منهم: أولاد كعب فما دونه، وما فوق كعب وهم بنو عامر بن لؤي، وبنو الحارث بن فِهْر، وبنو محارب بن فِهْر من قبائل قريش، هؤلاء كانوا ليسوا ببطاح مكة بل بالظواهر، فهؤلاء أهل ظواهر، وهؤلاء الأبطحيون في نفس بطحاء مكة، والجميع يسمون: «الحُمسْ» هم قريش بجميعها أهل بطاحها وأهل ظواهرها، كانت عادة العرب في الجاهلية أن الإنسان إذا جاء يريد الطواف ببيت الله الحرام إن كان له صديق من الحُمس أعطاه ثوباً يطوف فيه، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية -قبل البعثة- كان له صديق من بني تميم هو عياض بن حمار الذي كان بعد ذلك صحابيّاً كريماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد عياض بن حمار أن يطوف أعاره ثوبه ليطوف فيه كما هو معروف في التاريخ (¬1). فإن أعاره أحد الحُمس ثوبه طاف فيه، وإن لم يجد من يعيره من الحُمس ثوباً فإن كان ثوبه جديداً -لم يلبسه قبل ذلك- طاف فيه، ولكنه عندما يطوف فيه يلقيه من حاله ويذهب عرياناً؛ لأنهم يقولون: لا نطوف بيت الله بثياب عصينا الله فيها، أو يتفاءلون أنهم يخرجون من الذنوب ويتعرَّوْن منها كما تعروا من الثياب (¬2). وهذه تشريعات الشيطان. والإنسان منهم إذا طاف في ثوبه لا بد أن يلقيه، وإن لم يُلْقه ضربوه حتى يلقيه وسمى ذلك الثوب (لَقَى) وهو معروف في التاريخ؛ لأن (اللَّقى) هذا الثوب الذي يلقيه من طاف فيه يبقى طريحاً تدوسه أقدام الناس في المطاف (¬3). ¬

(¬1) انظر: الاستيعاب (3/ 129). (¬2) انظر: المفصل (6/ 359). (¬3) انظر: القرطبي (7/ 189)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (6/ 359).

وبعضهم قالوا: يُلقون (اللَّقى) في منى، ومنه قول الشاعر (¬1): كَفَى حَزَناً كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ... لَقىَ بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ يعني أخاً له ميتاً تدوسه أقدام الناس وهو ميت كأنه هذا الثوب اللَّقَى الذي طَرَحَهُ من طاف به، فإن لم يجد من يعيره، وكان الثوب قديماً -في زعمهم قد عصى الله فيه- طرح الثوب وجاء عرياناً، وطاف عرياناً -والعياذ بالله- وتطوف المرأة عريانة!! وبعضهم يقول: كانت النساء تطوف بالليل ليس عليهن ثياب، والرِّجال يطوفون بالنهار (¬2). والبيت الذي تقوله الطائفة (¬3): الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ هو في صحيح مسلم في حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً (¬4)، وأنه تفسير صحابي لهذه الآية متعلق بسبب النزول فَلَهُ حُكْم الرَّفْعِ، فكأنه حديث صحيح في حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: إن معنى الآية: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: آية 31] يعني: خذوا زينة اللباس واستروا بها عوراتكم عند الطواف بالبيت والصلاة. والآية وإن كان سبب نزولها في طوافهم بالبيت عراة فلفظها عام لكل مسجد. والمقرر في الأصول: أن اللفظ إن كان عامّاً ¬

(¬1) البيت في القرطبي (7/ 189)، السيرة لابن هشام (220/ 1). (¬2) انظر: المفصل (6/ 358). (¬3) هذا البيت ينسب لضباعة بنت عامر بن صعصعة. وهو في صحيح مسلم (4/ 1320)، وابن جرير (12/ 377، 389، 390، 391، 393)، القرطبي (7/ 189)، المفصل (6/ 358). (¬4) تقدم تخريجه قريباً.

والسبب كان خاصّاً فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، هذا هو الحق الذي عليه جماهير العلماء، وعليه عامة الأصوليين إلا مَنْ شَذَّ (¬1). والدلالة على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب تفهم من نصوص الوحي، ومن اللغة العربية (¬2). أما نصوص الوحي فقد دلت على ذلك أحاديث صحيحة تدل على أن العِبْرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يدل عليه استقراء القرآن، وتدل عليه اللغة العربية أيضاً. فمن الأحاديث الدالة على ذلك: قصة الأنصاري المشهورة التي ذكرها الله في سورة هود، وسيأتي إيضاحها، وضابطها: أن أنصاريّاً كان تمَّاراً فجاءته امرأة تريد أن تبتاع منه تمراً فأُعجب بجمالها فقال لها: إن في البيت تمراً أجود من هذا، فلما دخلت في البيت تظن أنه يبيعها التمر الأجود كان بينه وبينها ما لا ينبغي أن يكون بين رجل وغير زوجته، إلا أنه لم يقع بينهما ما يستوجب الحد، فكان شيء مثل التقبيل والضم ونحوه، ثم بعد ذلك ندم ذلك الأعرابي وسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ فيه آية مدنية في سورة مكية، وهي قوله تعالى في سورة هود: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ} يعني كالصلوات الخمس التي يقيمها في الجماعات {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: آية 114] أي: يغفر الله بهن تلك الذنوب، كتقبيل تلك الأجنبية، ثم إن ذلك الرجل لما نزلت فيه الآية وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم سأل ذلك الأنصاريُّ وقال له: يا رسول الله ألي هذا خاصة؟ وسؤال الأنصاري - هذا - مقتضاه: أيختص حكم هذه الآية بي لأنني سبب نزولها، أم العبرة بعموم لفظ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ ¬

(¬1) مضى قريباً. (¬2) انظر: أدلة ذلك في قواعد التفسير (2/ 594).

يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلْ لأُمَّتِي كُلّهِمْ» (¬1). وسؤال الأنصاري هذا وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له ثابت في صحيح البخاري في تفسير سورة هود، وهو نص صريح في أَنَّ العِبْرَةَ بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. ومن النصوص الدالة على ذلك: ما ثبت في الصحيح ثبوتاً لا مطعن فيه، من أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عليّاً وفاطمة (رضي الله عنهما وأرضاهما) وهما نائمان، وأيقظهما ليصليا من الليل، فقال له علي (رضي الله عنه): إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا. فولى صلى الله عليه وسلم كالمغضب يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (¬2) [الكهف: آية 54] مع أن آية: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} نزلت على التحقيق في الكفار المشركين الذين يجادلون في القرآن، فيقول بعضهم: شعر. ويقول بعضهم: سحر. ويقول بعضهم: كَهانة. إلى غير ذلك. ويدل على أنها في الكفار: أول الآية، وهو قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ} أي المكذِّب بالقرآن الذي لم يَعْتَبِر بأمثاله {أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ¬

(¬1) البخاري في الصحيح كتاب التفسير. باب {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} حديث رقم (4687)، (8/ 355)، ومسلم في الصحيح، كتاب التوبة باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} حديث رقم (2763)، (4/ 2115). (¬2) البخاري في الصحيح، كتاب التهجُّد، باب (تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب) حديث رقم (1127)، (3/ 10)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما رُوي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، حديث رقم (775)، (1/ 537).

[الكهف: آية 54] وخصومةً في التكذيب بالقرآن، فالنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنها وإن نزلت في الكفار أن عموم لفظها شامل لقول علي (رضي الله عنه): إن أرواحنا بيد الله، إن شاء أن يبعثنا بعثنا. ومما يدل على هذا من اللغة العربية: أن الرجل مثلاً لو كان له أربع زوجات فآذته واحدة منهن وشتمته وأطلقت لسانها فيه حَتَّى أغْضَبَتْهُ، وهي واحدة، والثلاث الأُخر ساكتات لا يفعلن إلا ما يرضي زوجهن. فقال الزوج بسبب إغضاب التي أغضبته: أنتن كلكن طوالق. فإن الطلاق لا يختص بذات السبب التي أغضبته وآذته بل يطلق الجميع نظراً إلى عموم اللفظ، ويلغى سبب اللفظ الذي حمل عليه، كما هو معلوم عند أهل اللسان العربي. وقوله (جل وعلا) في هذه الآية: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: آية 31] كأنه يذكرهم بقضية إبليس. لا يَدُم إبليس على النكاية فيكم بنزع ثيابكم عنكم كما فعل بِأَبَوَيْكُمْ. {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأصل: أؤْخذوا بالهمزة؛ لأنه مضارع (أخذ) بالهمزة، إلا أن ثلاثة أفعال مهموزة الفاء وهي: (أخذ)، و (أمر)، و (أكل) يجوز حذف همزتها في الأمر كما بيناه مراراً (¬1). {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي: لباسكم الذي تسترون به عوراتكم وتتجملون به. {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} سواءً كان المسجد الحرام للطواف أو غيره من المساجد للصلاة. وكون الزينة هنا لبس اللباس للطواف والصلاة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

يكاد يجمع عليه المفسرون (¬1)، وقد دل عليه حديث ابن عباس المذكور الذي قدمنا أن له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخذ العلماء من ظاهر عموم الآية أنَّهُ يَنْبَغِي للرجل إذا أراد أن يخرج إلى المسجد ليحضر جماعات المسلمين ويصلي أن يلبس من الثياب أحْسَنَها (¬2). وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الثناء على لَوْنِ البَيَاض في حديث: «إِنَّ مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَالْبَسُوا الْبَيَاضَ وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ، وَإِنَّ مِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الإِثْمِدَ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ» (¬3) وهو حديث مشهور أخرجه بعض أصحاب السنن وغيرهم؛ ولذا كانوا يتطيبون ويستاكون ويقولون: إن الطيب والسواك مِنْ كَمَالِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 389)، القرطبي (7/ 189). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 191)، ابن كثير (2/ 210). (¬3) أخرحه أحمد (1/ 247، 328، 363)، وأبو داود في اللباس، باب في البياض، حديث رقم (4043)، (11/ 110)، وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم (3860)، والترمذي في الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، حديث رقم (994)، (3/ 310 - 311)، وابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، حديث رقم (1472)، (1/ 473)، كما أخرجه في كتاب اللباس (3566)، من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). وهو في صحيح أبي داود (3284، 3426)، وصحيح الترمذي (792)، كما أخرجه أحمد (5/ 10، 13، 17، 18، 19)، والترمذي في الأدب، باب: ما حاء في لبس البياض. حديث رقم: (2810)، (5/ 117)، وقال الترمذي: «وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر» اهـ كما أخرجه ابن ماجه في اللباس، باب البياض من الثياب، حديث رقم: (3567)، (2/ 1181)، من حديث سمرة بن جندب (رضي الله عنه). وهو في صحيح ابن ماجه (2870).

الزِّينَةِ التي يتناولها ظاهر الآية الكريمة (¬1). مع القطع بأنها نازلة في عدم العُرْيِ وستر العورات عند الطواف والصلوات. وهي دليل واضح على أن الطواف لا يَصِحّ مِنَ العُرْيَان كما عليه جمهور العلماء، وأن الصلاة أيضاً لا تَصِحُّ مَعَ كشْفِ العَوْرَةِ خلافاً للإمام أبي حنيفة - رحمه الله - في الطواف (¬2). ويؤيد معنى ما دلت عليه الآية قوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسل عليًّا ينادي به: «وَأَلاّ يحج بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وألا يطُوفَ بالبيْتِ عُرْيَانٌ» (¬3). وهذا معنى قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: آية 31] أي: لا تأتوا الطواف مكشوفة عوراتكم، ولا تأتوا مساجد المسلمين مكشوفة عوراتكم كما كان يفعله المشركون في مسجد مكة؛ لأنا ذكرنا عن ابن عباسٍ من طريق سعيد بن جبير كما أخرجه مسلم في صحيحه (¬4) أن هذه الآية نزلت في أن المشركين كانوا يطوفون عراة، حتى إن المرأة لتقول: اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كُله ... فما بدا منه فلا أُحلُّه ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (2/ 210). (¬2) انظر: الكافي لابن عبد البر ص63، المجموع (3/ 165)، المغني (2/ 283). (¬3) البخاري في الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك. حديث رقم (1622)، (3/ 483)، ومسلم في الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ... ، حديث رقم (1347)، (2/ 982)، من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وجاء من حديث علي (رضي الله عنه) عند الترمذي في التفسير، باب ومن سورة براءة. حديث رقم: (3091، 3092)، (5/ 275، 276). (¬4) مضى تخريجه قريباً.

وهذا الحديث الذي له حكم الرفع الثابت في صحيح مسلم؛ لأنه تفسير من ابن عباس يتعلق بسبب النزول، فكأن ابن عباس يفسِّر الزينة بأنها لبس الثياب عند الطواف والصلوات، وتفسير الصحابي إن كان له تعلق بسبب النزول كان له حكم الرفع كما هو مقرَّر في علوم الحديث. وهذا يدل على أن قائلة البيت من اللاتي كنَّ يطفن بالبيت وهن عريانات يتقربن بذلك إلى الله، مع أنه ذكرت جماعة من المؤرخين للبيت المذكور قصة غير ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس، والظاهر أنَّ ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أثبت، فقد ذكر غير واحد ممن تكلم على الصحابة في ترجمة ضباعة بنت عامر بن لقيط بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (¬1) - هي من بني قشير الذين منهم مسلم بن الحجاج القشيري - وكانت امرأة ذات جمال، وأنها تزوجها عبد الله بن جدعان التيمي، الجواد المشهور، وجاء بها إلى مكة، وكان من أعظم فتيان مكة في ذلك الزمن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، والد أبي جهل، فأعجبه جمال ضباعة بنت عامر، التي هي زوجة ابن جدعان، فصار يأتيها ويقول لها إن هذا الشيخ الكبير الذي ليس له جمال لا يناسب جمالك وكمالك فتطلقي منه لأتزوجك، يُخَبِّبها عليه، فَخَبَّبها عليه، فطلبت من ابن جدعان الطلاق، فلما طلبت منه الطلاق قال: نعم، بشرط أن تنحري كذا وكذا جزوراً -مئة من الإبل أو أكثر- وتغزلي غزلاً يمتد من هنا إلى جبل كذا، وأن تطوفي ببيت الله وأنت عريانة، فقالت له: اصبر حتى أفكر في شأني، فجاءها هشام، وكان هشام من ¬

(¬1) انظر: الإصابة (4/ 353 - 354).

عظام فتيان مكة، وقد قال فيه الشاعر لما مات (¬1): فَأَصْبَحَ بَطْنُ مَكَّةُ مُقشعِرّاً ... كأنَّ الأرضَ ليس بها هِشَامُ فلما جاءها هشام بن المغيرة والد أبي جهل، وقصَّت عليه القصة، قال لها: التزمي له كل ما اشترط عليك، فأنا أعطيك مئة جزور، وما شئت من الإبل تنحرينه، وآمر نساء بني المغيرة أن يغزلن لك الغزل الذي فعل (¬2)، وأطلب من قريش أن يُخْلُوا لك البيت حتى تطوفي به وحدك وأنت عريانة، وأنه وفَّى بما فعل، أعطاها الإبل فنحرتها، وغزل لها الغزل، وطلب من قريش فأخلوا لها البيت. والذين يذكرون القصة من كتب الصحابة -كما في الإصابة والاستيعاب وغيرهما (¬3) من كتب الصحابة ممن ذكروا هذه القصة- زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت طفل صغير وَلِدَته (¬4) معه المطلب بن وداعة السهمي، وأنهم بقوا لصغرهم، وأنهم رأوها تنزع ثوباً ثوباً حتى بقيت ليس عليها شيء وصارت تقول: اليومَ يَبْدُو بعضُه أوكُلُّه ... فما بَدَا منه فلا أُحِلُّهُ قالوا: ولما كشفت عنها جميع الثياب نشرت شعرها حتى تدلَّى عليها وستر عورتها، وأنها هي التي قالت هذا البيت؛ ولذلك قال ¬

(¬1) البيت للحارث بن خالد بن العاص، أو الحارث بن أُمية بن عبد شمس. وهو في الكامل ص671، اللسان (مادة: قثم) (3/ 22). (¬2) هكذا في الأصل، ولعله سبق لسان، والمراد: طلب أو شرط. (¬3) هذا الخبر موجود في الإصابة (4/ 353)، ولم أقف عليه في ترجمتها في الاستيعاب. (¬4) الَّلدَةُ: التِّرب، ويجمع على: لِدَات، انظر: القاموس (مادة: الولد) ص417.

عياض في شرح مسلم في الكلام على البيت في مسلم (¬1): إن قائلته ضباعة هذه، ولكنه تلفيق لقصة بقصة أخرى، وزعم من ذكر هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خطبها عند ابنها. والظاهر أنه ابنها سلمة بن هشام؛ لأنها ولدت منه ابنها سلمة الذي كانت ترقصه وهو صغير وتقول (¬2): اللَّهُمَّ ربَّ الكَعْبَةِ المُحَرَّمَهْ ... أَظْهِرْ عَلَى كُلِّ عَدُوٍّ سَلَمَهْ وأنه قال: حتى أستأذنها، فذهب ليستأذنها، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جمالها الذي عهده تغيَّر، وأنها سقطت أسنانها وذَهَبَ جَمَالها، فلما جاء يستأذنها غضبت عليه وقالت: أتستأذنني في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فلما رجع إليه أعرض عنها النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). هكذا ذكروه في هذه القصة والله أعلم بصحتها. أما كونه نزلت في المرأة التي كانت تطوف بالبيت عريانة فقد أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس (¬4)، والظاهر أنه أثبت من هذا، والله تعالى أعلم. ومعنى الآية الكريمة: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: آية 31] أي: ثيابكم التي تسترون بها عوراتكم وتتجمَّلون بها عند كل مسجد لإقامة ¬

(¬1) لم أقف عليه في كلام القاضي عياض (رحمه الله) على الحديث في كتابه (الإكمال) المطبوع، وقد نقله عن القرطبي في المفهم (7/ 346)، وانظر: إكمال المعلم (8/ 589)، شرح الأُبي على مسلم (7/ 328). (¬2) البيت في طبقات ابن سعد (4/ 97)، الإصابة (2/ 69). (¬3) ذكره ابن سعد في الطبقات (8/ 110). (¬4) مضى قريباً.

الصلوات وخصوصاً المسجد الحرام للطواف والصلاة فيه خلاف ما كان يفعله المشركون. {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} نزل قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} في بعض العرب، قال بعض العرب: كان بنو عامر بن صعصعة إذا أحرموا بالحج لا يأكلون الودك، ولا يشربون من ألبان الغنم، ولا مما خرج من لحومِهَا، فحرَّموا على أنفسهم بعض الطيبات من الدسم كالودك، وبعضهم يحرم شرب اللبن واللحم، فأُمروا أيضاً أن لا يحرِّموا هذه الطيبات التي أحلَّ الله، كما قال لهم: البسوا الثياب، ولا تتجرَّدوا في الإحرام، فكذلك كلوا طيبات الرزق ولا تحرموها على أنفسكم؛ أي: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} حتى ولو كان من الودك، ولو كان من اللبن مما يحرمه الجاهلية؛ لأن الجاهلية كانوا في الموسم بعضهم يحرم على نفسه الدسم، وبعضهم يُحَرِّم شرب اللبن واللحوم، ويزعمون أن هذا أتم لحجهم، وأنه أرضى لله (¬1)، فقال الله فيهم: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} ولا تحرموا شيئاً من طيبات الله؛ لأن ذلك تشريع الشيطان ككشف العورات. وهذا يدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يحرِّم شيئاً حلله الله كما قدمنا في سورة المائدة في قوله: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلا تَعْتَدُواْ} [المائدة: آية 87] وعليه فليس للإنسان أن يقول: هذا الطعام أو هذا الشراب حرامٌ عليَّ، فإن حرَّم على نفسه حلالاً كطعام أو شراب فإنه لا يحرم عليه، وبعض العلماء يقول: تلزمه في تحريم ¬

(¬1) انظر: السيرة لابن هشام (1/ 219 - 221)، المُفَصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام (6/ 362، 371).

الحلال كفارة يمين. ومالك وأصحابه قالوا: إن لم يكن الذي حَرَّمَه حلالاً غير الزوجة والأمة لا تلزمه يمين ولا يلزمه شيء. وحجة من قال: إنه تلزمه يمين: أن الله لمَّا قال لنبينا صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا صلوات الله وسلامه عليه: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: آية 1] وأصح الروايات أنه العسل، وإن جاء في روايات أخرى أنه جاريته (¬1). قال الله له بعد تحريم هذا الحلال: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: آية 2] فعُلم أن في تحريم الحلال كفارة يمين؛ لأن تحلة اليمين هي كفارته، وذلك يدل على أنَّ فيه كفارة يمين، خلافاً لمالك وأصحابه (¬2). أما إذا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ بأن قال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام، أو علَّق تحريمها على شيءٍ ووقع. فللعلماء فيه اختلافات واضطربات كثيرة تزيد على ثلاثة عشر مذهباً معروفة في كلام العلماء (¬3)، أجراها عندي على القياس هو قول مَنْ قَال: إنه تلزمه كفَّارَة ظِهَار، هذا القول هو أقْرَبُهَا للقياس وظاهر القرآن العظيم؛ لأن الله نص في محكم كتابه في سورة المجادلة في امرأة أوس بن الصامت التي قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي - (أنت عليَّ كظهر أمِّي) معناه بالحرف الواحد: أنْتِ حَرَامٌ- وقد جاء القرآن بأن في هذا اللفظ كفارة ظهار حيث قال: {والذين يظَّهَّرونَ من نسائهم} ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (28/ 155 - 159)، القرطبي (18/ 177 - 179 - 185)، ابن كثير (4/ 386)، فتح الباري (9/ 289، 376)، أضواء البيان (6/ 529). (¬2) انظر: القرطبي (18/ 179 - 180). (¬3) انظر: ابن أبي شيبة (5/ 72)، مصنف عبد الرزاق (6/ 399)، الاستذكار (17/ 36 - 48)، القرطبي (18/ 180 - 186)، أضواء البيان (6/ 523، 531 - 539).

وفي القراءة الأخرى: {يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: آية 3] (¬1) إلى آخر خصال كفارة الظهار المعروفة في سورة المجادلة، فهذا القول أقيس الأقوال وأجراها على القياس، وأقربها لظاهر القرآن. وكذلك قول مَنْ قَالَ: إنه يلزمه الاسْتِغْفَار وكفارة يمين، فيدل عليه ظاهر آية التحريم بناءً على أن الذي حرم صلى الله عليه وسلم: جاريته؛ لأن في بعض الأحاديث في قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: آية 1] أنَّ حفصة أم المؤمنين (رضي الله عنها) استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أهلها يومها فأذن لها، ثم دعا بجاريته في بيت حفصة؛ لأنه ذلك اليوم عندها وهو في بيتها، وكان بينه وبين الجارية ما يكون بين الرجل وامرأته، فرجعت حفصة ففطنت لما وقع، فغضبت وقالت: ليست لي حرمة، أفي بيتي وفي يومي يُفعل هذا؟! وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم الجارية إرضاءً لها (¬2). ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص431. (¬2) كون ذلك وقع إرضاءً لحفصة جاء دلك في عدة روايات وبعضها مرسلة. فمن ذلك: 1 - ابن عباس عن عمر (رضي الله عنهما) عند ابن جرير (28/ 158)، والواحدي في أسباب النزول ص438، وعزاه في الدر (6/ 239) لابن المنذر. قال الحافظ في الفتح (8/ 657): «ووقعت هذه القصة مدرجة عند ابن إسحاق في حديث ابن عباس عن عمر ... » اهـ. 2 - عن ابن عباس (رضي الله عنهما) عند ابن سعد (8/ 134)، وأورده السيوطي في الدر (6/ 239)، وعزاه لابن مردويه. 3 - عن أبي هريرة (رضي الله عنه). أورده السيوطي في الدر (6/ 240)، وعزاه لابن مردويه والطبراني في الأوسط، وضعفه الحافظ في الفتح (9/ 289)، وانظر تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (4/ 60)، والكافي الشاف ص175. 4 - عن أم سلمة (رضي الله عنها) عند ابن سعد في الطبقات (8/ 134). 5 - عن محمد بن جبير بن مطعم عن ابن سعد (8/ 134). 6 - عن عروة بن الزبير عند ابن سعد (8/ 134). 7 - عن القاسم بن محمد عند ابن سعد (8/ 134). 8 - عن الضحاك عند ابن سعد (8/ 134)، وأورده السيوطي في الدر (6/ 240)، وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر. أما الروايات الدالة عموماً على أنَّ ذلك وقع في تحريمه صلى الله عليه وسلم جاريته فهي كثيرة، ومنها: 1 - عن أنس (رضي الله عنه) عند النسائي في عشرة النساء، باب الغيرة حديث رقم (3959)، (7/ 71)، والحاكم في المستدرك (2/ 493)، وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي. وعزاه في الدر (6/ 239)، لابن مردويه، وقد صححه الحافظ في الفتح (9/ 376)، وقال: «وهذا أصح طرق هذا السبب» اهـ. 2 - عن ابن عباس (رضي الله عنهما). عند ابن جرير (28/ 157)، والطبراني في الكبير (11/ 86)، (12/ 117)، والبزار (زوائد البزار 3/ 76)، وعزاه السيوطي في الدر (6/ 239، 240، 241) للترمذي، وابن المنذر، وابن مردويه، وعبد بن حميد. وقد ضعفه ابن كثير في التفسير (4/ 390)، والحافظ في الفتح (9/ 289)، وانظر: مجمع الزوائد (5/ 178)، (7/ 126)، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (4/ 59)، الكافي الشاف ص175. 3 - عن ابن عمر (رضي الله عنهما). أورده السيوطي في الدر (6/ 240)، وعزاه للضياء في المختارة، والهيثم بن كليب في مسنده. وقال ابن كثير في التفسير (4/ 386): هذا إسناد صحيح اهـ. 4 - عن عائشة (رضي الله عنها). ذكره الحافظ في الفتح (9/ 289)، وعزاه لابن مردويه. 5 - عن بعض آل عمر. ذكره الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (4/ 61)، والحافظ في الكافي الشاف ص175، وعزاه لابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن إسحاق. 6 - عن الشعبي. عند ابن جرير (28/ 156)، وعزاه في الدر (6/ 240) لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن سعد. 7 - عن قتادة. عند ابن جرير (28/ 156، 158)، وابن سعد (8/ 134)، وعزاه في الدر (6/ 240) لعبد الرزاق وعبد بن حميد. 8 - عن زيد بن أسلم عند ابن جرير (28/ 155، 156)، وابن سعد (8/ 134)، وصحح الحافظ إسناده في الفتح (9/ 376). 9 - عن مسروق. عند ابن جرير (28/ 156)، وابن سعد (8/ 134)، وعزاه في الدر (6/ 240) لعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وصحح الحافظ إسناده في الفتح (8/ 657). 10 - عن عبد الرحمن بن زيد. عند ابن جرير (28/ 156)، وعزاه في الفتح (9/ 289) لابن مردويه. قال الحافظ في الفتح (8/ 657): «وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً» اهـ.

فعلى هذا القول أنه في تحريم الجارية فالله قال بعده: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: آية 2] فدل على أن في تحريم الرجل امرأته كفارة يمين والاستغفار وهذان القولان داخلان في مذهب مالك، وكل منهما قال به جماعة من العلماء، وروى مالك في الموطأ عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه إن قال لها: أنت حرام، كانت بينونة كبرى، تعد ثلاث طلقات (¬1). وكان ابن عباس يفتي بكفارة اليمين (¬2)، ويقول: ¬

(¬1) الموطأ ص375، وعبد الرزاق في المصنف (6/ 403)، ابن أبي شيبة (5/ 72). (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على مَنْ حَرَّمَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَنْوِ الطلاق، حديث رقم (1473)، (2/ 1100).

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: آية 21]. وأجراها على القياس وأقربها لظاهر القرآن أن فيها كفارة الظهار. وتَتَبُّع طُرُق أقوال العلماء فيها وما استدل به كل منهم يطول علينا جدّاً، ويخرجنا إخراجاً بعيداً عن المقصود. وقوله جلَّ وعلا: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} [الأعراف: آية 31] أي: ولا تحرموا ما لم يحرمه الله في الحج من أكل اللحوم والودك وشرب الألبان. {وَلا تُسْرِفُواْ} [الأعراف: آية 31] أصل الإسراف في لغة العرب: هو مجاوزة الحد (¬1). والإسراف المنهي عنه هنا فيه للعلماء وجهان (¬2): أحدهما: أن المعنى لا تسرفوا في الأكل والشرب فتأكلوا فوق الحاجة، وتشربوا فوق الحاجة؛ لأن الإسراف في الأكل والشرب يثقل البدن، ويعوق صاحبه عن طاعة الله، والقيام بالليل، فيجعل صاحبه كلما كانت بطنه ملأى من الأكل والشرب كان ثقيل الجسم، لا ينهض لطاعة الله، فنهاهم الله عن الإسراف في الأكل، وكذلك يسبب الأمراض. وجرت عادة المفسرين أنهم يذكرون هنا في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف قصة، ويذكرون فيها حديثاً الظاهر أنه لا أصل له ولا أساس له، إلا أن الكثير ممن تكلموا على القرآن لا يميزون بين ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (141) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 394)، القرطبي (7/ 191 - 195).

سقيم الحديث وصحيحه، فيَكْتُبُون مِنْهُ كلّ ما رأوا من غير تمييز بين صحيحه وسقيمه. والقصة المعروفة (¬1): زعموا أنه كان عند هارون الرشيد طبيب نصراني، وأن الطبيب النصراني قال: ليس في كتابكم شيء من الطب، وأصل العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان. وأنه كان عند هارون الرشيد علي بن الحسين بن واقد، فقال له: جَمَع كتابُنَا الطِّبَّ في نِصْفِ آية، هي {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} لأن من المعلوم أن الطب نوعان: طب حِمْيَة، وهو تَوَقٍّ للداء قبل أن ينزل الداء. والثاني: طب علاج ومداواة بعد أن ينزل الداء. وأن من أعظم طب الحمية هو ما قال: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} لأن مَنْ خَفَّفَ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ كما قال صلى الله عليه وسلم: «بِحَسْبِ امْرِئٍ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ وَلاَ بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» (¬2)، فتخفيف الأكل يستوجب صِحَّةَ البَدَنِ، وأنه قال له: جمع الطب كله في نصف آية؛ لأن خير الطب طب الحمية. وهذه الآية جاءت على أعظم طب الحمية. وأنه قال له: وهل يُؤْثَرُ عَنْ نبيِّكم شيء من الطب؟ قال: نعم. وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المَعِدَةُ رَأْسُ الدَّاءِ، والحِمْيَةُ أَصْلُ الدَّوَاءِ، وَعَوِّدُوا كُلَّ جِسْمْ مَا ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 192)، كشف الخفاء (2/ 280). (¬2) الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في كراهية كثرة الأكل. حديث رقم (2380)، (4/ 590)، وابن ماجه في الأطعمة باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع، حديث رقم (3349)، (2/ 1111)، وانظر: الإرواء (1983)، السلسلة الصحيحة (2265)، صحيح الترمذي (1939)، صحيح ابن ماجه (2704).

اعْتَادَ» (¬1)، ويقولون هذا ويسكتون، وهذا نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليست بصحيحة، ولم يثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لا أساس له على الصواب إن شاء الله تعالى. وعلى هذا القول فالإسراف المنهي عنه في الأكل بما يسبب من التكاسل عن طاعات الله، وما يسبب من الأمراض وغير ذلك. الوجه الثاني؛ أن معنى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي: لا تجاوزوا حدود الله، فتحرِّمُوا ما أحلّ الله كالودك للمُحْرِم، وكاللباس للطَّائِف، فهذه أمورٌ لم يحرمها الله، ولا تسرفوا في التحريم والتحليل بأن تحرموا ما أحلَّ الله، وتحللوا ما حرَّم الله، وكلا الإسرافين إسراف. ولا مانع من أن تشمل الآية الجميع. فلا يجوز الإسراف بتحريم ما أحلَّ الله، وتحليل ما حرَّم الله، كما لا يجوز الإسراف الكثير بملء البطن مِلْئاً شديداً من الأكل والشرب حتى يتكاسل الإنسان ولا يتنشط لطاعة الله، وتأتيه الأمْرَاض؛ لأنه ما ملأ ابن آدم وعاءً شرّاً مِنْ بَطْنِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الأكْلِ والشُّرْبِ لا تراه يقوم الليل، ولا يتنشط للعبادات، ولا ينشط لسانه لذكر الله، فهو كسول ملول، وكذلك ربما نشأت له الأمراض. وهذا معنى قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ} جلَّ وعلا {لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: آية 31] المُجَاوِزِينَ الحدود بتحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرّم الله. ويدخل فيه المسرفون بكثرة الأكل والشرب الشاغلة عن طاعة الله، المثبطة عن القيام بِمَا يُرْضِي اللهَ (جل وعلا) ونحو ذلك، وهذا معنى قَوْلِهِ: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. ¬

(¬1) في الكلام على هذا القول انظر: كشف الخفاء (2/ 279)، الدرر المنتثرة ص161، مختصر المقاصد الحسنة ص184.وهو من كلام بعض الأطباء ..

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: آية 32] قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعاً قارئ أهل المدينة: {خَالِصَةً} بنصب التاء. وقرأه نافع وحده: {خَالِصَةٌ} بضم التاء (¬1). ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار لمّا حرَّموا على أنفسهم لبس الثياب في الطواف، وطافوا بالبيت عُرَاةً، وحرَّمُوا على أنفسهم أيام الموسم أكل الودك، والسمن، وشرب اللبن، وأكل اللحوم، قال الله (جلَّ وعلا) موبِّخاً مقرعاً للذين يَتَعَدَّون عليه ويحرمون ما لم يحرم: {قُلْ} يا نبي الله لهؤلاء الكفرة الجهلة الذين حَرَّمُوا لبس الزينة عند الطواف، وحرموا أكل المذكورات وشربها في الموسم حال التلبُّس بالإحرام، (من) هو الذي {حَرَّمَ زِينَةَ الله} وهي اللباس الذي يستر العورة؛ لأنه لا حالة أقبح مِنْ أَنْ يَكُونَ الإِنْسَان بادِي الفرج، عاري العورة، فهذا في غاية القبح. أما إن أعطاهُ الله ثياباً فجمل بها ظاهره، وستر بها قبحه وعَوَرَه فهذه زينة الله التي أخرجها لخلقه. من هو الذي حرَّم زينة الله كلبس اللباس الذي يجمع بين ستر العورة والتجمُّل عند الطواف وفي غيره؟! {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} أخرجها: أي أظهرها وأبرزها من العدم إلى الوجود بأن خلقها ويسَّر أسباب تناولها حتى صارت في متناولهم، وحرَّم الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، الطيبات التي أحلها الله وطَيَّبَها؛ كالودك حالة الإحرام، واللبن واللحم ونحو ذلك. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص208.

من هو الذي حرم عليكم هذه المحرمات والطيبات من الرزق؟ والله (جلَّ وعلا) يشدد النكير على من حرم ما لم يحرمه. والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: آية 150] {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: آية 59] {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116)} [النحل: آية 116] والآيات بمثل هذا كثيرة جدّاً. فلما قال الله لنبيه: قل لهم يا نبي الله، لهؤلاء المُحَرِّمِين ما أحل الله، من هو الذي حَرَّمَ هذا؟ وعلم أنه لا جواب لهم، أمره بالجواب الصحيح، وهو قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} قل لهم يا نبي الله: هي ليست بحرامٍ أبداً، وليست بمحرمات ألبتة. هي للذين آمنوا حلال مباحة. وقوله: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} غير خالصة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: غير مختصين بها بل يشاركهم فيها الكفار، ونصيب الكفار فيها كثير، كما قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفي القراءة الأخرى {لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬1) الآية [الزخرف: الآيات 33 - 35]. قال بعض العلماء: بَيَّنَتْ هَذِهِ الآية أن سَبَبَ خَلْقِ الزِّينَة والطيبات من الرِّزْقِ أن الله خَلَقَهَا في الدنيا لخصوص المؤمنين، إلا أنه رَزَقَ مِنْهَا الكفار تبعاً للمؤمنين؛ لأن الدُّنْيَا متاع ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص398.

يأكل منه البرُ والفاجر، فتلك الزينة وطيبات الرزق في الدنيا يشترك فيها البر والفاجر، ويأكل منها المسلم والكافر، لكنها يوم القيامة تبقى خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها كافر أبداً؛ ولذا قال: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: ويشترك معهم فيها الكفار، في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها أحد؛ لأن يوم القيامة لا يجد الزينة ولا الرزق الطيب إلا المؤمنون خاصة، أما الكفار فلا زينة لهم ولا رزق طيب (¬1). وعلى قراءة الجمهور فـ {خالصةً} حال، وعلى قراءة نافع {خالصةٌ} بالرفع فهي خبر بعد خبر (¬2) {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [الأعراف: آية 32] الجار والمجرور في {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} خبر، و {خالصةٌ} خبر آخر. وعلى قراءة الجمهور فـ {خالصةً} حال، وعامله الكون والاستقرار الذي يتعلق بالجار والمجرور {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} كائنة مستقرة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم وَحْدَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ. وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه الجمهور (¬3). ومعناه: أن الزينة والطيبات من الرزق في دار الدنيا يشترك فيها البر والفاجر والمؤمن والكافر، وأنها في الآخرة تكون خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها أحد؛ إذ لا يجد الزينة والرزق الطيب في القيامة إلا المؤمنون خاصة؛ ولذا لم يذكر خلوصها لهم في الدنيا لاشتراك الكفار معهم، وصرّح بكونها خالصة لهم في خصوص الآخرة. ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (2/ 211). (¬2) انظر: حجة القراءات ص281. (¬3) انظر: القرطبي (7/ 200)، الدر المصون (5/ 301 - 305).

وهنالك تفسيرٌ غير ظاهر قال به جماعات من علماء التفسير: أن معنى كونها خالصة للمؤمنين أنَّ الله ينعِّمهم بها في الدنيا، وينعِّمهم في الآخرة أيضاً، ولم يحسبها عليهم، ولم ينقص أجورهم بتلك اللذات والطيبات من الرزق التي أكلوها في الدنيا (¬1)، وهذا مستبعد، والقول الأول هو الذي عليه الجمهور وهو معنى الآية إن شاء الله. وهذا معنى قوله: {هِيَ} أي: الطيبات من الرزق والزينة {لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ويشاركهم فيها غيرهم من الكفار، لكنها يوم القيامة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها أحد، ويوضح هذا أن نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما قال الله له: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فلما قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} طلب الإمامة لذريته {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} فبين له الله أن الظالمين من ذريته غير المستقيمين المطيعين لا يعهد الله لهم بالإمامة، لأنهم لا يستحقونها حيث قال مجيباً له: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: آية 124] فعرف إبراهيم أَنَّ ربَّه كأنه لامه في الجملة حيث طلب الإمامة لناس منهم من لا يصلح لها، كما قال الله لإبراهيم وإسحاق: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: آية 113] ثم بعد ذلك لما أراد إبراهيم طلب الرزق خصه بالمؤمنين خوف أن يلام كالملامة الأولى وقال: {اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ثم قيَّد وقال: {مَنْءَامَنَ مِنْهُم بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فربه قال له: هذه في الدنيا لا تحتاج إلى القيد {قَالَ وَمَن كَفَرَ} فيأكل من الدنيا أيضاً مع المؤمن {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: آية 126] وهذا معنى قوله: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 401).

{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: آية 32] يوم القيامة إنما سُمِّي يوم القيامة؛ لأنه يوم يقوم فيه جميع الخلائق بين [يدي] (¬1) جبار السماوات والأرض للحساب، كما قال جلَّ وعلا: {ألاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: الآيات 4 - 6] فقوله: {يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} هو الذي سمي به يوم القيامة؛ لأنه يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين. ثم قال جلَّ وعلا: {كَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} [الأعراف: آية 32] كهذا التفصيل الذي فصلنا لكم به الحلال والحرام، وبينا لكم به حرمة كشف العورات ولزوم سترها، وأخذ الزينة، وأنه لا يُحرِّم أحد ما أحَلَّهُ الله، كهذا البيان الواضح لهذه الأحكام نبيِّنُ الآيات دائماً في هذا القرآن {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} والبيان عام، ولكنه خَصَّ به القوم الذين يعلمون لأن أهل العلم الذين يعلمون هم الذين يفهمون عن الله هذا البيان، أما الجهلة فلا يفهمون شيئاً، ومن لا ينتفع بالشيء فكأنه لم يتوجه إليه. ونظير هذا كثير في القرآن يخص الله به الحكم المُنْتَفِع به مع أن الحكم أصله عام (¬2) كقوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: آية 45] مع أنه في الحقيقة منذر الأسود والأحمر {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: آية 11] وهو منذر للأسود والأحمر {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] لأن الذي يخاف الوعيد هو المنتفع به مع أن التذكير بالقرآن عام. وهذا كثير في القرآن أن يخص الحكم بالمنتفع به دون غيره، وذلك هو معنى قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: آية 33]. {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قرأ هذا الحرف حمزة وحده: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وقرأ بقية القراء: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬1) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما دون غيرهما: {ما لم يُنْزِلْ به سلطاناً} بضم الياء وكسر الزاي. وقرأ الجمهور: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} بفتح النون وتشديد الزاي، مضارع (نزَّل). قل لهم يا نبي الله: هذا الذي تحرمونه ليس هو الذي حرّمه الله، الذي حرمه ربي إنما حرَّمه ربي على الحقيقة، والحرام هو ما حرمه الله، والحلال هو ما أحله الله. {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} الفواحش جمع فاحشة، وهو جمع قياسي؛ لأن (الفاعِلَة) مطلقاً و (الفَاعِل) إن كان اسماً أو صفة لما لا يعقل كله ينقاس جمع تكسيره على (فواعل) (¬2) والفاحشة: هي كل خصلة تناهت في القبح حتى صارت قبيحة بالغة نهاية القبح من الذنوب والمعاصي (¬3). {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: آية 33] قد قدمنا أقوال العلماء على هذا في الأنعام في قوله: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: آية 120] وأنها كلها ترجع إلى شيءٍ واحد، فقال بعضهم: الفواحش الظاهرة هي الزنا مع البغايا ذوات الرايات، ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص219. (¬2) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

والفواحش الباطنة هي الزنا مع الخليلات والصديقات التي يُزنى بهن سرّاً في البيوت. وقال بعض العلماء: ما ظهر من الفواحش: كنكاح زوجات الآباء، كما تقدَّم في قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً (22)} [النساء: آية 22] وأن ما بطن منها هو الزنا. والتحقيق: أنّ الآية الكريمة تشمل جميع المعاصي والذنوب، لا تفعلوا شيئاً منها ظاهراً علناً بين الناس، ولا شيئاً باطناً في خفية لا يطلع عليه أحد، وهو يشمل جميع التفسيرات الواردة عن الصحابة وغيرهم. والفواحش ظاهرها وباطنها تشمل جميع الذنوب؛ إلا أن الله عطف بعضها على بعض عطف خاصٍّ على عام. وقد تقرر في المعاني: أن عطف الخاص على العام، وعطف العام على الخاص، إن كان في كل منهما في الخاص أهمية لا تكون في غَيْرِهِ من أفراد العام أنه سائغ، وأنه من الإطناب المقبول لأجل الخصوصية التي في الخاص، فكأن تميزه بخصوصيته جعله كأنه قسم آخر غير أقسام العام فحسن عطفه عليه (¬1). وهنا عطف الخاص على العام لأن المعطوفات الآتية كلها داخلة في الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وقول من قال: إن {مَا ظَهَرَ} هو الزنا مع البغايا ذوات الرايات، و {وَمَا بَطَنَ} الزنا مع الخليلات الصديقات التي يُزنى بهن سرّاً. أو أن {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو نكاح زوجات الآباء، وأن {وَمَا بَطَنَ} هو الزنا، إلى غير ذلك من الأقوال كله يشمله التفسير العام الذي هو الصواب، وأن الله نهى عن ارتكاب جميع ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (120) من سورة الأنعام.

المحرّمات سواء كان ذلك ظاهراً أمام الناس، أو خفية بحيث لا يطلع عليه الناس. وهذا معنى قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}. وعطف على ذلك {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ} قال بعض العلماء: الإثم: هو كل معصية تقتصر على نفس الإنسان، والبغي: هو كل معصية يظلم بها غيره (¬1). وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} لا يكون بغي بحق أبداً، فكل بغي بغير حق لا شك، كما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ومعلوم أن النبيين لا يُقتلون بحق أبداً، فهو كالتوكيد (¬2)، كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: آية 38] {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: آية 79]. وقال بعض العلماء: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: آية 33] كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: آية 40] لأن من بُغي عليه ثم انتقم قد يسمى هذا بغياً، كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} وكما سمّى الانتقام اعتداءً في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: آية 194] سمى جزاء الاعتداء: اعتداءً، وجزاء السيئة: سيئة وإن كان الانتقام ليس سيئة وليس اعتداء. وقوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله} أي: وحرَّم عليكم {أن تشركوا بِالله ما لم يُنْزِل به سلطاناً} على قراءة ابن كثير وأبي عمرو. {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} على قراءة الجمهور (¬3). والسلطان: الحجة الواضحة. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 403)، القرطبي (7/ 201). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 307) ومضى عند تفسير الآية (142) من سورة البقرة، (48) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: النشر (2/ 218)، إتحاف فضلاء البشر (1/ 407).

ومعلوم أن الإشراك بالله لا ينزل به سلطان ألبتة، كقوله: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهاًءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: آية 117] فمعلوم أن الإله الثاني لا يكون به برهان ألبتة، وقد تقرَّر في علم الأصول (¬1) أن النص من الكتاب والسنة إذا جاء مبيناً للحقيقة الواقعة لا يكون له مفهوم مخالفة، والواقع أنهم يشركون بالله ما لم ينزِّل به سلطاناً، فجاءت الآية مبينة للحقيقة الواقعة ليكون النهي واقعاً على بيان الحقيقة الواقعة، وكذلك قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}. {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} المصدران المنسبكان في قوله: {وَأَن تُشْرِكُوا} و {وَأَن تَقُولُواْ} في محل نصب عطف على {الفَوَاحِشَ} من عطف الخاص على العام (¬2). {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بدل من الفواحش، أي: وحرّم الإثم والبغي بغير الحق، وحرم الشرك بالله، وحرّم القول على الله بلا علم. وكان بعض العلماء يقول: هذا التكرار وعطف ما دخل فيما قبله عليه لحكمة، وهذه الحكمة بيانها وتفصيلها: أن مظالم الناس وتعدي بعضهم على بعض في دار الدنيا راجع إلى ستة أقسام، وهي أن يتعدى عليه في دينه، أو أن يتعدى على نسبه، أو أن يتعدى على عرضه، أو أن يتعدى على نفسه، أو أن يتعدى على ماله، فهي (¬3) ستة جواهر: الدين والنفس والنسب والعقل والمال والعرض. فهذه ¬

(¬1) انظر: المذكرة في أصول الفقه ص241، نثر الورود (1/ 107). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 201)، الدر المصون (5/ 307). (¬3) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

الجواهر الستة هي التي تدور حولها المظالم. قال من قال هذا: الآية جاءت ناهية عن التعدي في جميع هذه الجواهر الست؛ لأن قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} هذا تَعَدٍّ على الأنساب؛ لأن الزنا سواءً كان ظاهراً أو باطناً تعدٍّ على أنساب الناس وتقذير لفرش الناس؛ لأنه إذا كثر الزنالم يدر هذا مَنْ أبوه، ولم تدر أم هذا مَنْ أبوه، فضاعت الصبيان، ولم يعرف لهذا أب، فاختلطت الأنساب، وتقذرت الفرش، وضاعت أخلاق المجتمع. وأن النهي عن الفاحشة هو ذَبٌّ عن الأنساب. وهذا معنى قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: آية 33]. وأن قوله: {وَالْبَغْيَ} المراد به: العدوان والظلم، سواءً كأن عدوت على نفسه فقتلته، أو عدوت على ماله فأخذته، أو عدوت على عرضه فتناولت منه وقذفته. قالوا: والمراد بالإثم هنا: الخمر؛ لأنها هي التي تعدو على العقول. وقال الحسن: الإثم: الخمر (¬1). وكثير من علماء العربية يسمون الخمر إثماً. ولهم في ذلك شواهد كثيرة، وأشعار معروفة، منها قول الشاعر (¬2): شربت الإثمَ حتى ضلَّ عقلي ... كذاكَ الإثمُ تذهبُ بالعقولِ يعني: الخمر. وقال بعض العلماء: هدا البيت مصنوع. وبعضهم يقول: هو بيت عربي شاهد، ومنه قول الآخر (¬3): نَشْرَبُ الإِثْمَ بِالصواعِ جِهَارا ... وَتَرَى المِسْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا ¬

(¬1) القرطبي (7/ 200). (¬2) البيت في القرطبي (7/ 200)، الدر المصون (5/ 306). (¬3) البيت في القرطبي (7/ 201).

وهذا كثير في كلام العرب - تسمية الخمر إثماً - ومنه قول الآخر (¬1): نهانَا رَسُولُ الله أَنْ نَقْرَبَ الخَنَا ... وَأَنْ نَشْرَبَ الإِثْمَ الَّذِي يُوجِبُ الوِزْرَا وقول الآخر (¬2): وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ ... كَأَنِّي شَرِبْتُ الإِثْمَ أَوْ مَسَّني خَبَلُ قالوا: فقوله: {الإِثْمَ} هو تحريم للخمر؛ لأنها هي التي تذهب العقول، فهو زجر عن إذهاب العقول ومحافظة على العقول. بقي الدين وحده؛ لأن الأنساب جاءت في النهي عن الزنا، والأنفس والأعراض والأموال جاءت في النهي عن البغي؛ لأنه ظلم على الإنسان في ماله أو نفسه أو عرضه. والمحافظة على العقول جاءت في تحريم الإثم وهو الخمر. على هذا القول بقي الدين والمراد بقوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف: آية 33] لأن أعظم إفساد الدين الإشراك بالله، والقول في دين الله بلا علم، فهذا أعظم فساد الدين، قالوا: فعلى هذا تكون الآية الكريمة إنما تداخلت عطوفها وتكرَّرَتْ ليكون فيها الزَّجْرُ عن الأنفس، والزجر عن الأموال، والزجر عن الأعراض، والزجر عن الأنساب، والزجر عن العقول، والزجر عن الأديان. وقد علمنا من استقراء الكتاب والسنة أن الله (جل وعلا) في هذا التشريع الكريم الذي أنْزَلَهُ عَلَى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالغ في المُحَافَظَةِ على هذه الجواهر الست، بالغ على حفظ الدين كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬3)؛ محافظة على ¬

(¬1) البيت في البحر المحيط (4/ 292)، الدر المصون (5/ 306). (¬2) البيت في المصدرين السابقين. (¬3) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

الدين لئلا يغيَّر ويبدَّل، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: آية 193، الأنفال: آية 39] أي: حتى لا يبقى شرك، بدليل قوله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» (¬1)، وحافظ على الأنساب فَحَرَّمَ الزِّنا، واختلاط ماء الرجل بماء الرجل وتقذير الفرش؛ لتبقى الأنساب مستقيمة واضحة ناصعة، قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: آية 32] وأوجب جلد الزاني محافظة على أنساب المجتمع {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: آية 2] وفي الآية المنسوخة التلاوة الباقية الحكم: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» (¬2). ومن شدة محافظته على الأنساب أوجب العدة على المرأة إذا فارقها زوجها بموت أو طلاق -أوجب عليها التربص زمناً ليعلم أن رحمها صفت من ماء الرجل الأوَّل - لئلا يختلط ماء رجل بماء رجل آخر في رحم امرأة واحدة {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} الآية [البقرة: آية 228]. [5/ب] / ومن أجل محافظته على الأنساب منع سقي زرع الرجل بماء غيره؛ ولذا منع تزويج الحامل، فالمرأة إذا مات عنها زوجها أو طلقها وهي حامل لا يجوز أن تتزوَّج زوجاً آخر حتى تضع حملها؛ لأنه إن تزوجها وجامَعَهَا سَقَى ذلك الحمل وهو زرع لغيره بمَائِهِ فمنع سقي الزرع بماء الغير محافظة على الأنساب فقال: {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: آية 4] وحافظ الشرع الكريم على الأعراض فنهى عن انتهاك الأعراض {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: آية 12] {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام .. (¬2) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

[الحجرات: آية 11] {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} [الحجرات: آية 11] ثم إنه أوجب حد القذف ثمانين جلدة؛ زجراً ومحافظة على أعراض الناس، وهو قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: آية 4] ثم جاء بالمحافظة على العقول فَحَرَّم شرب المسكر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: آية 90] وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» (¬1) «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» (¬2) وأوجب حد شارب الخمر محافظة على العقول وصيانةً لها. وكذلك منع من انتهاك المال، واحترام الملكية الفردية حيث قال: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [النساء: آية 29] وفي الحديث «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ» (¬3). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) ورد في هذا المعنى عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة، منها: 1 - حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه: أخرجه أحمد (5/ 72)، وأبو يعلى (3/ 139)، والدارقطني (3/ 26)، والبيهقي في السنن (6/ 100)، وفي الشعب (10/ 119 - 120)، والبزار (كشف الأستار 2/ 204)، وذكره الحافظ في الإصابة (1/ 362)، والهيثمي في المجمع (4/ 172)، وقال: «رواه أبو يعلى، وأبو حُرَّة وثقه أبو داود وضعفه ابن معين» اهـ. وانظر: الإرواء (5/ 279)، صحيح الجامع (7539). 2 - حديث أبي حميد الساعدي: أخرجه أحمد (5/ 425)، والبيهقي في السنن (6/ 100)، وفي الشعب (10/ 120)، والبزار (كشف الأستار 2/ 134)، وابن حبان (الإحسان 7/ 587)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 241)، ومشكل الآثار (4/ 41)، وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 171)، وقال: «رواه أحمد والبزار ورجال الجميع رجال الصحيح» اهـ وانظر الإرواء (5/ 279). 3 - عمرو بن يثربي: رواه أحمد (3/ 423)، (5/ 113)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 332)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (979)، (2/ 287)، والدارقطني (3/ 25، 26)، والطحاوي في المشكل (4/ 42)، وفي شرح المعاني (4/ 241)، والبيهقي في السنن (6/ 97)، وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 171)، وقال: «رواه أحمد وابنه من زياداته أيضاً، والطبراني في الكبير والأوسط ... ورجال أحمد ثقات» اهـ وانظر: الإرواء (5/ 280 - 281). 4 - ابن عباس: أخرجه الدارقطني (3/ 25)، والبيهقي (6/ 97)، وانظر: الإرواء (5/ 281). 5 - ابن عمر: أخرجه البيهقي (6/ 97). 6 - أنس: أخرجه الدارقطني (3/ 25، 26)، وانظر الإرواء (5/ 282).

وقد بيَّن القرآن في سورة النساء ما يدل على أنه سيأتي قوم في آخر الزمان يتخذون وسيلة إلى ظلم الناس في أموالهم من قولهم: هذا فقير، وهذا غني، فنأخذ من الغني لنرده على الفقير!! كما هو مشاهد في المذاهب الهدامة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى} [النساء: آية 135] بأن تقولوا: هذا غني فنأخذه للفقير، أو نكتم الشهادة عليه للفقير {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ولذا جعل حدَّ السرقة لمن أخذ المال في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: آية 38] فأوجب قطع يد السارق محافظةً على أموال المجتمع. والكفار الفجرة يرون أن قطع يد السارق أنه عمل وحشي لا ينبغي أن يكون في النُّظم الإنسانية؛ لجهلهم وطمس بصائرهم وعدم علمهم بالحِكَم السماوية التي يُشرِّعها خالق السماوات والأرض؛ لأن الله

(جلَّ وعلا) خلق هذه اليد، وفرّق أصابعها، وشدَّ رؤوسها بالأظافر، وجعلها مستعدة غاية الاستعداد للمعاونة الكريمة في بناء المجتمع في دنياه وآخرته، فمدت أناملها الخبيثة الخسيسة الخائنة لتأخذ المال على أخس وجه وأرذله وأردئه، فصارت كأنها عضو نجس قذر يريد أن يُقَذِّر جميع البدن، فأمر الله بإزالته كإزالة عضو إزالة تطهيرية لئلا يُضيع جميع البدن. ومعلوم أن العضو إذا فسد وخيف منه أن يُفسد جميع البدن أن إزالته ليصح جميع البدن أنه عمل تطهيري معقول عند كل الناس؛ ولذا ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) (¬1) ما يدل على أنه إن قطعت يده طهر من تلك الرذيلة وصار طاهراً، وبقي جسمه الآخر نزيهاً طاهراً؛ لأن العضو الفاسد الذي كان يُقَذِّر جميع الجسم أُزيل بالعملية التطهيرية. ومن غرائب القرآن أنه لو لم تُقطع يد السارق فاليد الواحدة السارقة الفاجرة قد تفقر آلاف الأيدي، فقد يكون السارق الواحد إذا لم يخف من الردع بقطع اليد يُفْقِر آلاف الأيدي، فيسرق جميع قوت آلاف الناس، فيتركهم عالة يتكففون الناس، وربما ماتوا من الجوع!! فاليد الواحدة قد تُفقر آلاف الأيدي وملايين الأيدي؛ ولذا قطعها الشارع لحكمتين: ليطهِّر صاحبها من هذه الرذيلة الدنية الخبيثة، وكذلك ليردع الناس عن أموال الناس؛ لأن المال هو شريان الحياة، وبه قوام شئون الدنيا في دينها وآخرتها، لا يصلح دونه شيء؛ لأنه هو الذي يُصلَح به كل شيء من مرافق الدنيا والآخرة، فهو أساس الدنيا، وأساس هذه الدنيا وعمل الآخرة كله على المال. وإذا كانت هذه اليد بارية قد تُفقِر آلاف الأيدي، فأمر الشارع بقطعها لأنها عضو نجس قذر يريد أن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

يلطخ جميع الجسد، كعملية تطهيرية، وليرتدع أمثاله من الفجرة عن أموال الناس. وهذا تشريع سماوي، حكمته معروفة، يتوب الله على السارق ويطهره، ويزيل عنه الخبث الذي ارتكبه، والنجاسة التي تلطخ بها، ويحفظ أموال المجتمع؛ لأن المال شريان الحياة، إذا سُرِق قوت الرجل - جعل جميع ما عنده في صندوق، فجاءه سارق فسرقه - يصبح ذلك المسكين وأولاده الصغار وزوجته في جوع، إما أن يذهب فيتكفف الناس، وقد يفضل الشريف الموت على تكفف الناس. فهذا قد تفعله اليد الواحدة لآلاف الأيدي، وقد يُفقر عشرات الناس، ويضُرُّهُم. فَقَطْعُ هذا العضو النجس الخائن الخبيث ليطهر به بقية البدن، وينكف الناس، ويرتدع الفجرة تشريعٌ سماوي معقول. ومن المُشَاهَد: أن هذه البلاد -نرجو الله أن يعصمها، ويحفظ القائمين عليها، ويوفقهم للخير، ويرزقهم بطانة الخير، ويذهب عنهم بطانة السوء - لما كانوا يقطعون يد السارق، ويقيمون حدود الله، كل الإحصائيات العالمية في جميع أقطار الدنيا لا توجد بلاد، أقل فيها ارتكاب الجرائم من السرقات ونحوها من أنواع الفجور مثل هذه البلاد، وكل ذلك بفضل الله (جلَّ وعلا) ثم بفضل تحكيم ذلك التشريع السماوي، فأمريكا -مثلاً- مع حضارتها لا يمكن أن تعدّ فيها جنايات السرقات، وجرائم الأخلاق وغيرها مما يزعمون أنهم في حضارة وتمدُّن، لما أهملوا تشاريع رب السماوات والأرض كثر فيهم الخبث، وكثرت الجنايات، وكثر ارتكاب الجرائم بحد لا يتصوَّر، ومن خرج من هذه البلاد يرى ذلك، ويعلم أنه ليس بآمن على نفسه ولا على ماله؛ لأنه لم تكن هنالك زواجر وروادع من رب العالمين -تعالى- تضع العدالة في الأرض، وتنشر الطمأنينة،

ولكن البلاد التي تحكم بما أنزل الله، وتقطع يد السارق، وترجم الزاني المحصن، وتجلد الزاني تراها دائماً لأجل ذلك التشريع السماوي تقل فيها الجرائم الأخلاقية. ومعلوم أن هذه البلاد - التي هي وحدها التي بقيت في الدنيا تعلن أنها تحكم بما أنزل الله على ما كان منها - أنها أقل البلاد في الإحصائيات العامة جرائم وفضائح وعظائم ذنوب؛ لأجل التشريع السماوي. فتشريع رب العالمين هو التشريع الصحيح الذي يصون الأنفس، ويصون الأموال، ويصون الأعراض، ويصون العقول، ويصون الأنساب، إلى غير ذلك من المقومات الإنسانية. ومعلوم أنه ليس قصدنا أن نثني على أحدٍ كائناً ما كان، كل الناس يعرف ذلك، وإنما قصدنا أن نثني على دين الإسلام، ونبين محاسنه، وأن تشريع رب العالمين لا يدانيه غيره، ولا يماثله غيره، وأنَّ مَنْ حَكَّمَ شَرْعَ اللهِ كانت العدالة في بلاده أكثر، وكانت الطمأنينة أكثر، وكان الرخاء أكثر. وهذه البلاد عليها - على ما كان منها - أن تحْمد نعم الله، فهي في رفاهية، وطمأنينة على الأنفس والأموال والأعراض لا تكاد توجد في بلد من بلاد الله، يعلم ذلك كل من سافر وذهب إلى البلاد الخارجية، وكل ذلك ليس إلا لأجل أنها تقطع يد السارق، وترجم الزاني، وتحكم بحدود الله. قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ

كَافِرِينَ (37)} [الأعراف: الآيات 34 - 37]. يقول جلَّ وعلا: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)} [الأعراف: آية 34] لمّا أمر الله (جلَّ وعلا) ونهى هدد الأمة التي بعث بها نبيه صلى الله عليه وسلم أن كل أمة لها وقت محدد وأجل معين، إذا انتهى ذلك الأجل جاء أمر الله. وهذا تهديد لكفار قريش الذين كذَّبوه صلى الله عليه وسلم، والموعظة بالحكم عامة. ويجب على كل إنسان أن يعلم أنَّ كل إنسان من أفراد كل أمة؛ وأن كل أمة - الجميع محدود له أجل معين لا يتقدمه بلحظة ولا يتأخر عنه بلحظة، كما ذكره هنا في الأمم، وبينه أيضاً في الأشخاص في آيات متعددة، كقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: آية 14] أي: شيئاً مكتوباً محدداً بأجل معين ووقت محتوم لا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر، وإذا كان عمر الإنسان محدَّداً عند الله بوقت معين لا يتقدَّم عنه ولا يَتَأَخَّر، وهو لا يدري أذلك الوقت قريب أو بعيد أو متوسط، قد يمكن أن يكون موته قريباً وهو لاهٍ يضحك، أكفانه تنسج - وهي حاضرة موجودة - وهو لاهٍ يضحك ويلعب ويعصي الله!! فعلى كل عاقل أن يبادر بغتة الموت، وأن يخاف أن يكون الوقت المحدد لعمره قد انتهى أو قارب الانتهاء، فيحمله ذلك على أن يشتغل بما يرضي ربه لتكون خواتيم عمله طيبة، فعلى كل إنسان أن يعتبر أن له أجلاً محدداً ووقتاً معيناً لا يتقدم عنه ولا يتأخَّر، وإذا كان لا يدري هل ذلك الوقت قريب جدّاً فعليه أن يعمل بعمل من هو عالم أنه يموت قريباً لئلا يعاجله الموت وهو مقيم على معاصي الله وما يسخط ربه، فيموت شر ميتة، فيجر إلى القبر مغضوباً عليه من

ربه -والعياذ بالله- فعلى كل مسلم أن يلاحظ هذا، ويحسن عمله خوفاً من أن يكون الأجل المحدد له أوشك على الانتهاء. وهذه موعظة يجب على كل مسلم أن يعتبر بها، والأمم منهم من يكون أجلها المضروب لها واحداً، كالأمَّة التي يأتيها الهلاك في وقت واحدٍ، كقوم نوح الذين اجترفهم الطوفان في وقت واحد، وكقوم هود الذين أهلكتهم الريح العقيم في وقتٍ واحدٍ، وكقوم صالح الذين أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، إلى غير ذلك من القصص المبينة في القرآن، وقد يموت من الأمة أفراد، وأفراد، وأفراد من غير استئصال في وقت واحد. والأمة المهلكة في وقت واحد، والأفراد التي تموت، كلّ منها بأجل محدد له، ووقت معلوم عند الله، لا يتقدمه ولا يتأخَّر عنه، فمن قتل فقد مات بأجله الذي قدره الله عليه، خلافاً للمعتزلة القدرية الذين يزعمون أن أعمال العباد لا مشيئة فيها لله، فيقولون: عمره كان أكثر من هذا، ولكن القاتل نقص عمره فقتله قبل أجله! فهذا جَهْلٌ بالله، وقدح في علم الله؛ لأن الله عالم بكل ما كان وما سيكون، وعالم بكل وقت يموت فيه الإنسان، فلا بد أن يموت في الوقت المعين الذي سبق علم الله أنه يموت فيه، فمن مات فقد انقضى أجله المحدد له عند الله، الذي كان الله يعلم سابقاً أنه عند انقضائه سيموت كما هو مذهب أهل السنة والجماعة (¬1). والأمة أُطلقت في القرآن العظيم أربعة إطلاقات، كلها عربية فصحى (¬2): وهي معنى آيات من كتاب الله. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 202)، شرح الطحاوية (127، 128). (¬2) مضى عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام.

أُطلقت الأمة في القرآن على الطائفة المجتمعة في دين أو نِحْلَة. وهذا أكثر إطلاقاتها، نحو: {كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: آية 44] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: آية 213] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف: آية 34]. وأُطلقت الأمة في آية من كتاب الله على الرجل المُقْتَدى به الذي هو إمام؛ لأن إبراهيم قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: آية 124] ولذا سمَّاه أمة في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لله}. وأُطلقت الأمة في القرآن على البُرهة من الزمن، والقطعة من الدهر. ومنه بهذا المعنى قوله في أوّل سورة هود: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: آية 8] إلى مدة معينة من الدهر. وقوله في سورة يوسف: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: آية 45] أي: تذكَّر بعد برهة من الزمن. وأُطلقت الأمة في القرآن - وهو كثير في كلام العرب - على نفس الشريعة والملة. وإطلاق الأمة على الدين والطريقة الذي هو الشريعة والملة متعدد جدّاً في القرآن، ومنه قوله تعالى عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: آية 23] أي: على مِلَّةٍ وشَرِيعَة ودين {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: آية 92] أي: دينكم وشريعتكم وملتكم طريقة واحدة، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان (¬1): حَلَفْتُ فلم أتْرك لنَفْسِكَ رِيْبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ؟ ¬

(¬1) السابق.

يقول: وهل يأثمن صاحب دين فيرتكب ما يخالف دينه وهو طائع؟ يقول هذا وهو كافر. وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم {أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} أي: جاء الوقت المعين المحدد لإهلاكهم هلكوا. كقوم نوح لمّا جاء الوقت المحدد لهم - المشار إليه بقوله: {وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: آية 40]- أُهلكوا، وقوم هود لمّا جاء الوقت المحدد لإهلاكهم أرسل الله عليهم الرِّيحَ العقيم {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: آية 42] {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: آية 6] وكذلك قوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه، كل أمة من الأمم جاء الوقت المحدد لها وأراد الله إهلاكها أهلكها عند الوقت المعين؛ لأن قريشاً استعجلوا بالعذاب فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {مَا يَحْبِسُهُ} [هود: آية 8] ما يحبس العذاب؟ {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: آية 16] وأصل (القِط) في لغة العرب: هو الصك الذي يكتب به الملك الجوائز للزائرين، لأنه يكتب أوراقاً كل واحدة فيها عطاء فلان، فتلك الورقة المكتوب فيها جائزة كل إنسان ممن زار الملك هي قِطُّه، وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: وَلاَ المَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيْتَهُ ... عَلَى مُلْكِه يُعْطِي القُطُوطَ وَيأْفِقُ (¬1) ومعنى (يأفق): يفضل بعضاً على بعض في العطاء، فقوله: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي: نصيبنا من العذاب الذي تزعم، فاستعجلوا بالعذاب، والله يقول {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: آية 47] وقد ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

جاء استعجالهم به في آيات كثيرة، فبين لهم في هذه الآية من سورة الأعراف أن الله إن أراد إهلاك أمة أو عذابها فلذلك وقت معين محدَّد عنده لا يتقدَّمه ولا يتأخره {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} المعين لإهلاكهم والقضاء عليهم {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجل {سَاعَةً} بل يهلكون عند وقت مجيء الأجل ولا يتقدمون عنه، ولا يمكن أن يهلكوا قبله ولا أن يتأخروا عنه؛ لأنها مواقيت معينة لا يسبقها ما عُيِّن لها ولا يتأخر عنها. وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} قرأ هذا الحرف ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُم} بتحقيق الهمزتين، وقرأه أبو عمرو، وقالون عن نافع، والبزِّي عن ابن كثير: {فإذا جا أجلهم} بإسقاط إحدى الهمزتين. والقرّاء مختلفون: هل الهمزة الساقطة هي الأولى أو الثانية؟ وقرأه ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير: {فإذا جاآجلهم} [الأعراف: آية 34] بإبدال الهمزة الثانية مدّاً للأولى (¬1). وقوله: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} قرأه عامة القراء: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} بتحقيق الهمزة، إلا أن ورشاً قرأه عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو: {لا يستاخرون} بإبدال الهمزة ألفاً (¬2)، والكل قراءات صحيحة، ولغات عربية فصيحة. ومعنى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عنه، أي: عن ذلك الأجل {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي: لا يتقدمون عنه. ¬

(¬1) انظر: النشر (1/ 382 - 383)، البدور الزاهرة ص78، ص114. (¬2) انظر: النشر (1/ 390 - 393)، البدور الزاهرة ص 114.

وإنما ذكر الساعة مع أنهم لا يتقدمون عنه بلحظة ولا يتأخرون؛ لأن عادة العرب أن يطلقوا الساعة في أقل الأوقات، مع أنهم لا يتأخرون لحظة ولا دقيقة {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} عن الوقت المضروب لذلك الإهلاك. {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35)} [الأعراف: آية 35] قرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو {يا بني آدم إما يأتينكم رُسُلٌ منكم} بضم السين والراء، وقرأه أبو عمرو: {يا بني آدم إِما يأتينكم رُسْلٌ منكم} بسكون السين. وتخفيف (الفُعُل) بإسكان العين قراءة معروفة ولغة مشهورة، كما تقول العرب: كُتُب وكُتْب، ورُسُل ورُسْل (¬1). لما أخرج الله آدم من الجنة بَيَّنَ لذريته أن الجنة بعد أن أُخرج منها آدم وحواء لا يمكن أن يدخلها أحد إلا بعد تكاليف ومشاق، وأخبرهم أنه سيرسل لهم الرسل بالأوامر والنواهي، فمن أطاع أمره واجتنب نهيه واتبع رسله أدخله جنته وَرَدَّهُ إلى الوَطَنِ الأوَّل، ومَنْ كَفَرَ وعصى وتمرَّد أدْخَلَهُ النَّار وأخْلَدَهُ فيها والعياذ بالله. {يَا بَنِي آدَمَ} يا أولاد آدم، والنون فيه محذوفة للإضافة، وأصل (البنين) من الملحق بالجموع المذكرة السالمة؛ لأنه ليس من الوصف ولا من العَلَم، ولا ينقاس جمع المذكر السالم إلا في الأوصاف والأعلام، فهذا من الملحقات به. {يَا بَنِي آدَمَ} معناه: يا أولاد آدم الذي استزَلَّه الشيطان بوساوسه وغروره من الجنة إلى دار ¬

(¬1) انظر: إتحاف فضلاء البشر (1/ 404)، البدور الزاهرة ص116.

الأكدار والبلايا. {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} (إنْ) هنا هي (إنْ) الشرطية التي زيدت بعدها (ما) لتوكيد الشرط. فقوله {إمَّا} [الأعراف: آية 35] أصله: إن يأتكم رسل منكم (¬1). فزيدت (ما) لتوكيد الشرط، وزيادة (ما) بعد (إن) الشرطية لتوكيد الشرط أسلوبٌ عربي معروف. وإن زيدت (ما) [بعد] (¬2) (إن) الشرطية في الفعل المضارع، قال بعض علماء العربية: يجب حينئذٍ توكيده بنون التوكيد، وهو لغة القرآن، فما جاء في القرآن (إمّا) قبل فعل مضارع إلاَّ وأُكِّد ذلك المضارع بنون التوكيد في جميع القرآن من غير استثناء حرف واحد، كقوله: {وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ} [فصلت: آية 36] {فَإمَّا نَذهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: آية 41] {فإمَّا تثْقَفَنَّهُمْ فِى الحَرب} [الأنفال: آية 57] {وإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [الرعد: آية 40] وهكذا. ومن هنا زعمت جماعة من علماء العربية أن توكيد المضارع بنون التوكيد بعد (إما) أنه لازم؛ لأنه جاء به القرآن في جميع الحروف القرآنية التي فيها (إما) قبل المضارع وممن قال بلزوم النون: الزجّاج (¬3) والمبرّد (¬4). وخالف جماعة آخرون فقالوا: توكيده بالنون بعد (إمّا) حسنٌ طيبٌ، إلا أنه ليس بواجب ولا بلازم، وممن قال بأنه غير لازم: سيبويه (¬5) والفارسي. واستدلّوا على عدم لزومه بكثرة سقوط النون ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 167)، الدر المصون (1/ 298 - 301). (¬2) في الأصل: «قبل» وهو سبق لسان. (¬3) معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 117). (¬4) الكامل (1/ 378 - 379). (¬5) الكتاب (3/ 515)، وانظر: التوضيح والتكميل (2/ 256).

في أشعار العرب، وسقوط نون التوكيد من الفعل المضارع بعد (إما) لا تكاد تحصيه في أشعار العرب، وهو كثير جدّاً في كلامهم، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس (¬1): فإمّا تَرَيني ولي لمَّةٌ ... فإنَّ الحَوَادِثَ أوْدَى بِهَا فلم يأت بالنون في قوله: (تريني) وهو بعد (إما)، ومنه قول لبيد بن ربيعة العامري (¬2): فَإِمَّا تَرَيْنِي يَوْمَ أَصْبَحْتُ سِالِماً ... وَلَسْتُ بِأَحْظَى مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ ومنه قول الشنفرى (¬3): فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْل ضَاحِياً ... عَلَى رِقِّةٍ أَحْفَى وَلا أَتَنَعَّلُ ومنه أيضاً قول الأفوه الأودي (¬4): إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى بِِهِ ... مَاسُ زَمانٍ ذِي انْتِكَاسٍ مَؤُوس ومنه قول الآخر وهو حماسي (¬5): زَعَمَتْ تَمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدُ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خلّتِي ¬

(¬1) ديوان الأعشى ص28، رصف المباني ص103، الدر المصون (1/ 300). (¬2) البيت في ديوانه ص67، ولفظه: فإما تريني اليوم عندك سالماً ... فلست بأحيا من كلاب جعفر (¬3) البيت في البحر المحيط (4/ 167)، الدر المصون (1/ 299). (¬4) البيت في البحر المحيط (6/ 185)، الدر المصون (7/ 591)، والماس: الطيش، والمؤوس: الإفساد. (¬5) البيت في البحر المحيط (4/ 167)، الدر الصون (1/ 299).

وقول الآخر (¬1): يَا صاح إمَّا تَجدْني غَيرَ ذي جِدَةٍ ... فما التَّخَلِّيَ عَن الخِلاّن مِنْ شِيَمِي وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب، فاستدل سيبويه والفارسي ومن وافقهما بهذه الشواهد على أن [توكيد المضارع بنون التوكيد بعد (إما) غير لازم. [6/أ] كما دلت الآية على أن الرسل الذين يُبعثون إلى الناس أنهم] (¬2) / آدميون مثلهم؛ لأنهم لو أُرسل لهم ملك لما تمكنوا من الأخذ منه؛ لأن الملائكة لا يُجَانِسُونَ بَنِي آدَمَ؛ ولذا كان جبريل إذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم في أغلب الأحوال يتمثَّل له في صورة رجل هو دحْيَة بن خليفة الكلبي كما هو معروف (¬3)، وقد قدَّمنا إيضاح هذا في ¬

(¬1) البيت في البحر المحيط (4/ 167)، الدر الصون (1/ 299). (¬2) وقع انقطاع في هذا الموضع، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬3) جاء هذا في عدة روايات عن جماعة من الصحابة منهم: 1 - أم سلمة (رضي الله عنها). أخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، حديت رقم: (3634)، (6/ 629) وطرفه في (4980). ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضانل أم سلمة أم المؤمنين (رضي الله عنها) حديث رقم: (2451)، (4/ 1906). 2 - عائشة (رضي الله عنها)، ذكره ابن عساكر (مختصر تاريخ دمشق 8/ 162). 3 - ابن عمر (رضي الله عنه) عند أحمد (2/ 107)، وذكره الحافظ في الإصابة (1/ 473)، وصححه. 4 - أنس (رضي الله عنه) ذكره الهيثمي في المجمع (9/ 378)، وقال: «رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف» اهـ. 5 - أبو هريرة وأبو ذر (رضي الله عنهما) عند النسائي في الإيمان وشرائعه، باب صفة الإيمان والإسلام. حديث رقم (4991) (8/ 101)، في آخر حديث جبربل الطويل. وقد ضعف الحافظ في الفتح (1/ 125)، هذه الزيادة ونسبها إلى الوهم. وانظر: ضعيف النسائي (375).

سورة الأنعام في الكلام على قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)} [الأنعام: آية 9] فَكَوْن الرُّسُل إلى بني آدم من جنسهم ومن نوعهم يسهِّل عليهم الأخذ منه، وتسهل عليهم معاشرتهم وصحبتهم والاهتداء بهديهم هو مِنْ نِعَمِ اللهِ -تعالى- عليهم، مع أنّ كون الرسل منهم هي شبهة أضلهم الله بها. كل قوم إذا جاءهم رسول منهم يقولون: كيف تكون رسولاً وأنت من جلدتنا، وتشرب كما نشرب، وتأكل كما نأكل، وتروح للسوق تشتري حاجتك، مثل هذا لا يكون له فضل علينا، وهذا كثيرٌ في القرآن، وبيّن الله في سورة بني إسرائيل أنه سبب مانع من إيمانهم جميعاً حيث قال في سورة بني إسرائيل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: آية 94] فجعلوا بعثة البشر من المحال، وقالوا: {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: آية 24] {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [يس: آية 15] {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: آية 34] {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: آية 7] وقد بيّن لهم الله أن جميع الرسل من جنس الناس الذين يرسلون إليهم، كقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: آية 38] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: آية 109] وهذه من نعم الله علينا.

وقوله: {مِنكُمْ} [الأعراف: آية 35] يدل على أنه قد يوجد رسل آخرون ليسوا منا، وهو كذلك؛ لأن من الملائكة رسلاً، والملائكة ليسوا من جنسنا، كما قال الله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: آية 75] وقال: {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ} الآية [فاطر: آية 1]، {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} أي: إن يجئكم من تلقائي ومن عندي رسل من جنسكم ونوعكم أرسلتهم إليكم، كما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في أول سورة يونس: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} [يونس: آية 2] لا عجب في هذا {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} [الأعراف: آية 63] لا عجب في هذا. {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} {يَقُصُّونَ} معناه: يقرءون ويتلون عليكم آياتي في كتبي التي نزلتها على رسلي لينذروكم بها، ويبينوا لكم فيها العقائد، والحلال، والحرام، والأمثال، والجنة، والنار، وخبر الدنيا والآخرة، وما يستوجب به العبد رضا الله، وما يستوجب به سخطه، {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف: آية 35] فاعلموا أن من اتبع رسلي وأطاعني صار إلى أحسن ما يكون، ومن كذب رسلي واستكبر عن آياتي وعصاني فسيصير إلى أسوأ ما يكون؛ ولذا قال: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} {فَمَنِ اتَّقَى} أي: اتقى الله بأن صدّق رسله وامتثل أوامره التي جاءت بها الرسل، واجتنب نواهيه التي جاء نهي عنها على ألسنة الرسل، وأطاع الله فيما جاءت به رسله، وأصلح عمله بطاعة الله (جلّ وعلا)،

وجريان عمله على الوجه الذي يرضي الله الذي شرعه الله على ألسنة رسله، فهؤلاء الصنف الذين صدّقوا رسلي، وآمنوا بي، وأطاعوني، أصلحوا أعمالهم باتباع الرسل، واتقوا ربهم بامتثال أمره واجتناب نهيه، فهؤلاء يوم القيامة عندما يكون الفزع الأكبر آمنون، لا يخافون ولا يحزنون. فقوله: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} الخوف في لغة العرب -أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه- هو غم من أمر مستقبل في غالب الأحوال، فإذا كان إنسان يغتم من أمرٍ مستقبل يتوقع وقوعه عليه فهذا هو الخوف. أما الحزن: فهو الغم من أمر فائت، كأن تصيبه مصيبة أو بلية وتقع فيبقى مغموماً مما وقع، فهذا حزين. وربما وضعت العرب الخوف مكان الحزن، والحزن مكان الخوف قليلاً (¬1)، وربما أطلقت العرب الخوف وأرادت به (العِلْم) إطلاقاً غير كثير. قال بعض العلماء: منه في القرآن: {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: آية 229] أي: إلا أن يعلما، فإن علمتم. ومن إطلاق الخوف على (العلم) كما ذكرنا قول أبي محجن الثقفي (¬2): إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُروِّي عِظَامِي في المَمَاتِ عُرُوقُهَا وَلاَ تَدْفِنُنِّي بِالفَلاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذا مَا مِتُّ أَلاَّ أَذُوقَهَا ¬

(¬1) في معنى الخوف والحزن والفرق بينهما راجع ما تقدّم عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

فإن قوله هنا (أخاف): أعلم وأتيقَّن؛ لأنه عالم أنه إذا مات لا يشرب الخمر بعد موته كما لا يخفى. وقوله هنا: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} المعروف في علم العربية أن (لا) التي هي لنفي الجنس إذا تكررت بأن عُطفت عليها أخرى لا يلزم إعمالها بل يجوز إعمالها وإهمالها، والذي سوَّغ إهمالها (¬1) في قوله: {لاَ خَوْفٌ} لأن المعطوفة عليها وهي: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: آية 35] جاءت بعدها معرفة وهي لا تعمل إلا في النكرات (¬2). فَلَمَّا اسْتَحَالَ عَمَلُ الثَّانِيَة أُهملت الأولى لتَجَانُس الحرفين في عدم العمل، هكذا قاله بعض العلماء، وله وجهٌ من النظر. وقوله: {اتَّقَى} أصل مادة (الاتقاء) هي من (الوقاية)، أصل (اتقى) من (وقى) ففاء الكلمة واو، وعينها قاف، ولامها ياء، أصلها (وقى) كما تقول: (ونى، وودى، ووشى، ووقى) دخلها تاء الافتعال، كما تقول في (قرب): اقترب، وفي (كسب): اكتسب، وفي (وقى): اوتقى. والقاعدة المقررة في التصريف: أن تاء الافتعال إذا دخلت على كلمةٍ فاؤها واو وجب إبدال الواو تاءً، ثم تدغم التاء المبدلة من الواو في تاء الافتعال الزائدة فيصير معناه: اتقى (¬3). ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 288 - 290). (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 284 - 285)، أوضح المسالك (1/ 203)، الدر المصون (5/ 304). (¬3) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

وأصل الاتقاء في لغة العرب (¬1): معناه أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية تمنعك منه. تقول العرب: اتقيت السيوف بِمِجَنِّي، واتقيت الرمضاء بنعلي. فكل ما جعلت بينك وبينه شيئاً يقيك منه فقد اتقيته. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان (¬2): سَقَطَ النَّصيفُ ولم تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاولَتْهُ واتَّقَتْنَا بِالْيَدِ أي: جعلت يدها وقاية دون وجهها لئلا نراه. هذا أصل الاتقاء في لغة العرب. وهو في اصطلاح الشرع: أن يجعل العبد في دار الدنيا وقاية تقيه من سخط الله وعذابه وعقابه، هذه الوقاية التي تَقِي سخط الله وعذابه، هي امتثال أوامر الله، واجتناب نهي الله. فمن امتثل أمر خالقه واجتنب نهيه فقد اتخذ وقاية تقيه سخطه وعذابه؛ ولذا سمي: الاتقاء. وهو مراتب كثيرة: منها اتقاء الشرك، واتقاء المحرمات، واتقاء الشبهات خوفاً من الوقوع في الحرام كما هو معروف. وربما اعتدَّت العرب بأصل (الواو) مبدلاً من (تاء) من غير زيادة شيء، كما قالوا: (تَقَاهُ يتْقيه) والأصل: (وقاه يقيه) فأبدلوه ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

تاء من غير إدغام. وهذا موجود في كلام العرب نادر، ومنه قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: آية 28] لأن (تُقَاة) أصله (وُقَاة) من غير إدغام، ومنه بهذا المعنى قولهم: «تقى الله يَتْقيه» بمعنى: اتقاه يتَّقيه. والأصل: (وقاه يقيه) ولا موجب للإبدال هنا يستوجبه، إلا أنهم راعوا فيه المشدد الذي فيه موجب الإبدال. ومن (تَقَاه يتْقيه) بالتخفيف قول الإمام الشعبي -رحمه الله- الذي قال بعضهم فيه: إنه شاعر العلماء -رحمه الله- مع علمه وجلالة قدره (¬1): يقولُ لِيَ المُفْتي وهُنَّ عَشِيَّةً ... بمكةَ يَسْحَبْنَ المُهَذَّبَة السُّحْلا تَقِِ اللهَ لا تَنْظُرْ إِلَيْهِنَّ يَا فَتًى ... وما خِلْتني في الحج مُلْتَمِساً وصلا ووالله لا أنْسَى وَإنْ شطَّتِ النَّوى ... عَرَانِينَهُنّ الشُّمَّ والأعْيُنَ النُّجْلا وَلا المِسْكَ مِنْ أَعْرَافِهِنَّ وَلا البُرَا ... جَوَاعِل في أوْسَاطِهَا قَصَباً خَذْلا وَوَالله لَوْلا اللهُ مَا قُلْتُ مَرْحَباً ... لأَوَّلِ شَيْبَاتٍ طَلَعْنَ وَلا أهْلا والشاهد في قوله: تق الله لا تنظر إليهن يا فتى ... . . . . . . . . . . . . . . . لأن أصله: «اتق الله» إلا أنه خُفِّف، وأُبدلت التاء من الواو مع التحقيق، وهي لغة. ¬

(¬1) البيت الأول ذكره العكبري في شرحه للمتنبي (4/ 86)، ونسبه للقحيف. فلعل الشعبي (رحمه الله) تمثل بها، والأبيات في معجم الأدباء (4/ 1479)، الأغاني (24/ 88)، وفي الأمالي (2/ 124) وفيه أنهم سألوا الشعبي (رحمه الله) عن قائل هذه الأبيات فسكت ففهموا أنه قائلها. وصدر البيت الأخير في الأمالي: «خليلي لولا الله ... ».

وقوله: {وَأَصْلَحَ} حَذَفَ المفعولين هنا، وقد تقرر في علم النحو أن حَذْفَ المفعول إذا دل المقام عليه جائز: وحَذْفَ فَضلَةٍ أَجِزْ إنْ لَم يَضُرِ (¬1) ... ................................. وتقرير المعنى: {فَمَن ِاتَّقَى} الله بامتثال أوامره واجتناب نهيه، {وَأَصْلَحَ} عمله باتباع الرسل ومراعاة الله (جلّ وعلا) فيما يأمر به وما ينهى عنه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: آية 35] أي: ليس أمامهم شيء يغتمون منه؛ لأنه لم يكن أمامهم إلا الخير الدائم، والنعيم السرمدي {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على شيءٍ فائت؛ لأنهم كلما طلبوا أُعطوا، فلا يحزنون على فائت؛ لأن جميع رغباتهم حاضرة موجودة. وإذا كانت أُمنيات الإنسان كلها حاضرة موجودة فإنه لا يأسف على شيء فائت؛ لأنه لم يفته شيء، وهذا معنى قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: آية 36] يعني: إن جاءتكم رُسُلِي فالذين أطاعوا رسلي واتقوني فهم آمنون لا يلحقهم خوف ولا حزن، وهم في جنات النعيم، وأمَّا الذين عصوني وعصوا رسلي، ولم يطيعوني، ولم يمتثلوا أمري، وأمّا {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فقالوا للرسل: هذا الذي جئتم به كذب، بل هو سحر، أو شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين، هذا تَلَقَّيْتُمُوهُ عَنْ غَيْرِكُمْ {وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} أي: ¬

(¬1) هذا هو الشطر الأول من البيت، وشطره الآخر: .................................. ... كحذف ما سيق جَوَاباً أوْ حُصِرْ وهو في الخلاصة ص28.

تَكَبَّرُوا عن العمل بها كأبي جهل وأبي لهب وأمثالهم من هذه الأمة والأمم السابقة {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: آية 36]. {أُوْلَئِكَ} أشار لهم إشارة البعيد؛ لأنهم بُعداء بُغضاء ينبغي أن يتباعد منهم، ومن الاقتداء بهم، ومن الاتصاف بصفاتهم. وسمّاهم {أَصْحَابُ النَّارِ} لأن العرب كثيراً ما تطلق المصاحبة على الاجتماع الطويل. والمراد بالنار - والعياذ بالله - نار الآخرة، وهي أَحَرُّ من نار الدنيا بسبعين ضعفاً - نعوذ بالله - تَنْمَاع من حرِّها الجبال، وحرُّها لا يُقَادَر قدره. وأصل الألف التي بين النون والراء أصلها واو. أصل النار (نَوَر) بدليل أن التضعيف الذي يردُّ العين إلى أصلها يبين ذلك، تقول: (تنَوَّرتُ) إذا نظرت النار من بعيد، فلو كانت يائية العين لقيل فيها: (تَنَيَّرْتُ) فلما قالوا: (تنورت) علمنا أن أصل الألف التي في محل العين واو، ومنه تصغير العرب لها على (نُويرة) فلو كانت يائية العين لقالوا: «نُييرة» (¬1) ومما يدلُّ عليه قوله (¬2): تَنَوَّرتُهَا مِنْ أَذْرعَاتٍ وَأَهْلِهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنى دَارِهَا نَظَرٌ عِالي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

فَتَنَوَّرْتُ نَارُهَا مِنْ بَعِيدٍ ... بخزَازَى، هيهات منك الصَّلاءُ (¬1) قال بعض العلماء: والنار من قولهم: (نَارَت الظبية): إذا ارْتَفعت جافلة؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والارتفاع أعاذنا الله والمسلمين منها (¬2). {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أصل الخلود في لغة العرب: المكث زماناً طويلاً، ومنه قول لبيد (¬3): ............................ ... صُمّاً خَوَالِدُ مَا يُبِينُ كَلامُهَا يعني: أثافي القدر، أنها مكثت في محله من الديار زمناً طويلاً. والمراد بالخلود هنا على التحقيق: الخلود السرمدي الأبدي الذي لا انقضاء له أبداً. فأهل النار الكفار خالدون فيها أبداً. وما روي عن بعض السلف من الصحابة فمن بعدهم أن النار تفنى، وتخفق أبوابها ليس فيها أحد، وأنها ينبت في محلها الجرجير (¬4) فإن ذلك يجب حمله كما جزم به الشيخ البغوي ... - وهو صادق - على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين (¬5)، لأن عصاة ¬

(¬1) البيت للحارث بن حلِّزة، وهو في اللسان (مادة: نور) (3/ 740)، وقوله: (بخزازَى) جبل بين منْعج وعاقل. (¬2) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬3) شرح القصائد المشهورات (1/ 135)، وصدره: فوقفت أسألها وكيف سؤالُنا ... .......................................... (¬4) انظر: التذكرة للقرطبي ص437. (¬5) وانظر: تفسير البغوي (2/ 403) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

المسلمين الذين ماتوا مرتكبي الكبائر يدخل بعضهم النار ويُخرجون منها حتى لا يبقى فيها أحدٌ ممن في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولهم طبقة؛ لأن للنار سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فإذا خرج الموحدون منها فلا مانع من فناء الطبقة التي كانوا فيها، أما الكفَّار فقد دلت نصوص الوحي العظيمة على أنهم خالدون فيها أبداً خلوداً سرمديّاً لا انقضاء له أبداً. وفي خلودهم الأبدي سؤالات معروفة: أحدهما أن الله قيده بالمشيئة في سورة الأنعام، وفي سورة هود، حيث قال في سورة الأنعام: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ} [الأنعام: آية 128] وقال في سورة هود: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود: الآيتان 106، 107]. السؤال الثاني: أن الظرف في سورة النبأ -الظرف المُنَكَّر- يدل على المفهوم، وهو قوله: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23)} [النبأ: آية 23] فالأحقاب: أزمنة مُنكَّرة يدل على أن لها انقضاء. السؤال الآخر: سؤال فلسفي بارد، يستدل به الفجرة الملاحدة، يقولون: العقل لا يدرك أن يخلدوا فيها أبداً؛ لأن الله أحكم الحاكمين، وهو ذو عدلٍ وإنصافٍ بالغ، هو الحَكَم العدل (جلّ وعلا)، وهم إنما ارتكبوا المعاصي في الدنيا في أيام محدودة قليلة، فكيف يكون زمن المعصية محدوداً قليلاً وزمن الجزاء لا انقطاع له أبداً؟! قال الملحدون في هذا: لا مناسبة إذاً بين العمل والجزاء، فالعمل في مدةٍ وجيزة، والجزاء لا انقضاء له. فيقول

الملحد: هذا لا يظهر فيه كمال الإنصاف؛ لأنه ينبغي أن يكون الجزاء بحسب العمل، والعمل قليل في أيامٍ معدودة فكيف يكون الجزاء لا نهاية له؟! والجواب عن الآيات لو تتبعنا جميع الأجوبة فيه لطال جدّاً، ولكننا نلمُّ بطرف منه باختصار، فنقول: إن الله (جلّ وعلا) ذكر خلود أهل الجنة وخلود أهل النار، واستثنى في كل واحدٍ منهما بمشيئته، قال في خلود أهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود: آية 107] {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله} [الأنعام: آية 128] وقيّد خلود أهل الجنة بالمشيئة أيضاً قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ} [هود: آية 108] وفي القراءة الأخرى (¬1): {وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فالقيد بالمشيئة في خلود الطائفتين - خلود أهل الجنة وخلود أهل النار، وهذه المشيئة - قد بينت الآيات في كل من الفريقين أن خلود كل واحدٍ منهما لا انقطاع له أبداً، قال تعالى في خلود أهل الجنة: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: خلوداً في النعيم غير مقطوع {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54)} [ص: آية 54] أي: لا انقطاع له أبداً {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: آية 96] أي: لا انقطاع له أبداً من نعيم الجنة. [أما النار التي فيها الكفار فالتحقيق أنها باقية لا تفنى؛ لأن الله صرح بذلك في آيات كثيرة، فصرح بأنها لا تفنى حيث قال: ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص242.

{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} ومعلوم أن {كُلَّمَا} تتكرر] (¬1) بتكرر الفعل الذي قيّد به، والله يقول: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: آية 97] وهو صريح في أنه ليس للنار خبوة نهائية ليس بعدها زيادة سعير، فمن قال: إن لها خبوة نهائية، وفناء ليس بعدها سعير، نقول: يكذبك القرآن في نص قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: آية 97] فهو نص صريح في أنه لم تكن هناك خبوة إلا بعدها زيادة سعير إلى ما لا نهاية. والآيات الدالة على الدوام الأبدي كثيرة {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: آية 65] {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف: آية 75] إلى آيات كثيرة. أما آية النبأ، وهي قوله: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23)} [النبأ: آية 23] فقد بينتها غاية البيان آية سورة ص، وإيضاح ذلك أن المعنى: {لاَبِثِينَ فِيهَا} أي: في النار {أَحْقَاباً} في حال كونهم في تلك الأحقاب {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)} [النبأ: الآيتان 24، 25] فإذا انقضت أحقاب الحميم والغسَّاق عُذِّبوا بأنواع أُخر وأشكال لا نهاية لها. والدليل على أن هذه الأحقاب مختصة بأحقاب الحميم والغساق، وأن لهم أشكالاً من العذاب غير هذا صرّح الله به في سورة ص، وخير ما يُبَيَّنُ به القرآنُ بالقرآن، حيث قال تعالى: {هَذَا ¬

(¬1) وقع مسح في التسجيل في هذا الموضع، وتم استدراك النقص من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام (مع شيء من الاختصار).

وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص: الآيات 55 - 58] فبيَّنَ أَنَّ هنالِكَ أشْكَالاً وأنواعاً من العَذَاب، غير أحقاب الحميم والغسَّاق، فدل على عدم الانتهاء. أما الشبهة الباردة الفلسفِيَّةُ التي يقولون فيها: إن العَبْدَ في دار الدنيا عمل المعاصي في مُدَّة وَجِيزَة، وهي مدة عمره القليلة، فكيف يكون عمل المعاصي في زمن قليل وجزاؤها دائم لا يزول؟! فجواب هذه الشبهة الباردة الملحدة: أن الخبث والكفر الذي انطوت عليه قلوبهم وتمرَّدُوا بِسَبَبِه على الله منطوية عليه قلوبهم أبداً، لا يزول منها أبداً، فكان العذاب أَبَدِيّاً سرمديّاً؛ لأن سبب ارتكابه كان في القلب، أبدي سرمدي، والآيات الدالة على هذا كثيرة؛ كَقَوْلِهِ تَعَالى عنهم أنهم لما عاينوا النار، ورأوا عذاب الله وعظمة النار، وهول ذلك الموقف، وتمنَّوا الرجوع إلى دار الدنيا مرة أخرى ليطيعوا الرسل، ويعودوا إلى رضا الله، وتمنوا ذلك فقالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] وفي القراءة الأخرى (¬1): {وَلاَ نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بيّن الله أن ذلك الخبث الذي كان في قلوبهم في دار الدنيا لم يَزُل أبداً حتى بعد الموت، ومعاينة النار ومعاينة العذاب، قال وهو أصدق من يقول: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] فهو يبين أنهم كلما ردوا إلى الدنيا رجعوا إلى الكفر، وأن أصل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (101) من سورة الأنعام.

ذلك الكفر كامن في قلوبهم لا يزول، ومما يوضحه قوله في الأنفال {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لاَّسْمَعَهُمْ} (خيراً) نكرة في سياق الشرط، فهي تعم. معناه: أنّ الله لا يعلم في قلوبهم خيراً أبداً في وقتٍ من الأوقات كائناً ما كان، ولا زمن من الأزمان. ثم قال على الفرض: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: آية 23]. فتبين أن ذلك الشر الذي عصوا به الرسل وتمردوا به على الله دائم لا يزول، فكان جزاؤه دائماً لا يزول، فتطابق الجزاء والعمل؛ ولذا قال تعالى: {جَزَآءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: آية 26] أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم. وهذا معنى قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: آية 36] أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها. فعلينا جميعاً في دار الدنيا أن نعمل العمل الذي يجنبنا النار، ونستعيذ بالله منها؛ لأنه لا قدرة لأحد على حر النار. وهذه النار التي هي كَلاَ شَيْءٍ بالنسبة إلى حَرِّ تِلْكَ النَّارِ إذا مسَّك منها لهب شديد، أو وقعت يدك على نارٍ عرفت شدة حرها، وأنك لا تطيق النار العظمى أبداً، كما قال تعالى في نار الدنيا: {نَحنُ جَعَلْناهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: آية 73] فمن صَلِيَ بِحَرِّهَا تَذَكَّرَ نَارَ الآخرة، وعلم أنه لا يطيقها، فعليه أن يتحرَّز منها، ويتباعد عن أسبابها التي تُقرِّب إليها في دار الدنيا ما دامت الفرصة ممكنة. أما الذي يعلم بالنار، وبِحَرِّ النار، وهو في دار الدنيا يعمل عمل النار الذي يؤدي إليها فهذا كالفراشة التي تسقط في النار وتحرق نفسها، لا عقل له ولا تذكُّر. فعلى المسلم أن يعتبر بحرِّ النار وبشدة النار، ويضع يده قريباً من حر

النار الموجودة حتى يعلم أنه لا قدرة له على حرِّها، وأن حرّها أليم شديد، وأن تلك أحر منها بسبعين ضعفاً، وأنه يعمل على أن يتجنَّبَها ولا يصلاها؛ لأنه إذا عمل الأعمال التي تُورِدُهُ النار فهو ذاهِب العقل مضيع نفسه، موردها المهالك؛ إذ لا قدرة لأحد على حَرِّ النَّارِ، فاعلموا أيها الإخوان أنه لا قدرة لأجسامكم على النار، فاتقوا النار وأطيعوا الله، وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم واعملوا بما يرضيه، واحذروا من المعاصي والمنكرات التي تجركم إلى النار؛ لأنكم لا قدرة لكم على النار. وإذا أردتم أن تعلموا أنه لا قدرة لكم على النار فليأت منكم أحد إلى كير شديد الوقود ثم يضع رجله أو يده فيه، هل له على ذلك طاقة {نَحْنُ جَعَلنَاهَا تَذكِرَةً} فاحذروا من النار، والحذر منها إنما هو ممكن في هذه الأيام التي أنتم فيها، فإذا انقضى الأجل المحدد ضاعت الفرصة، وأسفه الناس وأقلهم حلماً، وأرذلهم عقلاً هو من لا يَتَسَبَّب في أن يجانب حر النار ويقدم على النار، والذين يتجرءون قال الله فيهم: {فَمَآ أَصبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: آية 175] لارتكابهم أسبابها -والعياذ بالله- فعلى المسلم العاقل أن يجتهد في إنقاذ نفسه من حر النار، وأن يعلم أنه لا طاقة له على النار فينظر في أوامر ربه فيمتثلها، وفي نواهيه فيجتنبها، ولا يغتر بالأساليب والشعارات الزَّائِفَة مِنْ تَقَدُّمٍ وحَضَارَة!! الذين يسمون أنفسهم (تقدميين) إذا ماتوا ووجدوا قبورهم تضطرم ناراً وخُلِّدوا في نار جهنم عرفوا في ذلك الوقت هل هم تقدميون أو متأخرون؟! بل هم والله متأخرون غاية التأخُّر، فالمتأخر هو الذي يهلك [نفسه] (¬1)، ولا يكون عنده ذهن ثاقب ¬

(¬1) في الأصل: (نفسها) وهو سبق لسان.

يعلم أوامر ربه، وعظمة من خلقه، ويطيع خالقه، ويمتثل أمره، ويجتنب نهيه، ويعمل في أن يُجنب نفسه حرّ جهنم، أعاذنا الله والمسلمين منها. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37)} [الأعراف: آية 37] والعياذ بالله. قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} استفهام إنكار معناه النفي؛ أي: لا أحد أظلم. وفي هذه الآية سؤال معروف (¬1)، وهو أن معنى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً. وهذه تدل على أن المفتري على الله الكذب، والمكذِّب بآياته هو أعظم الناس ظلماً؛ لأن (أظلم) صيغة تفضيل، وأنه يفوق غيره ويفضله في الظلم، وقد جاءت آيات أخرى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى الله وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: آية 32] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} [البقرة: آية 114] قال بعضهم: يظهر لطالب العلم في هذا شبه تعارض؛ لأنه قال: لا أحد أظلم من هذا، ولا أحد أظلم من هذا، ولا أحد أظلم من هذا. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة، أشهرها اثنان: أحدهما، وَجَزَمَ بِهِ أبُو حَيَّان في كتابه البحر المحيط: أنه لا تعارض أصلاً بين الآيات، وإنما دَلَّتِ الآيات على أن كل من ذُكر في قوله: {فَمَنْ أَظلَمُ} لا يمكن أن يفوقه أحد من أهل الدنيا في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (93) من سورة الأنعام.

الظلم، إلا أنهم جميعاً متساوون لا يفوق بعضهم بعضاً، وهم يفوقون غيرهم في الظلم، كما لو قلت: ليس في هذا البلد أعلم من زيد، وليس فيه أعلم من عمرو. وزيد وعمرو مستويان في العلم، فتكون صادقاً، ولا معارضة بين قوليك. وهذا وجه ظاهر لا إشكال فيه، وهو كما قال أبو حيان. الوجه الثاني: أنها تتخصص بِصِلاَتِها، وعليه فيكون المعنى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} [الأعراف: آية 37] لا أحد من جنس المفترين أظلم ممن افترى على الله كذباً، ولا أحد من جنس المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من جنس المكذّبين أظلم ممن كذب على الله وكذَّب بالصدق، وهكذا. والظلم قد قدمنا معناه -مراراً- بشواهده العربية (¬1). {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً} الافتراء: الاختلاق، والقول بغير الواقع. والكذب: الأصح في أقواله أنه الإخبار بخلاف الواقع (¬2). وأقوال البيانيين فيه معروفة، والمراد هنا: الإخبار بغير الواقع، كقولهم إن مع الله شريكاً، وإن له ولداً، وإنه أمرهم بالفاحشة كطوافهم عراة، إلى غير ذلك من افتراءاتهم على الله. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} التي جاءت بها رسله، فقال: إن هذا القرآن ليس بحق، إنه شعر، أو سحر، أو كهانة، أو أساطير الأولين. لا أحد أظلم ممن افترى هذا الكذب على الله بادعاء الشركاء والأولاد، وأنه حرم كذا وهو لم يحرمه، ولا أحد أظلم ممن كذَّب ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (93) من سورة الأنعام.

بآيات الله فجحد بها وقال: إنها من السِّحر، أو من الشعر، أو من كلام الكهنة، أو من أساطير الأوّلين، أو أنها عَلَّمَهَا له بَشَرٌ. لا أحد أظلم من هذا وهذا. ثم قال: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} في قوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} المراد بهذا النصيب الذي ينالهم من الكتاب فيه أقوالٌ متقاربة لعلماء التفسير لا يكذِّب بعضها بعضاً (¬1)، أرجحها: ما دلت عليه القرينة القرآنية، قال بعض العلماء: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} يرجعون إلى ما هم صائرون إليه مما كُتب لهم أزلاً، فمن كُتب له أن يموت على ذلك الشقاء مات عليه، ومن كُتب له أن يتوب تاب. والتحقيق في معنى هذه الآية: أنَّ معنى {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} أنهم ينالهم ما كتب الله لهم في الدنيا مما ينالونه من الخير ومن الشر، من الصحة، والعافية، والرفاهية، والأمراض، والأحزان، والأموال، والرزق، والآجال، حتى يستكملوا في دار الدنيا ما سبق في علم الله أنهم ينالونه من الأرزاق، والنعمة، والعافية، والأولاد، والآجال، وما يصيبهم من الخيرات، والخِصْب، والأموال، وكذلك ما يلاقونه أيضاً من البأساء، والأمراض، والفقر، وتحديد الآجال، حتى إذا انتهى نصيبهم في هذه الدنيا مما كُتب لهم من خير أو شر، ورزق ومال وأجل لا يزالون كذلك {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا} [الأعراف: آية 37] وعليه فـ (حتى) هذه غائية. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 408)، القرطبي (7/ 203)، ابن كثير (2/ 212).

وقال بعضهم: هي حتى الابتدائية التي تكون قبل ابتداء الجمل (¬1). حتى إذا جاءت الواحد منهم بعد أن نال نصيبه المكتوب له في الدنيا من جميع الأنواع المكتوبة له من الأرزاق، والآجال، والأولاد، والعافية، والرزق، والأمراض، والهموم، ونحو ذلك. {حَتَّى إذَا جَاءَتهُمْ رُسُلُنَا} المراد بالرسل هنا: جمع رسول. وهذه الرسل هي: ملك الموت وأعوانه، يقبضون أرواحهم. واعلموا أن الله أسند قبض الروح في آية إلى نفسه -جلّ وعلا- حيث قال عن نفسه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: آية 42] وأسنده في آية لِمَلَك واحد، وهي قوله في السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: آية 11] وأسنده في آيات كثيرة لملائكة كثيرة مرسلين لذلك، كقوله هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} [الأعراف: آية 37] وكقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: آية 61] وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: آية 97] ولا إشكال في الآيات (¬2)؛ لأن إسناد التوفي إلى الله؛ لأن كل شيء بمشيئته وقضائه وقدره، فلا تقع وفاة أحد إلا بمشيئته - جلّ وعلا - كما صرّح به في قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: آية 145] وإسناده لملك الموت لأنه هو الرئيس الموظَّف بقبض ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 294)، الدر المصون (5/ 309). (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام.

الأرواح. وإسناده لملائكة كثيرين؛ لأن لملك الموت أعواناً كثيرين يقبضون معه أرواح الناس بأمره. قال بعض أهل العلم: يقبض أعوانه الروح حتى تبلغ الحلقوم فيأخذها ملك الموت (¬1). والآيات دلت على أن له أعواناً كثيرة من الملائكة يقبضون معه الأرواح، كقوله هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} وكقوله: {تَوَفَّتهُ رُسُلنَا وَهُم لاَ يُفَرِّطُونَ} {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ} {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: آية 50] عياذاً بالله جلَّ وعلا. {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ} [الأعراف: آية 37] أي: ذلك الإنسان الذي استكمل في دار الدنيا نصيبه من الكتاب، بأن أكل جميع ما كُتب له من الرزق، ونال ما كُتب له من الشهوات واللذات والأجل، ونال ما قَدَّر الله عليه من الشرور في الدنيا، حتى إذا انقضى أجله، وجاء الوقت المحدد لموته جاءته {رُسُلُنا} أي: ملك الموت وأعوانه ليقبضوا روحه وينزعوها من بدنه، وسنذكر كيفية ذلك في قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} [الأعراف: آية 40] في الآيات القريبة. {جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} في هذه الآية وجهان من التفسير (¬2): التحقيق أنها الوفاة بقبض الأرواح في دار الدنيا، وأنهم إذا جاءهم [الملائكة] (¬3) يقبضون أرواحهم في دار الدنيا يوبخونهم ويقرعونهم عند أخذ الروح، ويقولون لهم: أين ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: ابن كثير (2/ 212). (¬3) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ أيْنَ مَنْ كنْتُمْ تعبدون مع الله؟ نادوهم فلينقذوكم منا ويخلصوكم منِ هذا الموت وما بعده من العذاب. وعلى هذا القول فقوله: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يعني: بقبض الأرواح. وفيه قولٌ آخر، وهو ضعيف، إلا أنه ذكره جماعة من علماء التفسير (¬1)، أن هذا يوم القيامة إذا حشر الخلق جاءت رسل الله، وهم الملائكة الموكلون بالنار يتوفونهم، أي: يأخذون أهل النّار وافين؛ لأن جميع أهل النار مكتوبون في ديوان، مُعَيَّنة به أسماؤهم، وأسماء آبائهم، وأنسابهم، وقبائلهم، والملائكة الموكلون عندهم السجلات يأخذونهم واحداً واحداً حتى يستوفوا العدد المكتوب. هذا قول في الآية. والأوّل هو الصحيح. وعلى هذا القول فقوله: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يأخذون عددهم وافياً. والقول الأوّل: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} بقبض الأرواح. {قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} يقوله لهم الملائكة عند قبض الروح توبيخاً وتقريعاً، ويضربونهم أيضاً مع ذلك، كما قال جلّ وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: آية 50] والعياذ بالله. {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} (أين) هنا هي الاستفهامية. و (ما) موصولة. أين الذين كنتم {تَدْعُونَ}؟ أي: تعبدون {مِن دُونِ الله}، أي: مع الله (جلّ وعلا) وتجعلونهم شركاء معه؟ أين هم؟ نادوهم فليحضروا فليخلصوكم وينقذوكم!! وهذا من التوبيخ والتقريع والتعذيب. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 415).

وهذه الآية أُطلقت فيها الوفاة على معناها العُرْفِيّ. واعلموا أن معنى (توفاه) تطلق في اللغة العربية إطلاقين (¬1): إطلاقا لغويّاً، وإطلاقا عرفيّاً. أما إطلاقها اللغوي: فهو أخذ الشيء كاملاً بجميعه وافياً. تقول العرب: توفيت دَيْني: إذا أخذته وافياً كاملاً لا ينقص منه شيء. فكل شيء أخذته وافياً بتمامه فقد توفيته، وهذا معناها في اللغة العربية. ومعناها في العرف: تقول العرب: توفاه الله. إذا قبض روحه وحدها دون جسمه. هذا معناها العرفي، وذلك معناها اللغوي. والقاعدة المقررة عند جمهور الأصوليين: أن الحقيقة العرفية تُقدم على الحقيقة اللغوية ما لم يقم دليل يرجح الحقيقة اللغوية (¬2). وذكر بعض علماء الأصول عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه لا يقدم العرفية على الحقيقة اللغوية؛ لأن العرفية وإن ترجحت في الاستعمال فالحقيقية قد ترجحت بأصل الوضع (¬3). وهذا تترتب عليه مسألة غلط فيها كثير من الناس، وأضل الملحدون فيها كثيراً من الناس، وهي قضية عيسى ابن مريم (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام)؛ لأن الله عبر عنه بالوفاة [6/ب] في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: آية 55] أما قوله (جلَّ وعلا) عنه:/ {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة: آية 117] من كلام عيسى يوم القيامة، ولا يأتي يوم القيامة إلا وعيسى قد مات قطعاً، لا نزاع في موته قبل يوم القيامة؛ لأن {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} من كلام عيسى يوم القيامة إذا قال له ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (146) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 435)، نثر الورود (1/ 156).

ربه: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: آية 116] هذا كلامه يوم القيامة {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} إلى أن قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي: قبضتني إليك ورفعتني إلى السماء {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} وقول عيسى هذا يوم القيامة لا حجة فيه على أنه قد مات، أما آية قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: آية 55] فهي قول في دار الدنيا لا في الآخرة. واحتج به بعض الملاحدة الذين يزعمون أن عيسى قد مات!! وهذه فكرة إلحادية. والتحقيق الذي دلت عليه السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم -الوحي المنزّل- أن عيسى لم يمت إلى الآن، وأنه حي في السماء، وأنه سينزل في هذه الأمة في آخر الزمان ليقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويقتل المسيح الدجَّال، وهو نازل لا محالة، دلَّ على ذلك السنة المتواترة عن رسول الله، والقرآن العظيم (¬1). أما القرآن العظيم فقد دل عليه دلالة صريحة - وإن قيل فيها قول يخالفها؛ لأن القول المخالف باطل وإن نسبوه لابن عباس؛ لأنه باطل؛ لأن ظاهر القرآن خلافه، والعقل لا يقبله أيضاً - ذلك أن الله قال عن عيسى ابن مريم: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء: الآيتان 157، 158] ثم قال (¬2): {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: آية 157] بيَّن أن السبب ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (146) من سورة الأنعام. (¬2) هذا الجزء من الآية متقدم على المذكور قبله من الآية (157).

الذي ادعى اليهود به أنهم قتلوه: أن الله ألقى شبهه على رجلٍ آخر، فظنوه إياه، فقتلوه، وظنوا أنهم قتلوه، والله يقول: {لَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ} إلى أن قال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ثم قال: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: آية 159] أي: بعيسى ابن مريم في آخر هذا الزمان {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت عيسى ابن مريم. وهذا هو التحقيق في معنى الآية والذي دلّ عليه ظاهر القرآن، وبينته السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما قول بعضهم الذي يزعمونه عن ابن عباس أن معنى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت ذلك الكتابي (¬1). فهو أمر غير معقول؛ لأن من أهل الكتاب من يموت في نومه، ومن يموت فجأة، ومن تأخذه سكتة قلبية، ومن يُقطع رأسه فجأة. فهذا لا يمكن أن يؤمن به قبل موته، أي: قبل موت الكتابي كما لا يخفى على أحد. أما الأحاديث بأن عيسى حي، وأنه ينزل، فهي متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطعن فيها إلا ملحد (¬2). أما قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فيجاب عنه بأجوبة: أحدها: أن المراد بها هنا: التوفي اللغوي، كما ذكرنا. أي: قابضك إليَّ وافياً بجسمك وبدنك، وغاية ما في الباب أنه قُدِّمت هنا الحقيقة اللغوية على الحقيقة العرفية التي هي إطلاق الوفاة على قبض الروح خاصة؛ لأن الحقيقة اللغوية هنا اعتضدت بظاهر القرآن وبالسنة المتواترة، والحقيقة اللغوية إذا قامت عليها مرجحات ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (146) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

رجحت على الحقيقة العرفية كما هو معروف في الأصول. الثاني: أن نقول: إن الله قال: إنه متوفيه، ولا شك أنه متوفيه، ولكن لم يقل: إن تلك الوفاة أنها وقعت، ولا عيّن وقتها، غاية ما في الباب أنه قال: إنه متوفيه، وهو صادق، وهو متوفيه، ولكن أين أنه توفاه بالفعل؟ فإن قالوا: عطف عليه قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: آية 55] فذكر الوفاة قبل الرفع. قلنا: العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يقتضي مطلق التشريك (¬1)، وقد يكون المعطوف بالواو هو الأول، كما في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: آية 7] وهو صلى الله عليه وسلم بعد نوح بأزمان. وأجمع أهل اللسان العربي أنه يجوز أن تقول: جاء زيد وعمرو. ويكون المعطوف بالواو هو الأوَّل؛ لأن الواو لا تقتضي إلا مطلق التشريك. فإن قال قائل: دل الحديث على أن الواو قد تقتضي الترتيب، كقوله صلى الله عليه وسلم لما رقي على الصفا: «أبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» (¬2) والترتيب بين الصفا والمروة بالواو في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ الله} [البقرة: آية 158] وفي رواية: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» وهنا واو، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الواو كأنها تقتضي الترتيب وتقتضي بدء ما بدأ الله به. فالجواب ما أجاب به جماعة من قدماء علماء العربية من أنّ الواو كما أنها لا تقتضي الترتيب فإنها لا تمنع من أن يراد بها الترتيب إذا دلّ على ذلك دليل جازم خارج عن أصل الوضع، أما إذا تجردت ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (146) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

من الأدلة فإنها لا تقتضي ترتيباً وإنما عرف الترتيب بها هنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي دل على الترتيب دليل خارج، لا نفس أصل الواو. ومنه بهذا المعنى قول حَسّان (على رواية الواو) (¬1): هَجَوتَ محمَّداً فأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللهِ في ذَاكَ الجَزَاءُ لأن الواو هنا بـ «وأجبت عنه» الجواب بعد الهجاء. وهذا إذا دلت عليه قرينة ودليل خارج لا مانع من أن تكون الواو للترتيب، لكنها عند الإطلاق لا تكون للترتيب. الثالث: قال بعض العلماء: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: آية 55] أي: منيمك؛ لأن الله -قالوا- لما أراد رفعه ألقى عليه النوم. أي: منيمك {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} في تلك النومة لئلا تنزعج من الرَّفْعِ إلى السَّمَاءِ، والله قد يطلق الوفاة على النوم، وأطلق الوفاة على النوم في موضعين من كتابه: أحدهما: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} [الأنعام: آية 60] أي ينيمكم في الليل {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}. الثاني: قوله {الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: آية 42] فالحاصل أن هذه الآيات ليس فيها ما يدل على موت عيسى ابن مريم، وأن القرآن دلّ على أنه حي؛ لأن الله قال: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: آية 159] والضمير عائد إلى عيسى على التحقيق لا إلى الكتابي كما بينا. وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الفائضة - وهو الصادق ¬

(¬1) السابق.

المصدوق - مصرحة بذلك، وهو الحق الذي لا شك فيه، فادعاء أنه مات هو من الفِكَر الإلحادية، كادعاء القاديانية أنه رُفع إلى السماء ثم نزل ومرض ومات مريضاً بكشمير!! وغير ذلك من الخرافات التي لا أساس لها (¬1). ومن المؤسف أن بعض المنتسبين للعلم يَتَشَبَّعُون بالفِكَر الإفرنجية ويُقْدمون على هذا الإلحاد، ويقولون: إنَّ عيسى قد مات. مع أن الأحاديث النبوية الصريحة الصحيحة مستفيضة بأنه حي، وأنه سينزل في هذه الدنيا، وأن الله نص على ذلك في قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت عيسى، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، ودلَّ عليه ظاهر القرآن، لا (موته) أي: الكتابي؛ لأنه من المُشَاهَد أن من أهل الكتاب من يموت قبل أن يؤمن بعيسى، كالذي ينام فيموت نائماً، وكالذي تأتيه سكتة قلبية فيموت من حينه، وكالذي يُقْطع رأسه فجأة ولا تكون له فرصة ليؤمن بعيسى. وهذا معنى قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الأعراف: آية 37] أي: تعبدون من دونه من المعبودات والأصنام والأوثان. {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} [الأعراف: آية 37] أي: غابوا واضمحلوا. وقد بيّنا أن الغيبوبة والاضمحلال من أنواع إطلاقات الضلال في القرآن (¬2). {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} والعياذ بالله؛ لأن الكفار إذا عاينوا الحقيقة شهدوا على أنفسهم، وأقروا حيث ¬

(¬1) انظر: القاديانية لإحسان إلهي ظهير ص199. (¬2) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

لا ينفع الإقرار ولا ينفع الندم. كما قال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [تبارك: آية 11] والعياذ بالله جلَّ وعلا، كما أنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، وتشهد عليهم جلودهم {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا الله الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: آية 21]. {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: الآيات 38 - 43]. يقول الله جلَّ وعلا: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف: آية 38]. لما اعترف الكفار بكفرهم، وندموا حيث لا ينفع الندم، وقال الله عنهم: {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: آية 37]

لما شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا في دار الدنيا كافرين حتى ماتوا على ذلك بيّن جزاءهم فقال إن الله يقول لهم يوم القيامة ما قصَّ هنا، قال الله لهم، أو قالها لهم خازن النار بأمر من الله (جل وعلا). والظاهر أن القائل هو الله؛ لأنه إذا لم يقيد بما يدل على أنه المَلك انصرف إلى أن الله هو الذي أمر بإدخالهم النار؛ لأنهم لا يدخلونها إلا بأمره -جلّ وعلا- قال الله لأولئك الكفار: {ادخُلُواْ} في النار {فِي أُمَمٍ} في جملة أمم، والأمم: هي أجيال الناس المتقدمة مِنَ الكَفَرَةِ. ادخلوا في زمرة أمم {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} مضت من قبلكم وماتوا وهم كافرون فدخلوا النار، ادخلوا في زمرتهم في النار -والعياذ بالله- وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} أي: قد مضت من قبلكم، ومضى زمانها قبل زمانكم. والمعنى: أنه كانت قبلكم في الوجود أمم كافرة فأدخلتها النار، فادخلوا في جملتهم في النار والعياذ بالله. وقوله: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} قال بعض العلماء (¬1): {فِي النَّارِ} بدل من قوله: {فِى أُمَمٍ} والظاهر أن الصواب أنها ليست بدلاً منها، وأن المعنى: ادخلوا في جملة أجناسكم من الكفرة، ادخلوا أنتم وهم في النار. وقوله: {مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف: آية 38] هذه الأمم التي أدخلت النار بعضها من الجن وبعضها من الإنس، وهذه الآية نص صريح في أن كفرة الجن في النار مع كفرة الإنس كما قدمناه مراراً (¬2). وكون كافر الجن في النار لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 295)، الدر المصون (5/ 312). (¬2) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

اختلف العلماء في المؤمنين من الجن هل هم في الجنة أو ليسوا فيها؟ فذهب جماعة أن جزاء المؤمنين من الجن أنهم لا يدخلون النار ولا يدخلون الجنة، بل كان جزاؤهم الإجارة من النار فقط دون التنعم بالجنة. واغتر من قال بهذا القول بظاهر آية الأحقاف؛ لأن الجن لما قال نذيرهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: آية 31] رتبوا على ذلك قولهم: {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم يقولوا: ويدخلكم الجنة. فاغتروا بهذا الظاهر. والخلاف في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة أو يجارون من النار ولا يدخلون الجنة؟ وبعضهم يقول: يكونون رابضين عند أبواب الجنة، خلافٌ معلوم مشهور، والظاهر أن الصواب أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة كما دخل الكافرون منهم النار، وقد دلّ على هذا بعض الآيات: من أصرح الآيات دليلاً عليه قوله تعالى في سورة الرحمن مخاطباً للإنس والجن: {ولِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّه جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: آية 46] ثم بين أن هذا الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه للإنس والجن حيث أتبعه بقوله: {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} [الرحمن: آية 47] والتثنية في قوله: {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} للإنس والجن بلا نزاع بين العلماء. فدل ظاهر هذه الآية أن مؤمن الجن في الجنة، ويستأنس له بظاهر قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: آية 74] فيفهم منه أن في الجنة جنًّا يطمثون النساء، ولكنهم لم يسبقوا هؤلاء أزواجهم في الجنة. وهذا الأخير أظهر. وقوله جلّ وعلا: {ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النّار} والعياذ بالله {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من هذه الأمم {لَّعَنَتْ

أُخْتَهَا} إنما كانت أختها لأنها أختها في الديانة والملة والكفر بالله، وتكذيب الرسل، وكل شيئين متشابهين، أو متصاحبين تنسب العرب لهما الأخوة ومنه: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: آية 48] فالمتشابهان تسميهما العرب (إخوان) وكذلك المتصاحبان تسميهما (إخوان) وإنما كانت الأمة أخت الأمة لمشابهتها لها في الكفر والطغيان وتكذيب الرسل حتى مات الجميع على ذلك ... - والعياذ بالله - كما قال الله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: آية 27] وهو معنى معروف في كلام العرب، وكل أمة كافرة أخت للكافرة، كما أنَّ الأمة المؤمنة أخت للأمة المؤمنة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: آية 10] وإنما لعنتها لأن بعض هذه الأمم يسن الضلال والكفر حتى يقتدي به الذين جاءوا من بعدهم -والعياذ بالله- فيلعنوهم لأنهم تَسَبَّبَ لهم بِالاقْتِدَاءِ بهم دخولُ النار، كما قال الله (جل وعلا) عن نبيه إبراهيم إنه قال لهم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت: آية 25] وقال تعالى عنهم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} [البقرة: الآيتان 166، 167] فهم يوم القيامة أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، وهذا معنى قوله: {كُلّمَا دَخَلَتْ أُمّةٌ} [الأعراف: آية 38] في النار {لَعَنَت أُخْتَهَا} أي: صاحبتها المماثلة لها في الضلال والكفر، وتكذيب الرسل؛ لأن بعض الأمم تبقى سننهم في الضلال والكفر فيقتدي بها من جاء بعدهم من الأمم -والعياذ بالله- فيلعنونهم لذلك.

ثم قال جلَّ وعلا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً} {ادَّارَكُواْ} أصله: تداركوا. والمعروف في علم العربية أن (تفاعل) و (تفعَّل) يكثر فيهما الإدغام واستجلاب همزة الوصل عند الإدغام (¬1). فقوله: {ادَّارَكُواْ} أصله (تداركوا) {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: آية 38] أصله (تثاقلتم) {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: آية 72] أصله (فتدارءتم). وكذلك في (تفعَّل) كقوله: {وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا} [يونس: آية 24] أصله (تزينت) {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النمل: آية 47] أصله: (تطيرنا) وهذا الإدغام معروف في كلام العرب، ومثله في (تفاعل) كما هنا قول الشاعر (¬2): تُولي الضَّجِيعَ إذا ما الْتَذَّهَا خَصِرَا ... عذبَ المَذَاقِ إذا ما اتَّابَعَ القُبَلُ يعني: إذا ما تتابع القُبَلُ. {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً} أي: تلاحقوا وأدرك الآخِرُ الأول واجتمعوا في النار جميعاً - والعياذ بالله، أعاذنا الله منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل - شكا عند ذلك الوقت الأتباع الضعفاءُ رؤساءهم المتبوعين وقالوا لهم- أي لأجلهم؛ لأنهم يخاطبون الله ولا يخاطبون الرؤساء المتبوعين، قالوا يشكونهم لله (جلَّ وعلا)، ويطلبونه أن يزيد عليهم العذاب لإضلالهم إياهم-: {رَبَّنَا} معناه: يا ربنا، يا خالقنا وسيدنا ومدبر أمورنا، {هَؤُلاَءِ} الرؤساء من قادة الكفرة {أَضَلُّونَا} هم الذين أضلونا عن طريق الصَّواب، ومنعونا من اتباع الرسل ومن طاعتك وامتثال أمرك، فقد ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 296)، الدر المصون (1/ 434)، (5/ 313)، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة. (¬2) مضى هذا الشاهد عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.

أطعناهم وزينوا لنا وقالوا لنا: أطيعونا نهدكم، واتبعونا نذهب بكم إلى الخير، ومكروا بنا حتى أضلونا عن طريقك فاتبعناهم فأهلكونا {أَضَلُّونَا فَئاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} [الأعراف: آية 38] {فَآتِهِمْ} أعطهم عذاباً مضاعفاً، بأن تعذب الواحد منهم كعذاب اثنين، ويكون هذا العذاب المضاعف من النار، كما قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)} [الأحزاب: آية 68] وفي القراءة الأخرى: {والعنهم لعناً كَثِيراً} (¬1) فسألوا الله أن يزيد عليهم العذاب، وأن يلعنهم، وشكوه بأنهم أضلوهم. ومحاججتهم مذكورة في آياتٍ كثيرة (¬2)، كما قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} [ص: آية 64] وبسطَها الله في سورة سبأ في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} [سبأ: الآيات 31 - 33] الآيات. فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، ويسأل الأتباع أن يزيد الله الرؤساء المتبوعين عذاباً فوق عذابهم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: آية 88] فعند ذلك الوقت يتمنون الرجعة إلى دار الدنيا ليتبرؤوا منهم، وأن لا يدخلوهم النار {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ ¬

(¬1) انظر: النشر (2/ 349)، إتحاف فضلاء البشر (2/ 378). (¬2) انظر: أضواء البيان (2/ 299) ..

اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)} [البقرة: آية 166] فلما تبرأ المتبوعون من الأتباع تمنى عند ذلك الأتباع الرجعة إلى الدنيا {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} (لو) هنا تمنياً، يا ليت لنا كرة. أي: رجعة ثانية إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} لما شكا الأتباعُ المتبوعين وقالوا لربهم: هؤلاء أضلونا فضاعف لهم العذاب عذاباً على الضلال وعذاباً على الإضلال. قال الله مجيباً لهم: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف: آية 39] لكل منكم ومنهم ضِعْف، أما ضعف المتبوعين الرؤساء فلا إشكال في مضاعفة العذاب عليهم؛ لأن ضِعْفاً على ضلالهم، وضِعفاً على إضلالهم؛ لأنهم هم الذين سنوا لهم الضلال «ومَنْ سنَّ سُنة سيئة فعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يوْمِ القِيَامة لا ينقص ذلك مِنْ أوزَارِهِم شَيْئاً» (¬1) وقد بيّن الله أن رؤساء الضلالة المتبوعين عليهم وزر ضلالهم ووزر إضلالهم في آيات كثيرة كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: آية 13] وكقوله جل وعلا: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: آية 25]. ومضاعفة العذاب على الرؤساء قادة الضلالة لا إشكال فيه {الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني في أنفسهم {وَصَدُّواْ} غيرهم {عَن سَبِيلِ الله ¬

(¬1) أخرجه مسلم من حديث جرير (رضي الله عنه) في العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ... ، حديت رقم: (1017)، (4/ 2059)، وقد أخرجه في موضع قبله (2/ 704، 705). كما أخرج نحوه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) برقم: (2674).

زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} عذاباً بكفرهم، وعذاباً بصدهم الناس عن سبيل الله {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: آية 88]. أما مضاعفة العذاب للضعفاء الأتباع ففيها إشكال، وكثير من المفسرين لا يتعرضون لهذا الإشكال؛ لأن الله يقول: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: آية 160] وهم لم يُضِلُّوا. وهذا إشكال معروف في هذه الآية. وهو مضاعفة العذاب للأتباع (¬1). فقال بعضهم: إنهم وإن كانوا أتباعاً فلا بد لهؤلاء الأتباع من ضعفاء أُخر، فالواحد يكون تبعاً لرئيسه في الضلالة، ولكنه يُضِلُّ امرأته وأولاده وبعض أقاربه، فمعهم هم أيضاً رئاسة في الضلال قليلة كل بحسبه، ويضاعف العذاب لكل بحسبه. وقال بعض العلماء: مضاعفة العذاب للرؤساء بإضلالهم وضلالهم، ومضاعفته للأتباع بتقليدهم الأعمى، وتعصبهم للكفر، وعدم نظرهم في المعجزات البينات، والأدلة الواضحات التي جاءت بها الرسل، مع الكفر، فقد جمعوا بين التقليد الأعمى والإعراض عن سماع الحق، مع الكفر الذي ارتكبوه. هكذا قاله بعض العلماء. وقوله: {وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: آية 38] قرأ هذا الحرف عامة القراء ماعدا شعبة عن عاصم: {وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب (¬2). والمعنى: أن لكل من أهل النار ضِعفاً بحسب عمله ¬

(¬1) انظر: تفسير الألوسي (4/ 117)، القاسمي (7/ 76)، المنار (8/ 414)، التحرير والتنوير (8/ 123). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص208.

ولكنكم لا تعلمون قدر ما ينالونه من العذاب المهين وشدته وهوله وألمه. وفي قراءة شعبة عن عاصم: {ولكن لا يعلمونَ} ولكن لا يعلم الجميع أن لكل منهم ضِعْفاً من العذاب، كانوا لا يعلمون ذلك، ويوم القيامة سيعلمونه: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: آية 47]. وهذه الآيات الكريمة تدل على أن المتبوعين في الضلالة، والأتباع في الضلالة، كلهم - والعياذ بالله - يضاعف لهم العذاب في النار، وهؤلاء الأتباع الذين يدعون على الرؤساء بقولهم: {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: آية 68] وقوله هنا عنهم: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} لو ضاعف الله العذاب على الرؤساء ما كان ذلك ينفع الأتباع بشيء {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: آية 39] عذاب هؤلاء لا ينفع هؤلاء (¬1). وإذا كنتم أيها الناس تعلمون أن القرآن العظيم مصرِّح في آيات كثيرة بالخصومة بين أهل النار، بين الرؤساء والمرؤوسين - الأتباع والمتبوعين - وأنَّ مصير الجميع إلى النار، فاحذروا - رحمكم الله - أن تكونوا من رؤساء الضلالة والقادة إلى النار، واحذروا أن تكونوا من الأتباع الذين يتبعون الناعقين الداعين إلى الضلالة والنار، لئلا تكونوا من الفريقين. والمؤسف - والعياذ بالله - أن كفرة الإفرنج في هذا الزمن قادة وسادة في الضلال، يدعون الناس إلى الكفر والإلحاد في آيات الله، والطعن في الدين بأنه تقاليد قديمة لا فائدة فيها ولا تساير ركب الحضارة، ولا يمكن أن تنظم علاقات العالم بحسب تطورات الدنيا الراهنة. وكثير من الخفافيش الذين ليس ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 300).

عندهم نور العقل يتبعونهم - والعياذ بالله - ويقلدونهم في كل شيء، فيوم القيامة إذا ماتوا تبرأ أولئك الرؤساء الكفرة المُتَّبَوعُون من أولئك الأتباع الضعفاء المساكين العمي الذين يقلدونهم في كل ما يجرهم إلى النار، فعلى المسلمين أن يعلموا أن ما يسميه الإفرنج اليوم بالحضارة الغربية والتقدّم هو حقيقته الدعاء إلى الكفر بالله، والإلحاد في آياته، والطعن في كتابه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم فهم قادة النار، وسادة أهل جهنم الذين يتبعهم كثيرٌ من الرعاع الذين لا عقول لهم، ولم تتنور بصائرهم بنور الوحي، فهم أتباع لأولئك في طريق جهنَّم، وعن قريب يقف الجميع أمام الله وهؤلاء متبوعون سادة في الكفر، وهؤلاء أتباع مساكين مغرورون خدعهم أولئك حتى جروهم إلى الكفر بالله، والطعن في رسله وكتبه، والإلحاد في آياته، وزينوا لهم أن الدين مسخرة لا فائدة فيه، وبعضهم يقول لهم: إنه أفْيُون الشعوب. فيلحذر المسلم أن يكون من أتباع الكفرة إلى نار جهنَّم. واعلموا أن هذا الذي يطلقون عليه اسم الحضارة والتقدُّم أنه شعار يحمل في داخله حقيقة الكفر والإلحاد بالله، والتمردُ على نظام السماء، والطعن في الدين، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، والازدراء بالإيمان، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، فهذا الشباب المنتشر في أقطار الدنيا الذي يقلد أولئك في كل ما يقولون ويفعلون ويعتقدون، مع أنهم يتسمون باسم المسلمين، هم أتباع، وأولئك متبوعون، ويوم القيامة قد علمتم مصير المتبوعين الداعين إلى النار، ومصير الأتباع الذين يتبعونهم، فعلى المسلم في دار الدنيا قبل أن تضيع عليه الفرصة أن لا يغتر باسم الحضارة واسم التمدن واسم التقدم، وأن ينظر في الوحي السماوي، وما هي أوامر رب العالمين الذي خلق

السماوات والأرض، وما هي نواهيه، فيخضع لأوامر ربه، ويمتثل أمر الله، ويجتنب نهيه، ويقتدي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لئلا يكون تبعاً لكفرة فجرة يتبرؤون منه يوم القيامة ويندم، ويصير الجميع إلى النار. ودين الإسلام الذي نتكلم باسمه - الذي هو تشريع رب العالمين جلّ وعلا - لا يمكن أن يكون صخرة تعثر في طريق التقدُّم، بل هو دين كل تقدم في كل ميادين الحياة، فدين الإسلام يدعو إلى التقدم والقوة في جميع ميادين الحياة، فما يخيله الكفرة الإفرنج مِنْ أنَّهُ دين ركود وجمود ودعةٍ وإخلاد إلى الأرض، وأن المتمسك به لا يمكن أن ينهض، ولا يساير ركب الحضارة، كلها فلسفات شيطانية لا أساس لها، تروّج على ضعاف العقول. أما دين الإسلام فهو في حقيقة ذاته دين التقدُّم في جميع الميادين الحيوية، فيدعو إلى كل تقدم في جميع الميادين الحيوية، إلا أنه يُعَلِّمُ الناس أن هذه الدنيا ليست فوضى، وأن عليها ربّاً حكماً عدلاً هو خالق كل شيء، ومدبِّر كل شيء، ومنه كل شيء، وإليه مصير كل شيء، هو الذي خلق هذه الأرض والبحار، ونصب هذه الجبال ورفع السماوات، وخلق هذا الخلق، وشق أعينهم، وصبغ بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفعل بهم ما هو معروف، هذا الرب هو الذي له السلطان الأكبر، والكلمة العليا، فلا يُصدَر إلا عن أمره، فهو (جلّ وعلا) الحقيق بأن يطاع فلا يُعْصى، وأن يذكر فلا يُنْسَى، وهو (جل وعلا) أنزل كتاباً مبيناً محفوظاً من كلامه (جل وعلا)، وسنة نبوية على نبي كريم، بيَّن فيها معالم الحياة، وأقام فيها أُسس الدنيا التي إذا مشت عليها قامت بالعدالة التي لا نظير لها،

والأمن والطمأنينة والرفاهية، وانتظمت علاقاتها على أكمل وجه، مع إرضاء خالق السماوات والأرض، والعمل لدار الكرامة والخلود في الجنة في الدار الأخرى. وإذا نظرتم في القرآن فإنه لا يدعو إلى الإخلاد والضعف والعجز، لا وكلاَّ، بل إنه يدعو إلى التقدُّم والقوة في جميع ميادين الحياة، اقرءوا آية: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 61] فتجدوا نص هذه الآية الكريمة يأمر بإعداد القوة، وهو مساير للتطور مهما بلغ التطور، ولو مما لا يتصوره الإنسان، فالمتكاسل الذي لا يُعد القوة لرد الكفاح المسلح، وقمع أعداء الله، هو مخالف لنظام القرآن، غير ممتثل أمر الله؛ لأن الله يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. وإذا نظرتم في القرآن تجدونه يبين معالم السياسة، ومعالم الاجتماع، ومعالم الاقتصاد على أبدع الوجوه وأكملها في جميع مرافق الحياة. فالسياسة الخارجية مثلاً يعرف العاقلون بالاستقراء أنها تتركز على أصلين: أحدهما: إعداد القوة الكافية لرد الكفاح المسلَّح، وقمع الطغاة أعداء الإسلام. وفي هذا الأساس يقول الله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 61]. الثاني: اجتماع الكلمة اجتماعاً صحيحاً حقّاً حول كلمة لا إله إلا الله، لا تتخلله عداوات، ولا مباغضات، ولا مداهنة بالكلام جوفاء مع العداوات الباطنة. والله يقول في هذا: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} [الأنفال: آية 46] {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ

تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: آية 103] فمن عمل بهذين الأصلين فأعد القوة الكافية، وكانت كلمة المسلمين حول تلك القوة كلمة واحدة، وصفّاً واحداً لا يتخلله خلل ولا فشل، كانت قوتهم وافية، وكلمتهم عالية؛ وعدوهم يهابهم، ولا يستطيع أن ينتهكهم. وبيانه للسياسة الداخلية من المحافظة على الأموال، والأعراض، والأنفس، والعقول، والأديان حتى يكون المجتمع في طمأنينة، ورَفَاهَةٍ، ورخاء، قد أشرنا إليه مراراً (¬1). فدين الإسلام دين التقدُّم في جميع الميادين، لا دين إخلاد إلى الأرض وضعفٍ وركود، بل هو دين تقدُّم في الميادين. وخذوا أمثلة في القرآن في ذلك: اقرءوا إن شئتم آيتين من سورة النساء في صلاة الخوف، يقول الله فيهما: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: آية 102] وفي هاتين الآيتين: هذا وقت التحام الكفاح المسلَّح، والمفروض أن الرجال تنزل رؤوسهم عن أعناقهم!! وكتاب الله وقرآنه العظيم في هذا الوقت يُعلِّم تدبير الخطة العسكرية على أكمل الوجوه وأبدعها ليتسنى للمسلمين في ذلك الوقت الحَرِج، وذلك الامتحان العسكري أن يتصلوا بخالق السماوات والأرض، ويأتوا بأدب من آداب السماء، وتتصل أرواحهم بالله، وهو الصلاة في الجماعة في هذا الوقت الحَرِج. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

واقرءوا من سورة الأنفال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا .... (¬1) [الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ} فقوله: {فَاثْبُتُواْ} تعليم عسكري سماوي، يأمر به خالق السماوات والأرض بالصمود في الميدان في خطوط النار الأمامية. وفي هذا الوقت الضنك يقول الله (جل وعلا): {وَاذْكُرُواْ الله كَثِيراً} [الأنفال: الآية 45] هكذا فليكن المؤمن قويّاً في جميع الميادين، محافظاً على آدابه الروحية، متصلاً بربه صلة روحية؛ لأن الروح المهذبة على ضوء التعليم السماوي تقود المادة والقوة قيادة طبيعية حكيمة ليس بها ويلة على البشر. [17/أ] ثم أنتم تعلمون في التاريخ أنه]، / لمّا حاصرهم الأحزاب في غزوة الخندق ذلك الحصار العسكري التاريخي العظيم، الذي نوَّه الله بشأنه، وذكر هوله وشدته في سورة الأحزاب في قوله: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي من الخوف {وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)} [الأحزاب: الآيتان 10، 11] هذا ليس زلزال أرض، ولا أن المدينة تزلزلت أرضها وجبالها، ولكنه زلزال خوف وشدة هول من كثرة العدو وإحاطته وقوته، لما جاءهم هذا الأمر العظيم ماذا قابلوا به هذا الأمر العظيم؟! وهم في ذلك الوقت ضعاف في العَدد والعُدد، يقاطعهم جميع أهل الأرض في السياسة والاقتصاد، ليست بينهم روابط سياسية مع أحدٍ من أهل الدنيا في ذلك الحين، ولا روابط اقتصادية، وهو الوقت الذي رؤي فيه صلى الله عليه وسلم يشدُّ حزامه على الحجارة من الجوع كما ذكره الأخباريون وأصحاب السير. في هذا ¬

(¬1) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وتم استدراك النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

الوقت العظيم لم يكن عندهم في ذلك الوقت من الأصدقاء إلا بنو قريظة من اليهود، كان بينهم وبينهم عهد، فعندما أحاط بهم الأحزاب نقضوا العهد وصاروا مع العدو عليهم كما هو معروف، فصار جميع أهل الدنيا أعداءً لهم، والقوة العسكرية محاصرة لهم، وهم في قلة من العَدَد والعُدد والجوع، ضعيف عسكرهم، ضعيف اقتصادهم، إلا أن قوتهم بالله قوة عظيمة هائلة، فما هو الدواء والعلاج الذي قابلوا به هذا الحصار العسكري التاريخي الهائل العظيم؟! هو الإيمان بالله، وصدق اللجوء إليه (جلّ وعلا)، كما قال الله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22)} [الأحزاب: آية 22] ما زادهم قوة العدوّ، وإحاطته بهم، وكون الدنيا كُلاًّ أعداءهم إلا إيماناً بالله، وتسليماً لله، فنتيجة قوة هذا الإيمان وهذا التسليم عند هذه الشدائد العظيمة والكروب كان من نتائج ذلك الإيمان والتسليم ما قصه الله في محكم كتابه في قوله: {وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا} وختمها بقوله {وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب: الآيات 25 - 27] يعني إن كنتم ضعافاً فهو جلّ وعلا ليس بضعيف بل هو قدير على كل شيء، لا يخذل أولياءه الذين يُسَلِّمُون له، ويؤمنون به إيماناً قويّاً. ومما يدّل على هذا المعنى أنه لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية - معتمراً عام ست في ذي القعدة، قيل له: إن عثمان بن عفان قُتل - لما أرسله بالهدايا إلى البيت - ثم بايعه أصحابه بيعة الرضوان تحث

شجرة الحديبية البيعة المشهورة، وكانوا وقت بيعتهم تحت الشجرة علم الله من قلوبهم الإيمان الكامل، والإخلاص التامّ الذي ينبغي، كما شهد الله لهم به في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: آية 18] فَنَوَّه عما في قلوبهم من الإيمان والإخلاص بالاسم المُبْهم الذي هو الموصول، لمَّا علم من قلوبهم الإيمان والإخلاص لله كما ينبغي كان من نتائج ذلك الإخلاص والإيمان الذي علمه في قلوبهم ما قصه علينا في قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: آية 21] فصرح أن إمكانياتهم العَدَدية والعُددية لم تُقْدِرْهُم عليها، ثم قال: {قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا} أي: فأقدركم عليها وجعلها غنيمة لكم. ثم ختمها فقال: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} إن كنتم ضِعَافاً فالله ليس بضعيف، وإن كنتم غير قادرين فالله (جلّ وعلا) قادر، والمتمسك بدين الإسلام لا يُغلب {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: آية 249] والقرآن لا يدعو إلى الإخلاد، ولا الخمول، ولا التأخر، وإنما يدعو إلى القوة والكفاح، والتقدم في جميع الميادين. فالذين يأخذون من الإفرنج قشور حضارتهم من الكفر والإلحاد والانحطاط الخُلقي، والتمرّد على نظام السماء، ولا يأخذون من القوة التي عندهم شيئاً، ويضعون على الإسلام أنه دين ركود، ولا يساير التطور، ويمنع التقدم، كلها فلسفات شيطانية لا أساس لها، بل دين الإسلام يأمر بالتقدم والقوة في جميع الميادين، ويأذن بأن تأخذ دنياك التي تحتاج إليها من كل برّ وفاجر، فلا مانع عند دين الإسلام من أن تأخذ حاجتك الدنيوية المحضة التي لا تمت إلى

الدين بصلة أن تأخذها من الكافر الخنزير الخسيس. وقد بيّنا مراراً (¬1) أننا نذكر ثلاثة أمثلة لهذا لنبين للناس مرانة دين الإسلام، وأنه ليس بدين خمول ولا دين تأخر، بل هو دين كفاح، ودين قوة، ودين تقدم في جميع الميادين، والنصر يأتي فيه من السماء لأن أهله يربون أرواحهم على ضوء تعليم الله (جلّ وعلا)، ويتصلون بخالقهم، فهم حزبه، وهم جيشه، وهو ناصرهم (جلَّ وعلا) على عدوهم، ومما يدل على أن دين الإسلام لم يمنع أخذ الأمور الدنيوية حتى ولو من الكفرة الفجرة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة لنا صلوات الله وسلامه عليه- لما تعاونت عليه قوى الشر، واجتمع عليه جميع قريش، ودبّروا خطتهم أن يأتيه -مثلاً- رجل من كل قبيلة، فيضربوه ضربة واحدة، فيتفرق دمه في قبائل قريش، فيقبل أولياؤه الدية. ودبّروا هذه الخطة، واضطر صلى الله عليه وسلم للخروج مهاجراً، ودخل هو وصاحبه في غار، كما قصه الله في تاريخ القرآن في سورة براءة {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: آية 40] وجد في ذلك الوقت خبيراً كافراً عنده خبرة دنيوية، ولكنه هو كافر، وهذا الخبير يسمى عبد الله بن الأريقط الدؤلي، من بني دؤل من كنانة، عنده خبرة دنيوية وهو كافر، فالنبي صلى الله عليه وسلم لمرانته وقوته وعلمه بمصالح الدنيا والآخرة لم يمتنع من الانتفاع بخبرته الكافرة بسبب كفره، بل أعطاه الركائب -مراكبه هو ومن معه- وقال: في الوقت الفلاني تعال عندنا واسلك بنا طريقاً غير معهودة؛ لأن الطرق المعهودة عليها العيون والرصد من كفار قريش، وقد جعلوا الجعائل لمن يأتيهم ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

به صلى الله عليه وسلم، فجاءه ابن الأريقط، وصار مع كفره أميناً في المعاملة، وجاءهم بمراكبهم في الوقت المعيّن، وذهب بهم في طريق غير مسلوك إلى جهة الساحل، حتى أوصلهم المدينة بسلام (¬1)، وحاشا بهم الطرق المعروفة التي عليها العيون والرصد، فهذا انتفاع من النبي صلى الله عليه وسلم بخبرة خبير كافر، ولم يمنعه كفره من أن ينتفع في دنياه بتلك الخبرة على حدّ قولهم: (اجتنِ الثمار وألْقِ الخشبة في النار) (¬2). وكذلك لما حاصرهم المشركون ذلك الحصار العسكري المنوَّه عنه آنفاً في الأحزاب - كما ذكر أصحاب السير، وأصحاب الأخبار (¬3) - أن سلمان الفارسي قال له: كنا يا رسول الله إذا خفنا خندقنا. فالخندق أشار إليه سلمان، وبيّن أنه خطة عسكرية ابتكرتها أذهان الفرس، وهم إذ ذلك مجوس يعبدون النار، فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الانتفاع بتلك الخطة العسكرية أن الأذهان التي ابتكرتها أذهان كفرة فجرة يعبدون النار وهم الفرس، بل جعل ذلك الخندق واستعان به على القوم، فهذه خطة عسكرية أصلها للكفار، وانتفع بها النبي صلى الله عليه وسلم في دنياه وهو مرضٍ ربه. وكذلك قد ثبت في صحيح مسلم (¬4) أن النبي صلى الله عليه وسلم همّ أن يمنع وطء النساء المراضع؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن الرجل إذا أتى امرأته وهي ترضع ولدها أن غشيانه أم الولد وهي ترضعه أن ذلك ¬

(¬1) السابق .. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

يضعف عظمه، ويترك فيه ضعفاً قويّاً وكان الرجل إذا ضرب بالسيف ونبا السيف عن الضريبة ولم يقطع قالوا: هذا من الغِيْلَة!! يعنون أنه وُطِئَت أمه وهي ترضعه!! كانوا يذمون هذا، وكان شاعرهم يقول (¬1): فَوَارسُ لم يغالُوا في رضَاعٍ ... فتَنْبُو في أكُفِّهمُ السُّيوفُ فأخبرته فارس والروم بأنهم يفعلون هذا ولا يضرُّ أولادهم، فأخذ به صلى الله عليه وسلم. فتراه أخذ بخبر خبيرٍ كافر، وأخذ بخطة عسكرية كافرية، وأخذ بخطة طبية كافرية، لم يمنعه من الانتفاع بالدنيا أن أصل هذا من الكفار، وهذا من مرانة دين الإسلام، وكونه ليس دين خمول ولا دين ضعف، بل هو دين تقدم في جميع ميادين الحياة. والشاهد أن ما يوسوس به الشيطان ويفلسف به أعداء الإسلام أن الإسلام ليس دين تقدم، وأنه لا يساير ركب الحضارة، كله فلسفات شيطانية يروّجونها على ضعاف العقول لينسلخوا من الدين. أما دين الإسلام فهو في حدّ ذاته دين التقدم، ودين القوة، ودين التقدم في جميع الميادين، ودين الكفاح، ودين قمع أعداء الله بالقوة حتى يذلوا ويصغروا وتكون كلمة الله هي العليا. هذا دين الإسلام. والذين يتخذون دين الإسلام هزؤاً، وأنه تقاليد قديمة لا تنفع الآن، ولا تساير ركب الحضارة، فقادته ورؤساؤه في ذلك كفرة الإفرنج، وسيحشر الجميع يوم القيامة أتباعاً ومتبوعين يقع فيهم ما ذكر الله في هذه السورة الكريمة في رؤساء الكفر وأتباعهم والعياذ بالله جلّ وعلا. ¬

(¬1) السابق.

فعلى كل مسلم ألا يغتر بالشعارات الزائفة، والكلمات المضلة التي تحمل في وسطها الكفر والإلحاد، والتمرد على الله من اسم الحضارة، واسم التمدُّن، واسم التقدم، فإن هذه شعارات هي في حقيقتها المقصودة عند أهلها الذين جاءوا بها تحمل الطعن في الدين، والإلحاد في آيات الله، والكفر بالله، وتحمل كل شر وطغيان فيها والعياذ بالله. فعلى شباب المسلمين أن لا يغتروا بها، ولا يجعلوا الكفرة الفجرة الخنازير سلفهم ومتبوعيهم؛ لئلا يقع بهم ما يقع بالأتباع والمتبوعين من دعاة النار والعياذ بالله، وهذا معنى قوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: آية 38]. {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}. لما شكا الأتباع من المتبوعين، وقالوا لربهم: {هَؤُلاء أَضَلُّونَا} قرأ {هؤلاء يضلونا} بإبدال الهمزة الأخيرة ياءً نافِعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو، وقرأ الباقون: {هَؤُلاء أَضَلُّونَا} بتحقيق الهمزتين (¬1). لما قال الأتباع هذا، وشكوا المتبوعين، وسألوا الله أن يضاعف عليهم العذاب، وهم المراد بقوله: {أُخْرَاهُمْ} لأن الأتباع يدخلون النار متأخرين؛ لأن الرؤساء أعظم منهم ذنباً فـ {أُخْرَاهُمْ} في دخول النار، أو {أُخْرَاهُمْ} درجة في الكفر هم الأتباع، و {أُولاَهُمْ} دخولاً في النار، وفي مرتبة الكفر: هم ¬

(¬1) انظر: إتحاف فضلاء البشر (1/ 196)، (2/ 48).

الرؤساء المتبوعون (¬1). أجاب الرؤساء المتبوعون: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ} أي: أولى الأمم، الرؤساء المتبوعون، وهم سادة الكفر العظام الذين دخلوا النار أولاً {لأُخْرَاهُمْ} قالوا: {لأُخْرَاهُمْ} اللام: لام التبليغ؛ أي: للأتباع الذين شكوهم وطلبوا أن يزيد الله مضاعفة العذاب عليهم {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل} الظاهر أن الفاء هي التي يقولون لها: (الفصيحة). إن شكوتمونا وسألتم لنا ضِعْف العذاب فما لكم علينا من فضل، أنتم في النار عملتم في الدنيا بالكفر كما عملنا وستخلدون في النار كما خلدنا -والعياذ بالله- وهذا معنى: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل} فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكسبون في دار الدنيا، كما قال الله عنهم إنهم قالوا: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ: آية 32] يعنون: الرسل جاءتكم بآيات واضحات، ومعجزات، وكتب سماوية، ونحن ما جئناكم بشيء، فَلِمَ تتبعونا وتتركون الحق واضحاً فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} بسبب الذي كنتم تكسبونه في دار الدنيا. ثم قال (جلّ وعلا) بعد أن ذكر ما للكفار - أتباعهم ومتبوعيهم - من عذاب النار، ومضاعفة العذاب -والعياذ بالله- قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} [الأعراف: آية 40] من الأتباع والمتبوعين الكفرة {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} قرأ هذا الحرف أبو عمرو: {لاَ تُفْتَحُ لهم أبواب السماء} بالتاء الفوقية مع التخفيف. وقرأه حمزة والكسائي: {لاَ يُفْتَح لهم أبواب السماء} وقرأه الباقون وهم ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 417، 419)، القرطبي (7/ 205)، ابن كثير (2/ 212).

(نافع، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم): {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} ففي الكلمة الكريمة ثلاث قراءات سبعيات (¬1): {لا يُفْتَح لهم أبواب السماء} وهي قراءة حمزة، والكسائي. {لا تُفْتَحُ لهم أبواب السماء} وهي قراءة أبي عمرو. {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} وهي قراءة نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر. هذه القراءات الثلاث معناها واحد. {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} وجحدوا أنها من عند الله، وتكبروا عن العمل بها من الكفار أتباعهم ومتبوعيهم قبحهم الله {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء}. في عدم فتح أبواب السماء لهم أقوال متقاربة معروفة، لا يكذب بعضها بعضاً، وهي كلها حق (¬2)، قال بعض العلماء: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} فيرفع لهم منها عملٌ صالح؛ لأن أعمالهم مردودة إلى الله، كما قال الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: آية 10] والكفار ليس عندهم عملٌ صالح يرفع كَلِمَهم، وليس عندهم كَلِمٌ طيب، قالوا: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} لترفع أعمالهم الصالحة إلى الله. وقال بعض العلماء: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} لاستجابة دعواتهم؛ لأن دعواتهم مردودة {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [الرعد: آية 14] وقال بعض العلماء: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} أي: لا تنزل إليهم البركات والرحمات من الله (جل وعلا) نازلة مفتحة لها أبواب السماء لكفرهم. وكل هذه الأقوال حق. وذهب جماهير من المفسرين أن معنى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ} لأرواحهم عند الموت {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} والآية تشمل هذا كله. لا تفتح لأعمالهم أبواب السماء فترفع، ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص208. (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 421)، القرطبي (7/ 206)، ابن كثير (2/ 213).

ولا تفتح لدعواتهم أبواب السماء لأنها غير مستجابة، ولا تفتح لهم أبواب السماء بالبركات، ولا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا. وحديث البراء المشهور المعروف عند العلماء يستدل به المفسرون على دخول القول الأخير في الآية؛ لأن حديث البراء المذكور أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، وغير واحد عن البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خرجوا معه في جنازة أنصاري، وجلس صلى الله عليه وسلم قبل أن يُلحد الأنصاري، وأمرهم أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر، ثم ذكر لهم حال الميت المسلم والميت الكافر، فقال صلى الله عليه وسلم ما حاصله وملخَّصه: إن الإنسان المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، عندهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه ويقول: أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتسيل نفسه كما تسيل القطرة من فمِ السِّقاء، فإذا سالت أخذها فلم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها ويجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فتخرج منها ريح كأحسن ما يكون من نفحة مسك على وجه الأرض، ثم يصعدون بها إلى السماء، كلما مروا بملأ من الملائكة قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ قالوا: هذا فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يُسَمَّى بها في الدنيا. حتى ينتهوا إلى السماء السابعة، فيقول الله (جل وعلا): اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. فَترد روحه إلى جسده، ويأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: مَنْ رَبُّكَ؟ فيقول: ربي الله. فيقولان: وما دينك؟

فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان: وما علّمك هذا؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة يأتيه رَوْحُها ونعيمها. ثم إن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح - والمسوح: جمع مِسْح وهو الثوب الخلق البالي الخبيث الخشن السيئ والعياذ بالله- فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه ويقول: أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط وغضب من الله (جل وعلا). فتتفرّق روحه في جسده، فينزعها من جسده كما يُنزع السفود من الصوف المبلول، فإذا أخرجها لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها ريح كأنتن جيفة وُجدت على وجه الأرض؛ ثم يصعدون بها إلى السماء كلّما مرت على ملأ من الملائكة قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ قالوا: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء فيستفتحوا له فلا يؤذن له -والعياذ بالله- وتطرح روحه طرحاً، وفي حديث البراء المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: آية 40] وأنه عند طرح روحه قرأ: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج: آية 31] وفي القراءة الأخرى (¬1) {فَتَخَطَّفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ثم ترد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه ويقولان: من ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص207.

ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وألبسوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار. وفي بعض روايات الحديث: أنه يُسلط عليه أعمى أبكم، عنده مرزبة من حديد لو ضَرب بها جبلاً لبقي تراباً. يضربونه فيصرخ صرخة يسمعها كل الناس إلا الثقلين والعياذ بالله جل وعلا (¬1). وحديث البراء هذا جاءت بمثله أحاديث تدل على أن السماوات ( ... ) (¬2). {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} التحقيق أن المراد بالجمل هنا هو البعير زوج الناقة المعروف. وعن ابن مسعود أنه سأله رجل عن الجمل هنا فاستهجن سؤاله وقال له: الجمل هو زوج الناقة (¬3). كأنه يستهجن سؤاله، وأن هذا لا ينبغي أن يُسأل عنه. والمراد بـ (السَّم) هو الثقب. و (الخِيَاط): الإبرة، والمعنى: أن الجمل -وهو البعير الضخم الكبير- لا يمكن أن تُدخله من ثقب إبرة الخياطة هذه، لا يمكن أن تدخل من وسطها جملاً بعِظَمِه وتفرّق قوائمه. فالجمل لا يدخل في ثقب إبرة أبداً، فهم لا يدخلون الجنة أبداً. فهذا أسلوب عربي معروف، يعلقون الشيء على ما لا يكون، فيدل على أنه لا يكون، فيقولون: لا يقع كذا حتى يقع كذا. فيكون ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (8) من هذه السورة. (¬2) في هذا الموضع وجد انقطاع في التسجيل. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 299)، وسعيد بن منصور (التفسير)، (948، 951)، (5/ 138، 141)، وابن جرير (12/ 428، 429)، والدولابي في الكنى (2/ 151)، والطبراني في الكبير (8691، 8692)، (9/ 151).

وقوع الشيء محالاً، وهو أسلوب معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬1): إذا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْتُ أهْلِي ... وَصَارَ القَارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ القار: الزفت، وهو لا يَبْيَضُّ أبداً، والغراب لا يشيب أبداً. ومنه قول بشر بن أبي خازم (¬2): فرَجِّي الخَيْرَ وانْتَظِرِي إِيابِي ... إِذَا مَا القَارِظُ العَنَزِيُّ آبَا والقارظان العَنَزِيَّان لا يؤوبان أبداً. وهذا أسلوب عربي معروف. والتحقيق أن المراد بالجمل هنا هو الجمل المعروف من الإبل، وأن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يضربون [المَثَل] (¬3) في العظم بالجمل كما قال الشاعر (¬4): ............................ جِسْمُ الجمال وأحلامُ العصافيرِ وقال (جلَّ وعلا) في شرر النار: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْر (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)} [المرسلات: الآيتان 32، 33] وفي القراءة الأخرى (¬5): {كأنه جِمالات صفر} هذا هو التحقيق، وأن المعنى: أنهم لا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل -البعير- الضخم الكبير ¬

(¬1) البيت في النكت والعيون للماوردي (2/ 223)، الدر المصون (5/ 320)، المغني لابن قدامة (10/ 475). (¬2) البيت في القرطبي (3/ 50)، اللسان (مادة: رجا) (1/ 1138)، وفي (مادة: قرظ)، (3/ 63) وفيه مناسبة البيت والمُراد بالقارظين. (¬3) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬4) البيت لحسان، وهو في ديوانه ص129، والمثبت في الديوان: «جسم البغال» وصدره: «لا بأس بالقوم من طول ومن عِظَم». (¬5) انظر: المبسوط لابن مهران ص457.

مع عظمه وتفرُّق قوائمه حتى يدخل من ثقب إبرة الخياطة، وهذا لا يكون أبداً!! فدخولهم الجنة لا يكون أبداً. وهذا أسلوب عربي معروف. وهذا هو التحقيق. والقراءات الكثيرة التي تروى هنا عن السلف: {حتى يلج الجُمَّل} {حتى يلج الجُمَل} {حَتَّى يَلِجَ الجُمْلُ} وغيرها من القراءات كلها قراءات شاذة. ومعانيها لا يعتمد عليها (¬1)؛ لأنهم رووا عن ابن عباس أنه قرأ: {حَتَّى يَلِجَ الجُمَّل فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وزعموا أن المراد بالجُمَّل هو الحبال الغليظة التي تجر بها السفينة، وأن هذه لا تدخل في عين الإبرة. فكل القراءات التي تشير إلى الجُمَّل، أو إلى الجُمَل، أو إلى الجَمْل، أو إلى الجُمْل، وغير ذلك من أنها حبال غليظة لا يمكن أن تدخل في الإبرة، كلها لا معوّل عليها، لأنها قراءات شاذة، ومعانيها غير صحيحة. والتحقيق هو قراءة الجمهور التي عليها السبعة بل والعشرة {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} [الأعراف: آية 40] أي: حتى يدخل البعير الضخم العظيم في ثقب الإبرة. وهذا لا يكون أبداً، فدخولهم لا يكون أبداً. كقول الشاعر (¬2): إذا شَابَ الغرابُ أتيت أهلي ... وصار القارُ كاللّبن الحَليِبِ فالغراب لا يشيب أبداً، والقار -وهو الزفت- لا يَبْيَضُّ أبداً، فلا آتي أبداً. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 428، 431، 433)، القرطبي (7/ 207)، المحتسب (1/ 249). (¬2) مضى قريباً.

وهذا هو معنى قوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} كذلك العذاب -والعياذ بالله- وإدخال النار، وتحريم الجنة {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} المجرمون: جمع تصحيح للمجرم، وهو فاعل الإجرام، والإجرام: ارتكاب الجريمة، والجريمة في لغة العرب (¬1): الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال، ومادته تكون رباعية وثلاثية، تقول: (أجرم) إذا ارتكب الجريمة. وتقول العرب: (جَرَمَ) ثلاثيّاً، والثلاثي لم يرد في القرآن، ولم يرد في القرآن إلا بصيغة الرباعي {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: آية 29] {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هود: آية 35] {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} كله بصيغة الإجرام بالرباعي. أمّا (جرم) الثلاثي فهو مسموع في اللغة وغير موجود في القرآن. ومن أمثلته في اللغة قول الشاعر (¬2): وننصُرُ مولانَا ونعلم أنَّهُ ... كما الناسُ مجرومٌ عليهِ وجارمُ لأن (المجروم) مفعول و (الجارم) فاعل، والمفعول والفاعل لا يأتيان إلا من الثلاثي كما هو معروف في فنِّ التصريف. وهذا معنى قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}. ثم قال: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ} أي: من النّار {مِهَادٌ} المهاد: الفراش. فراشهم من النار {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} الغواشي: جمع غاشية، والغاشية: هي اللحاف الذي يتغطى به الإنسان. معناها: لُحُفُهم التي تغطيهم من النار، وفرشهم التي تحتهم من النار والعياذ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

بالله (¬1). وهذا معنى قوله: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: آية 41] ثم قال: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الواضعين العبادة في غير موضعها، كالمشركين والعياذ بالله. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} [الأعراف: الآيات 42 - 46]. يقول الله جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: الآيتان 42، 43]. لما بيَّن (جلّ وعلا) ما أعدَّ للكفار من العذاب الأليم، وأنه يدخلهم جميعهم النار، وأنهم يلعن بعضهم بعضاً -والعياذ بالله- ويطلب الأتباع زيادة مضاعفة العذاب للمتبوعين، لما بين -والعياذ بالله- ما يناله أصحاب النار من العذاب، وهم الكفرة العتاة ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 435 - 436).

المتمردون، والذين يجاهرون بمعاصي الله -جلّ وعلا- لما بيَّن ما للعصاة والكفار من الوعيد، بين ما للمطيعين المؤمنين من الوعد الكريم، وجرت العادة في القرآن أن الله يجمع بين الوعد والوعيد؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين هما: اجتلاب النفع، واجتناب الضر. فبين ما للمتقين من النفع يوم القيامة، وما للذين لم يتقوا من العذاب والنكال، ليكون الخوف والطمع حافزين للإنسان في دار الدنيا على طاعة الله. ومن أمثال العرب: (سوط وتمرة) (¬1) يعنون بالسوط: الشيء المؤلم الذي يُخاف. وبالتمرة: الشيء الحلو الذي يرغِّب، وهذا كثيرٌ في القرآن -الجمع بين الوعد والوعيد- كقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ (50)} [الحجر: الآيتان 49، 50] وكقوله: {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: الآيات 1 - 3] وكقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: آية 6] والآيات بمثل ذلك كثيرة. {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [الأعراف: آية 42] القاعدة المعروفة عند العلماء أن الإيمان إذا لم يعطف عليه العمل الصالح يشمل جميع خصال الدين من اعتقاديات وعمليات. فالإيمان على مذهب أهل السنة والجماعة قول وعمل، وإذا أُفرد الإيمان شمل جميع مسائل دين الإسلام من الاعتقاد والعمل (¬2). وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الإيمان «بِضْعٌ -في بعض ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (147) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

الروايات: وسَبْعُونَ شُعْبَةً، وفي بعضها:- وسِتُّونَ شُعْبَةً، أعْلاهَا شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» (¬1) فسمى إماطة الأذى عن الطريق إيماناً، وهو من الأعمال. وفي الحديث: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيماناً ... » الحديث (¬2). فسمى الصوم إيماناً «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسَاباً ... » (¬3) الحديث، فسمى صلاة ليلة القدر إيماناً {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: آية 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. وأمثال هذا كثيرة جدّاً. أما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله هنا: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [الأعراف: آية 42] فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى رُكْنِهِ الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما يجب الإيمان به مما بينته السنة الصحيحة والقرآن العظيم؛ لأن العمل هنا نُصَّ عليه في قوله: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ولو لم يُنص على العمل لدخل في الإيمان؛ لأن القلب إذا آمن إيماناً صحيحاً تبعه جميع -سائر- الأعضاء؛ لأن القلب أمير البدن، إذا تَوَجَّهَ إلى جِهَة وجَّه إليها البدن، وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ» (¬4). ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

وقوله: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي: آمنت قلوبهم، وظهرت آثار ذلك الإيمان في القلوب على الجوارح، فعملت الجوارح بطاعة الله جل وعلا. وقوله: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} معناها: عملوا الفعلات الصالحات. والعمل الصالح ضابطه عند العلماء: هو (¬1) ما استكمل ثلاثة أمور، فكل عمل استكملت فيه هذه الأمور الثلاثة فهو صالح، وكل عمل اختل فيه واحدٌ منها أو أكثر، فهو عمل غير صالح: الأول من هذه الأمور الثلاثة: أن يكون ذلك العمل مطابقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لا يقبل التقرُّب إليه بغير ما شرع، فكل مَنْ تَقَرَّبَ إلى الله بعمل لم يشرعه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فعَمَلُهُ مَرْدُود عليه، وذلك التقرُّب لا يزيد من الله إلا بُعْداً. فلو قال جاهل مثلاً: إن صلاة الصبح ركعتان، فهي قليلة، فأنا أريد أن أزيد بركعة تقرباً لله، فيجعلها ثلاثاً كالمغرب، فإنها تبطل وتُرد عليه، ويضرب بها وجهه؛ لأنه جاء بها على غير الوجه الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يزيد ولا ينقص، فالزيادات على ما شرعه الله بدعوى التقرب هي باطلة. مثالها عند العلماء كالورم، فهو زيادة في العين بأن يكون العضو كبيراً وهو في الحقيقة نقصان؛ لأنه ألمٌ وفَسَادٌ، فالذي ينبغي هو اتباع سُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم -كما ينبغي طبق الأصل- من غير أن يزيد وأن لا ينقص. فهذا هو الأول من الأمور الثلاثة، أن يكون مطابقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

فَانتَهُوا} [الحشر: آية 7] ويقول: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: آية 80] ويقول: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: آية 31]. الثاني: أن يكون ذلك العمل فيما بين العَبْدِ وَرَبِّهِ؛ أي: في نية العبد الباطنة التي لا يطلع عليها إلا الله: أن يكون مخلصاً ذلك العمل لله لا يشرك معه فيه غيره. فإن كان ذلك العمل -في نية العبد وباطنه الذي لا يعلمه إلا الله- غير خالص لله فليس بعمل صالح، وإنما هو عمل طالح؛ لأن الله يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5] فالذي عَبَد الله بغير الإخلاص له جاء بما لم يؤمر به، والله يقول: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (11)} [الزمر: آية 11] وفي الآية الأخرى: {مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} [الزمر: آية 15]. فالأول: مطابقة الشرع في الظاهر. والثاني: الإخلاص من العبد فيما بينه وبين الله في السر الذي لا يعلمه إلا الله. والثالث: أن يكون ذلك العمل مبنيّاً على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة؛ لأن العقيدة الصحيحة كالأساس، والعمل كالسقف، فإذا وجد السقف أساساً ثبت عليه، وإن لم يجد أساساً انهار، فالذي ليس عنده عقيدة صحيحة لو عمل الأعمال المطابقة، وأخلص فيها لله لا تنفعه في الآخرة؛ لأنها لم تُبْنَ على أساس؛ ولهذا يقول الله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: آية 124] فيشترط الإيمان بالعقيدة

الصحيحة. ويقول في عمل غير المؤمن: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (23)} [الفرقان: آية 23] ويقول في أعمال غير المؤمنين: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: آية 18] وفي آية: {كَسَرابٍ} [النور: آية 39] فأعمالهم باطلة -والعياذ بالله- فالكفار الذين لا عقيدة لهم ولا إيمان بالعقيدة الصحيحة قد يعملون أعمالاً صالحة يريدون بها وجه الله، كأن يبرّ الواحد والديه، وينفس عن المكروب، ويقري الضيف ويعين المظلوم، فهذه أعمال صالحة أخلص فيها لله ولكنها لا تنفعه يوم القيامة؛ لأنها لم تبُنَ على أساس عقيدة صحيحة، وإيمان بما يجب الإيمان به في الكتاب والسنة، لكن أعمال الكفار إن وقعت في الدنيا صالحة مطابقة للشرع مخلصون فيها يثيبهم الله بها في دار الدنيا؛ لأن الله لا يضيع عنده شيء، كما قال جل وعلا: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [وَهُمْ فِيَها لاَ يُبْخَسُونَ (15)] [7/ب] /أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16)} [هود: الآيتان 15، 16] وثبت في صحيح مسلم من حديث أنس (¬1) أن الله (جلَّ وعلا) يطعم الكافر بحسناته في الدنيا حتى يرد على الله يوم القيامة ولا جزاء له. وهو أحد التفسيرين في قوله (جل وعلا): {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: آية 39] فأحد التفسيرين: فوفاه حسابه في دار الدنيا، يعني: عمل الكافر بالعافية والمال والرزق والتنعم في الدنيا على أحد القولين كما سيأتي. ¬

(¬1) مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا ... حديث رقم (2808)، (4/ 2162).

فحيث اجتمعت هذه الأمور الثلاثة - بأن كان العمل مطابقاً للشرع، وصاحبه مخلص فيه فيما بينه وبين الله، وكان صاحبه بانيه على عقيدة صحيحة - فهذا عمل صالح ينفعه يوم القيامة، وهو الذي وعد الله أهله بالجنة في هذه الآية التي نحن بصددها وغيرها من الآيات، وحيث اختل أحد تلك الأمور الثلاثة لم يكن عملاً صالحاً كما بَيَّنَّا. وقوله: {الصَّالِحَات} [الأعراف: آية 42] أصله يستشكل طالب العلم: ما مفرد الصالحات؟ لأن العمل الصالح لا يجمع على صالحات. وإذاً فما مفرد الصالحات؟ والتحقيق أن مفرد الصالحات: صالحة؛ لأن العرب تسمي الخصلة (¬1) الطيبة: حسنة، وتسميها: صالحة. وهذا معروف في كلامهم، تقول مثلاً: فعل فلان حسنة، وفعل صالحة. كما قال تعالى: {مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ} [االأنعام: آية 160] أي: بالخصلة الحسنة، وكذلك من فعل الصالحة كالحسنة، أي: هي الخصلة الطيبة التي ترضي الله. وهذا معروف في كلام العرب. ومن إطلاق الصالحة على الخصلة الطيبة: قَوْلُ أبي العاص بنِ الرَّبِيع في زَوْجِهِ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبياته المشهورة (¬2): ذَكَرْتُ زَيْنَبَ بَالأَجْزَاعِ مِنْ إِضَما ... فَقُلْتُ سَقْياً لِشَخْصٍ يَسْكُنُ الحَرَمَا بِنْتُ الأَمِينِ جَزَاكِ اللهُ صَالِحَةً ... وَكُلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِالَّذِي عَلِمَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (160) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

فقوله: «صالحة» أي: خصلة حسنة. ومنه بهذا المعنى قول الحطيئة (¬1): كيفَ الهجاءُ ولا تنفكُّ صالحة ... من آل لأْمٍ بظهرِ الغَيبِ تَأْتِينِي يمدح بني لأم من الطائيين يقول: كيفَ الهجاءُ ولا تنفكُّ صالحة ... ................................. أي: فعلة صالحة طيبة. ........................... ... من آلِ لأْمٍ بظهرِ الغيبِ تأتيني وسُئِل أعرابي فقيل له: ما الحب؟ فقال (¬2): الحُبُّ مَشْغَلةٌ عَنْ كُلِّ صَالحةٍ ... وسَكْرَةُ الحُبِّ تَنْفِي سَكْرَةَ الوَسَنِ وقوله: «عن كل صالحة» أي: كل خصلة طيبة. فمعنى {وَعمِلُوا الصَّالحَاتِ} [الأعراف: آية 42] فعلوا في دار الدنيا الفعلات - الخصلات - الطيبات من كونها مطابقة للشرع، وكون فاعلها مخلصاً فيها لله، مبنية على عقيدة صحيحة، وإيمان صحيح بالله وبِرُسُله، وبكل ما يجب الإيمان به. وقوله: {لاَ نُكَلّفُ نَفساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأعراف: آية 42] جملة اعتراضية بين المبتدأ وخبره، واعتراضها هنا من ألطف شيء؛ لأن الله لمَّا بين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلون الجنة كأنه قال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة، هم فيها خالدون. فكأن الإنسان يخطر في ذهنه أولاً: الجنةُ مع عظمها وما ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (160) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

فيها من الملاذ والكرامات لا يمكن أن يستحقها أحد إلا بعد تعب هائل، وعناء شديد عظيم طويل، فبين الله أنه في هذه الشريعة السمحة التي جاء بها هذا النبي الكريم، أن الجنة تنال -مع عظم قدرها، وما فيها من اللذات والكرامة، وجميع الخيرات- بعملٍ سهل، لا مشقة فيه، ولا عناء ولا تعباً شديداً فيه؛ ولذا قال قبل أن يأتي بالخبر الذي هو: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: آية 42] قال: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} اعلموا أن جنتي التي بَينت لكم ما فيها من الخير، وما فيها من النعيم، والحور، والولدان، والجنان، والأشجار المثمرة، والغرف العالية، وأنهار العسل، والماء، واللبن، والنساء الحسان، وغير ذلك من اللذات والمكارم ونضرة النعيم والخلود الذي لا يزول، الذي لا يداخله سقم ألبتة، ولا هرم ولا مرض. اعلموا أن هذه الجنة التي هي بهذه المثابة من العظَم، وعلو الأمر، وارتفاع الشأن، أني أدخلكم إياها على عمل ليس بالصعب، ولا بالشديد، لا يستلزم المشقة الفادحة، ولا العناء العظيم، بل هو سهل خفيف، لا نكلف أحداً فيه إلا ما يطيقه، فمن عجز عن أن يصوم لسفر أو مرض أفطر ثم صام عدة من أيام أُخر، ومن لم يستطع الصلاة قائماً فليصل قاعداً، وهكذا، كما قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: آية 119] فإنه عند الضرورات يبيح لكم ما كان محرَّماً، ويخفف عليكم عند المشقات، والتخفيف عند المشقات إحدى القواعد الخمس التي بني عليها الفقه الإسلامي، وهي معروفة في الأصول (¬1): ¬

(¬1) هذه القواعد الخمس يصدّر بها غالباً أصحاب القواعد كتبهم المصنفة في هذا الباب، كالسيوطي في الأشباه والنظائر وغيره.

الأولى منها: الضرر يزال. الثانية: المشقة تجلب التيسير. وهو هذه. الثالثة: لا يرتفع يقين بشك. الرابعة: أن أعمال الناس ومعاملاتهم تبعٌ لأعرافهم وعوائدهم وما يعرفون. الخامسة: الأمور بحسب مقاصدها. والشاهد أن منها: المشقة تجلب التيسير {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأعراف: آية 42] أي: طاقتها. فالوسع: الطاقة. أي: لا نكلف أحداً ما يعجز عنه أو يشق عليه مشقة عظيمة، فالوسع: الطاقة التي يكون صاحبها في اتساع، ولا يرهقه ضيق عظيم هائل. وهذا مما يبين أنَّ الله يسَّر الوصول إلى هذه الدار الكريمة، وهي الجنة، على لسان هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. فقد وضع في شريعته وعلى لسانه الآصار والأثقال، وأغلال التكاليف الشاقة التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا، وجاء بها حنيفيَّةً سَمْحَةً هيِّنَةً لا ضيق فيها {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: آية 78] {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: آية 185] ولهذه الحكمة جاءت الجملة الاعتراضية بين المبتدأ والخبر {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: طاقتها وما تفعله في سعة لا يرهقها فيه ضيق وعناء شديد. ثم جاء بالخبر: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: آية 42] {أُولَئِكَ} مبتدأ و {أَصْحَابُ} خبره، والمبتدأ وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو الموصول في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} خلوداً أبديّاً {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:

آية 108] {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: آية 108] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54)} [ص: آية 54] لا يمرضون، ولا يشيبون، ولا يزول عنهم النعيم، بل هم في سرور ونعيم دائم، يتمتعون بأنواع المآكل، والمشارب، والمفارش، والمناكح، إلى غير ذلك ممَّا بَيَّنَهُ الله في آيات كثيرة. وقد قدمنا (¬1) أن الجنة في لغة العرب: البستان؛ لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه. وجاء في القرآن إطلاق الجنة على البستان كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: آية 17] وهي قصة بستان معروف في أطراف اليمن، كما يأتي في تفسير سورة القلم إن شاء الله. وكقوله جلّ وعلا: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [الكهف: آية 35] إلى غير ذلك من الآيات. ومن إطلاق العرب الجنة على البستان كما قدمنا قول زهير (¬2): كَأَنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَي مُقَتَّلَةٍ ... من النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقا يعني بقوله: «جنة»: بستان نخل. وقوله: «سُحُقا» جمع سَحُوق، والسَّحوق: النخلة الطويلة. أما الجنة في اصطلاح الشرع: فهي دار الكرامة التي أعد الله لعباده المؤمنين، وهي شجرة مثمرة، ونهر مطَّرد، وغرفة عالية، وزوجة حسناء، ورضى لا سخط بعده، والمؤمنون فيها ينظرون إلى وجه الله الكريم، كما جاء في آيات وأحاديث صحيحة، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله. وهذا معنى قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: آية 42] ومن أعظم السرور: الخلود؛ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام.

لأن أكبر ما يُنكد اللَّذائذ، وينغص اللذات، أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها، وأنها زائلة عنه، فترى الإنسان في سرور متمتعاً بنسائه الحسان، وماله، ونعيمه، ولذاته في الدنيا، فإذا خطر على قلبه أنه يموت، وتنكح نساؤه بعده، وتقسم أمواله، تكدرت عليه تلك اللذائذ وبقي مهموماً؛ ولذا كان الخلود الأبدي وعدم الانقطاع هو ما تتم به اللذة في [الآخرة] (¬1)؛ ولذا قال الله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يزولون عنها أبداً، فلا تورث ديارهم من بعدهم، ولا تُنكح نساؤهم من بعدهم، ولا يصير ما عندهم من النعيم لأحدٍ بعدهم، هم خالدون في ذلك النعيم، وقد صدق من قال (¬2): أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالا فالسرور إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار عليه غمّاً. وقد أوضح هذا بعض الشعراء فقال (¬3): أُحِبُّ لَيَالي الهَجْرِ لاَ فَرَحاً بِهَا ... عَسَى الدَّهْرُ يَأْتِي بَعْدَهَا بِوِصَالِ ... وَأُبْغِضُ أَيَّامَ الْوِصَالِ لأَنَّنِي ... أَرَى كُلَّ وَصْلٍ مُعْقَباً بِزَوَالِ فالفكرة بالزوال تُكَدِّرُ اللَّذَّات الحاضِرَة؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت، ويقال للموت: هاذم اللذات؛ لأن مَنْ تَذَكَّرَهُ ضَاعَتْ عليه لذته التي هو فيها؛ لأنه يقطعها؛ ولذا قال: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: آية 42] لا يزول عنهم ذلك النعيم حتى تتكدر غبطتهم به بزواله. ¬

(¬1) في الأصل: «الدنيا»، ولعله سبق لسان. (¬2) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (بشرح العكبري 3/ 224)، شواهد الكشاف ص100. (¬3) البيتان في كتاب ألف ليلة وليلة ص1436.

قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: آية 43]. {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: آية 43] لما كان أهل الدنيا على مصادقتهم والقرابات بينهم يكون بينهم الغل، والغش، والبغضاء، والحسد، بيّن الله أن أهل الجنة سالمون من هذا الداء الذي يصاب به أهل الدنيا. {وَنَزَعْنَا} صيغة الجمع للتعظيم، والله (جلَّ وعلا) هو الذي نزع {مَا فِي صُدُورِهِم} أي: صدور عبادنا المؤمنين الذين هم أصحاب الجنة، نزعنا جميع ما في صدورهم من غلّ. واختلفت عبارات العلماء في الغلّ إلى معاني متقاربة (¬1)، والظاهر أنه يشملها كلها، فبعضهم يقول: الغلّ: الحقد الكامن، وبعضهم يقول: هو البغض، وبعضهم يقول: هو الحسد والكراهية. وهو يشمل ذلك كله؛ لأن الإنسان قد يكون في قلبه للآخر حقد كامن، وحسد، وبغض، يكون هذا بين الآدميين، فالله (جلّ وعلا) يوم القيامة ينزع من صدور المؤمنين في الجنة جميع الأحقاد، فلا يكون هنالك أحدٌ يضمر حقداً لأخيه، ولا بغضاً، ولا حسداً، ولا غشّاً، بل ليس بينهم إلا التوادّ الكامل، والتعاطف والتناصح، يحب بعضهم بعضاً، ومن آثار ذلك أن منازلهم متفاوتة ينظر بعضهم منازل بعضٍ فوقه كما ننظر النجم في السماء، ومع ذا لا يحسده على ارتفاع منزلته عليه، بل هو يحبه ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 438)، القرطبي (7/ 208).

ولا يضمر له في ذلك حسداً ولا غِلاً، وذكر غير واحد عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: «أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}» ذَكَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ (رضي الله عنه) غير واحد؛ قتادة وغيره، وكثير من طُرُقِهِ فيها انقطاع، والله أعلم بصحته إليه، ولكنه مشهور فائض على ألسنة المفسرين والعلماء والله أعلم بصحته عنه (¬1)، ولا شك أنهم إن كان بينهم في الدنيا شيء؛ لأن طلحة والزبير ممّن قاتل عليّاً (رضي الله عنه) يوم الجمل، وبعضهم يزعم أنه كان بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشيء، مع أن الذي يظهر أن عليّاً وعثمان لم يكن أحدهما يضمر للآخر إلا الطَّيِّب، وكان تسليم الحسن بن علي رضي الله عنه الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عن الجميع) فيها أعظم منقبة لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)؛ لأن كثيراً من الناس كانوا يتهمون عليّاً (رضي الله عنه) بما هو بريء منه، أن له ضلعاً في قتل عثمان، وأنه كان يقول له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان من أمّه، يعرّض بعلي (¬2): ¬

(¬1) الأثر في ابن أبي شيبة (15/ 269، 281 - 282)، وابن جرير (12/ 438)، وابن سعد (3/ (القسم الأول) ص80، وابن أبي عاصم في السنة (1215)، واللالكائي (2573)، والحاكم (3/ 105) وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 97) وعزاه للطبراني في الكبير. وأورده ابن كثير (2/ 215)، والسيوطي في الدر (3/ 85) والزيلعي في تخريج الكشاف (1/ 462)، وابن حجر في تخريج الكشاف ص6، ورواية ابن سعد وابن جرير منقطعة، بخلاف رواية ابن أبي شيبة. وانظر: الفتح السماوي (2/ 635 - 636). (¬2) البيتان في تاريخ دمشق (56/ 227)، مختصر تاريخ ابن عساكر (مختصر ابن منظور) (26/ 346)، الكامل للمبرد (2/ 916)، مع شيء من الاختلاف في الروايات.

بَنِي هَاشِمٍ رُدّوا سِلاحَ ابْنِ أُخْتِكُمْ ... وَلاَ تنهبُوه لاَ تَحِلُّ مَنَاهبُهْ ... بَنِي هَاشِمٍ كيْفَ التَّعَاقُدُ بَيْنَنَا ... وَعِنْدَ عَلِيٍّ سَيْفُه وحَرَائِبُهْ وكانوا يظنون بأمير المؤمنين علي (رضي الله عنه وأرضاه) أنه مقصِّر في القَوَد من قَتَلَة عثمان، وأنه قادر على أن يقتلهم، وأنه مقصّر، فلما سلّم الحسن (رضي الله عنه) الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان -مصداقاً لحديث جدّه: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِي» (¬1) - فصار الأمر كله إلى معاوية، وهو وليّ الدم الذي كان يطالب به في أهل الشام، وكان امتناعه من بيعة عليّ لا يعلله بعلّة إلا أنه يُمَكِّن من قَتَلَة عثمان فيقتلهم قصاصاً، ثم يبايع عليّاً، فلما خلصت الخلافة لمعاوية ولم يبق له منازعٌ أبداً، واجتمعت عليه كلمة المسلمين، وصار والياً على جميع المسلمين لا منازع له، لما سلّمه الحسن الخلافة -رضي الله عنه- لم يستطع معاوية أن يقتل واحداً كائناً ما كان ممن قتلوا عثمان -رضي الله عنه (¬2) - فتبينت بذلك براءة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه وأرضاه- مما كانوا يتهمونه به، فصار في تسليم الحسن الخلافة لمعاوية أعظم منقبة لعلي -رضي الله عنه- وأعظم براءة مما كان يُتَّهمُ به مِمَّن لا يعلم ولا يقدّر فضله رضي الله عنه. وقوله جلّ وعلا: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: آية 43] قال بعض العلماء: الله ينزعه من صدورهم بعد أن يدخلوا الجنة. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (85) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: عيون الأخبار لابن قتيبة (1/ 14).

وقال بعض العلماء: ينشئهم النشأة الجديدة على فطرة سليمة خالية من الأحقاد. فظاهر الآية أنَّهُمْ يَوْمَ القيامة يبعثون وهو موجود فيهم، إلا أن الله يسله وينزعه منهم (¬1)، بدليل قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: آية 43] وقد قال في سورة الحجر {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: آية 47] وهذا من أعظم كمال اللذات حيث يكون الإنسان خالداً مخلداً، وحيث يكون هو وإخوانه ورفقاؤه في ذلك النعيم ليس بين اثنين منهم شحناء، ولا عداوة، ولا حقد، ولا حسد، ولا مخاصمة، وكل هذا من كمال النعيم. وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف: آية 43] أعربه بعضهم حالاً، وبعضهم منع إتيان الحال هنا لأنه قال: {وَنَزَعنَا} فاعلها لا دخل له في الجملة فلا يمكن أن تكون حالاً، وبعضهم يقول: يصح أن تكون حالاً. فعلى أن الجملة حالية فلا إشكال، وعلى امتناع الحالية فيها -كما زعمه بعض علماء العربية- فهي كلام آخر مستأنف مما يعطيهم الله (¬2). {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} أي: من تحت قصورهم وغرفهم العالية {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} سائلة. يقول بعض العلماء: أنهار الجنة تجري في غير أخدود (¬3). ويذكرون أن المؤمن في غرفته العالية قد يشير إلى النهر تحته فيصعد إليه حتى يقضي منه حاجته. كما يأتي في تفسير قوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان: آية 6] ¬

(¬1) في هذه المسألة انظر: ابن جرير (12/ 439)، ابن كثير (2/ 215). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 298)، الدر المصون (5/ 323). (¬3) انظر: ابن جرير (1/ 384).

ولا غرابة في ارتفاع الماء إلى ولي الله في غرفته من الأرض؛ لأنه يشاهد في الدنيا ما هو أعظم من هذا وأغرب؛ لأنك أيام البلح تأخذ بلحة من نخلة طويلة سحوق، فإذا ضغطت على البلحة بضرسك طار منها الماء!! وهذا الماء إنما أَخَذَتْهُ من عروقها، فصعد من ثرى الأرض ومن عروق النخلة وطلع مع هذا الجذع القوي الخشن، طلع معه الماء ورفعه الله من هذا البعد العالي بقدرته، فمن فعل هذا فلا يصعب عليه أن يرفع الماء إلى غرف المؤمنين العالية. وهذه الأنهار مختلفة الألوان والأشكال، كما قال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: آية 15]. وهذا معنى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيم} (¬1) [يونس: آية 9] تارة يفرد الجنة نظراً إلى أنها اسم جنس، وتارة يجمعها. وإضافتها إلى النعيم لأنهم يتنعمون فيها بجميع اللذائذ، وتظهر على وجوههم نضرة النعيم، فهم في غاية النعيم، والنعيم ضدّ البؤس، فهم في نعمة دائمة ظاهرة آثارها على أبدانهم، في نضرة وجمال وسرور وغبطة، لا يشيبون ولا يهرمون ولا يمرضون؛ ولذا قال: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: آية 9]. {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: آية 43] بين الله ¬

(¬1) في هذا الموضع وقع للشيخ (رحمه الله) سهو حيث ساق خاتمة الآية التي في سورة يونس: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وفسر هذا القدر منها، وقد نُبِّه الشيخ -رحمه الله- على ذلك أثناء الدرس ولم يتفطن له. وعلى كلٍّ فلم يفت من تفسير آية الأعراف شيء، وإنما صار الكلام على ذلك القدر من سورة يونس من باب الزيادة.

أنه لما أدخل أهل الجنة الجنة حمدوا الله على نعمه، وذلك ذكره عنهم في مواضع كثيرة كقوله عنهم أنهم قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: الآيتان 34، 35] وقال عنهم هنا أنهم حمدوه أيضاً فقالوا: {الحَمْدُ لله} الحمد (¬1): معناه كل ثناءٍ جميل ثابت لله (جل وعلا)؛ لأنه يستحقه لذاته؛ ولأنه يستحقه علينا بما أنعم علينا حيث أدخلنا هذا النعيم الخالد الذي لا يزول. {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} أي: وفقنا للطريق التي ينال بها هذا الثواب العظيم وهو الجنة. نحمد الله على أن وفقنا في دار الدنيا، وهدانا إلى الإيمان به واتباع رسله حتى نِلْنَا بذلك العَمَلَ الصَّالِحَ هذا الجزاء المقيم، والنعيم العظيم. {الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} ثم قالوا: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف: آية 43] هذه اللام هي التي تسمى في النحو بلام الجحود، وهي تؤكد النفي، تؤكد نفي هدايتهم لولا أن الله هداهم، وتسمى لام الجحود ولا تكون إلا بعد كونٍ منفي، نحو: ما كان، ولم يكن، والفعل منصوب بعدها بـ (أن) مضمرة (¬2). {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} إلى الطريق التي هذا ثوابها وجزاؤها {لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} [الأعراف: آية 43] المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في محل رفع؛ لأن ما بعد (لولا) مبتدأ خبره محذوف غالباً. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام.

والمعنى: لولا هداية الله موجودة لما نلنا هذا الجزاء، ولما هُدينا إلى هذا العمل الذي هذا جزاؤه. وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا الشامي، أعني ابن عامر: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} وقرأه ابن عامر وحده: {ما كنا لنهتدي} بلا واو (¬1). والمصاحف التي أُرسلت إلى الشام ليس فيها الواو، وإنما فيها: {ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} بلا واو، وهما قراءتان سبعيتان، ولغتان فصيحتان؛ ولأجل هذا الاختلاف بزيادة حرفٍ في بعض القراءات الصحيحة وحذفه من القراءات الأخرى كان ذلك سبب تعدد نسخ المصحف العثماني، تعدد نسخه لتكون نسخة فيها الواو ونسخة لا واو فيها، فبعض المصاحف التي أُرسلت إلى الشام ليس فيها الواو وإنما فيها: {ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} بلا واو، وهي قراءة الشامي، وهو ابن عامر. وهذا معنى قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله}. ثم قالوا على سبيل الفرح والغبطة والسرور: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: آية 43] والله لقد جاءتنا رسل ربنا في دار الدنيا بالحق؛ لأن العمل الصالح الذي أَمَرَتْنَا به، والجزاء الذي وَعَدَتْنَا أن نناله هذا هو قد تحقق لنا، ودخلنا الجنة التي كانوا يعدوننا في دار الدنيا على الأعمال الصالحة. والله لقد جاءتنا رسل ربنا في دار الدنيا بالحق الثابت الذي لا شك فيه فما كذبونا ولا دلسوا لنا، وإنما جاءونا بالحق. وقالوا هذا على وجه السرور والغبطة؛ لأن من دخل في غبطة وسرور يتكلم بهذا الكلام تلذذاً لا يقصد غير ذلك. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص208.

ولما قالوا هذا الكلام: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} قالوا هذا {وَنُودُواْ} [الأعراف: آية 43] أي: نودوا من قِبَل الله، ناداهم الله أو ملك من الملائكة بأمر الله {أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} [الأعراف: آية 43] (أن) هذه فيها وجهان (¬1): زعم بعضهم أنها المخففة من الثقيلة. و (أنْ) إذا خففت من الثقيلة - (أن) المفتوحة - لم يبطل عملها، ويكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبرها. وأظهر القولين أنها هنا هي التفسيرية. ومعنى التفسيرية أن ما بعدها يفسر ما قبلها، فنفس النداء الذي نودوا به هو قوله: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: آية 43] وضابط أَنْ التفسيرية: التي يكون ما بعدها تفسيراً لما قبلها هي أن يتقدمها ما فيه معنى القول وليس فيه حروف القول (¬2)، أعني: (القاف، والواو، واللام) وقد تقدمها ما فيه معنى القول؛ لأن النداء فيه معنى القول، وليس فيه حروف القول، فيظهر أنها تفسيرية، خلافاً لمن زعم أنها مخففة من الثقيلة. {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} (تلك) إشارة إلى الجنة، نظراً إلى أنها اسم جنس. وقوله: «كُم» هو حرف خطاب للمخاطبين؛ لأنهم جمعٌ كثير {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} معناه: أعطيتموها. فإيراث الجنة: إعطاؤها وليس المراد به أنها مأخوذة من أموات كميراث الميت، كما يزعمه بعضهم، بل المراد بإيراثها: أن الله أعطاهم إياها، وأدخلهم إياها، وأباحها لهم، خلافاً لمن زعم أن معنى إيراثهم لها أن الله جعل لكل نفس منفوسة مسكناً في الجنة ومسكناً في النار، فإذا أدخل أهل الجنة ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 300)، الدر المصون (5/ 324). (¬2) مضى عند تفسير الآية (111) من سورة الأنعام.

الجنة، وأهل النار النار اطلع أهل الجنة على مساكنهم في النار -لو أنهم كفروا بالله وعصوه- لتزداد غبطتهم وسرورهم، وعند ذلك يقولون: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} [الأعراف: آية 43] ثم إنه يطلع الكفار على منازلهم في الجنة -لو أنهم آمنوا وأطاعوا الله - لتزداد ندامتهم وحَسْرَتُهُمْ، وعند ذلك يقول الواحد منهم: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: آية 57] قالوا: ثم إن الله يُعْطِي مَنَازِلَ أهْلِ النَّارِ في الجنة لأهل الجنة، وكأَنَّ أهل النار أموات؛ لأن من في العذاب الذي هم فيه ميت؛ لأنهم يتمنون الموت فلا يجدونها (¬1)، فكأنهم ورثوها عنهم. وهذا وإن جاء به حديث فلا يصلح لتفسير الآية؛ لأن الله قال: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: آية 43] ولم يقل: «أورثتموها من أهل النار». فصرح أنه أورثهم إياها بما كانوا يعملون، أي: بسبب ما كنتم تعملون في دار الدنيا من طاعة الله. وتمسك المعتزلة بظاهر هذه الآية وأمثالها من الآيات فقالوا: إن العبد هو الذي خلق فعل نفسه في الطاعات، واستحق به الجنة لا بفضلٍ من الله -جل وعلا- أعاذنا الله من مقالتهم. وهنا يشنع الزمخشري في تفسير هذه الآية (¬2) -لأنه معتزلي- على من يقول: إنهم دخلوا الجنة بفضل الله ورحمته فيقول: قال المبطلة: إنهم دخلوها بفضل الله، والله يقول: إنهم دخلوها بأعمالهم. وهذا جهل من المعتزلة وعدم علم بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الحديث الصحيح ¬

(¬1) هكذا العبارة، ويمكن حملها على الأمنية. (¬2) انظر: الكشاف (2/ 63).

أنه قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» (¬1) وهذا الحديث الصحيح أصله فيه إشكال بينه وبين هذه الآيات التي يستدل بها المعتزلة، كقوله هنا: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (63)} [مريم: آية 63] وأمثال ذلك. وللعلماء أجوبة كثيرة عن الإشكال بين الحديث وبين هذه الآيات وما جرى مجراها من الآيات (¬2)، وأظهر أوجه التوفيق عندنا: أن العمل الصالح لا ينفع صاحبه إلا إذا تَقَبَّلَهُ الله منه، ولا يَعْمَلُ عَمَلاً صالحاً إلا إِذا وفَّقَه الله إليه وأعانَهُ عليه. فلما كان العمل الصالح الذي ¬

(¬1) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، منهم: 1 - أبو هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، حديث رقم (6463)، (11/ 294). ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله ... ، حديت رقم (2816)، (4/ 2169). 2 - عائشة (رضي الله عنها)، عند البخاري في الموضع المتقدم، حديث رقم (6464، 6467)، (11/ 294)، ومسلم في الموضع المتقدم من صحيحه، حديث رقم (2818)، (4/ 2171). 3 - جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، عند مسلم، في الموضع المتقدم من صحيحه. حديث رقم (2817)، (4/ 2170). (¬2) انظر: شرح الطحاوية ص641، ولشيخ الإسلام (رحمه الله) رسالة تعرف بـ (رسالة في دخول الجنة، هل يدخل أحد الجنة بعمله أم ينقضه قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» وهي ضمن جامع الرسائل (1/ 143)، وانظر حادي الأرواح ص61.

هو سَبَب دخول الجنة لا ينفع إلا إذا تَقَبَّلَه الله، ولو شاء لم يَتَقَبَّلْهُ، ولا ينفع إلا إذا وفَّقَ الله إليه ولو شاء لم يوَفِّق إليه، صار كل شي بفضله ورحمته -جلّ وعلا- كما هو الحق وهو الصواب. وهذا معنى قوله: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: آية 43] أي: في دار الدنيا من طاعات الله، ودخلتموها بفضل الله ورحمته حيث تقبل منكم تلك الأعمال الصالحة، ووفقكم إلى فعلها في دار الدنيا، وأعانكم عليها برحمته وفضله، وتقبلها منكم، فلو لم يوفقكم لها ويعنكم عليها لما قدرتم على فعلها، ولو لم يَتَقَبَّلْهَا منكم لما نفعتكم أبداً، وكل هذا بفضله ورحمته جلّ وعلا. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ (44)} [الأعراف: آية 44] بين (جلّ وعلا) أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وبيّن ما يقوله أهل النار في النار من التخاصم، ولَعن بعضهم لبعض: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} وسؤال بعضهم مضاعفة العذاب لبعض، وما يقوله أهل الجنة من حمد الله، والثناء عليه للتوفيق، والغبطة بالخلود، ونزع الأحقاد والغلال (¬1) التي كانت بينهم، لما بيّن هذا كله بيَّن أن أهل الجنة ينادون أهل النار كالموبخين على نوع من التوبيخ والشماتة بهم؛ لأنهم كانوا يكذبون في الدنيا بالنار والجنة. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} وهذا النداء للعلماء فيه سؤالات: هل نادى جميع أهل الجنة جميع أهل النار؟ أو نادى بعضهم بعضاً؟ وظاهر القرآن أنه نداءٌ عام. وقال بعض العلماء: كل ¬

(¬1) هكذا العبارة. ولم أقف على من جمع (الغِلّ) على (الغِلاَل).

ناسٍ من المؤمنين ينادون من كانوا يعرفونهم في الدنيا من الكفار: يا أصحاب النار هل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟ فنحن وجدنا ما وعدنا من النعيم حقّاً، فهل وجدتم ما كان يقال لكم من الوعيد بالعذاب حقّاً (¬1)؟ {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا} (أَنْ) هذه كالتي قبلها في القول بأنها تفسيرية أو مخففة من الثقيلة. وقد ذكرنا الكلام عليها آنفاً (¬2). {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من الجنة، والنعيم المقيم، والخلود الأبديّ في نعمِ الله، وجدناه حقّاً من الله، وصَدَقَنا وعده {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: آية 74] فوجدنا وعد الله بالنعيم، والخلود الأبدي في الجنة على ألسنة الرسل، وجدناه حقّاً، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من العذاب، والنكال، ودخول النار، هل وجدتموه حقّاً؟ وهذا سؤال توبيخ وتقريع وشماتة، والعياذ بالله. قالوا في ذلك الوقت معترفين حيث لا ينفع الاعتراف، نادمين حيث لا ينفع الندم: {قَالُواْ نَعَمْ} [الأعراف: آية 44] وجدنا ما وعده الله من العذاب والنكال على ألسنة الرسل حقّاً، ووجدنا أن تكذيبنا به في دار الدنيا سفاهة منا وجناية على أنفسنا. وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا عليّاً الكسائي {قَالُواْ نَعَمْ} بفتح النون والعين. وقرأه الكسائي وحده: {قالوا نَعِم} (¬3) و (نَعَم) ¬

(¬1) انظر: الألوسي (4/ 122). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 325)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية السابقة. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص209.

و (نَعِم) لغتان كلاهما تأتي بمعنى الأخرى على الصواب. و (نَعَم) لا تكون جواباً إلا لاستفهام مُثْبَت، ولا تكون جواباً لاستفهام منفي، فلو كانت الآية: «ألم تجدوا ما وعدكم ربكم حقاً؟» بالنفي لما جاز أن يجاب بـ (نعم) وإنما يجاب بـ (بلى) هذا هو المعروف؛ لأن المكان الذي تصلح به (بلى) لا تصلح به (نعم) والمكان الذي تصلح به (نعم) لا تصلح به (بلى). و (بلى) تأتي في اللغة العربية وفي القرآن العظيم لمعنيين لا ثالث لهما: أحدهما: أن (بلى) تأتي لنفي النفي، فهي نقيضه (لا) لأن (لا) لنفي الإثبات، و (بلى) لنقيض النفي، فإذا جاء نفي في القرآن ثم جاءت بعده (بلى) فإن (لا) تنفي ذلك النفي، ونفي النفي إثبات. فيصير ما بعد (بلى) إثبات؛ لأنها نفت النفي الذي قبلها، ونفي النفي إثبات. وهذا كثيرٌ في القرآن، كقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا} نفوا البعث بأداة النفي التي هي (لن) {قُلْ بَلَى} فنفى الله نفيهم للبعث، فثبت البعث؛ ولذا قال: {وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: آية 7] وكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: آية 3] نفوا إتيان الساعة بحرف النفي الذي هو (لا)، قال الله: {بَلَى} [سبأ: آية 3] فنفت نفيهم، وأثبتت إتيان الساعة؛ ولذا قال بعده: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: آية 3] وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. المعنى الثاني: أن تأتي (بلى) جواباً لاستفهام مقترن بالنفي خاصة، لا لاستفهام إيجابي، كقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: آية 172] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} [يس: آية 81] وهكذا. ولا يجوز أن يقال في هذا: نعم. أما إن كان السؤال بالإثبات فالجواب بـ (نعم) لا بـ (بلى) فلو

قلت: هل جاء زيد؟ فالجواب: نعم قد جاء زيد. وقلت: أليس زيد قد جاء؟ فالجواب: بلى. لا بـ (نعم) (¬1). وما سُمع من كلام العرب في إتيان (نعم) بعد الاستفهام المقترن بالنفي الذي هو موضع (بلى) فإنه شاذّ يُحفظ ولا يُقاس عليه. وقد سُمع في كلام العرب إتيان لفظة (نعم) في محل (بلى) في الاستفهام المقترن بالنفي، ومن شواهده قول الشاعر (¬2): أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا؟ فَذَاكَ لنَا تَدَانِ ... نَعَمْ، وَتَرَى الهِلالَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلانِي فالمحل هنا (بلى) لا لـ (نعم) لأن الاستفهام مقترن بنفي، وإنما يُحفظ مثل هذا ولا يقاس عليه. وقوله: {قَالُواْ نَعَمْ} [الأعراف: آية 44] هو حرف إثبات، جوابٌ لاستفهام إثبات. معناه: وجدنا ما وعدنا ربنا من العذاب الأليم والنكال وجدناه حقّاً. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: آية 44] التأذين في لغة العرب: الإعلام. تقول العرب: أذّن الرجل: إذا أَعْلَم. ومنه الأذَان لِلصَّلاةِ؛ لأنه الإعلام بدخول وقتها، ودعاء الناس {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء} [الأنبياء: آية 109] أعلمتكم، وآذَنَهُ: إذا أعْلَمَهُ (¬3). ومنه ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 210)، الدر المصون (5/ 326)، رصف المباني ص157، 364. (¬2) البيتان في الأمالي للقالي (1/ 282)، رصف المباني ص365، الدر المصون (1/ 456). (¬3) انظر: المفردات (مادة: أذن) ص70.

قول الحارث بن حِلِّزة (¬1): آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أي: نادَى مُنَادٍ بِصَوْتٍ عَالٍ، وأعلم مُعلم {بَيْنَهُمْ} قرأ هذا الحرف عامة القراء إلا ورشاً عن نافع: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} بهمزة محققة. وقرأه ورش وحده عن نافع: {فَأَذَّنَ مُوَذِّنٌ} بإبدال الهمزة واواً. انفرد بهذه القراءة ورش عن نافع عن جميع القراء (¬2). {بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: آية 44] قرأ هذا الحرف نافع، وعاصم، وقنبل عن ابن كثير، وأبو عمرو، قرأوا كلهم: {أَن لَّعْنَةُ الله} بتخفيف (أن) وضم [8/ أ] تاء (لعنة). وقرأه الباقون وهم حمزة، والكسائي، وابن عامرٍ، والبزي عن ابن كثير:/ {أنّ لعنة الله} (¬3). بتشديد (أَنَّ) ونصب (تاء) {لَعْنَةَ}. واللعنة في لغة العرب (¬4): الإبعاد والطرد. فالرجل إذا كان ذا جرائم، وذا جرائر، يطلبه هؤلاء بدم، وهؤلاء بدم، ثم إن قومه تبرءوا منه وطردوه لئلا تقاتلهم القبائل التي يطالبونه بالدم، إذا نفوه وطردوه يُسمى رجلاً لعيناً، ومنه قول الشماخ أو غيره (¬5): ذَعَرْتُ به القَطَا، ونَفَيْتُ عنه ... مَقامَ الذئبِ، كالرجُل اللَّعينِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص105، إتحاف فضلاء البشر (2/ 49). (¬3) انظر: السبعة لابن مجاهد ص281، المبسوط لابن مهران ص209. (¬4) انظر: اللسان (مادة: لعن) (3/ 374). (¬5) البيت للشماخ، وهو في اللسان (مادة لعن) (3/ 374).

فـ (لعنة الله) معناها: طرده وإبعاده. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: آية 44] أي: نادى مناد وأعلم مُعلم. {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا وكانوا يضعون العبادة في غير موضعها -والعياذ بالله- وهم الكفرة. وهذا من النكال بالكافرين لما اعترفوا بأن الوعيد حق عليهم نادى مناد يدعو عليهم باللعنة -والعياذ بالله- ويصفهم بالظلم الذي استحقوا به عذاب الله ونكاله. ثم قال: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [الأعراف: آية 45] {الَّذِينَ} في محل خفض لأنه نعت للظالمين. {يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} العرب تستعمل (صد) استعمالين (¬1): تستعملها متعدية إلى المفعول، تقول: صد زيد عَمْراً يصُده، ومصدر هذه (الصد) لا غير. ومنه: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله} [النساء: آية 160] صده يصُده صدّاً، على القياس؛ لأن كل فعل ثلاثي متعدٍّ إلى المفعول ينقاس مصدره إلى (فَعْل) بفتح فسكون، فصده صدّاً؛ لأن مصدرها: (الصد) على القياس. وهذه مضمومة الصاد، وليس فيها إلا الضم. تقول: صده يصُدُّه صدّاً، لا غير. الثانية: يستعملون (صدَّ) لازمة غير متعدية إلى المفعول، تقول: كان زيد ذاهباً إلى الشام فَصَدَّ عنه إلى العراق. أي: مال عنه إلى العراق، لازماً، ومصدر هذه: (الصدود) على القياس أو الغلبة. وفي مضارعها ضم الصاد وكسرها. تقول: صد زيد عن الأمر يصِد ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 328).

ويصُد. وعليه القراءتان السبعيتان (¬1): {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} {إذا قومك منه يصُدون} [الزخرف: آية 57] و (صد): هنا في هذه الآية هي (صد) المتعدية للمفعول. {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: يصدون الناس عن سبيل الله. و (السبيل): الطريق. وإنما أُضيفت الطريق إلى الله؛ لأنها السبيل التي أمر بسلوكها، وَوَعَدَ بالثَّوَاب مَنْ سَلَكَهَا، ونَهَى عن عدم سلوكها، ووعَدَ بالْعِقَابِ مَنْ لم يَسْلُكْهَا. والسبيل في لغة العرب وفي القرآن تُذَكَّر وتؤنث (¬2)، فمن تأنيثها في القرآن: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله} [يوسف: آية 108] وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: آية 55] على من قرأ {سبيلُ} بالرفع: تستبين هي أي: سبيل المجرمين (¬3). وقد يذكَّر السبيل كقوله: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: آية 146]. وسبيل الله: هي دين الإسلام وطاعة الله التي جاءت بها رسله. {وَيَبْغُونَهَا} أي: يطلبونها، وهي السبيل، أَنَّثها في هذه الآية. يطلبونها {عِوَجَا} هذا مصدر بمعنى الوصف، أي: في حال كونها معوجة، يبغونها معوجة زائغة مائلة، فيها عبادة الأوثان، والشركاء، والأولاد لله. يطلبون هذه السبيل العوجاء التي ليس فيها استقامة. أما القرآن العظيمِ فسبيله ليس فيها عوج، بل هي مستقيمة، كما ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص399. (¬2) مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (54 - 55) من سورة الأنعام.

قال تعالى: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: آية 28] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)} [الكهف: آية 1] فسبيل الله ليس فيها عوج. والسبيل التي يبغيها الكفار {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [الأعراف: آية 45] أي: معوجة ذات عوج، عوجاء غير مستقيمة لما تدعو إليه من الكفر بالله، وادعاء الشركاء والأولاد له. وهذا معنى: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}. {وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: آية 45] وهم مع ذلك كافرون بالآخرة، جاحدون بها. {بِالآخِرَةِ}: هي الدار الآخرة، وقد بينا مراراً (¬1) أنها إنما سُميت آخرة لأنها ليس بعدها مرحلة أخرى. ويجب على كل إنسان أن ينظر في مراحله، وتاريخ مراحله، حتى يفهم الآخرة؛ لأن الله أمره بذلك حيث قال: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6)} [الطارق: الآيتان 5، 6] فاعلم أيها المسكين - الذي هو الإنسان - أن أول مراحلك تراب بلَّه الله (تبارك وتعالى) بماء فصار ذلك التراب طيناً، ثم بعد أن صار طيناً ونقله الله من طَور إلى طور خُمِّر حتى [صار] (¬2) طيناً لازباً، وتغيرت ريحه حتى صار حمأ، ثم إنه يَبِسَ حَتَّى صَارَ صلصالاً، ثم إن الله نفخ فيه الروح، وجعله بشراً سَوِيّاً خلق منه آدم، جعله ذا جسد ودم ولحم، ثم إنه خلق من ضلعِه امْرَأَتَهُ حَوَّاء، كما قال: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال في الأعراف: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (92) من سورة الأنعام. (¬2) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

[الأعراف: آية 189] وقال في أول النساء: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وقال في الزمر: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: آية 6] وقد خلق حواء من آدم بلا نزاع كما نصت عليه هذه الآيات القرآنية، ثم بعد ذلك كانت طريق التناسل أيها الإنسان أن تكون أولاً نطفة من مني حقيرة مهينة، من ماء الرجل وماء المرأة في رحم المرأة، ثم تمكث ما شاء الله وأنت نطفة، ثم يقلب الله هذه النطفة علقة، أي: دماً جامداً إذا صُب عليه الماء الحار لم يذب، ثم إن الله يقلب هذا الدم مضغة، أي: قطعة لحم كما يقطعه آكل اللحم ليمضغه، ثم إن الله يقلب هذه اللحمة هيكل عظام يركب بعضها ببعض، يركب فيه المفاصل بعضها ببعض، والسُّلاميات بعضها ببعض، والفقار بعضها ببعض {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)} [الإنسان: آية 28] ثم إنه (جل وعلا) يكسو هيكل هذا العظام اللحم، ويجعل فيه العروق، ويفتح فيه العيون، والأفواه، والآناف، ويجعل الكبد في محلها، والكليتين في محلهما، والطحال في محله، إلى غير ذلك، ثم ييسر لك طريق الخروج من بطن أمك، وهو مكان ضيق، كما قال: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} [عبس: آية 20] ثم يخرجك إلى الدنيا. وقد جاوزنا جميع هذه المراحل ونحن في مرحلة الخروج إلى الدنيا، وهذه المرحلة المحطة التي نحن فيها منا من يسافر منها بسرعة، ومنا من يمكث فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: آية 5] ويقال لنا: اعلموا أن السفر طويل، وأن الشقة فادحة، وأنه لا محطة يؤخذ منها الزاد إلا هذه المحطة، فمن لم يتزود من هذه المحطة هلك وانقطع عن القافلة، وبقي في بلاء وويل لا ينقطع.

فعلينا أن نتزود من هذه المحطة التي هي محل الزاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: آية 197] فنأخذ من الأعمال الصالحات، والشقة أمامنا طويلة، والسفر بعيد، والسفر لم ينته. ثم بعد هذه المحطة ننتقل جميعاً إلى محطة القبور، وهي محطة من رحلة الإنسان. وسمع بدوي رجلاً يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: آية 1] قال: انصرفوا والله من المقابر إلى دار أُخرى؛ لأن الزائر منصرف لا محالة. ثم إن القبر محطة ومرحلة من هذه المراحل يخرجنا الله منه جميعاً أحياء نُساق إلى المحشر {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: الآية 25] فنُساق جميعاً من محطة القبر إلى محطة المحشر في عرصات القيامة، ويلقى الناس فيها ما يلاقون من الأهوال والأوجال ودنُوّ الشمس منهم، وإلجام العرق إياهم كما هو معروف، ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق الشفاعة الكبرى، فإذا جاء الناس، واعتذر لهم آدم، واعتذر لهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وجاءوا إليه صلوات الله وسلامه عليهم، وقال لهم: «أنا لها». يعني: أن الله وعده بذلك في دار الدنيا حيث قال له: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: آية 79] ولكنه (صلوات الله وسلامه عليه) لشدة علمه بالله، وتعظيمه لله، يعلم أنه لا شفاعة إلا بإذن الله {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية 255] {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: آية 3] فلا يتجرأ على الشفاعة فلتة بسرعة، وإنما يسجد ويلهمه ربه من المحامد ما لم يلهمه أحداً قبله ولا بعده، ولم يزل كذلك حتى يقول له ربه: يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تُشَفَّعْ. فشفع صلى الله عليه وسلم

الشفاعة الكبرى (¬1)، ويظهر في ذلك الوقت فضله - صلوات الله وسلامه عليه - على جميع مَنْ في المحْشَرِ من الأنبياء والمرسلين، كما ظَهَرَ فَضْلُهُ عليهم في دار الدنيا لما عُرِج به مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سماوات، واجتمع بهم في بيت المقدس، وصلى بجميعهم بأمر من جبريل كما هو معروف في الأحاديث (¬2)، فهو سيدهم في الدنيا وسيدهم في الآخرة -صلوات الله وسلامه عليه- ثم إذا أذن الله في الحساب حاسب الناس، ثم إذا انتهى حسابهم تفرقوا في ذلك الوقت فراقاً لا اجتماع بعده، وهو قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة: آية 6] وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)} [الروم: آية 14] وهذا التفرق مذهوب به ذات اليمين إلى الجنة، ومذهوب به ذات الشمال إلى النار، وقد أوضح الله هذه الأشتات في سورة الروم حيث قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: الآيتان 15، 16] فيُذهب بأهل الجنة إلى الجنة، وبأهل النار إلى النار، وُيذبح الموت، ويُقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. فحينئذ تنقطع الرحلة، وتُلقى عصا التسيار، وتكون تلك هي المحطة الأخيرة التي لا انتقال منها أبداً إلى محطة أخرى. فأهل الجنة في نعيم دائم، وأهل النار في عذاب دائم، لن ينتقل هؤلاء إلى منزل آخر، ولا هؤلاء إلى منزل آخر، ولهذا سُميت الآخرة؛ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (161) من سورة الأنعام ..

لأن ليس بعدها محطة أخرى يُنتقل إليها. وهذا إيضاح معنى (الآخرة). وقوله: {كَافِرُونَ} أي: جاحدون. أصل الكفر في لغة العرب هو: الستر والتغطية، وكل شيء سترته وغطيته فقد كفرته. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قيل للزراع: كُفَّار؛ لأنهم يكفرون البذر في بطن الأرض، يسترونه ويغطونه. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد في معلقته (¬1): يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرٌ ... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا يعني: سترها وغطاها غمامُها. ومن هنا قيل للَّيل: كافر؛ لأنه يكفر الأجرام ويغطيها بظلامِهِ ومنه قول لبيد في معلقته (¬2): حتى إذا ألقتْ يداً في كافرٍ ... وأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثغُورِ ظَلامُها كما هو معروف، وإنما سُمي الكافر كافراً لأنه يجحد نعم الله، ويجحد آياته، ويريد أن يغطيها بالجحود والكفر والعياذ بالله. وهذا معنى قوله: {وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: آية 45]. قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُواْ ¬

(¬1) شرح القصائد المشهورات (1/ 152). (¬2) شرح القصائد المشهورات (1/ 166).

إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} [الأعراف: الآيات 46 - 51]. يقول الله جل وعلا: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}. قوله جل وعلا: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي: بين أهل الجنة وأهل النار، وقيل: بين الجنة وبين النار حجاب، والحجاب هو: الحاجز الساتر بين الشيئين (¬1)، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الأحزاب: آية 53]. وهذا الحجاب الذي بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الجنة والنار هو السُّور المذكور في سورة الحديد في قوله جل وعلا: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: آية 13] وهذا الحجاب الذي هو هذا السُّور المبين في سورة الحديد لا يمنع من كون النار في أسفل السافلين، والجنة في أعلى؛ لأن الجنة فوق السماوات والنار منسفلة تحت الأرضين، وهذا لا يمنع من أن الله يجعل سوراً ساتراً بين أهل الجنة وأهل النار كما صرح به في قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} وقوله مبيناً لهذا الحجاب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: آية 13]. وضَرْبُ ذلك الحجاب يبيِّن أن أهل الجنة لا ينالهم شيء من ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 449)، القرطبي (7/ 211)، الدر المصون (5/ 328).

عذاب النار لا من حرّها ولا من نتنها ولا من أذاها، كما أن أهل النار لا ينالهم شيء مما في الجنة من النعيم، لا من بردها، ولا من نسيم روائحها الشذية، وهذا معنى قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}. {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} الأعراف في اللغة: جمع عُرْف، والفُعْل يُجمع على أفعال. والعُرْف في لغة العرب هو كل مكان من الأرض مرتفع تسميه العرب عُرْفاً (¬1)، فالجبل المرتفع والرمل المرتفع تسميه العرب عُرْفاً، ومن ذلك عرف الديك لارتفاعه على سائر بدنه، وعُرْف الفرس لارتفاعه على سائر بدنها، فكل مرتفع تسميه العرب عُرْفاً، وتجمعه على أعراف، وربما قالوا للعُرْف عُرُف بضمتين، ومنه قول الكُميت (¬2): أبْكَاكَ بِالعُرُفِ المَنْزِلُ ... وما أَنْتَ والطَّلَلُ المُحْوِلُ وهذه الأعراف معناها بإطباق المفسرين: أماكن مرتفعة عالية، وأكثر المفسرين على أنها هي أعاليها، والسور وشرفاته؛ لأن هذا الحجاب المضروب بين أهل الجنة والنار، والسور الذي له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب له شرفات -أي: أعاليه له شرفات- مرتفعة في أعلاه هي الأعراف التي عليها هؤلاء الرجال المذكورون. وعلى هذا القول أكثر المفسرين، خلافاً لمن زعم أن الأعراف مرتفعات فوق الصراط عليها رجال على هذه المرتفعات ¬

(¬1) انظر: المجمل لابن فارس، كتاب العين، باب العين والفاء وما يثلثهما. ص513 تفسير ابن جرير (12/ 449)، القرطبي (7/ 211)، الدر المصون (5/ 328)، معجم البلدان (4/ 105). (¬2) البيت في الصحاح، باب الفاء، فصل العين (4/ 1401)، معجم البلدان (4/ 105).

فوق الصراط، محبوسون عن الجنة، مُزَحْزَحُونَ عَنِ النَّارِ. والأكثر أن المراد بالأعراف: أعالي ذلك السور وشرفاته المرتفعة عليها رجال. الرجال: جمع الرجل، واختُلف في المراد بهؤلاء الرجال الذين هم على الأعراف المذكورة على نحو من اثني عشر قولاً مدارها على قَوْلَيْنِ كل منهما تَتَفَرَّعُ مِنْهُ أقْوَالٌ (¬1): أحدهما: أن الرجال الذين هم على الأعراف رجال قَلَّت حسناتهم عن سائر أهل الجنة فاستوت حسناتهم وسيئاتهم؛ لأنه إذا وُزن أعمال الجميع بالميزان المتقدم في قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)} [الأعراف: آية 8] من ثقلت حسناته على سيئاته بقدر صُؤابة -وهي بيضة القملة- دخل الجنة، وكذلك من ثقلت سيئاته على حسناته فخفت كفة حسناته بقدر ذلك دخل النار، ومن اعتدلت سيئاته وحسناته فلم ترجح كفة السيئات، ولم ترجح كفة الحسنات؛ لأن آحاده قابلت عشراته فلم يكن هنالك رجحان لهذه ولا هذه فهؤلاء هم أصحاب الأعراف على قول جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم. وممن صرح بهذا: عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس (¬2) رضي الله عنهم. فعلى هذا مدار هذه الأقوال راجع إلى هذا القول، سواء قلنا ما قاله بعضهم من أنهم رجال جاهدوا في سبيل الله، فنهاهم آباؤهم، فعصوا آباءهم وعقوهم بالخروج، وقتلوا في سبيل الله، فمنعهم القتل في ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 452، 461)، القرطبي (7/ 211)، ابن كثير (2/ 216). (¬2) كما في ابن جرير (12/ 452 - 457).

سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عقوق الآباء من دخول الجنة فكانوا على الأعراف. وكذلك قول من قال: إنهم بروا آباءهم وعقوا أمهاتهم، أو بالعكس، فمنعهم بر الأمهات من النار، ومنعهم عقوق الآباء من دخول الجنة. إلى نحو هذا من الأقوال فمداره راجع إلى شيء واحد، كما رُوي مصرحاً به عن عبد الله بن مسعود (¬1) أنه الوزن، وأن من ثقلت موازينه دخل الجنة، ومن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ دخل النار، ومن اعتدلت موازينه فلم ترجح إحدى الكفتين على الأخرى كان على الأعراف. أقوال العلماء تدور على هذا. وعلى هذا القول فأصحاب الأعراف أقل عَمَلاً من غيرهم من أهل الجنة؛ لأن لهم سيئات ثبطتهم عن دخول الجنة، ولهم حسنات منعتهم من دخول النار. وعلى هذا فهم أقل مرتبة من أهل الجنة الذين دخلوها. وقال بعض العلماء: كما سيأتي في أنهم إذا دخلوا الجنة تبقى في كل واحد منهم شامة بيضاء يُعرف بها. وقال بعضهم: يقال لهم مساكين أهل الجنة؛ لأنهم آخر الداخلين فيها، سواء قلنا: إن الأعراف هو أعالي السور المذكور وشرفاته، أو أنه مرتفعات فوق الصراط كما قاله بعض العلماء. وعلى هذ القول فأصحاب الأعراف أقل درجة من أهل الجنة. وذهب قوم إلى أن أصحاب الأعراف من أعظم درجات أهل الجنة، فزعم بعضهم أنهم ملائكة، وزعم بعضهم أنهم الشهداء، وزعم بعضهم أنهم خيار أهل الجنة من العلماء العاملين، والأتقياء ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (12/ 453).

الكرام، أنهم جاءوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن الله أجلسهم على هذا المكان المرتفع ليشرفوا على أهل النار وأهل الجنة على سبيل النزهة والتمتع بمعرفة أخبار الجميع، وما صار إليه أهل النار وأهل الجنة. والذين قالوا هذا القول اختلفوا فيهم اختلافاً كثيراً، بعضهم يقول: ملائكة. وهذا لا يساعده ظاهر قوله: {رِجَالٌ} لأن الملائكة لا يُسَمَّوْن رجالاً. واحتجوا بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: آية 9] أنهم في صفة الرجال، أو أنهم أنبياء، أو أنهم الشهداء، إلى غير ذلك. وزعم بعضهم أنهم مؤمنو الجن. كما ذكرنا أن العلماء اختلفوا في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة (¬1)؟ فزعم بعضهم أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة، وإنما جزاؤهم الإجارة من العذاب الأليم كما صرحوا به في قوله تعالى عنهم في سورة الأحقاف عن الجن حيث قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف: آية 31] ولم يقولوا: يدخلكم الجنة. قالوا: فعلموا أنهم إن أجابوا داعي الله وأطاعوه كان جزاؤهم غفران الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم، قالوا: وربما سمى الله الجن رجالاً أيضاً كقوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: آية 6] وقد قدمنا أن التحقيق أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة كالمؤمنين من الإنس، وأنه دل عليه بعض الآيات، كقوله مخاطباً للجن والإنس معاً: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام.

[الرحمن: آية 46] ثم بين شمول الوعد بهاتين الجنتين للإنس والجن معاً فقال بعده: {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: آية 47] وهو خطاب للإنس والجن بالإجماع كما بَيَّنَّا. وقول من قال: إن أصحاب الأعراف من أعظم أهل الجنة رتباً، أو أنهم ملائكة لا يتجه كل الاتجاه؛ لأنه يشير إلى عدم اتجاهه قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: آية 46] على التحقيق من أنها في أصحاب الأعراف؛ لأن الملائكة وخيار أهل الجنة لا يناسب أن يقال فيهم: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} وإن احتج من قال هذا بأن العرب قد تطلق الطمع على اليقين، إلا أنه ليس بالإطلاق المعروف المشهور الذي يجب حمل القرآن عليه. وأقوال العلماء في هذا كثيرة، أظهرها الذي عليه الجمهور من الصحابة فَمَنْ بَعْدَهم أن أصحاب الأعراف رجال منعتهم حسناتهم من دخول النار، ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة، ولم يكن هنالك رجحان للحسنات على السيئات، ولا للسيئات على الحسنات. وظاهر القرآن أنهم كلهم ذكور؛ لأنه قال: {رِجَالٌ} ولم يقل (نساء). والمقرر في الأصول: أن لفظة (الرجال) لا يدخل فيها النساء (¬1). وقال بعض العلماء: إذا ذكر الرجال فلا مانع من دخول النساء بحكم التبع. واستأنسوا لهذا بأن العرب تسمي المرأة (رجلة)، وتسمية المرأة (رجلة) لغة صحيحة معروفة في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 234)، المذكرة (212). (¬2) البيتان في اللسان (مادة: رجل) (1/ 1132).

كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطاً ... غَيْرَ جِيرَانِ بَنِي جَبَلَهْ ... مَزَّقُوا ثَوْبَ فَتَاتِهُم ... لمْ يُراعُوا حُرْمَةَ الرّجُلَهْ يعني: المرأة. وقوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: آية 46] جملة حالية. {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} [الأعراف: آية 46] التنوين تنوين عوض {كُلاًّ} من أهل الجنة وأهل النار. {بِسِيمَاهُمْ} السيما في اللغة: العلامة التي يُميَّز بها الشيء عن غيره (¬1). فسيما أهل الجنة: ابيضاض الوجوه، ونضرة النعيم، والحُسن، وسيما أهل النار: اسْوِدَاد الوجوه، والقبح، والتشويه الخلقي بأكل النار لهم والعياذ بالله {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: آية 46]. ثم بين الله أن أصحاب الأعراف ربما نظروا تارة إلى الجنة، وربما أُجبروا على النظر إلى أهل النار؛ لأن منظر النار فظيع جدّاً، لا ينظر إليه أحد باختياره، ولذا قال: {وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: آية 46] إذا نظروا إلى أهل الجنة وما هم فيه من النعيم حيوهم تحية كريمة، نادوهم من مكانهم: {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: آية 46] ومعنى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} سلمتم من جميع الآفات، وصرتم في مأمن من كل ما يؤذي. وهذه (¬2) تحية الإسلام: (السلام عليكم) لأن (السلام) معناه السلامة من كل الآفات (عليكم)، وهي أحسن تحية يُحيَّا بها، تحية الإسلام أحسن من تحيات الجاهلية وتَحَايا الملوك. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: سام) ص438. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

فأحسن تحية هي تحية الإسلام. (السلام عليكم) معناه: سلمكم الله من جميع الآفات، ومن كل شيء يؤذيكم. وكان الجاهلية يُحيُّون فيقولون: حياك الله، و (حياك الله): أطال الله حياتك. ومن ذلك قيل للسلام: تحية؛ لأن التحية مصدر: حَيَّاه يحيِّيه تحية. أصلها: (تَحْيِيَة) لأن المُقَرَّرَ في فن التصريف أن (فعَّل) مُضعَّفة العين إذا كانت معتلة اللامَ ينقاس مصدرها على (التَّفْعِلة) كزكاه تزكية، ونَمَّاهُ تنمية، وحيَّاه تَحْييَة، إلا أن الياء أُدغمت في الياء فقيل: (تحية) (¬1). ومعنى: (حيَّاك الله): أطال الله حياتك. ومطلق الدعاء بطول الحياة لا يستلزم الخير؛ لأن الإنسان قد تكون حياته تعسة نَكِدَة يتمنى أن يستريح منها بالموت، فرب حياة يفضل صاحبها عليها الموت، كما قال بعض المتأخرين (¬2): أَلاَ مَوْتٌ يُبَاعُ فَأَشْتَرِيهِ ... فَهَذَا العَيْشُ مَا لاَ خَيْرَ فِيهِ أَلاَ رَحِمَ المُهَيْمِنُ نَفْسَ حُرٍّ ... تَصَدَّقَ بِالوَفَاةِ عَلَى أَخِيهِ فهذا يريد من يتصدق عليه بالموت تفضيلاً لها على حياته. ومنه الأبيات المعروفة، قيل إنها للأعشى ميمون بن قيس، وقيل لغيره (¬3): المَرْءُ يَرْغَبُ فِي الحَيَا ... ةِ وَطُولُ عَيْشٍ قَدْ يَضُرُّهْ تَفْنَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْـ ... قَى بَعْدَ حُلْوِ العَيْشِ مُرُّهْ وَتَسُوؤُهُ الأَيَّامُ حَـ ... ـتَى مَا يَرَى شَيْئاً يَسُرُّهْ كَمْ شَامِتٍ بِي إِذْ هَلَكْـ ... تُ وَقَائِلٍ للهِ دَرُّهْ ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص93. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

فالشاهد أن (حياك الله) أي: أطال الله حياتك. طول الحياة لا يستلزم الخير؛ لأنه ربما يكون في حياة مزعجة قَلِقَةٍ يَتَمَنَّى أنْ يَمُوتَ، فالموت خير منها، كما جاءت الأحاديث الصحيحة المتفق عليها أنه في آخر الزمان يأتي الرجل قبر أخيه فيتمَنَّى كل المُنى أن يكون مكانه ميتاً؛ قَلَقاً من حياته، وإيثاراً للراحة منها من كثرة الفتن، والعياذ بالله (¬1). هذا معنى {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أي: سلمكم الله سلاماً. فالسلام اسم مصدر (سلَّم) وقد تقرر في علم العربية (¬2) أن (فَعَّل) مُضعَّفة العين قياس مصدرها (التفعيل) إلا إذا كانت معتلة اللام أو مهموزته فالقياس في مصدرها (التَّفْعِلة) ويكثر إتيان (الفَعَال) بدلاً من (التفعيل) اسم مصدر، كما تقول: سلَّم عليه سلاماً؛ أي: تسليماً. وكلَّمَهُ كلاماً؛ أي: تكليماً. وبين له الأمر بياناً؛ أي: تبييناً. وطلّق امرأته طلاقاً؛ أي: تطليقاً. ومنه (السلام) لأنه مصدر (سلَّم) فمعنى (سلام عليكم) سلمكم الله من جميع الآفات، وهذه تحية عظيمة، وإنما ساغ الابتداء بالنكرة هنا لأنها في معرض الدعاء. {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأعر اف: آية 46]. (أنْ) هذه كاللواتي قبلها التي ذكرنا احتمال كونها مخففة من الثقيلة، أو أنها تفسيرية. فعلى أنها مخففة من الثقيلة فاسمها ضمير الشأن المستكن، وخبرها جملة المبتدأ والخبر. وعلى أنها تفسيرية ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 77 - 79).

فهي بمعنى (أي) وما بعدها يفسر ما قبلها. وضابط (أن) التفسيرية: هي أن يتقدمها معنى القول وليس فيه حروف القول (¬1). والمناداة التي تقدمتها فيها معنى القول وليس فيها حروف القول. هذا {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}. {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أظهر التفسيرين في قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أنه واقع على أصحاب الأعراف، ولا محل للجملة من الإعراب على أصح القولين. فكأن سائلاً سأل قال: ما شأن أصحاب الأعراف هؤلاء الذين يُحيُّون أهل الجنة ويخاطبون أهل النار، ما قصتهم، وما شأنهم؟ فأجيب بقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} لم يدخلوا الجنة بالفعل {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} في دخولها في ثاني حال طمعاً منهم في رحمة ربهم وفضله جل وعلا، وهذا هو أصح التفسيرين، خلافاً لمن قال إن الأعراف أنها شرفات عالية فوق الصراط مرتفعات في الصراط، عليها هؤلاء الرجال، تمر بهم زُمَرُ الجنة، وزُمَرُ أهل النار، فإذا رأوا زُمَر أهل الجنة عرفوهم بسيماهم، وحيوهم، وقالوا لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا} أي: أهل الجنة الذين هم مارون بأهل الأعراف {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} في دخولها لأنهم ذاهبون إليها. هذا القول قال به جماعة من علماء التفسير، والأول أظهر منه. ومعنى {يَطْمَعُونَ} الطمع: هو تعلق النفس وأملها في الحصول على الشيء. وهذا معنى قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} والأول أظهر من الثاني. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

ثم قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف: آية 47] {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} معناه قلبت عيونهم {تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ}، إلى جهة أصحاب النار ومقابلتهم حتى يروهم. والعبارة بقوله: {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} تدل على أن الله هو الذي صرف أبصارهم إليهم، وأنهم ما كانوا يحبون النظر إليهم اختياراً لشدة الهول وفظاعة الأمر - والعياذ بالله - {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} أي: قُلبت أبصارهم تجاه أهل النار ونظروا ما هم فيه من العذاب - والعياذ بالله - وما هم فيه من سوء الحال، واسوداد الوجوه، وتغيير الخلقة، وإحراق النار لهم، تَعَوَّذوا بالله من النار ومن شَرِّهَا، وتضرعوا ملتجئين إلى الله أن لا يجعلهم من أهل النار، قالوا: {رَبَّنَا} يا خالقنا وسيدنا ومدبر شؤوننا أعذنا من النار و {لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: آية 47] أي: لا تصيرنا مع القوم الظالمين. يعنون: أصحاب النار. وقد قدمنا أن (القوم) اسم جمع لا واحد له من لفظه، يطلق بأصل الوضع العربي على خصوص الذكور، وربما دخل فيه الإناث بحكم التبع (¬1) والدليل على إطلاقه بالأصالة على الذكور دون الإناث قوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: آية 11] فعطفه النساء على القوم يدل على أنهن لم يدخلن فيهم بحسب الوضع. ومن ذلك قول زهير (¬2): وما أدري وسوفَ إِخَالُ أَدري ... أَقَومٌ آل حصنٍ أم نساءُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

فجعل النساء غير القوم. والدليل على دخول النساء في القوم بحكم التبع قوله تعالى في ملكة سبأ (بلقيس): {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43] فصرح أنها من قوم. دخلت في اسم القوم بحكم التبع. ومعنى: {الظَّالِمِينَ} قد قدمنا أن الظلم يطلق على الكفر، وهو أعظم أنواعه؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه (¬1)، وأنه يطلق على ظلم دون ظلم، كظلم المسلم لنفسه. والظاهر أنهم يعنون الكفار، والكفار هم رؤساء الظالمين، كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] وقال جل وعلا: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: آية 106] وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر قوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82] قال: بشرك (¬2). وقد قدمنا أن كل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم، وأن أكبر أنواع الظلم وضع العبادة في غير الخالق؛ لأن أكل الإنسان رزقه ونعمه وتقلبه في فضله وهو يعبد غيره وضع للعبادة في غير موضعها. وذلك معروف في كلام العرب، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه تقول له العرب: ظالماً، وقد ذكرنا مراراً أنهم يسمون الذي يضرب لبنه قبل أن يروب (ظالماً) لأنه وضع الضرب في غير موضعه؛ لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده، فهو ضرب في غير موضعه، فهو ظلم (¬3). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

وهذا معروف في كلامهم. وفي لُغَز الحريري في مقاماته: «هل يجوز أن يكون الحاكم ظالماً؟ قال: نعم إذا كان عالماً» (¬1) يريد أن القاضي إذا كان يضرب لبنه قبل أن يروب لا مانع من أن يُستقضى إذا كان من أهل العلم، وهو معروف كثير في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلَى العَكَدِ الظَّلِيمِ والعَكَد: عَصَب اللسان. ويُروى: «على العكَد الظليم» ومنه قول الآخر في سقاء له من اللبن صبَّه وسقاه قومه قبل أن يروب (¬3): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرُبْنِي شكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وَفِي ظَلْمِي لَهُ عَامِداً أَجْرُ ومنه قيل للأرض التي حُفرت وليست محل حفر: (مظلومة)، وقيل للتراب الذي يستخرج من حفر القبر: (ظليم) لأنه حَفرٌ في غير محل الحفر، لم يحفر قبل هذا، ولم يكن معهوداً لأن يحفر لاستخراج ماء ونحوه. ومِنْ إِطْلاقِهِ عَلَى الأرض التي حُفِرَتْ ولَيْسَتْ محلاًّ للحَفْرِ قَوْل نابغة ذبيان (¬4): إلا الأوَاريَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها ... والنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ أي: بالأرض المظلومة المحفور فيها وهي ليست محلاًّ للحفر؛ لأن الحفر وُضع في غير موضعه. وهذا هو المعنى الصحيح، خلافاً لمن زعم أن المظلومة هي التي تأخر عنها المطر، ومنه قيل ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

لتراب القبر (ظليم) لأن حَفْرَه ليس في محل الحَفْر عادة قبل ذلك. ومنه قول الشاعر يصف ميتاً مدفوناً في قبره مردوداً عليه تراب القبر (¬1): فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ ... مِنَ الْعَيْشِ مَرْدُودٌ عَلَيْها ظَليمُها وهذا معنى معروف في كلام العرب: فأكبر أنواع الظلم وضع العبادة في غير موضعها وهو الكفر بالله {وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] وفيه ظلم دون ظلم، كالذي يطيع الشيطان ويعصي الله معتقداً أنه فاعل معصية، وأنه مرتكب قبيحة؛ لأن هذا من عصاة المسلمين الذين إن شاء الله غفر لهم، وقد ذكرنا أن الظالم لنفسه من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة؛ لأنه يخلط العمل الصالح والعمل السيئ، فقد يتوب الله عليه. ومعنى قوله: {لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: لا تَصَيِّرْنَا مع أهل النار في ذلك العذاب الشديد والإهانة العظيمة -والعياذ بالله- وهذا معنى قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف: آية 47] في هذا الحرف ثلاث قراءات سَبْعِيَّات (¬2): قرأه قالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير، وأبو عمرو في جميع الروايات: {تلقَا أصحاب النار} [الأعراف؛ آية 47] بحذف إحدى الهمزتين مع المد بناءً على أن المحذوفة الأخيرة، ومع عدم المد بناء على أن المحذوفة الأولى. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص (125 - 126)، الإتحاف (1/ 193)، (2/ 47، 50).

وقرأه ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير: {تِلْقَآء أصْحَاب النار} بمد الثانية همزاً للأولى، ومدها نظراً للساكن بعدها. وقرأه بقية القراء السبعة، وهم حمزة، والكسائي، وعاصم، وابن عامر: {تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ} بتحقيق الهمزتين. والتلقاء: مصدر، معناه أن يكون الشيء جهة الشيء الذي يُتلقى منها. ولم يأت مصدر على (التِّفعَال) بكسر العين إلا (التلقاء، والتبيان) أما غير ذلك من المصادر فهو بالفتح في كل شيء، كالتَّسْيَار، والتَّذكار، والتَّطواف (¬1). أما الأسماء فهي تأتي كثيراً على (تِفْعال) كتِقصار، وما جرى مجراه، كما هو معروف في علم العربية. {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: آية 47]. ثم بين (جل وعلا) أن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار ويوبخونهم، وظاهر القرآن أنهم يعرفونهم في الدنيا، ويعرفونهم في النار بسيماهم فينادونهم ويوبخونهم {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً} [الأعراف: آية 48] يعني من أهل النار {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} [الأعراف: آية 48] وبخُوهم وقالوا لهم: {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} [الأعراف: آية 48] ماذا نفعكم به؟ العرب تقول: أغنى عنه الشيء يغني: إذا نفعه. والاسم من هذا يُسمى (غَناء) لأن العرب تسمي النفع (غَناء) وتسمي المطرب الخبيث (غِناء) وتسمي الإقامة (غَنىً). فالمادة موجودة منها خمس لغات (¬2)، وهي: (الغِناء) بالكسر والمد، ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 331). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 569)، المصباح المنير (مادة: غنت) ص173، اللسان (مادة: غنا) (3/ 1024)، القرطبي (7/ 251 - 252)، الدر المصون (5/ 387).

و (الغَناء) بالفتح والمد، و (الغِنى) بالكسر والقصر، و (الغَنى) بالفتح والقصر، و (الغُنى) بالضم والقصر، كلها موجودة في اللغة، ولم يوجد منها (الغُناء) بالضم فالمد، هذا ليس بموجود في العربية. أما (الغِنَى) بالكسر والقصر فهو ضد الفقر. وأما (الغِنَاء) بالكسر والمد فالمراد به المطرب قبحه الله. وأما (الغَنَاء) بالفتح والمد كسحاب فهو النفع، ومنه قول الشاعر (¬1): قَلَّ الغَنَاءُ إِذَا لاَقَى الفَتَى تَلَفاً ... قَوْل الأَحبَّةِ: لا تَبْعدْ وقدْ بعدَا وقول هبيرة بن أبي وهب على إحدى روايتي بيته (¬2): لَعَمْرُكَ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّداً ... وَأَصْحَابَهُ جُبْناً وَلاَ خِيفَةَ الْقَتْلِ ... وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي غَنَاءً إِنْ ضَرَبْتُ وَلاَ نَبْلِي أي: نفعاً. ويروى (مساغاً) فالغَنَاء: النفع. ومن الغَنَاء بمعنى النَّفْعِ قولهم: فلان لا يُغني شيئاً؛ أي: لا ينفع بِشَيْءٍ. و {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} أي: ما نفعكم بشيء. هذا (¬3) من هذه المادة. أما (الغُنى) بالضم والقصر فهو جمع غُنية، والغُنية ما يَقْتَنِيه الإنسان فيستغني به عن الناس. وأما (الغَنى) بالفتح والقصر فهو مصدر غَنِيَ بالمكان يَغنَى به غَنىً على القياس إذا أقَامَ به. ومنه قوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: آية 124] أي: كان لم تقِم بالأمس. هذا معنى هذه المادة وتصاريفها في لغة العرب. والمعنى: {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} نفعكم بشيء، ولا دفع عنكم شيئاً. ¬

(¬1) البيت في المساعد على تسهيل الفوائد (2/ 235). (¬2) البيتان في السيرة لابن هشام ص (1085 - 1086)، وأوله: «لعمري ... » إلخ. (¬3) سيأتي قريباً عند تفسير الآية (92) من هذه السورة.

وقوله: {جَمْعُكُمْ} هو ما كنتم تجمعون في دار الدنيا من الأموال، وما كنتم تتخذونه من الجمع المُؤَيِّد من الأولاد والأعوان، كل ما كنتم تجمعونه في الدنيا من الأموال، وتتخذون من الأعوان والأولاد، كل ذلك لم يُغْن عنكم شيئاً، لم ينفعكم بشيء، ولم يدفع عنكم شيئاً؛ إذ أنتم في دركات النار والعياذ بالله. {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (ما) مصدرية. أي: ولم يغن عنكم كونكم مستكبرين في الدنيا متكبرين متعاظمين، لم يغن عنكم ذلك الاستكبار والتعاظم شيئاً؛ لأنكم صِرْتُمْ إلى دركات النار. وبعض المفسرين يزعم أنهم ينادون الرؤساء بأسمائِهِمْ فيقولون: يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا فلان بن فلان، يا عتبة بن ربيعة، يا فلان بن فلان {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} توبيخاً وتقريعاً لهم والعياذ بالله. وظاهر القرآن أن هذا التوبيخ والتقريع من أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين هم في النار، وأصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة وأهل النار، ولا مانع من أن الله يُطْلِع مَنْ فِي الجَنَّة على مَنْ في النار كما سيأتي في قوله: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء} [الأعراف: آية 50] وستأتي قصة الرجل في سورة الصافات (¬1)؛ لأن الله ذكر في الصافات قصة رجل وأجملها، والمفسرون يبسطونها ويشرحونها، إلا أن شرحهم لها وبسطها من القصص الإسرائيلية التي لا يعوَّل عليها، إلا أن القرآن جاء بقدر منها كاف. زعموا أنه كان رجلان في دار الدنيا شريكين ولهما مال عظيم، فاقتسما المال، وكان أحدهما مسلماً ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

والآخر كافراً، فكان المسلم يقول للكافر: يا أخي تصدق من مالك واتق الله، وذلك يقول له: أنت مفقود العقل كيف نحيا بعد الموت؟ هذا أمر لا يكون وأنت لا عقل لك!! ثم إن الكافر اشترى بساتين جميلة، ثم سأل ذلك عن الثمن فقيل: اشتراها بكذا، فقال: اللهم إن فلاناً اشترى كذا وكذا من البساتين بكذا وكذا من المال، اللهم إني أشتري إليك من بساتين الجنة بمثل ما اشترى، ثم أخذ قدر الثمن وتصدق به. ثم إن الكافر تزوج امرأة جميلة بارعة في الجمال، وبذل لها مهراً عظيماً. فقال المؤمن: اللهم إن فلاناً تزوج فلانة، وبذل لها من المال كذا، اللهم إني أخطب إليك بقدر ذلك المال من الحور العين، ثم تصدق به على الفقراء. وهكذا إلى أن نفد ما عنده. فجاء لصاحبه الكافر يريد أن يعمل أجيراً عنده فطرده ومنعه، وكان يراوده على الرجوع إلى الكفر، فدخل ذلك المؤمن الجنة وذلك الكافر النار، فبعض الأوقات كان ذلك المؤمن يتحدث مع إخوانه في نعيم الجنة، فأخبرهم أنه كان له صاحب في دار الدنيا من أمره كيت وكيت، وقال لهم: انظروا معي في النار لنعلم ما صار إليه، وننظر ماذا كان مصيره. فقالوا له: لا حاجة لنا فيه، ولا معرفة لنا به، وأنت إن شئت فانظر. فنظر في النار فرآه يتقلب في دركات الجحيم، وهذا الذي ذكرنا الآن تفاصيله إسرائيليات تُحكى ولا يعول عليها. والصحيح الثابت هو ما نص عليه القرآن في سورة الصافات، وهو قوله: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)} يعني في دار الدنيا {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52)} وفي القراءة الأخرى (¬1): ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص376.

{يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ (52)} {لمن المُصَّدِقين} (¬1) {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54)} أي: مطلعون معي لننظر مصيره {فَاطَّلَعَ} أي: فاطلع هو، أي: صاحبه المؤمن من الجنة إلى النار {فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَالله إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} [الصافات: الآيات 48 - 57]. وقصة هذا الرجل التي ذكرناها استطراداً تدل على المباعدة من قرين السوء؛ لأن هذا الرجل المؤمن الكريم حلف بالله وهو في الجنة أن قرينه قرين السوء كاد أن يهلكه ويلقيه في النار حيث قال: {قَالَ تَالله إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} أي: معك في النار؛ ولذا قال جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: الآيتان 48، 49]. واختُلف في قائل هذا القول (¬2)، فظاهر القرآن أنه من بقية كلام أصحاب الأعراف، يوبخون رؤساء أهل النار، ويقولون لهم: أهؤلاء الضعفاء المساكين الذين كنتم تسخرون منهم في الدنيا، وتستهزئون بهم، وتضحكون منهم، وتقولون: الله أعظم من أن يعبأ بهؤلاء، والله لا يدخلهم جنة، ولا يدخلهم نعيماً أبداً {أَهَؤُلاء} الضعفاء المساكين الذين كنتم تستهزئون بهم في الدنيا وتسخرون منهم وتُقسمون - تحلفون بالله - {لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} ماذا قال لهم الله؟ قال لهم: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: ¬

(¬1) القراءة بتشديد الصاد من (المُصَّدِقين) رواية عن حمزة، كما في القرطبي (15/ 82)، البحر المحيط (7/ 360)، الدر المصون (9/ 308). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 469)، القرطبي (7/ 214).

آية 49] وعلى هذا فيكون أصحاب الأعراف قد وبَّخوا رؤساء الكفر والقادة بأنهم لم يغن عنهم تكبرهم في الدنيا وجمعهم، وأن الضعفاء المساكين الذين كانوا يسخرون منهم أحلّهم الله دار كرامته، ونفى عنهم الخوف والحزن أبداً. وقال بعض العلماء: {أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} هي من كلام الله يوبخ بها الكفار، أو من كلام بعض الملائكة أمره بذلك، وأن قوله: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} راجعه إلى أصحاب الأعراف، أن أصحاب الأعراف بعد أن وبَّخوا أهل النار وهم بين الجنة والنار يطمعون أنه بعد ذلك يرحمهم الله فيتفضل عليهم، ويقول لأصحاب الأعراف: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وهذا الوجه الأخير ذكره جماعة كثيرة من المفسرين، والأول أظهر، وإن كان القائل بهذا الأخير كثيراً جدّاً من علماء التفسير. والجنة هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه. {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} قد بيَّنَّا (¬1) أنَّ الخوف في لغة العرب هو: الغم من أمر مستقبل ... - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه - وأن الحَزَن - يُسمى (حَزَناً) ويسمى (حُزْناً) وفعله يأتي على (حَزَنَ وحَزِن) ومضارعه يأتي على (يَحزِن) و (يَحْزُن) - أنه والعياذ بالله - غم من أمر فائت. تقول: فلان حزين، إذا أصابته مصيبة وكان حزيناً من أمر قد مضى ووقع. وتقول: فلان خائف: إذا كان مغموماً من أمر يتوقعه ولم يأت بعد. هذا أصل الخوف والحزن في لغة العرب -أعاذنا الله منهما- وربما وضعت العرب أحدهما في موضع الآخر فعبرت ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

بالخوف عن غم من أمر فائت. وربما عبّروا بالحزن عن الغم من أمر مستقبل، ربما وضعت أحدهما في موضع الآخر. وهذا معنى قوله: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}. {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف: آية 50] بين (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة أن الكفار في دركات النار - والعياذ بالله - إذا أحرقتهم النار وأضر بهم الجوع الشديد والعطش الشديد مع إحراق النار سألوا أهل الجنة، وفي قصتهم أنهم يقولون لله: إن لنا قرابات في الجنة فَأْذَن لنا أن نراهم ونقابلهم ونكلمهم، وأنهم إذا قابلوهم يدعو الواحد أخاه، والواحد أباه، والواحد ابنه، والواحد يدعو ابن عمه؛ لأنه -والعياذ بالله- يكون أَخَوَان أحدهما في الجنة، والثاني في النار، ويكون أَخَوَان، الابن في الجنة، والأب في النار والعكس، فيقولون -لهم يستغيثون بقراباتهم- إنهم في إحراق وجوع وعطش، ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من الماء ليتبردوا من شدة الحريق الذي هم فيه وشدة العطش، فيجيبوهم: بأن الله حرم ما في الجنة على الكفار - أعاذنا الله من الكفر- وهذا معنى قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء} [الأعراف: آية 50] (أن) هي كالمذكورات قبلها في القولين اللذَين بينَّا. {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء} إفاضة الماء: صبه بكثرة وسعة. {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [لأعراف: آية 50] (أو) هنا مانعة خلو مُجوِّزة جمع، يجوز أن يكون الماء وحده، أو ما رزقهم الله، أو الجميع.

{أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} بعضهم يقول: مما رزقكم الله من الأنواع التي تشبه الماء كالألبان وكالخمر؛ لأن الإفاضة يظنون أنها تختص بالسائلات، وعلى هذا قدروا في قوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أو ألقُوا إلينا مما رزقكم الله. وهذا وإن كان سائغاً في اللغة العربية - أن يُحذف فعل يدل [عليه] (¬1) المقام، وهذا موجود كثيراً في اللغة العربية - إلا أنه لا يُحتاج إليه في هذه الآية الكريمة، وهو معروف في كلام العرب، كقول الراجز (¬2): عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا لأن الماء البارد لا يُعلف. يعني: علفتها تبناً وسقيتها ماءً، ومنه قول الآخر (¬3): إِذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وَزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا لأن العيون لا تُزجج. والمعنى: وأكحلن العيون. وقول الآخر (¬4): وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ في الْوَغَى ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً لأن الرمح لا يُتقلد. أي: وحاملاً رمحاً. وهذا كثير في المنصوبات. ومن أمثلته في المرفوعات قوله جل وعلا - على أحد التفسيرين - {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)} لأن الجلود لا تصهر. أي: لا تُذاب. معناه: وتحرق الجلود. ونظيره في ¬

(¬1) في الأصل: «على». (¬2) البيت في الخصائص (2/ 431). (¬3) مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام. (¬4) البيت في الخصائص (2/ 431)، شرح القصائد المشهورات (1/ 133).

المرفوعات من كلام العرب قول لبيد بن ربيعة في معلقته (¬1): فَعَلا فُرُوعُ الأَيْهُقَانِ وأَطْفلَت ... بالجَلْهَتين ظِباؤُها ونَعَامُها لأن النعام لا يُطْفِل، وإنما هو يبيض حتى بعد ذلك ينفلق البيض عن الأطفال. هكذا قال بعضهم، والتحقيق أن إفاضة الشيء وإلقاءه بكثرة قد يكون في المائعات وغير المائعات، وقد أطلقه الله على الآدميين المفيضين من عرفات وهم ليسوا من المائعات، كما قال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: آية 199] {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: آية 198] والعرب تقول: «أفاض علينا من طعامه، وأفاض علينا من رزقه». إذا أكثر، كما هو معروف. فلا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذهب إليه كثير من المفسرين. {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} من مآكل الجنة ومشاربها، يطلبونهم ويستجدونهم. قال بعض العلماء: يسألون مع اليأس. وقال بعضهم: لهم طمع لشدة ما هم فيه. فأجابهم المؤمنون في الجنة، فقالوا: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا} أي: الشيئين اللذين [سألتم] (¬2)، وهما: الماء وما رزقنا الله من نعيمه غير الماء. {حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: آية 50] والتحريم هنا تحريم كوني قدري، أي: منعهما من الكافرين؛ لأن التحريم يُطلق ¬

(¬1) شرح القصائد المشهورات (1/ 132). وقوله: «الأيهُقَان» جمع أَيهُقانة، وهو الجرجير البري. وقوله: «وأطفلت» أي: كثُر أطفالها. والجلهتان: جانبا الوادي. والمعنى: أن الشاعر يصف دياراً خلت من أهلها فنما فيها الجرجير البري وارتفع وكثر أولاد الوحش بها لأمنها فيها. (¬2) في الأصل: «سألتما».

في القرآن وفي لغة العرب على التحريم الشرعي، وعلى التحريم بمعنى المنع. وليس المراد هنا أنهما شرعاً محرمات، ولكنه تحريم قدري، وأن الله منع منهما الكافرين منعاً باتّاً بقدره وقضائه، ونظيره من التحريم بالمعنى القدري لا بالمعنى الشرعي قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: آية 26] وقوله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: آية 12]؛ لأن الرضيع لا يؤاخذ بالتحريم الشرعي حتى يكون عليه حرام أو حلال. والمعنى: منعناه منهما. {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء: آية 50] هو من التحريم بمعنى المنع كوناً وقدراً. والتحريم بمعنى المنع معروف في كلام العرب، مشهور في لغتهم التي نزل بها القرآن، ومنه قول الشاعر (¬1): حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى ... وَأَنْ تَرْقَآ حَتَّى أُلاَقِيكِ يَا هِنْدُ فمعنى «حرام على عيني أن تطعم الكرى»: ممنوعتان من ذوق النعاس والنوم. ونظيره قول امرىء القيس لِفَرَسِهِ (¬2): جَالتْ لِتَصْرَعنِي فَقُلْتُ لهَا اقْصُرِي ... إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ أي: لا تقدرين عليه. فمعنى: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} حكم بمنعهم منهما حكماً باتّاً، كما قال (جل وعلا) عن عيسى ابن مريم: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّة وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: آية 72] وكذلك الكفار كما أن الجنة حرام عليهم فما فيها من الماء والرزق والنعيم حرام عليهم لا يذوقونه أبداً. وهذا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

معنى قوله: {إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}. ثم أخذوا يوبخونهم بصفاتهم الخسيسة التي كانوا يرتكبونها في دار الدنيا فقال: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} [الأعراف: آية 51] إنما أضاف الدين إليهم مع أنهم ليس لهم دين - قبحهم الله - لأن الدين أمرهم الله به، وأرسل إليهم نبيه يدعوهم إليه، فكان من حقهم أن يعتنقوه، وأن يطيعوا الله، فلم يكن لهم دين إلا هذا اللهو واللعب، واللهو واللعب متقاربان (¬1)، قال بعض العلماء: اللهو: هو صرف النفس عما ينفع ويفيد إلى ما لا ينفع ولا يفيد. واللعب: هو أن يطلب الإنسان لنفسه الفرح والسرور بما لا ينبغي أن يفرح به، ولا أن يُسَرَّ به. وهما متقاربان. ومعنى اتخاذهم الدينَ لهْواً ولَعِباً: أنهم يسخرون من القرآن، ويسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ضعفاء المسلمين، يستهزئون بالدين وبأهل الدين. وبذلك اتخذوا الدين [8 / ب] لهواً ولعباً كما قال (جل وعلا) أنهم إذا مر بهم ضعفاء المسلمين:/ {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31)} [المطففين: الآيتان 30، 31] ويسخرون منهم ويستهزئون كما قال (جل وعلا) عنهم إنهم يقولون: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: الآيتان 14، 15] ويسخرون من المؤمنين كما سخروا من نبي الله نوح، وقالوا له: بعد أن كنت نبيّاً صرت نجاراً. وقال لهم: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ ¬

(¬1) انظر: الفروق اللغوية ص210، المفردات (مادة: لعب) (741)، (مادة: لهى) ص748.

عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39)} [هود: الآيتان 38، 39] وهذا معنى اتخاذهم الدين لهواً ولعباً. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف: آية 51] أي: خدعتهم الدنيا بِلَذَائِذِهَا ونعيمها، وظنوا أنها غير زائلة، وأنها لا جزاء بعدها، فألهتهم لذاتها -والعياذ بالله- والانهماك فيها حتى ماتوا وهم كفار. وهذه الآيات ينبغي للمسلم أن يعتبر بها، ويأخذ منها عظات كريمة، فيعلم أن يوم القيامة إنما هو بحسب الأعمال، هنالك قوم قصرت بهم أعمالهم تقصيراً شديداً فأُدخلوا دركات النار، وقوم قصرت بهم أعمالهم تقصيراً غير شديد فحُبسوا عن الجنة، وقوم لم تُقصر بهم أعمالهم فأُدخلوا الجنة، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه، كما ثبت عن النبي (¬1) صلى الله عليه وسلم. والمراد من قصص هذه الأخبار أن نعتبر في دار الدنيا، ونعلم أن الأمور بحسب الأعمال، وأن من قصّر به عمله كان في دركات النار، ومن قصر به عمله تقصيراً أخف من ذلك حُبس عن الجنة إلى ما شاء الله. فعلينا أن نحذر من التقصير في طاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن التقصير قد يجر إلى دركات النار، وقد يجر أيضاً إلى الحبس عن الجنة. فعلى المسلم أن يحذر من هذا ومن هذا، وأن يطيع الله ويبالغ في مرضاة الله بامتثال أوامر الله واجتناب نواهي الله بحيث لا يتخلف عن أمرٍ أمره الله به، ولا يوجد عند أمر نهاه الله عنه؛ ليدخل الجنة، ولا يدخل النار، ولا يُحبس عن الجنة بسيئاته. ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن. حديث رقم: (2699)، (4/ 2074) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

هذا يلزم، كذلك لا يتخذ الدين هُزُؤاً ولعباً؛ لأن الذين يتخذون الدين هُزُؤًا ولعباً سيجدون غِبَّ ذلك. وأتباع هؤلاء كثروا في هذا الزمان والعياذ بالله؛ لأن كل نزعة كفرية تتجدد لها أغصان بعروقها القديمة، وهذه النزعة متجددة الآن تجدداً كثيراً؛ لأنك تجد كثيراً من الشباب في جميع أقطار المعمورة ممن ينتسبون إلى الإسلام يتخذون الدين هزؤاً ولعباً، ويتمسخرون من الذي يصلي، ومن الذي يتسم بسمت الأنبياء، فيعفي ذقنه ولا يحلقه، وربما قلدوا عليه التيس استهزاءً واستحقاراً، فهؤلاء ينالهم من وعيد الذين اتخذوا دينهم هزؤاً ولعباً بقدر ما ارتكبوا، فيجب على كل مسلم شابّاً كان أو غيره أن لا يتخذ الدين هزواً ولعباً، وألا يتخذ الدين لهواً ولعباً، فلا يسخر من الدين، ولا يسخر من أهله، ولا يسخر من حملة الدين، ولا من العلماء، ولا من هيئاتهم. مع أن الذين يسخرون ذوقهم معكوس، وضمائرهم منطمسة؛ لأن هذا الذي يسخرون منه هو الشيء الذي ينبغي، وهم في الحالة التي يُسخر منها، كما في أمثال العرب: (رمتني بدائها وانسَلَّت) الآن إذا رأيتَ رجلاً ذقنه مثل ذقني، له لحية بيضاء موفورة لم تقطع منها شعرة، إذا سافر ورآه صبيان المسلمين وشبابهم في الخارج ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار، كأنه في أعينهم تيس، لا يفهم عن الدنيا، ولا يساير ركب الحضارة، مع أنه في الواقع أن الرجل المعفي ذقنه المتسم بسمة الأنبياء هو الرجل العاقل الآخذ بالسمت الكريم؛ لأن هذه اللحية هي أعظم ما يتميز به الذكر عن الأنثى، فحلقها والفرار منها فرار من كرم الرجولة وشرف الذكورة إلى أنوثة الخنوثة، يريد أن يتشبه بالأنثى!! وهذا شرف وكرم وجمال في وجهه، وميزة لفحولته وذكورته عن خنوثة الأنثى

وضعفها. والرجال الكرام الذين أخذوا كنوز قيصر وكسرى لم يكن واحد منهم يحلق شيئاً من ذقنه، وكذلك سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان أجمل الناس، وأحسن الناس وجهاً، وأكثر الرجال نساءً، ولحيته كثة معفاة، هي في غاية الجمال والكمال، فيجب على كل شاب وعلى كل مسلم أن لا يتمسخر من الإسلام، وأن لا يتخذ الإسلام لهواً ولعباً وأن لا يسخر من حملة الدين، ولا من هيئات العلماء، وليعلم أن هيئات العلماء هي السمت الذي كان عليه السلف الصالح، والصحابة الكرام، والنبي صلى الله عليه وسلم، وهو سمت الأنبياء الكرام في ماضي الزمان. هذا هارون - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- من أنبياء سورة الأنعام الذين قال الله فيهم: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام: آية 84] وقال الله لنبينا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90] وثبت في صحيح البخاري (¬1) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في ص؟ قال: أوَمَا تقرأ؟! قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} [إلى أن قال:] (¬2) {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وهارون من الأنبياء الذين أمر نبينا أن يقتدي بهم، ومن الاقتداء بهم: الاقتداء في سمتهم الكريم - لما غضب عليه أخوه وَجَدَه كث اللحية معفاها، فقال له: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: آية 94] ومرادنا بهذا الكلام أن اتخاذ دين الله هزواً ولعباً ولهواً ولعباً انتشر في أقطار الدنيا، ولا سيما من الشباب الذين يَتَسَمَّون باسم المسلمين إذا رأوا رجلاً ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام. (¬2) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

يذهب إلى الصلاة يصلي سخروا منه وهَزَؤُوا به! يظنون أن الكرة رياضة خير من الصلاة، وإذا رأوا رجلاً متسماً بسمت الإسلام، أو عليه سمت الإسلام، أو ينادي باسم الدين يقولون: هذا رجعي، هذا رجل لا يفهم، هذا لا يساير ركب الحضارة!! ويتخذون العلماء، وحملة الدين، والنور السماوي، وتعاليم الدين يسخرون منها، ويضحكون ويستهزئون فليحذروا من الاستهزاء بدين الله، ومن اتخاذ آيات الله هزواً ولعباً؛ لأن ذلك أمر عظيم عند الله. ولما ضحك بعض المنافقين، وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم - لما ضلت راحلته في غزوة تبوك - هو يَدَّعى أنه يأتيه علم الغيب من السماء وهو لا يدري أين ذهبت راحلته!! وسخروا من النبي صلى الله عليه وسلم وهزئوا به، فنزل القرآن فيهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: آية 65] يعني: كنا نسخر ونضحك بهزل غير جد. أجابهم الله {قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن يُعْفَ عن طائفة منكم تُعَذَّبْ طائفةٌ يأنهم كانوا مجرمين} [التوبة: الآيتان 65، 66] وفي قراءة عاصم وحده: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} (¬1) وفيها قال ابن المرحَّل (¬2): لِعَاصِمٍ قِرَاءَهْ ... لِغَيْرِهَا مُخَالِفَهْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ ... مِنْكُمْ نُعذِّبْ طَائِفَهْ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص228. (¬2) البيت في البحر المحيط، لأبي حيان (5/ 67) سمعه من أبي الحكم مالك بن المرحل المالقي (ت 699) ولعله من قصيدة ابن المرحل الموسومة بـ (التبيين والتبصير في نظم كتاب التيسير) كما في ترجمته في الأعلام للزركلي (5/ 263) (7/ 201 - 202) كما في الهامش.

والشاهد عندنا أن نُحَذِّر إخواننا المسلمين من أن يتخذوا دين الله وآيات الله هزواً ولعباً، لئلا يلحقهم ما لحق الكفار الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، فليحذر المؤمن كل الحذر أن يسخر من دين الله، وأن يستهزئ بآيات الله، وأن يسخر من حملة العلم ومن رجال الدين، وأن يتخذهم مسخرة ومضحكة، هذا لا ينبغي ولا يليق، ومن فعله سيناله من الوعيد بقدر ما قال الله في أهل النار: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف: آية 51] فعلى المسلم أن يحترم الدين، ويعظم الدين، ويعظم كل ما جاء من ربه من الأوامر والنواهي، ويعظم العلماء وحملة العلم، والمتَّسِمِين بسمات العلم، ولا يحتقرهم، ولا يتخذهم هزواً. وإنما بينا هذا لكثرة ما نشاهد من شباب المسلمين في أقطار الدنيا، يتخذون الدين مسخرة وملعبة ومضحكة، يضحكون ممن يصلي، ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويتخذونه لهواً ولعباً كأنه مضحكة مسخرة!! هذا أمر خطير وعاقبته وخيمة. وقصدنا أن نحذر أنفسنا وإخواننا المسلمين منه، فعلينا أن نعظم آيات الله، ونحترم دين الله، ونحترم حملة الدين والعلماء المتصفين بحمل الدين، ولا نتخذهم لهواً ولعباً، ولا نسخر منهم، ولا نقلد عليهم التيوس إذا رأيناهم يعفون لحاهم، بل نعظمهم ونحترمهم؛ لئلا يلحقنا من الوعيد بقدر ما فعلنا من ذلك، كما قال الله في الكفار: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} لأنهم كانوا يسخرون من ضعاف المسلمين إذا رأوهم يصلون ويعبدون الله يتغامزون ويضحكون {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)} [المطففين: آية 30] ويقولون: {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} [الأنعام: آية 53] {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: الآية 11] انظروا دين محمد

يقول: إن هؤلاء البؤساء النتْنَى الفقراء أنهم ينالون الكرامة!! فيسخرون منهم ويضحكون من دينهم. هذا أمر لا ينبغي، بل يجب على المسلم أن يكون محترماً للدين، معظماً لما جاء من الله، معظماً لرجال العلم، محترماً لرجال الدين، غير مستهزئ بالدين، ولا بحملة الدين، ولا متخذهم مسخرة، هذا هو اللازم. وهذا معنى قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: خدعتهم. والدنيا: تأنيث الأدنى، وإنما سُميت (دنيا) لدنوها. أي: قربها، أو لدناءتها بالنسبة إلى الآخرة. ثم قال الله: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ} [الأعراف: آية 51] المراد بالنسيان هنا: الترك مع العلم التام؛ لأن الله لا ينسى، كما قال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: آية 52] والعرب تُطلق النسيان على ذهاب الشيء عن علم الإنسان بعد أن كان يعلمه، وهذا المعنى مستحيل على الله، وتطلق النسيان على الترك عمداً (¬1). وهو المقصود هنا وهو في آيات كثيرة {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ} [الأعراف: آية 51] أي: نتركهم عن إرادة وقصد يتقلبون في دركات النار، وأنواع العذاب. {كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: آية 51] أي: نسياناً كنسيانهم لقاء يومهم هذا؛ لأن هذا اليوم لم ينسوه، وإنما تركوا العمل له عمداً وقصداً وعناداً للرسل {كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا}. {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: آية 51] في قوله: {وَمَا} {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} وجهان من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنعام.

التفسير (¬1)، الصحيح منهما: أنها مصدرية، والمعنى: كنسيانهم لقاء يومهم هذا، وككونهم جاحدين بآياتنا في دار الدنيا، فـ (ما) مصدرية، وغلط قوم من علماء التفسير فقالوا: إنها نافية، والمعنى: {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} ما كانوا يجحدون بها في قرارة أنفسهم، بل يعلمون أنها حق، ولكنهم كانوا يعاندون، كما قال: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: آية 33] والتحقيق أنها مصدرية، والمعنى: نتركهم في النار، وننساهم تاركين إياهم في النار عمداً وقصداً معذبين في النار خالدين فيها {كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا} كما تركوا العمل للقاء هذا اليوم، وكما كانوا بآياتنا يجحدون، أي: كنسيانهم لهذا اليوم، وكجحودهم لآياتنا، وتكذيبهم رسلنا. قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: الآيات 52 - 54]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 336).

الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)} [الأعراف: الآيتان 52، 53]. لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) مصيرَ أهلِ الجنةِ ومصيرَ أهلِ النارِ، وما يقولُه كُلٌّ من أهلِ الجنةِ وأهلِ النارِ للآخرين، وما يقولُه أصحابُ الأعرافِ لِلطَّرَفَيْنِ بَيَّنَ أن الذين هلكوا واستحقوا النارَ وخلدوا في النارِ ما جاءهم ذلك إلا عن الإعراضِ عن هذا الكتابِ الأعظمِ والنورِ المبين الذي أنزله رَبُّ السماواتِ والأرضِ، وَفَصَّل فيه العقائدَ، والحلالَ والحرامَ، وَبَيَّنَ فيه الأمثالَ، وما يُوصِلُ إلى الجنةِ، وما يُوصِلُ إلى النارِ، وأوضحَ فيه كُلَّ خيرٍ، وَحَذَّرَ فيه من كُلِّ شَرٍّ، وَبَشَّرَ فيه وَأَنْذَرَ، فَمَنْ أعرضَ عن هذا القرآنِ هُمُ الذين صاروا إلى النارِ، وَمَنْ عمل بهذا القرآنِ هم الذين صاروا إلى الجنةِ. ومنذ أنزلَ اللَّهُ هذا الكتابَ - الذي هو أعظمُ كتابٍ نزلَ من السماءِ إلى الأرضِ، وَجَمَعَ اللَّهُ فيه علومَ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ - استحالَ شرعًا أن يدخلَ أحدٌ النارَ إلا عن طريقِ الإعراضِ عنه أو يدخلَ أحدٌ الجنةَ إلا عن طريقِ العملِ به، فالعملُ به مفتاحُ الجنةِ، والإعراضُ عنه مفتاحُ النارِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} الآية [هود: آية 17] ولأَجْلِ ذلك جَعَلَهُ اللَّهُ رحمةً لقومٍ وَفَّقَهُمْ للعملِ به، وحجةً ووبالاً على قومٍ خَذَلَهُمْ فَلَمْ يعملوا به: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: آية 44] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (82)} [الإسراء: آية 82] {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: آية 64] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ

آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} ولذا قال هنا: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ} أي: الخلائق الذين كنا نَقُصُّ خبرَهم؛ لأن بعضَهم في الجنةِ وبعضَهم في النارِ. فَعَلَى هذا القولِ فـ (الكتاب) جنسُ الكتبِ السماويةِ. والأظهرُ أن الْمُخَاطَبِينَ به المرادين به أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأن الكتابَ هو هذا القرآنُ العظيمُ. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم} أي: جئنا هذه الأمةَ التي دخل بعضُها الجنةَ وبعضُها النارَ. {بِكِتَابٍ} أَنْزَلْنَاهُ على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقراءةُ الجمهورِ من السبعةِ بل والعشرةِ: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ} أما قراءةُ: {ولقد جئناهم بكتاب فَضَّلْنَاهُ} أي: على سائرِ الكتبِ، فليست من القراءاتِ السبعيةِ، وقرأ بها ابنُ محيصن وغيرُه (¬1). وهي -وإن كانت شاذةً- فمعناها صحيحٌ؛ لأنه مُفَضَّلٌ على سائرِ الكتبِ. وقراءةُ الجميعِ: اللامُ موطئةٌ للقَسَمِ، وَاللَّهِ ما تركناهم سُدًى ولا في غفلةٍ، وَاللَّهِ لقد جئناهم بكتابٍ. يعني: أَتَيْنَاهُمْ بكتابٍ. قدمنا أنه قيل له (الكتاب) لأنه مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظِ، كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)} [البروج: الآيتان 21، 22] وفي صحفٍ عِنْدَ الملائكةِ، كما في قولِه: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14)} [عبس: الآيتان 13، 14] وكذلك هو مكتوبٌ عندَ المسلمين في مصاحفِهم يقرؤونه. {بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ} صِيغَةُ الجمعِ للتعظيمِ، وَاللَّهُ هو الآتِي بهذا ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 51).

الكتابِ وحدَه، المُفصِّلُ له وحدَه. وصيغةُ الجمعِ في (جئنا) وفي (فصلنا) إنما هي للتعظيمِ، والمعنَى: {فَصَّلْنَاهُ} التفصيلُ ضِدُّ الإجمالِ. ومعنَى تفصيلِ هذا الكتابِ: جَعَلْنَاهُ مُفَصَّلاً مُوَضَّحًا بَيِّنًا، فيه العقائدُ بتفصيلٍ وإيضاحٍ، والحلالُ والحرامُ والأمثالُ والمواعظُ، وما يُدْخِلُ الجنةَ، وما يُدْخِلُ النارَ، وما يُرْضِي اللَّهَ، وما يُسْخِطُ اللَّهَ، وما تصلح به أحوالُ الإنسانِ في دنياه وآخرتِه، وما تَفْسُدُ به، فقد فصَّل اللَّهُ فيه كُلَّ شيءٍ، وَبَيَّنَ فيه أصولَ كُلِّ شيءٍ، فأوضحَ فيه العقائدَ، ومكارمَ الأخلاقِ، والخروجَ من الشبهاتِ، وَرَفَعَ فيه الْهِمَمَ، وَبَيَّنَ أصولَ الحلالِ والحرامِ، وأصولَ المواعظِ وجميعَ الأشياءِ. والغريبُ كُل الغريبِ الذي لاَ يقضي الإنسانُ عجبَه منه أن أمةً ينزلُ عليها هذا الكتابُ الذي يقول اللَّهُ فيه: إنه فَصَّلَهُ على عِلْمٍ منه، بَيَّنَهُ مُفَصَّلاً بعلمِ اللَّهِ (جل وعلا) المحيطِ بِكُلِّ شيءٍ، وضمَّنه جميعَ المصالحِ ودرءَ جميعِ المفاسدِ وخيرَ الدنيا والآخرةِ، وهذا كُلُّهُ من رَبِّ العالمين المحيطِ علمُه بِكُلِّ شيءٍ، وهذا كلامُه الذي فصَّله على علمٍ منه وَأَوْضَحَهُ، وَبَيَّنَ فيه معالمَ الخيرِ ومعالمَ الشرِّ، وما يُصْلِحُ دنيا الإنسانِ وآخرتَه، وما يكونُ به على خيرٍ في كِلْتَا الدَّارَيْنِ، وهو تنزيلُ رَبِّ العالمين، وتفصيلُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، ومع هذا كُلِّهِ يُرْغَبُ عن هذا الكتابِ ولا يُبَالِي به، ويذهبُ يطلبُ الخيرَ والحقَّ في آراءِ قومٍ كفرةٍ فجرةٍ كلابٍ خنازيرَ!! فهذا من غرائبِ الدهرِ وعجائبِه!! كيف تُصْرَفُ هذه الأمةُ عن هذا الكتابِ المنزلِ الذي هو كلامُ ربِّ العالمين، وما فيه من المعانِي، وما فيه من العقائدِ والحلالِ والحرامِ والمعاملاتِ والمواعظِ ومكارمِ الأخلاقِ، وإيضاحِ علاقاتِ المجتمعِ فيما بينَه، وإيضاحِ حالةِ الإنسانِ في نفسِه، وما ينبغي أن

يكونَ عليه، وما ينبغي أن يكونَ عليه مع مجتمعِه الخاصِّ، ومع مجتمعِه العامِّ، وما يكون عليه مع أعدائه، كُلُّ هذا فَصَّلَهُ رَبُّ العالمين، وَأَوْضَحَهُ وزاده بيانًا رسولٌ كريمٌ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4] فَتَرَكَهَا محجةً بيضاءَ ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ. مَنْ سَلَكَ هذا القرآنَ العظيمَ، وعمل به، وبالسنةِ المبينةِ له نَالَ خيرَ الدنيا وخيرَ الآخرةِ، وكان أعظمَ الناسِ هيبةً، وَأَقْوَاهُمْ شوكةً، وَأَعَزَّهُمْ مَنَعَةً، ومع هذا كُلِّهِ فالأمةُ التي نَزَلَ القرآنُ على أسلافِها تَخَلَّتْ عن هذا الكتابِ المحكمِ الذي هو كتابُ رَبِّ العالمين، الذي قال فيه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: آية 52] المُفصِّلُ له هو اللَّهُ على علمٍ من الله المحيطِ علمُه بِكُلِّ شيءٍ، ومع هذا يتركونَه ولا ينظرونَ إليه، وينبذونَه وراءَ ظهورِهم، ويذهبونَ يطلبونَ الرشدَ ومصالحَ أمرِهم في قوانينَ وَنُظُمٍ رَتَّبَهَا كفرةٌ فجرةٌ جهلةٌ مُظْلِمَةٌ قلوبُهم، هم كالأنعامِ أو أضلُّ سبيلاً!! فهذا من أغربِ ما يشاهده الإنسانُ! ولو أننا لم نَرَهُ عيانًا لَمَا كُنَّا نصدق أن عاقلاً يذهب عن كلامِ رَبِّ العالمين الذي بَيَّنَ فيه الرشادَ وخيرَ الدنيا وخيرَ الآخِرَةِ، وأوضحَ فيه كُلَّ شيءٍ يتركه عمدًا زاعمًا أنه لا يُنَظِّمُ علاقاتِ الحياةِ، ولا يسايرُ رَكْبَ الحضارةِ، ثم يذهبُ إلى نُظُمٍ وَضْعِيَّةٍ، وقوانينَ إفرنجيةٍ وَضَعَهَا ملاحدةٌ لاَ يعلمونَ عن الله شيئًا، لاَ يعلمونَ إِلاَّ ظاهرًا من الحياةِ الدنيا وهم عن الآخرةِ هم غافلونَ. فهذا من أغربِ ما وقع في التاريخِ!! نسألُ اللَّهَ أن يُبَصِّرَنَا بهداه ولا يُضِلَّنَا، ولكنا بَيَّنَّا مرارًا أن الذين يَنْصَرِفُونَ عن أنوارِ القرآنِ وَهُدَى القرآنِ يطلبونَ الرشادَ في نظمٍ كفريةٍ قانونيةٍ، مخالفةٍ لهدى اللَّهِ وكتابِه الذي فَصَّلَهُ على عِلْمٍ منه هُدًى وَرَحْمَةً، أن

الذي جَرَّهُمْ إلى ذلك أنَّ القرآنَ أعظمُ نُورٍ، وَاللَّهُ يُسَمِّيهِ النورَ في آياتٍ كثيرةٍ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174)} [النساء: آية 174] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: آية 8] على عَبْدِنَا {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: آية 52] فهو نورٌ أعظمُ نورٍ، وهؤلاء الذين ينصرفونَ عنه إلى النُّظُمِ الوضعيةِ الكافريةِ في الحقيقةِ هم خفافيشُ البصائرِ، والخفاشُ لا يُلاَمُ إذا كان لا يمكنُ أن يَرَى ضوءَ الشمسِ؛ لأن بصيرتَه ليس لها استعدادٌ ولا قوةٌ على مقابلةِ الشمسِ. مِثْلَ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى ... نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ (¬1) ... خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (¬2) كَمَا أشارَ اللَّهُ لهذا بقولِه: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: آية 20] وَبَيَّنَ (جل وعلا) في سورةِ الرعدِ أن هذا القرآنَ لا ينصرفُ عنه ويجهلُ أحقيتَه وأمرَه إلا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بصيرتَه بالكليةِ، والأعمى إذا كان لا يبصرُ الشمسَ فما في تَبْصِيرِهِ لها حيلةٌ وذلك في قولِه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فَصَرَّحَ بأن الذي لا يعلمُ أنه الحقُّ أن الذي مَنَعَهُ من ذلك هو عَمَاهُ، وعدمُ رؤيةِ الأَعْمَى للشمسِ لا يجعلُ في الشمسِ لَبْسًا ولا شَكًّا ولا ريبًا: إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (¬3) ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

ولم يَكْفِ هؤلاء المساكين الخفافيشَ، لم يَكْفِهِمُ الإعراضُ عن القرآنِ، وتركُه وراءَ ظهورهم، وتفضيلُ آراءِ الكفرةِ الفجرةِ عليه، لم يَكْفِهِمْ ذلك أن طَعَنُوا فيه، وَزَعَمُوا أن بعضَ تشاريعِه التي نَظَّمَهَا اللَّهُ وَشَرَّعَهَا أنها ليست عادلةً - والعياذُ بالله - وَمَنْ زَعَمَ هذا فقد طَعَنَ في حكمةِ اللَّهِ، وَكَفَرَ بالله كُفْرًا بوَاحًا. ترى الجهلةَ الملاحدةَ الذين صَبَغَهُمُ الإفرنجُ كما يشاؤون يقولونَ: كيفَ يَجْعَلُ دينُ الإسلامِ ميراثَ المرأةِ أقلَّ من ميراثِ الرجلِ وعينُ القرابةِ التي يُدْلِي بها الرجلُ هي عينُ القرابةِ التي تُدْلِي بها المرأةُ، فكيف يكونُ نَفْسُ ما يُدْلِي به الرجلُ هو ما تُدْلِي به المرأةُ ثم يُفَضِّلُهُ عليها؟ (¬1). وَاللَّهُ (جل وعلا) يعلمُ أن هذا سَيَضِلُّ به قومٌ، وأن مَنْ زعم أن تفضيلَ الرجلِ على المرأةِ في الميراثِ ليس بحكمةٍ ولا صوابٍ أنه ضَالٌّ؛ وَلِذَا بَيَّنَ هذا من غرائبِ القرآنِ حيث قال بعدَ قولِه: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: آية 176] أَتْبَعَهُ بقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: آية 176] فَبَيَّنَ أن مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هذا التشريعَ وَطَعَنَ فيه أنه ضَالٌّ، وهو كما قال الله. ثم يقولونَ: كيف يَجْعَلُ دينُ الإسلامِ الطلاقَ بيدِ الرجلِ من غيرِ إِذْنِ المرأةِ، مع أن عقدَ النكاحِ أَوَّلاً لم يكن إلا بإذنِ المرأةِ وَرِضَاهَا، فهي عقدةٌ اجْتَمَعَا عليها، فكيف يَجْعَلُ الاستقالةَ منها للرجلِ وحدَه دونَ إِذْنِ المرأةِ؟ ثم يقولونَ بالفلسفاتِ الشيطانيةِ: ربما أَفْنَى الرجلُ جمالَها وشبابَها حتى صارت لاَ يَرْغَبُ فيها غيرُه ثم يُلْقِيهَا وَيُطَلِّقُهَا فتبقَى ضائعةً، وهذا ظُلْمٌ. وَيُلَفِّقُونَ نحوَ هذا من الفلسفاتِ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (1/ 158).

الشيطانيةِ التي يأتِي بها قومٌ أَعْمَى اللَّهُ بصائرَهم عن أنوارِ القرآنِ وَحِكَمِ رَبِّ العالمين الباهرةِ (¬1). ونحن نذكرُ هنا (إن شاء الله) بعضَ الأشياءِ التي طَعَنُوا بها في التشريعِ الإسلاميِّ، وَنُبَيِّنُ أن الذي جَرَّهُمْ إلى ذلك هو سُوءُ فَهْمِهِمْ، وعدمُ معرفتِهم، وطمسُ بصائرِهم، وضلالُ قلوبِهم: وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ (¬2) أما تفضيلُ اللَّهِ للرجلِ على المرأةِ فِي الميراثِ فقد أشارَ لحكمتِه بقولِه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: آية 34] وتقريبُ هذا للأذهانِ: أن الميراثَ ما تَعِبَ فيه الرجلُ الوارثُ ولاَ المرأةُ الوارثةُ، ولا مَسَحَا في تَحْصِيلِهِ عَرَقًا، وإنما هو مالٌ مَلَّكَهُمُ اللَّهُ إياه تفَضُّلاً منه مُلكًا جَبْرِيًّا من غيرِ أن يَتَسَبَّبَا فيه بعملٍ ولا بكدٍ ولا بكدحٍ، فَاللَّهُ ملَّكهما إياه، وقد أَجْرَى اللَّهُ عادتَه بحكمتِه أنه لَمَّا قَسَّمَ الإنسانَ إلى ذَكَرٍ وأنثى جعلَ الذكورةَ بقوةِ حَالِهَا وطبيعتِها قوةً وكمالاً. فالذكورةُ قوةٌ وكمالٌ، والأنوثةُ ضَعْفٌ خِلْقِيٌّ جِبِلِّيٌّ، ونقصٌ خِلْقِيٌّ جَبَلَ اللَّهُ هذا النوعَ من الإنسانِ عليه. وعامةُ العقلاءِ لا يكادونَ يختلفونَ في هذا إلا المكابرين بالفلسفاتِ الشيطانيةِ. والدليلُ على ذلك ما أشارَ له اللَّهُ في سورةِ الزخرفِ في قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} (¬3) [الزخرف: آية 18] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {أومن يَنْشَأُ ¬

(¬1) السابق (1/ 159). (¬2) البيت للمتنبي. وهو في ديوانه (بشرح العكبري 4/ 120). (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص397.

في الحلية وهو في الخصام غير مبين} يعني: أيجعلونَ لِلَّهِ البناتِ، يجعلونَ له الولدَ، ثم يجعلونَ له أضعفَ الْوَلَدَيْنِ جِبلَّةً وأنقصَهما خِلقَةً وهو الأُنْثَى؛ ولذلك منذ تُولَدُ الأُنْثَى وهي تُجْعَلُ لها الزيناتُ، وربما ثُقِبَتْ آذانُها وجُعلت فيها الأقراطُ والشنوفُ، ثم تُجْعَلُ في جيدِها القلائدُ - من أنواعِ الْحُلِيِّ - وفي مَعَاصِمِهَا، وفي خَلاَخِلِهَا، وَتُكْسَى الحليَّ والحللَ منذ تُولَدُ إلى أن تموتَ، كل ذلك التزيينِ هو جبرٌ لذلك النقصِ الخلقيِّ الذي خَلَقَهَا اللَّهُ عليه وَجَبَلَهَا عليه. وَمَا الْحَلْيُ إِلاَّ زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا (¬1) ... وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا ... كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرا أما الذَّكَرُ فجمالُ ذُكُورَتِهِ وكمالُ فحولتِه هو جمالٌ وكمالٌ طَبِيعِيٌّ، ولذا لا تجدُ الدنيا على مرورِ الأزمنةِ والقرونِ تخرقُ آذانَ الذكورِ وتجملهم بالأقراطِ والشنوفِ، ولا تجعلُ لهم قلائدَ الحلي والخلاخيلِ والأساورِ، وإنما تُجْعَلُ ذلك للأنثى. والإفرنجُ الذين يحاولونَ أنهما سواء يُحَمِّرونَ فَمَ الأُنْثَى ولا يُحَمِّرونَ فَمَ الذَّكَرِ، وَكُلُّ ذلك يشيرُ إلى الفرقِ الجبليِّ الطبيعيِّ بينَهما الذي جَبَلَهُمَا اللَّهُ عليه. فلما كان اللَّهُ (جل وعلا) جَعَلَ الأنوثةَ في أصلِ طبيعتِها وَخِلْقَتِهَا ضَعْفًا خلقيًّا ونقصًا جبليًّا، وجعلَ الذكورةَ ¬

(¬1) البيتان لابن الرومي، وهما في ديوانه (3/ 1007، 1008)، (تحقيق حسين نصار) مع شيء من الاختلاف، والذي في الديوان: ومَا الحَلْيُ إلا حيلة لنَقِيْصةٍ ... تُتَمِّمُ من حُسْنٍ إذا الُحسْنُ قَصَّرَا ... وليس لحليٍ في الجميلةِ منظرا ... جمال ولكن في القبيحة منظرا ... تضيء نجومُ الليل في الليلِ وحده ... وليس لها ضوءٌ إذا الصبحُ نوَّرا ... فأمَّا إذا ما الحُسنُ كان مُكَمَّلا ... كحُسْنكِ لم يحتجْ إلى أن يُزَوَّرَا

في أصلِ خلقتِها كمالاً طبيعيًّا وقوةً جِبِلِّيَّةً، اقتضت حكمةُ العليمِ الخبيرِ أن يجعلَ ذلك القويَّ بطبعه، الكاملَ بجبلته قَيِّمًا على ذلك الضعيفِ بقوتِه، الناقصِ بجبلته؛ ليستجلبَ له ما يعجزُ عنه من الخيرِ، ويدفعُ عنه ما يعجزُ عنه من الشَّرِّ، ولذلك كان الرجلُ يترقبُ النقصَ في حياتِه دائما؛ فإنه يبذلُ دائمًا النفقاتِ في صَدُقَاتِ الزوجاتِ، والإنفاقِ عليهن، وفي مُؤَنِ الجهادِ، وفي نوائبِ الدهرِ، فهو غارمٌ باذلٌ دائمًا، والمرأةُ تترقبُ طولَ حياتِها الزيادةَ، وأن يُمْلأَ كِيسُهَا، تترقبُ رجلاً يدفعُ لها مالاً كثيرًا في صَدَاقِهَا، ويقومُ بجميعِ مُؤَنِهَا ولوازِمها في الدنيا، فهي تترقبُ الزيادةَ دائمًا، والرجلُ يترقبُ النقصَ دائمًا. فلما كان الحكيمُ الخبيرُ أرادَ أن يُقَسِّمَ عليهما الميراثَ آثَرَ مترقبَ النقصِ دائمًا على مترقبِ الزيادةِ دائما جَبْرًا لبعضِ نقصِه المترقبِ؛ ولذا تَجِدُ الرجلَ وأختَه، تجدُ أختَه تُدفع لها الأموالُ الكثيرةُ في صَدَاقِهَا، ويقومُ غيرُه بنفقاتِها وَكُلِّ ما يَلْزَمُ لها، والرجلُ أخوها الآخَرُ هو الذي يَبْذُلُ ما عندَه في نفقاتِ زوجاتِه ومهورهن، ونوائبِ الدهرِ، ومعوناتِ الجهادِ، وغيرِ ذلك. وإذا وجدنا مَنْ يَقْسِمُ على اثْنَيْنِ أحدهما يترقبُ النقصَ دائمًا، والثاني يترقبُ الزيادةَ دائمًا، فآثر مترقبَ النقصِ دائمًا على مترقبِ الزيادةِ دائمًا جَبْرًا لبعضِ نقصِه المُترقب لقلنا له: إن إِيثَارَكَ لهذا وزيادتَك لهذا عن هذا واقعةٌ مَوْقِعَهَا عن حكمةٍ بالغةٍ، ووضع أَمْرٍ في موضعِه، وإيقاعِه في موقعِه، ولهذا كان (جل وعلا) يُفَضِّلُ في الميراثِ الذكرَ على الأنثى؛ لأن الذكرَ باذلٌ يبذلُ في مهورِ الأزواجِ وفي نفقاتِهن وفي نفقاتِ الأولادِ، وفي مُؤَنِ الجهادِ وغيرِ ذلك من وُجُوهِ الْبِرِّ. والمرأةُ دائمًا تترقبُ

رجلاً يبذلُ لها مالاً كثيرًا يُسَمَّى الصداق، ويقومُ بشؤونها من إنفاقٍ وملبسٍ ومأكلٍ ومشربٍ وكلِّ ما تحتاجُ إليه. فإيثارُ مترقبِ النقصِ على مترقبِ الزيادةِ حكمةٌ بالغةٌ، وأمرٌ واضحٌ واقعٌ موقعَه كما لا يَخْفَى إلا على مطموسِ البصيرةِ، وإنما جَعَلَ اللَّهُ الرجالَ قَوَّامِينَ على النساءِ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ في الذكورةِ بِجِبِلَّتِهَا وخلقتها من القوةِ والكمالِ، وقصورِ الأنوثةِ عن ذلك؛ ولذلك كان الولدُ يُنْسَبُ إلى الرجلِ، والمرأةُ راضيةٌ، نفسُ المرأةِ تقولُ لولدِها الذي نُفِسَتْ به وخرج من قُبُلها: «هذا ابنُ فلان». تعني [زوجها] (¬1)، تنسبُه لأبيه وَفْقًا لقولِه تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: آية 5] وجعل الله الرجلَ هو المسؤولَ عن المرأةِ، يُقَوِّمُ أخلاقَها، وَيَقُومُ بشؤونِها، وهو مترقبٌ النقصَ والبذلَ دائمًا، وهي مترقبةٌ الزيادةَ دائمًا. وجَعْلُ اللَّهِ النساءَ يُنْفَقُ عليهن، وَيُكْفَيْنَ المؤنةَ ليسَ لإهانةٍ لهن، ولا لهضمٍ لحقوقهن، ولكنما هو إكرامٌ لهن بحسبِ طبيعتِهن وخلْقَتِهن التي جَبَلَهُنَّ عليها خالقُ السماواتِ والأرضِ؛ لأَنَّ المرأةَ تتعرضُ لأعينِ الخونةِ؛ لأن المرأةَ كُلَّهَا هي متعةٌ وتلذذٌ أَبَتْ أم كَرِهَتْ؛ لأن عينَ الإنسانِ إذا نظرت إلى جمالِها الْتَذَّتْ منها واستغلت جَمَالَهَا كرهًا، فاقتضت حكمةُ الشرعِ أن تُصَانَ، وَتُجْعَلُ كالدرةِ المصونةِ، وتُكفى مؤنَ الدهرِ ولوازمَه ونوائبَه؛ لئلا تضطرَ إلى الابتذالِ وما لا يليقُ بِشَرَفِهَا. فهذه تعاليمُ الإسلامِ، وصيانتُه للمرأةِ وإكرامُها وبذلُها لحقوقِها الكاملةِ، مع أنَّا بَيَّنَّا مِرَارًا أنها تُسَاعِدُ في بناءِ المجتمعِ، وتربيةِ الأسرةِ داخلَ بيتِها مساعدةً أعظمَ مما يعملُه الرجلُ خارجًا، لَكِنَّ تلك المساعدةَ في عفافٍ وسترٍ وكرمٍ. وهذا واضحٌ مَنْ نَظَرَهُ ¬

(¬1) في الأصل: زوجة.

يعلمُ أن تفضيلَ الرجلِ في الميراثِ عن المرأةِ لحكمةٍ بالغةٍ واضحةٍ لاَ يجهلُها إلا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بصيرتَه. كذلك جَعْلُ الطلاقِ بيدِ الرجلِ حكمتُه بالغةٌ واضحةٌ لاَ إشكالَ فيها؛ لأن القرآنَ بَيَّنَ أن النساءَ وإن كُنَّ في غايةِ الكرامةِ على أزواجهن وعلى أُسَرِهِنَّ، وهن بالمنزلة العليا التي جَعَلَهَا اللَّهُ لهن من أنهن يُكْفَيْنَ جميعَ الحقوقِ، ويُكفينَ جميعَ المؤناتِ، ويُصَنَّ أكرمَ الصيانةِ وأعزَّها، وأن لا يُبْذَلْنَ لضياعِ شَرَفِهِنَّ، ولا مروءتهن وَهُنَّ مع ذلك مَزَارِعُ تُزْرَعُ فيها النطفُ حتى تُسْتَحْصَدَ ويأخذها صاحبُها فتثمرُ النطفةُ في رَحِمِ المرأةِ، ثم تَلِدُهَا فيأخذها صاحبُها الذي زَرَعَهَا وهو الرجلُ، ويقال: هذا ابنُ فلانٍ. وَاللَّهُ يقولُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: آية 223] وإنما سَمَّى النساءَ حَرْثًا لأن طبيعةَ الحالِ والأمرَ الواقعَ هو يقتضي ذلك بِلاَ شَكٍّ ولا رَيْبٍ؛ لأن آلةَ التناسلِ والازدراعِ هي مع الرجلِ، فلو أَرَادَتِ المرأةُ أن تأخذَ حَمْلاً من الرجلِ، وأن تجامعَه فتحمل منه وهو كارهٌ فإن ذَكَرَهُ لاَ ينتشرُ إليها، ولا تَقْدِرُ أن تأخذَ منه شيئًا، بخلافِ الرجلِ فعنده آلةُ النسلِ وآلةُ الازدراعِ، فهو فاعلٌ بطبيعةِ حالِه، وهي مفعولٌ بطبيعةِ الوضعِ الذي خَلَقَهَا اللَّهُ وَجَبَلَهَا عليه. فالرجلُ قد يُجَامِعُهَا راغمةً مكرهةً وَتَلِدُ ولدًا يكونُ هو خيرُ الدنيا والآخرةِ عليها وإن حملت به كرهًا وإرغامًا غيرَ راضيةٍ، أما الرجلُ فلا تكادُ المرأةُ أن تحصلَ منه على حملٍ وهو كارهٌ أبدًا؛ لأنه إذا كان غيرَ راغبٍ في ذلك لا ينتشرُ ذَكَرُهُ ولا يقومُ إليها، ولا تقدرُ منه على شيء. فتبين أنه فاعلٌ بطبيعةِ الحالِ والجبلةِ الخلقيةِ، وأنها مفعولٌ به بالطبيعةِ التي خَلَقَهَا اللَّهُ وجبلها عليها، كما قال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}

لأنه يُحْبِلُهَا وهي كارهةٌ، كما قال أبو كبير الهذليُّ في ربيبه تأبط شرًّا (¬1): مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقِدٌ ... حُبُكَ النِّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهبَّلِ يعني حبلت به أُمُّهُ وهي عاقدةٌ حُبُكَ نطاقِها، شادةٌ إِزَارَهَا، ممتنعةٌ من أن تحل الإزارَ، فقد أُكْرِهَتْ على ذلك الجماعِ الذي حبلت منه. ولأَجْلِ هذا إذا كان الرجلُ فاعلاً والمرأةُ مُزْدَرَعٌ ليس من العقلِ ولا من الحكمةِ أن نقولَ لإنسانٍ لا رغبةَ له في الأولادِ في حقلٍ: لا بد أن نُرْغِمَكَ على هذا الحقلِ والبقاءِ معه وأنتَ لا رغبةَ لكَ فيه. والرجلُ لم يُفْنِ من جمالِ المرأةِ شيئًا، إنما أَفْنَى جمالَها الليالي والأيامُ. أَفْنَاهُ قيل اللَّهِ لِلشَّمْسِ: اطْلُعِي (¬2) ... .......................... فالرجل لم يُنْقِصْ من جمالِها شيئًا، وإنما نَقَصَهُ اللَّهُ بطولِ عُمْرِهَا. والمدةُ التي مَكَثَ معها هو قائمٌ بجميعِ شؤونها، وليس مُلْزَمًا بالبقاءِ دائمًا عندَ حقلٍ لاَ خيرَ له فيه، فلو أُرْغِمَ على البقاءِ معها دائمًا وهو كارهٌ لم تَسْتَفِدْ منه شيئًا، ولم تَقْدِرْ أن تأتيَ منه بولدٍ، ولا أن تحصلَ منه على شيءٍ، بخلافِ الرجلِ. وكذلك يزعمونَ أن تعددَ الزوجاتِ من التشريعِ الذي ليس بِطَيِّبٍ. وكلُّ هذا قصورٌ منهم - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - لأن تعددَ الزوجاتِ فيه مصلحةُ المرأةِ، ومصلحةُ الرجلِ، ومصلحةُ المجتمعِ، فهو تشريعٌ سماويٌّ يشملُ جميعَ المصالحِ، وهم يقولونَ: إن تعددَ الزوجاتِ أمرٌ ¬

(¬1) البيت لأبي كبير الهذلي يصف تأبط شرًّا، وهو في ديوان تأبط شرًّا ص88، الكامل (1/ 175)، مغني اللبيب (2/ 193)، شواهد الكشاف ص105. (¬2) هذا شطر بيت لأبي النجم، وشطره الثاني: ........................ ... حتى إذا واراك أفق فارجعي وهو في «الإيضاح في علوم البلاغة (1/ 29)، ورحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص185».

لاَ ينبغي؛ لأَنَّ الرجلَ إذا كانت امرأتُه واحدةً أمكنه أن يأخذَ بِخَاطِرِهَا، وأن يعيشَ معها في عيشٍ مستقيمٍ لذيذٍ، كُلٌّ منهما قريرُ العينِ بصاحبِه، أما إن جَمَعَ معها أخرى فإنه إن أَرْضَى هذه سَخِطَتْ هذه، وإن أَرْضَى هذه سخطت هذه، فهو بَيْنَ سخطتين دائمًا، وفي نزاعٍ دائمٍ، وأن الإتيانَ بالضرةِ الأخرى يُؤْلِمُ قلبَ الزوجةِ الأُولَى، وأن هذا التشريعَ ليس بطيبٍ. وكلُّ هذا جهالةٌ منهم قَبَّحَهُمُ اللَّهُ؛ لأن المشاغبةَ أمرٌ طبيعيٌّ بينَ الناسِ، فالرجلُ تقعُ المشاغبةُ بينَه وبينَ أُمِّهِ، وبينَه وبينَ أبيه وأخيه، وبينَه وبينَ زوجتِه الواحدةِ، فهي أمرٌ طبيعيٌّ بالنسبةِ إلى الناسِ يتخاصمونَ مرةً ويكونُ بينَهم بعضُ الشنآنِ والشرِّ ثم يرجعُ كلٌّ منهم إلى رضا الآخَرِ، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ من ضرورياتِ الحياةِ. والمرأةُ الواحدةُ قد تَمْرَضُ، وقد تُنفس، وقد تحيضُ، فتبقى منافعُ الرجلِ معطلةً، والمرأةُ غيرُ صالحةٍ في ذلك الوقتِ - لِنِفَاسِهَا أو حيضها أو مرضها، غير صالحة في ذلك الوقتِ - لأخصِّ لوازمِ الزوجيةِ، فتبقى مواهبُ الرجلِ معطلةً، وهذا لا يَنْبَغِي. ثم إن اللَّهَ أجرى العادةَ بأن النساءَ أكثرُ من الذكورِ في جميعِ أقطارِ الدنيا، وكذلك تُثْبِتُهُ الإحصاءاتُ العالميةُ؛ لأن الذكورَ أكثرُ تعرضًا لأسبابِ الموتِ من النساءِ [فهم] (¬1) أكثرُ خروجًا للقتالِ، وأكثرُ مزاولةً في ميادينِ الحياةِ، فالموتُ يَكْثُرُ [فيهم] (¬2) غالبًا، فالنساءُ أكثرُ في جميعِ أقطارِ الدنيا، فلو قُصر كُلُّ رجلٍ على امرأةٍ واحدةٍ لبقي عددٌ ضخمٌ ورقمٌ عالٍ عظيمٌ من النساءِ لا أزواجَ لهن فَيُضْطُرِرْنَ إلى الرذيلةِ، وإلى الزنى، وإلى تفشيِ الرذيلةِ وضياعِ الخُلقِ ومكارمِ الأخلاقِ. مع أنه لو جَمَعَ الرجل اثنتين أو ثلاثًا كما قال الله فلا ضررَ على المرأةِ ¬

(¬1) في الأصل: «فهن» وهذا سبق لسان. (¬2) في الأصل: «فيهن» وهذا سبق لسان.

لا تجدُ ضررًا من عدمِ الحظِّ الإنسانيِّ؛ لأن الرجلَ يأتيها في ليالٍ قليلةٍ، وتجدُ مَنْ يقومُ بشؤونها؛ ولذا البلادُ التي تمنعُ تعددَ الزوجاتِ تجدُها تمنعُ أمرًا حلالاً فيه صالحُ الرجلِ وصالحُ المرأةِ وصالحُ المجتمعِ بكثرةِ الأولادِ، وهم مع ذلك فيهم كثيرٌ من النساءِ هُمل لا أزواجَ لهن، لا حرفةَ لهن إلا الزنى، وكلُّ واحدٍ - والعياذُ بالله - له صدائقُ وخليلاتٌ يُزاني بهن - والعياذُ بالله - فتنتشرُ الرذيلةُ، وتضيعُ الأخلاقُ، وتضيعُ المروءةُ، فالنساءُ أكثرُ من الرجالِ، وكذلك النساءُ مستعداتٌ كُلُّهُنَّ للزواجِ؛ لأن كُلَّ امرأةٍ بلغت مبلغَ الزواجِ فهي مستعدةٌ للزواجِ، وما كل الرجالِ مستعدًّا للزواجِ؛ لأنه قد يعوقُه الفقرُ عن القيامِ باللازمِ ونحوِ ذلك. فلو قُصِرَ الواحدُ على الواحدةِ لَبَقِيَ عددٌ ضخمٌ خالٍ من أزواجٍ، وكانت حرفتُه الزنى - والعياذُ بالله - فضاعت أخلاقُه، وضاعت مروءتُه، وضاع شَرَفُهُ. هذا هو تشريعُ خالقِ السماواتِ والأرضِ. والمرأةُ -وإن كان في الضرةِ عليها بعضُ أَذًى في قلبها- إلا أن هذا الأَذَى الخفيفَ أنه يُغْتَفَرُ لأجلِ هذه المصالحِ العظامِ، وهي مصلحةُ الرجلِ حيثُ لا تُعَطَّلُ منافعُه وقتَ حيضِ المرأةِ أو نفاسِها أو مرضِها، وفيه مصلحةٌ للمرأةِ حيث لا يَبْقَى عددٌ ضخمٌ من النساءِ لا أزواجَ لهن؛ لأن الرجالَ أقلُّ منهن، وفيه مصلحةٌ للأمةِ بكثرةِ النسلِ؛ لأنه إذا تَعَدَّدَتِ الزوجاتُ كَثُرَ النسلُ، وفي الحديثِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأمرُنا بالتزويجِ، وأنه يُكَاثِرُ بنا الأممَ (¬1)، فتعددُ الزوجاتِ مصلحةٌ لنفسِ المرأةِ؛ لئلا تبقى لا زوجَ لها فتحترفُ حرفةَ الزنى وتضيعُ، ومصلحةٌ للرجلِ؛ لئلا تُعَطَّلَ منافعُه وقتَ حيضِ المرأةِ أو نفاسِها أو مرضها، وفيه مصلحةٌ للأمةِ بكثرةِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

الرجالِ؛ لأن الكثرةَ لها شأنٌ، وَتَقْدِرُ الأمةُ على أن تكافحَ بها عدوَّ الإسلامِ وتردَّ بها الكفاحَ الداهمَ لبلادها. فهذه مصالحُ الإسلامِ، وهي واضحةٌ لا شَكَّ فيها. وكذلك ما يزينُه إبليسُ من أنه لابدَّ أن تكونَ النساءُ كالرجالِ في جميعِ الميادين، فهذا أَمْرٌ قَدْ بَيَّنَّا أيضًا أن الحقَّ فيه مع القرآنِ كما لا يَخْفَى، وأن الفلسفاتِ الشيطانيةَ إنما أَضَاعَتْ أخلاقَ الناسِ، وابتذلت النساءَ وضيعتهن من حيث لا يَشْعُرْنَ؛ لأن الشيطانَ يسوؤه لعداوتِه للإنسانِ ما جاءَ به الإسلامُ من معاونةِ الرجلِ وامرأتِه على بناءِ أولادِهما وأسرتِهما، والمساعدةِ في مجتمعِهما بأن يخرجَ الرجلُ؛ لأَنَّ فحولتَه وذكورتَه مناسبةٌ للخروجِ، عظامُه قويةٌ وعضلاتُه قويةٌ، وعيونُه محمرةٌ قويةٌ لاَ يتلذذُ به من رَآهُ، وليس مُتَعَرِّضًا للفتنةِ، يقومُ في كدحِ الحياةِ لتحصيلِ شؤونِ الحياةِ، وفي الجهادِ لِرَدِّ الكفاحِ المسلحِ وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ، ويتركُ قرينَه الآخَرَ الكريمَ وهو امرأتُه الكريمةُ العفيفةُ الصَّيِّنَةُ المطيعةُ لِلَّهِ (جل وعلا)، الْمُحَافِظَةُ على شَرَفِهَا ودينِها وكرمِها، المُبَيِّضة وجهَ نفسِها ووجهَ أسرتِها، يتركُها في بيتِه في صيانةٍ وسترٍ وعفافٍ فيجدُها قائمةً أحسنَ قيامٍ، تَحْنُو على الرضيعِ فترضعُه، وعلى الفطيمِ فترحمُه، وعلى المريضِ فَتُعَالِجُهُ، وعلى شؤونِ البيتِ فتقومُ بجميعِ مصالِحها، فإذا جاء الرجلُ مِنْ عَمَلِهِ وَجَدَ قرينَه الآخَرَ الكريمَ قائمًا بأكبرِ مساعدةٍ وأعظمِ معونةٍ وأعظمِ تربيةٍ للأولادِ الصغارِ، من تعليمِهم الأدبَ ومبادئَ الدينِ والإصلاحِ البيتيِّ، فيجدُ قرينَه الآخَرَ الكريمَ قائمًا له بأعظمِ مساعدةٍ على بناءِ الأسرةِ الخاصِّ وبناءِ المجتمعِ العامِّ؛ لأنه مُتَرَكِّبٌ من الأُسَرِ الخاصةِ، إلا أن الشيطانَ لعداوتِه لِبَنِي آدمَ يغيظُه هذا التعاونُ الكريمُ الشريفُ

النزيهُ، وبناءُ المجتمعِ من الطرفين على أكملِ الوجوهِ وَأَتَمِّهَا وأليقها بالشرفِ والمروءةِ، فيأتِي لأوليائِه ويهمسُ في آذانهم وأذنِ المرأةِ ويقولُ: الرجلُ يخرجُ ويختلطُ بالدنيا وَتَبْقَيْنَ أنتِ محبوسةً كالدجاجةِ، فأنتِ لستِ بدجاجةٍ، أنتِ إنسانٌ ينبغي أن تخرجي كما يخرجُ الرجلُ، وَتُزَاوِلِي ما يزاولُه الرجلُ، فإذا خَرَجَا معًا اضطرا لأن يُؤَجِّرَا إنسانًا يجلسُ في البيتِ ليحافظَ على الأولادِ وشؤونِ البيتِ الداخليةِ، فيصيرُ ذلك الأجيرُ المسكينُ هو الضحيةَ، وهو الدجاجةُ المحبوسةُ في البيتِ لتتمكنَ المرأةُ من الخروجِ، ويكونُ جَمَالُهَا وَقْفًا على الخونةِ كما أَوْضَحْنَاهُ مرارًا؛ لأنها إذا خرجت كانت كُلُّ عينٍ فاجرةٍ تنظرُ إليها وتتمتعُ بجمالِها كما شاءت، والرجلُ ربما نَزَلَ منه المنيُّ بالنظرةِ إلى جمالِ المرأةِ الجميلةِ كما هو معروفٌ، فيُستغل جمالَها مَجَّانًا بلا ثمنٍ، غدرًا وخيانةً ومكرًا وجنايةً على شرفِ المسكينةِ وعلى مروءتها وعلى فَضْلِهَا وعلى أُسْرَتِهَا، باسمِ فلسفةٍ شيطانيةٍ فاضيةٍ جوفاءَ باسمِ التقدمِ، باسم الحضارةِ، باسمِ التمدنِ!! وكلُّ ذلك ضلالٌ وإضلالٌ، وضياعٌ للأخلاقِ والمروءةِ والشرفِ تحتَ شعاراتٍ براقةٍ زائفةٍ كاذبةٍ، يُضَيِّعُ الشيطانُ تحتَها كُلَّ فضيلةٍ وكلَّ شرفٍ وكلَّ مروءةٍ، وهذا مُشَاهَدٌ في الأقطارِ التي أَطْلَقَتْ لنسائِها الحريةَ، وَصِرْنَ يَخْرُجْنَ عارياتٍ، يُزَاوِلْنَ ما يزاوله الرجالُ من الأعمالِ، فَتَرَاهُنَّ ذَهَبَ مِنْ جميعهن الحياءُ والشرفُ النسويُّ، وصارت أولادُ الزنى تُؤْخَذُ من الشوارعِ تُعَدُّ بالآلافِ والملايين!! وَمَنْ نَظَرَ في إحصائياتِ أولادِ الزنى في العالمِ المتمدنِ يعلم أن نتيجةَ فلسفاتِ الشيطانِ هي الزنى والانحطاطُ الخلقيُّ، وضياعُ الشرفِ وذهابُ المروءةِ والكرمِ. ومع هذا يسمونه التقدمَ والحضارةَ

والتمدنَ، والذوقَ السليمَ!! والتشريعَ السماويَّ - الذي يقولُ اللَّهُ فيه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} [الأعراف: آية 52] الذي طَعَنُوا فيه وَنَبَذُوهُ وراءَ ظهورِهم وتقوَّلوا عليه كما تَقَوَّلَ الكفارُ أنه لا يُسَايِرُ ركبَ الحضارةِ، وليس بصالحٍ لكلِّ زمانٍ - هو الذي يأمرُهم بالعفافِ والكرمِ والمحافظةِ على الأخلاقِ والشرفِ مع العملِ الحثيثِ في الدنيا. وربما تضطر بعضُ النساءِ إلى مزاولةِ الأعمالِ كالتي لا زوجَ لها ولا وَلِيَّ لها يقومُ بشؤونِها، فنحنُ لاَ نقولُ: إنها تَبْقَى عالةً لاَ تعملُ، بل تذهبُ وتعملُ في بعضِ مرافقِ الحياةِ لتسدَّ خَلَّتَها وماءَ وجهِها عن تكففِ الناسِ، ولكنها تعملُ في عفافٍ وسترٍ وصيانةٍ وكرمٍ، وعدمِ مخالطةٍ للأجانبِ، وعدمِ إهدارٍ للفضيلةِ وارتكابٍ للرذيلةِ، فَرُبَّ امرأةٍ عملت عملاً من أعمالِ الحياةِ الدنيا سَدَّتْ به خَلَّتها، وَقَوَّمَتْ به شَأْنَهَا، وهي في غايةِ العفافِ والتسترِ، والأخذِ بمكارمِ الأخلاقِ. والحاصلُ أن اللَّهَ (جل وعلا) يقولُ: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} هذا الكتابُ فَصَّلَهُ خالقُ السمواتِ والأرضِ حالَ كونِ ذلك التفصيلِ على علمٍ منه (جل وعلا)، وعلمُه محيطٌ بكلِّ شيءٍ لاَ يَخْفَى عليه شيءٌ، فهو عَالِمٌ بما كان وما يكونُ وما لو كان كيفَ يكونُ؛ لأنا بَيَّنَّا مِرَارًا أن العلمَ الكاملَ لِلَّهِ (جل وعلا) وحدَه، فهو المحيطُ علمُه بكلِّ شيءٍ، يعلمُ ما كان وما يكونُ حتى إنه من إحاطةِ عِلْمِهِ لَيَعْلَمُ ما سبقَ في علمِه أنه لا يكونُ أن لو كانَ كيفَ يكونُ. ومن إحاطةِ علمِ اللَّهِ: أن جميعَ الخلائقِ لا يعلمونَ إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ من علمِه، فالعلمُ المحيطُ لِلَّهِ (جل وعلا) وحدَه، ولا يعلمُ أحدٌ شيئًا إلا ما عَلِمَهُ العليمُ الخبيرُ جل وعلا.

ومما يُوَضِّحُ هذا أن أَعْلَمَ الخلائقِ (¬1): الملائكةُ والرسلُ الكرامُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم)، فالملائكةُ لَمَّا قال لهم خالقُهم جل وعلا: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: آية 31] ماذا قال الملائكةُ؟ {قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} [البقرة: آية 32] فقولُه: {لاَ عِلْمَ لَنَا} هي (لاَ) التي تُسَمَّى (لا) النافيةَ للجنسِ، فهي لنفيِ جنسِ العلمِ، فَنَفَوْا جنسَ العلمِ عنهم أصلاً إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه. [9/ أ] / وهؤلاءِ الرسلُ الكرامُ الذين هم صفوةُ اللَّهِ من خلقِه، وأعلمُ الخلقِ بِاللَّهِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم - هذا سيدُهم وخاتُمهم وأفضلُهم على الإطلاقِ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم رُمِيَتْ زوجتُه أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ بنتُ الصِّدِّيقِ (رضي الله عنها) في غزوةِ المريسيعِ بأعظمِ فريةٍ وأكبرِ شنيعةٍ، وهو صلى اللَّهُ عليه وسلم مع ما أَعْطَاهُ اللَّهُ من النبوةِ والعلمِ العظيمِ ما كان يَدْرِي أَحَقٌّ ما قيل عنها أم كَذِبٌ، وكان يقول لها: «كَيْفَ تِيكُمْ»؟ لا يدري عن حقيقة الأمر، ويقول لها: «يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي، وَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّؤُكِ». ولم يعلم حقيقةَ الأمرِ حتى أَعْلَمَهُ الحكيمُ الخبيرُ فقال له: {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: آية 26] وَلَمَّا نزلَ الوحيُ ببراءتِها وقالت لها أُمُّهَا: قُومِي إلى رسولِ اللَّهِ فَاحْمَدِيهِ. قالت: لاَ وَاللَّهِ لا أحمدُه ولا أحمدُ اليومَ إلا اللَّهَ، فإن اللَّهَ هو الذي بَرَّأَنِي وهو لم يُبَرِّئْنِي (¬2). وقد أُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

آية 50] وقد قيل له أن يقولَ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: آية 188]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ - وَهُوَ هُوَ - قال اللَّهُ له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: آية 124] ذَبَحَ عجلَه وَتَعِبَ هو وامرأتُه في إنضاجِ العجلِ يظنُّ أن الضيفَ الذين عنده يأكلونَ، ولم يعلم أنهم جبريلُ والملائكةُ معه! {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: آية 70]، وَبَيَّنَ لهم أنه خائفٌ منهم: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: آية 52] ولم يعلم أنهم ملائكةٌ - رسلُ اللَّهِ - حتى أخبروه. قال لهم: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58)} [الحجر: الآيتان 57 - 58] وَلَمَّا نزلوا بنبيِّ اللَّهِ لوطٍ - وهو هو -: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77] يظن أنهم فتيانٌ حِسَانُ الوجوهِ، حسانُ الثيابِ، حسانُ الروائحِ، وأن قومَه يفعلونَ بهم فاحشةَ اللواطِ، حتى قال كلامَه المحزنَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: آية 80] ولم يعلم أنهم ملائكةٌ حتى قال له جبريلُ: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: آية 81] وهؤلاء الذين كانوا يدفعونَ البابَ ليكسروه يريدونَ أن يفعلوا فاحشةَ اللواطِ بجبريلَ والملائكةِ معه لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لجبريلَ فيهم مَسَحَ وجوهَهم بريشةٍ من جناحِه فبقيت أعينُهم كأنها لم تكن أصلاً، كما يأتي في قولِه عنهم: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: آية 37]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ - وهو هو - (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) ما كان يظنُّ أن ابنَه كافرٌ، وكان يقولُ: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: آية 45] أي: وقد قلتَ لي: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ

زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: آية 40] ولم يَدْرِ ما حقيقةُ ولدِه حتى أَعْلَمَهُ الحكيمُ الخبيرُ فقال له: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: آية 46] فما كان من نوحٍ إلا أن قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: آية 47]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ يعقوبُ الذي قال اللَّهُ فيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] ابْيَضَّتْ عيناه من الحزنِ فهو كظيمٌ، ولم يَدْرِ عن ولده يوسفَ في مصرَ، ما بينَه وبينَه إلا مراحلُ قليلةٌ حتى جاءه البشيرُ بِخَبَرِهِ. وهذا سليمانُ أعطاه اللَّهُ الريحَ غُدُوُّهَا شهرٌ وَرَوَاحُهَا شهرٌ، وَسَخَّرَ له الجنَّ والطيرَ، ما كان يدري عن ملكةِ سبأٍ، ولا عن مَأْرِبٍ، ولا ما جَرَى فيها حتى أخبرَه الهدهدُ المسكينُ الضعيفُ. وكان سليمانُ (عليه السلام) متوعدًا للهدهدِ لأنه خرجَ بلاَ إِذْنٍ {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21)} [النمل: الآيتان 20 - 21] فَلَمَّا علم الهدهدُ من قضيةِ اليمنِ بعضَ علمِ التأريخِ وَعِلْمِ الجغرافيا - من ملكةِ سبأٍ وقومِها - وكان سليمانُ يجهلُه أعطاه هذا العلمُ قوةً وصمودًا أمامَ سليمانَ، ووقفَ أمامَ النبوةِ وَالْمُلْكِ وقفةَ الرجلِ الصامدِ، ونسبَ الإحاطةَ لنفسِه ونفاها عن سليمانَ، وقال: إني: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: آية 22] وهكذا. أما اللَّهُ (جل وعلا) فهو المحيطُ علمُه بكلِّ شيءٍ، ولكنه يُطْلِعُ

رسلَه على ما شاءَ من غَيْبِهِ، وقد أَطْلَعَ نَبِيَّنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم على أمورٍ من الغيبِ لاَ يعلمُ كثرتَها إلا اللَّهُ، فما تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم حتى لم يكن طائرٌ يُحَرِّكُ جناحه إلا أعطى لأصحابِه عنه عِلْمًا، وَبَيَّنَ لأصحابِه جميعَ الفتنِ، وجميعَ ما يقعُ في آخِرِ الزمانِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ من الغيوبِ - ولكنهم نَسُوهُ - ولكنه لا يَعْلَمُ من ذلك إلا ما عَلَّمَهُ اللَّهُ، كما قال جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} الآيةَ [الجن: الآيتان 26، 27] أما اللَّهُ (جل وعلا) فَعِلْمُهُ محيطٌ بكلِّ شيءٍ، يعلمُ ما كان، ويعلمُ ما لم يكن، وما سيكونُ كيف يكونُ ويعلمُ ما سبقَ في علمِه أنه لا يكونُ، يعلمُ أن لو كان كيف يكونُ، فهو يعلمُ أن أبا لهبٍ لَنْ يؤمنَ، ويعلمُ لو آمَنَ أبو لهبٍ أيكونُ إيمانُه تَامًّا أو ناقصًا. والآياتُ الشاهدةُ بهذا في القرآنِ كثيرةٌ، فإن الكفارَ يومَ القيامةِ إذا عَايَنُوا العذابَ وَرَأَوْا حقيقةَ الآخرةِ نَدِمُوا وَتَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا مرةً أخرى لِيُصَدِّقُوا الرسلَ ويؤمنوا: {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] وفي القراءةِ الأُخْرَى (¬1): {وَلاَ نُكذِّبُ بآيات ربنا ونَكُونُ من المؤمنين} وَاللَّهُ يعلمُ أن هذا الردَّ الذي تَمَنَّوْهُ لا يكونُ، ومع ذلك فهو عَالِمٌ أَنْ لو كانَ كيفَ يكونُ؛ وَلِذَا قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والمتخلفونَ عن غزوةِ تبوكَ عَلِمَ اللَّهُ في سَابِقِ أَزَلِهِ أنهم لن يحضروها أبدًا؛ لأنه هو الذي ثَبَّطَهُمْ عنها لحكمةٍ، كما قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: آية 46] وخروجُهم الذي سَبَقَ في علمِه أنه لا يكونُ هو عالمٌ أن لو كانَ كيفَ يكونُ، كما صَرَّحَ به في قولِه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام ..

زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: آية 47] وهذا في القرآنِ كثيرٌ (¬1)، كقولِه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: آية 75] فعلمه تعالى محيط بكل شيء، فإذا كان هذا العلم المحيط بكل شيء علم الله (جل وعلا) وهو الذي فصل هذا الكتاب بهذا العلم المحيط علمنا أنه ضمنه استجلاب كل خير، والتحذير من كل شر، ورتب فيه جميع المصالح ودرأ جميع المفاسد، ودعا فيه إلى جميع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ورفع الهمم وكل شيء صالح للدنيا والآخرة في شؤونِ الفردِ وشؤونِ المجتمعِ كما يعرفُه مَنْ تَأَمَّلَ آياتِ القرآنِ وَتَدَبَّرَهَا. وهذا معنَى قولِه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: آية 52]. {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: آية 52] في قولِه: {هُدًى وَرَحْمَةً} وجهانِ من الإعراب (¬2): أحدهما: أنهما مَصْدَرَانِ مُنَكَّرانِ حالانِ. والمصدرُ المُنَكَّرُ يقعُ حالاً بكثرةٍ. جئناهم بكتابٍ في حالِ كونِه هاديًا وَذَا رَحْمَةٍ. وقال بعضُ العلماءِ: هما مفعولانِ من أَجْلِهِ. والمعنَى: جئناهم بكتابٍ فصلناه لأَجْلِ هُدَى الناسِ؛ ولأَجْلِ أن نرحمَ بِاتِّبَاعِهِ الناسَ. وكلا الإِعْرَابَيْنِ له وجهٌ من النظرِ. ومعنَى {هُدًى} هذا القرآنُ فَصَّلْنَاهُ حالَ كونِه هاديًا، أو لأَجْلِ كونِه هُدًى يهدي الناسَ إلى ما فيه صلاحُهم من خيرِ الدنيا والآخرةِ، ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 303). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 306)، الدر المصون (5/ 336).

فَيُبَيِّنُ لهم الخيرَ في الدنيا والآخرةِ، ويأمرُهم بِاتِّبَاعِهِ، وَيُبَيِّنُ لهم الشرَّ في الدنيا والآخرةِ، ويأمرُهم باجتنابِه. {وَرَحْمَةً} يعنِي: وَمَنْ سَلَكَهُ وَاتَّبَعَهُ يرحمه اللَّهُ (جل وعلا) ويصلحُ له دينَه ودنياه. وقولُه: {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خَصَّ القومَ المؤمنيِن لأنهم هم المنتفعونَ به كما بَيَّنَّا الآياتِ الدالةَ عليه (¬1) في قولِه: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وقولِه: {هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: آية 44] وقولُه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: آية 82]. ثم لَمَّا بَيَّنَ أن هذا القرآنَ العظيمَ هو الذي أَنْزَلَهُ، وهو الذي فَصَّلَهُ وَبَيَّنَ حلالَه وحرامَه وعقائدَه ومواعظَه وأمثالَه وآدابَه ومكارمَه، وأنه بَيَّنَ هذا بعلمِه المحيطِ بكلِّ شيءٍ، هَدَّدَ الكفارَ الذين لم يَعْمَلُوا به فقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: آية 53] التأويلُ: يُطْلَقُ ثلاثةَ إِطْلاَقَاتٍ (¬2): أما التأويلُ في لغةِ القرآنِ فهو ما يَؤُولُ إليه الأمرُ وتصيرُ إليه الحقيقةُ في ثانِي حالٍ. وعلى هذا فتأويلُ القرآنِ هو ما يَؤُولُ إليه أَمْرُهُ في ثانِي حقيقةٍ، وتقعُ عليه الحقيقةُ، وهو صِدْقُ ما وَعَدَ به بأن يُدْخِلَ مَنْ آمَنَ به الجنةَ وَيُخَلَّدَ في نعيمها، وَيُدْخِلَ مَنْ كَفَرَ به النارَ ويخلد في جحيمها، فهذا تَأْوِيلُهُ، أي: ما تُؤَوَّلُ إليه حقيقةُ ما كان يَعِدُ به وينطقُ به في دارِ الدنيا. وهذا هو التأويلُ في لغةِ القرآنِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: أضواء البيان (1/ 266، 267)، المذكرة في أصول الفقه ص176، قواعد التفسير (2/ 683).

وَيُطْلَقُ التأويلُ أيضًا على التفسيرِ، ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم في ابنِ عباسٍ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» (¬1). وقولُهم: فلانٌ يعلمُ تأويلَ القرآنِ. أي: تفسيرَه. والإطلاقُ الثالثُ - إطلاقٌ حادثٌ هو اصطلاحُ الأصوليين لم يَكُنْ معروفًا في الزمنِ الأولِ - وهو أن التأويلَ: حَمْلُ اللفظِ عن ظاهرِه الْمُتَبَادَرِ منه إلى محتملٍ مرجوحٍ بدليلٍ يدلُّ عليه. هذا اصطلاحٌ حادثٌ، وهو المعروفُ عندَ الأصوليين باسمِ التأويلِ. وهو ثلاثةُ أنواعٍ: تأويلٌ صحيحٌ، وتأويلٌ فاسدٌ، وَلَعِبٌ. فإذا كان التأويلُ: صَرْفَ الكلامِ عن ظاهرِه الْمُتَبَادَرِ منه إلى معنًى مرجوحٍ ليس هو الظاهرَ من الكلامِ بدليلٍ صحيحٍ يدلُّ عليه حقًّا في نفسِ الأمرِ، فهو التأويلُ الصحيحُ الْمُسَمَّى بالتأويلِ القريبِ. ومثالُه: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتُ في صحيحِ البخاريِّ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» (¬2) فإن ظاهرَ هذا الحديثِ الثابتِ في صحيحِ البخاريِّ أن الشفعةَ ثابتةٌ لِلْجَارِ؛ لأَنَّ الصقبَ والسقبَ هو ما يُلاَصِقُ الجارَ من أرضِ جارِه. إلا أنه حُمِلَ على محتملٍ مرجوحٍ، وهو أن المرادَ بالجارِ هنا: خصوصُ الشريكِ المُقاسِمِ. وهذا احتمالٌ مرجوحٌ، إلا إنه دَلَّ عليه نصٌّ صحيحٌ، فَحُمِلَ اللفظُ عليه لدلالةِ ذلك النصِّ، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم في حديثِ جابرٍ: «فَإِذَا صُرِفَتِ الطُّرُقُ، وَضُرِبَتِ الْحُدُودُ ¬

(¬1) الحديث بلفظ: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» أخرجه أحمد (1/ 328)، وهو في الصحيحين بلفظ: «اللهم علمه الكتاب». كما في البخاري (143، 3756، 7270)، ومسلم (2477). (¬2) البخاري في الشفعة، باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع. حديث رقم (2258) (4/ 437) وأطرافه في: (6977، 6978، 6980، 6981).

فَلاَ شُفْعَةَ» (¬1). فَعُلِمَ أنه لم تكن هناك شفعةٌ إلا مع الاشتراكِ في الأرضِ أو في الطريقِ كما هو معروفٌ. ومثالُ التأويلِ البعيدِ يمثلُ له بعضُ أهلِ الأصولِ ... - بعضُهم يجيءُ بما يُخَالِفُهُ به الآخَرُ - والمعروفُ عندَ علماءِ الأصولِ: أن الأصوليَّ يكونُ مَالِكِيًّا مثلاً فيمثلُ بشيءٍ ضِدَّ مذهبِه، وقصدُه فَهْمُ القاعدةِ. ويكون شَافِعِيًّا مثلا ويمثلُ بمثالٍ مخالفٍ لمذهبِه لِتُفْهَمَ القاعدةُ. وقصدنا بكلامهم هنا المثالُ لا مناقشة أدلةِ الأقوالِ. والشافعيةُ والمالكيةُ والحنبليةُ يمثلونَ للتأويلِ البعيدِ بِحَمْلِ الإمامِ أَبِي حنيفةَ (رحمة الله على الجميعِ) المرأةَ في حديثِ عائشةَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» (¬2) قالوا: حَمْلُ أَبِي حنيفةَ للمرأةِ على المُكاتَبَةِ تأويلٌ بعيدٌ؛ لأنه بعيدٌ من ظاهرِ النصِّ، ولم يَقُمْ دليلٌ جازمٌ عليه؛ لأن (أي) صيغةُ عمومٍ، والعمومُ أُكِّدَ بلفظةِ (ما) فَلاَ يَحْسُنُ حَمْلُهُ على صورةٍ نادرةٍ قد لا تَخْطُرُ في الذهنِ وهو الْمُكَاتَبَةُ. قالوا: وكقولِ الإمامِ أَبِي حنيفةَ (رحمة الله على الجميعِ): {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: آية 4] ¬

(¬1) أخرجه البخاري في البيوع، باب بيع الشريك من شريكه، حديث رقم: (2213)، (4/ 407). وأطرافه: (2214، 2257، 2495، 2496، 6976) من طريق أبي سلمة عن جابر، وأخرجه مسلم في المساقاة باب الشفعة، حديث رقم: (1608)، (3/ 1229) من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ مغاير. (¬2) أحمد (6/ 66)، (166)، وأبو داود في النكاح، باب في الولي. حديث رقم (2069)، (6/ 98،100)، والترمذي في النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. حديث رقم (1102)، (3/ 398 - 399)، وابن ماجه في النكاح، باب لا نكاح إلا بولي. حديث رقم (1879)، (1/ 605)، وهو في صحيح أبي داود (1835)، وصحيح الترمذي (880)، وصحيح ابن ماجه (1524)، الإرواء (1840)، المشكاة (1331).

حَمَلَ المسكينَ على المُد، وأجازَ أن يُعْطَى إطعامُ الستينَ لمسكينٍ واحدٍ. وقالوا: حَمْلُ (المسكين) على (المُدِّ) من التأويلِ البعيدِ. هكذا يمثلونَ، وَقَصْدُنَا المثالُ لاَ مناقشة أدلةِ أقوالِ العلماءِ هنا. أما إذا كان صُرِفَ الكلامُ عن ظاهرِه المتبادرِ منه لاَ لدليلٍ في نفسِ الأمرِ ولاَ لدليلٍ [خارجيٍّ صحيحٍ فإن ذلك لاَ يُعَدُّ من التأويلِ المقبولِ] (¬1) بل هو تَلاَعُبٌ بنصوصِ القرآنِ، وكقولِهم: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن: آية 19] البحرين: عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} [الرحمن: آية 20] الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. فهذا ليس من التأويلِ، وإنما هذا من اللعبِ والتلاعبِ بكتابِ اللَّهِ. ويكثرُ مثلُ هذا في تفسيرِ الْبَاطِنِيِّينَ وغلاةِ الروافضِ، ولا يُسَمَّى تأويلاً وإنما هو لَعِبٌ. أما التأويلُ في القرآنِ فمعناه: ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ الأمرِ. فقولُه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي: ما تَؤُولُ إليه حقيقتُه من دخولِ أهلِ الجنةِ الجنةَ، ودخولِ أهلِ النارِ النارَ. ثم قال: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: آية 53] أي: يومَ يأتِي الوقتُ الذي تُحَقَّقُ فيه مواعيدُ القرآنِ، وتحقق الوعد للمؤمنِ والوعيد للكافرِ. {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: آية 53] أي: تَرَكُوهُ وَتَنَاسَوُا العملَ به في دارِ الدنيا. {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: آية 53] هذا القرآنُ ونحوُه من الكتبِ كان حَقًّا، والذي أَمَرَ بأن يَدْخُلَ مَنِ امْتَثَلَهُ الجنةَ، ونحن - والعياذُ بالله - لَمَّا لم نَمْتَثِلْ ¬

(¬1) في هذا الموضع وُجِدَ انقطاعٌ في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ذلك الأمرَ فَمَصِيرُنَا إلى النارِ. وهذا معنَى قولِهم: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: آية 53] وَتَمَنَّوُا الشفاعةَ حيثُ لاَ شفاعةَ. ثم قالوا: {فَهَل لَّنَا مِنْ شُفَعَاءَ} [الأعراف: آية 53] جمعُ شفيعٍ و (هل) هنا لِلتَّمَنِّي، يتمنونَ الشفعاءَ: {فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: آية 53] وَيُخْرِجُونَا مِمَّا نحن فيه: {أَوْ نُرَدُّ} [الأعراف: آية 53] أو هل لنا أن نُرَدَّ إلى دارِ الدنيا لنبدلَ تكذيبَ الرسلِ بالتصديقِ، ونبدلَ المعاصيَ بالطاعاتِ؟ وهو معنَى قولِهم: {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: آية 53] بَيَّنَ اللَّهُ أنهم لاَ يجدونَ الشفعاءَ وَلاَ يُرَدُّونَ وقال: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: آية 53] خَسِرُوا أنفسَهم - والعياذُ بالله - لأنهم غُبِنُوا في أنفسِهم وَرُزِئُوا فيها. والدليلُ على خُسْرَانِهِمْ أنفسَهم: أن غايةَ أمنيتِهم أن تعدمَ أنفسُهم ويموتوا ولكن لا يجدونَ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77)} [الزخرف: آية 77] وهذا معنَى خسرانهم أنفسَهم لأنهم رُزِئُوا في أنفسِهم فَبَاعُوهَا - والعياذُ بالله - بعرضٍ من الدنيا، وَصَارَتْ إلى العذابِ المخلدِ إلى يومِ القيامةِ. وقولُه: {وَضَلَّ عَنْهُم} [الأعراف: آية 53] غَابَ وَاضْمَحَلَّ ما كان يفترونَه في دارِ الدنيا من أن الأصنامَ تشفعُ لهم، كقولِهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: آية 18] {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: آية 3] ومعنَى: {يَفْتَرُونَ} يَخْتَلِقُونَ مِنَ الْكَذِبِ. قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا

وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: الآيات 54 - 57]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: آية 54]. لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ - جل وعلا - وَنَهَى في هذه السورةِ الكريمةِ، وَبَيَّنَ فيها أحوالَ أهلِ الجنةِ وأحوالَ أهلِ النارِ، وَأَوْضَحَ عواقبَ طاعتِه وعواقبَ معصيتِه، وَبَيَّنَ أنه أَرْسَلَ إلى الدنيا كتابًا فَصَّلَهُ على عِلْمٍ منه بَيَّنَ أن الذي قال هذه الأشياءَ وَأَخْبَرَ بها أنه هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وخالقُ كُلِّ شيءٍ، المعبودُ وحدَه، المستحقُّ لأَنْ يُعْبَدَ وحدَه، ولأن يطاعَ فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَرَ فَلاَ يُنْسَى فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} إن ربكم الله، كُلُّ الناسِ يعلمونَ أن اللَّهَ رَبُّهُمْ، ولم يُكَابِرْ في هذا إلا مُكَابِرٌ، أو أحدٌ كالبهائمِ، لا عقلَ له؛ لأنه جُبِلَتْ فِطَرُ العقلاءِ على معرفةِ أن اللَّهَ هو الربُّ الخالقُ لكلِّ شيءٍ. والكفارُ الذين يعبدونَ الأصنامَ مُقِرُّونَ بهذا عَالِمُونَ به، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على ذلك كثيرةٌ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: آية 87] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: آية 31] وإنكارُ فرعونَ لمعرفتِه ربوبيةَ اللَّهِ

حيث قال اللَّهُ عنه إنه قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 23] وقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: آية 29] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: آية 24] فإن فرعونَ مُكَابِرٌ عالمٌ أنه عبدٌ مربوبٌ، وأن اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّ كُلِّ شيءٍ، كما أَوْضَحَهُ اللَّهُ في إقسامِ موسى على ذلك، قال: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: آية 102] وَاللَّهِ لقد علمتَ يا فرعونُ ما أنزلَ هؤلاء الآياتِ إلا رَبُّ السماواتِ والأرضِ. أي: وَمَنْ فيهن. وكقولِه: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل: آية 14] يعني: فرعونَ وقومَه {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: آية 14] فهو جاحدٌ مُكَابِرٌ ليستخفَّ قلوبَ قومِه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: آية 54]. والذين ينفونَ ربوبيةَ اللَّهِ هم بهائمُ كالبغالِ والحميرِ لاَ عقولَ لهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: آية 44] أما عَامَّةُ العقلاءِ الذين ارْتَفَعَ إدراكُهم عن إدراكِ الحيواناتِ فَهُمْ يعلمونَ أن اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شيءٍ وخالقُ كُلِّ شيءٍ. {إِنَّ رَبَّكُمُ} [الأعراف: آية 54] أي: إن سيدَكم وخالقَكم ومدبرَ شؤونِكم {الله} - جل وعلا - {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأعراف: آية 54] أي: وما بينَهما {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: آية 54] هذه الأيامُ الستةُ بَيَّنَ اللَّهُ تفصيلَ خَلْقِهِ الخلائقَ فيها في سورةِ فصلت - السجدة (¬1) - حيث قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)} قال: {خَلَقَ الْأَرْضَ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 304).

فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: الآيتان 9، 10] أي: بإضافةِ يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ لليومين الأولين فصارت أربعًا، ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: الآيتان 11، 12] تضافُ إلى الأربعةِ السابقةِ فتكونُ ستةً. والعلماءُ يقولونَ: إن هذه الأيامَ المرادُ بها أوقاتُها؛ لأنه في ذلك الوقتِ لم يكن هنالك يومٌ؛ لأن اليومَ من طلوعِ الشمسِ إلى غروبِها، وإن لم يكن هنالك شمسٌ لاَ يُعْرَفُ اليومُ. إلا أن اللَّهَ قبلَ أن يخلقَ الشمسَ والقمرَ يعلمُ زمنَ الأيامِ قبلَ وجودِ الشمسِ. وهذه الأيامُ قد جاءَ في رواياتٍ كثيرةٍ أن أَوَّلَهَا الأحدُ وَآخِرَهَا الجمعةُ (¬1). والقرآنُ بَيَّنَ أنه خلقَ الأرضَ في يومين ثم خلقَ فيها الجبالَ والأقواتَ والأرزاقَ في يومين، ثم خلقَ السماواتِ في يومين، فهي ستةُ أيامٍ. ويومُ السبتِ ليس منها. وما جاء في صحيحِ مسلمٍ من حديتِ أَبِي هريرةَ أن اللَّهَ خلقَ التربةَ يومَ السبتِ (¬2)، ¬

(¬1) جاء في هذا المعنى عدة روايات عن جماعة منهم مجاهد كما في تفسير الطبري (12/ 482)، وعبد الله بن سلام كما في تاريخ الطبري (1/ 24)، وابن مسعود، وابن عباس، وأيضًا عن أبي سنان عن أبي بكر مرفوعًا كما في (1/ 26)، من تاريخ ابن جرير رحمه الله. وقد تكلم على هذه الرواية الحافظ ابن كثير في تاريخه (1/ 15)، ورجحها على الرواية الأخرى في التفسير (2/ 220)، وقد سبقه إلى ذلك ابن جرير (رحمه الله) في تاريخه (1/ 25). (¬2) مسلم في صفات المنافقين. باب: ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام. حديث رقم (2789)، (4/ 2149)، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 220) معلقًا على هذه الرواية: «وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: {فِي سِتَّةِ أَيَّام} ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، ليس مرفوعًا» ا. هـ. وراجع كلام ابن كثير على هذه الرواية في البداية والنهاية (1/ 17).

وجعلَ في كُلٍّ من أيامِ الأسبوعِ بعضَ الخلقِ، وإن كان في صحيحِ مسلمٍ فهو غَلَطٌ، غَلِطَ بعضُ الرواةِ في رَفْعِهِ، والظاهرُ أنه أَخَذَهُ أبو هريرةَ عن كعبِ الأحبارِ أو نحوِه من الإسرائيلياتِ (¬1)؛ لأنه خلافُ القرآنِ - الصحيحُ - أن السبتَ لم يكن من الأيامِ التي خُلِقَ فيها شيءٌ، وأن السماواتِ والأرضَ وما بينَهما خُلِقَتْ في ستةِ أيامٍ من الأسبوعِ، أولها يومُ الأحدِ، وآخرُها يومُ الجمعةِ، خَلَقَ اللَّهُ فيه آدمَ بعدَ صلاةِ العصرِ. وهذه الأيامُ قال بعضُ العلماءِ (¬2): إنها كأيامِ الدنيا. وقال بعضُهم: اليومُ منها هو المذكورُ في قولِه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: آية 47]. وَاللَّهُ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ وما بينَهما في ستةِ أيامٍ، مع أنه قادرٌ على أن يخلقَ الجميعَ في لحظةٍ واحدةٍ كلمحِ البصرِ لحكمتِه (جل وعلا)، قال بعضُ العلماءِ: أَرَادَ أن يُعَلِّمَ خَلْقَهُ التمهلَ في الأمورِ، والتدرجَ فيها لِيَقْدِرُوا عليها، وهو قادرٌ على خلقِ ما شَاءَ في لحظةٍ واحدةٍ: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: آية 50] ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (2/ 220). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 219)، البحر المحيط (4/ 307)، ابن كثير (2/ 220).

فهو يقولُ للشيءِ كُنْ فَيَكُونُ (¬1). هذا معنَى قولِه: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: آية 54]. قال بعضُ العلماءِ: الستةُ أَصْلُهَا (سِدْسَة) أُبْدِلَتِ الدالُ تاءً وَأُدْغِمَتْ في التاءِ (¬2). قالوا: وَتُصَغَّرُ الستةُ على (سُدَيْسَة) ردًّا لها لأصلها. وعلى كُلِّ حالٍ فالستةُ العددُ المعروفُ، وهو الثلاثةُ مرتين كما هو معروفٌ. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: آية 54] العرشُ يُطْلَقُ في اللغةِ إطلاقاتٍ متعددةً (¬3) مِنْ أَشْهَرِهَا في القرآنِ: سريرُ الْمُلْكِ (¬4). فالعرشُ سريرُ المُلْكِ، سريرُ المَلِك الذي يُعَدُّ له تسميه العربُ عَرْشًا، ومنه سريرُ ملكةِ سبأٍ في قولِه: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} وقولُه: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: آية 42]. وقولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {ثُمَّ اسْتَوَى} جل وعلا: {عَلَى الْعَرْشِ} وهذه صفةُ الاستواءِ ونحوها من آياتِ الصفاتِ ارْتَبَكَ فيه ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 219)، البحر المحيط (4/ 307). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 218)، الدر المصون (5/ 339)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 139. وقد وقع للشيخ (رحمه الله) هنا سبق لسان، وصواب العبارة - كما في المصادر المذكورة هنا - أن يقال «أُبدلت السين تاء، وأُدغمت في الدال». (¬3) انظر: القرطبي (7/ 220)، الدر المصون (5/ 340). (¬4) في الأصل قال الشيخ (رحمه الله) بعد هذه الكلمة: «وإنما أُطلق على السُّقُف». ثم قال بعدها: «فالعرش سرير ... » إلخ، فصنيعه يُشعر أنه تراجع عن العبارة السابقة، ولذا لم أُثبتها. والله أعلم.

عقولُ كثيرٍ من الناسِ، وَضَلَّ فيه من الخلقِ المنتسبين للعلمِ، بل والذين عندَهم علمٌ وعقولٌ ما لاَ يُحْصِيهِ كثرةً إِلاَّ اللَّهُ (جل وعلا). ونحنُ نوضحُ لكم المقامَ في عقيدةِ السلفِ الصحيحةِ التي كان عليها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه والسلفُ الصالحُ، وهي العقيدةُ الكريمةُ الصافيةُ من شوائبِ التشبيهِ والتعطيلِ، لا تشوبُها شائبةُ تشبيهٍ ولا تشوبُها شائبةُ تعطيلٍ، ونحنُ نوضحُ هذا في ضوءِ القرآنِ العظيمِ. وإيضاحُ ذلك أن تَعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن اللَّهَ (تَبَارَكَ وتعالى) أَوْضَحَ في كتابِه هذا القرآنِ العظيمِ الذي هو أصلُ الْهُدَى، ومنبعُ اليقينِ، ونورُ المعرفةِ والعلمِ، بَيَّنَ فيه أن الْمُعْتَقَدَ المُنجي في آياتِ الصفاتِ الذي يأتي صاحبُه يومَ القيامةِ سَالِمًا من بلايا التشبيهِ وبلايا التعطيلِ هو مُركَّزٌ على ثلاثةِ أُسس (¬1)، نُوصِيكُمْ وأنفسَنا بتقوى اللَّهِ، وأن تعتقدوا هذه الأسسَ الثلاثةَ الكبارَ، فتنجيكم أمامَ اللَّهِ من بلايا هذا المأزقِ الذي ضَلَّ فيه من الخلقِ ما لاَ يُحصى. هي ثلاثةُ أُسُسٍ عظام مَنْ جَاءَ بها ولقي اللَّهَ عليها لَقِيَهُ سَالِمًا على بصيرةٍ مِنْ رَبِّهِ، عاملاً بنورِ القرآنِ العظيمِ، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها فَقَدْ أَدْخَلَ نفسَه في مهواةٍ. وهذه الأسسُ الثلاثةُ نُوَضِّحُهَا لكم في ضوءِ القرآنِ العظيمِ: الأولُ منها، وهو أساسُ العقيدةِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ معرفةً صحيحةً، وللعقيدةِ التي هي على أساسٍ سماويٍّ صحيحٍ. هذا الأساسُ المذكورُ هو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ - جل وعلا - عن أن يشبهه شيءٌ من خَلْقِهِ؛ لا فِي ذواتِهم ولا في صفاتِهم، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

ولا أفعالِهم. وكيف يخطرُ في ذهنِ العاقلِ أن الخالقَ - جل وعلا - يُشْبِهُهُ شيءٌ من خَلْقِهِ في الذاتِ أو الصفاتِ أو الأفعالِ؟ لأن جميعَ الخلائقِ صَنْعَةٌ من صُنْعِه - جل وعلا - {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: آية 88] والصنعةُ لاَ يمكنُ أن تُشْبِهَ صانعَها بحالٍ؛ لأنه هو الذي أَبْرَزَهَا من [العدمِ إلى الوجودِ] (¬1)، واخترعَها بعدَ أن لم تكن شيئًا. فكيف يخطرُ في ذهنِ عاقلٍ أن تكونَ تُشْبِهُهُ؟ هذا مما لا يخطرُ في الأذهانِ السليمةِ، وَأَحْرَى الأذهان الممتلئة بنورِ الوحيِ؛ فأساسُ التوحيدِ الأكبرُ، وأساسُه الأعظمُ، هو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ - جل وعلا - عن مشابهةِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّ الخلقَ صنعةٌ من صنائعِه، والصنعةُ لاَ تُشْبِهُ صانعَها. فعلينا أولاً أن نطهرَ قلوبَنا من أقذارِ التشبيهِ، وأنجاسِ التشبيهِ، وأدرانِ التشبيهِ، ونجزمَ جَزْمًا بَاتًّا قاطعًا أن الوصفَ إذا أُسْنِدَ إلى الله، وَوُصِفَ به اللَّهُ في كتابٍ أو سُنَّةٍ صحيحةٍ فإن ذلك الوصفَ بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقضي على جميعِ الوساوسِ، ويقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقين، وتجزمُ قلوبُنا بأن الخلقَ صَنْعَةٌ والخالقَ صانعٌ، ولا مناسبةَ بين الصنعةِ وصانعِها، لا في الذاتِ، ولاَ في الصفاتِ، ولاَ في الأفعالِ. وهذا الأساسُ الأكبرُ للعقيدةِ التي هي عقيدةُ السلفِ في آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها الذي هو التنزيهُ الكاملُ، وتقديسُ صفاتِ خالقِ السماواتِ والأرضِ وتعظيمُها وإكبارُها وإجلالُها عن أن تُشْبِهَ شيئًا من صفاتِ المخلوقين أو ذواتِهم أو أفعالِهم، سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. هذا الأَسَاسُ الأعظمُ في ضوءِ قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] ¬

(¬1) في الأصل: «من الوجود إلى العدم» وهو سبق لسان.

{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: آية 56] {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74] فإذا رَزَقَ اللَّهُ العبدَ فَهْمَ هذا الأساسِ الأكبرِ، والحجرِ الأساسيِّ للعقيدةِ الصحيحةِ، وكان قلبُه قلبًا طاهرًا من أقذارِ التشبيهِ، مُنَزِّهًا لخالقِ السماواتِ والأرضِ كما ينبغي، جازمًا بأن الخلقَ صَنْعَتُهُ، وأن الصنعةَ لاَ تُشْبِهُ صانعَها بحالٍ، فإذا كان قلبُ المؤمنِ طاهرًا واعتقدَ اعتقادًا جازمًا باتًّا بأن صفةَ اللَّهِ منزَّهة عن مشابهةِ صفاتِ خَلْقِهِ كتنزيهِه ذاتَه عن مشابهةِ ذواتِ خَلْقِهِ - إذا استحكم هذا الأساسُ العظيمُ في قلبِ المؤمنِ - فالأساسُ الثاني: هو أَنَّا كُلاًّ علينا أن نصدقَ اللَّهَ فيما أَثْنَى به على نفسه، ونصدقَ سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما أَثْنَى به على رَبِّهِ؛ لأن اللَّهَ أصدقُ مَنْ يقولُ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: آية 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: آية 87] {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: آية 140] فإذا مَدَحَ اللَّهُ نفسَه بوصفٍ كريمٍ في كتابِه، أو مَدَحَهُ رسولُه الصادقُ الأمينُ الذي قال في حَقِّهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4] فعلينا أن لا نُكذِّبَ اللَّهَ، ولا نُكذِّبَ رسولَه، ولا نَنْفِيَ ما أَثْبَتَهُ اللَّهُ لنفسِه، ولا ننفيَ ما أثبتَه الصادقُ الأمينُ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ، ولكن علينا أن نؤمنَ بذلك الوصفِ الذي مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه، أو مَدَحَهُ به الصادقُ الأمينُ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ ذلك الإيمانَ إيمانٌ مبنيٌّ على أساسِ التنزيهِ وعدمِ مشابهةِ الخلقِ؛ لأَنَّ الخلقَ لا يمكنُ أن يُشْبِهُوا خالقَهم. وهذا التعليمُ العظيمُ الذي هو تنزيهُ اللَّهِ - جل وعلا - عن مشابهةِ الخلقِ. ثم إذا طَهُرَتِ القلوبُ من أقذارِ التشبيهِ يتبعُ ذلك الإيمانُ بالصفاتِ الثابتةِ بالقرآنِ العظيمِ والسنةِ الصحيحةِ إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ.

هذا لم نَقُلْهُ لكم من تلقاءِ أنفسِنا وإنما هو تعليمُ خالقِ السماواتِ والأرضِ في المحكمِ المنزلِ؛ لأَنَّ اللَّهَ أَوْضَحَ هذين الأَسَاسَيْنِ غايةَ الإيضاحِ، وَبَيَّنَهُمَا غايةَ البيانِ حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] وأتبع ذلك بقولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] ففي قولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في ذلك سِرٌّ أعظمُ، وتعليمٌ أكبرُ، ومغزًى عظيمٌ. وإيضاحُه أن السمعَ والبصرَ من حيث هما سَمْعٌ وبصرٌ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى - يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ، فكلُّ الحيواناتِ تسمعُ وَتُبْصِرُ، فَكَأَنَّ اللَّهَ يقولُ في الآيةِ الكريمةِ: يا عبدي اعْرِفْ قَدْرَكَ ولاَ تَتَنَطَّعْ، ولا تَنْفِ عَنِّي صفاتي، ولا تَذْهَبْ بصفاتِي إلى صفاتِ المخلوقين حتى تقولَ: هذا وصَفٌ غيرُ لائقٍ، هذا وصفٌ يجبُ صَرْفُهُ عن ظاهرِه إجماعًا. لا، لا يا عبدي، أَثْبِتْ لي سمعي وبصري، ولكن لاَحِظْ قولي قبلَ ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيكونُ إِثْبَاتُكَ للسمعِ والبصرِ إثباتَ تنزيهٍ عن مشابهةِ أسماعِ الخلائقِ وأبصارِهم، نَظَرًا لقولي قبلَه مقترنًا به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فأولُ الآيةِ الكريمةِ وهو قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تنزيهٌ تَامٌّ عن مماثلةِ صفاتِ المخلوقين من غيرِ أن يفضيَ ذلك التنزيهُ إلى تعطيلٍ. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} إيمانٌ بالصفاتِ على الحقيقةِ إيمانًا تَامًّا من غيرِ أن يفضيَ ذلك الإيمانُ إلى تشبيهٍ ولاَ إلى تعطيلٍ. فَعَلَيْنَا أن نعتقدَ جميعًا ما دَلَّ عليه أولُ الآيةِ من تنزيهِ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ، وأن نعتقدَ أيضًا ما دَلَّ عليه آخِرُهَا من إثباتِ الصفاتِ الثابتةِ في الوحيِ الصحيحِ على أساسِ ذلك

التنزيهِ، لاَ على أساسِ مشابهةِ الخلقِ - سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا - وَلِذَا قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعدَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والصفاتُ كُلُّهَا من بابٍ واحدٍ؛ لأنك لا تجدُ صفةً يَكْثُرُ اتصافُ المخلوقاتِ بها أعظمَ من السمعِ والبصرِ فليست هناك صفةُ مجيءٍ، ولا صفةُ نزولٍ، ولا صفةُ وَجْهٍ، ولا صفةُ يَدٍ، ولا غيرُ ذلك من الصفاتِ أشدَّ اتصافًا للمخلوقاتِ بها من السمعِ والبصرِ، فَضَرَبَ لكَ السمعَ والبصرَ مثلاً على أن تُثْبِتَهُمَا لِلَّهِ وتلاحظَ في ذلك الإثباتِ قولَه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هو حلٌّ وإيضاحٌ برهانيٌّ في جميعِ الصفاتِ الثابتةِ في كتابِ اللَّهِ وسنةِ رسولِه صلى اللَّهُ عليه وسلم أن تُنَزِّهَ اللَّهَ أولاً حتى تُطَهِّرَ قلبَك من أقذارِ التشبيهِ وأدرانِه وأنجاسِه، ثم إذا طَهَّرْتَ أرضَ قلبكَ من أقذارِ التشبيهِ، وأنجاسِ التشبيهِ، وأدرانِ التشبيهِ يجبُ عليكَ أن تؤمنَ بما وصفَ اللَّهُ به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه صلى الله عليه وسلم إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ كما بَنَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} على قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فليس لكَ أن تقولَ: الحيوانُ يسمعُ ويبصرُ، الإنسانُ يسمعُ ويبصرُ، والبعيرُ يسمعُ ويبصرُ، والحمارُ يسمعُ ويبصرُ، وكلُّ حيوانٍ يسمعُ ويبصرُ، فإذا أَثْبَتُّ السمعَ والبصرَ لِلَّهِ كُنْتُ مُشَبِّهًا له بالحيواناتِ!! لاَ وَكَلاَّ يا عَبْدِي، بل أَثْبِتْ لي سَمْعِي وبصري إثباتًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وَانْظُرْ أني قلتُ قبلَ: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} قلتُ قبلَها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ليكونَ الإيمانُ بإثباتِ سمعي وبصري مَبْنِيًّا على تنزيهي وعدمِ مماثلتي لِخَلْقِي، فبأولُ الآيةِ يحصلُ للمؤمنِ التنزيهُ التامُّ ويذهبُ عنه جميعُ أنواعِ التشبيهاتِ، وبآخِرِ الآيةِ يؤمنُ العبدُ بما ثَبَتَ عن ربه أو عن رسولِه صلى الله عليه وسلم إيمانًا كريمًا طاهرًا مُقَدَّسًا عن مشابهةِ صفاتِ

الخلقِ، مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ. فهذانِ أساسانِ أعظمانِ: الأولُ منهما: تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ صفاتِ خَلْقِهِ في ذواتِهم أو أفعالِهم أو صفاتِهم. الثاني: هو الإيمانُ بما ثَبَتَ عن اللَّهِ مما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ، والتباعدِ كُلَّ البعدِ عن مشابهةِ الخلقِ. وكذلك ما أَثْبَتَهُ عليه به رسولُه صلى الله عليه وسلم فبتنزيهك أيها المؤمنُ رَبَّكَ من مشابهةِ الخلقِ تكونُ عَامِلاً بقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4] {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: آية 6] وَبِتَصْدِيقِكَ رَبَّكَ وتصديقِك رسولَك فيما أَثْنَى الربُّ به على نفسِه أو أثنى عليه به رسولُه تكونُ مُؤْمِنًا بالصفاتِ إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، فتسلمُ من ورطةِ التشبيهِ، وتسلمُ من ورطةِ التعطيلِ، وتأتي رَبَّكَ يومَ القيامةِ وقلبُك سليمٌ طاهرٌ من أقذارِ التشبيهِ، وأقذارِ التعطيلِ، وجحودِ آياتِ اللَّهِ التي مَدَحَ بها نَفْسَهُ. فهذانِ الأساسانِ بَيَّنَهُمَا اللَّهُ لنا في هذا الْمُحْكَمِ الْمُنَزَّلِ في قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11]. والأساسُ الثالثُ: أن تعلمَ أيها العبدُ أن عقلَك المسكينَ الضعيفَ وَاقِفٌ عندَ حَدِّهِ، وَرَبُّ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأكبرُ وأجلُّ شأنًا من أن تحيطَ به علمًا، أو أن تعلمَ كُنْهَ كيفيةِ اتصافِه بصفاتِه - جل وعلا -؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110] فَنَفَى إحاطةَ العلمِ البشريِّ به - جل وعلا - نفيًا قُرْآنِيًّا بَاتًّا.

ونحن الآنَ أيها المسلمونَ تسيرُ بنا الأيامُ والليالي لحظاتُها ودقائقُها وثوانيها إلى القبورِ، وعن قليلٍ نُنْشَرُ من القبورِ إلى عرصاتِ القيامةِ، وَاللَّهُ سَائِلُنَا جميعًا كما قال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: آية 6] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92)} [الحجر: آية 92] واعلموا أيها الإخوانُ أنه لا يُؤْمَنُ أن يسألَنا خالقُنا: ماذا كُنْتُمْ تقولونَ في صفاتِي التي مَدَحْتُ بها نَفْسِي، كاستوائِي على عَرْشِي؟ فإني مدحتُ نفسي في سبعِ آياتٍ من كتابِي بأني استويتُ على عَرْشِي، ماذا كنتُم تقولونَ فيما مدحتُ به نفسي؟ كنتُم تقولونَ: إن ظاهرَه خبيثٌ، وأنه قذرٌ نَجِسٌ تشبيهٌ وتنفونَه وتحرفونَ كلامي، تجيئون بقولٍ لَمْ أَقُلْهُ، كالذين قال اللَّهُ فيهم: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: آية 59] أَمْ كنتُم تُنَزِّهُونَنِي، وتعلمونَ أني لا أُثْنِي على نفسِي إلا بصفةِ كمالٍ وجلالٍ لائقةٍ مقدسةٍ معظمةٍ منزهة، وتثبتونَ لِي ما أَثْبَتُّ لنفسي إثباتًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. وأنا أؤكدُ لكم بمعرفةِ القرآنِ العظيمِ ونحنُ في دارِ الدنيا أَنَّ مَنْ مات منكم وَحُشِرَ وَنُشِرَ وَلَقِيَ اللَّهَ - جل وعلا - على هذه العقيدةِ السلفيةِ التي نلقنكم في دارِ الدنيا أنه يأتِي آمِنًا من كل توبيخٍ وتقريعٍ يأتِيه مِنْ قِبَلِ واحدٍ من هذه الأُسسِ الثلاثةِ. أما الأساسُ الأولُ - الذي هو تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ - فَوَاللَّهِ لاَ يأتِي واحدًا منكم بسببِه بَلِيَّةٌ ولا تقريعٌ ولاَ عذابٌ أبدًا، فلا يقولُ اللَّهُ لأحدكم مُوَبِّخًا له مُقَرِّعًا: لِمَ كُنْتَ في دارِ الدنيا تُنَزِّهُنِي عن مشابهةِ خَلْقِي؟ لاَ وَاللَّهِ. هذا أساسٌ هو طريقُ سلامةٍ محققةٍ لا يشكُّ فيها عاقلٌ،

وكذلك الأساسُ الثاني: وهو الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ، وتصديقُ اللَّهِ في كتابِه، وتصديقُ رسولِه في سُنَّتِهِ الصحيحةِ بما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه أو مَدَحَهُ به رسولُه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، فلاَ يقولُ اللَّهُ لِوَاحِدٍ منكم يومَ القيامةِ مُوَبِّخًا له مُقَرِّعًا له: لِمَ كنتَ تصدقني فيما أَثْنَيْتُ به على نفسي، وتؤمنُ بالصفاتِ التي مدحتُ بها نفسي إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ؟ لا والله، لا تأتِي أحدًا منكم بَلِيَّةٌ من هذا الأساسِ، ولا يقولُ اللَّهُ لكم: لِمَ كنتُم في دارِ الدنيا تقولونَ: إن العقولَ البشريةَ لا تحيطُ بِاللَّهِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: الآية 110] فهذه عقيدةُ السلفِ الصحيحةُ، الصافيةُ من كُلِّ شائبةِ تشبيهٍ، وَمِنْ كُلِّ شائبةِ تعطيلٍ، فهي طريقُ سلامةٍ محققةٍ، كُلُّهَا عملٌ بنورِ القرآنِ العظيمِ لاَ تَخْتَلِجُهَا شكوكٌ، ولا تَتَطَرَّقُهَا أوهامٌ؛ لأن أولَ أساسِها تنزيهُ خالقِ (¬1) [السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ المخلوقين، فهي مبنيةٌ] على ثلاثةِ أُسُسٍ كُلُّهَا واضحٌ من نورِ القرآنِ العظيمِ، أولها: تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ. وثانيها: الإيمانُ بما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ، وكذلك ما مَدَحَهُ به رسولُه صلى الله عليه وسلم. والثالثُ: العجزُ عن الإحاطةِ بِالكَيْفِ وَالْكُنْهِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: الآية 110] فالسلفيُّ بتنزيهِه طاهرُ القلبِ مِنْ أقذارِ التشبيهِ، وإيمانُه بالصفاتِ على أساسِ التنزيهِ طاهرُ القلبِ من أقذارِ التعطيلِ، وباعترافِه بعجزِه عن إدراكِ الكُنْهِ والإحاطةِ واقفٌ عِنْدَ حَدِّهِ، غيرُ مُتَكَلِّفٍ علمَ ما لم ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

يَعْلَمْ، فطريقُه طريقُ سلامةٍ محققةٍ، فإذا سَمِعَ السلفيُّ قولَه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: الآية 54] كما في آيةِ الأعرافِ هذه فيقولُ: هذا الاستواءُ على العرشِ الذي مَدَحَ خالقُ السماواتِ والأرضِ نفسَه في سبعِ آياتٍ من كتابِه هو صفةُ كمالٍ وجلالٍ بالغةٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقضي على جميعِ الوساوسِ ويقطعُ علائقَ أوهامِ التشبيهِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقين، فَيَمْتَلِئُ قلبُه لهذه الصفةِ من الإجلالِ والإعظامِ والإكبارِ والتقديسِ والتنزيهِ، فتكونُ أرضُ قلبِه طاهرةً بهذا التنزيهِ الكريمِ فيؤمنُ بالاستواءِ على أساسِ هذا التنزيهِ والإكبارِ والإجلالِ والإعظامِ والتقديسِ عن مشابهةِ صفاتِ الْخَلْقِ بوجهٍ من الوجوهِ؛ لأَنَّ الخلقَ مَنْ هُمُ الْخَلْقُ؟ أليسوا صنعةً من صَنَائِعِهِ وَأَثَرًا من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ فكيفَ يخطرُ في ذهنِ العاقلِ أن يُشَبِّهُوهُ؟ فالسلفيُّ إذا سَمِعَ مثلَ هذه الآيةِ الكريمةِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ نفسَه بهذا الاستواءِ الأعظمِ امتلأَ قلبُه من الإجلالِ والإعظامِ والإكبارِ والتقديسِ والتنزيهِ لهذه الصفةِ العظيمةِ فَأَثْبَتَهَا لِلَّهِ (جل وعلا) إِثْبَاتًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية 11] وليسَ الاستواءُ بأكثرَ في المخلوقين من السمعِ والبصرِ، بل استواءُ المخلوقين كسائرِ ذواتِهم وصفاتِهم، واستواءُ اللَّهِ وَسَمْعُهُ وبصرُه لائقانِ بذاتِه كسائرِ صفاتِه (جل وعلا) فالمخلوقُ حَقٌّ، وصفاتُه حَقٌّ، والخالقُ حَقٌّ، وصفاتُه حَقٌّ، إلا أن صفاتِ المخلوقِ مُنَاسِبَةٌ لذاتِ المخلوقِ، مُنْحَطَّةٌ كانحطاطِ ذاتِ المخلوقِ، وصفاتُ الخالقِ لائقةٌ بذاتِ الخالقِ، مُتَعَاظِمَةٌ كعظمةِ ذاتِ الخالقِ (جل وعلا) وَبَيْنَ صفةِ هذا وهذا مثلُ ما بينَ ذاتِ هذا

وهذا كما هو معروفٌ. فإذا سَمِعَ السلفيُّ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تَلَقَّى هذا الاستواءَ بالإعظامِ والإجلالِ والتقديسِ والتنزيهِ فكان قلبُه طَاهِرًا من أقذارِ التشبيهِ، ثم آمَنَ به على أساسِ ذلك التنزيهِ مع العجزِ عن إدراكِ الكيفيةِ، فهو في أولِ أَمْرِهِ مُنَزَّهٌ، وفي ثانِي أمرِه مؤمنٌ بالصفةِ، مُصَدِّقٌ رَبَّهُ على أساسِ التنزيهِ، عالمٌ بأنه عاجزٌ عن إدراكِ الكيفيةِ، فمذهبُه طريقُ سلامةٍ محققةٍ لا شَكَّ فيها، ليس فيها شائبةُ تَشْبِيهٍ، ولا شائبةُ تعطيلٍ، ولا تكلف بعلمِ ما لم يَعْلَمْ. أما الخلفيُّ إذا سَمِعَ قولَه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فإنه يَدْخُلُ في ثلاثِ بلايا عِظَامٍ، كُلُّ بَلِيَّةٍ أكبرُ من أُخْتِهَا، وليس من المظنونِ أن يتخلصَ منها يومَ القيامةِ إن لم يَعْذُرْهُ اللَّهُ بجهلِه: أَوَّلُهَا: أنه إذا سَمِعَ قولَه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [طه: الآية 4] قال: هذا الاستواءُ أولُ ما يَتَبَادَرُ منه للأذهانِ - ظاهرُه المتبادرُ منه للأذهانِ - أنه مُشَابِهٌ لاستواءِ المخلوقين، فكأنه يقولُ لِلَّهِ: هذا الوصفُ العظيمُ الكريمُ الذي مَدَحْتَ به نفسَك ظاهرُه قذرٌ نَجِسٌ؛ لأنه لا كلامَ أقذر ظاهرًا ولاَ أنجسَ ظاهرًا ولا أخبثَ ظاهرًا ولا أَنْتَنَ ظاهرًا من كلامٍ ظاهرُه تشبيهُ اللَّهِ بخلقِه، فهذا الظاهرُ هو أَنْتَنُ ظاهرٍ يُوجَدُ في الكلامِ وأقبحُه وأقذرُه وأنجسُه، فكأنه يقولُ لِلَّهِ: ظاهرُ ما مدحتَ به نفسَك المتبادر منه قذرٌ نجسٌ خبيثٌ لا يَلِيقُ، وهو مشابهةُ الخلقِ، فأولُ ما يسبقُ في قلبِه تشبيهُ صفةِ الخالقِ بخلقِه، فيكونُ هذا أولَ بذرٍ للشرِّ في قلبِ هذا المسكينِ من حيثُ لا يشعرُ، ثم إذا اسْتَحْكَمَ في قلبِه أن ظاهرَ هذا الاستواءِ المتبادر منه هو مشابهةُ الخلقِ اضطر إلى أن ينفيَه من أصلِه، وقال: هذا الذي مدحتَ به نفسَك لا يليقُ ظاهرُه!! ثم نفاه من أصلِه، نفى صفةَ الاستواءِ من أصلِها!! وهذه

هي الْبَلِيَّةُ الثانيةُ الْعُظْمَى؛ لأن مَنْ يدعي على صفاتِ اللَّهِ التي مَدَحَ بها نفسَه في كتابِه مُعَلِّمًا خلقَه أن يمدحوه بها مَنِ ادَّعَى عليها أن ظاهرَها قذرٌ، وأنه نَجِسٌ، وأنه خبيثٌ؛ لأنه مشابهةُ الخلقِ، هذه هي البليةُ الأُولَى من البلايا اللازمةِ لمذهبِ الخلفِ. والبليةُ الثانيةُ: هو أنه إذا اسْتَحْكَمَ هذا التشبيهُ في قلبِه اضطر إلى أن ينفيَ الصفةَ، فيقولُ: هذا الاستواءُ ظاهرُه مشابهةُ المخلوقين فيلزمُ أن نَنْفِيَهُ ونصرفَه عن ظاهرِه إجماعًا؛ لأنه أَوْهَمَ غيرَ اللائقِ، فينفي الوصفَ الذي مدحَ اللَّهُ به نفسَه في سبعِ آياتٍ من كتابِه، والوصفُ الذي مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه في سبعِ آياتٍ من كتابِه مَنْ نَفَاهُ فهو أَجْرَؤُ من خَاصِي الأسدِ بأضعافٍ، وهو واقعٌ في بليةٍ عُظْمَى، وجنايةٌ كبرى بلا شَكٍّ. ثم إذا ادَّعَى على الصفةِ أن ظاهرَها لا يليقُ ثم نَفَاهَا بسببِ هذه الدعوى جاءَ بصفةٍ أُخْرَى من كِيسِهِ الخاصِّ، من غيرِ اعتمادٍ إلى كتابٍ، ولا إلى سُنَّةٍ، يَظُنُّ أنها هي الكمالُ، فيقولُ: إذًا معنَى (استوى): اسْتَوْلَى، ثم يضربُ لذلك مثلاً ببيتِ الراجزِ المشهورِ (¬1): قَدِ اسْتَوَى بَشَرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ فيقولُ: «قَدِ اسْتَوَى بَشَرٌ» معناه: قَدِ اسْتَوْلَى بشرٌ، وإذًا فمعنَى قولِه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ثم اسْتَوْلَى على العرشِ. وهذه هي البليةُ الثالثةُ من البلايا العظامِ، فَاللَّهُ قَالَ: {اسْتَوَى} وهذا قال: «اسْتَوْلَى» فَصَدَقَ عليه قولُه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} [البقرة: الآية 59] ثم نقولُ: أيها المسكينُ الخَلَفِيُّ الجاهلُ بالله وبعظمةِ اللَّهِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام.

المحرفُ آياتِ اللَّهِ: قولُك: إن (استوى) بمعنَى: (اسْتَوْلَى) وبيت الرجز الذي جئتَ به أَلَمْ تَخْشَ اللَّهَ في هذا؟ أَلَمْ تَسْتَحِ من اللَّهِ استحياءً يمنعُك أن تُشَبِّهَ استيلاءَ اللَّهِ على عَرْشِهِ الذي زعمتَ باستيلاءِ بِشْرِ بْنِ مَروَانَ على العراقِ؟! وهل يُعلم - أيها الإخوانُ - تشبيهٌ في الدنيا أشنعُ ولا أفظعُ ولا أقبحُ من تشبيهِ استيلاءِ خالقِ السماواتِ والأرضِ على عرشِه المزعومِ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ؟ وهل يَرْضَى عاقلٌ أن يُشَبِّهَ العراقَ بالعرشِ، وأن يشبَه اللَّهَ (جل وعلا) ببشرِ بنِ مروانَ باستيلائِه على العراقِ؟ هل تعقلونَ في الدنيا تَشْبِيهًا أخسَّ من هذا، وأشنعَ من هذا، وأفظعَ من هذا؟! فنقول: أيها الخَلَفيُّ المستدلُّ بهذا البيتِ، أَلَمْ تَعْلَمْ أنكَ بدعواكَ واستدلالكَ بالبيتِ على استواءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ أنكَ أنتَ أكثرُ المُشَبِّهين في الدنيا نصيبًا في التشبيهِ حيث شَبَّهْتَ العرشَ بالعراقِ، وشَبَّهْتَ خالقَ السماواتِ والأرضِ في استيلائِه على عرشِه باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ؟ ثم لِتَعْلَمْ أن الاستيلاءَ الذي جئتَ به وبدلتَ به لفظَ القرآنِ أنه هو أشدُّ الصفاتِ تَوَغُّلاً في التشبيهِ؛ لأنك لَمَّا قُلْتَ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} معناه: (استولى) صرتَ مُشَبِّهًا لِلَّهِ بكلِّ مخلوقٍ قَهَرَ مَخْلُوقًا فغلبَه فاستولى عليه، والمخلوقاتُ التي تَقْهَرُ المخلوقاتِ فتغلبُها فتستولي عليها تُعَدُّ بالملايين، فالاستيلاءُ أكثرُ الصفاتِ تَوَغُّلاً في التشبيهِ، فصاحبُه يُشَبِّهُ اللَّهَ بكلِّ مخلوقٍ قَهَرَ مخلوقًا فغلبَه فاستولى عليه، وهذا الاستيلاءُ تحتَه مِنَ التشبيهِ بحورٌ لاَ سواحلَ لها تُعَدُّ بالملايين والآلافِ، ولاَ شَكَّ أن هذا المسكينَ المغرورَ سيضطرُّ ويقولُ: الاستيلاءُ الذي فَسَّرْتَ به الاستواءَ واستشهدتَ له ببيتِ الرجزِ استيلاءٌ مُنَزَّهٌ عن

استيلاءِ المخلوقين. فنقول له: نناشدكَ اللَّهَ أَنْصِفْ في الجوابِ ولا تُعْمِيكَ الأهواءُ والتعصباتُ، أيهما أحقُّ بالتنزيهِ، الأحقُّ بالتنزيهِ الاستواءُ الذي هو من كلامِ رَبِّ العالمين، ولفظ القرآنِ العظيمِ، نَزَلَ به الروحُ الأمينُ من فوقِ سبعِ سماواتٍ على سيدِ الخلقِ صلى الله عليه وسلم قُرْآنًا يُتْلَى، الحرفُ منه بعشرِ حسناتٍ يُقْرَأُ به في الصلواتِ، وَمَنْ أَنْكَرَ أنه من كلامِ رَبِّ العالمين كَفَرَ بإجماعِ العلماءِ، فهذا هو الأحقُّ بالتنزيهِ أَمِ الأحقُّ بالتنزيهِ لفظةُ الاستيلاءِ الذي جاء به ناسٌ مِنْ قِبَلِ أنفسِهم من غيرِ اعتمادٍ على دليلٍ من كتابٍ وَلاَ سُنَّةٍ ولا عقلٍ ولا لغةٍ ولا شيءٍ؟ ولا شكَّ أنه إن لم يكن مُكَابِرًا سيضطر إلى أن يقولَ: كلامُ رَبِّ العالمين أَحَقُّ بالتنزيهِ والإجلالِ والتقديسِ من كلامٍ جاءَ به ناسٌ من غيرِ اعتمادٍ على كتابٍ ولا سُنَّةٍ؛ فَلِذَا مذهبُ الخلفِ تحتَه ثلاثُ بَلاَيَا: أولُها: أنهم يَدَّعُونَ على آياتِ اللَّهِ التي مَدَحَ بها نفسَه أن ظاهرَها خبيثٌ قذرٌ، فكأنَّهم يقولونَ لله: هذا الذي مدحتَ به نفسَك، وأثنيتَ به على نفسكَ، وعلَّمتَ خلقَك أن يمدحوك به في كتابِك هذا قذرٌ نجسٌ لاَ يليقُ، ونحن نأتيك بالكمالِ من عندِ أنفسنا، ويأتوا بكمالٍ من عندِ أنفسِهم مزعومٍ!! هذا هوسٌ وجنونٌ لاَ يقولُ به عاقلٌ. فَالْبَلِيَّةُ الأُولَى: هي الادعاءُ على النصوصِ أن ظاهرَها لاَ يليقُ بِاللَّهِ. والبليةُ الثانيةُ: هي نفيُ الصفاتِ التي مَدَحَ اللَّهُ بها نفسَه. والبليةُ الثالثةُ: هي الأمرُ الذي يجيئونَ به من عندِ أنفسِهم الذي هو أعظمُ الأمورِ تَشْبِيهًا، وأوغلُها في التشبيهِ، فبأيِّ عقلٍ وبأيِّ نقلٍ، وبأيِّ كتابٍ أو سُنَّةٍ يسوغُ للخلفيِّ أن يُشَبِّهَ استيلاءَ اللَّهِ على عرشِه

الذي زَعَمَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ؟ فهذا أَخَسُّ التشبيهِ وأشنعُ التشبيهِ، ولو كان عَالِمًا بما يعلمُ به السلفُ الصالحُ لَعَلِمَ أن الاستواءَ الذي مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه أنه بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقطعُ علائقَ الوساوسِ وأوهامَ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ، فَيُثْبِتُهُ لِلَّهِ كما أَثْبَتَهُ على نفسِه إثباتًا مُنَزَّهًا عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقين، مُقَدَّسًا مكَبَّرًا مُعَظَّمًا مُنَزَّهًا عن مشابهةِ المخلوقين على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية 11]. وهنا شُبَهٌ نتعرضُ لها وربما خَطَرَ في ذهنِ الإنسانِ أن يقولَ: ذكرتُم لنا أن كُلَّ وصفٍ أَثْبَتَهُ اللَّهُ لنفسِه يجبُ أن نعتقدَ أن ذلك الوصفَ بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ والتقديسِ والتنزيهِ والإعظامِ والإجلالِ والإكبارِ ما يقطعُ الوساوسَ وعلائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ، ومن ذلك صفةُ الاستواءِ، وصفةُ الوجهِ، وصفةُ اليدِ، ونحو ذلك مما ثَبَتَ مِمَّا مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه في كتابِه أو مَدَحَهُ بها رسولُه صلى الله عليه وسلم. فإن قالوا: نحنُ لاَ نعلمُ كيفيةَ استواءٍ منزهةً عن كيفيةِ استواءِ المخلوقين، فَلَمْ تُدْرِكْ عقولُنا إلا هذا الاستواءَ الذي هو انتصابٌ مُشَابِهٌ لصفاتِ المخلوقين فَبَيِّنُوا لنا كيفيةَ استواءٍ منزهةً معقولةً لنعتقدَ كيفيةً منزهةً. فالجوابُ على هذه الشبهةِ من وجهين: أحدُهما: أن نقولَ أَوَّلاً: هل عرفتُم - أيها المتنطعونَ - كيفيةَ الذاتِ الكريمةِ المقدسةِ المتصفةِ بهذا الاستواءِ؟ فلا بُدَّ أن يقولوا: لاَ، فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الاتصافِ بالصفاتِ متوقفةٌ على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ؛ لأن كُلَّ صفةٍ هي بحسبِ موصوفاتِها، والصفاتُ تتباينُ

باختلافِ موصوفاتِها، ونضربُ لذلك مثلاً - ولله المثلُ الأعلى - ألا ترونَ - أيها الإخوانُ - أن لفظةَ (رأس) راء، وهمزة، وسين (رأس) إذا أضفتَه إلى الإنسانِ فقلتَ: «رأسُ الإنسانِ» وأضفتَه إلى الجبلِ فقلتَ: «رأسُ الجبلِ» وأضفتَه إلى الوادي فقلتَ: «رأسُ الوادي» وأضفتَه إلى المالِ فقلتَ: «رأسُ المالِ» أَلَمْ تَكُنْ هذه الحقائقُ متباينةً مختلفةً اختلافًا تامًّا ليست بمتشابهةٍ ألبتةَ مع أن لفظةَ «الرأس» واحدةٌ، وإنما تَبَايَنَتْ حقائقُ هذه الكلمةِ بحسبِ اختلافِ إضافاتِها، وهذا باختلافِ الإضافاتِ إلى مخلوقاتٍ حقيرةٍ، فما بَالُكُمْ - أيها الإخوانُ - بما أُضِيفَ إلى الخالقِ وما أُضِيفَ إلى خَلْقِهِ الذي هو صنعةٌ من صنائعِه؟ فالفرقُ بَيْنَ هذا وهذا كالفرقِ بينَ ذاتِ الخالقِ وذاتِ المخلوقِ. شُبْهَةٌ أُخْرَى: إذا قال مُعَطِّلٌ مُتَنَطِّعٌ: القرآنُ نَزَلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ، والعربُ لا تعرفُ في لغتِها للاستواءِ إلا هذا المُشَاهَدَ في المخلوقين، فيكونُ إثباتُه تشبيهًا بحسبِ ما دَلَّ عليه الوضعُ العربيُّ الذي نَزَلَ به القرآنُ. فالجوابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أيضًا: فنقولُ: العربُ الذين نَزَلَ القرآنُ بلغتِهم يعرفونَ كُلَّ المعرفةِ مِنْ وَضْعِ لغتِهم ومعانيها أن بينَ الخالقِ والمخلوقِ، والرازقِ والمرزوقِ، والمُحْيِي والمُحْيَا والمميتِ والمُماتِ، يعلمونَ أن بينَهما فوارقَ عظيمةً هائلةً لا يُقادَر قدرها مستلزمة كُلَّ الالتزامِ لِتَبَايُنِ صفاتِهم، وأن تكونَ صفاتُ هذا متعاليةً متعاظمةً إلى اللياقةِ بذاتِه، وأن تكونَ صفاتُ هذا منحطةً منخفضةً متواضعةً إلى قَدْرِ ذاتِه، فانحطاطُ صفةِ المخلوقِ عن صفةِ الخالقِ كانحطاطِ ذاتِ المخلوقِ عن عظمةِ ذاتِ الخالقِ (جل وعلا) فهذا

يعرفُه أهلُ اللسانِ من لغتِهم؛ وَلِذَا لم يكن الأعرابُ البدوُ يلتبسُ عليهم هذا، فيعلمونَ أن الفوارقَ التي بين الخالقِ وخلقِه، والرازقِ وَمَنْ رَزَقَهُ، والمُميتِ وَمَنْ يُمِيتُهُ، والمُحيي ومن يُحييه، يعلمونَ أن بينهما فوارقَ عظيمةً هائلةً يلزمُها تباينُ الصفاتِ، وأن صفاتِ هذا لا تُشْبِهُ صفاتِ هذا، وأن صفاتِ هذا كذاته لائقةٌ بذاتِه، وأن صفاتِ هذا لائقةٌ بذاتِه، وبينَ صفاتِ هذا وصفاتِ هذا من الاختلافِ كما بَيْنَ ذاتِ هذا وذاتِ هذا. الجوابُ الثاني: أن نقولَ: القرآنُ نزلَ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وقد أقررتُم بأن اللَّهَ سميعٌ بصيرٌ، والعربُ لا تَعْرِفُ في لغتِها معنًى للسمعِ والبصرِ لا يُدْرِكُونَ معنًى للسمعِ والبصرِ إلا هذا الْمُشَاهَدَ بالجارحةِ في الحيواناتِ، هل يعلمونَ كيفيةً له غيرَ هذا؟ لا، أبدًا. فإن قالوا: لا نعلمُ للسمعِ والبصرِ كيفيةً إلا المشاهدَ في الحيواناتِ، لكنا نعلمُ أن سمعَ اللَّهِ وبصرَه مُنَزَّهَانِ عن مشابهةِ أسماعِ الخلقِ وأبصارِهم لتنزيهِ ذاتِه عن ذواتِهم وصفاتِه عن صفاتِهم. قلنا: وكذلك نقولُ في الاستواءِ وسائرِ جميعِ الصفاتِ. فعلينا معًا أن نعلمَ أن الطريقَ الوحيدَ الأسلمَ الذي كان عليه السلفُ الصالحُ أولُه أن نُنَزِّهَ خالقَنا (جل وعلا) عن مشابهةِ الخلقِ، ونعلمَ أن الخلقَ صنعةٌ مِنْ صنعائِه، ثم لا ننكرُ وصفًا أَثْنَى اللَّهُ به على نفسِه، ولا نجحدُ مَدْحًا مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه في كتابِه وَعَلَّمَ خلقَه أن يمدحوه، ولا نكذب رسولَنا صلى الله عليه وسلم وننفي مَدْحًا مَدَحَ به رَبَّهُ، فَاللَّهُ أعلمُ بنفسِه منا: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: الآية 140] ولا يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أعلمُ بِاللَّهِ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَعَلَيْنَا أن نعتقدَ أولاً التنزيهَ وأن الخلقَ صَنْعَةٌ، والصَّنْعَةُ لاَ تُشْبِهُ صانعَها .. ثم نؤمنُ بما ثبتَ عن اللَّهِ،

وما ثبتَ عن رسولِ اللَّهِ إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية 11] فنكونُ بتنزيهِنا طاهرةً قلوبُنا من أقذارِ التشبيهِ، وبإيمانِنا بالصفاتِ على أساسِ التنزيهِ طاهرة قلوبُنا من أقذارِ التعطيلِ، فَنَلْقَى اللَّهَ سَالِمِينَ غيرَ مشبهين ولا مُعَطِّلِينَ. وأما هذا المذهبُ الخلفيُّ أولُ ما يبدأ به الادعاءُ على آياتِ اللَّهِ أن ظاهرَها قَذِرٌ، وأنه نَجِسٌ، ثم بعد ذلك نَفْيُهَا، ثم الإتيانُ بشيءٍ آخَرَ من تلقاءِ أنفسِهم لم يَرِدْ به كتابٌ ولا سُنَّةٌ. وكلُّ هذه بليةٌ عُظْمَى من ثلاثِ بلايا لا يُؤْمَنُ أن يقعَ صاحبُها في مَهْوَاةٍ؛ لأن الادعاءَ على اللَّهِ أن ما مَدَحَ به نفسَه ظاهرُه خبيثٌ لاَ يليقُ، هذه جنايةٌ كُبْرَى، ونفيُ ما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه جنايةٌ أُخرى، وإتيانُ الإنسانِ بوصفٍ من تلقاءِ نفسِه ليثبتَه لِلَّهِ لم يُثْبِتْهُ اللَّهُ لنفسِه كالاستيلاءِ الذي لم يُثْبِتْهُ الرسولُ ولم يُثْبِتْهُ اللَّهُ هو الجنايةُ الثالثةُ. ولو هَدَاهُ اللَّهُ إلى ما هَدَى إليه السلفَ الصالحَ [لأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لنفسِه على ما يليقُ بجلالِ اللَّهِ وعظمتِه] (¬1) لأن الوصفَ عندما يُسْنَدُ إلى اللَّهِ يعلمُ المؤمنُ أنه بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ والعلوِّ والشرفِ والرفعةِ واللياقةِ بِاللَّهِ ما يَقْضِي على جميعِ الوساوسِ وأوهامِ علائقِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقين، فيؤمنُ بالوصفِ على أساسِ التنزيهِ على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} لَكَانَ سَالِمًا من بليةِ التشبيهِ، وَسَالِمًا من بليةِ التعطيلِ. ومن المعلومِ أن علماءَ الكلامِ الذين خَاضُوا في هذه الأمورِ، ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

وَنَفَوْا بعضَ الصفاتِ بأقيسةٍ منطقيةٍ اسْتَنْتَجُوا نفيَ بعضِ الملزوماتِ من نفيِ اللوازمِ - في زعمِهم - أن ذلك غلطٌ منهم ( ... ) (¬1) زعموا أن هنالك صفةً نفسيةً، وصفةً سلبيةً، وصفةَ معنًى، وصفةً معنويةً، وصفةَ فِعْلٍ، وصفةً جامعةً. وَمَثَّلُوا لكلٍّ مِنْ هذا، وسنذكرُ لكم نَمُوذَجًا في أن كُلاًّ من الصفاتِ التي ذَكَرُوهَا جاء في القرآنِ العظيمِ وصفُ الخالقِ بها، وجاءَ فيه وصفُ المخلوقِ بها علينا أن نعتقدَ أن وصفَ اللَّهِ حَقٌّ، وأن وصفَ المخلوقِ حَقٌّ، وَلَكِنَّ وَصْفَ اللَّهِ لائقٌ بِاللَّهِ، مُنَزَّهٌ عن مشابهةِ صفةِ المخلوقِ، ووصفُ المخلوقِ لائقٌ بالمخلوقِ ولا يليقُ بالله (جل وعلا) وبينَ وصفِ الخالقِ والمخلوقِ من المنافاةِ كما بينَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ، فبعضُهم لا يُقِرُّ من صفاتِ المعانِي الثابتةِ إلا بسبعٍ، وهي القدرةُ والإرادةُ والعلمُ والحياةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ، وينفي غيرَ هذه السبعِ من المعانِي الثابتةِ في كتابِ اللَّهِ بدعوى أن ظاهرَها خبيثٌ لاَ يليقُ ويؤولونَها بأمورٍ أُخَرَ كما ذَكَرْنَا، وَيُثْبِتُونَ هذه السبعَ المعانيَ. والمعتزلةُ ينفونَ هذه المعانيَ السبعةَ ويثبتونَ أحكامَها فيقولونَ: هو قادرٌ بذاتِه لاَ بقدرةٍ قامت بالذاتِ، سميعٌ بذاتِه لاَ بسمعٍ قائمٍ بالذاتِ. ومذهبُهم يعلمُ كُلُّ عاقلٍ أنه مذهبٌ متناقضٌ باطلٌ لا يَشُكُّ فيه أَدْنَى عَاقِلٍ. فنقولُ: القدرةُ التي ذَكَرُوهَا من صفاتِ المعانِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ لنفسِه في غيرِ آيةٍ من كتابِه فقالَ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: الآية 109] وأثبتَها لبعضِ المخلوقين فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، والكلام مع ذلك منتظم.

أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: الآية 34] فيعلمونَ أن قدرةَ اللَّهِ حَقٌّ، وأن للمخلوقِ قدرةً، وأنه لاَ مناسبةَ بينَ قدرةِ الخالقِ وقدرةِ المخلوقِ، فقدرةُ المخلوقِ مُنَاسِبَةٌ لحالِه، وقدرةُ الخالقِ لائقةٌ به (جل وعلا) وبينَ القدرةِ والقدرةِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ. وكذلك الإرادةُ وَصَفَ اللَّهُ نفسَه بأنه يريدُ قال: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: الآية 16]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: الآية 185] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: الآية 82]. وَوَصَفَ بعضَ خلقِه بالإرادةِ فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 32]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: الآية 8] {إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} [الأحزاب: الآية 13] ونحنُ نعلمُ أن لله إرادةً حَقَّةً لائقةً بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ إرادةٌ مُنْسَفِلَةٌ إلى قدرِ المخلوقِ واللياقةِ بذاتِ المخلوقِ، وبينَ الإرادةِ والإرادةِ كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ مع المنافاةِ. وكذلك وَصَفَ نفسَه بالحياةِ قال: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: الآية 255] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: الآية 58] ووصفَ بعضَ خلقِه بالحياةِ فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: الآية 19] {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: الآية 30] {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: الآية 15] فيجزمُ بأن لله حياةً حقيقيةً تليقُ بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ حياةٌ مناسبةٌ لحالِه، وبينَ حياةِ المخلوقِ وحياةِ الخالقِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ. ووصفَ اللَّهُ نفسَه بالسمعِ والبصرِ قال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: الآية 28] {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: الآية 61] {لَيْسَ

كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية 11] ووصفَ بعضَ خلقِه بالسمعِ والبصرِ قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: الآية 2] {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: الآية 38] فلله سمعٌ وبصرٌ حقيقيانِ لائقانِ بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ سمعٌ وبصرٌ لائقانِ بحالِه، وبينَ سمعِ الخالقِ وبصرِه ومسمعِ المخلوقِ وبصرِه من المنافاةِ كمثلِ مَا بَيْنَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ. ووصفَ نفسَه ( ... ) (¬1). وبينَ كلامِ الخالقِ والمخلوقِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ ذاتِ الخالقِ والمخلوقِ. هذه صفاتُ المعانِي السبعُ. وكذلك المعنوياتُ التي هي كونُه قادرًا مُرِيدًا حَيًّا سميعًا بصيرًا، إنما يُثْبِتُونَهَا صفاتٍ على ما يسمونَه (الحال) وهم يزعمونَ أن الحالَ المعنويةَ أمرٌ ثُبُوتِيٌّ غيرُ موجودٍ ولا معدومٍ!! وهو من خيالاتِ المتكلمين التي لا أساسَ لها؛ لأن عامةَ العقلاءِ يعلمونَ أنه لا واسطةَ بينَ النقيضين، وأن كُلَّ ما ليس بموجودٍ فهو معدومٌ، وما ليس بمعدومٍ فهو موجودٌ، وهذا مما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ. وزعمُهم أن الحالَ واسطةٌ ثبوتيةٌ، لا هي معدومةٌ على الحقيقةِ، ولا هي موجودةٌ على الحقيقةِ من الخيالاتِ الوهميةِ التي لاَ أساسَ لها، بل كونُه قادرًا مُرِيدًا حَيًّا متكلمًا سميعًا بصيرًا هو معنَى كيفيةِ الاتصافِ بالقدرةِ والإرادةِ والعلمِ. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد ذهب بسببه كلام طويل تجد نظائره في مواضع متعددة من هذا التفسير، ومن ذلك ما ذكره عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام، وكذا ما ذكره في محاضرته في الأسماء والصفات.

والصفاتُ التي يسمونَها (سلبيةً)، معناها عندهم: هي الصفةُ التي لم تَدُلَّ على معنًى وجوديٍّ بالوضعِ، فالصفةُ عندهم إما أن تدلَّ على معنًى وجوديٍّ بدلالةِ المطابقةِ فهذه صفةُ معنًى كالقدرةِ؛ لأنها صفةٌ تدلُّ على معنًى، وهي المعنَى القائمُ بالذاتِ التي يَتَأَتَّى به إيجادُ الممكناتِ وإعدامُها على وَفْقِ الإرادة. أما إذا كانت الصفةُ لا تدلُّ بدلالةِ المطابقةِ على معنًى وجوديٍّ وإنما تدلُّ على عَدَمٍ مَحْضٍ وهو عدمُ مَا لاَ يليقُ بِاللَّهِ عن اللَّهِ هذه التي يسمونَها السلبيةَ وهم يقسمونَها إلى خمسِ صفاتٍ: القِدَم والبقاءِ والمخالفةِ للخلقِ والوحدانيةِ والغِنَى المطلقِ الذي يسمونَه (القيامَ بالنفسِ) وهو الاستغناءُ عندَهم عن المحلِّ والمُخَصَّصِ، كما هو معروفٌ في فَنِّ الكلامِ. فنقولُ: إن القِدَمَ والبقاءَ الذين وَصَفَ بهما المتكلمونَ اللَّهَ زاعمينَ أن اللَّهَ وصفَ بهما نفسَه في قولِه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: الآية 3] جاء وصفُ المخلوقِ بهما، قال اللَّهُ في وصفِ المخلوقِ بالقِدَمِ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: الآية 39] {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: الآية 95] {أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: الآية 76] وقال في وصفِ الحادثِ بالبقاءِ: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: الآية 77] {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: الآية 96] فلو قَدَّرْنَا أن القِدَمَ يجوزُ إطلاقُه لِلَّهِ كما ذهبَ إليه جماعةٌ من العلماءِ، ويدلُّ عليه حديثُ أبِي داودَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (¬1) لأن القِدَمَ يُطْلَقُ في اللغةِ: على ما له زمنٌ كثيرٌ وإن كان مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ، وهو في اصطلاحِ المتكلمينَ لاَ يُطْلَقُ إلا على سَلْبِ ¬

(¬1) سيأتي تخريجه عند تفسير الآية (99) من هذه السورة.

العدمِ السابقِ. والقِدَمُ عندَ المتكلمين أَخَصُّ من الأزلِ؛ لأَنَّ القِدَمَ والأزلَ كلاهما في اصطلاحِ أهلِ الكلامِ عبارةٌ عن ما لاَ أولَ له ولا افتتاحَ له، لكن الْقِدَمَ عبارةٌ عن ما لاَ افتتاحَ له بشرطِ أن يكونَ وجوديًّا، والأزلُ عبارةٌ عن ما لاَ افتتاحَ له ولا أولَ له، سواء كان وجوديًّا أو عدميًّا. فمثالُ ما اجتمعَ فيه الأزليُّ والقديمُ في اصطلاحِ المتكلمين: ذاتُ اللَّهِ وصفاتُه؛ لأنها لا أولَ لوجودِها وهي موجودةٌ. ومثالُ ما هو أَزَلِيٌّ وليس بقديمٍ: أَعْدَامُنَا سوى اللَّهِ فإنها أزليةٌ فإنا قبلَ أن نوجدَ كنا معدومين، وعدمُنا الأولُ لا أوليةَ له ولا افتتاحَ له، فهو أزليٌّ ولاَ يُسَمَّى قَدِيمًا؛ لأنه غيرُ موجودٍ، كذلك الأوليةُ والآخريَّةُ المنصوصتانِ في الآيةِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: الآية 3] جاءَ وصفُ المخلوقِ بها أيضًا، قال في وصفِ المخلوقِ بِهِمَا: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)} [المرسلات: الآيتان 16 - 17] فَلِلَّهِ (جل وعلا) أوليةٌ وآخريةٌ لائقتانِ بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ أوليةٌ وآخريةٌ لائقتانِ بحالِه، وبينَ الصفةِ والصفةِ من المنافاةِ كما

بينَ الذاتِ والذاتِ. كذلك صفاتُ الأفعالِ، فاللَّهُ (جل وعلا) وَصَفَ بها نفسَه، ووصفَ بها خَلْقَهُ، فوصفَ نفسَه بصفةِ الفعلِ التي هي الرِّزْقُ، وأنه يرزقُ الناسَ، قال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: الآية 6] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: الآية 58] فهذه صفةُ فِعْلٍ، ووصفَ بعضَ خلقِه بها فقال: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: الآية 233] {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} [النساء: الآية 8] فَرزْقُ اللَّهِ لائقٌ بكمالِه وجلالِه، ورِزقُ بعضِ المخلوقين لبعضٍ لائقٌ بحالِهم، وبينَ الصفةِ والصفةِ من المنافاةِ كما بينَ الذاتِ والذاتِ. كذلك وَصَفَ نفسَه بالفعلِ الذي هو العملُ، قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا (71)} [يس: الآية 71] ووصفَ بعضَ خلقِه بالعملِ فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: الآية 17] وبينَ العملِ والعملِ من المنافاةِ كما بينَ الذاتِ والذاتِ. ووصفَ نفسَه بأنه يعلُّم خلقَه قال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3)} [الرحمن: الآيات 1 - 3]. ووصفَ بعضَ خلقِه بالتعليمِ قال: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: الآية 164] وَجَمَعَ المثالين في قولِه: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ} [المائدة: الآية 4] فالتعليمُ والتعليمُ بينَهما من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ. ووصفَ نفسَه بأنه يُنَبِّئُ، ووصفَ بعضَ خلقِه بالفعلِ الذي هو التَّنْبِئَةُ، وجمعَ المثالين في قولِه: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: الآية 3] ووصفَ نفسَه بأنه يُؤْتِي، ووصفَ بعضَ خلقِه بأنه يُؤْتِي، فالفعلُ الذي هو الإيتاءُ أسندَه لنفسِه مرةً ولخلقِه مرةً، قال عن نفسِه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: الآية 269] {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: الآية 26] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: الآية 258] إلى غيرِ ذلك. ووصفَ بعضَ المخلوقين بالإيتاءِ قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: الآية 20] {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: الآية 2] وليس الإيتاءُ كالإيتاءِ، فالفرقُ بينَهما كالفرقِ بينَ الذاتِ والذاتِ. وكذلك الصفاتُ الجامعةُ كالكِبَرِ وَالْعُلُوِّ والعِظَمِ والجبروتِ والمُلكِ والتكبرِ، كلها وَصَفَ به نفسَه في كتابِه،

ووصفَ به بعضَ خلقِه، قال في وصفِ نفسِه بالعلوِّ والعِظَمِ والكِبَرِ: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: الآية 255] وفي الكِبَرِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: الآية 34] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: الآية 9] ووصفَ بعضَ خلقِه بالعِظَمِ فقال: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: الآية 63] {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: الآية 40] ووصفَ بعضَ خلقِه بِالْكِبَرِ فقال: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: الآية 143] {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ} [الإسراء: الآية 31] {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [تبارك: الآية 12] إلى غيرِ ذلك. ووصفَ بعضَ خلقِه بالعلوِّ فقال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: الآية 57] {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: الآية 40] فليسَ العِظَمُ كالعِظَمِ، ولا العلوُّ كالعلوِّ، ولاَ الكِبَرُ كالكِبَرِ. ووصفَ نفسَه بالملكِ فقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} [الجمعة: الآية 1] وقال جل وعلا: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: الآية 55] ووصفَ بعضَ المخلوقين بالملكِ في قوله جل وعلا: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: الآية 79] {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: الآية 43] فليس المُلكُ كالمُلكِ، فَمُلْكُهُ (جل وعلا) لائقٌ بذاتِه، وملكُ المخلوقين لائقٌ بحالِهم، وبينَ جميعِ هذه الصفاتِ من التنافِي كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ. ووصفَ نفسَه بأنه جَبَّارٌ متكبرٌ، قال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: الآية 23] وصف نفسَه بأنه جبارٌ متكبرٌ، ووصفَ بعضَ الخلقِ بذلك قال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ

مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: الآية 35] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)} [الشعراء: الآية 130] {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: الآية 60] فليس التكبرُ كالتكبرِ، ولا الجبرُ كالجبرِ، فبينَ الصفاتِ والصفاتِ من المنافاةِ كما بينَ الذاتِ والذاتِ. ووصفَ نفسَه بأنه رؤوفٌ رحيمٌ قال: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: الآية 7] ووصفَ بعضَ الخلقِ بذلك كقولِه في نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: الآية 128] ووصفَ نفسَه بالحلمِ فقال: {لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحج: الآية 59] ووصفَ بعضَ خلقِه بالحلمِ فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: الآية 114] {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: الآية 101] ووصفَ نفسَه بالعزةِ فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: الآية 220] ووصفَ بعضَ خلقِه بالعزةِ: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف: الآية 51] {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: الآية 23] فليست العزةُ كالعزةِ، ولا الحلمُ كالحلمِ، ولا شيءٌ من صفاتِ اللَّهِ كشيءٍ من صفاتِ المخلوقين، فسائرُ صفاتِ اللَّهِ حقٌّ، وسائرُ صفاتِ المخلوقين حَقٌّ. ولو تَتَبَّعْنَا مثلَ هذا لَجِئْنَا منه بمئاتِ الآلافِ، ولكنَّ هذه الأمثلةَ كافيةٌ، والمقصودُ عندَنا أن يعلمَ إخوانُنا المؤمنونَ أن اللَّهَ حَقٌّ، وأن صفاته حَقٌّ، وأن المخلوقين حَقٌّ، وأن صفاتَه حقٌّ، وأن صفاتِ اللَّهِ بسائرِها الثابتة في الكتابِ والسنةِ منزهةٌ عن صفاتِ المخلوقين كتنزيهِ ذاتِه عن ذواتِهم، فصفاتُ المخلوقين لائقةٌ بذواتِهم، وصفاتُ الخالقِ لائقةٌ بذاتِه، وبينَ الصفةِ والصفةِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ هذا الواجبُ على كُلِّ مسلمٍ أن يعتقدَه.

وبهذا التقريرِ الذي قَرَّرْنَا تعلمونَ أن قولَهم: «مَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ» أنه مع ذلك أحكمُ وأعلمُ؛ لأنه طريقُ سلامةٍ محققةٍ، ليس فيه شائبةُ تشبيهٍ، وليس فيه شائبةُ تعطيلٍ، ولا جحودٌ بآياتِ اللَّهِ، كُلُّهُ طرقُ سلامةٍ محققةٍ في ضوءِ القرآنِ، وحيث حادَ عنه الإنسانُ دَخَلَ في بلايا، ونحنُ نقولُ لكم هذا وَنُقَرِّرُ لكم مذهبَ السلفِ على ضوءِ القرآنِ العظيمِ مع أنَّا ما دَرَسْنَا دراسةً شديدةً مثلَ علومِ الكلامِ والمنطقِ، وما تنفي به كُلُّ طائفةٍ بعضًا من صفاتِ اللَّهِ، ونحن مطلعونَ على جميعِ الأدلةِ وعلى تركيبِها التي نُفِيَ بها بعضُ الصفاتِ، عارفونَ كيف جاء البُطْلاَنُ، ومن الوجهِ الذي جاءَ البُطْلاَنُ، واسمُ الدليلِ الذي تُرَدُّ به، ولكن ذلك لا يليقُ في هذا المجلسِ الحافلِ؛ لأنه لاَ يعرفُه إلا خواصُّ الناسِ، فبعدَ النظرِ العامِّ الطويلِ في علمِ الكلامِ وما يستدلُّ به طوائفُ المتكلمين وما تَرُدُّ به كُلُّ طائفةٍ على الأخرى، والأقيسةُُ المنطقيةُ التي رَتَّبُوهَا وَنَفَوْا بها بعضَ الصفاتِ، ومعرفتُنا من الوحيِ ومن نفسِ الكلامِ والبحوثِ والمناظراتِ كيف يُبْطِلُ ذلك الدليلَ، ومن أين جاء الخطأُ، وَتَحَقَّقْنَا من هذا كُلِّهِ، بعد ذلك كله تَحَقَّقْنَا كُلَّ التحققِ أن السلامةَ كُلَّ السلامةِ، والخيرَ كُلَّ الخيرِ في اتباعِ نورِ هذا القرآنِ العظيمِ، والاهتداء بِهَدْيِ هذا النبيِّ الكريمِ، فما أثبتَه اللَّهُ لنفسِه نُثْبِتُهُ مع غاياتِ التنزيهِ، وما نَفَاهُ عن نفسِه نَنْفِيهِ مع غاياتِ التنزيهِ، وما أَثْبَتَهُ سيدُ الخلقِ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ نثبتُه مع كمالِ التنزيهِ، وما نَفَاهُ نَنْفِيهِ مع كمالِ التنزيهِ، وما سَكَتَ عنه الوحيُ لم يتعرض له بالكليةِ فإن اللَّهَ لم يُكَلِّفْنَا من صفاتِه إلا بِمَا عَلِمْنَا عن طريقِ كتابِه أو سُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم. وفي الختامِ نسألُ اللَّهَ جميعًا أن يُوَفِّقَنَا وإخوانَنا المسلمينَ لِمَا يرضيه،

ونوصي أنفسَنا وإخوانَنا بتقوى اللَّهِ، وأن لاَ يُشَبِّهُوا اللَّهَ بصفاتِ خلقِه، وأن لاَ يجحدوا وينفوا ما أَثْبَتَهُ اللَّهُ لنفسِه وَمَدَحَ به نفسَه، وأن لاَ يُكَلِّفُوا عقولَهم الإحاطةَ بشيءٍ عاجزة عنه. قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: الآيات 54 - 57]. يقول اللَّهُ جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}. تَكَلَّمْنَا على أولِ هذه الآيةِ الكريمةِ وَشَرَحْنَا مذهبَ السلفِ في الاستواءِ وما جَرَى مجراه من آياتِ الصفاتِ وأحاديثِ الصفاتِ، وَبَيَّنَّا أن المعتقدَ الْمُنَجِّي في ذلك عندَ اللَّهِ يَنْبَنِي على ثلاثةِ أُسُسٍ: أوَّلُها: - وهو أساسُ توحيدِ الأسماءِ والصفاتِ الأعظم - هو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا) عن مشابهةِ خَلْقِهِ، وكيفَ يخطرُ في ذهنِ المسلمِ العاقلِ مشابهةُ الخلقِ بخالقِهم وهو صَنْعَةٌ مِنْ صُنْعِهِ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: الآية 88] والصَّنْعَةُ

لا يمكنُ أن تشبهَ صانعَها بحالٍ، فالأساسُ الأعظمُ الأولُ هو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا) عن أن يُشْبِهَهُ شيءٌ من خلقِه في صفاتِهم أو ذواتِهم أو أفعالِهم. والأساسُ الثاني: هو تصديقُ اللَّهِ، وعدمُ تكذيبه، وعدمُ جحودِ ما مدحَ به نفسَه، بل تصديقُ اللَّهِ بما مَدَحَ به نفسَه في كتابِه مُعَلِّمًا خلقَه أن يمدحوه به والإيمان بذلك إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ كما عَلَّمَنَا اللَّهُ ذلك في قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية 11] فَبَيَّنَ لنا أنه يجبُ علينا أن ننزهَه أولاً عن مماثلةِ الخلقِ بقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأن نؤمنَ بما وصفَ به نفسَه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ حيث قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعدَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. والأساسُ الثالثُ: هو أن نعلمَ أن إحاطةَ العلمِ البشريِّ منفيةٌ عن اللَّهِ نَفْيًا قرآنيًّا بَاتًّا في قولِه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} فإذا ماتَ العبدُ على هذه العقيدةِ الصحيحةِ جاء آمِنًا يومَ القيامةِ من توبيخٍ يلحقُه من واحدٍ من هذه الأُسسِ الثلاثةِ، فَلاَ تَأْتِيهِ بليةٌ من قِبَلِ تنزيهِه لربه عن مشابهةِ خلقِه، ولا تأتيه بليةٌ من تصديقِه رَبَّهُ فيما مَدَحَ به نفسَه، أو تصديقه رسولَه فيما أَثْنَى به على رَبِّهِ تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ كنحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. وَلاَ تأتيه بليةٌ من كونِه مُقِرًّا بأن علمَه لاَ يحيطُ بِاللَّهِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: الآية 110] وقد شَرَحْنَا تقسيمَ المتكلمين للصفاتِ، وَبَيَّنَّا ما جاء في القرآنِ من وصفِ الخالقِ ووصفِ المخلوقِ بها، وأن وصفَ الخالقِ حَقٌّ، وأن وصفَ المخلوقِ حَقٌّ إلا أن وصفَ الخالقِ مُنَزَّهٌ عن مشابهةِ وصفِ

المخلوقِ، لائق بالخالقِ، ووصفُ المخلوقِ حقٌّ إلا أنه ملائمٌ مناسبٌ للمخلوقِ لاَ يجوزُ في حَقِّ الخالقِ (جل وعلا) وَضَرَبْنَا لذلك أمثلةً كثيرةً ونُورِدُ هنا نُقْطَتَيْنِ: إحداهما: أن اللَّهَ (جل وعلا) وَصَفَ نفسَه بالاستواءِ، وَوَصَفَ بعضَ المخلوقين بالاستواءِ، كما وَصَفَ نفسَه بالسمعِ والبصرِ والقدرةِ والحياةِ ونحوِ ذلك، فَاللَّهُ وصفَ نفسَه بأنه سميعٌ بصيرٌ قال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: الآية 28] ووصفَ المخلوقَ بالسمعِ والبصرِ، قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: الآية 2] ووصفَ نفسَه بالحياةِ، قال: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: الآية 255] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: الآية 58] ووصفَ بعضَ خلقِه بالحياةِ قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: الآية 19] {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: الآية 30] {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: الآية 15] إلى آخِرِ ما ذَكَرْنَاهُ، فَاللَّهُ (جل وعلا) له قدرةٌ حقيقيةٌ وحياةٌ وسمعٌ وبصرٌ، والمخلوقونَ لهم سمعٌ وبصرٌ وقدرةٌ وحياةٌ، إلا أن صفاتِ المخلوقين مُنَاسِبَةٌ لذواتِهم لاَ تليقُ بِاللَّهِ ولاَ تُشْبِهُ صفاتِ اللَّهِ، وصفاتُ الله من جميعِ ذلك لائقةٌ بِاللَّهِ، منزهةٌ عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقين كما أَوْضَحْنَا أمثلتَه بكثرةٍ. كذلك وَصَفَ نفسَه بالاستواءِ على العرشِ في سبعِ آياتٍ من كتابِه، ولم يذكر صفةَ الاستواءِ في أحدِ تلك المواضعِ السبعةِ إلا مقرونةً بشيءٍ من صفاتِ الكمالِ والجلالِ يُبْهِرُ العقولَ ويقضي بأنه العظيمُ الأعظمُ التي لا يماثلُه شيءٌ في شيءٍ من صفاتِه، ولاَ في

ذاتِه، ولا أفعالِه، وأن جميعَ تلك الصفاتِ بما فيها الاستواءُ لا يجوزُ جَحْدُ شيءٍ منها ولا إنكارُه. الموضعُ الأولُ من المواضعِ السبعةِ بحسبِ ترتيبِ المصحفِ الكريمِ: هو قولُه هنا في سورةِ الأعرافِ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: الآية 54] فَانْظُرُوا هذا من صفاتِ الكمالِ والجلالِ هل يمكن أن يُحَرَّف شيءٌ منه، أو يُجحد شيءٌ منه؟ لا وَكَلاَّ. والموضعُ الثاني: قولُه تعالى في سورةِ يونسَ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس: الآيات 3 - 6] فانظروا هذا من صفاتِ الكمالِ والجلالِ هل يمكنُ أن يُجْحَدَ شيءٌ منه، أو يُكذب بشيءٍ منه؟ لاَ وَكَلاَّ. الموضعُ الثالثُ: قولُه تعالى في أولِ سورةِ الرعدِ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وفي القراءة الأخرى (¬1): {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}. {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} وفي القراءةِ الأخرى (¬2): {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ}. {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكْلِ} وفي القراءةِ الأخرى (¬3): {الأُكُلِ} {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: الآية 4] فانظروا هذا من صفاتِ الكمالِ والجلالِ هل يمكنُ أن يُجْحَدَ شيءٌ منه أو يُكَذَّبَ بشيءٍ منه؟ لاَ وَكَلاَّ. الموضعُ الرابعُ: قولُه تعالى في سورةِ طه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَنْ يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: الآيات 1 - 8] فانظروا هذا من صفاتِ الكمالِ والجلالِ هل يمكنُ أن يُجْحَدَ شيءٌ منه، أو يُكذب بشيءٍ منه؟ لاَ وَكَلاَّ. والموضعُ الخامسُ: في سورةِ الفرقانِ في قولِه تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان: الآيتان 58 - 59] فَانْظُرُوا هذا من صفاتِ الكمالِ والجلالِ هل يمكنُ أن يُكذبَ بشيءٍ منه، أو يُجحدَ شيءٌ منه؟ لاَ وَكَلاَّ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

الموضعُ السادسُ: في سورةِ (ألم السجدة) في قولِه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة: الآيات 3 - 9] فانظروا هذا من صفاتِ الكمالِ والجلالِ المذكورِ في جميعِ هذه الآياتِ مع صفةِ الاستواءِ هل يمكنُ أن يُكْفَرَ بشيءٍ منه، أو يُجْحَدَ شيءٌ منه، أو يقال: إن شيئًا منه ليس لاَئِقًا بالله؟ لاَ وَكَلاَّ. الموضعُ السابعُ: وهو آخِرُهَا في سورةِ الحديدِ في قولِه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى آخِرِ الآياتِ [الحديد: الآيات 3 - 5] فهل يمكنُ أن يُنكر شيءٌ من هذا من الكمالِ والجلالِ الذي أَثْنَى اللَّهُ به على نفسِه؟ فَكُلُّهُ كمالٌ وجلالٌ يجبُ تقديسُه وتنزيهُه بما فيه الاستواءُ عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقين، والإيمان بجميعِ تلك الصفاتِ على أساسِ ذلك التنزيهِ على غرارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية 28] كذلك - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى - وَصَفَ بعضَ خلقِه

بالاستواءِ فقال في بعضِ المخلوقين: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: الآية 13] {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية [النحل: الآية 28] {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: الآية 44] فَاللَّهُ (جل وعلا) كما وَصَفَ نفسَه بالقدرةِ والسمعِ والبصرِ والكلامِ والحياةِ إلى غيرِ ذلك، وَوَصَفَ نفسَه بالاستواءِ، كذلك وَصَفَ بعضَ المخلوقين بالسمعِ والبصرِ والقدرةِ والإرادةِ والحياةِ والاستواءِ، فَسَمْعُ اللَّهِ وبصرُه وقدرتُه وإرادتُه واستواؤُه وذاتُه جميعُ ذلك مُنزَّهٌ غايةَ التنزيهِ عن مشابهةِ شيءٍ من المخلوقين في الذواتِ والصفاتِ والأفعالِ، وَسَمْعُ المخلوقينَ وأبصارُهم وحياتُهم وقدرتُهم وإرادتُهم واستواؤهم كُلُّ ذلك لائقٌ بحالهم وبينَ صفاتِ اللَّهِ من جميعِ ذلك وصفاتِ المخلوقين من جميعِ ذلك كمثلِ ما بينَ ذاتِ الخالقِ وذاتِ المخلوقِ لاَ مناسبةَ ألبتةَ؛ لأن الخلقَ صَنْعَةٌ من صَنَائعِه أَبْرَزَهُمْ من العدمِ إلى الوجودِ بقدرتِه وإرادتِه، فلا يخطرُ في العقلِ السليمِ أن يُمْكِنَ أن يُشْبِهُوهُ في شيءٍ من ذواتِهم أو صفاتِهم أو أفعالِهم، وهل تُشْبِهُ الصنعةُ صانعَها؟ لا وكلا - سبحانه وتعالى عما يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا - وهذا هو الذي أَرَدْنَا أن نوضحَه لكم - أيها الإخوانُ - من مذهبِ السلفِ الذي هو طريقُ سلامةٍ محققةٍ مبنيٌّ على أساسِ تنزيهِ اللَّهِ عن مشابهةِ خلقِه، وعلى أساسِ تصديقِ اللَّهِ ورسولِه فيما مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه، أو مَدَحَهُ به رسولُه تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، مع وقوفِ العقلِ البشريِّ عند حَدِّهِ، وعدم إدراكه بكنهيةِ كيفيةِ الاتصافِ. وقد بَيَّنَّا أن هذا طريقُ سلامةٍ محققةٍ لاَ شكَّ فيها، لا تستلزمُ تَبِعَةً ولا محذورًا ولا خوفًا ولا قلقًا؛ لأنه أمرٌ واضحٌ في نورِ القرآنِ العظيمِ تنزيهُ ربِّ

العالمين، وتصديقُ ربِّ العالمين، وتصديقُ رسولِه تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، والبعدِ عن مشابهةِ الخلقِ، ووقوفِ العقلِ عند حَدِّهِ، وعدمِ تَعَدِّيهِ لطورِه، فهذا طريقِ سلامةٍ محققةٍ لاَ يشكُّ فيها عاقلٌ أبدًا، وَبَيَّنَّا أن ما يسمونَه مذهبَ [الخلفِ] (¬1) يستلزمُ بلايا أَوْضَحْنَاهَا فَأَغْنَى ذلك عن إعادتِها اليومَ، ولا يأمنُ معتقدُها أن تأتيَه منها بلايا يومَ القيامةِ قد لا يتخلصُ منها. فالذي نُوصِي به أنفسَنا وإخوانَنا المسلمين تقوى اللَّهِ، وأن لا يَتَهَجَّمُوا على صفاتِ اللَّهِ بِأَنَّ ظاهرَها غيرُ لائقٍ، وأنه ظاهرٌ خبيثٌ، وأن لا يَتَهَجَّمُوا بِنَفْيِهَا، بل ينزهونَ خالقَهم أولاً ثم يصدقونَه فيما مَدَحَ به نفسَه، فيؤمنونَ بما أثبتَ لنفسِه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ويعلمونَ أن عقولَهم المسكينةَ المخلوقةَ عاجزةٌ عن إدراكِ الإحاطةِ وكيفيةِ الكُنْهِ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: الآية 110] وإنما أَكْثَرْنَا من تكرارِ هذه المسألةِ لشدةِ الحاجةِ إليها؛ ولأن كثيرًا من الناسِ يدَّعي على صفاتِ اللَّهِ أن ظاهرَها غيرُ لائقٍ، وأنه خبيثٌ، ثم ينفيها ويأتي ببدلِها من تلقاءِ نفسِه، وهذه أمورٌ قد لاَ تُخْرِجُ صاحبَها عِنْدَ اللَّهِ، قد لا يتخارجُ منها لأنه كأنه يقولُ لِلَّهِ: هذا الذي مَدَحْتَ به نفسَك في كتابك مُعَلِّمًا خلقَك أن يمدحوك به، ظاهرُه خبيثٌ نجسٌ لا يليقُ، ثم ينفيه، ثم يأتي بتأويلٍ آخَرَ من تلقاءِ نفسِه، هذه الطريقُ شائكةٌ غيرُ مأمونةٍ، ولاسيما إذا وجدَ الناسُ مَنْ يُبَيِّنُ لهم ما تحتَها من المخاطرِ، وَيُبَيِّنُوا لهم المعتقدَ السلفيَّ الصحيحَ الواضحَ الذي لاَ إشكالَ فيه ولا لبسَ، ولا خطرَ ¬

(¬1) في الأصل: «السلف» وهو سبق لسان.

ولا مخطورَ، وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. ثم بَيَّنَ (جل وعلا) من صفاتِ كمالِه وجلالِه أنه استوى على العرشِ، وأنه كما أنه اسْتَوَى على عرشِه استواءً لائقًا بجلالِه وكمالِه كما قال مع ذلك هو يُدَبِّرُ شؤونَ الدنيا ويدبرُ السمواتِ والأرضَ وَمَنْ فيهما. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} قرأَ هذا الحرفَ حمزةُ والكسائيُّ وشعبةُ عن عاصمٍ: {يُغشِّي الليل النهار} مضارعُ غَشَّاهُ يُغَشِّيه. وقرأه بقيةُ القراءِ السبعة (¬1): {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: آية 54] مضارعُ أغشاه يُغْشيه. وأغشى وغَشَّى بالهمزةِ والتضعيفِ معناهما واحدٌ، ويأتي كُلٌّ منهما في القرآنِ بمعنَى الآخرِ، وتكونُ في كل منهما قراءتانِ (يُغشي) و (يُغَشِّي). أما في قولِه: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} [النجم: آية 54] فقد أَجْمَعَ القراءُ كلُّهُمْ على التضعيفِ. وقولُه: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: آية 9] أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ على الهمزةِ وعدمِ التشديدِ. ومعنَى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} العربُ تقولُ: أَغْشَاهُ الشيءُ يغشيه. إذا جعلَه غشاءً له وساترًا ومغطيًا له. معناه: يجعلُ الليلَ مُغْشِيًا للنهارِ، أي: مُغَطِّيًا ضوءَ النهارِ بظلامِه، يذهبُ بضوءِ النهارِ ويغطي ضوءَه بظلامِ الليلِ. وهذا من غرائبِ صنعِه وعجائبِ آياتِه. وفي الآيةِ محذوفٌ دَلَّ المقامُ عليه، أي: وَيُغْشِي النهارُ الليلَ أيضًا، فيأتِي ضوءُ النهارِ وَيغْشَى ظلامَ الليلِ فَيُذْهِبُهُ ويحل محلَّه، كما قال: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام.

لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} [يس: الآيتان 37، 38] فالإتيانُ بالليلِ بدلَ النهارِ والإتيانُ بالنهارِ بدلَ الليلِ من أعظمِ آياتِ اللَّهِ - جل وعلا - الدالة على أنه المعبودُ وحدَه، وأنه الربُّ وحدَه، ومع كونِ الليلِ والنهارِ آيتين فَهُمَا أيضًا نعمتانِ عظيمتانِ من أعظمِ نِعَمِ اللَّهِ على خَلْقِهِ، فهما جامعانِ بينَ كونِهما آيتين وكونهما نعمتين، وَبيَّنَ أنهما آيتانِ بقولِه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: آية 27] وَبَيَّنَ أنهما نعمتانِ وآيتانِ في مواضعَ كثيرةٍ من أصرحِها سورةُ القصصِ حيث قال فيها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (72)} [القصص: الآيتان 71، 72] ثم بَيَّنَ أنهما نعمتانِ بعدَ بيانِ أنهما آيتانِ قال: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص: آية 73] يعنِي النهار. فجعل الليلَ مُظْلِمًا مُنَاسِبًا للسكونِ والهدوءِ وعدمِ الحركةِ ليستريحَ الناسُ من كَدِّ الأعمالِ والتعبِ في النهارِ، ثم يجعلُ النهارَ مُضِيئًا مُنِيرًا مُنَاسِبًا لِبَثِّ الناسِ في حوائجِهم واكتسابِ معايشهم في نورٍ ساطعٍ من غيرِ فتيلةٍ ولاَ زيتٍ ولاَ حاجةٍ إلى مؤنة، بل هو ضوءُ السراجِ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ وجعلَ نورَه سبيلاً للأسودِ وللأحمرِ بلاَ ثَمَنٍ، يسعونَ فيه إلى معايشهم، وهذا مِنْ عظائمِ قدرتِه ومن عجائبِ مِنَنِهِ وإنعامِه - جل وعلا - على خَلْقِهِ؛ ولذا قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}. {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: آية 54] الحثيثُ: أصلُ الحثِّ في

لغةِ العربِ: الإسراعُ والاستعجالُ (¬1). أي: يطلبُه طَلَبًا حَثِيثًا مسرعًا غايةَ الإسراعِ فلاَ يُمْهِلُهُ دقيقةً، عندما ينتهي وقتُ النهارِ فإذا الليلُ يطلبُه طلبًا مسرعًا فيحلُّ محلَّه في أسرعِ ما يكونُ، وليس بينَهما واسطةٌ بحيث تكونُ ليست من النهارِ ولاَ من الليلِ. فـ (حثيثًا) نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: طلبًا حثيثًا، أي: مُسْرِعًا. أو بمعنَى الحالِ، أي: حالَ كونِه حاثًّا، أي: مُسْرِعًا شديدَ الإسراع لا يمهلُه ساعةً (¬2). وَاللَّهُ - جل وعلا - ذَكَرَ أن الليلَ - هنا - يطلبُ النهارَ طلبًا حثيثًا، والمفسرونَ [يقولون] (¬3): يتبعُه تبعَ الطالبِ. والعادةُ المقررةُ عندَ العلماءِ: أن ظاهرَ القرآنِ لاَ يجوزُ العدولُ عنه إلا لدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه (¬4). فلا مانعَ من أن اللَّهَ - جل وعلا - يخلقُ في الليلِ إدراكًا يكونُ يطلبُ به النهارَ؛ لأنه يخلقُ الإدراكَ في الجماداتِ والأشياءِ التي لاَ إدراكَ لها، كما قال جل وعلا: {وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: آية 44] وكما قال - جل وعلا - في الحجارةِ: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: آية 74] فَصَرَّحَ أن الحجرَ وهو جمادٌ يهبطُ من أعلى الجبلِ من خشيةِ اللَّهِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ في القصةِ المشهورةِ الصحيحةِ أن الجذعَ الذي كان يخطبُ عليه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَحَوَّلَ عنه إلى المنبرِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 483)، القرطبي (7/ 221)، الدر المصون (5/ 342). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 221)، البحر المحيط (4/ 309)، الدر المصون (5/ 342). (¬3) في الأصل: «يقول». (¬4) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.

وافتقدَ الجذعُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ حنينَ العشارِ، والصحابةُ يسمعونَ، حتى جاءَه صلى الله عليه وسلم يُسْكِتُهُ كما تُسْكِتُ الأُمُّ وَلَدَهَا (¬1). وذلك الحنينُ بإدراكٍ خَلَقَهُ اللَّهُ في ذلك الجذعِ لاَ نعلمُه. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال وهو الصادقُ المصدوقُ: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا فِي مَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ» (¬2) وأمثالُ هذا كثيرةٌ في الكتابِ وَالسُّنَّةِ، كقولِه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: آية 72] والإشفاقُ: الخوفُ. فنسبَ الخوفَ والإشفاقَ للسماواتِ والأرضِ والجبالِ وهي جماداتٌ، وصرَّح بأنه يعلمُ مِنَ الجماداتِ ما لا يعلمُه خلقُه حيث قال: {وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: آية 44] فلا مانعَ عَقْلاً من أن يجعلَ اللَّهُ للظلامِ المعبَّرِ عنه بالليلِ إدراكًا يطلبُ به النهارَ، لاَ مانعَ عَقْلاً من ذلك، ولا ينبغي أن يُصْرَفَ القرآنُ عن ظاهرِه المتبادرِ منه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه. وعامةُ المفسرين يقولونَ: إن معنَى {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: آية 54] أي: يُسْرِعُ تَابِعًا له، كما يفعلُه الطالبُ. مع زعمِهم أن الليلَ ليس عندَه إدراكٌ يطلبُ به؛ لأنه ظلامٌ، ومعروفٌ أن الليلَ ظلامٌ، ولكن اللَّهَ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ. وهذا معنى قوله: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}. وكذلك النهارُ يطلبُ الليلَ حثيثًا، أي: طلبًا بإسراعٍ جِدًّا. وبعضُ المفسرينَ يذكرُ هنا مسائلَ الأفلاكِ وحركاتِها، وحركةَ الفلكِ ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

الأعظمِ، وَكُلُّ ذلك من علومِ الهيئةِ التي لا ينبغي أن تُدْخَلَ في القرآنِ. وعلومُ الهيئةِ قد أشارَ القرآنُ العظيمُ إلى أنها ليست تحتَها فوائدُ لها طائلٌ؛ لأن أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سألوه - وَالْمَلَكُ يَغْدُو وينزلُ، والوحيُ يأتي - عن هيئةِ القمرِ، قالوا له: يا نَبِيَّ اللَّهِ ما بالُ الهلالِ يبدو دقيقًا ثم لم يَزَلْ يكبرُ حتى يستديرَ بَدْرًا (¬1)؟ وهذا سؤالٌ عن هيئةِ القمرِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يجوزُ في حقِّه تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ فيما للأمةِ فيه حاجةٌ. فلم يُبَيِّنْ لهم شيئًا مما يَزْعُمُهُ أصحابُ الهيئة؛ لأن أصحابَ الهيئةِ يزعمونَ أن القمرَ جرمٌ ظلمانيٌّ لا نورَ - أصلاً - فيه، إلا أنه جرمٌ صقيلٌ، والجرمُ الصقيلُ يقبل سطوعَ النورِ فيه كالمرآةِ إذا قَابَلَهَا شعاعُ الشمسِ يسطعُ فيها. ويقولون: إن القمرَ تشرعُ الشمسُ في البعدِ منه حتى يتمَّ البعدُ، فإذا تم البعدُ تَكَامَلَ شعاعُ الشمسِ؛ لأن شعاعَ الشمسِ عندهم يتسربُ من وراءِ التكورِ الأرضيِّ فيقابلُه القمرُ فيسطعُ فيه كما يسطعُ نورُ الشمسِ في المرآةِ، فيظهرُ ذلك النورُ للناسِ. يقولونَ: إن البعدَ يتمُّ ليلةَ أربعَ عشرةَ، وعند ذلك يتسربُ نورُ الشمسِ من وراءِ التكورِ الأرضيِّ إلى وجهِ القمرِ الذي يلي أهلَ الأرضِ فيتمُّ نورُه تمامًا، ثم يبدأ القمرُ من القربِ إلى الشمسِ في ليلةِ خمسةَ عشرةَ من الشهرِ، فعندَ ذلك يبدأ نورُ الشمسِ يتسربُ من وجهِ القمرِ الذي يلي الأرضَ إلى وجهِه الأعلى الذي يلي ما فوقَه من السماءِ فيكونُ ليلةَ خمسةَ عشر وجهُه الأعلى كَلَيْلَةِ الهلالِ، يطلعُ قليلٌ من النورِ إلى وجهِه الأعلى ثم يزدادُ القربُ ليلةَ السادس عشر فينتقلُ نورُ الشمسِ من وجهِه الأعلى، حتى تكونَ ليلةُ الهلالِ فيتمُّ القربُ فيكونُ ¬

(¬1) مضى تخريجه عند الآية (96) من سورة الأنعام.

جميع نورِ الشمسِ في طرفِ القمرِ الأعلى، ولا يظهرُ منه إلا قليلٌ في خفافِ القمرِ هو الهلالُ، والقمرُ هنالك مُسْتَتِرٌ مظلمٌ لاَ يُرى منه إلا الشمسُ الذي نزلَ إليه الضوءُ من أعلاه وهو ما يرونه الهلالَ. هكذا يقولون من هذه المقالات، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جاءه القرآنُ بالإعراضِ عن جميعِ هذه المقالاتِ كُلِّهَا وعدمِ الالتفاتِ إليها، فأجابَ قولَهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: آية 189] فَبَيَّنَ المقصودَ منها وفائدتَها الدنيويةَ، وَتَرَكَ ما لاَ فائدةَ فيه؛ لأن المُشَرِّعَ كالطبيبِ يأتِي بما فيه الفائدةُ ويدعُ ما لا فائدةَ فيه. ومن هنا عُرِفَ أن الهيئةَ لاَ فائدةَ فيها، وما يزعمُه بعضُ الأفدامِ الذين لاَ عقولَ لهم ولا حياءَ من أن المانعَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من أن يعلمَهم الهيئةَ الجغرافيةَ القمريةَ وَيُبَيِّن لهم الهيئةَ العلويةَ أن عقولَهم عاجزةٌ قاصرةٌ وأن الإفرنجَ وأذنابَ الإفرنجِ هم الذين كانت لهم عقولٌ عَرَفُوا بها هذا، فهذا من الهوسِ والجنونِ؛ لأَنَّ أكملَ الناسِ عقولاً وأثقبَهم أذهانًا أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ يمدُّهم بنورِ الوحيِ الذي ينزلُ به الْمَلَكُ من السماءِ؛ ولذلك بَيَّنَ القرآنُ أن النظرَ في الهيئةِ العليا ليس تحتَه نتيجةٌ ولا طائلٌ، ومن غرائبِ القرآنِ أن [9/ ب] هذا البابَ الذي قَفَلَهُ القرآنُ / فتحَه الإفرنجُ بعد عشراتِ القرونِ ففتحوه عن كفرياتٍ وتكذيباتٍ للوحيِ السماويِّ وخيمة ليس تحتَها طائلٌ، لاَ يُسْتَفَادُ منها في أمورِ الدنيا، وإنما تُسْتَفَادُ منها عقلياتٌ كافراتٌ كاذبةٌ. والفلاسفةُ من اليونانيين من أرسطاطاليسَ وأصحابِه لَمَّا قسَّموا علومَ الفلسفةِ إلى قسمةٍ سداسيةٍ، وَقَسَّمُوهَا إلى فلسفةٍ رياضيةٍ،

وفلسفةٍ منطقيةٍ، وفلسفةٍ إلهيةٍ، وفلسفةٍ طبيعيةٍ، وفلسفةٍ نفسيةٍ، وفلسفةٍ تشريعيةٍ (¬1) قَسَّمُوهَا هذه القسمةَ السداسيةَ، وَبَحَثُوا في كُلِّ قِسْمٍ منها. قَسَّمُوا القسمَ الرياضيَّ منها - وهو الفلسفةُ الرياضيةُ منقسمةٌ - إلى ثلاثةِ أقسامٍ: وهي الهندسةُ، والحسابُ، والهيئةُ. أما الهندسةُ والحسابُ: فَكِلاَهُمَا مَبْنِيٌّ على مقدماتٍ عقليةٍ يقينيةٍ، وقواعدَ حقيقيةٍ مُنْطَبِقَةٍ لاَ يَشُكُّ فيها عاقلٌ، فهي علومٌ مبنيةٌ على مقدماتٍ عقليةٍ وأساسٍ يقينيٍّ؛ ولذلك لا يتطرقُها خطأٌ إلا من جهةِ الناظرِ فيها؛ وَلِذَا لا تجدُ فيلسوفًا يأتِي ويقولُ: فكرةُ الفيلسوفِ الفلانيِّ في الحسابِ خاطئةٌ. أو فكرتُه في الهندسةِ خاطئةٌ؛ لأن الحسابَ والهندسةَ من الفلسفةِ الرياضيةِ كِلاَهُمَا مركبٌ في مقدماتٍ عقليةٍ صحيحةٍ لاَ خطأَ فيها. أما النوعُ الثالثُ من الفلسفةِ الرياضيةِ - وهو الهيئةُ - فقد أَطْبَقَ أهلُه على أنه لم يكن مَبْنِيًّا على مقدماتٍ عقليةٍ، ولا قواعدَ يقينيةٍ، وإنما مَبْنَاهُ تخميناتٌ، وظنونٌ أكثرُ ما تكونُ كاذبةً، وربما صَدَقَتْ؛ ولذا تجدُ الفيلسوفَ يقولُ: نظرةُ الفيلسوفِ الفلانيِّ في كذا - في الشمسِ، أو في القمرِ، أو في طبقاتِ الجوِّ، أو في كذا - نظرةٌ خاطئةٌ، بل الحقُّ كذا وكذا؛ لأنها لم تُبْنَ على مقدماتٍ يقينيةٍ، ولا قوانينَ عقليةٍ، بل مَبْنَاهَا ظنونٌ وتخميناتٌ. وهذه الظنونُ والتخميناتُ أَضَلَّتْ كثيرًا من الرعاعِ الْمُتَسَمِّينَ باسمِ المسلمين، يُكَذِّبُونَ نصوصَ القرآنِ ونصوصَ السنةِ نَظَرًا إلى أقوالِ كفرةٍ فجرةٍ في شيءٍ لاَ أساسَ لهم فيه، فقضيةُ الفلسفةِ الهيئيةِ من الفلسفةِ الرياضيةِ ¬

(¬1) انظر: كشف الظنون (2/ 1289).

كُلُّ دَلِيلِهَا ما يُسَمُّونَهُ في المنطقِ: شَرْطِيَّةً متصلةً لزوميةً يستثنونَ فيها نقيضَ التالِي فينتجونَ نقيضَ المُقدَّمِ أو عينَ المقدمِ، فينتجونَ عينَ التالِي في زَعْمِهِمْ، والربطُ بَيْنَ اللازمِ والملزومِ؛ أَعْنِي المُقدمَ والتالِيَ قد يكونُ رَبْطًا منفكًا، فيقولونَ: لو لم تكن الشمسُ تدورُ حولَ نفسِها لكان كذا وكذا، لو لم يكن الكوكبُ الفلانيُّ بمسافةِ كذا وعلى قَدْرِ كذا لكانَ كذا وكذا، أَوَلَمْ يكن كذا وكذا. وهي أمورٌ لا طائلَ تحتَها. وعلينا جميعًا أن نلتزمَ هذا الأساسَ: كُلُّ ما خَالَفَ كتابَ اللَّهِ مخالفةً صريحةً فيجبُ علينا أن نجزمَ بأن مَنْ قَالَهُ كاذبٌ كافرٌ ملعونٌ، كالذي يقولُ: إن الشمسَ ساكنةٌ وأنها لا تتحركُ، وينفِي عنها اسمَ الجريانِ ويقولُ: لا تَجْرِي، فهذا كافرٌ ملحدٌ مُكَذِّبٌ نصوصَ القرآنِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} [يس: آية 38] فالذي ينفِي عنها الجريانَ الذي أَثْبَتَهُ اللَّهُ مُحَادٌّ لِلَّهِ، مناقضٌ لكلامِ اللَّهِ، علينا أن نُكَفِّرَهُ ونكذبه. وكذلك مَنْ يقولُ: إن القمرَ لاَ يجري؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [لقمان: آية 29] فَمَا نَاقَضَ القرآنَ مناقضةً صريحةً فيجبُ علينا أن نكذبَه، وما وافقَ القرآنَ أو السُّنَّةَ الصحيحةَ علينا أن نتقبلَه، وما لم يناقض القرآنَ ولا السنةَ الصحيحةَ مناقضةً صريحةً فيجبُ علينا أن لاَ نقدمَ على تكذيبِه وأن لا نتجرأَ على أنه كَذِبٌ خَوْفَ أن يكونَ حَقًّا، وإذا كان حَقًّا ظَنَّ القائلونَ به المتمسكونَ به أن القرآنَ كَذِبٌ؛ لأنه قيل لهم: إنه يخالفُ القرآنَ. والقرآنُ في نفسِ الأمرِ لا يخالفُ نظريةً صحيحةً أبدًا؛ لأنه كلامُ اللَّهِ الحقُّ المقطوعُ بأنه حَقٌّ، والحقُّ لا يُخَالِفُ حَقًّا أبدًا، فعلينا أن نَتَثَبَّتَ، وأن لاَ نتسرعَ في الشيءِ الذي لا يكونُ القرآنُ صريحًا في

نَفْيِهِ، ولا نَنْفِيهِ إلا بتثبتٍ تَامٍّ ويقينٍ؛ لئلاَّ نجنيَ على القرآنِ ونشككَ الناسَ في أنه حَقٌّ، ونقول: ظاهرُ القرآنِ كذا، والذي يتبادرُ لنا كذا، وإن وقع خلافُه فهو من قصورِ فَهْمِنَا، والقرآنُ بَرِيءٌ من كُلِّ ما لَيْسَ بِحَقٍّ، فَكُلُّهُ حَقٌّ، ولا يناقضُ حَقًّا. ومن ذلك أن الأولين من أصحابِ الهيئةِ كانوا يظنونَ أن الجرمَ الواحدَ يستحيلُ أن يكونَ كُرَةً وَسَطْحًا، ويزعمونَ أن كُلَّ جسمٍ كرويٍّ يستحيلُ أن يكونَ سَطْحًا، ويقولونَ: إن الأرضَ كرويةٌ. والذين يقولونَ: إن الكرويَّ لاَ يكونُ سَطْحًا نقولُ له: زعمُك الكرويةَ أنتَ فيه كافرٌ كَذَّابٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: آية 20] فالأرضُ سطحٌ لاَ شَكَّ فيه؛ لأن الله - جل وعلا - صَرَّحَ بأنها سَطْحٌ. أما حُذَّاقُهُمُ المتأخرونَ الذين يقولونَ: لاَ تَنَافِيَ بينَ الكرةِ والسطحِ؛ لأن الجسمَ الكبيرَ قد يكونُ ارتفاعُه الكرويُّ مُدَرَّجًا تدريجًا دقيقًا دقيقًا دقيقًا حتى يكونَ سطحًا، ولا يظهرُ الارتفاعُ الكرويُّ إلا في جميعِ المجموعةِ العظيمةِ مع كِبَرِهَا. فهذا نقولُ له: لا مانعَ من ذِكْرِكَ أنها كرةٌ؛ لأنك تقولُ بأنها سطحٌ، وَتُصَدِّقُ رَبَّنَا في أنها سطحٌ. والحذاقُ من المسلمين الذين نَظَرُوا في حقيقةِ الأرضِ كُلُّهُمْ زعموا أنها كرةٌ، وكذلك الذي يَقْتَضِيهِ الدليلُ العقليُّ أن الأرضَ كرويةٌ، إلا أنها سطحٌ يَقِينًا كما قاله رَبُّ العالمين؛ لأن الارتفاعَ الكرويَّ في الأرضِ مدرجٌ تدريجًا دقيقًا دقيقًا بَالِغٌ من غايةِ الدقةِ ما لا يُنَافِي السطحيةَ، وتكونُ الأرضُ معه سَطْحًا، ولا يظهرُ الارتفاعُ إلا في المجموعةِ الكبيرةِ. والحاصلُ أن كُلَّ ما نَاقَضَ صريحَ القرآنِ فهو كَذِبٌ باطلٌ يجبُ

علينا تكذيبُه وتكفيرُ صاحبِه إن أُنْذِرَ ولم يَتُبْ، وما لم يُنَاقِضِ القرآنَ مناقضةً صريحةً فعلينا أن لا نَعْجَلَ ولا نَتَجَرَّأَ ولاَ نقول على طول: هذا كَذِبٌ لأنه يناقضُ القرآنَ!! بل نَتَثَبَّتُ ولا نحكمُ على نظريةٍ أنها تناقضُ القرآنَ إلا بتحقيقٍ ويقينٍ وكونِ القرآنِ صريحًا في ذلك. وغير ذلك نقول: الذي يظهرُ لنا من ظاهرِ القرآنِ كذا، وهذا الذي نفهمُه، فإن كان فَهْمُنَا صحيحًا فالأمرُ كما فَهِمْنَا، وإن كان غيرَ ذلك فالقصورُ مِنَّا وَمِنْ فَهْمِنَا، وكتابُ اللَّهِ حَقٌّ لاَ يأتيه الباطلُ من بَيْنِ يديه وَلاَ من خلفِه، لا يخالفُ نظريةً صحيحةً. وقولُه جل وعلا: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: آية 54] قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا ابنَ عامرٍ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} بنصبِ الأسماءِ الأربعةِ؛ فقولُه: {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} معطوفاتٌ على قولِه: {السَّمَاوَاتِ} {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} وخلقَ الشمسَ والقمرَ، وخلقَ النجومَ في حالِ كونِ المذكوراتِ مسخراتٍ بِأَمْرِهِ. وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه: {والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ بأمره} (¬1) فعلى قراءةِ ابنِ عامرٍ بالرفعِ: (الشمسُ) مبتدأٌ، وما بعدَه معطوفٌ عليه، وخبرُ المبتدأِ: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} (¬2). والتسخيرُ: التذليلُ. فقد سَخَّرَ الشمسَ لمنافعِ هذا الْخَلْقِ؛ ولأنها آيةٌ عُظْمَى كما قال: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)} [النبأ: آية 13] ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص209. (¬2) انظر: حجة القراءات ص284.

يُطْلِعُهَا في كُلِّ يومٍ، ويسيرها بحسابٍ معلومٍ طرقها وسيرها بتسخيرِ رَبِّ العالمينَ دائبة. وكذلك سَخَّرَ القمرَ على سَيْرِهِ المعتادِ، وحسابِه المعروفِ، نعرفُ بهما عددَ السنين والشهورِ والحسابَ، وكذلك سَخَّرَ النجومَ ليهتديَ بها خَلْقُهُ، وليزينَ بها السماءَ، ويطردَ بها الشياطينَ. فهذه المخلوقاتُ العظامُ العلويةُ سَخَّرَهَا خالقُ السماواتِ والأرضِ للاعتبارِ بها، ولمنافعِ خَلْقِهِ منها؛ لأَنَّ اللَّهَ جعلَ في الشمسِ والقمرِ منافعَ عظيمةً في الثمارِ والمعادنِ والنباتاتِ والحيواناتِ وغيرِ ذلك بحكمتِه - جل وعلا - وَعَدْلِهِ، حتى إنك لترى النخلةَ التي في الظلِّ دائمًا بين النخلِ لا يُصِيبُهَا شعاعُ الشمسِ تَرَاهَا رديئةَ الحملِ جِدًّا، كما يأتي إيضاحُه في قولِه: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: آية 35] وهذا معنَى قولِه: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}. {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (ألا) حرفُ استفتاحٍ وتنبيهٍ. (له) أي: لِلَّهِ (جل وعلا) وحدَه {الْخَلْقُ} لأنه خالقُ كُلِّ شيءٍ. وأصلُ الخلقِ في لغةِ العربِ (¬1): التقديرُ، فَكُلُّ شيءٍ قَدَّرْتَهُ فقد خَلَقْتَهُ. فإذا رأيتَ الْحَذَّاءَ - صاحبَ النعالِ - أكرمكم اللَّهُ - يأخذُ بسوادٍ كَفَحْمٍ أو غيرِه ليقيسَ قدرَ ما يقطعُ من النعلِ يُسَمِّى ذلك (خَلْقًا) فإذا قطعَه يقال: (فَرَاهُ) ومن هذا قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلمى (¬2): وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

يعني: تُقَدِّرُ الأمرَ ثم تُنْفِذُهُ، وبعضُ الناسِ يقدرُه ثم يعجزُ عن تنفيذِه. وَاللَّهُ - جل وعلا - يُقَدِّرُ الأشياءَ قبلَ أن يُوقِعَهَا ثم يَفْرِيهَا ويبرؤها مُطَابِقًا لِمَا قدر سابقًا، وتنفيذًا لِمَا سَبَقَ في عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ. فهذا معنَى (الخلقِ) {لَهُ الْخَلْقُ} كما قال: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر: آية 24] يعنِي: يَخْلُقُهَا وَيُقَدِّرُهَا ثم يبرؤها وَيَفْرِيهَا وينجزها. {وَالأَمْرُ} لأَنَّ اللَّهَ خالقُ كُلِّ شيءٍ، وله الأمرُ، هو الذي وحدَه له الأمرُ، يأمر بما شاءَ بأوامرِه الكونيةِ وأوامرِه الشرعيةِ، فلاَ أَمْرَ كونيًّا قدريًّا إلا له، ولا أمر شرعيًّا دينيًّا إلا له. وكان سفيانُ بنُ عيينةَ (رحمه الله) وجماعةٌ من السلفِ يستدلونَ بهذه الآيةِ من سورةِ الأعرافِ على أن القرآنَ ليس بمخلوقٍ (¬1)؛ لأن الأمرَ في القرآنِ كقولِه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس: آية 82] {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ} [النحل: آية 40] فالقرآنُ فيه الأوامرُ الكونيةُ القدريةُ، وفيه الأوامرُ الشرعيةُ، وَاللَّهُ - جل وعلا - جَعَلَ الأمرَ وحدَه والخلقَ وحدَه، فَتَبَيَّنَ أن القرآنَ ليس دَاخِلاً في جملةِ المخلوقِ. وهذا الاحتجاجُ معروفٌ عندَ أهلِ السنةِ. ومناقشاتُ القائلين بخلقِ القرآنِ فِي الاستدلالِ بهذه الآيةِ كثيرةٌ طويلةٌ يَضِيعُ علينا الوقتُ بِتَتَبُّعِهَا من غيرِ طائلٍ. والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه أن القرآنَ غيرُ مَخْلُوقٍ، وأنه كلامُ اللَّهِ منه بَدَأَ وإليه يعودُ، فكلامُ اللَّهِ ليس بمخلوقٍ. وإنما نَشَأَتْ محنةُ القولِ بخلقِ القرآنِ في أيامِ المأمونِ، ¬

(¬1) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 219).

ولم تَزَلْ مستحكمةً مستفحلةً أيامَ المأمونِ، وأيامَ المعتصمِ، وأيامَ الواثقِ بِاللَّهِ، ثم أَزَالَ اللَّهُ المحنةَ على يدِ المتوكلِ على اللَّهِ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. وقد ذَكَرْنَا مرارًا (¬1) أن أولَ مصدرٍ لكبحِ هذه الفتنةِ وَجِمَاحِهَا في أيامِ الواثقِ قضيةُ الشيخِ الشاميِّ، وهو عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الأذرميُّ في قصتِه المشهورةِ؛ لأن العلماءَ عُذِّبُوا في القولِ بِخَلْقِ القرآنِ، وَامْتُحِنُوا غايةَ الامتحانِ. وكانوا وقتَ المناظراتِ مِمَّا يستدلونَ به آيةُ الأعرافِ هذه، فيقولونَ: اللَّهُ جعلَ الخلقَ على حِدَةٍ والأمرَ على حِدَةٍ، والأمرَ في القرآن؛ لأن أمرَه بكلامِه فكلامُه غيرُ داخلٍ في خَلْقِهِ. وهم صَادِقُونَ، ومناقشاتُ الذين يُجَادِلُونَهُمْ معروفةٌ. وكان حاملُ رايةِ تلكَ المحنةِ: أحمدَ بنَ أَبِي دؤاد الإياديَّ جَازَاهُ اللَّهُ بما هو أَهْلُهُ. وقد قُتِلَ فيها كثيرٌ من العلماءِ، وَامْتُحِنَ خَلْقٌ من العلماءِ، وَدَاهَنَ كثيرٌ منهم، وَضُرِبَ أيامَ المعتصمِ بالله في محنةِ القولِ بالقرآنِ سيدُ المسلمين في زمانِه: الإمامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلٍ - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ برحمته، وَجَزَاهُ عن الإسلامِ والمسلمين خَيْرًا - ضُرب أيام الواثق، لم يزل يُضْرَب حتى يُرْفَعَ من محلِّ الضربِ لا يدري ليلاً من نهارٍ، غائبَ العقلِ من شدةِ الضربِ المبرحِ الأليمِ!! وإذا أَفَاقَ يقولونَ له: قُلِ القرآنُ مخلوقٌ. يقول: لاَ وَاللَّهِ، القرآنُ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، صفةُ اللَّهِ، منه بَدَأَ وإليه يعودُ، لا أقولُ مخلوقٌ. وذكروا أن ذلك الشيخَ الشاميَّ هو أولُ مَنْ يَسَّرَ اللَّهُ على يديه خمودَ القولِ بمحنةِ القرآنِ، وأن الواثقَ بالله لم يَمْتَحِنْ بعدَه أحدًا. وقد ذَكَرَ الخطيبُ في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (144) من سورة الأنعام.

تاريخِ بغدادَ وغيرِه روايتَه، وذكر ابنُ كثيرٍ في تاريخِه أن السندَ الذي ذَكَرَهَا به الخطيبُ فيه مَنْ لاَ يُعرف (¬1). إلا أن القصةَ مشهورةٌ معروفةٌ، لم يَزَلِ العلماءُ يستدلونَ بها قديمًا وحديثًا، والاستدلالُ بها صحيحٌ لاَ شَكَّ فيه، ودليلُها الصحيحُ الذي اسْتَدَلَّ به هو المعروفُ في الأصولِ بـ (السَّبْرِ والتقسيمِ) وفي علومِ الجدلِ بـ (التقسيمِ والترديدِ) وفي علومِ المنطقِ بـ (الشرطيِّ المنفصلِ) وحاصلُه أن القصةَ التي ذَكَرَهَا الخطيبُ في تاريخِ بغدادَ ذَكَرَهَا من طريقِ محمدِ بنِ الواثقِ قال: كان أبي إذا أَرَادَ أن يقتلَ أحدًا أَحْضَرَنِي، وَجِيءَ بشيخٍ من الشامِ مكبَّلاً بالحديدِ، وهو عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الأَذْرَميُّ - رحمه الله - شيخُ أبي داودَ والنسائيِّ، جِيءَ به مُكَبَّلاً بالحديدِ يريدونَ أن يقتلوه إن لم يَقُلْ إن القرآنَ مخلوقٌ. قال محمدُ بنُ الواثقِ: فأحضرني أبي فَجِيءَ بذلك الشيخِ مُكَبَّلاً بالحديدِ، فقال للواثقِ: السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنين. فقال له الواثقُ بالله: لاَ سَلَّمَكَ اللَّهُ. فقال الشيخُ: بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُؤَدِّبُكَ يا أميرَ المؤمنين!! اللَّهُ يقولُ: {وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: آية 86] وَاللَّهِ مَا حَيَّيْتَ بأحسنَ منها ولا رَدَدْتَهَا. فقال الواثقُ: ائذنوا لأبي عبدِ اللَّهِ. يعني أحمدَ بنَ أبِي دؤادَ - جازاه اللَّهُ بما هو أهلُه - فحضر ابنُ أبي دؤاد، فقال له الواثقُ: نَاظِرْ هذا الرجلَ (في بعضِ رواياتِ القصةِ أن ذلك الشيخَ الشاميَّ المكبلَ بالحديدِ قال: ابنُ أَبِي دؤاد أحقرُ وأصغرُ من أن يُنَاظِرَنِي). ¬

(¬1) السابق.

فقال ابنُ أبِي دؤاد لذلك الشيخِ: ما تقولُ في القرآنِ؟ قال: مَا أَنْصَفْتَنِي. يعنِي: وَلِي السؤالُ. فقال له ابنُ أبي دؤاد: سَلْ. فقال الشيخُ الشاميُّ لابنِ أبِي دؤاد: ما تقولُ في القرآنِ؟ قال: مخلوقٌ. قال: أَسْأَلُكَ: هَلْ مَقَالَتُكَ هذه التي تدعو الناسَ إليها وَتُغْرِي [أميرَ] (¬1) المؤمنين بتقتيلِ العلماءِ وتعذيبِهم وامتحانِهم في شأنِها هَلْ كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَالِمًا بها؟ وهل كان خلفاؤُه الراشدونُ عَالِمِينَ بها؟ وهل كان عَالِمًا بها أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وَعَلِيٌّ، أو كانوا جَاهِلِينَ بها؟! فقال ابنُ أبي دؤاد: كانوا جَاهِلِينَ بها. فقال الشيخُ الشاميُّ: مَا شَاءَ اللَّهُ، ما شاء الله، جَهِلَهَا رسولُ اللَّهِ وَعَلِمَهَا ابنُ أبِي دؤادٍ!! فقال ابنُ أبِي دؤادٍ: أَقِلْنِي، والمناظرةُ على بَابِهَا. فقال له الشيخُ الشاميُّ: هو كذلك. ثم قال له: ما تقولُ في القرآنِ؟ قال: مخلوق. قال: مقالتُك هذه - أنه مخلوقٌ - التي تدعو الناسَ إليها هل كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤُه الراشدونُ، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عَالِمِينَ بها أو جَاهِلِينَ؟ ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يقتضيها السياق.

قال: كانوا عَالِمِينَ بها ولم يدعوا الناسَ إليها. فقال الشيخُ الشاميُّ: أَلَمْ يَسَعْكَ يا ابنَ أَبِي دؤادٍ ما وَسِعَ رسولَ اللَّهِ في أُمَّتِهِ؟ أَلَمْ يَسَعْكَ يا ابنَ أبي دؤادٍ ما وسع الخلفاءَ الراشدين في رعاياهم من المسلمين؟ فقام الواثقُ من مَوْضِعِهِ، وسقطَ من عينِه ابنُ أبي دؤاد، ولم يمتحن بعدَها أحدًا في خَلْقِ القرآنِ. وَذَكَرَ عنه الخطيبُ أنه تابَ من القولِ بخلقِ القرآنِ، إلا أنه لم يُظْهِرْهُ، وإنما أظهرَ السنةَ المتوكلُ على اللَّهِ. وفي القصةِ: أن الواثقَ خَرَجَ إلى مَحَلِّ خلوتِه واضطجعَ على قفاه ووضعَ رجلَه على ركبتِه ثم قال: جَهِلَهَا رسولُ اللَّهِ وَعَلِمَهَا ابنُ أَبِي دؤادٍ!! ما شاء الله، جَهِلَهَا رسولُ اللَّهِ وَعَلِمَهَا ابنُ أبِي دؤادٍ!! ثم قال: علمها رسول الله وخلفاؤه ولم يَدْعُوا الناسَ إليها، أَلَمْ يَسَعِ ابنَ أبي دؤادٍ ما وَسِعَ رسولَ اللَّهِ وخلفاءَه الراشدينَ؟ وسقط من عينه، ثم أمر بالحدادِ فَفَكَّ الحديدَ عن الشيخِ الشاميِّ، وأعطاه أربعمائة دينارٍ، وقال له: ارْجِعْ إلى أَهْلِكَ رَاشِدًا. هكذا يقولونَ. والشاهدُ: أن مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ يُمتحنون في القولِ بخلقِ القرآنِ آيةُ الأعرافِ هذه يقولونَ: إن الأمرَ إنما هو بكلامِه، وقد جَعَلَهُ على حِدَةٍ عن الخلقِ حيث قال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: آية 54] فَدَلَّ على أن الأمرَ ليس من الخلقِ، وأن كلامَ اللَّهِ الذي هو أمرُه ليس بمخلوقٍ. هكذا يستدلونَ. واستدلَّ به قبلَ المحنةِ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ وغيرُه. ومناقشاتُ القائلين بخلقِ القرآنِ في الاستدلالِ في هذه الآيةِ كثيرةٌ معروفةٌ. وهذا معنَى قولِه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}. {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: آية 54] (تبارك)

معناه: تَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ - جل وعلا- وأصلُ تَبَارَكَ: (تفاعل) إذا كَثُرَتْ بركاتُه وخيراتُه. وَاللَّهُ - جل وعلا - هو المتعالِي المتنزهُ عن كُلِّ شيءٍ، المتقدسُ الأعظمُ، الذي يُفِيضُ الخيرَ على خَلْقِهِ. وقولُه: {رَبُّ الْعَالَمِينَ} العَالَمُونَ: جمعُ العَالَمِ (¬1)، وهو من الملحقاتِ بالجمعِ المذكرِ السالمِ؛ لأنه ليس بوصفٍ ولا عَلَمٍ، فهو ملحقٌ بالجمعِ المذكرِ السالمِ، لا جمعَ مذكرٍ سَالِمًا. وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الشعراءِ أن العالمينَ يشملُ السماواتِ والأرضَ وما بينَهما وَمَنْ فيهما، كما قال: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُم مُّوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآيتان 23، 24]. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: آية 55] لَمَّا بَيَّنَ - جل وعلا - أنه العظيمُ الأعظمُ، خالقُ السماواتِ والأرضِ وخالقُ الشمسِ والقمرِ والنجومِ، وَمُسَخِّرُ الجميعِ، وَبَيَّنَ عظمتَه وجلاَلَه، أَمَرَ خَلْقَهُ الضعافَ المساكينَ أن يسألوه ويدعوه ليأتيَهم بما يطلبونَ، ويكشفَ عنهم من الضرِّ ما يسألونَ كَشْفَهُ، والمرادُ بذلك: كأنه يقولُ: أنا العظيمُ الأعظمُ الجبارُ، الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ والكواكبَ العظامَ، وأنا خالقُ كُلِّ شيءٍ، وأنتم عبادي الفقراءُ الضعافُ فَادْعُونِي؛ لأَنَّ الدعاءَ يستشعرُ به الدَّاعِي ذُلَّهُ وفقرَه وضعفَه وحاجتَه، ويستشعرُ به عظمةَ مَنْ يدعو، وأنه عَالِمٌ بكل شيءٍ، لا يَخْفَى عليه دعاؤُه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

ولو كان في أَخْفَى الخفاءِ، وأنه عظيمٌ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، قادرٌ على أن يُذْهِبَ عنه بالضرِّ ويأتيه بالخيرِ، فالدعاءُ مُخُّ العبادةِ، وهو مِنْ أعظمِ العباداتِ إذا كان مُخْلَصًا فيه لِلَّهِ؛ ولذا أَمَرَ اللَّهُ خَلْقَهُ به في هذه الآية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} أَيْ: خالقَكم وسيدَكم ومدبرَ شؤونكم، ادعوه: {تَضَرُّعًا} تَضَرُّعًا: مصدرٌ مُنَكَّرٌ حالٌ. أي: في حالِ كونِكم متضرعين. والتضرعُ: (التفَعُّل) من الضراعةِ. والعربُ تقولُ: ضَرَعَ فلانٌ لفلانٍ. إذا ذَلَّ له وَخَشِعَ (¬1). أي: ادْعُوهُ تَضَرُّعًا، أي: في حالِ كونِكم متضرعينَ أذلاَّءَ خاشعينَ له - جل وعلا - مستشعرينَ ذُلَّكُمْ وفقرَكم وحاجتَكم، وعظمةَ ربكم وكبرياءَه، وشدةَ فقرِكم إليه، وشدةَ غِنَاهُ عنكم. وَكُلُّ ذليلٍ خاشعٍ تُسَمِّيهِ العربُ: (ضارعًا)، وهو معروفٌ في كلامهم، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): ليُبْكَ يَزِيدٌ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ وقولُه: {وَخُفْيَةً} قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدَا شعبةَ عن عَاصِمٍ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} بضمِّ الخاءِ، وهو (فُعْلَة) من الخفاءِ الذي هو ضِدُّ العلانيةِ والجهرِ. وقرأه شعبةُ وحدَه عن عاصمٍ: {ادعوا ربكم تضرعًا وخِفْية} بكسرِ الخاءِ (¬3). وَالْخُفْيَةُ والخِفيةُ لغتانِ. فهي (فُعلة) و (فِعلة) من الخفاءِ. لغتانِ فصيحتانِ، وقراءتانِ سبعيتانِ. ومعنَى ادعوه خُفْيَةً: أي لِيَكُنْ دعاؤكم في خفاءٍ. وكان السلفُ الصالحُ (رضي الله عنهم) من الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم يجتهدونَ في الدعاءِ ولاَ يُسْمَعُ لهم شيءٌ، إنما هو هَمْسٌ خَفِيٌّ فيما بينَهم وبينَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص196.

ربهم؛ لأن إخفاءَ الدعاءِ أبعدُ من الرياءِ، ولأنه يدلُّ على ثقةِ العبدِ بأن رَبَّهُ عَالِمٌ بِمَا خَفِيَ وما ظَهَرَ لاَ يَخْفَى عليه شيءٌ. فالدعاءُ الخفيُّ أفضلُ وأعظمُ من الدعاءِ الذي هو [جهرًا] (¬1) وعلانيةً، وقد أَثْنَى اللَّهُ بخفاءِ الدعاءِ على عبدِه زكريا في قولِه: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: الآيات 1 - 3] فتعليمُ رَبِّ العالمين أن اللَّهَ يأمرُك أن تدعوه في جميعِ حوائجِك إذا اضْطُرِرْتَ إلى شيءٍ فَادْعُ خالقَ السماواتِ والأرضِ يُيَسِّرْهُ لكَ، وإذا نَابَكَ أمرٌ، أو حَزَبَكَ مكروهٌ، أو دَهَمَتْكَ خطوبٌ فَادْعُ خالقَ السماواتِ والأرضِ، وَتَضَرَّعْ إليه بِذُلٍّ واستكانةٍ في دعاءٍ خَفِيٍّ لاَ يسمعُه أحدٌ؛ لأن اللَّهَ - جل وعلا - السرُّ عندَه علانيةٌ، إذا أسررتَ به يعلمُه ولا يَخْفَى عليه، ولو هَمَسْتَ به في نفسِك كما قال تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: آية 7]. ومن هذه الآيةِ الكريمةِ أَخَذَ الإمامُ أبو حَنِيفَةَ وأصحابُه حُكْمًا فِقْهِيًّا وهو عدمُ رفعِ الصوتِ بـ (آمين) إذا قال الإمامُ: {وَلاَ الضَّالِّينَ} قالوا: إن (آمين) دعاءٌ؛ لأن معناها: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ. وَاللَّهُ - جل وعلا - يقولُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: آية 55] قالوا: الأمرُ بإخفاءِ الدعاءِ نصٌّ صريحٌ في القرآنِ المتواترِ المعصومِ، فلاَ تُعَارِضُهُ الأحاديثُ التي وَرَدَتْ بإظهارِ التأمينِ (¬2)؛ لأنه جاءَ بعضُ الأحاديثِ أن أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان إِذَا قَرَأَ: {وَلاَ الضَّالِّينَ} رَفَعُوا أصواتَهم بآمين حتى تَرْتَجَّ ¬

(¬1) في الأصل «سرًّا»، وهو سبق لسان. (¬2) انظر: الهداية (1/ 48 - 49)، القرطبي (1/ 129)، (7/ 224)، ابن كثير (1/ 31).

الجدرانُ (¬1). والقاعدةُ المقررةُ في أصولِ أبِي حنيفةَ رحمه اللَّهُ: أنه لا يُقَدِّمُ الخاصَّ على العامِّ؛ لأن دلالةَ العامِّ عندَه على أفرادِه قطعيةٌ (¬2)، فَكُلُّ فردٍ داخلٌ في العامِّ كأنه نُصَّ عليه بِنَصٍّ خَاصٍّ، ولا يُقَدَّمُ الخاصُّ على العامِّ بل يُنْظَرُ في الخاصِّ والعامِّ إذا عَرَفَ المتأخر منهما نَسَخَ به الأولَ، وإذا لم يَعْرِفِ المتأخرَ منهما احْتَاطَ (¬3)؛ ولأجلِ هذه القاعدةِ المقررةِ في أصولِ أبي حنيفةَ (رحمه الله) كان يقولُ بوجوبِ الزكاةِ في كُلِّ ما خَرَجَ من الأرضِ ولم يَبْلُغْ خمسةَ أَوْسُقٍ، ولا نصفَ وسقٍ، ولا ربعَ وسقٍ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (¬4) قال أيضًا: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (¬5) وكان أبو حنيفةَ لا يَرَى تقديمَ الخاصِّ على العامِّ. قال: يتعارضُ هذا العامُّ وهو قولُه: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» مع الخاصِّ الذي هو قولُه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» لأن العامَّ عند أبي حنيفةَ قَطْعِيُّ الشمولِ لأفرادِه إلا ما أخرجَه دليلٌ، فَكَأَنَّ كُلَّ فردٍ من أفرادِ العامِّ عندَه دَلَّ عليه نَصٌّ مُسْتَقِلٌّ. فنظر أبو حنيفةَ في التاريخِ فلم يَعْرِفْ تاريخهما أيهما السابقُ، هل الأولُ الذي قال النبي: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» أو قوله: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»؟ فلما جَهِلَ التاريخَ احتاطَ لوجوبِ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجهر بآمين. حديث رقم (853)، (1/ 277 - 278)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو عند أبي داود في الصلاة، باب التأمين وراء الإمام. حديث رقم: (922)، (3/ 208). وليس فيه: «فيرتج بها المسجد»، وهو في ضعيف ابن ماجه برقم (182)، والسلسلة الصحيحة (1/ 754). (¬2) مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) السابق.

الزكاةِ احتياطًا لبراءةِ الذمةِ والخروجِ من عهدةِ التكليفِ بالزكاةِ. وكذلك في هذه الآيةِ قال: إن الأحاديثَ التي جاءت برفعِ الصوتِ في التأمينِ أخبارُ آحَادٍ. ولو فَرَضْنَا أنها متأخرةٌ؛ لأن الظاهرَ أنها متأخرةٌ؛ لأن هذه السورةَ - سورةَ الأعرافِ - من القرآنِ النازلِ بمكةَ إلاَّ ثمان آياتٍ منها تأتِي في قولِه: {واسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآياتِ. أما غيرُها في سورةِ الأعرافِ فهي من القرآنِ النازلِ بمكةَ قبلَ الهجرةِ. وأحاديثُ التأمينِ بالصلاةِ هي في المدينةِ متأخرةٌ عنها، إلا أن القاعدةَ المقررةَ فِي أصولِ الإمامِ أَبِي حنيفةَ - رحمه الله - أنه لاَ تُنْسَخُ المتواتراتُ بأخبارِ الآحَادِ، والأحاديثُ أخبارُ آحادٍ، والإسرارُ بالدعاءِ متواترٌ؛ لأن قولَه هنا في سورةِ الأعرافِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} نَصٌّ متواترٌ ظاهرُ الدلالةِ يدلُّ على إخفاءِ الدعاءِ، و (آمين) هي مِنَ الدعاءِ؛ لأن معناها: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ. وَهُنَالِكَ قولٌ ضعيفٌ شَاذٌّ يقولُ: إن (آمين) من أسماءِ اللَّهِ تعالى (¬1). وعلى هذا القولِ قال بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ: لو قَدَّرْنَا أن (آمين) من أسمائِه تعالى فَاللَّهُ يقولُ: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: آية 205] كذا يقولونَ! والعلماءُ الذين يقولونَ: إن القضاءَ بالمتأخرِ، يقولونَ: إن هذا عَامٌّ، ورفعُ الأصواتِ بالتأمينِ خاصٌّ، ولاَ يتعارضُ عامٌّ وخاصٌّ. وهذا مذهبُ الجمهورِ المقررُ في أصولِ الشافعيةِ والحنبليةِ والمالكيةِ أن الخاصَّ يَقْضِي على العامِّ ويقدم عليه، وكذلك المقيدُ على المطلقِ سواء تقدمَ أو تأخرَ عنه كما هو معروفٌ في الأصولِ. وهذا معنَى قولِه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 128).

{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {إِنَّهُ} جل وعلا: {لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: آية 55] في الدعاءِ ولاَ في غيرِه. وقد جاء حديثٌ في ابنِ ماجه وغيرِه أن النبيَّ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال: «إِنَّهُ يَكُونُ فِي أُمَّتِي قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» (¬1). والاعتداءُ فِي الدعاءِ على أنواعٍ كثيرةٍ (¬2): منها: الذي يَصِيحُ بالدعاءِ صِيَاحًا مُزْعِجًا، ومنها: الذي يَسْأَلُ اللَّهَ أن يعطيَه مَرْتَبَةَ النبيين في الجنةِ، أو فوقَ مرتبةِ النبيين، فهذا اعتداءٌ في الدعاءِ، وقد جاءَ عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ مغفلٍ (رضي اللَّهُ عنه) أنه سَمِعَ ابنًا له يقولُ: «اللهم إني أسألك القصرَ الأبيضَ الذي عن يمينِ الجنةِ إذا أدخلتني الجنةَ» (¬3) ¬

(¬1) ورد هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مغفل (رضي الله عنهما)، وهو جزء من حديثيهما الآتيين. (¬2) في هذه المسألة راجع: مسائل الإمام أحمد (رواية صالح) (1/ 171)، الفروع (1/ 458)، الفتاوى (10/ 713 - 714)، الفروق للقرافي (4/ 259 - 265)، تفسير القرطبي، والقاسمي، والمنار، للآية رقم (55) من سورة الأعراف. الدعاء للطرطوشي (154 - 155)، تلخيص الاستغاثة (93 - 95)، بدائع الفوائد (3/ 12 - 14)، تصحيح الدعاء من الغلط والاعتداء لبكر أبو زيد، الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية لجيلان بن خضر العروسي. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 86، 87)، (5/ 55)، وابن أبي شيبة (10/ 288)، وعبد بن حميد في المنتخب برقم (499)، وأبو داود في الطهارة، باب الإسراف في الوضوء. حديث رقم (96)، (1/ 169). وابن ماجه في الدعاء. باب كراهية الاعتداء في الدعاء حديث رقم (3864)، (2/ 1271)، وابن حبان (الإحسان 8/ 269)، والبيهقي (1/ 196)، والحاكم (1/ 540)، من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وهو في الفتح السماوي (2/ 637)، صحيح أبي داود (87)، صحيح ابن ماجه (3116)، المشكاة (418)، الإرواء (140). وقد حسنه ابن كثير في التفسير (2/ 222).

فهذا من الاعتداءِ في الدعاءِ. وعن بعضِ الصحابةِ أنه سَمِعَ ولدَه يقولُ: «اللهم إني أسالكَ الجنةَ وحورَها ونعيمَها وكذا وكذا، وأعوذُ بكَ من النارِ وسلاسلِها وأغلالِها وكذا وكذا وكذا. قال: هذا من الاعتداءِ في الدعاءِ، يَكْفِيكَ أن تقولَ: اللهم إني أسالكَ الجنةَ وما قَرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، وأعوذُ بكَ من النارِ وما قَرَّبَ إليها مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ» (¬1). فَاللَّهُ جل وعلا: {لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الْمُجَاوِزِينَ في الحدودِ، سواء كان في الدعاءِ أو في غيرِ الدعاءِ من مجاوزةِ ما ينبغي إلى ما لا ينبغي كما هو عامٌّ، وهي وإن نَزَلَتْ في الدعاءِ فالعبرةُ بعمومِ الألفاظِ لا بخصوصِ الأسبابِ. ونحن وإن كنا نعلمُ أن الإخفاءَ في الدعاءِ أفضلُ من [الجهرِ] (¬2) به وندعو غالبًا في هذا المجلسِ دعاءً ظاهرًا قَصْدُنَا به أن يَسْمَعَنَا إخوانُنا ويُؤَمِّنُّونَ لنا فنكونَ مجتمعين على الدعاءِ في هذا الشهرِ المباركِ، ولو أَسْرَرْنَا الدعاءَ لَمَا سَمِعُوهُ وَلَمَا أَمَّنُوا لنا، والمُؤَمِّنُ أحدُ الدَّاعِيَيْنِ، وقد نَصَّ على ذلك القرآنُ؛ لأن اللَّهَ في سورةِ يونسَ قال عن نَبِيِّهِ موسى: {وَقَالَ مُوسَى} ذَكَرَ موسى وحدَه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 172، 183)، وابن أبي شيبة (10/ 288)، وأبو يعلى (2/ 71)، والطيالسي رقم (200)، وأبو داود في الصلاة، باب الدعاء .. حديث رقم (1467)، (4/ 353)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وهو في صحيح أبي داود (1313)، وانظر: الزيلعي على أحاديث الكشاف (1/ 462)، تخريج ابن حجر على الكشاف ص64، الفتح السماوي (2/ 636). (¬2) في الأصل: «الإسرار» وهو سبق لسان.

عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: آية 88] وفي القراءةِ الأخرى (¬1): {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} ثم قال: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: آية 89] فجعل الداعيَ اثنين، والداعي في الآيةِ واحدٌ، وهو {قَالَ مُوسَى} قالوا: لأن هارونَ أَمَّنَ، والمُؤمِّنُ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ. ومن هنا أخذ بعضُ العلماءِ أن قراءةَ الإمامِ إذا قال المأمومُ (آمين) تَكْفِي المأمومَ؛ لأن اللَّهَ سَمَّى المُؤَمِّنَ داعيًا، كما ذَكَرَهُ بعضُ العلماءِ (¬2). {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُنَ (58)}. [الأعراف: الآيات 56 _ 58] يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: آية 56] لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) عظمتَه، وأنه خالقُ كُلِّ شيءٍ المستحقُّ لأَنْ يُطَاعَ فلاَ يُعْصَى، وأن يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، وأن يُعْبَدَ وحدَه نَهَى عن الفسادِ في الأرضِ بعدَ إصلاحِها، وَأَمَرَ بأن يدعوه عبادُه خوفًا وطمعًا قال: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} المرادُ بالإفسادِ في الأرضِ يشملُ الشركَ بالله وسائرَ المعاصي؛ لأن مِنْ أعظمِ الفسادِ في الأرضِ الشركَ بِاللَّهِ. والشركُ بالله ومعاصيه قد يَحْبِسُ اللَّهُ بسببِها المطرَ فتموت الْحُبَارَى في وَكْرِهَا، وَالْجُعَلُ في جُحْرِهِ، بسببِ ذنوبِ بنِي آدمَ. ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 119). (¬2) انظر: ابن كثير (2/ 429).

وقولُ الضحاكِ وغيرِه: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} ولاَ تُغَوِّروا الأنهارَ، وَتَدْفِنُوا المياهَ الجاريةَ، وتقطعوا الأشجارَ المثمرةَ (¬1). كُلُّ ذلك داخلٌ في هذا، وربما كان قَطْعُ الشجرِ مصلحةً للمسلمين إذا كان فيه حصارٌ للكفرةِ ومضرةٌ عليهم (¬2)، كما يأتي فيما وَقَعَ في بني النضيرِ في قولِه: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} أي: من نخلةٍ {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: آية 5] ومن الفسادِ في الأرضِ: قطعُ الدنانيرِ، وإفسادُ السكةِ، وَكُلُّ معصيةٍ لله وضرر على المسلمين وشرك بالله، جميعُ هذا من الفسادِ في الأرضِ الذي نَهَى اللَّهُ عنه؛ لأَنَّ طاعةَ اللَّهِ كُلَّهَا صلاحٌ يستوجبُ المطيعون بها رحمةَ اللَّهِ ونعيمَه وعافيتَه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: آية 2 - 3] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: آية 4] فطاعةُ اللَّهِ وتقواه سببٌ لإدرارِ الأرزاقِ والعافيةِ كما قال تعالى عن نَبِيِّهِ نوحٍ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: الآيات 10 - 12] وقال عن نَبِيِّهِ هودٍ أنه قال لقومِه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} إلى قولِه: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: آية 52] وهذا متكررٌ في القرآنِ. والمعاصِي والشركُ كُلُّهَا إفسادٌ في الأرضِ، وطاعةُ اللَّهِ واتباعُ أوامرِه كُلُّهَا إصلاحٌ في الأرضِ. ومعنَى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف: آية 56] أي: بالشركِ والمعاصِي وجميعِ أنواعِ الفسادِ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 226). (¬2) المصدر السابق (7/ 227)، (9/ 84)، (18/ 8).

{بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} بعدَ أن أَصْلَحَهَا اللَّهُ بأن بَعَثَ فيها الرسلَ الكرامَ، وعلَّموا أوامرَ اللَّهِ ونواهيَه، وما به صلاحُ الدنيا والآخرةِ، فإن مَبْعَثَ الرُّسُلِ تستقيمُ به أمورُ الدنيا، ويصلحُ به جميعُ الشؤونِ مما يُصْلِحُ الدنيا والآخرةَ، فَمَنْ جاءَ لأمورِ الناسِ وهي صالحةٌ قائمةٌ على أوامرِ اللَّهِ وشرعِه الذي جاءت به رُسُلُهُ وغيَّر في ذلك وَأَفْسَدَ وأشركَ وعصى فقد أَفْسَدَ في الأرضِ بعدَ إصلاحِها. وهذا هو الأظهرُ في معنَى الآيةِ. وقولُه جل وعلا: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: آية 56] قال بعضُهم: {وَادْعُوهُ} معناه: اعْبُدُوهُ. وقال بعضُهم: هو الدعاءُ بمعنَى المسألةِ والطلبِ لجلبِ الخيرِ وَدَفْعِ الضُّرِّ. والدعاءُ من أعظمِ أنواعِ العبادةِ. وَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الداعيَ ينبغي له إذا دَعَا رَبَّهُ أو عبدَ رَبَّهُ يستشعرُ الخوفَ من اللَّهِ والطمعَ فيه، فيكونُ طامعًا في ثوابِ اللَّهِ ورحمتِه واستجابةِ دعائِه لِمَا يعلمُ من فضلِ اللَّهِ وكرمِه ورحمتِه ورأفتِه بعبادِه. فَعَلَى الداعِي أن يكونَ خائفًا طامعًا. وبهذا يُعْلَمُ أن ما يقولُه بعضُ مَنْ غَلاَ: أن مَنْ عَبَدَ اللَّهَ لأجلِ الخوفِ من الله، أو لأجلِ الطمعِ فيه أن عبادتَه ناقصةٌ!! لأنه مُتَاجِرٌ بعبادتِه ليدفعَ عنه الخوفَ، أو يستجلبَ له الطمعَ، وأن الأكملَ أن يكونَ عَبَدَ اللَّهَ لعظمةِ اللَّهِ وإجلالِه. هكذا يقول بعضُهم! وخيرُ الْهَدْيِ هَدْيُ كتابِ (¬1) اللَّهِ، وقد أَمَرَنَا في دعائِه أن ندعوه خائفين من عذابِه وعقابِه وَنَكَالِهِ، طَامِعِينَ في فضلِه ورحمتِه ورأفتِه وَجُودِهِ وما عندَه من الخيرِ؛ لأن مطامعَ العقلاءِ محصورةٌ في أَمْرَيْنِ هما: جلبُ النفعِ، ودفعُ الضُّرِّ. وإذا كان ¬

(¬1) في الأصل: «كتاب الله صلى الله عليه وسلم». وهذا سبق لسان.

من يَعْبُدُ اللَّهَ أو من يدعو اللَّهَ مستشعرًا الخوفَ من الله والطمعَ في ثوابِه وما عندَه من الخير كان الخوفُ والطمعُ جَنَاحَيْنِ يطيرُ بهما إلى الاستقامةِ وإلى ما ينبغي. وهذا يُعْلَمُ منه أنه ينبغي للمسلمِ أن يكونَ في جميعِ أحوالِه إذا دعا اللَّهَ أو عَبَدَ اللَّهَ أن يكونَ جامعًا بين الخوفِ من الله والطمعِ فيما عندَ اللَّهِ (جل وعلا)، فَلاَ يَتْرُكِ الرجاءَ لئلاَّ يكونَ من القَانِطِينَ {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: آية 87] ولا يَتْرُكِ الخوفَ فيأمن مَكْرَ اللَّهِ؛ لأنه لا يأمنُ مكرَ اللَّهِ إلا القومُ الخاسرونَ فيكونُ خائفًا من اللَّهِ، طامعًا راجيًا في فضلِ اللَّهِ. والعلماءُ يقولونَ (¬1): ينبغي للإنسانِ وهو في أيامِ صحتِه أن يُغلِّبَ الخوفَ دائمًا على الرجاءِ، وأن يكونَ خوفُه أغلبَ من رجائِه، فإذا حضره الموتُ غَلَّبَ الرجاءَ في ذلك الوقتِ على الخوفِ. فلا ينبغي لمؤمنٍ أن يموتَ إلا وهو يُحْسِنُ ظَنَّهُ بالله (جل وعلا)؛ لأن رَبَّهُ رؤوفٌ رحيمٌ كما جاء بذلك الحديثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم (¬2). فالمؤمنُ إذا احتضرَ وَعَلِمَ أن الموتَ قد حضره، وأن أيامَ حياتِه ذاهبةٌ مُدْبِرَةٌ، فهو في ذلك الوقتِ ينبغي له أن يحسنَ ظَنَّهُ بالله، وأن يعلمَ أنه قادمٌ إلى عَفُوٍّ كريمٍ رؤوفٍ رحيمٍ، واللَّهُ عندَ ظَنِّ عبدِه به. أما في أيامِ صحتِه فيُغلِّبُ الخوفَ من اللَّهِ لئلا يحملَه حُسْنُ الظنِّ على أَمْنِ مكرِ اللَّهِ والتلاعبِ بأوامرِه ونواهيِه. هكذا قال بعضُ أهلِ ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين (1/ 517)، فتح الباري (11/ 301). (¬2) مسلم في الجنة في صفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت. حديث رقم (2877)، (4/ 2205).

العلمِ. وقد دَلَّ الحديثُ على أن الإنسانَ لاَ ينبغي له أن يموتَ إلا وهو يُحْسِنُ الظنَّ بالله (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: آية 56]. ثم قال: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: آية 56] الرحمةُ صفةٌ من صفاتِ اللَّهِ اشْتَقَّ لنفسِه منها اسمَه (الرحمن) واسمَه (الرحيم) وهي صفةٌ كريمةٌ من صفاتِ اللَّهِ تظهرُ آثارُها فيمن شاء أن يرحمَه مِنْ خَلْقِهِ، اشتق من هذه الصفةِ لنفسِه اسمَه (الرحمن) واسمَه (الرحيم) ونحنُ نُثْبِتُ لله ما أثبتَه لنفسِه على أكملِ الوجوهِ وأنزهِها وأقدسِها وأليقِها بالله، وأبعدِها عن مُشَابَهَةِ صفاتِ المخلوقين. وقولُه: {قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} المحسنونَ جمعُ تصحيحٍ للمحسنِ، والمحسنُ: اسمُ فاعلِ الإحسانِ، والإحسانُ مصدرُ أَحْسَنَ العملَ يُحْسِنُهُ إحسانًا، إذا جاء به حَسَنًا. والإحسانُ هو الذي خَلَقَ اللَّهُ الخلائقَ من أجلِ الاختبارِ فيه (¬1). إحسانُ العمل كما قال (جل وعلا) في أولِ سورةِ هودٍ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] فَبَيَّنَ أن الحكمةَ في الخلقِ: ابتلاؤُه الخلقَ أيهم أحسنُ عملاً، ولم يَقُلْ: أيهم أكثرُ عملاً. وقال في أولِ سورةِ الكهفِ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: آية 7] وقال في أولِ سورةِ الملكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] والإحسانُ الذي خُلِقْنَا من أَجْلِ الابتلاءِ فيه قد أَرَادَ جبريلُ عليه السلام أن يُنَبِّهَ المسلمين إلى الطريقِ التي يَصِحُّ بها الإحسانُ الذي خُلِقُوا من أَجْلِهِ فجاءَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ جبريلَ المشهورِ (¬1) في صفةِ أَعْرَابِيٍّ، وسأله عن الإيمانِ والإسلامِ، وقال له: يَا مُحَمَّدُ ... - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ؟ أي: وهو الذي خُلِقْتُمْ من أجلِ الاختبارِ فيه. فَبَيَّنَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن إحسانَ العملِ لا يكونُ إلا بالواعظِ الأكبرِ والزاجرِ الأعظمِ وهو مراقبةُ الله، وعلم العبد أنه كأنه ينظر إلى الله (جل وعلا)، وأنه إن كان لم يَرَ اللَّهَ فَاللَّهُ (جل وعلا) يراه. فَمَنْ عَلِمَ أنه بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ السماواتِ والأرضِ الجبارِ العظيمِ الأعظمِ، وأن اللَّهَ يراه: أَحْسَنَ عَمَلَهُ؛ لأن الإنسانَ - وَلِلَّهِ المثلُ الأعلى - إذا كان أمامَ مَلِكٍ جبارٍ من ملوكِ الدنيا شديدِ البطشِ على مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَأَمَرَهُ بعملٍ، وهو حاضرٌ ينظرُ إليه، لابد أن يَجِدَّ ويحسنَ ذلك العملَ على أكملِ الوجوهِ. فعلى المؤمنِ أن يستشعرَ أنه بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِ السماواتِ والأرضِ، وأن اللَّهَ يراه، وأنه ليس بغائبٍ عنه. فإذا لاَحَظَ هذا ملاحظةً صحيحةً أَحْسَنَ العملَ؛ ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم مجيبًا لجبريلَ في قولِه: أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ. قال صلى الله عليه وسلم: «الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». لأن مَنْ لاَحَظَ هذه الموعظةَ وهذه المراقبةَ أَحْسَنَ عَمَلَهُ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ الأعرافِ سؤالٌ عربيٌّ مشهورٌ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

عند علماءِ التفسيرِ، وهو أنه قال: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ} ثم قال: {قَرِيبٌ} بصيغةِ التذكيرِ ولم يَقُلْ: قريبةٌ. يقولونَ: الرحمةُ لَفْظُهَا مؤنثٌ فَلِمَ لم يَقُلْ: إن رحمةَ الله قريبةٌ من المحسنين، بل قال: قريبٌ. وللعلماءِ عن هذا السؤالِ العربيِّ أجوبةٌ تزيدُ على العشرةِ (¬1)، كما هي معروفةٌ في علومِ التفسيرِ وبعضِ علومِ العربيةِ، نذكر منها بعضًا فيه كفايةٌ: منها: أن الرحمةَ مصدرٌ بمعنَى (الرُّحم) والمصدر مذكرُ المعنَى، فمعنَى {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ} أي: إن رُحْمَه بعبدِه قريبٌ. فذكَّره نظرًا لمعنَى الرحمةِ؛ لأن معناها المصدرُ بمعنَى (الرُّحم). وقال بعضُ العلماءِ: (رحمة الله) هنا يعني أنه يرحمُ العبدَ بالثوابِ، فيكونُ المعنَى: إن ثوابَ اللَّهِ النَّاشِئَ عن رحمتِه بعبدِه قريبٌ من المحسنين. الوجهُ الثالثُ: هو ما قَرَّرَهُ بعضُ علماءِ العربيةِ: أن القربَ نوعانِ: قربٌ في النَّسَبِ، وقربٌ في المسافةِ المكانيةِ أو الزمانيةِ، أما قربُ النسبِ فالمؤنثةُ فيه يلزمُها التاءُ بلا خلافٍ بينَ علماءِ العربيةِ، فتقولُ: هذه المرأةُ قريبتي. تعنِي في النسبِ. ولا يجوزُ أن تقولَ: قَرِيبِي بلا تاءٍ. فالقرابةُ في النسبِ يلزمُ فيها تاءُ الفرقِ بين الذكرِ والأنثى، فلا يجوزُ - قولاً واحدًا - أن تقول: هذه المرأةُ قريبٌ مِنِّي في النسبِ، بل يلزمُ أن تقولَ: قريبةٌ مني في النسبِ بالتاءِ. أما إن كان القربُ قربَ مكانٍ أو زمانٍ فيجوزُ في المؤنثةِ التأنيثُ والتذكيرُ، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 488)، القرطبي (7/ 227)، البحر المحيط (4/ 313)، الدر المصون (5/ 344 - 346)، أضواء البيان (2/ 322).

فتقول: هذه المرأةُ قريبٌ مني. تعني في المسافةِ لاَ في النسبِ. ودارُها قريبٌ من دَارِي. وإن شئتَ قلتَ: قريبةٌ من داري. والكلُّ مسموعٌ في كلامِ العربِ، فتقول: دارُ زيدٍ قريبٌ من دارِ عمرٍو، ودارُ زيدٍ قريبةٌ من دارِ عمرٍو، وهذه المرأةُ الفلانيةُ قريبٌ من فلانٍ. تعنِي في المسافةِ وقريبةٌ منه تعنِي في المسافة، والكلُّ مسموعٌ موجودٌ في كلامِ العربِ، فَمِنْ إدخالِ التاءِ على قرابةِ المسافةِ قولُ عروةَ بنِ حزامٍ (¬1): عَشِيَّةَ لاَ عَفْرَاءُ مِنِّي قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو، وَلاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ فقال: «قريبةٌ» بالتاءِ، وهو قربُ مسافةٍ. ومن تجريدِ (القريبةِ) من التاءِ في المسافةِ قولُ امرئِ القيسِ (¬2): لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلاَ أُمَّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا فقال: «أم هاشم قريب». يعنِي في المسافةِ. ومن هذا المعنَى قولُه تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: آية 17] أي: في الزمانِ، ولم يقل قَرِيبَةٌ. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: آية 63]. قال بعضُ أهلِ العلمِ: وجهُ تذكيرِ الرحمةِ: إضافتُها إلى اللَّهِ جل وعلا. وقال بعضُهم: وَجْهُ تذكيرِها لأنها نَعْتٌ لموصوفٍ محذوفٍ: إن رحمةَ اللَّهِ شيءٌ قريبٌ من المحسنين. ¬

(¬1) البيت في ابن جرير (12/ 488)، البحر المحيط (4/ 313)، الدر المصون (5/ 346). (¬2) ديوان امرئ القيس ص65.

والذين يقولونَ: إن رحمةَ اللَّهِ هي رحمتُه لعبدِه في الآخرةِ، يقولونَ: إن الإنسانَ كُلَّ يوم يقربُ من الآخرةِ ويبعدُ من الدنيا؛ لأن ما أَمَامَكَ قريبٌ وما وراءَك بعيدٌ، كما قال الحطيئةُ أو غيرُه (¬1): لَعَمْرُكَ مَا السَّعَادَةُ جَمْعَ مَالٍ ... وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ ... وَمَا لاَ بُدَّ أَنْ يَأْتِي قَرِيبٌ ... وَلَكِنَّ الَّذِي يَمْضِي بَعِيدُ فَكَأَنَّ الإنسانَ كُلَّ يومٍ يقربُ من الآخرةِ ويبعدُ من الدنيا؛ لأن ما يستقبلُه الإنسانُ يتقربُ إليه دائمًا، وما يَسْتَدْبِرُهُ يتباعدُ منه دائمًا، والآخرةُ قريبٌ جِدًّا، كما قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} وهذا معنى قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}. والذين يقولونَ: إن رحمةَ اللَّهِ قريبةٌ من عبادِه المحسنين بحصولِها لهم في الدنيا والآخرةِ؛ لأنه في الدنيا يرحمُهم بالتوفيقِ إلى الأعمالِ الصالحةِ وبالعملِ بما يرضيه، كما قال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: آية 7] {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: آية 43] فَبَيَّنَ أنه بالمؤمنين رحيمٌ، يرحمهم بالدنيا بما يُيَسِّرُ لهم من التوفيقِ إلى ما يُرْضِيهِ، ويرحمُهم في الآخرةِ بالإدخالِ في دارِ كرامتِه. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} ¬

(¬1) البيت للحطيئة، وهو في الأمالي (2/ 202)، الآداب الشرعية (3/ 307)، شعر الدعوة الإسلامية ص517، وبين البيتين بيت آخر وهو قوله: وتقوى الله خير الزاد ذُخرا ... وعند الله للأتقى مزيدُ وصدر البيت الأول: «ولست أرى».

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الأعراف: آية 57] قرأه أكثرُ السبعةِ: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} بالجمعِ، وقرأه بعضُ السبعةِ: {يرسل الريح} بالإفرادِ. وعلى قراءةِ الإفرادِ فالمرادُ الجنسُ، فلا تُنَافِي قراءةُ الإفرادِ قراءةَ الجمعِ (¬1). وقولُه: {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: آية 57] فيه قراءاتٌ كثيرةٌ (¬2)، السبعياتُ منها أربعٌ: {نُشُرًا بين يدي رحمته} {نُشْرًا بين يدي رحمته} {نَشْرًا بين يدي رحمته} {بُشْرًا بين يدي رحمته} هذه القراءاتُ الأربعُ هي السبعياتُ من القراءاتِ التي في هذه الكلمةِ. فقرأ بعضُهم: {نُشُرًا} بِضَمِّ النونِ والشينِ. وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ كثيرٍ وأبي عمرو. وقرأ بعضُهم: {نُشْرًا} بِضَمِّ النونِ وسكونِ الشينِ. وقرأ بها من السبعةِ: ابنُ عامرٍ وحدَه. وقرأ بعضُهم: {نَشْرًا} بفتحِ النونِ وسكونِ الشينِ. وهي قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ. وقرأ عاصمٌ وحدَه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} هذه القراءاتُ السبعيةُ، على أن بعضَ السبعةِ قرأَ (الرياح) وبعضُهم قَرَأَ (الريح). ومعنى قراءةِ (الريح): جنسُ الرياحِ، فلا تُنَافِي قراءةُ الإفرادِ قراءةَ الجمعِ. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص209، الإتحاف (2/ 51). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص209،حجة القراءات ص285.

أما مَنْ قَرَأَ: {نُشُرًا} فنشرًا جمعُ ناشرةٍ، أو جمعُ نَشُورٍ، وفيها مَعْنَيَانِ (¬1): أحدُهما: أنها تنتشرُ أمامَ المطرِ من ها هنا وها هنا، أو أنها تُلَقِّحُ المطرَ الذي به إحياءُ الأرضِ الميتةِ فكأنها تَنْشُرُهُ. والإنشارُ والنشورُ: النشورُ: الحياةُ بعدَ الموتِ، وَأَنْشَرَهُ: أحياه بعدَ الموتِ. وأكثرُهم على أن نُشُرًا جمع نَشُورٍ، أو جمع ناشرةٍ كما قال بعضُهم، كشاهدٍ وشُهُدٍ. ونُشُر هي التي تنتشرُ أمامَ المطرِ فتأتِي منتشرةً من ها هنا ومن ها هنا. وعلى هذا القولِ فهو من الانتشارِ؛ لأَنَّ الريحَ كأنها كانت راكدةً كالشيءِ المطويِّ، فإذا كانت أمامَ المطرِ نُشِرَتْ كما يُنْشَرُ الثوبُ، فجاءت منتشرةً أمامَ المطرِ من ها هنا ومن ها هنا. وقراءةُ ابنِ عامرٍ: {نُشْرًا بين يدي رحمته} كقراءةِ نافعٍ وابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو إلا أن ابنَ عامرٍ خَفَّفَ الشينَ فسكَّن ضمتَها. كما تقولُ: رسُل ورُسْل، وكتُب وكُتْب، ونُشُر ونشْر. فمعنى قراءةِ ابنِ عامرٍ كالقراءةِ التي قَبْلَهَا، وهو أن اللَّهُ يُرْسِلُ الرياحَ في حالِ كونِها منتشرةً من ها هنا وها هنا أمامَ السحابِ. وهذا من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه جل وعلا. وعلى قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ {نَشْرًا} ففيه من الإعرابِ وجهانِ: أحدُهما: أنه ما نَابَ عن المطلقِ من {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} لأَنَّ معنَى (يرسلها) في قوةِ: ينشرُ الرياحَ بين يدي المطرِ نَشْرًا. فتكونُ مفعولاً مُطْلَقًا بالمعنَى من (يرسل). أو أنها مصدرٌ مُنكَّرٌ حَالٌ، أي: يرسلُ الريحَ في حالِ كونِها منتشرةً أمامَ المطرِ، أو ناشرةً كَمَا ذَكَرْنَا. ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 323).

وعلى قراءةِ حفصٍ: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} فالبُشرُ هنا جمعُ البشيرِ؛ لأن الريحَ تُبَشِّرُ بإتيانِ المطرِ بعدها فهي بشيرُ المطرِ، كما يدلُّ عليه قولُه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: آية 46] فإجراءُ الريحِ وانتشارُها من ههنا وهاهنا أمامَ المطرِ مبشرةً به من غرائبِ صنعِه وعجائبِه، ومن عظائمِ نِعَمِهِ على خَلْقِهِ، وهو معطوفٌ على قولِه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} هذا الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ، وأغشى الليلَ النهارَ كذلك هو الذي يُرسل الرياحَ بشرًا بين يدي رحمته. [10 / أ] / ومعنَى: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} المرادُ بالرحمةِ هنا: المطرُ؛ لأن المطرَ رحمةُ اللَّهِ يرحمُ بها عبادَه في الدنيا فيكونونَ في جَدْبٍ وفي فَقْرٍ، ومواشيهم على وشكِ الهلاكِ، فيغيثُهم اللَّهُ بالمطرِ، فتنبت زروعُهم وثمارُهم وتنعمُ مواشيهم فتكثر عندَهم اللحومُ والأسمانُ والأزبادُ، وتتوفرُ عندهم الأشعارُ والأصوافُ والأوبارُ، ينسجونَ منها اللباسَ وغيرَه من الفُرُشِ والخيامِ وما جرى مَجْرَى ذلك. فهذا من غرائبِ آياتِه وعظائمِ نِعَمِهِ. ومعنَى (بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ) يعنَي: أمامَ المطرِ قدامَه منتشرةً قدامَه مُبَشِّرَةً به. وهذا من غرائبِ صُنْعِهِ وكبائرِ نِعَمِهِ. والريحُ اختلفَ الفلاسفةُ في حَدِّهَا، وربما عجزوا عنه. وبعضُهم يقولُ: الريحُ: هواءٌ يتحركُ. والريحُ هي هذا الشيءُ الذي تشاهدونَه وتحسونَه. أما تعريفُهم فقد عسر على مَنْ أَرَادَهُ. وَعَرَّفَهُ بعضُهم بأنه: هواءٌ يتحركُ. وقد سَلَّطَهَا اللَّهُ على قومِ عَادٍ فأهلكتهم عن آخرهم. وهذا معنَى قولِه: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}

يعني أمامَ المطرِ. فقد سَمَّى المطرَ (رحمةً) لأن اللَّهَ يرحم به عبادَه فتخصبُ بلادُهم وتنمو زروعُهم ومواشيهم وثمارهم، وهو أصلُ النعمِ الدنيويةِ على الْخَلْقِ؛ ولذا سَمَّاهُ (رحمةً) هنا، وفي قولِه بالرومِ: {فَانْظُرْ إِلَى أَثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: آية50] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ}. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً} [الأعراف: آية 57] من فوائدِ الريحِ: كما أن الله ينشرها مُبَشِّرَةً بالمطرِ منتشرةً أمامَه كذلك يحملُ عليها المطرَ؛ لأن السحابَ هو غيرُ المطرِ بإجماعِ أهلِ اللسانِ، فالسحابُ: الوعاءُ الذي فيه المطرُ. والمطرُ: هو نفسُ الماءِ، وهو نفسُ الوَدْقِ. وهذه الآيةُ من سورةِ الأعرافِ تُبَيِّنُ أن الماءَ أنه في وعاءٍ، وأن ذلك الوعاءَ ثقيلٌ جِدًّا ثقلاً عظيمًا، وأن اللَّهَ يحملُه - مع ثقلِه - على متنِ الريحِ، ثم إن الريحَ تَذْهَبُ به إلى حيثُ شاءَ اللَّهُ (جل وعلا)، فيسيلُ ذلك المطرُ من الثقوبِ والخلالِ التي في ذلك السحابِ الذي هو الوعاءُ، وقد بيَّن اللَّهُ كيفيةَ هذا في سورةِ النورِ في قولِه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي: يسوقُ سحابًا: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي: مُتَرَاكمًا بعضَه فوقَ بعضٍ {فَتَرَى الْوَدْقَ} وهو نفسُ المطرِ الذي هو الماءُ {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43] أي: من ثقوبِ السحابِ. وخلالُ الشيءِ: ثقوبُه وفروجُه. فهو يتقاطرُ من الثقوبِ والفروجِ التي جَعَلَهَا اللَّهُ في الوعاءِ الذي يحملُ فيه المطر. وَبَيَّنَ أن ذلك الوعاءَ ثقيلٌ جِدًّا في قولِه: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} [الأعراف: آية 57] أَقَلَّتْ: أي حَمَلَتْ. والعربُ تقولُ. أَقَلَّتْهُ ناقتُه. أي: حَمَلَتْهُ. والمرادُ: أَقَلَّتِ الريحَ، أي:

حَمَلَتِ الريحَ {سَحَابًا} جمعُ سحابةٍ، وهي الوعاءُ الذي فيه الماءُ، وهي المزنةُ. {ثِقَالاً} جمعُ ثقيلةٍ، أي: سحابةٌ ثقيلةٌ. وسحابٌ - بالجمعِ - ثقال. وَاللَّهُ صَرَّحَ بأنها ثقالٌ، أي: شديدةُ الثقلِ لِمَا هي موقرة به - مملوءةٌ به - من الماءِ (¬1). وهذا نَصٌّ صريحٌ من رَبِّ العالمين الذي هو أصدقُ مَنْ يقولُ أن اللَّهَ يجعلُ ماءَ المطرِ في وعاءٍ، وأنه يحملُ تلك الأوعيةَ الثقيلةَ جِدًّا على متنِ الريحِ، ثم إنه إذا أرادَ نزولَ المطرِ إلى مَحَلٍّ أخرجَ الماءَ من الثقوبِ والفروجِ والخللِ الذي في تلك الوعاءِ الذي فيه الماءُ، كما قال: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43] وهذا الماءُ يُنْزِلُهُ اللَّهُ (جل وعلا) من حيثُ شاءَ، وهو قادرٌ على أن ينزلَه من نَهْرٍ تحتَ العرشِ، وعلى أن يجعلَه من بخارِ البحرِ ثم يرفعُه فيجعلُه ماءً صافيًا ويجعله في الْمُزْنِ، وهو قادرٌ على كُلِّ ذلك. وأكثرُ السلفِ على أن الماءَ ينزلُ في السحابِ من نهرٍ تحتَ العرشِ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: لاَ مانعَ من أن يرتفعَ من بخارِ البحرِ ماءٌ صَافٍ عذبٌ تتحلل منه الأجرامُ الملحةُ ثم يجعلُه اللَّهُ في وعاءِ الْمُزْنِ، ثم يحملُه على الريحِ، ثم يُلْقِيهِ حيث شاءَ. كما قال مسلم الجاهلية زيدُ بنُ عمرِو بنِ نُفَيْلٍ (¬2): وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالاً ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام. (¬2) الأبيات ذكرها ابن هشام في السيرة (1/ 247 - 248)، وفيه بعض اختلاف في البيت الثاني. ولفظه في ابن هشام: دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا

دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... جَمِيعًا وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالاَ وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلاَلاَ إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالاَ وبهذا تعلمونَ أن المطرَ إنما يَنْزِلُ بأمرِ اللَّهِ وقدرتِه وإرادتِه، يعلم قَدْرَهُ ويجعلُه في أوعيةِ السحابِ، ويحملُه على مَتْنِ الريحِ، ثم يُخْرِجُهُ من الثقوبِ والخلالِ التي في الوعاءِ الذي هو فيه وهو السحابُ، كما قال وهو أصدقُ مَنْ يقولُ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43] والعربُ كانوا يزعمونَ أن بعضَ الْمُزْنِ يمتلئُ من البحرِ، وهو معروفٌ في أشعارهم، ومنه قولُ أبي ذؤيبٍ الهذليِّ (¬1): سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَنَاتِمُ غُرٌّ مَاؤُهُنَّ ثَجِيجُ شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ يعني: لُجَجَ البحرِ. ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ (¬2): لاَ تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ ... رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزُرْ كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدْنَ كَمَا إِذَا ... أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ ¬

(¬1) البيت الأول في اللسان (مادة: ثج) (1/ 349)، (حنتم) (1/ 734)، وفيه (حناتم سُحْم) والبيت الثاني في الخصائص (2/ 85)، المحتسب (2/ 114)، اللسان (مادة: شرب) (2/ 287)، (متى) (3/ 435)، (مخر) (3/ 450). (¬2) البيتان في ديوان طرفة ص58، البحر المحيط (1/ 86)، والأول منهما في رصف المباني ص268، والبيت الثاني في الخصائص (2/ 85)، اللسان (مادة: عسلج) (2/ 779)، (مخر) (3/ 450)، وفي جميع هذه المصادر: «أنبت الصيف».

والشاهدُ: أن المطرَ لا تنزلُ قطرةٌ منه إلا بمشيئةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ وبتدبيرِه. وقد بَيَّنَ لنا كيفَ يُنْزِلُهُ: أن اللَّهَ يسوقُ سحابًا وهو المزنُ الذي هو وعاءُ الماءِ، ثم يجمع بعضَه إلى بعضٍ حتى يجعلَه متراكمًا بعضَه فوقَ بعضٍ، ثم يُخْرِجُ الماءَ من تلك الثقوبِ والفروجِ التي هي خلالُ ذلك السحابِ. وهذا صريحُ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43] أي: ترى ماءَ المطرِ يخرجُ من الخلالِ، جمع (خَلَل) وهي الثقوبُ والفروجُ التي في ذلك السحابِ الذي هو وعاءُ الماءِ. فهذا بفعلِ ملكٍ مقتدرٍ يُنْزِلُ المطرَ حيث شَاءَ، ويحملُ السحابَ الموقرةَ الثقيلةَ بالماءِ على مَتْنِ الريحِ، ثم يأمرُها بأن تَصُبَّهَا بالمكانِ الذي شَاءَ بتصريفٍ مِنْ عَالِمٍ قديرٍ، عالمٍ بقدرِ المطرِ الذي ينزلُه وبقدرِ الرشاشِ الذي ينزله. وقد بَيَّنَ تعالى أن كثيرًا من الخلقِ سيكفرونَ بهذا، كالذين يزعمونَ أن المطرَ لم يَنْزِلْهُ خالقٌ، وإنما هو أمرٌ طبيعيٌّ، كما يزعمُه الكفرةُ الإفرنجُ وأتباعُ الإفرنجِ، لاَ يعترفونَ بأن المطرَ ينزلُه حكيمٌ خبيرٌ، بل يذهبونَ إلى فكرةٍ كافرةٍ ملحدةٍ يُقَرِّرُهَا كثيرٌ ممن لا يَفْهَمُ، ثم يطمسُها وَيذُرُّ في عيونِ الناسِ أن يقولَ: «بمشيئةِ اللَّهِ» مجاملةً. وهو يعتقدُ الطبيعيةَ كما يعتقدُها الكفرةُ الإفرنجُ الذين قَرَّرُوا هذا!! فَهُمْ - والعياذُ بالله - كالأنعامِ بل هم أَضَلُّ، لا يعترفونَ بخالقٍ حكيمٍ مُدَبِّرٍ ينزلُ المطرَ، فيزعمونَ أن نزولَ المطرِ أمرٌ طبيعيٌّ، وأن حرارةَ الشمسِ إذا تَتَابَعَتْ على البحرِ حتى بلغت مئةَ درجةٍ تَبَخَّرَ ماءُ البحرِ، وكذلك احتكاكُ الماءِ بالريحِ يُبَخِّرُهُ، فيتصاعدُ بخارُ الماءِ وتتحللُ منه الأجرامُ الملحيةُ، ثم يتكاثفُ البخارُ بعضُه فوقَ بعضٍ، ثم إذا اجتمعَ وَلاَقَى هواءً بصفةِ كذا جاءته

ريحٌ وَفَرَّقَتْهُ، وصارَ هو الرشاشُ بطبيعتِه وطبيعةِ المطرِ من غيرِ فاعلٍ مختارٍ!! وهذا كُفْرٌ بالله، وإلحادٌ سَافِرٌ، ونفيٌ للخالقِ الذي لا يكونُ شيءٌ إلا بأمره وقضائِه. وَاللَّهُ قد بَيَّنَ أن كثيرًا من الناسِ سيَؤُولُونَ إِلى هذا الكفرِ والإلحادِ؛ لأنه لَمَّا ذَكَرَ المطرَ في سورةِ الفرقانِ قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} {أَنزَلْنَا} نسبَ الإنزالَ لنفسِه بصيغةِ التعظيمِ قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: الآيات 48 - 51] يعني: لقد صَرَّفْنَا الماءَ بَيْنَ بني آدمَ فَأَكْثَرْنَا المطرَ في عامٍ على بعضِ الجهاتِ فَأَخْصَبَتْ لنختبرَ أهلَها هل يشكرونَنا على ذلك الإنعامِ؟ وَصَرَّفْنَا الماءَ في بعضِ السنينَ عن بعضِ البقاعِ حتى تمحلَ وتجدبَ لنختبرَ أهلَها هل يصبرونَ؟ وهل يُنِيبُونَ إلينا ويتضرعونَ لنكشفَ عنهم الضراءَ؟ فهو تصريفُ حكيمٍ خبيرٍ يُصَرِّفُ الماءَ بحكمتِه وإرادتِه، وينزلُه بمشيئتِه على هذا الوجهِ الأعظمِ الكريمِ الذي يَنْزِلُ رشاشًا. والله لَمَّا قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} لأَجْلِ أن يتذكرَ مَنْ جاءهم الماءُ فأخصبوا فيشكروا نعمةَ اللَّهِ ويتذكر مَنْ صُرِفَ عنهم الماءُ فأجدبوا؛ لِيُنِيبُوا إلى اللَّهِ، ويتوبوا إلى اللَّهِ ثم قال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: آية 50] فَأَبَى أكثرُ الناسِ إلا كفورًا بالله - جل وعلا - وَمِنْ أعظمِ الكفورِ الذي أَبَوْا إلا إياه: قولُهم: إن الماءَ يُنْزِلُهُ بخارُ كذا وكذا، وطبيعةُ كذا وكذا، فقد صَدَقَ اللَّهُ - جل وعلا - ولا تأتِي بليةٌ ولا إلحادٌ يتجددُ في الزمانِ إلا وهو مُشَارٌ إليه في القرآنِ. فقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} وَإِتْبَاعُهُ لذلك بقولِه: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: آية 50]

من غرائبِ هذا القرآنِ وعجائبِه. وتطبيقُه الآن على أكثرِ مَنْ في المعمورةِ، ينفونَ أن المطرَ نازلٌ بحكمةِ خبيرٍ عليمٍ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - فينطبقُ عليهم قولُه: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَلَّمَهُمْ صبيحةَ ليلةٍ كان فيها مطرٌ، وقال لهم: «هَلْ سَمِعْتُمْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ الْبَارِحَةَ؟» قالوا: ماذا قال؟ قال: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ. أَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. فَهُوَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» (¬1). وَأَكْفَرُ منه بالله مَنْ قال: مُطِرْنَا ببخارِ كذا وكذا لا بفعلِ اللَّهِ وإرادتِه. فعلى المؤمنِ أن يعتقدَ أن المطرَ أَنْزَلَهُ حكيمٌ خبيرٌ، وأنه ماءٌ يُنْزِلُهُ مِنْ حيث شاء، إما من السماءِ أو من حيث شَاءَ اللَّهُ (جل وعلا) فيجعلُه في أوعيةِ السحابِ، فتمتلئُ حتى تكونَ ثقيلةً جِدًّا، كما قال هنا: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً} [الأعراف: آية 57]. والثقالُ: جمعُ ثقيلةٍ، وإنما كانت ثقيلةً لكثرةِ ملئها من الماءِ. وَصَرَّحَ بأن الريحَ تُقِلُّهَا، وأنه يحملُها على ظهرِ الريحِ حتى تمطرَ في الموضعِ الذي شَاءَ اللَّهُ، وصرح بأنه هو الذي يصرفُ المطرَ بإرادتِه ومشيئتِه، فينزلُه على قومٍ فيخصبوا ليُختبروا هل يَشْكُرُونَ؟ ويرفعُه عن ¬

(¬1) البخاري في الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم. حديث رقم: (846)، (2/ 333). وأطرافه في: (1038، 4147، 7503)، ومسلم في الإيمان، باب بيان كفر من قال: مُطرنا بالنوء. حديث رقم (125)، (1/ 83)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.

قومٍ فيجدبوا ليختبروا هل يُنِيبُونَ إلى الله ويتوبونَ؟ وهذا من غرائبِ صُنْعِ الله وعجائبِه. واللَّهُ (جل وعلا) أَمَرَ خلقَه أن ينظروا في هذا وتوابعِه حيث قال: {فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس: آية 24] لاَمُ الأَمْرِ هنا صيغةُ أمرٍ تقتضي الوجوبَ، معناه: يجبُ على كُلِّ إنسانٍ أن ينظرَ إلى طعامِه. يعني: يا أيها الإنسانُ المسكينُ الضعيفُ انْظُرْ إلى طعامِك، انظر إلى الخبزِ الذي تأكلُ ولاَ تستغنِي عنه، مَنْ هو الذي خَلَقَ الماءَ الذي شَرِبَتْ به أرضُه حتى نَبَتَ بإذن اللهِ؟ أيقدرُ أحدٌ غيرُ اللهِ أن يخلقَ الماءَ ويبرزَ جرمَه من [العدمِ إلى الوجودِ] (¬1)؟ هَبْ أن الماءَ خُلِقَ وصارَ موجودًا مَنْ هو الذي يَقْدِرُ على إنزالِه بهذه الطريقِ الحكيمةِ وإخراجِه من خلالِ السحابِ رشاشًا لا يضرُّ بأحدٍ، فلو أَرْسَلَ اللهُ المطرَ كلَّه قطعةً واحدةً مجتمعةً لأَغْرَقَتِ الدنيا ودمرت البلادَ والعبادَ، فهو يُنْزِلُهُ رشاشًا من خلالِ السحابِ لئلا يضرَّ بالناسِ، وينزلُه بِقَدَرٍ معلومٍ بحيث يكونُ فيه الحاجةُ، ولا يجعلُه طوفانًا يغمرُ الأرضَ لئلاَّ يُهْلِكَ مَنْ عليها كما وَقَعَ لقومِ نوحٍ. هَبْ أن اللهَ أَنْزَلَ الماءَ بهذه الطريقةِ العظيمةِ الحكيمةِ هل يقدرُ أحدٌ غيرُ اللهِ أن يشقَّ الأرضَ عن مسمارِ النباتِ الذي يكونُ منه الْحَبُّ الذي تأكلون؟ الجوابُ: لاَ. هَبْ أن مسمارَ النباتِ خَرَجَ، مَنْ هو الذي يقدرُ على أن يُرَبِّيَهُ وينميه؟ هَبْ أنه نَمَا وكبر، مَنْ ذَا الذي يقدرُ أن يشقَّه ويخرجَ منه السنبلةَ؟ هَبْ أن السنبلةَ خَرَجَتْ، من هو الذي يقدرُ أن يربيها وينقلَها من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ حتى تكونَ حَبًّا صالحًا للأكلِ؟ {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 99]. ¬

(¬1) في الأصل: «من الوجود إلى العدم». وهو سبق لسان.

هذه غرائبُ صنعِ اللهِ وعجائبُه، والكفرةُ الملاعينُ الذين يزعمونَ أن إنزالَ اللهِ للمطرِ بهذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ المُبيَّنِ في سورةِ النورِ وغيرِها - الذي صَرَّحَ اللهُ بأنه هو الذي أَنْزَلَهُ، وهو الذي يُصَرِّفُهُ بين خَلْقِهِ كما يشاءُ - يزعمونَ أن كُلَّ هذا كَذِبٌ، وأنه لاَ خالقَ ولا فاعلَ مختار، وإنما هي أمورٌ طبيعيةٌ، فطبيعةُ الماءِ أن يتبخرَ بطبيعتِه إما بدرجاتِ حرارةِ الشمسِ؛ لأن الماءَ إذا بلغَ درجةَ مائةٍ من درجاتِ الحرارةِ يستحيلُ بُخَارًا، أو باحتكاكِه بالريحِ، فاحتكاكُ الريحِ بالماءِ قد يجعلُه بخارًا، ثم إن البخارَ يتصاعدُ بطبيعةِ حالِه، ثم يجتمعُ بعضُه إلى بعضٍ، فيلاقي هواءً آخَرَ بصفةِ كذا، فتفرقُه الريحُ، وأن هذا أمرٌ طبيعيٌّ لاَ فاعلَ له. هذا كُفْرٌ بالله، وإنكارٌ لخالقِ السماواتِ والأرضِ، وجحودٌ له (جل وعلا). واللهُ بَيَّنَ أن أكثرَ الخلقِ سيصيرونَ إلى ذلك في سورةِ الفرقانِ كما أَوْضَحَهُ بقولِه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (50)} [الفرقان: الآيات 48 - 50] ولاَ شَكَّ أن مِنَ الناسِ الذين أَبَوْا إلا كفورًا: الذين زَعَمُوا أنه نَزَلَ بطبيعةِ بخارِ كذا وكذا عليهم لعائنُ اللهِ، وإذا ماتوا فسيعلمونَ هل هناك رَبٌّ مُدَبِّرٌ ملكُ السماواتِ والأرضِ هو المنزلُ للمطرِ، الخالقُ لكلِّ شيءٍ أو لاَ؟ وهذا معنَى قولِه: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} {حَتَّى} هنا هي الابتدائيةُ التي تُذْكَرُ قبلَ الْجُمَلِ. و (أقلت) معناه: حَمَلَتْ «حتى إذا أقلت الرياح» أي: حَمَلَتْ: {سَحَابًا} أي: مُزْنًا مملوءةً بالماءِ. {ثِقَالاً} السحابُ: جمعُ سحابةٍ أو اسمُ جمعٍ للسحابةِ.

والثقالُ: جمعُ ثقيلةٍ، لثقلها بالماءِ الذي هي موقرةٌ منه، يحملُها اللهُ على مَتْنِ الريحِ. {سُقْنَاهُ} أي: سُقْنَا ذلك السحابَ المُوقَرَ بالماءِ. {إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} قَرَأَهُ بعضُ السبعةِ: {مَيِّتٌ} بالتشديدِ. وقرأه بعضُهم: {مَيْت} بالتخفيفِ، وهما قراءتانِ سبعيتانِ مشهورتانِ (¬1) ولغتانِ صحيحتانِ معروفتانِ. ومعنَى كونِ البلدِ مَيِّتًا أنه غبارٌ لاَ نباتَ فيه ولا شجرَ. ميتٌ جَدْبٌ ليس فيه نباتٌ ولا شجرٌ نابتٌ. {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي: بذلك البلدِ. وعليه فالباءُ ظرفيةٌ، أي: فَأَنْزَلْنَا فيه، أي: في ذلك البلدِ: {الْمَاءَ} أو {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي: بذلك السحابِ {الْمَاءَ} في ذلك البلدِ، وَصَرَّفْنَاهُ إلى ما شئنا من البلادِ وَصَرَفْنَاهُ عمن شئنا من البلادِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: آية 50] وهذا معنَى قولِه: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بسببِ ذلك الماءِ: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى} هذا من براهينِ البعثِ، كما أَخْرَجْنَا النباتَ بعدَ أن لم يكن شيئًا، وأخرجناه بعدَ أن انعدمَ، كذلك نُخْرِجُكُمْ من قبورِكم أحياءً بعدَ أن كنتُم معدومين؛ لأن الكلَّ إخراجٌ بعدَ عَدَمٍ، وإعادةٌ بعدَ فناءٍ، وحكمُ الكلِّ واحدٌ. ومعنَى: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (¬2) [الروم: آية 19، الزخرف: ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 52). (¬2) الظاهر أنه وقع للشيخ (رحمه الله) سهو في هذا الموضع فذكر قوله: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} وليست هذه الجملة في آية الأعراف، وإنما في آية الروم: (19)، وآية الزخرف: (11)، وإنما في الأعراف: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى}.

آية 11] أي: تُخْرَجُونَ من قبورِكم أحياءً بَعْدَ الموتِ عندَ النفخةِ الثانيةِ، كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: آية 68] وقال جل وعلا: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات: آية 13 - 14] أي: على وجهِ الأرضِ أحياءً يمشونَ. وهذا معروفٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ (جل وعلا) يبعثُ الخلائقَ كُلَّهُمْ يومَ القيامةِ. وإحياءُ الأرضِ بعدَ موتِها دليلٌ على بعثِ الخلائقِ. وهذا معنَى قولِه: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: آية 57]. وقولُه: {سُقْنَاهُ} بصيغةِ التعظيمِ دليلٌ قاطعٌ على أن الموضعَ الذي يَأْتِيهِ المطرُ أن ما يأتيه بإرادةِ اللهِ - جل وعلا - وأنه هو الذي سَاقَ ذلك المطرَ محمولاً على الريحِ إلى ذلك البلدِ الْمُعَيَّنِ بحكمتِه وقدرتِه وإرادتِه، لاَ بطبيعةِ الريحِ، ولا بطبيعةِ البخارِ، ولا بطبيعةِ الهواءِ؛ لأن اللهَ (جل وعلا) هو الخالقُ لكلِّ شيءٍ. والطبائعُ لا يؤثرُ منها إلا ما شاء اللهُ أن يؤثرَ. وقد أجمعَ أهلُ الحقِّ وأهلُ الباطلِ جميعًا - عن بكرةِ أبيهم - أن المؤثرَ من حيث هو مؤثرٌ لا يَعْدُو عن ثلاثةِ أشياء: مؤثرٌ بالاختيارِ، ومؤثرٌ بالطبيعةِ، ومؤثرٌ بالعلةِ (¬1). والحقُّ من هذه المؤثراتِ واحدٌ، وهو المؤثرُ بالاختيارِ، وهو خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا) سبحانَه وحدَه، لاَ يمكنُ أن يقعَ تأثيرٌ في الدنيا ولا في الآخرةِ، ولا تسكينةٌ ولا تحريكةٌ إلا بمشيئتِه وقدرتِه (جل وعلا) فالتأثيرُ بالاختيارِ هو التأثيرُ الحقُّ، وهو تأثيرُ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي لا يمكنُ أن تقعَ تحريكةٌ ولا تسكينةٌ في الدنيا ولا في الآخرةِ، ولا أَيِّ شيءٍ كائنًا ما كان إلا عن قدرتِه وإرادتِه ¬

(¬1) انظر: الكليات ص279، موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 1346 - 1347.

ومشيئتِه - جل وعلا - وإنما قَسَّمُوا المؤثرَ - أهلَ الحقِّ وأهلَ الباطلِ - إلى مؤثرٍ بالاختيارِ، ومؤثرٍ بالطبيعةِ في زعمِ الطَّبَائِعِيِّينَ، ومؤثرٍ بالعلةِ في زعمِ الفلاسفةِ المعللين بِالْعِلَلِ؛ لأنهم يقولونَ: المؤثرُ من حيث هو مؤثرٌ إما أن يصحَّ منه التركُ، وإما أن لاَ. فهذانِ قِسْمَانِ لاَ ثالثَ لهما، وهو تقسيمٌ عَقْلِيٌّ؛ لأن حَصْرَ المُقَسَّمِ في الشيءِ ونقيضِه حصرٌ عَقْلِيٌّ كما هو معروفٌ في فنونِ البحوثِ والمناظراتِ؛ لأنهم يقولونَ: إما أن يصحَّ من المؤثرِ التركُ، وإما أن لا، فإن كان يصحُّ منه التركُ فهو المؤثرُ بالاختيارِ. وهذا واضحٌ؛ لأنه لَمَّا صَحَّ له أن يتركَ، وصحَّ له أن يفعلَ وقد أَثَّرَ وهو قادرٌ على تركِ التأثيرِ عَلِمْنَا أنه اختارَ أحدَ المقدورين على الآخَرِ، وهذا هو التأثيرُ الحقُّ، وهو تأثيرُ خالقِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، ولا تأثيرَ ألبتةَ في الحقيقةِ إلا هذا التأثيرَ بالاختيارِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ. أما النوعانِ الباطلانِ من المؤثراتِ وهما: التأثيرُ بالطبيعةِ، والتأثيرُ بالعلةِ فإنهم يقولونَ: إن كان المؤثرُ لا يصحُّ منه التركُ فله حالتانِ: إما أن يتوقفَ تأثيرُه على وجودِ شرطٍ وانتفاءِ مانعٍ، وإما أن لا، فإن توقفَ تأثيرُه على وجودِ الشرطِ وانتفاءِ المانعِ فهو الذي يُسَمِّيهِ الطبائعيونَ: (المؤثرَ بالطبيعةِ) وضابطُ تأثيرِ الطبيعةِ عندَهم: هو المؤثرُ الذي لاَ يصحُّ منه التركُ مع أن تأثيرَه يتوقفُ على وجودِ الشرطِ وانتفاءِ المانعِ. ومثالُه عندَهم: تأثيرُ النارِ بالإحراقِ، فهو تأثيرٌ بطبيعتِها؛ لأنَّ النارَ لاَ يصحُّ منها التركُ، وتأثيرُها قد يتوقفُ على وجودِ الشرطِ، وهو إبرازُ النارِ من كُمُونِهَا الأصليِّ في الزنادِ ونحوِه، وانتفاءُ المانعِ وهو أن لاَ يكونَ المانعُ الملاقِي للنارِ في أَوَّلِهَا مُنَافيًا

للإحراقِ، كأن يكونَ أول ما يلاقي الشهابَ الخارجَ من الزندِ الواري ماء، فإن الماءَ لاَ يؤثرُ فيه، أو يكونَ أول ما يلاقيه صخر لا يؤثرُ فيه. فهذا توقفٌ على وجودِ الشرطِ وانتفاءِ المانعِ، وهو الذي يسمونَه: (المؤثرَ بالطبيعةِ) مع أنه لا يصحُّ منه التركُ. أما إن كان لا يصحُّ منه التركُ ولا يتوقفُ تأثيرُه على وجودِ الشرطِ ولا على انتفاءِ المانعِ فهو الذي يسمونَه: (المؤثرَ بالعلةِ). ومثالُه عندَهم -قَبَّحَهُمُ اللَّهُ-: تأثيرُ حركةِ الأصبُعِ في حركةِ الخاتمِ؛ لأن الأصبُعَ إن كان فيه خاتمٌ فماذا تَحَرَّكَ الأصبعُ لا بد أن يتحركَ الخاتمُ. والفلاسفةُ يقولونَ: إن تأثيرَ وجودِ اللهِ في وجودِ المخلوقاتِ تأثيرٌ بالعلةِ، ومن هنا زعموا قدمَ هيولى العالَم؛ لأن المؤثرَ لا ينفكُّ عن أثرِه. ومذاهبُهم - قَبَّحَهُمُ اللهُ - باطلةٌ كُلُّهَا كفرياتٌ وإلحادياتٌ. ونعطيكم نماذجَ وأمثلةً على أن المؤثرَ في الحقيقةِ هو اللهُ، وأن اللهَ يسببُ ما شاءَ من المُسبَباتِ على ما شاء من الأسبابِ، ولو شاءَ انخرامَ السببِ لاَنْخَرَمَ. ألا تسمعونَ في تاريخِ القرآنِ أن نبيَّ اللهِ إبراهيمَ أُلْقِيَ في النارِ هو والحطبُ، والحطبُ شيءٌ صلبٌ شديدٌ قويٌّ، وجسمُ إبراهيمَ لطيفٌ لَيِّنٌ، والنارُ لا عقلَ عندَها تُمَيِّزُ به بينَ إبراهيمَ وبينَ الحطبِ، فَأَكَلَتْ بحرارتِها الحطبَ حتى جَعَلَتْهُ رمادًا، في عينِ الوقتِ الذي هي فيه بردٌ على إبراهيمَ، والطبيعةُ معنًى واحدٌ لاَ يتجزأُ أو لاَ ينقسمُ، فالطبيعةُ من المعانِي الأفرادِ التي لا يمكنُ أن تتجزأَ، ولاَ أن تنقسمَ، فالنارُ لو كان التأثيرُ بطبيعتِها لاَسْتَحَالَ أن تكونَ بَرْدًا على إبراهيمَ وَحَرًّا على الحطبِ حتى يصيرَ رمادًا، مع أنها معنًى واحدٌ وطبيعةٌ واحدةٌ. وذلك يدلُّ على أن المؤثرَ في الحقيقةِ هو

خالقُ السماواتِ والأرضِ لَمَّا قال للنارِ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا} [الأنبياء: آية 69] وخصصَ وقال: {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: آية 69] ولم يَقُلْ: «على الحطبِ» كانت على إبراهيمَ بَرْدًا إطاعةً لِمَالِكِ السماواتِ والأرضِ. والحطبُ الذي لم يُقَلْ لها أن تكونَ بردًا عليه كانت حَرًّا عليه فَأَحْرَقَتْهُ حتى كان رَمَادًا، وهو طبيعةٌ واحدةٌ، والطبائعُ لاَ تتجزأُ لأنها معنًى واحدٌ لاَ ينقسمُ، فَدَلَّ هذا على أن المؤثرَ في الحقيقةِ هو خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا). وزعمَ المفسرونَ أن اللَّهَ لو لم يَقُلْ: {وَسَلاَمًا} [الأنبياء: آية 69] لأهلكه البردُ من شدةِ بردِ النارِ عليه في الوقتِ الذي هي فيه حَرٌّ على الحطبِ تحرقُه حتى يكونَ رمادًا. فاللهُ يُسَبِّبُ ما شاءَ من الأسبابِ، على ما شاءَ من المُسَبِّباتِ، وهو المريدُ لكلِّ ذلك، الذي كُلُّ شيءٍ بمشيئتِه، لا يصدرُ أمرٌ إلا عن قُدْرَتِهِ وإرادتِه، وربما جعلَ السببَ مُضَادًّا للمسبِّبِ، وجعلَه سببًا في وجودِه، كما بَيَّنَّاهُ في سورةِ البقرةِ (¬1) لَمَّا أرادَ إحياءَ قتيلِ بَنِي إسرائيلَ أَمَرَهُمْ أن يذبحوا بقرةً حتى صارت بقرةً ميتةً، وأمرَ بقطعِ قطعةٍ منها وهي ميتةٌ فَضُرِبَ الميتُ بها فَحَيِيَ!! فمن أين للميتِ الحياةُ من قطعةِ لحمٍ ميتةٍ من بقرةٍ ميتةٍ؟ فهذا لا سببَ فيه يعقلُ، فلو كانت البقرةُ حَيَّةً لقالوا: سَرَتْ للميتِ الحياةُ من حياتِها. فهي قطعةٌ ميتةٌ، فَمِنْ أَيْنَ جاءت هذه الحياةُ من الضربِ بهذه القطعةِ الميتةِ؟ ومثلُ هذا يُبَيِّنُ اللهُ به أنه هو الذي يَرْبِطُ بينَ الأسبابِ ومسبباتِها، فالأسبابُ حَقٌّ، والربطُ بينَها وبينَ مسبباتِها حَقٌّ، وإنكارُه تلاعبٌ بِالدِّينِ، وجعلُها مستقلةً ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

بشيءٍ كُفْرٌ باللهِ (جل وعلا) وإلحادٌ في شَرْعِهِ، بل الحقُّ أن اللهَ هو خالقُ كُلِّ شيءٍ، ومسببُ ما شاءَ من [المسببات] (¬1) على ما شاءَ من الأسبابِ، هو الذي جَعَلَ تأثيرَ الإحراقِ في النارِ، وجعلَ تأثيرَ الريِّ في الماءِ، وجعلَ تأثيرَ الشبعِ في الخبزِ، وجعلَ تأثيرَ القطعِ في السكينِ. وهكذا فهو الخالقُ لكلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ بمشيئتِه وقدرتِه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى} [الأعراف: آية 57] كذلك الإخراجُ الذي أَخْرَجْنَا به النباتَ بعدَ الانعدامِ نخرجُ الموتَى من قبورِهم أحياءً للبعثِ. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: آية 57] (لعل) تأتِي في القرآنِ بِمَعْنَيَيْنِ (¬2)، قال بعضُ العلماءِ: هي على التَّرَجِّي، ولكن الترجِّي بحسبِ ما يظهرُ للناسِ، أما اللهُ فهو عَالِمٌ بما كان فلا يَصْدُقُ عليه الترجِّي، كقولِه لموسى وهارونَ: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: آية 44] أي: على رجائِكما وَعِلْمِ بَنِي آدمَ القاصرِ، أما اللهُ فهو عالمٌ أنه لا يذَّكر ولا يَخْشَى. الثاني: ما قاله بعضُ العلماءِ: إن كلَّ العللِ في القرآنِ مشمَّةٌ معنَى التعليلِ بمعنَى: لأَجْلِ. وعليه فـ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأَجْلِ أن تتذكروا وتتعظوا بآيتِنا وغرائبِ صُنْعِنَا وعجائِبِنا. و (لعل) تأتِي في لغةِ العربِ بمعنَى التعليلِ، وهو معروفٌ في كلامِهم، ومنهُ قولُ الشاعرِ (¬3): ¬

(¬1) في الأصل: «الأسباب» وهو سبق لسان. (¬2) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوثَقِ ... فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَشِبْهِ سَرَابٍ فِي الْمَلاَ مُتَأَلِّقِ وهذا معنَى قولِه: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قَرَأَهُ بعضُ السبعةِ: {تَذَكَّرُونَ} بحذفِ إحدى التَّائَيْنِ. والباقونَ: {تَذَكَّرُونَ} بإدغامِ التاءِ في التاءِ. ومعنَى: {تَذَكَّرُونَ} تتعظونَ بما أريناكم من غرائبِ صنعِنا وعجائبِه. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}. يقول اللهُ جل وعلا: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} [الأعراف: آية 58] لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ - جل وعلا - وَنَهَى في هذه الآيةِ الكريمةِ، وَبَيَّنَ عظائمَ آياتِه وبرهانَ عبادتِه وربوبيتِه أنه الربُّ وحدَه، والمعبودُ وحدَه، وَبَيَّنَ أنه أَنْزَلَ إلى هذه الخلائقِ كِتَابًا فصَّله على عِلْمٍ هدًى ورحمةً، بَيَّنَ هنا أن الناسَ الذين أُنْزِلَ عليهم هذا الكتابُ لهم شَبَهٌ بعنصرهم الأولِ وهو الأرضُ، وشبَّه الوحيَ الذي أنزلَه على نبينا صلى الله عليه وسلم بالمطرِ، فالوحيُ كثيرًا ما يُشبَّهُ بالمطرِ كما أَوْضَحْنَاهُ في سورةِ البقرةِ في الكلامِ على قولِه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} الآياتِ [البقرة: آية 19] فَكَمَا أن المطرَ يُحْيِي اللهُ به الأرضَ بعدَ موتِها وينبتُ به النباتاتِ والزروعَ والثمارَ، وَيُنْعِشُ به الحيواناتِ، وَيُهَيِّئ به لِبَنِي آدمَ مصالَحهم الدنيويةَ، فكذلك القرآنُ هو مطرُ أرضِ القلوبِ، إذا نزلَ مطرُ القرآنِ على أرضِ القلوبِ أَثْمَرَتِ

القلوبُ ثمراتِها الرائعةَ اليانعةَ من الإيمانِ باللهِ والتقوى والخشيةِ والإنابةِ والإيثارِ وطاعةِ اللهِ (جل وعلا) والخوفِ منه والانقيادِ لأوامرِه، والتباعدِ لنواهيه، فالقرآنُ مطرُ القلوبِ، والأرضُ كأنها المطرُ الذي يُثْمِرُ فيه القرآنُ، كما أن الأرضَ هي مطرُ السحابِ التي يُثْمِرُ فيها. فَضَرَبَ اللهُ المثلَ هنا لقلوبِ بَنِي آدمَ بِأَنَّ بَيْنَهُمْ شَبَهًا وبينَ الأرضِ؛ لأنها أصلُهم وعنصرُهم الذي خُلقوا منه، فإذا نزل المطرُ من السماءِ وأصابَ أرضًا طيبةً أَثَّرَ فيها أثرًا شَدِيدًا فأنبتتِ الزروعَ والحبوبَ والثمارَ والعشبَ والكلأَ الكثيرَ، وصارت تَرْفُلُ في حُلَلِ زِينَتِهَا من أنواعِ النباتاتِ. وإذا نزلَ المطرُ على أرضٍ سَبِخَةٍ خبيثةٍ لاَ تقبلُ النباتَ كلما ازدادَ نزولُ المطرِ عليها ازدادت خُبْثًا، لا تمسكُ ماءً عذبًا يُشْرَبُ منه، ولا تُنْبِتُ مرعًى يُرْتَعُ فيه، ولا ثمارًا ولا زروعًا تُؤْكَلُ، فهذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لقلبِ المؤمنِ وقلبِ الكافرِ، وضربَ المثلَ للقرآنِ بأنه مطرُ القلوبِ المثمرِ فيها، كما أن مطرَ السحابِ هو مطرُ الأرضِ المثمرُ فيها، قال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} [الأعراف: آية 58] أصلُ البلدِ الطيبِ من الأرضِ إذا صادفَه المطرُ الكثيرُ يخرجُ نباتُه بإذنِ رَبِّهِ أَحْسَنَ ما يكونُ، يخرجُ نباتُه نباتًا حسنًا فيه الزروعُ والثمارُ والأعشابُ والكلأُ وكلُّ ما ينتفع به الناسُ في أمورِ معاشِهم، هذا هو البلدُ الطيبُ، كذلك القلبُ الطيبُ إذا نَزَلَتْ عليه أمطارُ القرآنِ: زواجرُه ونواهيه ومواعظُه وحلالُه وحرامُه أثمرَ ذلك القرآنُ في ذلك القلبِ ثمراتٍ أحسنَ من ثمراتِ الأرضِ الطيبةِ إذا نزلَ عليها المطرُ، فأثمرَ الإيمانَ باللهِ، والتطهرَ من أدناسِ المعاصِي والكفرِ، وامتثالَ أَمْرِ اللهِ واجتنابَ نواهيه. وكلُّ خصلةٍ حسنةٍ يُثْمِرُهَا مطرُ القرآنِ في قلبِ المؤمنِ؛ كالخشيةِ من اللهِ، والتوبةِ عندَ الزلاتِ، والإنابةِ إليه،

والسخاءِ والشجاعةِ والرضا بقضاءِ اللهِ، والإيثارِ وعدمِ الشُّحِّ، إلى غيرِ ذلك من خصالِ الإسلامِ الكريمةِ الجميلةِ. {وَالَّذِي خَبُثَ} أي: والبلدُ الذي خَبُثَ كالبلدِ الذي يكونُ سَبِخًا خبيثًا لاَ يخرجُ نباتُه ولو تَتَالَتْ عليه الأمطارُ: {إِلاَّ نَكِدًا} إلا في حالِ كونِه نَكِدًا عسيرَ الخروجِ لاَ خيرَ فيه ولا منفعةَ فيه ألبتةَ، يخرجُ بِعُسْرٍ غايةَ العسرِ، ويخرجُ مَسْلُوبًا من الخيرِ والنفعِ. وأصلُ النَّكِدِ في لغةِ العربِ: العسيرُ، لا يخرجُ إلا في حالِ كونِه نَكِدًا، أي: عسيرَ الخروجِ، مسلوبَ الفائدةِ، لاَ يُنْتَفَعُ به في أَكْلِ الناسِ، ولاَ أَكْلِ الأنعامِ؛ إِذْ لاَ فائدةَ فيه، فكذلك قلبُ الكافرِ لاَ يُثْمِرُ إلاَّ نكدًا عسيرًا، ثمرةً لاَ فائدةَ فيها، كالأرضِ السبخةِ إذا كَثُرَتْ عليها الأمطارُ لاَ يُثْمِرُ شيئًا فيه فائدةٌ. وهذا المثلُ بَيَّنَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبِي موسى الأشعريِّ المتفقِ عليه بيانًا واضحًا، وفيه: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى كَمَثَلِ غَيْثٍ كَثِيرٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءُ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُنْبِتُ كَلأً وَلاَ تُمْسِكُ مَاءً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي الدِّينِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (¬1). والنبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ الصحيحِ الذي اتفقَ عليه مسلمٌ والبخاريُّ من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ (رضي الله عنه) بَيَّنَ أن ¬

(¬1) البخاري في العلم، باب فضل من عَلِمَ وعَلَّم. حديث رقم (79)، (1/ 175). ومسلم في الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم. حديث رقم (2282)، (4/ 1787).

قلوبَ البشرِ بالنسبةِ إلى أمطارِ القرآنِ ثلاثةُ أنواعٍ: قلبٌ كالأرضِ الطيبةِ إذا نزلت عليه أمطارُ القرآنِ أَنْبَتَ العشبَ والكلأَ الكثيرَ، معناه: أنه يثمرُ فيه القرآنُ ومواعظُه فيجمعُ بينَ العلمِ به والعملِ، فيتعلمُ معانيه، ويفهمُ حِكمَه، ويعملُ بها، وَيُعَلِّمُهَا غيرَه. وفي حديثِ البخاريِّ من حديثِ عثمانَ بنِ عفانَ (رضي الله عنه): «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» وفي روايةٍ في صحيحِ البخاريِّ: «إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (¬1) فهذه هي الطائفةُ الأُولَى من الطوائفِ الثلاثةِ التي شَبَّهَهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليه - بالأرضِ الطيبةِ القابلةِ للماءِ الْمُنْبِتَةِ للكلأِ والعشبِ الكثيرِ، فكذلك القلوبُ الطيبةُ تُثْمِرُ فيها مواعظُ القرآنِ الثمراتِ الكثيرةَ الطيبةَ، فترى صاحبَها خائفًا من اللهِ، طَامِعًا في فَضْلِ اللهِ، مُطِيعًا لِلَّهِ، مُتَبَاعِدًا عن معاصِي اللهِ، مُمْتَثِلاً جميعَ الأوامرِ، مُتَبَاعِدًا عن انتهاكِ شيءٍ من النواهِي، فهذه الطائفةُ الأُولَى. الطائفةُ الثانيةُ: ضَرَبَ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليه مَثَلاً بأنها كأنها أجادبُ ليس فيها مَرْعًى ولكن فيها منافعُ تمسكُ الماءَ فيسيلُ الماءُ ويحبسُ فيها فتكونُ مجتمعةً فيها مياهٌ كثيرةٌ، ثم هذه المياهُ ينفعُ اللَّهُ بها خلقَه: منهم مَنْ يأتي فيشربُ، ومنهم مَنْ يسقِي مواشيَه من هذا الماءِ، ومنهم مَنْ يُسَلِّطُهُ على زروعِه وبساتينِه فينتفعُ بهذا الماءِ. وهذه الطائفةُ هي التي حَفِظَتْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العلمَ الذي جاء به من القرآنِ والحديثِ الصحيحِ، ولم يكن عندهم من قوةِ الفهمِ ما يتفهمونَ في معانيه ويطلعونَ على أسرارِه وَحِكَمِهِ، ¬

(¬1) البخاري في فضائل القرآن. باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. حديث رقم (5028)، (9/ 74)، وذكر اللفظ الآخر قبله برقم (5027).

فَهُمْ كهذا المستنقعِ الذي أَمْسَكَ هذا الماءَ حتى انتفعَ به آخرونَ، فهم يحفظونَ ذلك العلمَ فيرويه عنهم فَطَاحِلُ علماء يقفونَ على أسرارِه ويفهمونَ معانيه ويستنبطونَ منه، فكذلك هذا الماءُ الذي أَمْسَكَتْهُ هذه الأجادبُ لم يُنبت هو فيه نفسه، ولكن الله نَفَعَ به الناسَ حيث شربوا منه وَسَقَوْا مواشيَهم وزروعَهم، كذلك هؤلاء يحفظونَ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما أَنْزَلَ اللهُ عليه، ولم تكن أفهامُهم بالغةً أفهامَ فطاحلِ العلماءِ، إلا أن العلماءَ يَرْوُونَهُ عنهم روايةً صحيحةً ثابتةً عنه صلى الله عليه وسلم، فيتفهمونَ في معانيه، ويقفونَ على أسرارِه، ويستنبطونَ منه وَيُبَيِّنُونَهُ للناسِ. هذه الطائفةُ الثانيةُ: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» (¬1) فَتَرَى بعضَ الأئمةِ العظامِ يروي حديثًا صحيحًا وبعضُ رواتِه ليس من أهلِ العلمِ، وليسَ من أهلِ الاستنباطِ والخوضِ في معانِي الكتابِ ¬

(¬1) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم: 1 - زيد بن ثابت. عند الترمذي في العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع. حديث رقم (2656)، (5/ 33)، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلغ علمًا، حديث رقم (230)، (1/ 84)، وهو في صحيح الترمذي (2139)، صحيح ابن ماجه (187)، السلسلة الصحيحة (403). 2 - ابن مسعود. عند الترمذي (في الموضع المتقدم من سننه) برقم (2657)، (2658)، (5/ 34)، وابن ماجه (في نفس الموضع المتقدم) برقم (232)، (1/ 85)، وهو في صحيح الترمذي برقم (2140)، وصحيح ابن ماجه برقم (189)، المشكاة (230). 3 - جبير بن مطعم. عند ابن ماجه (الموضع المتقدم) برقم (231)، (1/ 85)، وهو في صحيح ابن ماجه (188). 4 - أنس بن مالك. عند ابن ماجه (الموضع السابق) برقم (236)، (1/ 86)، وهو في صحيح ابن ماجه برقم (193).

وَالسُّنَّةِ، فيحفظُ عنه ذلك الفحلُ من فحولِ الأئمةِ ذلك الحديثَ مثلاً فيستنبطُ منه الأحكامَ، وَيُبَيِّنُ فيه الأسرارَ المشتملةَ عليه. الطائفةُ الثالثةُ: هي التي ضَرَبَ لها مثلاً بالأرضِ السبخةِ التي لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كلأً، وهذه مضروبةٌ لقلوبِ الكفارِ والمنافقين، كلما تَتَابَعَتْ عليهم المواعظُ وَسَمِعُوا آياتِ القرآنِ تُتْلَى وَأُسْمِعُوا مواعظَه وزواجرَه كان يَمُرُّ على قلوبِهم من غيرِ أن يستفيدوا شيئًا، كما أن تلك الأرضَ السبخةَ كُلَّمَا تَتَابَعَ عليها المطرُ لم تَزْدَدْ إلا خبثًا، لم تُمْسِكْ ماءً عذبًا يُشْرَبُ منه، ولم تُنْبِتْ للناسِ كلأً ولاَ عُشْبًا. فقلوبُ هؤلاءِ لم تَحْفَظْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا يُرْوَى عنهم حتى ينتفعَ به غيرُهم، ولم ينتفعوا بأنفسِهم مما سَمِعُوا منه صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ كالسباخِ التي لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلأً. وهذا مَثَلٌ عظيمٌ ضَرَبَهُ اللهُ، وَجَرَتِ العادةُ أن الكتبَ السماويةَ تَكْثُرُ فيها ضروبُ الأمثالِ؛ لأن المثلَ يُصيِّر المعقولَ كالمحسوسِ؛ ولذا قال اللهُ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: آية 21] وَبَيَّنَ أن الأمثالَ لاَ يفهمها عن اللهِ إلا أهلُ العلمِ حيث قال في العنكبوتِ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: آية 43] وَبَيَّنَ (جل وعلا) أنه لا يَسْتَحْيِي أن يضربَ مثلاً ما، كائنًا ما كان، وأن الأمثالَ التي يَضْرِب يهدي اللهُ بها قومًا أرادَ هداهم، وتكونُ سببًا لضلالِ آخَرِينَ أرادَ اللهُ إضلالَهم، فهي من فتنةِ اللهِ التي يُضِلُّ بها مَنْ يشاءُ ويهدي من يشاءُ، وذلك في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ثم قال:

{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: آية 26] هذه أمثالُ القرآنِ يهدي اللَّهُ بها من يريد هُدَاهُ، وما يضلُّ بها إلا الفاسقينَ. ولما سمعَ الكفارُ أن اللهَ يضربُ المثلَ بالكلبِ في قولِه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: آية 176] ويضرب المثلَ بالحمارِ في قولِه: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: آية 5] ويضربُ المثلَ بالذبابِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج: آية 73] وسمعوه يضربُ المثلَ بهذه الأشياءِ قالوا: اللهُ أعظمُ وأكبرُ وَأَنْزَهُ من أن يذكرَ الحمارَ والكلبَ والذبابَ والعنكبوتَ! فهذا الكلامُ الذي فيه هذه الحقيراتُ ليس من كلامِ اللهِ؛ لأن اللهَ أعظمُ من هذا. فَبَيَّنَ اللهُ أنه يضربُ الأمثالَ وَيُبَيِّنُ العلومَ العظيمةَ الجليلةَ في ضَرْبِ الأمثالِ في أمورٍ حقيرةٍ؛ وَلِذَا قال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} فترى الذبابَ من أحقرِ الأشياءِ ولكن المثلَ المضروبَ فيه من أعظمِ العلومِ؛ يُبَيِّنُ للناسِ أن المعبوداتِ من دونِ اللهِ بالغةٌ من التفاهةِ وعدمِ الفائدةِ ما يجعلُها لاَ تقدرُ على خلقِ ذُبَابٍ، وَلَوْ تَسَلَّطَ الذبابُ عليها فانتزعَ منها شيئًا ما قَدَرَتْ على أن تنتصفَ منه. وهذا من التحقيرِ والتصغيرِ للمعبودِ من دونِ اللهِ يقتضي عِلْمًا عظيمًا له قَدْرُهُ ومكانتُه، وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وإدراكُ أن ما سواه لا يُغْنِي شيئًا. وكذلك ضربُه المثلَ في العنكبوتِ لأنه يُبَيِّنُ أن بيتَ العنكبوتِ الذي تنسجه من خيوطِ رِيقِهَا لا يُغْنِي شيئًا عن أحدٍ، فكذلك المعبوداتُ من دونِ اللهِ. فالشيءُ في نفسِه حقيرٌ، والعلمُ المبينُ في ضربِ المثلِ فيه علمٌ عظيمٌ كريمٌ له مكانتُه وَقَدْرُهُ؛ ولذا قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا}. وبهذه الآياتِ وهذه الأمثالِ التي ذَكَرْنَا يجبُ على المسلمِ أن يخافَ من سَخَطِ اللَّهِ وأن يكونَ قلبُه كالأرضِ السبخةِ التي لاَ تنتفعَ بمواعظِ القرآنِ ولاَ بزواجرِه، ويسألُ اللهَ أن يجعلَ أرضَ قلبِه طيبةً قابلةً لمواعظِ القرآنِ وزواجرِه وأوامرِه ونواهيه؛ فإن مَنْ كانت أرضُ قلبِه طيبةً انتفعَ بمواعظِ هذا القرآنِ، وَنَفَعَتْهُ أوامرُه فَامْتَثَلَهَا، وزواجرُه فَاجْتَنَبَهَا، وأمثاله فَاعْتَبَرَ بها، وقصصَه فاعتبر بها. فَعَلَيْنَا جميعًا أن نسألَ اللهَ أن لا يجعلَ قلوبَنا كالأرضِ السبخةِ التي لا تنتفعُ بما ينزلُ عليها من أمطارِ الوحيِ، وأن يجعلَ أرضَ قلوبِنا كالأرضِ الطيبةِ القابلةِ للإثمارِ وإنباتِ العشبِ والكلأِ الكثيرِ والتأثرِ بآياتِ اللهِ (جل وعلا) لتثمرَ الخيرَ كُلَّهُ من الإيمانِ باللهِ وطاعتِه وامتثالِ أَمْرِهِ واجتنابِ نَهْيِهِ. وهذا معنَى قولِه: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: آية 58]. {كَذَلِكَ} التصريفُ. التصريفُ: قَلْبُ الشيءِ من حالٍ إلى حالٍ. واللهُ يبينُ لنا المواعظَ موعظةً بعدَ موعظةٍ، والآياتِ آيةً بعدَ آيةٍ في أسلوبٍ بعدَ أسلوبٍ. كذلك التصريفُ الذي صَرَّفْنَا لكم فيه هذه الآياتِ، وَبَيَّنَّا لكم ما يلزمُ، وَبَيَّنَّا لكم عِظَمَ قدرتِنا، وأدلةَ رُبُوبِيَّتِنَا وألوهيتِنا، وَضَرَبْنَا لكمُ الأمثالَ في مَنْ ينفعُ فيه ذلك وَمَنْ لاَ ينفعُ فيه، كذلك التصريفُ الموضحُ للآياتِ جملةً بعدَ جملةٍ، وآيةً بعدَ آيةٍ، كذلك التصريفُ {نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نأتِي بها على أنحاء مختلفةٍ، في أساليبَ مختلفةٍ لَعَلَّ اللَّهَ يهدي بذلك مَنْ يشاءُ. وقولُه: {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: آية 58] خَصَّ القومَ الذين يشكرونَ لأنهم هم المنتفعونَ بالآياتِ. كقولِه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ

مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] لأَنَّ مَنْ يخافُ الوعيدَ هو المنتفعُ به، كقولِه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: آية 45] {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: آية 11] {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ} [فاطر: آية 18] وما جَرَى مَجْرَى ذلك (¬1). وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬2) أن لفظةَ (القومِ) أنه اسمُ جمعٍ لاَ واحدَ له من لَفْظِهِ، وأنه يُطْلَقُ على خصوصِ الذكورِ بالوضعِ العربيِّ، وربما دَخَلَتْ فيه الإناثُ بحكمِ التبعِ، وَبَيَّنَّا أن الدليلَ على اختصاصِ لفظِ (القومِ) بالذكورِ قولُه تعالى في الحجراتِ: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} [الحجرات: آية 11] ثم عطفَ النساءَ على القومِ فقالَ: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} [الحجرات: آية 11] فَدَلَّ على عدمِ دخولِ النساءِ في القومِ بحسبِ الوضعِ العربيِّ، وَدَلَّ عليه أيضًا قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سلمى (¬3): وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ فَعَطَفَ النساءَ على القومِ، فَدَلَّ على أنهن غيرُ داخلاتٍ في اسمِ القومِ وَضْعًا؛ لأَنَّ الأصلَ عدمُ التكرارِ، وعدمُ عطفِ الشيءِ على ما هو أعمُّ منه أو أخصُّ إلا بدليلٍ. والدليلُ على دخولِ الإناثِ في القومِ بِحُكْمِ التبعِ قولُه تعالى في بلقيسَ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: آية 43] فَصَرَّحَ بأنها من قومٍ كَافِرِينَ. أَدْخَلَهَا في اسمِ القومِ تَبَعًا. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (80) من هذه السورة. (¬3) السابق.

وقولُه: {يَشْكُرُونَ} [الأعراف: آية 58] مفعولُه محذوفٌ، أي: يشكرونَ لله نِعَمَهُ. وهذه الآيةُ تُبَيِّنُ أن مِنْ أعظمِ إنعامِ اللهِ هو هذا القرآنُ العظيمُ وتصريفُ الآياتِ فيه وَبَيَانُهَا للناسِ؛ لأن أعظمَ النعمِ هو إنزالُ هذا القرآنِ العظيمِ وبيانُ ما فيه من الآياتِ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ، ومما يستجلبُ المعاطبَ والمخاوفَ، ومما يستجلبُ السلامةَ؛ وَلِذَا بَيَّنَ اللَّهُ أن إنزالَه فضلٌ كبيرٌ على الخلقِ لَمَّا قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وقسَّمهم فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وَبَيَّنَ أن إنزالَ القرآنِ العظيمِ أكبرُ فَضْلٍ، قال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: آية 32] أي: الفضلُ الكبيرُ من اللهِ عليهم حيثُ أَنْزَلَ لهم كتابَه يُتْلَى، مَحْفُوظًا، يُبَيِّنُ لهم ما يُقَرِّبُهُمْ إلى رَبِّهِمْ، وما يُبْعِدُهُمْ من النارِ، وما يهذبُ نفوسَهم ويربِّي أرواحَهم، ويرفعُ أخلاقَهم، وَيُبَيِّنُ لهم مكارمَ الأخلاقِ، إلى غيرِ ذلك؛ وَلِذَا قال هنا: {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} فَبَيَّنَ أن تفصيلَ الآياتِ لإيضاحِها في هذا القرآنِ نعمةٌ عُظْمَى من اللَّهِ يستحقُّ أن يُشْكَرَ عليها؛ وَلِذَا عَلَّمَ خَلْقَهُ أن يحمدوه على هذه النعمةِ العظمى التي هي إنزالُ القرآنِ، قال في أولِ الكهفِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)} [الكهف: آية 1] فقولُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} تعليمٌ من اللهِ لخلقِه أن يحمدوه أعظمَ الحمدِ على هذه النعمةِ العظمى الكبرى التي هي إنزالُ هذا القرآنِ العظيمِ، وأشارَ لذلك بقولِه هنا: {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬1) أن أصلَ الشكرِ في لغةِ العربِ رُبَّمَا يُرَادُ به: الظهورُ، وَلِذَا تُسَمِّي العربُ الغصنَ الذي يَنْبُتُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

في الجذعِ الذي كان مقطوعًا تُسَمِّيه (شكيرًا) لأنه ظَهَرَ [10/ ب] بعدَ أن لم يكن هناك شيءٌ ظاهرٌ، وتقول العربُ: ناقةٌ شكورٌ. إذا كان / يظهرُ عليها آثارُ السِّمَنِ. والمرادُ به في اللغةِ: أن يكونَ أثرُ نِعَمِ اللَّهِ ظاهرًا على عَبْدِهِ، فلاَ يجحدُه ولا يكفرُ به، ولاَ يجحدُ نِعَمَهُ، ولا يستعينُ بها على ما لا يُرْضِيهِ. وقد بَيَّنَّا أن القرآنَ جاء فيه شكرُ الربِّ لعبدِه وشكرُ العبدِ لِرَبِّهِ (¬1). جاء شكرُ الربِّ لعبدِه في قولِه: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 158] {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: آية 34] وشكرُ العبدِ لربه كقولِه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] وقولِه هنا: {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: آية 152] وَبَيَّنَّا أن بعضَ العلماءِ يقولُ: إن شكرَ الربِّ لعبدِه هو أن يثيبَه الثوابَ الجزيلَ من عملِه القليلِ. وشكرُ العبدِ لربِّه: هو أن يستعملَ نِعَمَهُ في مرضاةِ رَبِّهِ، فنعمةُ العينِ: أن لا ينظرَ بها إلا فيما يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وامتنَّ بها، وشكرُ نعمةِ اليدِ أن لا يبطشَ بها إلا فيما يُرْضِي مَنْ خلقها وَامْتَنَّ بها، وشكرُ نعمةِ الرِّجْلِ: أن لاَ يمشيَ بها إلا إلى ما يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَامْتَنَّ بها، وشكرُ المالِ: أن لاَ يستعينَ به ويصرفَه إلا فيما يُرْضِي مَنْ خَلَقَهُ وَامْتَنَّ به، وهكذا. وَبَيَّنَّا أن العبدَ الذي يستعينُ بِنِعَمِ اللَّهِ على معاصِي اللهِ أنه بالغٌ من اللؤمِ والوقاحةِ شيئًا لا يقادر قدره، فَمِنْ أعظمِ الناسِ لؤمًا، وأشدِّهم وقاحةً، وأقلهم حياءً هو مَنْ يستعملُ نِعَمَ خالقِ السماواتِ والأرضِ التي أَنْعَمَهَا عليه يستعملُها ويستخدمُها في معصيتِه وفيما يسخطه. فهذا الإنسانُ ليس في وجهِه ماءٌ يستحي به، ¬

(¬1) السابق.

فهو من أقلِّ الناسِ حياءً وَأَلأَمِهِمْ وَأَخَسِّهِمْ، وكيف يجملُ بعبدٍ مسكينٍ ضعيفٍ أن يُنْعِمَ عليه خالقُ السماواتِ والأرضِ نِعَمَهُ الكثيرةَ بفضلِه ورحمتِه ثم يستعينُ بِنِعَمِ خالقِه على معصيةِ خالقِه وما يُسْخِطُ خالقَه، فهذا أقبحُ اللؤمِ وأخسُّه، وصاحبُه أقلُّ الناسِ حياءً وأشدُّهم وقاحةً. وَبَيَّنَّا أن (¬1) مادةَ (شكر) في لغةِ العربِ أنها تتعدى إلى النعمةِ بنفسِها بدونِ حرفِ الجرِّ. تقولُ: شكرتُ نعمةَ اللهِ. وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه. ومنه قولُه: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: آية 19] فإذا كان الشكرُ شكرَ نعمةٍ تَعَدَّى إليه الفعلُ بنفسِه بِلاَ خلافٍ. أما شكرُ المنعمِ فاللغةُ الفصحى التي نَزَلَ به القرآنُ أن يُعَدَّى الشكرُ إلى المنعمِ باللامِ فتقولُ: «شُكْرًا لك». وتقولُ: «أنا أشكرُ لَكَ» ولاَ تقول: «أنا أَشْكُرُكَ». وتقول: «نحمدُ اللهَ ونشكرُ له» ولا تقول: «ونشكره». وهذه هي اللغةُ الفصحى، تعديتُه باللامِ هي اللغةُ الفصحى التي لا شكَّ في أنها أفصحُ، وهي لغةُ القرآنِ؛ لأنه ما جاء في القرآنِ مُعَدًّى إلى المنعمِ إلا باللامِ، كقولِه: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان: آية 14] {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: آية 152] {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] ولم يَقُلْ في آيةٍ واحدةٍ: اشكرني. بتعديةِ الفعلِ إلى المفعولِ دونَ اللامِ. ومن هنا شَذَّ قومٌ من علماءِ العربيةِ فقالوا: (أحمدُه وأشكرُه) لَحْنٌ، ولا يجوزُ (وأشكره) وإنما يجوزُ: (وأشكر له) ولكنهم غلطوا؛ لأن اللغةَ الفصحى هي (وأشكر له) ولكن (وأشكره) بتعديةِ الفعلِ إلى المنعمِ بلاَ واسطةِ حرفِ جرٍّ لغةٌ معروفةٌ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، وقد بَيَّنَّا فيما مضى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

شواهدَها. ومن شواهدِها قولُ أبي نخيلةَ (¬1): شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى ... وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي فهذا الشاعرُ الفصيحُ. قال: «شكرتُك» بالكافِ ولم يَقُلْ: «شكرتُ لك» ومنه قولُ جميلِ بنِ معمرٍ في شعرِه المشهورِ (¬2): خَلِيلَيَّ عُوجَا الْيَوْمَ حَتَّى تُسَلِّمَا ... عَلَى عَذْبَةِ الأَنْيَابِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ ... فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُمَا لِي سَاعَةً ... شَكَرْتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي قَبْرِي فقال: «شكرتُكما» ولم يَقُلْ: «شكرتُ لكما» فَتَبَيَّنَ من هذا أن مادةَ (شكر) تَتَعَدَّى إلى النعمةِ مفعولاً بنفسها، وإلى المنعمِ باللامِ في اللغةِ الفصحى، وربما تَعَدَّتْ إلى المنعمِ بنفسِها بدونِ حرفِ جَرٍّ. وهذا معنَى قولِه: {نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: آية 158]. والتفصيلُ ضِدُّ الإجمالِ (¬3)، أي: نَأْتِي بها مفصلةً مفصلةً، آيةً بعدَ آيةٍ، وموعظةً بعدَ موعظةٍ، في أسلوبٍ بعدَ أسلوبٍ. {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نِعَمَنَا في ذلك البيانِ؛ لأَنَّ بيانَ اللهِ فيما ينفعُ وما يضرُّ من أعظمِ مِنَنِهِ وَنِعَمِهِ على خَلْقِهِ. وهذا معنَى قولِه: {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) قرأ الشيخ (رحمه الله) الآية: (نفصل) وهي: (نصرف) ثم فسرها بناء على ذلك.

الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62)}. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف: آية 59] قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا الكسائيَّ: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهِ} وَقَرَأَ الكسائيُّ من السبعةِ: {ما لكم من إلهٍ غَيْرهِ} (¬1). وقرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: {إنيَ أخاف عليكم} بفتحِ ياءِ المتكلمِ. وقرأَ الباقونَ: ... {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بإسكانِ الياءِ (¬2). والجميعُ لغةٌ. أما قراءةُ الكسائيِّ: {ما لكم من إله غَيْرِه} فـ (غَيْرِه) نعتٌ للإلهِ وهو مجرورٌ بـ (من). وأما على قراءةِ الجمهورِ: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فالنعتُ راجعٌ للمحلِّ؛ لأَنَّ الأصلَ: (ما لكم إله غيره) فَجُرَّ المبتدأُ بـ (من) لتوكيدِ النفيِ، فهو مخفوضٌ لفظًا مرفوعٌ مَحَلاًّ، والتابعُ للمخفوضِ لفظًا المرفوعُ محلاًّ يجوزُ رفعُه نظرًا إلى المحلِّ، وخفضُه نَظَرًا إلى اللفظِ كما هو معروفٌ في علمِ العربيةِ (¬3). واللامُ في قولِه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا} هي جوابُ قسمٍ محذوفٍ: واللهِ لقد أرسلنا. وهذه اللامُ الموطئةُ للقسمِ إذا جاءت مع الفعلِ الماضِي لا تكادُ العربُ تُجَرِّدُهَا من (قد)، تأتِي معها بـ (قد) التحقيقيةِ دائمًا، حتى زَعَمَ بعضُ العلماءِ أن (قد) واجبةٌ معها إن كانت بعدَ اللامِ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص210. (¬2) المصدر السابق ص219، الإتحاف (2/ 53). (¬3) انظر: حجة القراءات ص286، الإتحاف (2/ 52).

الموطئةِ للقسمِ قبلَ فعلٍ مَاضٍ. والتحقيقُ أنه لغةٌ فصحى كثيرةٌ ربما نَطَقَتِ العربُ بغيرِها فجاءت باللامِ والماضي دونَ (قد)، وهو مسموعٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ امرئِ القيس (¬1): حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلفْةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا فَمَا إِنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلاَ صَالِي ولم يقل: لقد ناموا. واللهِ {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} {نُوحًا} هو نبيُّ اللهِ نوحٌ عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ. والمؤرخونَ يقولونَ: إنه ابن لمك بن متوشَلَخ بن خنوخ، ويزعمونَ أن خنوخَ هو إدريسُ، وأن نوحًا من ذريةِ إدريسَ. هكذا ذَكَرَهُ غيرُ واحدٍ من المفسرين (¬2). وأن إدريسَ قَبْلَ نوحٍ، وجاء في بعضِ رواياتِ حديثِ الإسراءِ ما يدلُّ على أن نوحًا ليس من ذريةِ إدريسَ، لأنه إذا سَلَّمَ على أجدادِه كإبراهيمَ ونوحٍ وَمَنْ جرى مجرَاهم يقولونَ: مَرْحبًا بالنبيِّ الصالحِ والابنِ الكريمِ. وإدريسُ لم يَقُلْ مرحبًا بالنبيِّ الصالحِ والابنِ، وإنما قال: والأخِ. كما جاءَ في بعضِ رواياتِ حديثِ المعراجِ (¬3) كما هو معروفٌ، وأكثرُ المؤرخين على هذا. ونوحٌ هو أولُ نَبِيٍّ بعثَه اللهُ في الأرضِ بعدَ أن صارَ الكفرُ في الأرضِ، وَعُبِدَتْ فيها الأصنامُ، وَعُبِدَ فيها غيرُ اللهِ. فأولُ رسولٍ أُرْسِلَ بمنعِ عبادةِ الأصنامِ وتوحيدِ اللهِ بعبادتِه هو نبيُّ اللهِ نوحٌ عليه وعلى نبيِّنا الصلاةُ والسلامُ، وقد ثَبَتَ في أحاديثِ الشفاعةِ التي تكادُ ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص125، و «الصالي»: المستدفئ بالنار. (¬2) مضى عند تفسير الآية (84) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (161) من سورة الأنعام.

أن تكونَ متواترةً أن آدمَ يقولُ لهم: اذهبوا إلى نوحٍ فإنه أولُ نبيٍّ بعثَه اللهُ في الأرضِ (¬1). وَذَكَرَ المؤرخونَ وأصحابُ الأخبارِ أن بَيْنَ نوحٍ وآدمَ عشرةُ قرونٍ كُلُّهَا كانت على دينِ الإسلامِ، وكان في قومِ نوحٍ رجالٌ صالحونَ من أفاضلِ الناسِ في العبادةِ والزهدِ وطاعةِ اللهِ، وهم: وَدّ، ويغوث، ونَسْر، ويعوق (¬2)، فلما ماتوا صَوَّرَ قومُهم صورَهم وَبَنَوْا عليهم مساجدَ، وصاروا إذا نظروا إلى صُوَرِ أولئك الصالحين بَكَوْا بكاءً شديدًا ونشطوا في العبادةِ لِمَا يعلمونَ من صلاحِ أولئك القومِ وما كانوا عليه من العبادةِ، فَتَطَاوَلَ بهم الزمانُ حتى مات أهلُ العلمِ وَبَقِيَ الجهالُ فجاءهم الشيطانُ فقال لهم: إنما كانوا يعبدونَ هؤلاء وَيُسْقَوْنَ بها. فعبدوهم، وذلك أولُ كفرٍ وقعَ في الأرضِ. وَعُلِمَ بذلك أن أولَ كفرٍ وقع في الأرضِ إنما جاءَ عن طريقِ التصويرِ، فكثيرٌ من الناسِ الذين لا يفهمونَ يقولونَ: هؤلاء الْمُنْتَسِبُونَ للعلمِ يُشَدِّدُونَ النكيرَ في التصاويرِ وَيُحَرِّمُونَ التصويرَ، والتصويرُ ليس فيه جنايةٌ على مالٍ، ولا على نَفْسٍ، ولا على عِرْضٍ، فَأَيُّ ذنبٍ عظيمٍ في التصويرِ، وَأَيُّ بأسٍ فيه؟ ويظنونَ لجهلهم أن أمرَه خفيفٌ. والتصويرُ له أثرُه البالغُ في إفسادِ الدنيا وإفسادِ الدينِ أَوَّلاً وَآخِرًا، أما أولاً: فالتصويرُ هو سببُ أولِ كفرٍ وَقَعَ في الأرضِ تحتَ السماءِ، أولُه تصويرُ صورِ أُولئك القومِ الصالحين الذين صَوَّرُوهُمْ بقصدٍ حَسَنٍ، وكانوا إذا رأوا صورَهم بَكَوْا وأنابوا إلى اللهِ، وجَدُّوا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) لم يذكر سواعًا.

في العبادةِ بما كانوا يعلمونَ من صلاحِ أولئك القومِ الذين صَوَّرُوا صُوَرَهُمْ، ثم تطاولَ بهم الزمانُ إلى أن كَانَتْ تلك الصورُ أوثانًا تُعْبَدُ من دونِ اللهِ؛ ولذا عَارَضُوا نبيَّ اللهِ نوحًا في عبادتهم أشدَّ المعارضةِ: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: الآيتان 23، 24] فَعُلِمَ أن التصويرَ كان أولَ جنايةٍ شركيةٍ وَقَعَتْ في الدنيا. وهذا الأثرُ السيئُ التاريخيُّ يدلُّ على عِظَمِ شَرِّهِ قَبَّحَهُ اللهُ. وكذلك في الآخِرِ كان من أعظمِ الأسبابِ التي ضَيَّعَتْ أخلاقَ المسلمين وَذَهَبَتْ بعقولهم ومكارمهم؛ لأن الذين يريدونَ ضياعَ الإسلامِ يَسْعَوْنَ كُلَّ السعيِ في أن يُصوروا النساءَ عارياتِ الفروجِ، ويطبعونَ صُوَرَهَا في الصحفِ والمجلاتِ، ويرسلونَها لأقطارِ الدنيا. فإذا رأى الشابُّ الغِرُّ المسكينُ صورةَ فرجِ الخبيثةِ بَادِيًا تَحَرَّكَتْ غريزتُه، وقامت شهوتُه، وَسَافَرَ إلى البلادِ التي تُمْكِنُهُ فيها الحريةَ وإشباعَ رغبتِه الغريزيةِ التي لم يُقَيِّدْهَا تقوى، ولم يَزُمَّهَا إيمانٌ ولا ورعٌ ولا مروءةٌ. فصارَ التصويرُ في الأحوالِ الراهنةِ له أيضًا أثرُه البالغُ في ضياعِ الأخلاقِ، وانتشارِ الرذيلةِ، والقضاءِ على مكارمِ الأخلاقِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - ويكفيه أن الله (جل وعلا) له الأسماءُ الحسنى، والصفاتُ العلى، ومن أسمائِه العظيمةِ التي تَحْتَهَا غرائبُ وعجائبُ تُفَتِّتُ الأكبادَ: اسمُه (المصورُ) جل وعلا، فهو جل وعلا من أسمائِه الأزليةِ التي سَمَّى بها نفسَه (المصور) واسمُه (المصور) تحتَه من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِ قدرتِه ما يُبْهِرُ العقولَ لِمَنْ كان له عقلٌ أو أَلْقَى السمعَ وهو شهيدٌ، ومما يوضحُ عظمةَ هذا الاسمِ وما يشيرُ إليه من كمالِ قدرةِ اللَّهِ وَعِظَمِ عِلْمِهِ وإحاطتِه بكلِّ شيءٍ أن ينظرَ

الواحدُ منكم إلى الحجيجِ يومَ جمرةِ العقبةِ فيجدُ الناسَ بهذه الكثرةِ العظيمةِ مع اختلافِ ألوانِهم وأشكالِهم وبلادِهم وهيئاتِهم، ويجد الجميعَ مَصْبُوبِينَ صَبَّةً واحدةً، الأنفُ موضوعٌ في مَحلِّهِ، والعينانِ في محلهما، والأُذُنَانِ في محلِّهما، والفمُ في محلِّه، وكلُّ عضوٍ موضوعٌ في موضعِه من الجميعِ. واللهُ يصورُ كلَّ واحدٍ منهم صورةً مستقلةً يطبعه عليها بعلمِه وقدرتِه لا يشاركُه فيها أحدٌ ألبتةَ، فلا يَشْتَبِهُ منهم اثنانِ، وكلُّ صورةٍ طُبِعَ عليها واحدٌ منهم فهي كانت في عِلْمِهِ الأزليِّ قبلَ أن يقعَ ذلك الإنسانُ، فلما وقعَ وقعَ مُصَوَّرًا بالصورةِ التي كانت مهيأةً له في العلمِ السابقِ، ولو جاءَ ملايينُ أضعافَ الحصى من البشرِ لم يَضِقْ علمُ اللَّهِ عن أن يخترعَ لكلِّ واحدٍ منهم صورةً تَخُصُّهُ لاَ يشاركُه فيه غيرُه، حتى إن أصواتَهم لم تتشابه، وآثارَهم في الأرضِ لا يختلطُ بعضُها ببعضٍ، وبصماتُ أصابعِهم في الأوراقِ لاَ يُشَابِهُ بعضُها بعضًا عندَ مَنْ يعرفُ ذلك، فاللهُ سَمَّى نفسَه (المصورَ) لِمَا تحتَه من هذه الأسرارِ العظامِ والعجائبِ والغرائبِ التي تُبْهِرُ العقولَ، فيأتي هذا الإنسانُ الضعيفُ المسكينُ لِيُنْزِلَ نفسَه منزلةَ العظيمِ الجبارِ المصورِ ويفعلُ كفعلِه؛ ولذا جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تشديدِ عذابِ الْمُصَوِّرِينَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أنهم أشدُّ الناسِ عذابًا، وأن ما صَوَّرُوهُ في الدنيا يُؤْمَرُونَ بأن يُحْيُوهُ وَيُعَذَّبُونَ عليه عذابًا شديدًا. والحاصلُ أن التصويرَ هو سببُ أولِ شركٍ وَقَعَ في الدنيا، وله أثرُه الفعَّال الآنَ في فسادِ الأخلاقِ، وضياعِ شبابِ المجتمعِ كما هو معروفٌ؛ لأَنَّ مِنْ أعظمِ أسبابِ الفسادِ وتغييرِ فِطَرِ شبابِ المسلمين أن يَرَوْا في أوراقِ الصحائفِ والمجلاتِ فروجَ النساءِ - صورها - عارياتٍ، فإذا رأى صورةَ المرأةِ على هيئتِها متجردةً من كُلِّ شيءٍ،

باديةَ الفرجِ، فلا شكَّ أن الشبابَّ الذي ليس عقلُه مَزْمُومًا بإيمانٍ كاملٍ، وورعٍ ومروءةٍ تَامَّةٍ أن ذلك يُحَرِّكُ غريزتَه ويهيجُ طبيعتَه، فتراهم كثيرًا يسافرونَ باسمِ العلاجِ، وباسمِ كذا وكذا من الأعذارِ الكاذبةِ، وإنما مقصدُهم في الحقيقةِ هو أن يُشْبِعُوا رغباتِهم الغريزيةَ مما عَايَنُوا مُنْتَشِرًا من الفسادِ في قعرِ بلادِهم نعوذُ بالله من ذلك، وهذا معنَى قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: آية 59]. ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أن قومَ نوحٍ كانوا خَلْقًا كثيرًا مُنْتَشِرِينَ في أقطارِ الدنيا. وبعضُهم يقولُ: إنهم كانوا في بعضِ الأرضِ دونَ بعضِها. ولم يَقُمْ دليلٌ صحيحٌ على عددِهم وكثرتِهم، وهل كانوا يشغلونَ جميعَ نواحِي المعمورةِ أو بعضًا منها؟ ولم يَأْتِ مَنْ هُمْ. واللهُ في القرآنِ لم يُسَمِّهِمْ إلا بقومِ نوحٍ. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} يعنِي: بعدَ أن عَبَدُوا الأصنامَ، وَعَبَدُوا صورَ أولئك الصالحينَ: وَدًّا ويغوثَ ويعوقَ ونسرًا، وبعدَ أن فَعَلُوا ذلك أَرْسَلَ اللهُ إليهم نبيَّه نوحًا ليتركوا عبادةَ الأصنامِ ويعبدُوا اللهَ وحدَه، فقال لهم نوحٌ: {يَا قَوْمِ} [الأعراف: آية 59] حَذَفَ ياءَ المتكلمِ، والأصلُ: (يا قومي) والمنادَى المضافُ إلى ياءِ المتكلمِ أصلُه فيه الخمسُ اللغاتِ المعروفةِ (¬1) منها حذفُ ياءِ المتكلمِ. {اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: آية 59] أصلُ العبادةِ في لغةِ العربِ (¬2): الذلُّ والخضوعُ، فكلُّ خاضعٍ ذليلٍ تُسَمِّيهِ (عابدًا) وَكُلُّ ما خُضِّعَ وَذُلِّلَ فَقَدْ عُبِّدَ، ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ في مُعَلَّقَتِهِ (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المفردات (مادة: عبد) ص542. (¬3) شرح القصائد المشهورات (1/ 60). وقوله: «تباري» أي: تعارض. والعتاق: الكرام. والناجيات: السريعات. والوظيف: عظم الساق. والمور: الطريق. والمعَبَّد: المذلَّل.

تُبَارِي عِتاقَ النَّاجِيَاتِ وَأَتْبَعَتْ ... وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ أَيْ: فوقَ طريقٍ مُذَلَّلٍ بأقدامِ المشاةِ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ. والعبادةُ في اصطلاحِ الشرعِ (¬1): هي التقربُ إلى اللهِ (جل وعلا) وإفرادُه بذلك التقربِ والعبادةِ في جميعِ ما أَمَرَ أن يُتَقَرَّبَ إليه به على سبيلِ الذلِّ والخضوعِ والمحبةِ، فلا يكفي الذلُّ والخضوعُ دونَ المحبةِ، ولا تكفي المحبةُ دونَ الذلِّ والخضوعِ، فلا بد من الجمعِ بينَ الأَمْرَيْنِ. فإن كان الذلُّ والخضوعُ دونَ محبةٍ فالذليلُ الخاضعُ قد يكونُ مُبْغِضًا كَارِهًا لِمَنْ أَذَلَّهُ وأخضعَه، وَمَنْ أَبْغَضَ رَبَّهُ وَكَرِهَهُ فهو في دركاتِ النارِ. والمحبةُ وحدَها إذا لم يكن معها خوفٌ قد يتجرأُ صاحبُها ويكونُ ذَا دلالٍ فيتجرأُ على المقامِ الأقدسِ بما لا يَنْبَغِي. فلا بدَّ أن تكونَ هناكَ محبةٌ، وأن يكونَ هناك خوفٌ وَذُلٌّ وخضوعٌ لله. وضابطُها: هي التقربُ إلى اللهِ بما أَمَرَ أن يُتَقَرَّبَ إليه به بإخلاصٍ، على النحوِ الذي شَرَعَ، فلا يرضى اللهُ أن يعبدَ بغيرِ ما شَرَعَ. فلا بد أن تكونَ بما شَرَعَ مطابقة للشرعِ، مُخلَصًا فيها لله وحدَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 59] ليس لكم من إِلَهٍ غيره. قولُه هنا: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ} [الأعراف: آية 59] أصلُه مبتدأٌ زِيدَتْ قَبْلَهُ (من) والمقررُ في فَنِّ الأصولِ: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ ظاهرةٌ في العمومِ، أما إذا دَخَلَتْ عليها (مِنْ) الْمَزِيدَةِ لتوكيدِ النفيِ ¬

(¬1) انظر: الكليات ص583.

فإنها تنقلُها من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ (¬1). فلو قيل: «ما لكم إلهٌ غيره» كان ظاهرًا في العمومِ. فإن قيل: «ما لكم من إله غيره». كان نصًّا صريحًا في العمومِ، وقد تُزَادُ (مِنْ) قبلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ لتنقلَه من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ، تَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا هكذا بهذا المعنَى في اللغةِ العربيةِ في ثلاثةِ مواضعَ لاَ رابعَ لها (¬2): الأولُ: أن تُزَادَ قبلَ المبتدأِ كما هنا، كقولِه: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أصلُه: (ما لكم إلهٌ غيره). الثانِي: أن تزادَ قبلَ الفاعلِ، نحو: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} [المائدة: آية 19]، الأصلُ: (ما جاءنا بشير) فالمجرورُ بها فاعلٌ أصلاً. الثالثُ: أن تزادَ قبلَ المفعولِ به، نحو: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} [الأنبياء: آية 25] الأصلُ: (وما أرسلنا من قبلك رسولاً). {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 59] على قراءةِ الجمهورِ فِي {غَيْرُهُ} نعتٌ لِمَحَلِّ الإلهِ؛ لأن أصلَه مرفوعٌ. وعلى قراءةِ الكسائيِّ فهو نعتٌ للفظِ الإلهِ؛ لأنه مجرورٌ بـ (مِنْ) (¬3) وقد قَدَّمْنَا أن (الإلهَ). (فِعَال) بمعنَى (مفعولٍ) أي: معبودٌ، فالإِلَهَةُ في اللغةِ: العبادةُ. والإلهُ: المعبودُ. وفي قراءةِ ابنِ عباسٍ: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص210، حجة القراءات ص 286.

أي: وعبادتك. فالإلهُ معناه المعبودُ الذي يعبدُه خَلْقُهُ بِذُلٍّ وخضوعٍ ومحبةٍ إليه (جل وعلا). وقد قَدَّمْنَا أن إتيانَ (الفِعَالِ) بمعنَى (المفعولِ) مسموعٌ في اللغةِ وليس بِمُطَّرِدٍ، ومنه: (إله) بمعنَى: مألوه، و (كتاب) بمعنَى: مكتوبٍ، و (لباس) بمعنَى: ملبوس، و (إمام) بمعنَى: مُؤْتَمٍّ به، في أوزانٍ معروفةٍ، وهذا معنَى: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬1). {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: آية 59] {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تُفْرِدُوا رَبَّكُمْ بالعبادةِ وَتُخْلِصُوا له بالعبادةِ وتتركوا عبادةَ الأوثانِ: {أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن متم على ذلك {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو [يومُ القيامةِ، يعنى] (¬2) أن مَنْ مات يعبدُ غيرَ اللهِ لَقِيَهُ العذابُ العظيمُ. والعظيمُ هنا نعتٌ لليومِ، خِلاَفًا لِمَنْ زَعَمَ أنه نعتٌ للعذابِ جُرَّ بالمجاورةِ؛ لأن مِنْ عَادَةِ العربِ أن تُنَوِّهَ بالأيامِ وتُشنِّعَهَا مع أنها ظروفٌ وأزمانٌ نَظَرًا لِمَا يَقَعُ فيها. يقولونَ: يومٌ ذُو كواكبَ، يومٌ أشنعُ، يومٌ عصيبٌ. ومنه قولُ نَبِيِّ اللهِ لوطٍ: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77] ونظيرُه قولُ الشاعرِ (¬3): وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ ... وقَدْ سَلَكوُكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ ومنه قولُه تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: آية 17 - 18] فاليومُ (¬4) تُذَكِّرُهُ العربُ وتُهوِّلُ شأنَه نَظَرًا لِمَا يقعُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬4) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

فيه، أما نفسُ اليومِ في حَدِّ ذاتِه فهو ظرفٌ من الظروفِ، وإنما المرادُ تهويلُه بما يقعُ فيه. وهذا معنَى: {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: آية 59] والآيةُ لها صُورَتَانِ: إن كان مقصودُه أنه يخافُ عليهم عذابَ يومٍ عظيمٍ في دارِ الدنيا وقتَ طَمَعِهِ في إيمانِهم فلاَ إشكالَ في الآيةِ. ومعنَى خوفِه عليهم: أنه يخافُ ألا يتوبوا فيموتوا كافرين. فيكونُ الخوفُ في موقعِه، وهو أنهم في دارِ الدنيا يحتملُ أن يؤمنوا فلا يُعذبوا، ويُخاف أن يتمادوا على الكفرِ حتى يَمُوتُوا فيعذبوا. فيكونُ الخوفُ في موقعِه. وعلى قولِ مَنْ يقول: أخافُ عليكم العذابَ إن متم على الكفرِ فيتعينُ أن تُحمل (أخافُ) بمعنَى أعلمُ؛ لأن نوحًا عَالِمٌ كُلَّ العلمِ بأنهم إن ماتوا كُفَّارًا عُذِّبوا عذابًا عظيمًا لاَ شَكَّ فيه. والعربُ تُطْلِقُ الخوفَ وتريدُ به العلمَ كما هو معروفٌ في لغتِها. وقال بعضُ العلماءِ: منه قولُه: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: آية 229] قالوا: معناه: إلا أن يَعْلَمَا {فَإِنْ خِفْتُمْ}: فإن عَلِمْتُمْ. وقد ذَكَرْنَا مرارًا أن مِنْ شَوَاهِدِ إتيانِ الخوفِ بمعنَى العلمِ قولُ أبي مِحْجَنٍ الثقفيِّ في أبياتِه المشهورةِ (¬1): إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمةٍ ... تُروِّي عِظَامِي بِالْمَمَاتِ عُرُوقُهَا ... وَلاَ تَدْفِنَنِّي بِالْفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مُتُّ أَلاَّ أَذُوقَهَا وهو يعلمُ عِلْمًا يقينًا أنه إذا ماتَ ليس شاربًا للخمرِ بعدَ موتِه كما لاَ يَخْفَى. وهذا معنَى قولِه: {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

فأجابه قومُه شَرَّ جوابٍ وَأَخَسَّهُ وأقبحَه: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف: آية 60] الملأُ: أشرافُ الجماعةِ وَذُكُورُهَا الذين ليس فيهم امرأةٌ. قيل سُمُّوا (ملأً) لأنهم يملؤون صدورَ المجالسِ بقامتِهم الوافيةِ، أو يملؤونَ صدورَ الناظرِ لأُبَّهَتِهِمْ وَجَمَالِهِمْ، أو أنهم يَتَمَالَؤُونَ على العقدِ والحلِّ فيتفقونَ عليه. أي: قال أشرافُ جماعتِه ورؤساؤُهم وأهلُ الحلِّ والعقدِ منهم: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ} لَنَعْتَقِدُكَ يا نوحُ {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: آية 60] أي: في ذَهَابٍ عن طريقِ الحقِّ بَيِّنٍ واضحٍ حيث جِئْتَنَا لِتَصْرِفَنَا عما كانَ يعبدُ آباؤُنا، فهذا التوحيدُ الذي جِئْتَنَا به وإفرادُ اللهِ بالعبادةِ نَرَاكَ في ضلالٍ وَذَهَابٍ عن الحقِّ مبينٍ واضحٍ. وقد قَدَّمْنَا (¬1) أن (المُبِيْن) هو اسمُ فاعلِ (أَبَانَ) وأن العربَ تستعملُه استعمالين كِلاَهُمَا في القرآنِ. تقولُ العربُ: أَبَانَ الأَمْرُ يَبِينُ. من (أبان) اللازمةِ. فهو بَيِّنٌ ومُبِينٌ. وعلى هذا فالمُبِينُ صفةٌ مشبهةٌ من (أبان) اللازمةِ بمعنَى (بَيَّنَ) وعليه: في ضلالٍ بَيِّنٍ. أَي: واضحٍ لاَ إشكالَ فيه. وهذا المعنَى كثيرٌ في كلامِ العربِ - إطلاقُ (أبانَ) لازمةً - ومنه قولُ كعبِ بنِ زُهَيْرٍ (¬2): قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ قولُه: «عتق مبين» أي: كَرَمٌ ظَاهِرٌ. ومن (أبان) لازمة بِمَعْنَى: (بان) قولُ عمرَ بنِ أبِي ربيعةَ المخزوميِّ (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ... لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ يعنِي: لَظَهَرَ من آثارِ النملِ على جِلْدِهَا ورمٌ لرقةِ بَشْرَتِهَا. ومنه قولُ جريرٍ (¬1): إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ مِنَ الْعِرَابِ أَيْ: ظهرَ المقرفات من العراب. الوجهُ الثاني: تستعملُ (أبان) اسم فاعلِ (أبان) المتعدية، أبانَه يُبِينُهُ. فاسمُ الفاعلِ (مبين) واسمُ المفعولِ (مُبان) كما هو معروفٌ. والظاهرُ أن هذه هنا من اللازمةِ. ومعنَى: {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: في ضلالٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ، من (أبان) اللازمةِ. قال نوحٌ مُجِيبًا لهم: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} [الأعراف: آية 61] هم قالوا: إنه في ضلالٍ كثيرٍ. وهو نَفَى أن تكونَ معَه ضلالةٌ فردٌ واحد، وإذا انتفى عنه فردٌ واحدٌ من أفرادِ الضلالةِ فانتفاءُ غيرِه أَنْفَى وَأَنْفَى: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} ولا حَيْدُودَةٌ عن طريقِ الحقِّ، بل أنا على حقٍّ وعلى طريقٍ مستقيمٍ، ولكنِّي غيرُ ضَالٍّ. {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: آية 61] أُرْسِلْتُ إليكم مِنْ خَالِقِ السماواتِ والأرضِ وما بينَهما ومدبرِ شؤونِ الجميعِ. وقد بَيَّنَ في الشعراءِ أن (العالمين) يشملُ السماءَ والأرضَ وَمَنْ فيهما وما بينَهما في قولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُم مُّوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآيتان 23، 24]. ¬

(¬1) السابق.

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا أبا عمرٍو: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} [الأعراف: آية 62] بفتحِ الباءِ وتشديدِ اللامِ. وقرأَه أبو عمرو وحدَه: {أُبْلِغُكُمْ رسالات ربي} (¬1) الأُولَى: من التبليغِ، والثانية من الإبلاغِ (¬2). وَسَمَّى رسالاتِه رسالات؛ لأنها في نواحٍ متعددةٍ (¬3). {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} العربُ تقولُ: نَصَحَهُ وَنَصَحَ له، و (نصح له) أكثرُ. ومعناه: {أَنْصَحُ لَكُمْ} أَبْغِي لكم النصيحةَ خالصةً من شوائبِ الغشِّ جميعِه، بل إنما أُعْطِيكُمُ النصيحةَ صافيةً خالصةً من شائبةِ الغشِّ، أدعوكم إلى اللَّهِ: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: آية 62] أعلمُ من رَبِّي ما لا تعلمونَه، ومن جملةِ ذلك أنكم إن عصيتموني، وَمُتُّمْ على كفرِكم أنكم تَلْقَوْنَ العذابَ العظيمَ والإهانةَ الكبرى والخلودَ في دركاتِ النارِ، وأنكم إن أطعتموني دخلتُم الجنةَ وخلدتُم في نعيمِ اللهِ، وهذا معنَى قولِه: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: بوحيٍّ من الله جل وعلا. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص210. (¬2) انظر: حجة القراءات ص286 - 287. (¬3) في هذا الموضع وقع للشيخ (رحمه الله) وهم حيث ظن أنه تكلم على الآية رقم (68) والتي فيها قول نبي الله هود (عليه الصلاة والسلام)؛ ولذا قال (رحمه الله) هنا: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} هذا قول نبي الله نوح، والذي فسرنا الآن قول نبي الله هود كما سيأتي في قصته» ا. هـ. والواقع أن كلام الشيخ (رحمه الله) في تفسير الآية على وجهه لم يقع فيه وَهْم في الحقيقة؛ ولذا لم نثبت استدراك الشيخ (رحمه الله) في الأصل وإنما اكتفينا بالتنبيه على ذلك في الحاشية. وانظر ما ذكره عند تفسير الآية (65) من هذه السورة.

[11/ أ] / قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} [الأعراف: الآيتان 63 - 64]. يقول اللهُ جل وعلا: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} [الأعراف: الآيتان 63، 64]. هذا مما قَصَّ اللهُ علينا من قصصِ أنبيائِه مع أُمَمِهِمْ. لَمَّا قال نوحٌ لقومِه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: آية 59] وَرَدُّوا عليه ذلك الردَّ القبيحَ الشنيعَ، وقالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: آية 60] وقابل سفاهتَهم وَجَهْلَهُمْ وَقُبْحَ رَدِّهِمْ بالكلامِ اللطيفِ، والجوابِ الكريمِ الخالِي من بذاءةِ اللسانِ، اللَّيِّنِ كما هي عادةُ الرسلِ في مخاطباتِهم مع الكفرةِ الجهلةِ: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف: الآيتان 61، 62] قال أيضًا لقومِه: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ} [الأعراف: آية 63] أَجْرَى اللهُ العادةَ بأن الأممَ إذا بُعِثَ فيهم رُسُلٌ منهم يقولونَ: لو كان اللَّهُ مُرْسِلاً رسولاً لَمَا جَعَلَهُ بَشَرًا يأكلُ الطعامَ، ويشربُ كما نشربُ، ويروحُ إلى السوقِ ليقضيَ حاجتَه، ويتزوجُ، ويولدُ له! لو كان مُرْسِلاً رسولاً لأَرْسَلَ الملائكةَ؛ لأَنَّ لهم هيبةً ليست عندَ الآدَمِيِّينَ، وعلاماتٍ تميزهم عن الآدميين. ويقولونَ للرسلِ: أنتم بشرٌ مثلُنا، تأكلونَ كما نأكلُ، وتشربونَ كما نشربُ، وتذهبونَ إلى

الأسواقِ لقضاءِ حاجاتِكم كما نفعلُ، وتتزوجونَ كما نتزوجُ، ويولدُ لكم كما يُولَدُ لنا، فأنتم بشرٌ مثلُنا لا يمكنُ أن نكونَ لكم تَبَعًا، وأن تكونوا أفضلَ منا بحيثُ تكونونَ آمِرِينَ نَاهِينَ علينا!! هذه عادةٌ أَجْرَاهَا اللهُ كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً (94)} [الإسراء: آية 94] كيف يبعثُ اللهُ بشرًا يأكلُ ويشربُ، ويذهبُ إلى السوقِ؟ وهذا كثيرٌ في القرآنِ (¬1) {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: آية 24] لا يمكن هذا {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: آية 6] {مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [يس: آية 15] {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (34)} [المؤمنون: الآيتان 33، 34] فيعجبونَ من أن الله يبعثُ الرسلَ من البشرِ، ويستنكرونَ هذا الأمرَ. والرسلُ تُبَيِّنُ لهم أن هذا لا عجبَ فيه؛ لأن اللهَ ما أرسلَ إلى الأممِ إلا رُسُلاً منهم، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} [يوسف: آية 109] لم نُرْسِلْ قَبْلُ ملائكةً. وقال (جل وعلا) لَمَّا قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: آية 7] قال الله: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: آية 20] إلى غير ذلك. ومن هذا القبيلِ قال نبيُّ اللهِ نوحٌ عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ لقومِه: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ} [الأعراف: آية 63] هذه الهمزةُ التي تأتِي بعدَها أداةُ عطفٍ كالواوِ والفاءِ وَثُمَّ، الأكثرونَ من علماءِ العربيةِ على أن الهمزةَ تتعلقُ بجملةٍ محذوفةٍ، وأن الواوَ إنما فُتِحَتْ لأنها عاطفةٌ على الجملةِ المحذوفةِ الذي دَلَّ عليه ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (2/ 323) ..

المقامُ (¬1). وهذا هو الوجهُ المختارُ من الوَجْهَيْنِ، واعتمدَه ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقولِه (¬2): وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ ... .................................... وتقديرُ المحذوفِ: أكفرتُم وَكَذَّبْتُمُونِي وعجبتُم أيضًا من أن جاءَكم ذِكْرٌ من ربكم، أي: أكفرتُم وعجبتُم؟ إنكارٌ لكفرِهم، وإنكارٌ لعجبهم المعطوفِ عليه؛ لأن كل هذا ليس محلَّ استنكارٍ. والعَجَبُ معروفٌ، وهو أن يستغربَ الإنسانُ الشيءَ ويستبعدَه كأنه ليس من المألوفِ وجودُ نظيرِه: {أَوَعَجِبْتُمْ} [الأعراف: آية 63] أي: أَكَفَرْتُمْ وعجبتُم؟ أي: تعجبتُم واستغربتُم من {أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 63] أي: جاءكم ذِكْرٌ. أي: موعظةٌ. المرادُ بِالذِّكْرِ هنا: موعظةُ اللهِ التي أَنْزَلَهَا على نَبِيِّهِ نوحٍ من توحيدِ اللهِ الخالصِ وعبادتِه وحدَه (جل وعلا)، والوعظِ الذي يُلَيِّنُ القلوبَ، والزجرِ عن عبادةِ غيرِ اللهِ، فهذا الذكرُ الذي جاءَهم، (ذكر) أي: وعظٌ نازلٌ من الله. {عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ} [الأعراف: آية 63] على لسانِ رجلٍ منكم بَعَثَهُ اللهُ فيكم نَبِيًّا، بعثَه اللهُ بهذا الوعظِ لأَجْلِ أن ينذرَكم. وقد قَدَّمْنَا أن (¬3) (الإنذارَ) أنه الإعلامُ المقترنُ بتهديدٍ خاصةً. فكلُّ [إنذارٍ إعلامٌ وليس كُلُّ إعلامٍ إنذارًا] (¬4)، أي: لينذركم. أي ليخبرَكم برسالاتِ اللهِ، مبلغكم أوامرَه ونواهيَه، مُبَيِّنًا لكم أنكم إن لم تتقوه وتطيعوا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬4) في الأصل: «فكل إعلام إنذار، وليس كل إنذار إعلامًا» وهو سبق لسان.

رسولَه أنكم سَتَلْقَوْنَ العذابَ الأليمَ والنكالَ الشديدَ. وكونُ الإخبارِ مُقْتَرِنًا بهذا التهديدِ والتخويفِ من عذابِ اللهِ ونكالِه هو معنَى الإنذارِ. أي: (لينذركم) لأجلِ أن ينذرَكم، يخوفكم عقابَ اللهِ وشدةَ نكالِه وبأسِه إن تماديتُم على كفركم. {وَلِتَتَّقُوا} [الأعراف: آية 63] علةٌ أُخْرَى. أي: جاءكم ذِكْرٌ من ربكم على لسانِ رَجُلٍ منكم لأَجْلِ أن تتقوا اللهَ وتجعلوا بينَكم وبين سَخَطِهِ وعذابِه وقايةً، هي امتثالُ أمرِ اللهِ واجتنابُ نهيِ اللهِ؛ ولأَجْلِ أن تُرْحَمُوا. (لَعَلَّ) هنا الظاهرُ فيها أنها تعليليةٌ؛ لأنها معطوفةٌ على مَوْضِعَيْنِ من لامِ كَيْ؛ لأن قولَه: {لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا} كِلْتَاهُمَا لاَمُ كَيْ، فَعَطْفُ (لعل) عليهما يدلُّ على أنها للتعليلِ. وقد قال بعضُ علماءِ التفسيرِ (¬1): كل (لَعَلَّ) في القرآنِ فَفِيهَا معنَى التعليلِ إلا التي في سورةِ الشعراءِ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: آية 129] قالوا: هي بمعنَى: كأنكم تَخْلُدُونَ. هكذا قالوا واللَّهُ أعلمُ. ولا شكَّ أن (لعلَّ) تأتِي في القرآنِ للتعليلِ، وكذلك تأتِي في كلامِ العربِ، فَمِنْ إتيانِها في القرآنِ ظاهرةً في التعليلِ واضحةً فيه: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: آية78] أي: أَنْعَمَ عليكم بنعمةِ الأبصارِ والأفئدةِ لأَجْلِ أن تشكروا نعمَه فتؤمنوا به. وَمِنْ إتيانِ (لعل) في كلامِ العربِ بمعنَى التعليلِ قولُ الشاعرِ (¬2): فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

فقولُه: (كُفُّوا الحروبَ لعلنا) أي: كُفُّوا الحروبَ لأَجْلِ أن نَكُفَّ. وهذا معنَى قولِه: {وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} هذا الذِّكْرُ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ عليكم على لسانِ رجلٍ منكم لا عجبَ فيه وإنما أنزل اللهُ هذا الذي تعجبتُم منه لصلاحِكم: أولاً: لأَجْلِ أن تتقوا اللهَ بإنذارِ هذا النبيِّ الكريمِ الذي هو مِنْكُمْ. الثاني: {لِيُنذِرَكُمْ} يخوفكم عقابَ اللهِ، وتتقوا اللهَ، ولأَجْلِ أن يرحمَكم اللهُ برحمتِه الواسعةِ إذا أقلعتُم عن الكفرِ واتقيتُم اللهَ؛ لأن رحمةَ اللهِ وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ، ولكن الله بَيَّنَ من يكتب لهم رحمتَه في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: الآيتان 156، 157] هؤلاء هم الذين يكتب اللهُ لهم رحمتَه؛ ولذا قال نبيُّ اللهِ نوحٌ لقومِه: لا تعجبوا فهذا ليس مَحَلَّ عَجَبٍ، وهذا أمرٌ لا يُعْجَبُ منه؛ لأن اللهَ أَنْزَلَ عليكم ذِكْرًا على لسانِ رَجُلٍ منكم ليخوفَكم من اللهِ، من عبادةِ غيرِه؛ ولأجلِ أن تتقوا رَبَّكُمْ بما يعلمكم ويبلغكم عن الله؛ ولأَجْلِ أن يرحمَكم اللهُ إن أنتم فعلتُم ذلك. وهذا معنَى قوله: {لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ثم أعادَ الكلامَ فقال: {فَكَذَّبُوهُ} لأنه ذَكَرَ أولاً أنهم كَذَّبُوهُ تكذيبًا شنيعًا حيث قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: آية 60] فَلَمَّا أعادَ عليهم الكلامَ، وَبَيَّنَ لهم أن بعثَه إليهم لا يُسْتَعْجَبُ منه، وأنه لصلاحِهم ليخوفَهم من معاصِي اللهِ، وليتقوا اللهَ فيرحمهم اللهُ عادوا إلى التكذيبِ. وقال اللهُ هنا: {فَكَذَّبُوهُ} عادوا إلى تكذيبِهم الأولِ. والظاهرُ أنه قال: {فَكَذَّبُوهُ} ولم يَذْكُرْ شناعةَ قولهم لأنهم تَمَادَوْا على مثلِ قولِهم الأولِ من التكذيبِ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}

يعني لَمَّا كَذَّبُوهُ - في الكلامِ اختصارٌ - صبر على أَذَاهُمْ، ومكثَ تسعمائة وخمسين سنةً وهو يدعوهم إلى الإسلامِ صابرًا على ما يَلْقَى منهم من الأذى، حتى إن رَبَّهُ تعالى قنَّطَه منهم وَبَيَّنَ له أنه لا يؤمنُ منهم أحدٌ أبدًا كما قال: ... {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: آية 36] فَتَيَقَّنَ نوحٌ أنه لم يَبْقَ يُرْجَى منهم خَيْرٌ، وإنما فيهم الشرُّ، وتعذيبُ نوحٍ وإهانتُه بما ينال منهم من السوءِ، وأنهم كلهم شرٌّ لاَ يُرْجَى منهم خيرٌ أبدًا، ولا من نَسْلِهِمْ بعدَ أن مَكَثَ فيهم هذا الزمنَ الطويلَ الذي بَيَّنَهُ اللَّهُ في العنكبوتِ فِي قولِه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: آية 14] لَمَّا أعلمَه اللهُ أنهم لا يُرجى لهم صلاحٌ، ولا يُرجى لهم خيرٌ، وأنه لا يؤمنُ منهم ولا من ذرياتهم أحدٌ، لما حَصَلَ هذا اليأسُ عند ذلك دَعَا عليهم في قولِه: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: آية 26] دَيَّارًا: أي: داخل دَارٍ، أو عامر بيتٍ، فأهْلِكْهُمْ كُلَّهُمْ. ثم قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} [نوح: آية 27] وإنما قال نوحٌ: {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} لأن رَبَّهُ أخبرَه بأنهم لا يؤمنُ منهم أحدٌ في قولِه في سورةِ هودٍ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: آية 36] فَلَمَّا دعا عليهم نوحٌ وَبَيَّنَ اللهُ دعاءَه عليهم فيٍ آياتٍ كثيرةٍ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} [القمر: آية 10] {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} [الأنبياء: الآيتان 76، 77]. لَمَّا مَكَثَ فيهم هذا الزمنَ الطويلَ وهم يكذبونَه ويؤذونَه، وكانت امرأتُه خبيثةً تَدُلُّهُمْ على مَنْ أَسْلَمَ من القليلين الذين أَسْلَمُوا

معه فيعذبونَهم ويهينونَهم أهلكها اللهُ معهم، وصارت مع الكافرين، ودخلتِ النارَ والعياذُ بالله، وَضَرَبَهَا اللهُ مثلاً مع امرأةِ لوطٍ لِمَنْ يكونُ في صحبةِ أفاضلِ الناسِ وخيارِ الأنبياءِ ولا يكونُ في نفسِه طَيِّبًا فلا ينتفعُ بتلك الصحبةِ الكريمةِ لِخُبْثِ نفسِه، قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} [التحريم: آية 10] ومعنَى (خانتاهما) أي: بالكفرِ وإطلاعِ الكفارِ على أسرارِهما، وليس المرادُ أنهما خَانَتَا خيانةَ زِنًى كما تَوَهَّمَهُ بعضُ الناسِ، وأن امرأةَ نوحٍ خَانَتْهُ فَزَنَتْ! واستدلوا بأن اللهَ لَمَّا قال نوحٌ: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} قال: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: الآيتانِ 45، 46] فهذا غلطٌ، بل غلطٌ عظيمٌ فاحشٌ. والمحققونَ من أهلِ العلمِ أن اللهَ كرم مناصبَ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم، وَطَهَّرَ فُرُشَهُمْ فلم تَزْنِ امرأةُ نَبِيٍّ قَطُّ، والولدُ الكافرُ الذي أُغْرِقَ هو ابنُ نوحٍ لا شكَّ فيه؛ لأن اللهَ - وهو أصدقُ مَنْ يقولُ - صَرَّحَ بأنه ابنُه حيث قال: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} [هود: آية 42] وقولُ اللهِ له: {مِنْ أَهْلِكَ} يعنِي بحذفِ الصفةِ، من أهلِك الموعودِ بنجاتِهم وإركابِهم في السفينةِ في قولِه: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: آية 33] لأنه فَارَقَ دينَكم وَكَانَ كافرًا. فَلَمَّا تَطَاوَلَ الزمنُ على نوحٍ وهو يدعوهم، ولا يزيدُهم دعاؤُه إلا فرارًا وَبُعْدًا عن الحقِّ؛ دعا عليهم فأجابَ اللهُ دعوتَه، فأرسلَ

السماءَ مِدْرَارًا، وَفَجَّرَ عيونَ الأرضِ، فَالْتَقَى الماءُ من أعلى وأسفلَ، حتى صارَ طُوفَانًا غَطَّى على الجبالِ. والدليلُ على أنه غَمَرَ الجبالَ: أن نوحًا لَمَّا قال لولدِه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} وقال الولدُ: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} أجابَه نوحٌ فقال: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: الآيتان 42، 43] فَدَلَّ على أنه ليسَ هناك معتصمٌ في الجبالِ؛ وَلِذَا قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} [القمر: الآيات 10 - 12] فصارَ طوفانًا جارفًا أَهْلَكَ جميعَ مَنْ على وجهِ الأرضِ، مِنْ كُلِّ ما هو حَيٌّ إلا مَنْ كان في تلك السفينةِ، كما قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: آية 15] وأمر اللهُ نَبِيَّهُ نوحًا بأن يجعلَ تلك السفينةَ - ويجعلَها بالنجارةِ - وكان ينجرها والأرضُ يبَس، وهم يضحكونَ منه ويسخرونَ ويقولونَ: كنتَ نَبِيًّا فصرتَ نَجَّارًا! وهو يقولُ لهم: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود: الآيتان 38، 39] فَلَمَّا قَرُبَ الوعدُ المحددُ لإهلاكِهم قيلَ لنوحٍ: ارْكَبْ في السفينةِ وَاحْمِلْ فيها أهلكَ ومن آمَنَ مَعَكَ، ثم قال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: آية 40] وَأَمَرَ أن يأخذَ من كُلِّ شيءٍ من جميعِ الحيواناتِ زَوْجَيْنِ. أي: ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ لأن جميعَ مَنْ على وجهِ الأرضِ سيهلكه الطوفانُ، ولن يبقى إلا مَنْ فِي تلك السفينةِ، فيكونُ كُلُّ جنسٍ من أنواعِ الحيواناتِ موجود معه منه ذَكَرٌ وأنثى ليتناسلَ ذلك الذكرُ بتلك الأنثى وينشأَ منهما ذلك النوعُ من أنواعِ الحيواناتِ كما يأتي في قولِه: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: آية 40] وفي القراءةِ

الأخرى (¬1): {مِنْ كُلِّ زوجين اثنين} أي: ذَكَرًا وَأُنْثَى ليقعَ منهما التناسلُ وينتشرَ منهما ذلك النوعُ؛ لأن مَنْ على وجهِ الأرضِ سَيُهْلِكُهُ ذلك الطوفانُ. وذلك يُبَيِّنُ أن ذنوبَ بَنِي آدمَ قد يُهْلِكُ اللهُ بها الجميعَ حتى الحيواناتِ. قال بعضُ العلماءِ: قد تهلك الحبارى في وَكْرِهَا، والجُعْل في جُحْره بذنوبِ بَنِي آدمَ، وقد يهلك اللهُ بني آدمَ بذنوبِ بعضِهم. فإذا انتشرَ الفسادُ في الأرضِ وكانَ الناسُ قادرين على أن يَكُفُّوهُ فلم يكفوه نزلَ البلاءُ فَعَمَّ الصالحَ والطالحَ، كما جاء في الأحاديثِ الكثيرةِ وفي قولِه تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: آية 25] وَمِنْ أَوْضَحِ ذلك حديثُ النعمانِ بنِ بشيرٍ الثابتُ في الصحيحِ - المشهور - الذي ضَرَبَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم مثلاً للناسِ إن أَخَذَتْ على أيدي السفهاءِ، وَمَنَعَتْهُمْ من معاصِي اللهِ، وَأَمَرَتْ بالمعروفِ، وَنَهَتْ عن المنكرِ، وإن لم تَفْعَلْ ذلك، فضربَ لهم مثلاً بقومٍ اسْتَهَمُوا على سفينةٍ، فكان بعضُهم في أسفلِ السفينةِ، وكانوا إذا أَرَادُوا أن يشربوا من الماءِ صَعدُوا فَمَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُمْ، فقالوا: لاَ ينبغي لنا أن نصعدَ ونمرَّ على مَنْ فَوْقَنَا بل نَخْرِقُ السفينةَ مما يَلِينَا، ونشربُ مِمَّا يَلِينَا فلاَ نصعد حتى نَمُرَّ على مَنْ بأعلاها. فَبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنهم إن تركوهم وما أرادوا وخرقوا السفينةَ دخلَ الماءُ فيها فامتلأت فغرقَ الجميعُ، وإن زَجَرُوهُمْ وكفوا أيديَهم نَجَوْا ونجا الجميعُ. نقلنا الحديثَ بالمعنَى، وهو حديثٌ صحيحٌ، ثابتٌ في الصحيحِ (¬2)، مشهورٌ، وهو واضحٌ في أن السفهاءَ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص239. (¬2) البخاري في الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه. حديث رقم (2493) (5/ 132)، وطرفه في (2686).

إن لم يُؤْمَرُوا بالمعروفِ وَيُنْهَوْا عن المنكرِ وَيُضْرَبْ على أيديهم أنهم يُهلِكونَ الجميعَ، فيهلك الجميعُ بذنوبهم. وفي الحديثِ الصحيحِ المشهورِ من حديثِ أُمِّ المؤمنينَ أُمِّ الحكمِ زينبَ بنتِ جحشٍ (رضي الله عنها): أنها لَمَّا سَمِعَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هَكَذَا». وعقدَ التسعينَ مثل هذا. أنها (رضي الله عنها) لَمَّا سَأَلَتْهُ فقالت: أَنَهْلِكُ وفينا الصالحونَ؟ قال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» (¬1) فإذا انتشرت المعاصي وكثر الخَبَثُ ولم يُضرب على أيدي السفهاءِ أوشكَ اللهُ أن يعمهم بعذابٍ من عندِه؛ ولذا عَمَّ جميعَ مَنْ في الأرضِ بذنوبِ مَنْ كَذَّبُوا نوحًا عليه وعلى نبيِّنا الصلاةُ والسلامُ. وَلَمَّا دعا عليهم نوحٌ قيلَ لنوحٍ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: آية 40] الذي سَبَقَ عليه القولُ مِنْ أَهْلِهِ: زوجتُه الكافرةُ - قَبَّحَهَا اللَّهُ - وابنُه الكافرُ - والمؤرخونَ يزعمونَ أن اسمَه كَنْعَانُ - فلما رَكِبَ نوحٌ في السفينةِ، وَفَجَّرَ اللهُ عيونَ الأرضِ، وأنزلَ الماءَ من السماءِ فالتقَى الماءُ على أَمْرٍ قد قُدِرَ، أَهْلَكَهُمُ اللهُ بذلك الطوفانِ، ولم يُبْقِ منهم باقيةً. وفي قصتِهم: أن اللَّهَ (تبارك وتعالى) لو كان يرحمُ أحدًا منهم لَرَحِمَ امرأةً منهم في القصةِ؛ لأن عندَها ولدًا صغيرًا تُحِبُّهُ حُبًّا شديدًا، كانت كلما طلع الماءُ ارْتَفَعَتْ بالولدِ إلى الجبلِ، حتى صارت على رأسِ الجبلِ، فَطَمَّ الماءُ على الجبلِ، فكان الماءُ ¬

(¬1) البخاري في الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب ... » حديث رقم (7059)، (13/ 11)، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة باب: اقتراب الفتن ... حديث رقم: (2880)، (4/ 2207).

كُلَّمَا بلغَ شيئًا منها رَفَعَتِ الولدَ، حتى بلغ حلقومَها، رَفَعَتْ يدَها بالولدِ حتى أغرقَ اللهُ الجميعَ (¬1)، وَدَمَّرَ اللهُ الجميعَ. واعتذرَ نبيُّ اللهِ نوحٌ عن دعائِه عليهم - مع أن اللَّهَ أَعْلَمَهُ أنهم خبثاءُ ليس فيهم خيرٌ - قال يقولُ لِرَبِّهِ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)} إلى آخِرِ ما ذُكِرَ. [نوح: الآيات 5 - 10] فالقصةُ اخْتُصِرَتْ هنا في سورةِ الأعرافِ وَبَسَطَهَا اللهُ في سورٍ أخرى متعددةٍ. ولذا قال: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ} [الأعراف: آية 64] أي: أنجيناه هو والذين معَه في الفلكِ، وهم قليلٌ؛ لأن اللهَ قال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: آية 40]. وبعضُ المؤرخين يقولونَ: هم أربعونَ رجلاً وأربعونَ امرأةً، هم ثمانونَ نَفْسًا. وبعضُهم يقولُ: هم تسعةُ أَنْفُسٍ. واللهُ تعالى أعلمُ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ أنهم قليلٌ حيث قال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} وقال: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: آية 36] فصارت تلك السفينةُ تجري بهم تتلاطمُ عليها الأمواجُ كما قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: آية 42] الأمواجُ كأنها الجبالُ، وهذا يدلُّ على عِظَمِ الطوفانِ وارتفاعِه فوقَ الأرضِ حيث شَبَّهَ أمواجَه بالجبالِ كما قال: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} فأهلكهم اللهُ وَدَمَّرَهُمْ، وَاسْتَوَتِ السفينةُ على الْجُودِيِّ ثُمَّ لَمَّا قَضَى اللهُ أَمْرَهُ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: آية 44] فَلَمَّا أَرْسَلَ اللهُ ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 113 - 114).

الرياحَ وَنَشَفَتِ الأرضُ، ويبست من آثارِ ذلك الطوفانِ نَزَلَ نوحٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَنَاسَلَ مَنْ مَعَهُ، وصارَ جميعُ الدنيا من أولادِه الثلاثةِ الذين كانوا مَعَهُ، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: آية 77]. والمؤرخونَ يُسَمُّونَ نوحًا: آدمَ الأصغرَ؛ لأن جميعَ مَنْ بَعْدَهُ من الدنيا من نَسْلِهِ. وأولادُه الذين مَعَهُ: سام وحام ويافث. وبعضُ المؤرخين يقولونَ: إن جميعَ الموجودين في الدنيا راجعٌ إلى تلك الأصنافِ التي هِيَ مِنْ نسلِ هؤلاء الرجالِ، ويزعمونَ أن سَامًا من نسلِه: العربُ والرومُ والفرسُ، وأن حامًا من نسلِه: القبطُ والسوادين والبربرُ، وأن يافث من نسلِه: الصقالبةُ ويأجوجُ ومأجوجُ والتركُ. وأن جميعَ أنواعِ الناسِ يرجعُ في الأصلِ إلى هذه العناصرِ، هكذا يقولونَ، وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ (¬1). وَلِذَا قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} [الأعراف: آية 64]. الْفُلْكُ: السفينةُ. وهذه السفينةُ تَمْشِي في البحرِ تحملُ الناسَ، آية من آياتِ الله، كما قال: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)} [يس: آية 41] وفي القراءةِ الأخرى (¬2): {ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} [يس: الآيات 41 - 44] الفلكُ: السفينةُ، وَيُطْلَقُ على جمعِ السفنِ، فهو يُطْلَقُ على المفردِ وعلى الجمعِ. قال بعضُ علماءِ العربيةِ (¬3): إن أُطْلِقَ على ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 115). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص371. (¬3) انظر: المفردات للراغب ص645.

المفردِ فضمةُ (فُلْك) كضمةِ (قُفْل)، وإن أُطْلِقَ على الجمعِ فضمةُ (فُلُك) كضمةِ (كُتُب) و (رُسُل). هكذا يقولون. وقد يجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه، وإذا جاء في القرآنِ مجموعًا كان مؤنثًا دائمًا كقولِه في الفلكِ: {لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: آية 14] إلى غيرِ ذلك من التأنيثِ. وربما جَاءَ (الفلك) مذكرًا مفردًا في قولِه: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: آية 41] ولم يَقُلْ: (المشحونة) أي: الموقرِ بالناسِ. أي: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} [الأعراف: آية 64] أي: في السفينةِ التي أُمِرَ بِنَجْرِهَا، وأن اللَّهَ وعدَه بأنه سَيُهْلِكُ قومَه بالغرقِ في الطوفانِ. وهذا مِمَّا يدلُّ على أن الآدميين ينبغي لهم معرفةُ الصنائعِ، وأن لاَ يكونوا مُتَوَاكِلِينَ متكاسلين، فالصنائعُ وَالْحِرَفُ الصناعيةُ ينبغي للمجتمعِ أن يَتَعَلَّمُوهَا، ألا يرونَ أن النجارةَ هي من جملةِ الصنائعِ، وكثيرٌ من الناس يأنفُ عن أن يتعاطاها، مع أن مُعَلِّمَهَا الأولَ هو جبريلُ ... - عليه السلامُ - وتلميذها الأول هو نوحٌ - عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ - كما في قولِه: {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: آية 37] فَمُعَلِّمُهَا الأولُ جبريلُ، وتلميذُها الأولُ نوحٌ، ثم إنها هي السببُ في وجودِ الموجودين من بَنِي آدمَ على ظهرِ الأرضِ؛ لأَنَّ مَنْ لم يكن في تلك السفينةِ المصنوعةِ عن طريقِ النجارةِ لم يَبْقَ منهم أحدٌ، لم تَبْقَ منهم عينٌ تَطْرِفُ، بل ماتوا كلُّهم كما قال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: آية 15] وقال هنا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} [الأعراف: آية 64] وهذا يدلُّ على أنَّ الْحِرَفَ الصناعيةَ ينبغي للمجتمعِ الاهتمامُ بها؛ ولذا كان أَوَّلَ نجَّار في الأرضِ نوحٌ، وأول مُعلِّم للنجارةِ جبريل، وأول حدَّاد في الأرض هو

داود - عليه السلام - كمَا قال الله له: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: الآيتان 10، 11] والله يعلِّمه أصولَ الحدادةِ كقولِه: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: آية 11] لأن قولَه: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} من أعظمِ تعاليمِ أصولِ الحدادةِ؛ لأَنَّ معنَى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} السردُ في لغةِ العربِ (¬1): نسجُ الدرعِ، تُسَمِّيهِ العربُ سردًا وزردًا، وتسمي ناسجَ الدروعِ: سرَّادًا زَرَّادًا، ودرعٌ مسرودةٌ كما هو معروفٌ، ومنه قولُ أَبِي ذُؤَيْبٍ (¬2): وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ وقولُ الآخَرِ (¬3): نَقْرِيهِمُ لَهْذَمِيَّاتٍ نَقُدُّ بِهَا ... مَا كَانَ خَاطَ عَلَيْهِمْ كُلُّ زَرَّادِ فمعنَى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: آية 11] أي: اجْعَلِ المساميرَ والحِلَقَ في نسجِ الدروعِ بأقدارٍ متناسبةٍ متلائمةٍ؛ لأن المسمارَ إن كان أكبرَ من الحلقةِ جِدًّا كَسَرَهَا، وإذا كان أصغرَ منها جِدًّا لم يَشُدَّهَا كما ينبغي، فإذا كانت المساميرُ والحِلَقُ بأقدارٍ متناسبةٍ كانت الدروعُ مشدودةً كما ينبغي، تردُّ وقعَ السلاحِ من السيوفِ والسهامِ. وهذا مِمَّا يدلُّ على أن الحِرَفَ الصناعيةَ لاَ ينبغي التكاسلُ فيها ولا عدمُ تعاطيها؛ لأن أولَ مَنْ تعاطاها الرسلُ الكرامُ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم - وكانت آثارُها الكريمةُ ظاهرةً في المجتمعِ؛ لأن الموجودين في الدنيا كانوا مَوْجُودِينَ بفضلِ اللَّهِ ثم بسببِ تلك الصناعةِ التي هي ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: سرد) ص406، القرطبي (14/ 267). (¬2) البيت في القرطبي (14/ 268). (¬3) البيت للقطامي، وهو في الكامل (1/ 83)، أسرار البلاغة ص40، 45.

النِّجَارَةُ؛ لأن مَنْ لم يكن في تلك السفينةِ المصنوعةِ عن طريقِ حرفةِ النجارةِ كُلُّهُمْ هلكوا وماتوا من ذلك الطوفانِ، كما قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: آية 64] أي: الكفار الذين كذَّبوا نوحًا أَغْرَقْنَاهُمْ جميعًا بذلك الطوفانِ، كما قال تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15)} [العنكبوت: الآيتان 14 - 15] ولذا قال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: آية 64] {إِنَّهُمْ}: أي: الكفار الذين كَذَّبُوا نوحًا الذين أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بالإغراقِ بالطوفانِ: {كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}. والعَمُونَ جمع الْعَمِيِّ، ووزنُ العميِّ: (فَعِل) أصلُه: (عميٌ) تطرفت الياءُ بعدَ الكسرِ فصارَ ناقصًا (¬1). والعميُّ هو أَعْمَى القلبِ، والعياذُ بالله. وقراءةُ الحجةِ من القراءِ، منهم السبعةُ، بل والعشرةُ: {قَوْمًا عَمِينَ} جمع عَمِي، والعميُّ هو: الذي قَلْبُهُ أعمى لا يعرفُ الحقَّ، ولا يميزُ بينَ الشرِّ والخيرِ، ولا الباطلِ والحقِّ، ولا الحسنِ ولا القبيحِ. أما قراءةُ «قومًا عامِين» على وزنِ (فاعل) فهي من القراءاتِ الشاذةِ (¬2)، فلا تجوزُ القراءةُ بها. وإن كان المقررُ في علومِ العربيةِ أن الصفةَ المشبهةَ سواءً كانت على وزنِ (فَعِل) كما هنا في قولِه: {عَمِينَ} [الأعراف: آية 64] أو وزنِ (فعيل) أو غيرهما إذا أُرِيدَ ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص194. وفيه: «أصله: (عميين) استُثْقِلت الكسرة على الياء فحُذِفت، فالتقى ساكنان فحُذِفت اللام» ا. هـ. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 358).

بها التجددُ والحدوثُ جاءت على وزنِ (فاعل) (¬1). هذا معنًى معروفٌ مُقَرَّرٌ في علومِ العربيةِ، كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، إلا أنه لا يجوزُ قراءةً هنا وإن كان سائغًا لغةً؛ لأن الصفةَ المشبهةَ إذا أُرِيدَ بها التجددُ والحدوثُ عُبِّرَ عنها بصيغةِ الفاعلِ، سواء كانت من (فَعيل)، أو من (فَعِل)، أو (فَيعِل) أو غيرِهما كما هو معروفٌ. فالعربُ مثلاً تقولُ: ضَاقَ صدرُه يضيقُ فهو ضيِّق. فالضيِّقُ صفةٌ مشبهةٌ من (ضاق) على وزنِ (فَيْعِل) فإذا أُرِيدَ به التجددُ والحدوثُ عُدِلَ عن (ضَيْق) وقيل: ضائق. ومنه قولُه تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: آية 12] لَمْ يَقُلْ: (ضَيِّق) لأنه أَرَادَ تجددَ الضيقِ وحدوثَه، وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ العكلي حيث قال (¬2): بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِنٌ ... بِهَا وَكِرَامُ النَّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا سَامِنٌ: أصلُه سَمِينٌ. صفةٌ مشبهةٌ. وَلَمَّا أرادَ به التجددَ والحدوثَ عَبَّرَ عنه بوزنِ (فاعل). ومنه على وزنِ (فعيل) قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ رضي اللَّهُ عنه (¬3): رَأَيْتُ التُّقَى وَالْجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ أصله: ثقيلٌ. صفةٌ مشبهةٌ من (ثَقُل) فهو ثقيلٌ، فلما أرادَ به ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 93). (¬2) البيت في البحر المحيط (5/ 207)، والدر المصون (6/ 294). وهو لأبي حزام غالب بن الحارث العكلي وقد عزاه أبو حيان لبعض اللصوص يصف السجن. (¬3) البيت في ديوانه ص119.

التجددَ والحدوثَ قال: ثاقلٌ. ومن هذا المعنَى قولُ قيسِ بنِ الخطيمِ لَمَّا قال (¬1): أَبْلِغْ خِدَاشًا أَنَّنِي مَيِّتٌ ... كُلُّ امْرِئٍ ذِي حَسَبٍ مَائِتُ فلما أراد التجددَ والحدوثَ قال: (مائت). وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ يَكْفِينَا منه ما ذَكَرْنَا الآنَ. والشاهدُ أَنَّ قراءةُ الحجةِ من القراءِ: {قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: آية 64] جمعُ تصحيحٍ لِلْعَمِيِّ على وزنِ (فَعِل) صفةٌ مشبهةٌ من عَمِيَ يعمى فهو عَمِيٌّ إذا كان أَعْمَى القلبِ. وأن قراءةَ: (عامين) قراءةٌ شاذةٌ لا تجوزُ القراءةُ بها وإن كان مثلُها يجوزُ لغةً إذا أريدَ التجددُ والحدوثُ، وما كُلُّ ما يجوزُ لغةً يجوزُ قراءةً؛ لأن القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: آية 64] والعياذُ بالله؛ لأن اللَّهَ يُعْمِي بصائرَ الكفارِ حتى يهلكوا: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: آية 57] {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] وصرَّح في سورةِ الرعدِ بأن جميعَ الذين يعرفونَ حَقِّيَّةَ هذا القرآنِ أنهم لم يمنعهم من ذلك إلا عَمَى بصائرِهم - والعياذُ بالله - والعينُ العمياءُ لا يمكنُ أن ترى الشمسَ ولو كانت في رابعةِ النهارِ. ........................... ... إِذْ لاَ تَرَى الشَّمْسَ عَيْنٌ تَشْتَكِي الْعَوَرَا (¬2) إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (¬3) ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص211. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

والآيةُ التي بَيَّنَ اللَّهُ بها ذلك من سورةِ الرعدِ هي قولُه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فَصَرَّحَ أن الذي لا يعلم أنه الحقُّ أن ذلك إنما جاءه من قِبَلِ عماه، فالقرآنُ نورٌ أوضحُ من نورِ الشمسِ، والذي لا يرى أحقيتَه إنما جَرَّهُ لذلك عَمَاهُ، والأعمى لا يرى الشمسَ، وعدمُ رؤيتِه للشمسِ لا يجعلُ في الشمسِ لَبْسًا ولا رَيْبًا ولا شَكًّا كما بَيَّنَّا. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: آية 64]. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف: الآيات 65 - 68]. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} هذا معطوفٌ على قولِه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ... [الأعراف: آية 59] وتقريرُ المعنَى: واللهِ لقد أرسلنا نوحًا إلى قومِه، وقد أرسلنا إلى عادٍ أخاهم هودًا. وهذه الأممُ يَقُصُّ اللهُ خبرَها على هذه الأمةِ لتستفيدَ من ذلك فوائدَ عظيمةً: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: آية 111] فيخافُ المكذبونَ للرسلِ الجاحدونَ بآياتِ اللهِ أن ينزلَ بهم مِثْلُ ما نَزَلَ بأولئك من الْمَثُلاَتِ، ومن عذابِ اللهِ المستأصلِ المتصلِ بعذابِ النارِ، وكذلك يُعَلِّمُ الناسَ الآدابَ، وآدابُ الدعاةِ إلى اللهِ في لِينِهِمْ وَعَطْفِهِمْ، وَلِينِ كَلاَمِهِمْ، وكرمِ مخاطبتِهم، وعدمِ بذاءتِهم وكلامِهم بكلامِ الجاهلين؛ هذا نبيُّ اللهِ نوحٌ لَمَّا قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: آية 60] هو يعلمُ أنهم هم

الضالونَ، وأنه هو المهتدِي، والذي يَعِيبُكَ ويلمزُك بعيبٍ أنتَ تعلمُ أنه فيه هو، وأنك أنتَ بَرِيٌ منه هذا مما يستدِعي الغضبَ، والكلامَ الشديدَ، والردَّ العنيفَ، فَنَبِيُّ اللهِ نوحٌ لم يَقُلْ لهم شيئًا من ذلك، ولم يَرُدَّ عليهم رَدًّا عنيفًا، وإنما رَدَّ بأكرمِ العبارةِ، وألطفِ الردِّ، فقال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: آية 61] فلم يَقُلْ: أنتم هم الكفرةُ الفجرةُ الضُلاَّلُ، ولم يقذع فيهم بلسانِه، بل بالعباراتِ اللطيفةِ اللينةِ، وهذا تعليمٌ من اللهِ لخلقِه أن الداعيَ المتبعَ لآثارِ الرسلِ إذا قَابَلَهُ الجهلةُ ببذاءةِ اللسانِ وَعَابُوهُ وتكلموا له بالقبيحِ أنه لا يقابلهم إلا بالقولِ اللَّيِّنِ اللطيفِ، والحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، كما هي عادةُ الرسلِ في خطاباتِهم لأُمَمِهِمْ. وقولُه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: آية 65] واللهِ لقد أرسلنا إلى عادٍ أخاهم هودًا. عادٌ قبيلةٌ عظيمةٌ، والمؤرخونَ يقولونَ: إن عادًا ابنُ إرمَ بنِ عوص (¬1)، وهو من ذريةِ سامِ بنِ نوحٍ بلا خلافٍ بين المؤرخين. ويزعمونَ أن قبيلةَ عادٍ كانوا أعظمَ الناسِ أجسامًا. يزعمُ أهلُ القصصِ والأخبارِ أن أقصرَهم قامتُه ستونَ ذراعًا، وأن الواحدَ ¬

(¬1) عامة كتب التاريخ تذكر نسب عاد أنه ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وبعضهم يقول: عاد بن عوص بن سام بن نوح. ولم أقف على من قال بأنه ابن إرم بن عوص. ووقع في معجم البلدان لياقوت عند الكلام على (دمشق) و (إرم): «عاد بن إرم بن سام بن نوح». ولعل الذي وقع للشيخ (رحمه الله) هنا سبق لسان، خاصة أنه قال بعدها بأسطر في نسب هود (عليه السلام): «ابن إرم بن نوح» وقال عن عاد: «عاد بن إرم. وقيل: ابن عوص بن إرم» ا. هـ. وانظر: تاريخ ابن جرير (1/ 110)، البداية والنهاية (1/ 120).

منهم يكونُ مئةَ ذراعٍ. وعلى كُلِّ حالٍ فَهُمْ من أَشَدِّ الناسِ قوةً كما قال اللَّهُ عنهم: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: آية 25] وهم قبيلةُ إرمَ المذكورةُ في القرآنِ؛ لأن عادَ بن إرم، وقيل: ابنُ عوص بن إرم. فهو من أولادِ إرمَ. و (إرم) اسمُ رجلٍ تُسَمَّى به القبيلةُ، وعادٌ من ذريتِه؛ وَلِذَا قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)} ثم أَبْدَلَ منها فقال: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ (8)} [الفجر: الآيات 6 - 8]. قولُه: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ} يدلُّ على عظمةِ أبدانِهم وشدةِ طُولِهِمْ وبدانتِهم وقوتِهم كما هو معروفٌ. أرسل اللهُ إلى هذه القبيلةِ العاتيةِ الشديدةِ الْقُوَى والبطشِ أرسلَ إليهم أخاهُم هودًا - عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ - وكان نَبِيُّ اللهِ هود عربيَّ اللسانِ، وإنما مُنِعَ من الصرفِ (¬1) قال بعضُهم: لأنه عربيٌّ، والعجميُّ إذا كان علمًا على ثلاثة حروف وسطها ساكنٌ يكون مصروفًا كما هو معروفٌ، كما صُرِفَ نوحٌ ولوطٌ وهما علمانِ أعجميانِ كما هو معروفٌ (¬2). ويزعمونَ أن هودَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ رباحٍ من ذريةِ إرمَ من سامِ بنِ نوحٍ (¬3).هو من نفسِ القبيلةِ، كما قال: {أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: آية 65] خِلاَفًا لِمَنْ زَعَمَ أن أصلَه ليس منهم، وأن (أخاهم) صاحبَهم. والتحقيقُ أنه منهم، وأنه أخوهم ومن قبيلتهم كما يأتي في قولِه: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ} [الأعراف: آية 69] فَبَيَّنَ أنه منهم؛ وَلِذَا قال هنا: {أَخَاهُمْ هُودًا} بعثَ اللهُ إليهم ¬

(¬1) «هود» غير ممنوع من الصرف، بل هو مصروف؛ لأنه اسم رجل عربي، وكذا على القول بأنه أعجمي لكونه علمًا على ثلاثة أحرف ساكن الوسط. انظر: الدر المصون (5/ 358). (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 278). (¬3) انظر: تاريخ ابن جرير (1/ 110)، البداية والنهاية (1/ 120). وفيهما أقوال أخرى في نسب هود عليه السلام.

نبيَّه هودًا. وَصَرَّحَ اللهُ في سورةِ الأحقافِ بأن منازلَهم في الأحقافِ، والأحقافُ جمعُ الحِقْفِ، والحِقْف حبلُ الرملِ (¬1). وهم يزعمونَ أنها حبالُ الرملِ التي في أطرافِ اليمنِ أو حضرموتَ، كانوا إلى تلك الجهةِ كما يأتِي في قولِه: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: آية 21] والأحقافُ جمعُ الحِقْفِ، والحِقْفُ: هو الحبلُ الممتدُّ العالِي من الرملِ، فَهُمْ في رمالٍ هناك، كانت منازلُهم في رمالٍ تتخلَّلُها أوديةٌ في نواحِي اليمنِ أو حضرموتَ، كما يأتي في سورةِ الأحقافِ. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} ماذا قال هودٌ؟ قال دعوةَ الرسلِ التي جاؤوا بها كلهم وهي عبادةُ اللهِ وحدَه، فَهُمْ متفقونَ على وتيرةٍ واحدةٍ وهي الدعاءُ إلى أن يُعْبَدَ اللَّهُ وحدَه، ويُخلص له في توحيدِه، فهذه دعوةُ الرسلِ التي جاؤوا بها عامةً، وهي التي فيها المعاركُ بينَهم وبين أُمَمِهِمْ، والقرآنُ بَيَّنَ ذلك جملةً وتفصيلاً، أما بيانُه بالتفصيلِ كقولِه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ماذا قال نوحٌ؟ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 59] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} ماذا قال هودٌ؟ {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 65] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} ماذا قال صالحٌ؟ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 73] وهكذا في جميعِ الرسلِ. ومن الأدلةِ العامةِ الْمُبَيِّنَةِ لذلك: قولُه تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: آية 36] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ} [الأنبياء: آية 25] وفي القراءةِ الأخرى (¬2): {نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا ¬

(¬1) المفردات (مادة: حقف) ص248. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص301.

مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف: آية 45] فإخلاصُ العبادةِ لخالقِ السماواتِ والأرضِ هو دعوةُ الرسلِ التي جاؤوا بها كُلُّهُمْ عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُه؛ ولذا أَمَرَ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم في سورةِ الأنبياءِ أن يقولَ: إنه لم يُوح إليه شيءٌ إلا عبادة اللهِ وحدَه، وإفرادُه بالعبادةِ في قولِه: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: آية 108] و (إنما) مِنْ صِيَغِ الحصرِ كما هو مقررٌ في المعانِي في مبحثِ القصرِ (¬1)، وفي الأصولِ في مبحثِ العامِّ (¬2)؛ لأن كلمةَ (لا إله إلا الله) هي التي قامت عليها السماواتُ والأرضُ، وهي المتضمنةُ توحيدَ العبادةِ بنفيها وإثباتها، فَنَفْيُهَا يتضمنُ: خلعَ جميعِ أنواعِ المعبوداتِ غيرَ اللهِ في جميعِ العباداتِ، وإثباتُها يتضمنُ: إفرادَه - جل وعلا - بالعبادةِ دونَ غيرِه، وهذا معنَى قولِهم: (لاَ إِلَهَ) نَفْيٌ (إِلاَّ اللَّهُ) إِثْبَاتٌ. وهذه الكلمةُ الشريفةُ التي قامت عليها السماواتُ والأرضُ، وَخُلِقَتْ من أجلها الجنةُ والنارُ، وهي التي جاء بها جميعُ الرسلِ - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم - وَلِذَا قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 65] قد بَيَّنَّا معنَى هذه الجملةِ والقراءاتِ فيها في قضيةِ نوحٍ (¬3)، ومعنَى الكلمتين واحدٌ لا فَرْقَ بينَهما. {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلا أن نوحًا قال لقومِه: {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: آية 59] وهودًا قال لقومِه: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [الأعراف: آية 65] يعني: ¬

(¬1) انظر: الإيضاح للقزويني ص125 .. (¬2) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 515)، وهي تُذْكَرُ عادةً في كتب الأصول في الكلام على المفاهيم. (¬3) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (59) من سورة الأعراف.

أتكفرونَ بالله فلا تَتَّقُونَهُ، فلا تتخذونَ بينَكم وبينَه وقايةً تَقِيكُمْ من سخطِه وعذابِه، هي امتثالُ أمرِه واجتنابُ نَهْيِهِ. وكان رَدُّ الكفارِ مُتَشَابِهًا لِتَشَابُهِ قلوبِهم في الكفرِ، كما قال تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: آية 118] فقومُ نوحٍ قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ} [الأعراف: آية 60] وقوم هود قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: آية 66] والسفاهةُ: (فَعَالة) من السَّفَهِ، وأصلُ السفهِ في لغةِ العربِ هو: الخفةُ والطيشُ، فكلُّ شيءٍ خفيف طائش تُسَمِّيهِ العربُ سفهًا (¬1). وتقولُ العربُ: تَسَفَّهَتِ الريحُ الريشةَ إذا اسْتَخَفَّتْهَا فطارت بها كُلَّ مَطَارٍ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِمِ معنَى (تسفهت أعاليها) أي: اسْتَخَفَّتْهَا فَهَزَّتْهَا. هذا أصلُ معنَى السَّفَهِ في لغةِ العربِ. وهو في الاصطلاحِ المشهورِ: هي خفةُ العقلِ وطيشُ الْحِلْمِ، بحيث يكونُ السفيهُ لا يهتدي إلى مصالِحه، ولا يعرفُ مضارَّه من مصالِحه، لا يميزُ بينَ الضارِّ والنافعِ، ولا الحسنِ ولاَ القبيحِ لِخِفَّةِ عقلِه وطيشِه وعدمِ رجاحتِه (¬3)؛ ولذا كان السفيهُ يجبُ التحجيرُ عليه، وجَعْلُ مالِه تحتَ يَدَيْ وَلِيٍّ يحفظُ له مالَه؛ لأن عقلَه الطائشَ وَحِلْمَهُ الخفيفَ يجعلُه يُضَيِّعُ مالَه. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: سفه) ص414. (¬2) البيت لذي الرمة. وهو في القرطبي (1/ 205)، (7/ 236). (¬3) انظر: الكليات (349، 510)، القاموس الفقهي ص173 - 174.

والعلماءُ مختلفونَ في السفهِ الذي يُحْجَرُ به على الرجلِ البالغِ ويُولَّى عليه في مالِه (¬1)، فكانَ مالكُ بنُ أنسٍ (رحمه الله) وعامةُ أصحابِه وَمَنْ وَافَقَهُ من العلماءِ يَرَوْنَ أن السفهَ الذي يُحْجَرُ به على السفيهِ في مالِه ويولَّى عليه غيرَه إنما هو السفهُ في خصوصِ المالِ، بحيث يكونُ طيشُ عقلِه وخفةُ حِلْمِهِ في نفسِ التصرفِ الماليِّ، بحيث يضيعُ عن المعاملاتِ، ولا يُحْسِنُ حفظَه ولا التصرفَ فيه. فَمَنْ كان عندَ مالكٍ يحسنُ التصرفَ في المالِ ويحفظُه وَلاَ يُخْدَعُ، بل هو عارفٌ بوجوهِ التصرفاتِ وحفظِ المالِ فمالُه يُدْفَعُ إليه عندَ مالكٍ وأصحابِه، ولا يُسَمَّى سَفِيهًا، ولو كان سِكِّيرًا شِرِّيبًا للخمرِ، مُرْتَكِبًا للمعاصي: وَشَارِبُ الْخَمْرِ إِذَا مَا ثَمَّرا ... لِمَا يَلِي مِنْ مَالِهِ لَمْ يُحْجَرَا (¬2) هذا مذهبُ مالكٍ وأصحابِه. وذهبَ الشافعيُّ في جماعةٍ من العلماءِ إلى أن مَنْ كان يتعاطى المعاصيَ كالشِّرِّيبِ السِّكِّيرِ الذي يشربُ الخمرَ، ويتعاطى المعاصيَ أنه سفيهٌ لاَ يُمكَّنُ من مالِه أبدًا حتى تصلحَ حالُه الدينيةُ مع حالِه الدنيويةِ. قال: لأنه لا أحدَ أخفّ حِلْمًا وأطيشَ عَقْلاً من الذي يتسببُ في أن يحرقَ نفسَه بالنارِ، فهذا خفيفُ الحلمِ طائشُ العقلِ، لاَ يُعطى له مالُه، فهو السفيهُ بمعنَى الكلمةِ. وهذا كلامٌ معروفٌ في فروعِ المذاهبِ مشهورٌ؛ ولذا نَسَبَ قومُ هودٍ هودًا إلى خفةِ العقلِ وطيشِه، قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} ¬

(¬1) انظر: القرطبي (5/ 28 - 31). (¬2) البيت لابن عاصم المالكي، وهو أحد أبيات تحفته المسماة: (تحفة الحكام) انظر: البهجة في شرح التحفة (2/ 294)، وهو في الأضواء (2/ 281).

[الأعراف: آية 66] أي: في خفةِ عقلٍ وطيشِ حِلْمٍ؛ لأنك تَدْعُونَا إلى أن نتركَ ديننا ونذهبَ إلى دينٍ آخَرَ جديدٍ ما نعرفُه، فلا عقلَ عندك ولا حِلْمَ، بل أنتَ سفيهٌ خفيفُ العقلِ طائشُ الحلمِ. هذا قولُهم لَعَنَهُمُ اللهُ. {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: آية 66] نَظُنُّكَ كاذبًا؛ لأنك بشرٌ مِثْلُنَا، فلا زيادةَ لك علينا ولا فضلَ لَكَ علينا؛ لأنا من عنصرٍ واحدٍ آدميونَ جميعًا نشربُ ونأكلُ جميعًا، فما نظنُّك إلا كاذبًا، وأنك سفيهٌ خفيفُ العقلِ طائشُه. فقابلهم هودٌ بهذا الردِّ الكريمِ اللطيفِ، وَالتَّأَنِّي الكريمِ، والتؤدةِ العظيمةِ، وقال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف: آية 67] ليس بِي شيءٌ من طيشِ العقلِ ولا من خِفَّتِهِ، وإنما أنا راجحُ العقلِ ثابتُه، ثابتُ الْحِلْمِ، لستُ بطائشٍ ولاَ خفيفٍ. {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: آية 67] رسولٌ مُرْسَلٌ إليكم من رَبِّ العالمين. قد بَيَّنَّا فيما مضى (¬1) أن الرسولَ (فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) أي: مُرسَل من رَبِّ العالمين أرسلني إليكم. وأن أصلَ الرسولِ: مصدر سُمِّيَ به، وإتيانُ المصدرِ على وزن (فعول) قليلٌ جِدًّا في العربيةِ، مسموعٌ في أوزانٍ قليلةٍ، كالقَبُولِ، والوَلُوعِ، والرسُولِ. وأصلُ الرسولِ مصدرٌ بمعنَى الرسالةِ، وهو مشهورٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمُ ... بِقَوْلٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

يعنِي: ما أرسلتُهم برسالةٍ. وقول الآخَرِ (¬1): أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولاً ... بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ [11/ب] أي: (بني عمرو رسولاً) أي: رسالة. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ/ ومن فوائدِ كونِ الرسولِ أصلُه مصدرٌ تُحل إشكالاتٍ في القرآنِ؛ لأن العربَ إذا نَعَتَتْ بالمصدرِ أَلْزَمَتْهُ الإفرادَ والتذكيرَ (¬2)، وربما تَنَاسَتِ المصدريةَ فيه وعملت بالوصفيةِ العارضةِ فَجَمَعَتْهُ وَثَنَّتْهُ؛ ولذا جاء الرسولُ مُفْرَدًا في القرآنِ والمرادُ به اثنانِ، وجاء مُفْرَدًا في كلامِ العربِ والمرادُ به جمعٌ نَظَرًا إلى أن أصلَه مصدرٌ. فإذا قال لك قائلٌ: اللهُ يقولُ عن موسى وهارونَ في سورةِ طه: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: آية 47] بالتثنيةِ، ويقولُ في القصةِ بِعَيْنِهَا في سورةِ الشعراءِ: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 16] بالإفرادِ، ولم يقل: «رسولا رب العالمين». فالجوابُ: إن الإفرادَ نَظَرًا إلى أصلِ الرسولِ، وأن أصلَه مصدرٌ، والعربُ إذا نَعَتَتْ بمصدرٍ أَلْزَمَتْهُ التذكيرَ، وأن التثنيةَ في قولِه: {رَسُولاَ} والجمعُ في قولِه: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: آية 253] نظرًا إلى الوصفيةِ العارضةِ؛ لأن العربَ نَقَلَتْهُ من المصدريةِ فَجَعَلَتْهُ وصفًا؛ ولأجلِ كونِ أصلِه مصدرًا تُطْلِقُهُ العربُ مفردًا وتريدُ به الجمعَ على عادةِ النعتِ بالمصادرِ، ومنه قولُ أَبِي ذؤيبٍ الْهُذَلِيِّ (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (78) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو ... لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ فقولُه: «أعلمهم» رَدَّ الجمعَ على الرسولِ مُفْرَدًا نظرًا إلى أن أصلَه مصدرٌ. وهذا معنَى قولِه: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} هي كالقراءاتِ التي قَدَّمْنَا في كلامِ نوحٍ (¬1)، قَرَأَهَا أبو عمرٍو: {أُبلِغْكم رسالات ربي} والباقونَ: {أُبَلِّغُكُمْ} وتفسيرُها كتفسيرِ الذي قَبْلَهَا بلا زيادةٍ. {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} وأنا لكم ناصحٌ فيما أقولُ، لاَ أغشكم ولا أخدعُكم، أمينٌ فيه لا أكذبُ، وأنتم تعلمونَ أني فيما مَضَى في غايةِ النصحِ والأمانةِ؛ لأني رجلٌ منكم قد جَرَّبْتُمُونِي قبلَ الرسالةِ فما جربتم فِيَّ إلا النصحَ والأمانةَ، فأنا لكم ناصحٌ. وكُلُّ خالصٍ لا شائبةَ فيه يُسَمِّيهِ العربُ (ناصحًا) والناصحُ: هو السالمُ من جميعِ الغشِّ والخديعةِ. والأمينُ: هو الذي لا خيانةَ معه. أنا لكم ناصحٌ فيما جئتُكم به، لا غشَّ معي ولا خديعةَ، أمينٌ فيما أقولُ لكم، في غايةِ الصدقِ، ليس فيه كَذِبٌ، هذه حقيقتِي، أما السفاهةُ التي رَمَيْتُمُونِي بها فليست بي سفاهةٌ. ولم يقل لهم: «بل أنتم السفهاء» لكرامةِ رَدِّ الرسلِ، ومعاملتِهم للجهلةِ الْحَمْقَى بالتي هي أحسنُ. وهذا معنَى قولِه: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} الرسالاتُ جمعُ رسالةٍ، وهي اسمٌ لِمَا يُرسِلُ به المرسِلُ رسولاً إلى غيرِه. ورسالاتُ اللهِ هي ما بَعَثَهُ به إليهم من الإيمانِ باللهِ وطاعتِه وامتثالِ أمره واجتنابِ نواهيه. ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (62) من سورة الأعراف.

قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)} [الأعراف: الآيات 69 - 72]. يقول اللهُ جل وعلا: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)} [الأعراف: آية 69]. هذه الآيةُ التي هي قولُه: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} فَسَّرْنَاهَا؛ لأنها اتَّفَقَ فيها قولُ نوحٍ وقولُ هودٍ، فَكُلٌّ منهم قالها لقومِه؛ لأن كلاًّ من قومِهما عَجِبُوا من أن يَبْعَثَ اللَّهُ بَشَرًا، وكذلك عادةُ الأممِ أن تعجبَ من بَعْثِ الرسلِ، ويقولونَ: لاَ يمكنُ أن يبعثَ اللهُ رسولاً يأكلُ ويشربُ ويتزوجُ ويُولَدُ له، حتى إن الله (جل وعلا) بَيَّنَ أن هذه الشبهةَ الكاذبةَ كانت هي المانعَ الأكبرَ من إيمانِ الناسِ، حيث قال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً (94)} [الإسراء: آية 94] كأنه قال هنا: ما منعَهم من الإيمانِ إلا استغرابُ بَعْثِ البشرِ واستعجابُهم منه، كما أن الذين بُعِثْ فيهم نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَجِبُوا من بَعْثِ البشرِ كما قال تعالى في أولِ سورةِ يونسَ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ

النَّاسَ} [يونس: آية 2] وقال في أولِ سورةِ ق: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِّنْهُمْ} [ق: آية 2] والآياتُ بمثلِ ذلك كثيرةٌ. وقد بَيَّنَّا (¬1) أن أظهرَ الوجهين في قولِه: {أَوَعَجِبْتُمْ} أن الهمزةَ تتعلقُ بمحذوفٍ، والواو مفتوحة؛ لأنها عاطفةٌ على ذلك المحذوفِ، وتقديرُه: أكفرتُم وعجبتُم أن يأتيكم ذِكْرٌ من ربكم على رجلٍ منكم؟ وقد فَسَّرْنَا الآيةَ، وبينا أن الذِّكر هو المواعظُ والأوامرُ والنواهي التي تأتيهم بها الرسلُ، وأن قولَه: {عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ} على لسانِ رجلٍ منكم، لأن أنبياءَ اللهِ رجالٌ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} [يوسف: آية 109] فلم يُرْسِلِ اللهُ امرأةً قَطُّ؛ ولذا قال: {عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} كما أوضحناه في مقاولةِ نوحٍ لقومِه. ثم إن نبيَّ اللهِ هودًا قال هنا لقومِه ما لم يَقُلْهُ نوحٌ لقومِه، وهو قولُه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: آية 69] {وَاذكُرُوا} نِعَمَ اللهِ عليكم: {إِذْ جَعَلَكُمْ} خلفاءَ في الأرضِ، يعني: بأن أَهْلَكَ قومَ نوحٍ واستخلفكم في الأرضِ فجعلكم خلفاءَ في الأرضِ آمِنِينَ فيها، عليكم نعم اللهِ مُسْبَلَةً. والخلفاءُ: جمع خليفةٍ، وهو مَنْ يُستخلف بعدَ مَنْ كان قبلَه. قال بعضُ العلماءِ: إنما قيل لهم (خلفاءَ) لأنهم صاروا خَلَفًا من قومِ نوحٍ حيث أَهْلَكَ اللهُ أولئك وأسكن هؤلاء في الأرض بعدَهم، فكانوا خَلَفًا من بعدهم، وخلفاءَ مِنْ بعدِهم. وقال بعضُهم: إنهم خلفاءُ أي: فيهم ملوكٌ، والعربُ تُسَمِّي الخليفةَ الذي يكونُ مَلِكًا بعدَ مَنْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

قبلَه: خليفةً. ولفظُه مؤنثٌ (¬1) ومعناه مُذَكَّرٌ، فيجوزُ تذكيرُ الضمائرِ الراجعةِ عليه نَظَرًا إلى المعنَى، ويجوزُ تأنيثُها كما قال الشاعرُ (¬2): أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: آية 69] الخلفاءُ: جمعُ الخليفةِ؛ لأنه جَعَلَهُمْ خَلَفًا منهم يسكنونَ الأرضَ، أو جَعَلَهُمْ ملوكَ الأرضِ. يزعم أصحابُ القصصِ والأخبارِ أنهم كان عددُهم كثيرًا جِدًّا، وأنهم منتشرونَ فيما بينَ حضرموتَ إلى عمانَ (¬3)، وأنهم كانوا يظلمونَ غيرَهم ويقهرونَهم لِمَا أعطاهم اللهُ من القوةِ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ أن منازلَهم كانت في الأحقافِ حيث قال في سورةِ الأحقافِ: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: آية 21] وقد بَيَّنَّا (¬4) أن الأحقافَ جمعُ حِقْفٍ، والحِقفُ في لغةِ العربِ: الحبلُ من الرملِ، الرملُ المرتفعُ تُسَمِّيهِ العربُ حِقفًا، فالأحقافُ: الرمالُ. والمفسرونَ يقولونَ: إنها رمالٌ في جوانبِ اليمنِ وحضرموتَ، وأنهم كانوا في تلك الرمالِ بينَها أوديةٌ يزرعونَ فيها ويعيشون. وسيأتِي في سورةِ الفجرِ قولُ مَنْ قال من العلماءِ: إنهم كانوا رُحَّلاً يذهبونَ بالمواشِي؛ لأنه أحدُ القولين في قولِه: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} [الفجر: آية 7] لأن أحدَ القولين في معنىَ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} أنهم أصحابُ عمودٍ يرتحلونَ وَيَبْنُونَ خيمهم على العمدِ؛ ولذا قيل لهم: {ذَاتِ الْعِمَادِ} على أحدِ الوجهين. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) انظر: ابن جرير (12/ 507). (¬4) مضى عند تفسير الآية (60) من سورة الأعراف.

والوجهُ الثاني: أنهم لقوةِ أجسامِهم وَعِظَمِهَا وَطُولِهَا وبدانتِها قيل فيهم: {ذَاتِ الْعِمَادِ} لشدةِ اعتمادِ أجسامِهم وقوتِها كما يأتي هناك (¬1). وهذا معنَى قولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} [الأعراف: آية 69] أي: في الأرضِ في عافيةٍ وطمأنينةٍ ورفاهيةٍ من الدنيا من بعدِ قومِ نوحٍ. والآيةُ تشيرُ إلى تهديدٍ، يعني: كما أن قومَ نوحٍ لَمَّا كذبوا نُوحًا دمَّرهم اللهُ وأهلكهم، وجعلَكم خلفاءَ في الأرض من بعدِهم فاحذروا أن تفعلوا مثلَ فعلهم؛ لئلا يُهْلِكَكُمْ ويجعلَ خلفاءَ الأرض بعدَكم غيرَكم. فيه تهديدٌ وتذكيرٌ بالنعمةِ. وهذا معنَى قولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ}. وبعضُ علماءِ العربيةِ (¬2) يقولونَ: (إذ) ها هنا مفعولٌ به لا مفعول فيه. أعني: أنها مفعولٌ وليست ظَرْفًا. والمعنَى: {اذْكُرُوا} تَذَكَّرُوا الوقتَ الذي جَعَلَكُمْ فيه خلفاءَ من بعدِ قومِ نوحٍ تَذَكُّرًا يحملكم على شكرِ نعمةِ اللهِ والخوفِ من نِقَمِه أن يُنْزِلَ بكم مثلَ ما أَنْزَلَ بقومِ نوحٍ. وهذا معنَى قولِه: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: آية 69] الذين أَهْلَكَهُمُ الطوفانُ إهلاكًا مستأصلاً. {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: آية 69] في هذا الحرفِ قراءتانِ سبعيتان (¬3): {بصطة} بالصادِ، و {بسطة} بالسينِ. فقولُه: {وزادكم في الخلق بصطة} بالصادِ هي قراءةُ نافعٍ والكسائيِّ، وقراءةُ ابنِ كثيرٍ في روايةِ البزيِّ خاصةً، وقراءةُ عاصمٍ في روايةِ شعبةَ خاصةً، وقراءةُ ابنِ عامرٍ في روايةِ ابنِ ذكوانَ خاصةً. أما حمزةُ ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (4/ 507). (¬2) وهو قول الزمخشري في الكشاف (2/ 69). وانظر: الدر المصون (5/ 360). (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص 148.

فقرأها عنه خلادٌ بالوجهين: {بصطة} بالصادِ، و {بسطة} بالسينِ. فقد قَرَأَهَا خلادٌ عن حمزةَ بالوجهين، وقرأها نافعٌ، وأبو عمرو، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ، وشعبةُ عن عاصمٍ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ، كل هؤلاء قرءوا: {بصطة} بالصادِ. وَقَرَأَهَا الباقونَ بالسينِ، والباقونَ الذين قرءوها بالسينِ هم: أبو عمرو، وعاصمٌ في روايةِ حفصٍ، وابنُ عامرٍ في روايةِ هشامٍ، وابنُ كثيرٍ في روايةِ قنبل، وحمزةُ في روايةِ خَلَفٍ، كل هؤلاء قرءوا: {بسطة}. وما ذكره الشاطبيُّ (¬1) وغيرُه من أن ابنَ ذكوانَ له عن ابنِ عامرٍ فيها: (السين والصاد) كقراءةِ خلادٍ عن حمزةَ ليس يصحُّ عند الْمُحَقِّقِينَ؛ لأن جميعَ رواياتِ الشاطبيِّ إنما هي من طريقِ أبي عمرٍو الداني، وأبو عمرٍو الداني لم يذكر عن أحدٍ مِمَّنْ ذَكَرَ عنهم القراءاتِ عن ابنِ ذكوانَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ إلا {بصطة} بالصادِ خاصة، ولم يَرْوِ عنه السينَ عن أحدٍ، فهذانِ هما القراءتانِ السبعيتانِ. والبسطةُ والبصطةُ معناهما واحدٌ، وإنما أُبْدِلَتِ السينُ صادًا في قراءةِ مَنْ قَرَأَ: {بصطة} بالصادِ نَظَرًا إلى حرفِ الإطباقِ الذي بعدَ السينِ وهو الطاءُ، ولذلك تُبْدَلُ السينُ صادًا كثيرًا إذا كان بعدَها حرفٌ من حروفِ الإطباقِ، والأصلُ (بسطة) بالسينِ. والبسطُ: أصلُه الزيادةُ. والمعنَى: زَادَكُمْ في خلقِ أجسامِكم بسطةً. أي: زيادةً على خَلْقِ الناسِ في الطولِ وَعِظَمِ الأبدانِ وقوتِها وبدانتِها، كما يأتي في سورةِ فصلت قولُ بعضِ العلماءِ: إنهم - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - زعموا أنه لا يمكنُ أن نقهرَهم قوةً ولو قوةَ اللَّهِ (عز ¬

(¬1) انظر: الوافي في شرح الشاطبية ص220.

وجل) - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - كما يأتي قولُ مَنْ قال بذلك في قولِه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: آية 15] مَنْ هو الذي يكونُ أشدَّ منا قوةً حتى يقهرنا؟ ثم إن اللَّهَ بَيَّنَ أن اللَّهَ الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوةً. وَلَمَّا أرسلَ عليهم الريحَ العقيمَ علموا أنهم ضعافٌ غايةَ الضعفِ إذا جاءتهم قوةُ رَبِّ العالمين التي يهلكهم بها ويسلطها عليهم، وهذا معنَى قولِه: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}. {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} ذكَّرهم نبيُّ اللهِ هودٌ عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ، أمرهم أن يذكروا آلاءَ اللهِ. وآلاَءُ اللهِ: نِعَمُهُ المتواترةُ عليهم، من الصحةِ والعافيةِ وقوةِ الأبدانِ، وما يَسَّرَ لهم من الأرزاقِ والرفاهيةِ في الدنيا. والآلاءُ: النِّعَمُ، واحدُه (إِلى) بكسرِ الهمزةِ وفتحِ اللامِ مقصورًا، كَعِنَبٍ وَأَعْنَابٍ. ويقال فيه: (إِلْيٌ) و (ألْوٌ) و (ألآء) وأكثرُها في مفردِ الآلاءِ: (إِلىَ) بكسرٍ فَفَتْحٍ (¬1)، والمرادُ به النعمةُ. والآلاءُ: النِّعَمُ {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} أي: تَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ الكثيرةَ التي لا تُحْصَى، التي أَنْعَمَهَا عليكم ذِكْرًا يحملكم على طاعةِ اللهِ، وتصديقِ رسولِه، وعبادتِه وحدَه، وتركِ عبادةِ الأصنامِ. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والآيةُ تدلُّ على أن مَنْ تَذَكَّرَ نِعَمَ اللهِ عليه ذِكْرًا يحملُه على شكر تلك النعمةِ والخضوعِ لله والإنابةِ إليه بطاعتِه أنه يُفْلِحُ؛ ولذا رَتَّبَ على قولِه: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإنكم إن ذَكَرْتُمْ آلاءَ اللهِ يُرْجَى لكم الفلاحُ، بناءً على أن (لعل) على بابِها من التَّرَجِّي بحسبِ ما يظهرُ لهودٍ (عليه الصلاةُ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 506)، القرطبي (7/ 237)، الدر المصون (5/ 360)، تفسير المشكل من غريب القرآن ص85.

والسلامُ). وعلى أنها حرفُ تعليلٍ فالمعنَى: اذكروا نعمةَ اللهِ لأَجْلِ أن تُفْلِحُوا. وقد بَيَّنَّا مرارًا (¬1) أن العربَ تقولُ: أَفْلَحَ الرجلُ يُفْلِحُ فلاحًا. والفلاحُ: اسمُ المصدرِ، والقياسُ في مصدرِها: (إفلاحًا)؛ لأن المقررَ في فَنِّ التصريفِ: أن كُلَّ ماضٍ جاء على وزنِ (أَفْعَلَ) فالقياسُ في مصدرِه أن يكونَ (إفعالاً) ما لم يكن مُعْتَلَّ العينِ، فإن كان معتلَّ العينِ سَقَطَتِ العينُ بالاعتلالِ وَعُوِّضَتْ منها التاءُ على الروايةِ الكثيرةِ الفصيحةِ، كما هو معروفٌ في علمِ العربيةِ، مُوَضَّحٌ في فَنِّ التصريفِ. فالفلاحُ اسمُ مَصْدَرٍ. والفلاحُ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ كما بَيَّنَّاهُ مرارًا، يطلقُ الفلاحُ في لغةِ العربِ على الفوزِ بالمطلوبِ الأكبرِ، تقولُ العربُ: أَفْلَحَ فلانٌ. إذا فَازَ بأعظمِ مطلوبٍ كان يطلبُه. فَمَنْ نالَ رغبتَه وحصَّل مطلوبَه تقولُ له العربُ: أَفْلَحَ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ (¬2): فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ يعنِي: مَنْ أعطاه اللَّهُ نورَ العقلِ فَازَ بالمطلوبِ الأكبرِ؛ لأَنَّ العقلَ يعقلُه عما لا ينبغي، ويميزُ به الحسنَ والقبيحَ، والنافعَ والضارَّ، والحقَّ والباطلَ. وَيُطْلَقُ الفلاحُ في لغةِ العربِ أيضًا على البقاءِ السرمديِّ الدائمِ في النعيمِ، تقولُ العربُ: أفلحَ فلانٌ. إذا كان بَاقِيًا في نعيمٍ سَرْمَدِيٍّ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (8) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (8) من هذه السورة.

وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ أيضًا في رجزه (¬1): لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلاَحِ ... لَنَالَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ وقولُه: «مدركُ الفلاحِ» أي: مدرك البقاء في الدنيا بلا مَوْتٍ. ومنه بهذا المعنَى قولُ كعبِ بنِ زهيرٍ، أو الأضبطِ بنِ قريعٍ في الشعرِ المشهورِ (¬2): لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَةْ ... وَالْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ يعنِي أنه لا بقاءَ في الدنيا مع تخالفِ الإمساءِ والإصباحِ. وبهذين الْمَعْنَيَيْنِ اللذين هما البقاءُ السرمديُّ في النعيمِ، والفوزُ بالمطلوبِ الأكبرِ، بكلِّ واحدٍ منهما جاءَ تفسيرُ حديثِ الأذانِ والإقامةِ في قولِه: «حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ» فقال بعضُ العلماءِ: «حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ» هَلُمَّ إلى الفوزِ بالمطلوبِ الأكبرِ وهو الجنةُ وَرِضَى اللهِ؛ لأن أعظمَ أسبابِ ذلك: الصلاةُ. القولُ الثاني: «حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ» هَلُمَّ إلى البقاءِ السرمديِّ في جناتِ النعيمِ؛ لأن أكبرَ أسبابِ ذلك: الصلاةُ كما هو معروفٌ فِي تفسيرِ حديثِ الأذانِ والإقامةِ. وهذا معنَى قولِه: {فَاذْكُرُوا آلاء الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: آية 69] هذه عادةُ الرسلِ - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم - بِعِظَمِ التذكيرِ، وشدةِ النصحِ، ولطافةِ الأسلوبِ، والاجتهادِ في هُدَى قومهم، ولكن الْهُدَى بيدِ اللهِ: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: آية 41]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (111) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)} [الأعراف: الآيات 70، 72]. لَمَّا نصحَ نَبِيُّ اللَّهِ هودٌ قومَه هذا النصحَ الكريمَ، وذكَّرهم بآلاءِ اللهِ وَنِعَمَهُ، وأشارَ لهم إلى أن اللهَ أَهْلَكَ مَنْ كان قبلَهم لَمَّا عَصَوْا وتمردوا، وكان قد خَوَّفَهُمْ قبلَ هذا وهددهم بأنهم إن لم يؤمنوا باللهِ أَهْلَكَهُمُ اللهُ وَعَذَّبَهُمْ، قالوا له هذا الجوابَ الخبيثَ الذي هو في غايةِ الخبثِ وبذاءةِ اللسانِ والعتوِّ والتمردِ على اللهِ {قَالُوا} أي: قال: قومُ هودٍ لهودٍ: {أَجِئْتَنَا} يا هودُ بهذه الدعوى التي جئتَ بها، وَالدِّينِ الذي تَزْعُمُ وتدعو إليه لِتَصْرِفَنَا عن آلهتِنا التي كنا نعبدها: {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} نعبد إِلَهًا واحدًا لا نشرك به شيئًا آخَرَ من الآلهةِ {وَنَذَرَ} أي: ونتركَ {مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهةِ. فقولُه: {وَنَذَرَ} معناه: نتركَ. وهذا الفعلُ لا يوجدُ منه في العربيةِ إلا مضارعُه وَأَمْرُهُ، تقول: «يَذَرُ الأمرَ» بمعنَى: يتركه، و (ذَرْ) بمعنى: اتْرُكْ. ولا يُستعمل منه في العربيةِ إلا الأمرُ والمضارعُ، فماضيه: (تَرَكَ)، واسمُ فاعلِه: (تارك)، واسمُ مفعولِه: (متروكٌ)، ومصدرُه: (التركُ)؛ لأنه لاَ يوجدُ منه إلا الأمرُ والمضارعُ (¬1). فمعنَى {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف: آية 70] أي: لِنُفْرِدَ خالقَ السماواتِ والأرضِ وحدَه بالعبادةِ: {وَنَذَرَ} أي: ونتركَ {مَا كَانَ} أي: عبادةَ ما كان يعبدُه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

آباؤُنا من قَبْلِنَا من هذه الآلهةِ والأصنامِ. وكانت عندَهم أصنامٌ يسمونها، كما دَلَّ عليه قولُه: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} [الأعراف: آية 71] والمؤرخونَ وأهلُ الأخبارِ يزعمونَ أن منها صَنَمًا يُسَمَّى: صداء أو (صمدا)، وَصَنَمًا يُسَمَّى: (صمودا) وصنمًا يُسَمَّى: (الهباء) (¬1). وهم يعبدونَ هذه الأصنامَ ويسمونَها بهذه الأسماءِ. {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} هذا إنكارٌ منهم، وهم يُنْكِرُونَ أعظمَ الحقِّ وأوضحِ الْحِجَجِ، وهي توحيدُ رَبِّ العالمين. {وَنَذَرَ} أي: ونتركَ {مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} مِنْ قَبْلِنَا. ثم قالوا له: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} نحنُ لا نُصَدِّقُكَ أبدًا ولا نؤمنُ لكَ أبدًا، فالعذابُ الذي تُهَدِّدُنَا به عَجِّلْ به علينا، فإن كان عندكَ شيءٌ أو صِدْقٌ فَأْتِ بالذي تُهَدِّدُنَا به وَتُخَوِّفُنَا به، إن كنتَ صادقًا في ذلك الوعيدِ فهاتِ العذابَ وَعَجِّلْهُ. وهذا أعظمُ طغيانٍ وَتَمَرُّدٍ، كما قال كفارُ مكةَ: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: آية 32] وقالوا: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: آية 16] فَاسْتَعْجَلُوا بالعذابِ وأظهروا التمردَ النهائيَّ، وأنهم لا يَرْتَدِعُونَ ولا ينكفون عن كفرهم. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي: بالذي تَعِدُنَا به من العذابِ، وعذابُ اللهِ لنا في زعمكَ ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 121)، وفي تفسير ابن جرير (12/ 507)، «صُداء» و «صمود» و «الهباء». وفي ابن كثير (2/ 225)، كما في الأصل عدا الأخير (الهنا) وهو تحريف كما لا يخفى. وانظر: (تكملة أسماء الأصنام) وهو ملحق في آخر كتاب الأصنام لابن الكلبي ص110، 111، وانظر كذلك: الشرك الجاهلي وآلهة العرب المعبودة في الإسلام ص148 - 149.

إن كنتَ مِنْ جملةِ الصادقين فهاتِ الذي تُهَدِّدُنَا به، تَمَرُّدًا على اللهِ، وتعجيزًا لرسولِه، واستخفافًا بدعوةِ نَبِيِّهِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - فَأُوحِيَ إلى هودٍ في ذلك الوقتِ أن القولَ حَقَّ عليهم، وأن العذابَ وَجَبَ عليهم، وأن اللَّهَ قَضَى أمرَه فيهم فقال - بسببِ ذلك - هودٌ: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف: آية 71] جَزَمَ بأنه وقعَ عليهم بالفعلِ؛ لأن [الْمُتَوَقَّعَ كالواقعِ] (¬1)؛ لأن اللهَ حَكَمَ به. ومن أساليبِ اللغةِ العربيةِ: إطلاقُ الفعلِ الماضِي مُرَادًا به المستقبلُ إيذانًا بتحققِ الوقوعِ، وهو كثيرٌ في القرآنِ العظيمِ جِدًّا وفي كلامِ العربِ (¬2)، ومنه في القرآنِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} يعنِي القيامةَ، بدليلِ: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: آية 1] وَأَكْثَرَ اللَّهُ منه في سورةِ الزمرِ حيث قال: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} إلى قولِه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر: الآيات 69 - 73] كُلُّ هذه الأفعالِ الماضيةِ المذكورةِ في الزمرِ معناها: الاستقبالُ، وإنما عُبِّرَ عنها بالماضِي إيذانًا بتحققِ الوقوعِ. والرِّجْزُ هنا: العذابُ. قال بعضُ العلماءِ: أصلُه من الارتجازِ، وهو الاضطرابُ؛ لأن الْمُعَذَّبَ يبقى في الاضطرابِ. وهو (رجسٌ) بالسينِ هنا. {رِجْسٌ} أي: عذابٌ. وربما يقالُ للرجسِ: (رجزٌ) بالسينِ والزايِ. ومعناه: العذابُ. والمعنَى: وَقَعَ عليكم عذابٌ وغضبٌ كائنٌ من ربِّكم فمعناه أن اللَّهَ غَضِبَ عليكم، وأنه مُعَذِّبُكُمْ عذابًا مستأصلاً لا مَحَالَةَ. ¬

(¬1) في الأصل: «الواقع كالمتوقع». وهو سبق لسان. (¬2) راجع ما مضى عند تفسير الآية (148) من سورة الأنعام ..

والغضبُ وصْفٌ وَصَفَ اللهُ به نفسَه إذا انْتُهِكَتْ حرماتُه. فنحن معشرَ المسلمين نَمْشِي على ما كان عليه السلفُ الصالحُ نُمِرُّ كُلَّ الصفاتِ كما جاءت، ونصدقُ رَبَّنَا فيما وَصَفَ به نفسَه مع التنزيهِ التامِّ الكاملِ عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقين، على نحوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] كما أوضحناه في آيةِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: آية 54]. ثم قال لهم نَبِيُّ اللهِ هودٌ: {أَتُجَادِلُونَنِي} معناه: تُخَاصِمُونَنِي وَتُنَازِعُونَنِي: {فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} أنا أدعوكم إلى عبادةِ الواحدِ الجبارِ، خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي هو يرزقُكم وَيُمِيتُكم ويحييكم، وأنتم تخاصمونَني وتجادلونَني لتعبدوا أسماءً بلا مسمياتٍ، لا حقيقةَ لها، لا تنفعُ ولا تضرُّ، فهذا أمرٌ جديرٌ بأن يُنْكَرَ. والمجادلةُ: المخاصمةُ. قال بعضُ العلماءِ: أصلُ اشتقاقِها من (الْجِدَالةِ)، والجِدَالةُ: الأرضُ، وجدَّلَه: إذا تَرَكَهُ صريعًا في الأرضِ. قالوا: كأن المتضاربَيْن في الخصامِ كُلٌّ منهما يريدُ أن يُسْقِطَ صاحبَه حتى يُجَدِّله. هكذا قال بعضُهم واللَّهُ أعلمُ (¬1). {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ} أي: في أصنامِكم، وإنما هي أسماءٌ بلا مسمياتٍ؛ لأنكم تزعمونَ أنها آلهةٌ، وأنها معبوداتٌ!! ومعنَى الإلهيةِ واستحقاقِ العبادةِ مَنْفِيٌّ عنها نَفْيًا بَاتًّا، فهي اسمٌ بلا مُسَمًّى؛ شيءٌ اخْتَلَقَتْهُ ألسنتُكم لا حقيقةَ له في نفسِ الأمرِ. تُجَادِلُونَنِي فيها زاعمينَ أنها لا بُدَّ أن تُعْبَدَ مع اللهِ، وأنها شركاءُ له يُصْرَفُ لها من الحقوقِ كما يُصْرَفُ له. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: جدل) ص189.

{سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} هم الذين اخترقوا لها هذه الأسماءَ بلا مسمياتٍ، إِذِ الأسماءُ التي وَضَعْتُمْ لها ليس لها أساسٌ من الحقيقةِ ولاَ من الصحةِ. فليست بآلهةٍ ألبتةَ، وليست بمستحقةٍ للعبادةِ ألبتةَ، كما صَرَّحَ اللهُ بذلك في قولِه: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: آية 66] يعني: هؤلاء الذين يتبعونَهم ليسوا شركاءَ ألبتةَ في الحقيقةِ. ثم قال: {مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} لأن هذه الآلهةَ التي تعبدونَ {مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا} أي: بعبادتِها واستحقاقِها للعبادةِ {مِنْ سُلْطَانٍ} أي: من حُجَّةٍ واضحةٍ أبدًا، بل الذي نزَّله اللهُ من الحججِ القاطعةِ مَنْعَ عبادتِها، وكُفْرَ عابدِها، وخلودِه في النارِ. ثم قال: {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} انتظرُوا ماذا يحدثُ عليكم من اللهِ وهو الغضبُ والهلاكُ الذي وعدتُكم به أنه وَجَبَ وحقَّ عليكم. {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ} وسوفَ تعلمونَ عن طريقِ ذلك الانتظارِ هل يقعُ عليكم ما وعدتُكم به أو لا يقعُ. وهو تهديدٌ عظيمٌ. ثم إن اللهَ بَيَّنَ مصيرَ الجميعِ، قال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [الأعراف: آية 72] فَأَنْجَيْنَا هودًا والذين آمنوا معه - وهم طائفةٌ قليلةٌ - أنجيناهم برحمةٍ مِنَّا. وذلك الإنجاءُ من عذابٍ شديدٍ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ: {وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: آية 58].

{وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قولُه: «قَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُمْ» معناه: اسْتَأْصَلَهُمْ عن آخرِهم؛ لأن النسلَ كأنه دابرٌ للآباءِ، فالدابرُ هو الذي يتبعك عند دُبُرِكَ، فكأن الآباءَ أمةٌ سالفةٌ، ونسلَهم شيءٌ تابعٌ أَدْبَارَهُمْ، نَاشِئٌ بعدَهم. فإذًا قَطْعُ الدابرِ معناه: أُهلكوا عن آخرِهم فلم يَبْقَ منهم نسلٌ يَدْبُرهم، أي: يَمْشِي في دبرهم سالكًا الحياةَ بعدَهم. فقَطْع الدابرِ معناه: إهلاكُهم المستأصلُ بحيث لا يَبْقَى لهم نسلٌ في الأرضِ يكونُ حَيًّا عن دبرٍ منهم، بل أهلكهم اللهُ جميعًا، ولم يترك منهم دَاعيًا ولا مُجِيبًا. والمفسرونَ يذكرونَ قِصَّتَهُمْ (¬1) هنا، ويذكرُه الأخباريون (¬2) وبعضُها جاء به بعضُ الأحاديثِ، كما جاء في حديثٍ عن الإمامِ أحمدَ (¬3). والذي يَعْرِفُ التاريخَ معرفةً لا بأسَ بها يظهر له أن كثيرًا مما يزعمُه المؤرخونَ في قصةِ عادٍ أنه ليس من الشيءِ الصحيحِ. ومعلومٌ أن التاريخَ وَالسِّيَرَ كالإسرائيلياتِ، منها ما هو صحيحٌ، ومنها ما ليس بصحيحٍ، فَتُحْكَى لِيُعْتَبَرَ بما فيها من الغرائبِ والعجائبِ، وَيُنْتَفَعَ بما ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 508)، ابن كثير (2/ 225). (¬2) انظر: البداية والنهاية (1/ 126). (¬3) أحمد (3/ 481، 482)، والترمذي في تفسير القرآن، باب: «ومن سورة الذاريات» حديث رقم (3273، 3274)، (5/ 391، 392)، وابن ماجه في الجهاد مختصرًا باب: (الرايات والألوية). حديث رقم (2816)، (2/ 941)، وابن جرير (12/ 513، 516). وانظر: صحيح الترمذي، حديث رقم (2611)، وصحيح ابن ماجه، حديث رقم (2272)، والسلسلة الصحيحة (5/ 137).

تشيرُ إليه من اجتلابِ المصالحِ وتجنبِ المضارِّ، ولا يُحْكَمُ بصحةِ شيءٍ منها إلا شيءٌ قام عليه دليلٌ من كتابٍ أو سُنَّةٍ. والمفسرونَ يذكرونَ في قصتِهم أنهم لَمَّا تَمَرَّدُوا هذا التمردَ العظيمَ على نَبِيِّ اللهِ هودٍ، وأراد اللهُ أن يُهلكهم أمسكَ عنهم المطرَ ثلاثَ سِنِينَ، فقحطت أرضُهم وأجدبوا وجاعوا، وأضعفَهم القحطُ وكادَ يُهلكهم. ويزعمونَ أن عادةَ الناسِ في ذلك الزمانِ أن مَنْ أَصَابَهُ كَرْبٌ أو بلاءٌ يُرْسِلُونَ مَنْ يدعو اللهَ لهم عند بيتِه الحرامِ؛ لأنهم يظنونَ أن اللهَ إذا دُعِيَ عند بيتِه الحرامِ لا يَرُدُّ مَنْ دعاه ولا يخيِّبه. فلما وَقَعَ بهم ما وَقَعَ جَهَّزُوا وفدًا منهم، يزعمونَ أنه يقربُ من سبعينَ رجلاً، كبيرُهم: قَيْل بنُ عنز، المشهورُ في التاريخِ، وأرسلوا معه جماعةً من كبرائِهم - يزعمُ المؤرخونَ أن منهم: نعيمَ بنَ هزَّالةَ، ومنهم: مرثدُ بنُ سعدٍ. وكان مرثدُ بنُ سعدٍ فيما يزعمونَ مِمَّنْ آمَنَ بهودٍ، وكان يكتُم إيمانَه - ويزعمونَ أن الذين عند مكةَ في ذلك الوقتِ العمالقةُ، والعمالقةُ: أولادُ عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وأن رئيسَهم في ذلك الزمانِ يُسمَّى: معاويةَ بنَ بكرٍ، وأن أخوالَه عادٌ، وهم أخوالُه وأصهارُه، وأنه كان نازلاً بظاهرِ مكةَ خارجًا عن الْحَرَمِ، وأن الوفدَ الذي أرسلَه عادٌ ليستسقيَ اللهَ لهم عند بيتِ اللهِ الحرامِ نزلوا عندَ معاويةَ بنِ بكرٍ رئيسِ العماليقِ، وكان عادٌ أخوالَه وأصهارَه، وكان عنده قينتان يُغَنِّيَانِ، اسْمُهُمَا: الجرادتانِ، وأن رئيسَ العماليقِ - وهو معاويةُ بنُ بكرٍ - مَكَثَ عندَه الوفدُ العادي شهرًا، يسقيهم الخمرَ، وَيُحْسِنُ إليهم، وتغنيهم الجرادتانِ، حتى نَسُوا ما جاؤوا من أَجْلِهِ. وكان معاويةُ بنُ بكرٍ - فيما يزعمُه المؤرخونَ والمفسرونَ -

رَقَّ لأخوالِه وأصهارِه عادٍ، وَأَسَاءَتْهُ حالةُ وَفْدِهِمْ، ولم يَقْدِرْ أن يُبَيِّنَ لهم شيئًا لئلا يظنوا أنه مُسْتَثْقِلٌ بضيافتِهم، فاستشارَ قينتيه فَقَالَتَا: قُلْ شعرًا تنبههم به ونغنيهم بذلك الشعرِ لينتبهوا، وأن معاويةَ بنَ بكرٍ ابتدعَ الشعرَ المذكورَ المعروفَ الذي نَبَّهُهُمْ به، وأن الجرادتين [غنتاهم] (¬1) بذلك الشعرِ، [وأنهم لما غنتاهم] (¬2) الجرادتان به انتبهوا وذهبوا إلى بيتِ اللهِ الحرامِ فقام قَيْل يدعو عندَ البيتِ، ويزعمُ المؤرخونَ والمفسرونَ أنه طَلَعَتْ سَحَابَاتٌ، وناداه منادٍ: اخْتَرْ أيها شِئْتَ؟! وأنه اخْتَلَى السوداءَ، وأنه سَمِعَ فيها قائلاً يقولُ: اخْتَرتَ رمادًا رمددًا، لا يترك من عادٍ أحدًا، لا والدًا ولا ولدًا. وأن تلك السحابةَ ذَهَبَتْ إليهم وجاءت مِنْ قِبَلِ وادٍ لهم يسمونَه: المغيثَ، ففرحوا بها وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: آية 24] ويزعمُ المؤرخونَ أن منهم امرأةً تُسَمَّى: مميد (¬3)، أنها صُعِقَتْ، فلما أَفَاقَتْ قالوا: ما بَالُكِ؟ قالت: رأيتُ في العارضِ الذي تظنونه مطرًا شيئًا كالنارِ مَعَهُ رياحٌ، تَقُودُهُ رجالٌ، وفيه هلاكٌ. فأرسل اللهُ عليهم الريحَ العقيمَ، ما تذرُ من شيءٍ أَتَتْ عليه إلا جَعَلَتْهُ كالرميمِ، كما قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} [الحاقة: الآيتان 6، 7] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ. والشعرُ الذي اخترعَه معاويةُ بنُ بكرٍ وَنَبَّهَ به وفدَ العاديين هو ¬

(¬1) في الأصل: «غنتهما». (¬2) في الأصل: «وأنهما لما غنتهما». (¬3) هكذا في تفسير ابن كثير (2/ 226)، وفي البداية والنهاية (1/ 127): (فهد). وفي تفسير ابن جرير (12/ 512)،: (مَهْدَد).

قولُه فيما يَذْكُرُ المفسرونَ وأصحابُ السيرِ والأخبارِ، أنه قال (¬1): أَلاَ يَا قَيْلَ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يَسْقِينَا غَمَامَا ... فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا ... قَدَ امْسَوْا لاَ يُبِينُونَ الْكَلاَمَا ... مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَلاَ الْغُلاَمَا ... وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ ... فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ أَيَامَا ... وَإِنَّ الْوَحْشَ تَأْتِيهِمْ جِهَارًا ... وَلاَ تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا ... وَأَنْتُمُ هَا هُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ ... نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا ... قَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ ... وَلاَ لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلاَمَا هكذا يزعمُه المفسرونَ والمؤرخونَ، ويزعمونَ أَنَّ وقتَ إهلاكِ عادٍ أن الذين على مكةَ أنهم العمالقةُ. والناظرُ في التاريخِ يَسْتَرِيبُ في هذا ولا يُصَدِّقُهُ؛ لأن المعروفَ في التاريخِ أن بيتَ اللهِ الحرامَ لَمَّا انْدَرَسَ من أيام طوفانِ نوحٍ أنه لم يُبْنَ قبل أن بَنَاهُ إبراهيمُ وإسماعيلُ بِنَاءَهُمَا المشهورَ المذكورَ في القرآنِ العظيمِ، وأنه قَبْلَ ذلك كان مُنْدَرِسًا لا يُعْرَفُ له محلٌّ كما قال اللهُ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: آية 26] ووجدوه في ذلك الوقتِ كانَ محلَّ مربضٍ لغُنَيْمَةٍ لرجلٍ من جُرْهُمٍ. والمؤرخونَ يذكرونَ أن اللهَ لَمَّا أَنْبَعَ ماءَ زمزمَ لهاجرَ وإسماعيلَ أن أولَ من ساكنَها العمالقُ، وهم أولادُ عمليق. وهم من العربِ البائدةِ؛ لأنَّ العربَ نوعانِ: عربٌ بائدةٌ (¬2): أي: هَلَكُوا عن آخِرِهِمْ ¬

(¬1) الأبيات في تفسير ابن جرير (12/ 510)، تفسير ابن كثير (2/ 225 - 226)، البداية والنهاية (1/ 126 - 127). (¬2) وهم العرب العاربة. ولم يذكر النوع الثاني وهم العرب المستعربة.

ولم يَبْقَ لهم نَسْلٌ، وهم قبائلُ معروفةٌ، منهم عادٌ وَجُرْهُمٌ، ومنهم ثمودٌ، ومنهم أُميم وعبيل، وجديس وطسم من العربِ البائدةِ المعروفةِ الذين هَلَكُوا عن آخِرِهِمْ (¬1). وجاء في بعضِ الأحاديثِ ما يدلُّ على أنَّ أولَ مَنْ سَاكَنَ هاجرَ جُرْهُمٌ (¬2) ويمكن أن يُحْمَلَ على أنهم أولُ مَنْ سَاكَنَهَا بعدَ زوالِ العمالقِ (¬3). والمذكورُ في التاريخِ (¬4) المعروف عند المؤرخين أَنَّ ماءَ زمزمَ لَمَّا نَبَعَ لهاجرَ وإسماعيلَ مَرَّ بهم قومٌ من العماليقِ كانوا مسافرين، وكانت مكةُ في ذلك الوقتِ لاَ يُعْرَفُ بها ماءٌ، فَرَأَوْا طيرَ الماءِ، فجاؤوا فوجدوا هاجرَ وإسماعيلَ واستأذنوهم في المساكنةِ، وَاشْتَرَطَتْ عليهم هاجرُ أَنَّ الماءَ لها، ولم يَزَلِ العمالقُ معهم حتى بَغَوْا وطغوا في الحرمِ، وشبَّ إسماعيلُ، فَسَلَّطَ اللهُ عليهم جرهمًا - وهم من العربِ البائدةِ، من ذريةِ سامِ بنِ نوحٍ، خلافًا لمن قال من المؤرخين: إن نفس جرهم كان مُسْلِمًا من الذين دخلوا في السفينةِ مع نوحٍ. والصحيحُ الذي عليه جمهورُ المؤرخين: أنه مِنْ ذريةِ سامِ بنِ نوحٍ - فَسَلَّطَ اللهُ عليهم جرهمًا، وكان رئيسُهم مضاضَ بنَ عمرٍو الجرهميَّ، الذي زوَّج ابنتَه رَحْلَةَ لإسماعيلَ، وهي صاحبةُ القصةِ المشهورةِ الذي قال لها إبراهيمُ: إذا جاء زَوْجُكِ فقولِي له: ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 120)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (1/ 294 - 298)، صبح الأعشى (1/ 313)، فما بعدها. (¬2) يشير إلى الحديث الطويل في قصة هاجر وإسماعيل ونبع ماء زمزم. وهو في البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: يزفون: النَّسَلاَنُ في المشي، حديث رقم (3364)، (3365)، (6/ 396 - 399). (¬3) قال الحافظ في الفتح: (6/ 403): «وقيل إن أصلهم من العمالقة» ا. هـ. (¬4) انظر: تاريخ الطبري (1/ 130).

لِيُثَبِّتْ عَتَبَةَ بَابِهِ (¬1). ولم تزل جرهمٌ حتى شبَّ فيهم إسماعيلُ، وتزوجَ منهم، وتعلَّم منهم العربيةَ، وكانت سدانةُ البيتِ عندَ أولادِ إسماعيلَ إلى آخرِهم نابتِ بنِ إسماعيلَ، فلما مَاتَ نابت أخذَ الجرهميون مفاتيحَ الكعبةِ، وصارت عندَهم سدانةُ البيتِ، كما قال شاعرُهم لَمَّا أَجْلَتْهُمْ خزاعةُ (¬2): وَكُنَّا وُلاَةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ فَأُرْسِلَ نبيُّ اللهِ إسماعيلُ لجرهم في مكةَ المكرمةِ، ثم مات إسماعيلُ وكبارُ أولادِه، وأخذَ الجرهميون سدانةَ البيتِ، ولم يزل البيتُ عند جرهم، وقد بنوه -جرهمٌ- أيامَ ولايتهم عليه، كما قال زهيرُ بنُ أبي سُلمى في معلقتِه (¬3): فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ ... رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ ولم يزل جرهمٌ هم أهلَ بيتِ اللهِ الحرامِ حتى طَغَوْا وَبَغَوْا. ويزعمُ المؤرخونَ أن رجلاً منهم يُسَمَّى (إسافًا) وامرأةً تُسَمَّى (نائلة) دَخَلاَ جوفَ الكعبةِ فَزَنَى بها في جوفِ الكعبةِ، وأن اللَّهَ مَسَخَهُمَا حَجَرَيْنِ، وأنهما هما الصنمانِ اللَّذَانِ أخذهما الخبيثُ الخسيسُ اللعينُ: عمرُو بنُ لُحَيٍّ- الذي ضيَّع بقايا دينِ إبراهيمَ، وجاء بعبادةِ الأصنامِ، وبحَّرَ البحائرَ والسوائبَ - ووضعَ أحدَهما على الصَّفَا، والثانيَ على المروةِ، وكانوا يسجدونَ لهما في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬2) البيت لعمرو بن الحارث بن مضاض من قصيدة له ذكرها ابن كثير في «البداية والنهاية» (2/ 186). (¬3) شرح القصائد المشهورات (2/ 108).

الْمَسْعَى!! وأشارَ لهما أبو طالبٍ في لاَمِّيَّتِهِ المشهورةِ حيث قال (¬1): وَحَيْثُ يُلْقِي الأَشْعَرُونَ رِحَالَهُمْ ... بِمَلْقَى الرِّفَاقِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ فَلَمَّا بغى جرهمٌ وَطَغَوْا في الأرضِ سَلَّطَ اللهُ عليهم خزاعةَ. وخزاعةُ أصلُهم من العربِ المذبذبةِ، أكثرُ المؤرخين يقولونَ: إنهم من سبأ، وأن اللهَ لَمَّا أرسلَ سيلَ العرمِ على سبأٍ: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} صارت خزاعةُ منهم إلى الحجازِ ونزلوا على جرهمٍ في بيتِ اللهِ الحرامِ (¬2). وبعضُ العلماءِ يزعمُ أنَّ خزاعةَ من أبناءِ قَمَعَةَ الذين منهم عمرُو بنُ لحيِّ بنِ قَمَعَةَ (¬3)، وقمعةُ بنُ إلياسَ. وإلياسُ أولادُه هم الذين يُسَمَّوْنَ: خِنْدَفًا؛ لأن إلياسَ بنَ مضرَ جَدَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يزعمُ أهلُ السيرِ والأخبارِ (¬4) أن امرأتَه تُسَمَّى: ليلى، وهي بنتُ الحارثِ بنِ قضاعةَ (¬5)، وأن إبلَهم ضَاعَتْ فَتَبِعَهَا عمرُو بنُ إلياسَ فأدرك الإبلَ فسُمِّي مدركةَ، وهو جَدُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مدركةُ بنُ إلياسَ. وأن قمعةَ قَمَعَ بالبيت فقام به فسُمِّي قمعة (¬6). وَمِنْ نسلِه عمرُو بنُ لُحَيٍّ ¬

(¬1) البيت في البداية والنهاية (2/ 191). (¬2) المصدر السابق (2/ 187)، السيرة لابن هشام (1/ 106). (¬3) انظر: السيرة لابن هشام (1/ 88)، البداية والنهاية (2/ 199). (¬4) السابق. (¬5) في طبقات ابن سعد (1/ 36)، تاريخ الطبري (2/ 189) ومعجم البلدان (2/ 508)، ومعجم ما استعجم (3/ 859): «ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة». وتُسَمَّى أيضًا: خِنْدَفًا. (¬6) في تاريخ الطبري (2/ 189): «وانقمع عمير في الخباء فلم يخرج، فسمِّي قمعة» ا. هـ. والروايات في مدركة وطابخة متناقضة، فبعضها كما ذكر الشيخ هنا، وبعضها على العكس حيث تقول: إن عَمْرًا هو طابخة، وأن أخاه عامرًا هو مدركة.

الخبيثُ (¬1). وخزاعةُ على قولِ مَنْ يقول: إنهم خِنْدَفيون لا أنهم من سبأٍ، وأن أحدَ أولادِه (¬2) اصطادَ أَرْنَبًا فطبخه فسُمي طابخة، وهو جدُّ تميمٍ، وأن تميمَ بنَ مر بن أُدِّ بن طابخةَ، وقبائل الرَّباب: بنو تيمٍ، وبنو عدي، وبنو عكل، وضبة وبنو ثور وبنو عجل (¬3) وهم قبائلُ الربابِ الذين تَحَالَفُوا على رُبٍّ (¬4) مع تميمٍ وصاروا يُنْسَبُونَ إليهم وقال فيهم الشاعرُ (¬5): يَعُدُّ النَّاسِبُونَ إِلَى تَمِيمٍ ... بُيُوتَ الْمَجْدِ أَرْبَعَةً كِبَارَا ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري (2/ 189)، السيرة لابن هشام (1/ 88)، البداية والنهاية (2/ 199). (¬2) أي. أولاد إلياس. (¬3) انظر: المعارف لابن قتيبة ص74، الأنساب للسمعاني (3/ 39)، بلوغ الأرب (1/ 21)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (1/ 402). (¬4) جاء في الأنساب (3/ 39): «وإنما سموا الرباب لأنهم ترببوا- أي: تحالفوا- على بني سعد بن زيد مناة. وقال الكلبي في كتاب الألقاب قال: إنما سموا الرباب ... أنهم غمسوا أيديهم في رُب فتحالفوا على بني تميم فسموا الرباب جميعًا، وخُصت تيم بالرباب» ا. هـ. ولم أقف على من عَدَّ بني عجل من الرباب، ففي الأنساب: نقلاً عن أبي عبيدة: «تيم الرباب: ثور وعدي وعكل ومزينة بنو عبد مناة بن أُدّ، وضبة بن أُدّ» ا. هـ. ونقل عن ابن الكلبي أنهم: «تيم وعدي وعوف والأشيب وثور أطحل وضبة بن أُدّ» ا. هـ. وفي بلوغ الأرب (1/ 21) (هامش): «الرباب - بالكسر - خمس قبائل تجمعوا فصاروا يدًا واحدة وهم: ضبة وثور وعكل وتيم وعدي» ا. هـ. (¬5) الأبيات في بلوغ الأرب (1/ 21). وصدر البيت الأخير: «ويذهب فيهما المري لغوًا».

يَعُدُّونَ الرَّبَابَ وَآلَ سَعْدٍ ... وَعَمْرًا ثُمَّ حَنْظَلَةَ الْخِيَارَا وَيَسْقُطُ بَيْنَهَا الْمرِّيُّ عَفْوًا ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الْحُوَارَا كذلك بنو مزينةَ الذين منهم زهيرٌ وأولادُه، وهم من أُدّ بنِ طابخةَ. هكذا يقول المفسرونَ. ثم لم يَزَلِ البيتُ عندَ خزاعةَ فَسَلَّطَهُمُ اللهُ على جرهم فطردوهم شَرَّ طردة، وَسَلَّطَ اللهُ الأمراضَ على جرهم، وَلَمَّا طلع الجرهميُّ على أحدِ جبالِ مكةَ ورأى خزاعةَ مُسْتَوْلِينَ على البيتِ ينحرون أباعرَ جرهم قال أبياتَه المشهورةَ المعروفةَ (¬1): كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحُجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُروفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَائِرُ وَكُنَّا وُلاَةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ الأبيات المشهورة، ثم إن قُصَيًّا كان في الطائفِ ومعَه أبو غُبْشَانَ سيدُ خزاعةَ الذي بيدِه مفاتيحُ الكعبةِ، فسقاه خَمْرًا حتى سَكِرَ، واشترى منه البيتَ الحرامَ وسدانتَه، وأخذ مَفَاتِحَهُ وباعه له وهو سكرانُ بِزِقٍّ من خَمْرٍ، وكتب عليه صكَّ البيعِ، ولما استفاقَ ذلك وَصَحَا من سكره نَدِمَ وصار بينَ قريشٍ وخزاعةَ بعضُ حروبٍ على ذلك، وفي الواقعةِ يقولُ الشاعرُ (¬2): بَاعَتْ خُزَاعَةُ بَيْتَ اللَّهِ إِذْ سَكِرَتْ ... بِزِقِّ خَمْرٍ فَبِئْسَتْ صَفْقَةُ الْبَادِي ¬

(¬1) الأبيات لعمرو بن الحارث بن عمرو بن مُضاض، وهي في السيرة لابن هشام (1/ 131)، البداية والنهاية (2/ 185). وقد سقط هنا - بعد البيت الأول - بيت من أبياتها وهو قوله: فقُلتُ لها والقَلبُ منيّ كأنما ... يُلَجْلِجهُ بين الجَنَاحَيْنِ طائرُ (¬2) البيت في نهاية الأرب (1/ 247).

وَقَعَ بينَهم بعضُ الحروبِ والقتلى فيما يذكره الأخباريون وأهلُ السِّيَرِ، فاستعانَ قُصَيٌّ بأخيه لأُمِّهِ سيدِ قضاعةَ، وكانت القتلى أكثرَ في خزاعةَ، ثم تَحَاكَمُوا إلى يَعْمَرَ الشَدَّاخِ (يعمر الكناني) الذي يقولُ فيه امرئُ القيسِ (¬1): كِنَانِيَّةٌ بَانَتْ وَفِي الصَّدْرِ وُدُّهَا ... مُجَاوِرَةٌ غَسَّانَ وَالْحَيَّ يَعْمَرَا وكان من حكامِ العربِ، فحكم بأن تُشْدَخَ دماءُ خزاعةَ، أي: تُهْدَرَ، وحكم بصحةِ البيعِ، وأن الكعبةَ لِقُصَيٍّ (¬2). فأخذَها قُصَيٌّ، وأخذَ الوظائفَ المشهورةَ، وأعطاها لبني عبدِ الدارِ في خبرٍ يَطُولُ. والمقصودُ عندنا من هذا أن العمالقَ إنما سَكَنُوا مكةَ بعدَ أن نبعَ ماءُ زمزمَ لهاجرَ وإسماعيلَ، وهذا هو المعروفُ في التاريخِ. والمعروفُ أن عادًا هلكوا بأزمنةٍ طويلةٍ قبلَ وجودِ إبراهيمَ، وأن هودًا كان قبل إبراهيمَ، وهذا مما يُشَكِّكُ في أن هذه الأخبارَ السيريةَ ليست بصحيحةٍ كما هو معروفٌ، وَاللَّهُ تعالى أعلمُ. إلا أن المفسرينَ يذكرونَ القصةَ كما ذَكَرْنَا. ومعنَى قولِه: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف: آية 71] الرجسُ هنا العذابُ، قال بعضُهم: أصلُه من الارتجاسِ، وهو: الاضطرابُ؛ لأن الْمُعَذَّبَ يضطربُ من شدةِ العذابِ. والغضبُ: هو غضبُ اللهِ الذي حَلَّ بهم. {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} السلطانُ: الحجةُ الواضحةُ التي لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا. ¬

(¬1) ديوان امرئ القيس ص59. (¬2) انظر: السيرة لابن هشام (1/ 140)، البداية والنهاية (2/ 207).

قال بعضُ العلماءِ: هي من السلطنةِ والقهرِ؛ لأن المتمسكَ بها يقهرُ خصومَه. وقال بعضُ العلماءِ: الأَلِفُ والنونُ فيها زائدتانِ، وأصلُها من السليطِ الذي يُوقَدُ به ضوءُ المصباحِ؛ لأَنَّ الحجةَ الواضحةَ ضوؤها يكشفُ ظلامَ الجهلِ، وهو معروفٌ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِيـ ... ـطِ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا ثم قال: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: آية 71] صيغةُ الأمرِ هنا في قولِه: {فَانْتَظِرُوا} للتهديدِ وقد تَقَرَّر في فَنِّ المعانِي في مبحثِ الإنشاءِ (¬2)، وفي فَنِّ الأصولِ في مبحثِ الأمرِ (¬3): أن مِنَ [المعانِي التي تَرِدُ لها صيغةُ:] (¬4) (افعل) التهديدَ. {فَانْتَظِرُوا} ومعنَى الانتظارِ: هو التربصُ لشيءٍ يأتِي. {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ} أي: أَنْجَيْنَا هودًا وَأَنْجَيْنَا الذين آمنوا مع هودٍ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} لأنهم مؤمنونَ بنا {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: اسْتَأْصَلْنَاهُمْ بالهلاكِ، وذلك الهلاكُ بالريحِ العقيمِ. ويذكرونَ في قصتِهم أن الريحَ تقلعُ الرجلَ من مكانِه فترفعُه إلى السماءِ كأنه ريشةٌ ثم تُلْقِيهِ في الأرضِ مُنَكَّسًا على رأسِه فينكسرُ ¬

(¬1) البيت للجعدي، وهو في تاريخ دمشق (42/ 461)، وفي اللسان (مادة: سلط)، و (مادة: نحس)، جمهرة أشعار العرب للقرشي (1/ 137)، الكامل للمبرد (1/ 477). وصدره في بعض المصادر: «يُضيء كضَوء سِرَاجِ ... ». وفي بعضها: «تُضيءُ كمثلِ سِراجِ الذُّبال». (¬2) انظر: الإيضاح للقزويني ص148. (¬3) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬4) في الأصل: «صيغ».

رأسُه، وتسقطُ أُمُّ رَأْسِهِ. ويدلُّ على هذه قولُه تعالى: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: آية 20] والنخلُ المنقعرُ معناه: المنقلعُ من الأرضِ بعروقِه. وهذا يدلُّ على عِظَمِ أجسامِهم وَطُولِهَا، وأن اللهَ شَبَّهَهُمْ بقولِه: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} وإن كان العربُ يُشَبِّهُونَ القتلى مُطْلَقًا بالنخلِ المنقعرِ، ومنه قولُ العباسِ بنِ مرداسٍ السلميِّ (¬1): حَتَّى رَفَعْنَا وَقَتْلاَهُمْ كَأَنَّهُمْ ... نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ وهذا معنَى قولِه: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: آية 72] وإنما عُبِّرَ عن الاستئصالِ بقطعِ الدابرِ لأن الدابرَ هو الذي يَمْشِي وراءَك عند دبركَ. تقول: مَشَى زيدٌ فَدبَرَهُ عمرٌو. معناه: كان يمشي في أثرِه عن دبرٍ منه. والأولادُ - النسلُ - كأنه دابرٌ للآباءِ، إذا ماتَ هؤلاءِ بَرَزَ هذا دُبرهم يمشي من بعدِهم حَيًّا خلفَهم. وقطْعُ الدابرِ معناه: إهلاكُ الجميعِ حتى لا يَبْقَى به نَسْلٌ يكونُ خَلفًا من الآباءِ. بل اللهُ دَمَّرَ الجميعَ وأهلَكَهم عن آخرهم. وهذا معنَى قولِه: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} وهذا يدلُّ على أن التكذيبَ بآياتِ اللهِ مستوجبٌ للهلاكِ الْمُسْتَأْصِلِ. وقولُه: {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} تأكيدٌ. وما كانوا في عِلْمِ اللَّهِ مؤمنين أبدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ طَبَعَهُمْ على الشقاوةِ، والعياذُ باللهِ جل وعلا. ويزعم المفسرونَ أن نبيَّ اللهِ هودًا هو وَمَنْ مَعَهُ إنما جاءهم من الرياحِ ريحٌ باردةٌ لَيِّنَةٌ قدرَ ما يكون مُسْتَلَذًّا من الريحِ، ولم يَنَلْهُمْ منها شيءٌ (¬2). ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص72، وأوله: «حتى تولوا .. ». (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 513)، البداية والنهاية (1/ 130).

وزعم بعضُهم أن هودًا تُوُفِّيَ هنالك بجنبِ رمالِ حضرموتَ. وعن عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) أنه وَصَفَ لرجلٍ من حضرموتَ كَوْمًا من الرملِ فيه أشجارٌ وكذا وكذا حتى عَرَفَهُ الحضرميُّ بالعلاماتِ، فزعم له أن قبرَ هودٍ عِنْدَهُ (¬1). وأكثرُ المؤرخين يقولونَ: إن هودًا لَمَّا أهلكَ اللَّهُ قومَه سارَ هو ومن آمَنَ معه إلى الحجازِ، وماتوا كلهم بِمَكَّةَ، هكذا يقولونَ واللهُ تعالى أعلمُ. وهذا معنَى قولِه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}. [12/ أ] / قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)} [الأعراف: الآيات 73 - 75]. يقولُ اللهُ جل وعلا: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} ¬

(¬1) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 1/135)، وابن جرير (12/ 507)، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 130).

[الأعراف: آية 73]. هذه هي القصةُ الثالثةُ من قصصِ الأنبياءِ التي قَصَّ اللَّهُ علينا في هذه السورةِ الكريمةِ ... - سورةِ الأعرافِ - ذَكَرَ لنا قصةَ نوحٍ وماذا قال لقومه، وماذا قالوا له، وماذا كان مصيرُهم [ثم ذَكَرَ لنا قصةَ هودٍ] (¬1) مع عادٍ وماذا قال لهم وقالوا له، وماذا كان مصيرُهم. ثم ذَكَرَ لنا القصةَ الثالثةَ وهي قصةُ صالحٍ مع قومِه ثمود، واللهُ - جل وعلا - يُبَيِّنُ لنا هذه القصصَ ليس المرادُ مطلقَ تاريخٍ فقط، وإنما يُبَيِّنُهَا للاعتبارِ، وليحذر الناس من معاصي الله، والتمردِ على أوامرِه، وتكذيبِ رُسُلِهِ؛ لئلاَّ ينزلَ بهم من الهلاكِ ما نَزَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ كما قال نبي اللَّهِ شعيبٌ لقومِه: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [هود: آية 89]. وقولُه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} عُطِفَ على قولِه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: آية 59] أَيْ: لقد أَرْسَلْنَا نوحًا إلى قومِه {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: آية 65] أي: وَأَرْسَلْنَا إلى عادٍ أخاهم هودًا {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}. أي: وَأَرْسَلْنَا إلى ثمودَ أخاهم صالحًا. ثمودُ: قبيلةٌ من قبائلِ العربِ البائدةِ الذين انقطعَ نَسْلُهُمْ، فَهُمْ من العربِ البائدةِ. والمؤرخونَ يزعمونَ أن ثمودَ أنه ابنُ عابرٍ، وبعضُهم يقولُ: جاثر أو جائر بن إرم بن سام بن نوح (¬2). وَنَبِيُّ اللهِ صالحٌ - من نَسَبِهِمْ - من أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وأكرمِهم بيتًا وحسبًا، بَعَثَهُ ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 524)، القرطبي (7/ 238)، البداية والنهاية (1/ 130).

اللَّهُ فيهم، وهو صالحُ بنُ عبيدِ بنِ آسفَ، من ذريةِ أروم من إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ (¬1) من قبيلةِ ثمودَ، وهو من أوسطِهم نَسَبًا كما هي عادةُ الأنبياءِ. وهو نَبِيٌّ عربيٌّ كريمٌ، أرسله اللهُ إلى قبيلةٍ عربيةٍ من العربِ البائدةِ، كانت منازلُهم بَيْنَ الشامِ والحجازِ في وادِي الْقُرَى وما حَوْلَهُ، منازلهم معروفةٌ إلى الآن، وآثارُ نحتِهم للجبالِ باقيةٌ إلى الآن، كما يعرفُه مَنْ يَمُرُّ عليهم في طريقِه إلى الشامِ من الحجازِ، وبلادُهم هي المسماةُ بالْحِجْرِ، وتأتِي في قولِه: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)} [الحجر: الآيات 80 - 83]. لَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ عادًا استخلفَ في الأرضِ بعدَهم قبيلةَ ثمودَ، وأكثرَ اللهُ عليهم الأرزاقَ وَالنِّعَمَ، وَوَسَّعَ لهم في المعاشِ، وعاثوا في الأرضِ وَأَفْسَدُوا فيها، وَعَبَدُوا الأصنامَ، فأرسلَ اللهُ إليهم نَبِيَّهُ صالحًا يُذكِّرهم، والمفسرونَ يقولونَ: لم يَزَلْ يدعوهم إلى الإسلامِ حتى بدأ فيه الشَّمطُ، وهو البياضُ الذي يَبْدُو في اللحيةِ، أو الشيبُ الذي يدخلُ في الرأسِ يخالطُه سوادٌ، وهو يدعوهم إلى اللهِ، وهم ¬

(¬1) في طبقات ابن سعد (1/ 27): «صالح بن آسف بن كماشج بن أروم بن ثمود بن جائر بن إرم بن سام بن نوح». وفي تاريخ الطبري (1/ 115): «صالح بن عبيد بن آسف بن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود بن جائر بن إرم بن سام بن نوح». وفي تفسير القرطبي: (7/ 238): «صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود». وفي البداية والنهاية (1/ 130): «صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد بن حاجز بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح». كما ذكر المعلق في الهامش عن بعض النسخ ما يغاير بعض ما سبق. ولا يخفى أن بعض هذه الفروقات بسبب الأخطاء المطبعية.

لا يَزْدَادُونَ إلا عُتُوًّا وَتَمَرُّدًا؛ ولذا قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [النمل: آية 45] ثمودُ جَدُّهُمْ. وأجمعَ مَنْ يُعْتَدُّ به من القراءِ في هذا الحرفِ على عدمِ صرفِ ثمودَ، قرؤوا كُلُّهُمْ: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: آية 73] مجرورٌ بالفتحةِ؛ لأنه غيرُ منصرفٍ؛ لأنه عَلَمٌ مؤنثٌ؛ لأَنَّ المرادَ عَلَمُ القبيلةِ، فاجتمعت فيه العلميةُ والتأنيثُ، فمُنِع من الصرفِ. وَمَنْ قَرَأَ: {وإلى ثمودٍ أخاهم صالحًا} فهي قراءةٌ شاذةٌ (¬1)، والقراءاتُ السبعيةُ بعضُها يأتِي فيه صرفُ ثمودَ، [وبعضها] (¬2) يأتي فيه مَنْعُهَا من الصرفِ كما هو معروفٌ. فَمَنْعُهَا من الصرفِ نَظَرًا إلى تأنيثِ القبيلةِ، وأنه عَلَمٌ مؤنثٌ، والعلميةُ والتأنيثُ مَانِعَانِ من الصرفِ، وَمَنْ صَرَفَ ثمودَ فقال: (ثمودًا) بتنوينِ الصرفِ أَرَادَ جَدَّهُمُ الأكبرَ الذَّكَرَ ولم يُرِدِ القبيلةَ فلم تجتمع علامتانِ مانعتانِ من الصرفِ، وهذا هو وجهُ كونِه ينصرفُ في بعضِ المواضعِ ولا ينصرفُ في بعضها (¬3). أرسلنا إليهم: {أَخَاهُمْ صَالِحًا} أخاهم في النسبِ لاَ في الدِّينِ؛ لأن دِينَهُ يخالفُ دينَهم، فلما جاءهم نَبِيُّ اللهِ صالحٌ جاءهم بدعوةِ جميعِ الأنبياءِ وهي عبادةُ اللهِ وحدَه: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ليس لكم معبودٌ يستحقُّ أن يُعْبَدَ وحدَه سواه، بل هو (جلَّ وعلا) المعبودُ وحدَه، المستحقُّ لأَنْ يُفْرَدَ فِي العبادةِ وَيُخْلَصَ له ¬

(¬1) انظر: إتحاف فضلاء البشر (2/ 53). (¬2) في الأصل: «وبعضهم». (¬3) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 525)، القرطبي (7/ 238)، الدر المصون (5/ 361).

الدينُ؛ لأنه الخالقُ الرازقُ الْمُحْيِي المميتُ الذي بيدِه الأمرُ، وإليه يصيرُ كُلُّ شيءٍ، فهو المعبودُ وحدَه. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} الْبَيِّنَةُ: هي الدليلُ الذي يقومُ على الحقِّ فيتركُه واضحًا لا شبهةَ فيه، ومنه قِيلَ للشهودِ على الحقِّ: (بينة) لأنهم يُثْبِتُونَهُ ويظهرون أنه حَقٌّ حتى يبقَى لاَ لَبْسَ فيه. فَكُلُّ دليلٍ يُظْهِرُ الحقَّ وَيُبَيِّنُهُ حتى لا يبقى فيه لبسٌ تُسَمِّيهِ العربُ: (بَيِّنَةً). وهذه البينةُ جاءتهم من رَبِّهِمْ. (مِن) لابتداءِ الغايةِ. أعنِي: مبدأُ إتيانِها من ربكم. أي: خالقِكم وسيِّدكم ومدبرِ شؤونكم. فكأن قائلاً قال: ما هذه الْبَيِّنَةُ والمعجزةُ الواضحةُ التي لم تَتْرُكْ في الحقِّ لَبْسًا، وَأَنَّ صالحًا رسولٌ من ربِّ العالمين؟ فَسَّرَ البينةَ بقولِه: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: آية 73] يذكرونَ في قصتِهم أن سيدَهم كان رجلاً يُسَمَّى: جندعَ بنَ عمرٍو. وَبَنُو عمرٍو من ساداتِ ثمودَ وبطونِهم الكبارِ العظامِ، فلما أَلَحَّ عليهم صالحٌ في الدعاءِ إلى اللَّهِ زَعَمَ المؤرخونَ (¬1) والمفسرونَ (¬2) أنهم قالوا له: «اذْهَبْ مَعَنَا إلى عِيدِنَا الذي نجتمعُ فيه، فنذهبُ بأصنامِنا وندعو أصنامَنا وتدعُو أنتَ إِلَهَكَ، فإن اسْتُجِيبَ لأصنامِنا اتَّبِعْنَا وإن اسْتَجِيبَ لإِلَهِكَ اتَّبَعْنَاكَ. فقال لهم: نَعَمْ. فخرجَ معهم فَدَعَوْا أصنامَهم فلم يستجيبوا لهم بشيءٍ - كما هو معلومٌ لاَ يَخْفَى- فاقترحَ عليه سَيِّدُهُمْ، أو جماعتُهم - تَعَنُّتًا - قالوا: هذه الصخرةُ - يزعمونَ أنها كانت صخرةً كبيرةً كالهضبةِ، ويزعمونَ أنها ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 134). (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 528).

تُسَمَّى (الكاثبةَ) - أَخْرِجْ لنا منها ناقةً مخترجةً. معناه: هي كالبختيةِ، تكونُ جوفاءَ وَبْرَاءَ عُشراء، فان أخرجتَها لنا على هذا الوصفِ اتَّبَعْنَاكَ. فأخذ صَالِحٌ عليهم عهودَ اللهِ ومواثيقَه أنه إن أَخرَجَ لهم اللهُ تلك الناقةَ من تلك الصخرةِ الصَّماءِ اتَّبَعُوهُ، فلما أَخَذَ عليهم المواثيقَ يقولُ المفسرونَ: إنه قام فصلَّى ركعتين وَدَعَا اللهَ تعالى وَهُمْ ينظرونَ، فلما دَعَا اللهَ تَحَرَّكَتِ الصخرةُ وَتَمَخَّضَتْ تمخضَ النَّتُوجِ عن وَلَدِهَا، فانشقت عن تلك الناقةِ، عُشْراءَ، وَبْرَاءَ، جَوْفَاءَ، ضخمةً بالغةً في غايةِ الضخمِ. ثم إنها وَلَدَتْ فصيلاً ضخمًا مثلَها وهم ينظرونَ، فلما عَايَنُوا هذا أسلمَ رئيسُهم جندعُ بنُ عمرٍو وَمَنْ كان معه من الرهطِ الذين يُطِيعُونَهُ، وحاولَ كُبراءُ ثمودَ أن يُسلموا كلُّهم لَمَّا عَايَنُوا من آياتِ اللهِ، فجاءهم خبثاءُ منهم، منهم ذؤابُ بنُ عمرِو بنِ لَبِيدٍ، بعضُهم يقولُ: ابنُ عمرِو بنُ أَسَدٍ، والحُبابُ صَاحِبَا آلهتهم التي يَسْدنُونَهَا، وربابُ بنُ صمعر، وجماعةٌ من رؤسائِهم، فَزَيَّنُوا لهم الارتدادَ، وأن لا يتبعوا صَالِحًا، فَثَبَّتُوهُمْ على الكفرِ والعياذُ بالله. وكان فيهم رجلٌ يُسَمَّى: شهابَ بنَ خليفةَ، ابن عَمِّ سيدِهم جندعَ بنِ عمرٍو، كان من أَعَزِّ الفتيانِ في ثمودَ، ومن أفاضلِهم وأماثلِهم المتَّبعين، فدعاه مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قومِه من بني عمرو ليُسلم فمنعه الخبيثُ ذؤابُ بنُ عمرٍو وربابٌ وَمَنْ معهم من الأعزاءِ من كفرةِ ثمودَ. وكان شاعرُهم المُسلم يقولُ في ذلك (¬1): وَكَانَتْ عُصْبةٌ مِنْ آلِ عَمْرٍو ... إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا عَزِيزَ ثَمُودَ كُلَّهُمُ جَمِيعًا ... فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا لأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا ... وَمَا عَدَلُوا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا ¬

(¬1) الأبيات في ابن جرير (12/ 530)، البداية والنهاية (1/ 134).

إلى آخِرِ الأبياتِ المعروفةِ. فَأَسْلَمَتْ تلك الطائفةُ القليلةُ مع صالحٍ، وَبَقِيَ أكثرُهم في غايةِ الكفرِ والعتوِّ والتمردِ على اللَّهِ. وَلَمَّا أخرجَ لهم الناقةَ أمرَه اللهُ بأن يقولَ لهم: إن بئرَهم التي يشربونَ منها: نهارٌ منها للناقةِ لاَ يَشْرَبُ منها غيرُها أبدًا، والنهارُ الثاني لجميعهم يَسْقُونَ مواشيَهم وأنفسَهم وَيَدَّخِرُونَ ما شاؤوا من الماءِ، كما قال: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [القمر: آية 28] وقال: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: آية 155] يَذْكُرُ المؤرخونَ أن يومَ شُرْبِ الناقةِ أنها تأتِي من بَيْنِ الْجَبَلَيْنِ فَتُدْخِلُ رَأْسَهَا في البئرِ ولا تتركُ في البئرِ قطرةً من الماءِ، ثم إنها تُفَرِّجُ فَخِذَيْهَا فيحلبونَ منها كلما شاؤوا فيملؤونَ جميعَ أوعيتِهم، ويدخرونَ من لَبَنِهَا كلما شاؤوا فَيُغْنِيهِمْ ذلك عن الماءِ (¬1)، وَلَبَنُهَا من أصفَى اللبنِ وأعذبِه وأحلاه. فلما طَالَ عليهم ذلك عَقَرُوهَا - والعياذُ بالله - كما جاء في آياتٍ قرآنيةٍ كثيرةٍ، وسببُ عَقْرِهَا يقولُ المفسرونَ والمؤرخونَ (¬2): إنه كانت فيهم عجوزٌ كافرةٌ، هي امرأةُ ذؤابِ بنِ عمرِو بنِ لبيدٍ، أو ابنِ عمرِو بنِ أسدٍ، هي من أقبحِ الناسِ وأشدِّهم كُفْرًا وَعَدَاوَةً لِصَالِحٍ، تُسَمَّى: عُنيزةَ بنتَ غُنْمٍ، وَتُكْنَى: أُمَّ غنم (¬3)، وكانت ذاتَ بناتٍ حِسَانٍ، وهي زوجُ ذؤابِ بنِ عمرٍو - قَبَّحَهَا اللَّهُ - وأنها جاءت للقبيحِ قُدارِ بنِ سالفٍ - وكان قُدارُ بنُ سالفٍ قصيرًا أَحْمَرَ، أزرقَ العينين عزيزًا في قومِه، وجاء في الحديثِ وَصْفُهُ بأنه ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (12/ 530 - 531). (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 531)، البداية والنهاية (1/ 135). (¬3) في البداية والنهاية (1/ 135): «عنيزة بنت غنيم بن مجلز وتكنى: أم عثمان».

عارمٌ عزيزٌ في قومِه (¬1). والعارمُ: شديدُ الشرِّ - وقالت له: إن أنتَ عقرتَ هذه الناقةَ أعطيتُك أَيَّ بَنَاتِي شِئْتَ. وكان عندها بناتٌ حِسَانٌ، ذواتُ جمالٍ، ويزعمونَ أن امرأةً منهم أخرى تُسَمَّى: صدقةَ أو صدوقَ (¬2) بنتَ الْمُحَيَّا، وكانت ذاتَ جمالٍ بارعٍ، وَكِلْتَا المرأتين لهما أغنامٌ وآبال وأبقارٌ كثيرةٌ، وكانت الناقةُ لِعِظَمِهَا إذا رأتها مواشيهم تَفِرُّ منها خوفًا منها، وكانت الناقةُ زمنَ الصيفِ تخرجُ عن حرِّ الوادي، فإذا رَأَتْهَا مواشيهم نَفَرَتْ منها واضطُرت إلى حرِّ الوادي، وإذا كان في الشتاءِ دَخَلَتِ الناقةُ في الوادي لِتَتَدَفَّأَ به، فنفرت منها مواشيهم، فتضرروا بذلك، وكانوا يتمنونَ عَقْرَهَا. وأكثرُ المفسرين يقولونَ: إن السببَ فيه هاتانِ المرأتانِ، وأنَّ قُدارَ بنَ سالفٍ - لَمَّا أَغْرَتْهُ الخبيثةُ عنيزةُ بنتُ غنمٍ - قَبَّحَهَا اللَّهُ - وَخَيَّرَتْهُ في بناتِها مع جَمَالِهِنَّ إن هو عَقَرَ الناقةَ - انتدبَ واحدًا من قومِه يُسَمُّونَهُ مصدعَ، وأن هذين الرَّجُلَيْنِ اتَّبَعَهُمَا سبعةٌ من قومِهم فصاروا تسعةً، وأنهم هم المذكورونَ في سورةِ النملِ: {وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ (48)} [النمل: أية 48] وأنهم ذهبوا إلى الناقةِ وَكَمِنُوا لها يومَ شُرْبِهَا عندما صَدَرَتْ من الماءِ، والمؤرخونَ يزعمونَ أنها لا يمكنُ أن تصدر من الفجِّ الذي جاءت منه لِعِظَمِهَا (¬3)؛ لأنها يصعب عليها أن تَنْثَنِيَ، فتطلع من فَجٍّ آخَرَ، فكمنوا لها وهي صادرةٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في التفسير (تفسير سورة والشمس وضحاها) حديث رقم (4942) (8/ 705)، وأطرافه (3377، 4942، 5204، 6042). (¬2) في البداية والنهاية (صدوق) (1/ 135)، وفي تفسير ابن جرير (12/ 531): (صدوف). (¬3) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 535)، البداية والنهاية (1/ 135).

من الماءِ. يقولُ المفسرونَ والمؤرخونَ (¬1): إن مصدعَ كَمَنَ لها في أصلِ صرفٍ وَكَمَنَ قدارُ بنُ سالفٍ في صخرةٍ أخرى، فَمَرَّتْ بهما الناقةُ فرماها مصدع فانتظمَ بسهمِه عَضَلَتَهَا، ثم مرت على قدارِ بنِ سالفٍ يزعمونَ أن الخبيثةَ - المرأةَ - كَشَفَتْ له عن بنتِها الجميلةِ وَحَرَّضَتْهُ على عقرِ الناقةِ فضربَ عرقوبَها فَسَقَطَتْ، فضربَ في لُبَّتِهَا فنحرها، وأنهم اقتسموا لَحْمَهَا. واختلفت رواياتُ المؤرخين والمفسرين في الفصيلِ (¬2)، ولا شيءَ في ذلك ثابتٌ، فمنهم مَنْ يقولُ: إن مصدعًا تَبِعَهُ فأخذه وَنَحَرَهُ معها واقتسموا لحمَه مع لَحْمِهَا. ومنهم مَنْ يقول: إنه رَغَا مَرَّاتٍ، وصار فوقَ جبلٍ، وانفتحت له صخرةٌ فدخل فيها، حتى إن قومًا ليزعمونَ أنه هو الدابةُ التي تأتِي في آخِرِ الزمانِ! وَكُلُّ ذلك قصصٌ لاَ مُعَوَّلَ عليها ولا ثبوتَ لها. واللهُ أعلمُ بقصةِ الفصيلِ؛ لأنَ القرآنَ لم يُبَيِّنْ ماذا كان مصيرُه، ولم يُبَيِّنْهُ ولم يثبت خبره بوحيٍ صحيحٍ، وإنما هي رواياتٌ يَحْكِيهَا المؤرخونَ والمفسرونَ. فَلَمَّا عقروا الناقةَ - والعياذُ بالله - والذي تَوَلَّى عقرها قدارُ بنُ سالفٍ - قَبَّحَهُ اللهُ - هو أَشْقَى الأَوَّلِينَ، ويُزعَمُ أن أصلَه ابنُ زَنْيَةٍ، وُلِدَ على فراشِ سالفٍ، وهو خبيثٌ أحمرُ أزرقُ، عزيزٌ في قومِه عَارِمٌ، أنه لَمَّا عقروها -والقرآنُ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ عقرِهم لها- فبيَّن أن عاقرَها واحدٌ، وأسندَ عقرَها للجميعِ حيث قال: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)} [القمر: آية 29] وقال في آياتٍ كثيرةٍ إن الذي عَقَرَهَا الجميعُ كقولِه: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف: ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 531) .. (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 533)، البداية والنهاية (1/ 135).

آية 77] وكقولِه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: الآيات 11 - 14] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ (¬1). وأجابَ العلماءُ عن أن اللَّهَ مرةً نَسَبَ العقرَ إلى واحدٍ وهو قولُه: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)} وتارةً نَسَبَ العقرَ إلى الجميعِ، قالوا: لأنهم كُلَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ، وأنه لم يذهب لعقرِها حتى اتَّفَقَ جميعُهم، حتى إنه لَيَسْتَأْذِنُ المرأةَ في خِدْرِهَا فتقولُ: نَعَمْ. فَوَافَقُوا جميعًا على عقرها، والمتمالئون على شيءٍ، المتفقونَ عليه، كأنهم فَعَلُوهُ كُلُّهُمْ، وإن كان المباشرُ واحدًا منهم. هكذا قَالَهُ بعضُ العلماءِ، مع أن عادةَ اللغةِ العربيةِ إسنادُ الفعلِ للناسِ وفاعلُه بعضُهم (¬2)، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، وكثيرٌ في القرآنِ العظيمِ، ومما يُوَضِّحُهُ كناية الإيضاحِ: قراءةُ (¬3) حمزةَ والكسائيِّ {فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} (¬4) [البقرة: آية 191] لأنه لا يَصِحُّ أنه إن قتلوكم ومتم فاقتلوهم بعدَ أن قُتِلْتُمْ ومتم. هذا ليس من المعقول! والمعنَى: فإنا قَتَلُوا بعضَكم فليقتلهم البعضُ الآخَرُ، فَأَطْلَقَ [الكلَّ وأرادَ البعضَ] (¬5). وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ ابنِ مطيعٍ يومَ حرةِ واقمٍ لَمَّا جاءت جيوشُ يزيدَ بنِ معاويةَ يرأسُها (مجرم) الذي يُسَمَّى: مسلمَ بنَ عقبةَ، وفعلوا بالمدينةِ ما فَعَلُوا، وكان الشاعرُ يقولُ (¬6): ¬

(¬1) راجع المصدرين السابقين. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 324 - 325). (¬3) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة. (¬4) السابق. (¬5) في الأصل: «فأطلق البعض وأراد الكل». وهو سبق لسان. (¬6) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.

فَإِنْ تَقْتُلُونَا عِنْدَ حَرَّةِ وَاقِمٍ ... فَلَسْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ فقولُه: «فإن تَقْتُلُونَا» لو كان هو ميتًا مقتولاً لَمَا كان حَيًّا يُرزَق يقولُ الشعرَ، وإنما المرادُ: فإن تقتلوا بعضَنا. فَلَمَّا عقروا الناقةَ واقتسموا لَحْمَهَا، قيل: وكذلك فصيلها. وقيل: دَخَلَ فصيلُها في الصخرةِ فَانْفَرَجَتْ له. ويزعم بعضُ المؤرخين: أن صَالِحًا لَمَّا عَلِمَ أنهم عقروها قال لهم: أَدْرِكُوا فَصِيلَهَا لعلَّ اللهَ يكشفُ عنكم العذابَ. وأنهم لم يستطيعوا أن يُدْرِكُوهُ، فلما أَخْبَرُوا نَبِيَّهُمْ صالحًا قال لهم ما حَكَى اللهُ عنه: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: آية 65] يعنِي: لكم متعةُ ثلاثةِ أيامٍ وبعدَ اليومِ الثالثِ يأتيكم العذابُ الْمُسْتَأْصِلُ. قالوا له: وما علامةُ ذلك؟ يذكرُ المفسرونَ والمؤرخونَ أنه قال لهم: تُصْبِحُونَ في اليومِ الأولِ وألوانُكم مُصْفَرَّةٌ، ثم في اليومِ الثانِي تحمرُّ ألوانُكم، ثم في اليومِ الثالثِ تسودُّ ألوانُكم، ثم في اليومِ الرابعِ يأتيكم عذابُ اللهِ المستأصلُ فيهلككم اللهُ. هكذا يقولونَ. ويزعمُ المفسرونَ والمؤرخونَ: أن عَقْرَ الناقةِ كان يومَ الأربعاءِ - وكانوا يسمونَ الأيامَ بغيرِ هذه الأسماءِ المعروفةِ - فلما كان يومُ الخميسِ أصبحت وجوهُهم مُصْفَرَّةً، وصار بعضُهم يقولُ لبعضٍ: أَلاَ ترى هذه الصفرةَ التي في وَجْهِكَ؟ فعلموا بالهلاكِ، وَأَيْقَنُوا صِدْقَ النبيِّ صالحٍ، فلما كان يومُ الجمعةِ - فيما يزعمونَ - أصبحت ألوانُهم مُحْمَرَّةً، فازدادوا يقينًا بالهلاكِ، فلما كان يومُ السبتِ أصبحت ألوانُهم مُسْوَدَّةً (¬1). وبعضُ أهلِ العلمِ يقولُ: هو اليومُ الثالثُ ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 535)، البداية والنهاية (1/ 136).

من عَقْرِهَا، فهلاكُهم يومُ السبتِ. وبعضُهم يقولُ: هو صبيحةُ الأحدِ. وَلَمَّا أَيْقَنُوا بالهلاكِ يزعمونَ أنهم تَحَنَّطُوا بالأشياءِ المصبِّرةِ، ولبسوا الأشياءَ التي هي كالأكفانِ مستعدينَ للهلاكِ، فلما ارْتَفَعَتْ شمسُ اليومِ بعدَ اليومِ الثالثِ جاءتهم الصيحةُ، سَمَّاهَا اللهُ في آياتٍ صيحةً، كما قال: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: آية 67] والمرادُ بهم قومُ صالحٍ، وَسَمَّاهَا هنا رجفةً فقال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: آية 78] ولا منافاةَ بَيْنَ تسميتِها صيحةً وتسميتِها رجفةً؛ لأَنَّ الصيحةَ يصيحُ بهم الملكُ من فوقِهم نازلاً من السماءِ، فإذا صَاحَ بهم رَجَفَتْ بهم الأرضُ وَارْتَعَدَتْ من شدةِ صيحةِ الملكِ، فَفَارَقَتْ أرواحُهم أبدانَهم فلم يَبْقَ منهم دل ولا مجيبٌ والعياذُ باللهِ جل وعلا (¬1). وهذا معنَى قولِه: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: آية 73] {آيَةً}: حالٌ مقدَّرةٌ، والعاملُ فيها معنَى الإشارةِ، أُشِيرَ إليها في حالِ كونِها آيةً. أي علامةً واضحةً على أنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ من اللَّهِ جِئْتُكُمْ. والتحقيقُ: أنها إنما كانت آيةً لانْفِلاَقِ الصخرةِ عنها، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} ثم قال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: آية 59] خِلاَفًا لمن زَعَمَ أن كونَها آيةً: عِظَمُهَا، وأنها تشربُ البئرَ كُلَّهَا، ولا توجدُ ناقةٌ من إبلِ الدنيا تشربُ بِئْرًا كُلَّهَا وحدَها في وقتٍ واحدٍ!! وخلافًا لِمَنْ زعم أن كونَها آيةً: كثرةُ ما يُحْلَبُ منها من اللبنِ؛ لأنها يُحْلَبُ بها من اللبنِ ما يَسَعُ خلائقَ كثيرةً، كل هذا قيل به، والأظهرُ هو ما عليه جمهورُ المفسرينَ، ويدلُّ ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 136)، الدر المصون (5/ 369)، الأضواء (2/ 325).

عليه ظاهرُ القرآنِ أنها معجزةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صالحٍ، وهذا معنَى قولِه: {فَذَرُوهَا تَأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف: آية 73]. {فَذَرُوهَا} معناه: اتْرُكُوهَا {تَأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}؛ لأن الأرضَ التي تأكلُ فيها ليست لكم، والعُشْب الذي تَأْكُلُهُ ليس من إِنْبَاتِكُمْ، بل هي أرضُ رَبِّهَا، والنباتُ الذي أنْبَتَهُ مَنْ خَلَقَهَا، فليست الأرضُ لكم، ولستُم أنتم الذين أَنْبَتُّمْ النباتَ {فَذَرُوهَا تَأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ} أي: لا تَتَعَرَّضُوا لها بشيءٍ فيه سوءٌ: من عَقْرٍ، ولا نَحْرٍ، ولاَ طَرْدٍ، ولاَ مَنْعِهَا من نصيبِها من الماءِ، إلى غيرِ ذلك. {فَيَأخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهذه فاءُ السببيةِ، والمضارعُ منصوبٌ بـ (أن) مضمرةٍ بعدَها يجبُ حَذْفُهَا، والمعنَى: لا تَمَسُّوهَا بسوءٍ فيتسببُ عن ذلك أن يأتيَكم عذابٌ أليمٌ. والأليمُ معناه: الْمُؤْلِمُ. والصحيحُ: أن (الفعيل) في لغةِ العربِ تأتِي بمعنَى (المُفْعِل) وما يذكرُه بعضُ علماءِ العربيةِ عن الأصمعيِّ من إنكارِه إتيانَ (الفَعِيْل) في اللغةِ بمعنَى (المُفْعِل) وَاغْتَرَّ به بعضُ المفسرين فقال: أليمٌ معناه: مُتَأَلَّمٌ منه، فجعلَه بصيغةِ اسمِ المفعولِ. كُلُّ ذلك غيرُ صحيحٍ، بل غَلَطٌ، والتحقيقُ: أن (الفَعِيل) تأتِي في اللغةِ العربيةِ بمعنَى (المُفْعِل) (¬1) كقولِه: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} بمعنَى: مُؤْلِمٍ. ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): وَنَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ ¬

(¬1) انظر: تفسير الألوسي (1/ 150)، التحرير والتنوير (1/ 282). (¬2) البيت لذي الرمة. وهو في الكامل للمبرد (1/ 260). والشمردلات: الإبل الطوال. ونرفع: أي: نستحثها في السير. والوهج: الحر الشديد.

أَيْ: وهجٌ مُؤْلِمٌ. ومنه بهذا المعنَى قولُه تعالى: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: منذرٌ. فالنذيرُ بمعنَى الْمُنْذِرِ. وقولُ عمرِو بنِ معدِ يكربَ الزبيديِّ في مطلعِ عَيْنِيَّتِهِ المشهورةِ (¬1): أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ فقولُه: «السميع» يعنِي: الدَّاعِي الْمُسْمِع. فأطلق على المسمعِ السميعَ. ومنه قولُه فيها أيضا (¬2): وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ أي: ضَرْبٌ مُوجِعٌ. فهذا هو التحقيقُ. {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ} فيتسببُ عن مَسِّكُمْ إياها بالسوءِ أن يأتيكَم {عَذَابٌ أَلِيمٌ} العذابُ: نكالُ اللهِ (جلَّ وعلا) الذي يأتِي به لِمَنْ يستحقُّه بسببِ ارتكابِ الذنبِ. {عَذَابٌ} من اللهِ {أَلِيمٌ} أي: مُؤْلِمٌ، وهذا معنَى قولِه: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}. قولُه: {تَأْكُلْ} المضارعُ مجزومٌ بجوابِ الأمرِ، ويجوزُ رَفْعُهُ، إلا أنَّ عَامَّةَ مَنْ يُعْتَدُّ به من القراءِ على الجزمِ، وأكثرُ علماءِ العربيةِ: أن المضارعَ المجزومَ في جوابِ الطلبِ أن أصلَه مجزومٌ بجملةٍ شرطيةٍ محذوفةٍ (¬3) وتقريرُ المعنَى: إن تَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أرضِ اللهِ. وهذا معنَى: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} يعنِي: إن تَتْرُكُوهَا وتذروها تأكلْ في أرضِ اللهِ. ¬

(¬1) البيت في الأصمعيات ص172، الشعر والشعراء لابن قتيبة ص240، (شرح الكافية الشافية) لابن مالك (2/ 1034). (¬2) البيت في الكتاب لسيبويه (2/ 323)، الدر المصون (2/ 47). (¬3) مضى عند تفسير الآية (69) من سورة البقرة.

ومعنَى قولِه: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ} أي: بأيِّ أَذًى من أنواعِ الأَذَى، من عَقْرٍ، أو نَحْرٍ، أو ضَرْبٍ، أو تَنْفِيرٍ، أو مَنْعٍ من المرعى، أو مَنْعِ نَصِيبِهَا من الماءِ {فَيَأخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ثم إن نَبِيَّ اللهِ صالحًا ذكَّر قومَه أيضًا بِنِعَمِ اللهِ قال: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} [الأعراف: آية 74] أي: نِعَمَ اللهِ {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} يعني: في الأرضِ من بعد عَادٍ، مثلما قال [هود] (¬1) لقومِه: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: آية 69] وهذا قَرَّرْنَاهُ فيما مَضَى، أي: أَهْلَكَهُمْ وجعلكم مُسْتَخْلَفِينَ في الأرضِ بعدَهم تتمتعونَ فيها. واستدلَّ بعضُ العلماء (¬2) بهذه الآياتِ على أن الكافرَ يصدقُ عليه أنه مُنَعَّمٌ عليه في الدنيا؛ لأن نَبِيَّ اللهِ هودًا - وهو هو - قال لقومِه: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} فصرَّح بأن لله عليهم نِعَمًا في الدنيا، وكذلك قال نَبِيُّ اللهِ صالحٌ: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} فَبَيَّنَ كُلٌّ مِنْ هودٍ وصالحٍ أن لله في الدنيا على الكفرةِ آلاء وَنِعَمًا بما أعطاهم من الرزقِ والعافيةِ ورغدِ العيشِ والتمتعِ بلذاتِ الدنيا، هذه الآياتُ دَلَّتْ على هذا. وقال بعضُ العلماءِ: لا نعمةَ على الكافرِ أَصْلاً؛ لأن هذا استدراجٌ، واللهُ يقولُ: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: الآيتان 182، 183] فمنزلتُه منزلةُ الطعامِ اللذيذِ الذي فيه السمُّ الفتاكُ القاتلُ، فشربُه ليس بلذيذٍ، والإنعامُ به ليس بإنعامٍ!! وظاهرُ القرآنِ أَوْلَى بالإتباعِ؛ لأَنَّ اللهَ سمَّى ¬

(¬1) في الأصل: نوح. وهو سبق لسان. (¬2) انظر: القرطبي (4/ 330)، (7/ 240).

هذه آلاء ونعمًا عليهم على ألسنةِ رسلِه الكرامِ (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم)، وهذا معنَى قولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ}. {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: آية 74] العربُ تقولُ: (بَوَّأَهُ يُبَوِّئه) إذا جَعَلَ له مباءة. والمباءةُ في لغةِ العربِ: المنزلُ. تقولُ العربُ: (بَوَّأَهُ يُبَوِّئُهُ) أي: اتَّخَذَ له مباءةً، أي: منزلاً. وتَبَوَّأَ الرجلُ يَتَبَوَّأ: اتخذَ مباءةً، أي: منزلاً. والمبوَّأ: هو المنزلُ (¬1). وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، فَمِنْهُ في القرآنِ: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: آية 74] أي: نَتَّخِذُ من مباءاتها ومنازلِها حيث نشاءُ: {لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت: آية 58] أي: لَنَجْعَلَنَّ الغرفَ مباءاتٍ ومنازلَ لهم. وهذا في القرآنِ كثيرٌ {وَلَقَدْ بَوَّأنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: آية 93] أي: أَنْزَلْنَاهُمْ مُنْزَلاً كَرِيمًا طَيِّبًا كما هو معروفٌ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ. ومن إطلاقِه في كلامِ العربِ قولُ عمرِو بنِ معدِ يكربَ الزبيديِّ (¬2): كَمْ مِنْ أَخٍ لِي مَاجِدٍ ... بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا أَيْ: جَعَلْتُ اللحدَ مباءةً ومنزلاً له عند موتِه. وهذا معروفٌ، وهذا معنَى قولِه: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: آية 74] أَيْ: جَعَلَ في الأرضِ لكم مباءاتٍ ومنازلَ متنوعةً، منها ما تَتَبَرَّدُونَ به في الصيفِ، ومنها ما تستدفئونَ به في ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: باء) ص158، اللسان (مادة: بوأ) (2/ 283 - 284). (¬2) البيت في الكامل (3/ 1377)، الدر المصون (3/ 379)، شواهد الكشاف ص32، وشطره الأول في هذه المصادر: «كم من أخ لي حازم». سوى شواهد الكشاف إذ فيه: «صالح».

الشتاءِ، وهذا معنَى قولِه: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} هي بَيْنَ الحجازِ والشامِ من وادِي القُرَى فما حَوْلَهُ، كانت ديارُهم هناك. {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} السهولُ: جمعُ سَهْلٍ، وهو المكانُ المنخفضُ المستوي الذي لا وَعْرَ فيه. أي: تتخذونَ من أَمْكِنَتِهَا السهلةِ التي ليست بجبالٍ قصورًا، تَبْنُونَ تلك القصورَ من سَهْلِ الأرضِ مِمَّا توقدونَ عليه من آجُرها وطينِها وتؤسسونها بالحجارةِ، وكانوا في الصيفِ يسكنونَ القصورَ المبنيةَ من الآجُرِّ والطينِ؛ لأنها أشدُّ برودةً. {وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتًا} نحتُ الشيءِ: هو أن تنحته شيئًا فشيئًا، ومنه قيل للمِبْرَدِ: (مِنْحَتٌ) لأنه ينحتُ الشيءَ، ومعنَى نحتهم الجبالَ: أنهم يأخذونَ آلات حديد - وكانت سواعدُهم قويةً جِدًّا - فيحفرونَ في الجبلِ، حتى يجعلوا فيه أُوب البيوتِ، ثم يقطعونَ لها أبوابَها وطاقاتِها من نفسِ الجبلِ، ثم تكونُ تلك الأبوابُ والغرفُ والطاقاتُ كُلُّهَا من الجبالِ، يَنْحِتُونَهَا بالحديدِ بقوةِ أيديهم نَحْتًا، إذا اشتدَّ البردُ زمنَ الشتاءِ دَخَلُوهَا فكانت لشدةِ استدفائِها لا يحسونَ بالبردِ شيئًا، وهذا من نِعَمِ اللَّهِ عليهم. وقرأَ هذا الحرفَ جماهيرُ القراءِ: {وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتًا} بكسرِ باءِ: (بيوت) لِمُجَانَسَةِ الياءِ. وقرأه بضمِّ الباءِ على الأصلِ: {بُيُوتًا} أبو عمرٍو، وحفصٌ عن عاصمٍ، وورشٌ عن نافعٍ. لم يَقْرَأْهُ مِنَ القراءِ السبعةِ على الأصلِ: {بُيُوتًا} إلا عاصمٌ في روايةِ حفصٍ خاصةً، ونافعٌ في روايةِ ورشٍ خاصةً، وأبو عمرٍو. وغيرُ ذلك من سائرِ القراءِ قرؤوا: {وتَنْحِتونَ الجبال بِيوتًا} (¬1) أي: تنحتونَ من ¬

(¬1) انظر: إتحاف فضلاء البشر (2/ 54).

الجبالِ بيوتًا ينحتونها في الجبال. وقراءةُ الحسنِ شاذةٌ: {تَنْحَتُونَ من الجِبَال بيوتًا} (¬1) وإن كانت قياسيةً؛ لأن (فَعَل) إذا كانت حلقيةَ العينِ أو اللامِ يقاسُ في مضارعِها الفتحُ (¬2)، إلا أن السماعَ (تَنْحِتُونَ) بالكسرِ، وهي قراءةُ السبعةِ وغيرِهم؛ وقراءةُ الحسنِ: «تَنْحَتونَ» شاذةٌ، وأشذُّ منها قراءةُ مَنْ قَرَأَ: {تَنْحاَتُونَ} بإشباعِ الفتحةِ، فهذه قراءةٌ شاذةٌ جِدًّا، أشذُّ من الأُولَى فـ (تَنْحَتُونَ) بفتحِ الحاءِ شاذةٌ، وإشباعُ الفتحةِ أَلِفًا أَشَذُّ وَأَشَذُّ، وإن كان إشباعُ الفتحةِ بألفٍ يسوغ في كلامِ العربِ، هو مسموعٌ في كلامِ العربِ، إلا أنه لاَ يجوزُ قراءةً، وهو موجودٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ عبدِ يغوثَ بنِ وقاصٍ (¬3): وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ... كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا فَأَشْبَعَ الفتحةَ بالأَلِفِ، وأصلُ الفعلِ مجزومٌ، فالأصلُ: «تَرَ» بلا أَلِفٍ، أشبعَ الفتحةَ أَلِفًا. وقول الآخَرِ (¬4): إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... وَلاَ تَرَضَّاهَا وَلاَ تَمَلَّقِ الأَصْلُ: (ولاَ ترضَّها) فأُشْبِعَتِ الفتحة. ومنه في وسط الكلامِ قولُ عنترةَ في معلقتِه (¬5): ¬

(¬1) المصدر السابق (2/ 53)، القرطبي (7/ 239)، البحر المحيط (4/ 329)، الدر المصون (5/ 364). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 239). (¬3) البيت في المحتسب (1/ 69)، المفضليات ص158. (¬4) البيت لرؤبة، وهو في الخصائص (1/ 307)، اللسان (مادة: رضي) (1/ 1179). (¬5) ديوان عنترة ص122.

يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَيْ غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلَ الْفَنِيقِ الْمُكْدَمِ فقولُه: (ينباع) أصلُه: (يَنْبَع) يعنِي: أن العرقَ ينبعُ من عَظْمِ ذِفراها، وهو العظمُ الذي خَلْفَ أُذُنِهَا، أصلُه يسيلُ منه العرقُ من الإبلِ إذا سَارَتْ سيرًا شديدًا. وقراءةُ الجمهورِ هي التي يجوزُ القراءةُ بها {تَنْحِتُونَ الْجِبَالَ} جمع جبلٍ. {بُيُوتًا} جمع بيتٍ. قرأه حفصٌ عن عاصمٍ، وورشٌ عن نافعٍ، وأبو عمرٍو: {بُيُوتًا} بضمِّ الباءِ على الأصلِ (¬1): جمعُ بيتٍ، والبيتُ هو ما يُسْكَنُ فيه، سُمِّيَ بيتًا لأَنَّ الساكنَ يبيتُ فيه. {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} أي: نِعَمَ اللَّهِ عليكم حيث جعلكم خلفاءَ في الأرضِ من بعدِ عادٍ ويسَّر لكم القصورَ في سهولِها، وَيَسَّرَ لكم نحتَ الجبالِ في نفسِ الجبالِ لِتَنَالُوا من بردِ السُّكْنَى زمنَ الحرِّ، ومن الاستدفاءِ زمنَ البردِ، وَكُلُّ هذا نعمُ اللَّهِ وآلاؤُه عليكم. وهذا معنَى قولِه: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} أي: نِعَمَهُ التي أَنْعَمَهَا عليكم. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ (¬2): هذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على بناءِ القصورِ الشامخاتِ لأَنَّ اللهَ امْتَنَّ عليهم على لسانِ نَبِيِّهِمْ، بأنهم يتخذونَ القصورَ. وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ في ظواهرَ كثيرةٍ من الشرعِ أنه لا ينبغي للإنسانِ أن يتطاولَ في البنيانِ وَيَبْنِيَ فوقَ حاجتِه وَيُضَيِّعَ المالَ في ذلك، فينبغي للإنسانِ أن يبنيَ قدرَ حاجتِه وألا يضيعَ المالَ فيما يزيدُ على قدرِ حاجتِه من القصورِ الشامخةِ، ولاسيما إن كان ذلك على سبيلِ المباهاةِ والتفاخرِ فلا خيرَ ¬

(¬1) راجع ما تقدم قريبًا. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 239).

فيه. وأكثرُ العلماءِ على أنه لا يمنعُ الرجل أن يبنيَ بيتًا ليستغلَّه فيؤجرَه ويأخذَ منه؛ لأنه من أنواعِ التجاراتِ وابتغاءِ فضلِ اللَّهِ - جل وعلا - وكذلك ما يحتاجُ إليه هو وَمَنْ يَعُولُهُ، فهذا من الأمورِ الضروريةِ. وقولُه جل وعلا: {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ... } العِثِيُّ والعثوُّ معناهما: الفسادُ. وهذه الحالُ مؤكدةٌ عاملها؛ لأن معنَى: {وَلاَ تَعْثَوْا} لا تُفْسِدُوا. فـ (مفسدون) حالٌ مؤكدةٌ لعامِلِها، والحالُ قد تؤكدُ عاملَها فيكونُ معناها هو معنَى عاملها، وإلى هذه بعينِها أشارَ ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقوله (¬1): وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا ... فِي نَحْوِ لاَ تَعْثَ فِي الأَرْضِ مُفْسِدَا معناها: لا تُفْسِدُوا في الأرضِ في حالِ كونِكم مُفْسِدِينَ، فالحالُ مؤكدةٌ لعاملِها، والمقصودُ تأكيدُ النهيِ عن الفسادِ في الأرضِ بالإشراكِ بالله وعبادةِ غيرِه معه، وأذيةِ مَنْ أَسْلَمَ من قومِ صالحٍ، وتكذيبِ نَبِيِّ اللهِ صالحٍ، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الفسادِ. {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ المُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: الآيات 75 - 79]. ¬

(¬1) الخلاصة ص33.

قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا ابنَ عامرٍ قارئَ أهلِ الشامِ: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} بلا واوٍ، وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه: {وقال الملأ الذين اسْتَكْبَرُوا} بالواو. وفي المصاحفِ الشاميةِ هذه الواوُ. وهما قراءتانِ سبعيتانِ (¬1)، إحداهما بالواوِ والثانيةُ بلا واوٍ، وكونُ بعضِ الحروفِ الصحيحةِ يزيدُ فيه حرفٌ أو كلمةٌ وينقصُ ذلك الحرفُ أو الكلمةُ في قراءةٍ أخرى لأَجْلِ هذا السببِ بعينه كان عثمانُ بنُ عفانَ (رضي الله عنه وأرضاه) وَمَنْ معه من الصحابةِ في جَمْعَةِ المصحفِ الأخيرةِ التي جَمَعَهَا عثمانُ (رضي الله عنه) عَدَّدُوا نسخَ المصاحفِ العثمانيةِ ليمكن أن تكونَ نسخةٌ فيها هذه الواوُ ونسخةٌ عارية من هذه الواوِ، والجميعُ كأنه نسخةٌ واحدةٌ، إلا أنهم نَوَّعُوهَا وَعَدَّدُوهَا ليمكنَ أن تأتيَ جميعُ القراءاتِ مطابقةً لها. {قَالَ الْمَلأُ} قَدَّمْنَا أن الملأَ أشرافُ الجماعةِ ورؤساؤهم الذكورُ الذين ليس فيهم إناثٌ. {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي: تَكَبَّرُوا وَعَتَوْا ولم يؤمنوا استكبارًا عن الإيمانِ {مِنْ قَوْمِهِ} أي: مِنْ قومِ صالحٍ، وهم ثمودُ قالوا {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وكان جُلُّ مَنْ آمَنَ بصالحٍ ... - قبلَ أن يؤمنَ جندعُ بنُ عمرٍو وَمَنْ آمَنَ معه - كان أغلبُهم ضعافًا؛ لأَنَّ اللهَ أجرى العادةَ بأن أكثرَ أتباعِ الأنبياءِ: الضعفاءُ، وأكثرَ مَنْ عادى الأنبياءَ وأكثرَ أهلِ النارِ: أهلُ الترفِ في الدنيا والمكانةِ والمالِ والجاهِ. والسرُّ في ذلك: أن المساكينَ الضعافَ لا يُحَارِبُونَ عن رئاسةٍ، ولا يستنكفونَ أن يكونوا تَبَعًا، فإذا سَمِعُوا الحقَّ آمَنُوا به، أما الرؤساءُ فإنهم ¬

(¬1) انظر: السبعة لابن مجاهد ص284، إتحاف فضلاء البشر (2/ 54).

لا يَرْضَوْنَ أن يكونوا تَبَعًا، وأن يكونوا مرؤوسين غيرَ رؤساءَ، فيجادلوا لتبقَى لهم مكانتُهم ورئاستُهم؛ لأنهم إن أطاعوا الرسلَ كانوا تَبَعًا تحتَ أوامرِ الرسلِ لاَ رئاسةَ لهم ولا سيادةَ؛ ولذا في قصةِ هرقلَ الثابتةِ في الصحيحِ لَمَّا سألَ أبا سفيانَ السؤالاتِ المعروفةَ - المشهورةَ الثابتةَ في الصحيحِ - عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُمْلَتِهَا أن قال له: أشرافُ الناسِ يتبعونَه أم ضعفاؤُهم؟ فقال أبو سفيانَ: بل ضعفاؤُهم، قال هرقلُ: أولئك أتباعُ الرسلِ (¬1). كما هو معروفٌ. {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي: الرؤساءُ والقادةُ من قبيلةِ ثمودَ الذين تَكَبَّرُوا عن الإيمانِ وإجابةِ نَبِيِّ اللهِ صالحٍ {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} أي: للضعفاءِ المستضعفين. وقولُه: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدلٌ مِنْ قولِه: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} أي: المستضعفينَ، أعنِي خصوصَ المؤمنين من المستضعفين {أَتَعْلَمُونَ} أَتَتَيَقَّنُونَ وتجزمونَ بأن {صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} وأنه غيرُ كاذبٍ على اللهِ؟ فأجابهم المستضعفونَ أحسنَ جوابٍ وأبلغَه، فلم يقولوا لهم: نَعَمْ نحنُ نجزمُ بأنه مُرْسَلٌ، ولكن جعلوا كونَه مُرْسَلاً أمرًا لا ينبغي أن يُشَكَّ فيه، ولا أن يكونَ النزاعُ ولا الخلافُ فيه، وقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} إنا مؤمنونَ بالأمرِ الذي أُرْسِلَ به، الذي لا ينبغي أن يُشَكَّ ولا أن يُخْتَلَفَ في أنه حَقٌّ، ولهذه الحكمةِ عَدَلُوا عن أن يقولوا: نَعَمْ، فأجابهم الملأُ الكفارُ المتكبرونَ فقالوا: {إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنْتُمْ بِهِ} من رسالةِ صالحٍ {كَافِرُونَ} جاحدونَ والعياذُ بالله، وهذا معنَى قولِه: {إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (93) من سورة الأنعام.

فَلَمَّا تَمَرَّدُوا وَطَغَوْا {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} العربُ تقولُ: عَقَرَ البعيرَ إما قَطَعَ عرقوبَه. هذا أصلُ العقرِ، إذا قطعَ عرقوبَه. وكانت عادةُ العربِ إذا أرادوا أن يَنْحَرُوا الإبلَ ضربوا عراقيبَها بالسيوفِ حتى تسقطَ فينحروها، وصارَ العقرُ يُطلق على النحرِ، وعلى قطعِ العرقوبِ، وعلى كُلِّ جرحٍ في البعيرِ، حتى أنهم إذا جُرِحَ ظهرُه بدَبَرٍ ونحوِه تقولُ العربُ: عَقَرَهُ، وهو معنًى مشهورٌ في كلامِ العربِ (¬1)، ومنه قولُ امرئِ القيسِ في معلقتِه (¬2): تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَا مَعًا ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ تَعْنِي أنه أَثَّرَ بالدَّبَرِ في ظهرِه. فمعنَى (عقروها): قَتَلُوهَا. وقد بَيَّنَّا قصتَها فيما فَكَّرْنَا الآنَ أن تَيْنَكَ المرأتين الخبيثتين استنفرَا لها ذينك الرجلين وهما: قدار بن سالف، ومصدع، وأنهما استهويَا سبعةً من قومِهم فكانوا تسعةَ رهطٍ، وهم التسعةُ الرهطُ المذكورونَ في سورةِ النملِ، وأن مصدعًا وقدارًا كَمَنَا لها عندَ صدورِها من الماءِ في أصلِ صخراتٍ، فانتظمَ مصدعٌ عضلتَها بسهمِه، وعقرَها قُدارٌ بسيفِه فقطعَ عرقوبَها فسقطت وَرَغَتْ، ثم طَعَنَ في لُبَّتِهَا فنحرها. وهذا معنَى {فَعَقَرُوهَا} بِمُمَالأَةٍ منهم. {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} هي ناقةُ اللهِ التي أَخْرَجَهَا آيةً لهم: {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} العتوُّ: التكبرُ والتمردُ، تمردوا وتكبروا عن قَبُولِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وعقروا الآيةَ التي أجاءهم اللهُ بها معجزةً لِنَبِيِّهِ، ثم قالوا في ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: عقر) ص577، القرطبي (7/ 240)، الدر المصون (5/ 366). (¬2) ديوان امرئ القيس ص113.

غايةِ الكفرِ والعنادِ: {يَا صَالِحُ} سَمَّوْهُ باسمِه وقاحةً منهم واحتقارًا وعدمَ حياءٍ. {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا} بتحقيقِ الهمزةِ. وقرأه ورشٌ عن نافعٍ وَالسُّوسِيِّ عن أبِي عمرٍو: {وقالوا يا صالحُ اوْتِنَا} (¬1) بإبدالِ الهمزةِ واوًا. أما إذا كان الوقفُ على {يَا صَالِحُ} فجميعُ القراءِ يقرؤونَ: {إيتنا بما تعدنا} بكسرِ الهمزةِ. فالقراءةُ في حالةِ الابتداءِ بـ {إيتنا} متفقٌ عليها إذا وَقَفْتَ فَقُلْتَ: {يَا صَالِحُ} قلتَ: في قراءةِ الجميعِ {إيتنا بما تعدنا} أصلُه {ائتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانيةُ مَدًّا للأُولَى. وَمَدًّا أَبْدِلَ ثَانِيَ الْهَمْزَيْنِ مِنْ ... كِلْمَةٍ إِنْ يَسْكُنْ كَآثِرْ وَائْتَمِنْ (¬2) أما في الوصلِ فعامةُ القراءِ يقرؤون: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا} بتحقيقِ الهمزةِ. وقرأَ ورشٌ عن نافعٍ، والسوسيُّ عن أبي عمرٍو: {يَا صَالِحُ اوتِنَا} بإبدالِ الهمزةِ واوًا. هذه قراءةُ السبعةِ في الوصلِ والوقفِ (¬3). ومعنَى: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} هذا العذابُ الذي تَعِدُنَا به إن تَعَرَّضْنَا للناقةِ بسوءٍ؛ لأنك قلتَ لنا: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فقد مَسَسْنَاهَا بسوءٍ، وهاتِ العذابَ الأليمَ الذي تَعِدُنَا به إن كُنْتَ من المرسلين، إن كنتَ رسولاً حقًّا فهاتِ العذابَ الذي ¬

(¬1) رُسمت في المصحف المكتوب على وفق رواية ورش عن نافع هكذا: {يَا صَالِحُ إيتِنَا} والنقطة أسفل همزة الوصل تدل على الابتداء بها مكسورة. وقد وُضعت الكسرة قبلها مكان الهمزة التي نُقلت حركتها للساكن قبلها وحُذفت للدلالة على الابتداء بهمزة مضمومة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة البقرة. (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 331)، الدر المصون (5/ 367).

وَعَدْتَ به. فلما قالوا ذلك ذَكَرَ المفسرونَ ما ذَكَرْنَاهُ الآنَ، وقد قال اللهُ إنه قال لهم: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: آية 65] فهذا قرآنٌ لا شَكَّ فيه (¬1)، والمفسرونَ يزعمونَ أنهم قالوا له: ما العلامةُ؟ وأنه بَيَّنَ لهم أن العلامةَ اصفرارُ الألوانِ في اليومِ الأولِ، واحمرارُها في الثاني، واسودادُها في الثالثِ، ونزولُ العذابِ صبيحةَ الرابعِ، وكان كما وَقَعَ. وهذا معنَى قولِه: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ المُرْسَلِينَ}. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: آية 78] سَمَّاهَا هنا في الأعرافِ: (رجفةً)، وَسَمَّاهَا في مواضعَ أُخَرَ: (صيحةً)، كقوله في سورةِ هودٍ في قصةِ قومِ صالحٍ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ (68)} [هود: الآيتان 67، 68] سَمَّاهَا (صيحةً) في مواضعَ، وَسَمَّاهَا هنا (رجفةً)، وهي صيحةٌ في الحقيقةِ ورجفةٌ؛ لأن الْمَلَكَ يصيحُ بهم من السماءِ فترجفُ بهم الأرضُ وتزلزلُ من شدةِ الصيحةِ فتفارقُ أرواحُهم أبدانَهم (¬2). {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الدارُ هنا معناه: الديارُ، وفي بعضِ الآياتِ: {فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: الآيات 67، 94] بالجمعِ، وفي بعضِها: {فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف الآيات: 78، 91، العنكبوت: آية 37] لأن الدارَ اسمُ جنسٍ، وهو إذا أضيفَ إلى معرفةٍ فهو عَامٌّ. فمعنَى {فِي دَارِهِمْ} و {دِياَرِهِمْ} واحدٌ، والمقررُ في ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 325). (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من هذه السورة.

الأصولِ: أن مِنْ صِيَغِ العمومِ إضافةُ المفردِ إذا كان اسمَ جنسٍ إلى معرفةٍ، فإنه يَعُمُّ، ونظيرُه في القرآنِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: آية 34] أي: نِعَمَ اللَّهِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: أوامرَه {إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي} [الحجر: آية 68] أي: أَضْيَافِي، ونحو ذلك كثيرٌ معروفٌ في الأصولِ وفي العربيةِ (¬1). ومعنَى: {جَاثِمِينَ} هو خبرُ أَصْبَحُوا، والجاثمونَ جمعُ تصحيحٍ للجاثمِ، والجاثمُ: المتصفُ بالجثومِ، وأصلُ الجثومِ: هو أن يكونَ الإنسانُ مُنْكَبًّا على وَجْهِهِ، رُكْبَتَاهُ في الأرضِ، ومكانُه يُسَمَّى (المجْثَم) فالذي يفعلُه ولدُ الظبيةِ إذا كان مُنْبَطِحًا مُنْكَبًّا على وجهه يسمى (جثومًا) ومكانُه يسمى (المجْثَم) على القياسِ (¬2)، ومنه قولُ زهيرِ بنِ أبي سلمى في معلقتِه (¬3): بِهَا الْعِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ فمعنَى {جَاثِمِينَ} مُنْكَبِّينَ على وجوهِهم مَوْتَى، مفارقة أرواحِهم أبدانَهم، ليس منهم دَاعٍ ولا مجيبٌ، حَلَّتْ بهم نقمةُ اللهِ - جل وعلا - وعذابُه المستأصلُ المتصلُ بعذابِ الآخرةِ (والعياذُ بالله، وهذه النكالاتُ التي وَقَعَتْ في الأممِ يجبُ الاعتبارُ بها، وأن يخافَ الموجودونَ في الدنيا من عصيانِ اللهِ، ومبارزةِ رُسُلِهِ بالمعصيةِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 546)، القرطبي (7/ 242) عمدة الحفاظ (مادة: جثم) ص88. (¬3) شرح القصائد المشهورات (1/ 100). و (العِين): البقر. و (الآرام): الظباء. و (الأطلاء): أولادها. و (خِلْفَة): فوجًا بعد فوج.

ومضادةِ ما جاؤوا به لئلا يُهْلِكَهُمُ اللهُ وينزلَ بهم ما أنزلَ بغيرهم، وهذا معنَى قوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: آية 78]. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [الأعراف: آية 79] فَتَوَلَّى نَبِيُّ اللهِ صالحٌ عنهم، وهذا التولِّي للعلماءِ فيه وَجْهَانِ (¬1): [12/ب] / أحدُهما: أنه تَوَلَّى عنهم لَمَّا تَحَقَّقَ الهلاكَ، وأنه نازلٌ بهم تَوَلَّى راجعًا عنهم وقال لهم: {يَا قَوْمِ} وَاللَّهِ {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} غايةَ النصحِ {لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} فكرهتُم نصيحتِي ورددتموها وستجدونَ غِبَّ ذلك. وبعضُ العلماءَ يقولونَ: إن نَبِيَّ اللهِ صالحًا لم يقل لهم هذا إلا بعدَ أن نزلَ بهم عذابُ اللهِ وصاروا مَوْتَى، وَفَارَقَتْ أرواحُهم أجسادَهم، جاء إلى جثثِهم وَوَبَّخَهُمْ هذا التوبيخَ بعدَ أن ماتوا. وهذا الأخيرُ هو ظاهرُ القرآنِ؛ لأَنَّ قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} مُرَتَّبٌ بالفاءِ على قولِه: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} والفاءُ تَقْتَضِي التعقيبَ، فكونُه قال لهم هذا بعدَ أن ماتوا وَأَصْبَحُوا في دارِهم جاثمينَ هو ظاهرُ القرآنِ، وظاهرُ القرآنِ لا يجوزُ العدولُ عنه إلا لأمرٍ يجبُ الرجوعُ إليه (¬2). وقد وَقَعَ مثلُ هذا من نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فقد ثَبَتَ في الصحيحِ أن كفارَ قريشٍ لَمَّا ماتوا يومَ بدرٍ وَجُعِلُوا في القليبِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - موتَى كُفَّارًا وَقَفَ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أمواتٌ بعدَ ثلاثٍ وقال: - نَادَاهُمْ بأسمائهم - يا أَبَا جهل بن هشامٍ، يا عتبة بن ربيعةَ، يا شيبةُ بنَ ربيعةَ، ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 242). (¬2) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.

هل وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإني قد وجدتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. ووبخهم وقرعهم. ولما قال له عمرُ بنُ الخطابِ ما مضمونُه: كيفَ تُكَلِّمُ قومًا قد جَيَّفُوا، هم جِيَفٌ وأمواتٌ؟ قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ» (¬1). فلا مانعَ من أن يكونَ توبيخُ صالحٍ لقومِه بعدَ الموتِ كتوبيخِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للكفرةِ أصحابِ القليبِ يومَ بدرٍ، وهذا ظاهرُ القرآنِ؛ لأنه رَتَّبَ {فَتَوَلَّى} على قولِه: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} وَاللَّهِ لقد أبلغتُكم رسالةَ رَبِّي {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} نُصْحًا خالصًا غيرَ مشوبٍ بغشٍّ بحقيقةٍ، حَذَّرْتُكُمْ نقَمَ اللهِ {وَلَكِنْ} ولكنكم والعياذُ باللهِ {لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} بل تكرهونَ مَنْ ينصح لكم وتعصونَ أَمْرَهُ، وإذًا فَقَدْ وجدتُم غِبَّ ذلك ونتيجتَه والعياذُ بالله. يقول جل وعلا: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} [الأعراف: الآيات 80، 84]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في المغازي، باب قتل أبي جهل، حديث رقم (3979، 3980، 3981)، (7/ 301)، ومسلم في الجنائز، باب الميت يُعذب ببكاء أهله عليه، حديث رقم (932) (2/ 643)، وأورده في موضع آخر، حديث رقم (1794) من حديث عائشة (رضي الله عنها) مختصرًا. وأخرجه البخاري في المغازي، باب قتل أبي جهل، حديث رقم (3976)، (7/ 300)، من حديث أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما.

هذه هي القصةُ الرابعةُ من قِصَصِ الأنبياءِ الذين قَصَّ اللهُ علينا أخبارَهم مع أُمَمِهِمْ في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأعرافِ - لِنَعْتَبِرَ بما فيها {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ... } [يوسف: آية 111] فَبَيَّنَ لنا أن قومَ نوحٍ كَذَّبُوهُ، وأنه أهلكهم بطوفانٍ أَغْرَقَهُمْ فَبَادُوا عن آخِرِهِمْ، وأن قومَ هودٍ كَذَّبُوهُ فأرسلَ عليهم الريحَ العقيمَ فَدَمَّرَتْهُمْ عن آخِرِهِمْ، وأن قومَ صالحٍ كذبوه فأخذتهم الصيحةُ فأصبحوا في دارهم جاثمين، ليس فيهم دَاعٍ ولا مُجِيبٌ، كأن اللَّهَ يقولُ: اعْلَمُوا مُعَامَلَتِي لِمَنْ عَصَانِي وَطَغَى وتكبر وعادَى رُسُلِي فإني سأهلُكه الإهلاكَ المستأصلَ، وأجعلُ مصيرَه إلى النارِ. وهم - والعياذُ بالله - مغضوبٌ عليهم في الدنيا، مغضوبٌ عليهم في الآخرةِ، ولأَجْلِ ذلك ثَبَتَ في الصحيحين من غيرِ وَجْهٍ (¬1) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في سفرِه في غزوةِ تبوكَ مَرَّ بأرضِ الحِجْرِ - وهي ديارُ ثمودَ - فَلَمَّا مَرَّ بها صلى الله عليه وسلم تَلَثَّمَ وَأَسْرَعَ السيرَ جِدًّا ليجاوزَ أرضَ الغضبِ بسرعةٍ، ونهى أصحابَه أن يشربوا من مياهها، وكان قومٌ منهم قد عَجَنُوا بمائها عجينًا، وقومٌ قد حَاسُوا منه حَيْسًا، فنهاهم أن يأكلوا العجينَ الذي عُجِنَ بماءِ تلك الأرضِ، وَنَهَاهُمْ عن أن يأكلوا الحيسَ الذي بُلَّ بماءِ تلك الأرضِ. وفي بعضِ رواياتِ ¬

(¬1) البخاري في المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجرَ، حديث رقم (4419، 4420)، (8/ 125)، وفي أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} وقوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} الأحاديث رقم (3378 - 3381)، وفي التفسير، باب: «ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين» حديث رقم (4702). ومسلم في الزهد والرقائق، باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين. حديث رقم (2980، 2981)، (4/ 2285، 2286).

الحديثِ أنه أَذِنَ لبعضِهم في أن يُطْعِمُوا ذلك الحيسَ إبلَهم، ونهاهم عن أَكْلِهِ. ومعلومٌ اختلافٌ العلماءِ (¬1): هَلْ يجوزُ الوضوءُ بمياهِ أَرْضِهِمْ؟ وهل يرفعُ الحدثَ؟ وهو تجوزُ الصلاةُ في دَيْرِهِمْ أو لا تجوزُ؟ وإن وقعت فهل هي باطلةٌ أو غيرُ باطلةٍ؟ خلافُ العلماء في هذا معروفٌ. ومما ينبغي أن يُتَنَبَّهَ له الآنَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن مياهِ أولئك القومِ؛ لأنها مياهُ أرضِ غضبٍ، وَبَيَّنَ أن الشربَ منها لا يجوزُ، وإذا كان الشربُ منها لا يجوزُ فالطهارةُ التي هي طاعةُ اللهِ يظهرُ أنها من بابِ أَوْلَى لا تجوزُ. وصَرَّحَتِ الأحاديثُ المتفقُ عليها أنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يدخلَ ديارَهم إلا بَاكِيًا، خَوْفًا أن ينزلَ به مثلُ ما نَزَلَ بهم (¬2). فأرضُهم أرضُ غضبٍ. وكذلك جاءَ عن عَلِيٍّ (رضي الله عنه) لَمَّا مَرَّ بأرضِ الخسفِ في بابل من أرضِ العراقِ أنه أَسْرَعَ وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى جَاوَزَهَا (¬3). ¬

(¬1) انظر: المجموع (1/ 91). (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة الماضية. (¬3) ورد ذلك عن علي (رضي الله عنهما) من غير وجه، فرواه أبو داود في الصلاة، باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (486، 487)، (2/ 156 - 158)، والبيهقي (2/ 451) وفي آخره التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن الصلاة فيها. وقد ضعفه ابن حزم في المحلى (4/ 82)، والحافظ في الفتح (1/ 530)، والخطابي في معالم السنن (1/ 167)، ونقل الصيني عن ابن القطان تضعيفه، وكذا ضعفه البيهقي في المعرفة وعبد الحق الإشبيلي. انظر: عون المعبود (2/ 158). وجاء من وجه آخر عن علي (رضي الله عنه) موقوفًا كما عند ابن أبي شيبة (2/ 377)، والبيهقي (2/ 451)، والخطيب في تاريخه (8/ 274) من طرق عدة. وقال البخاري في صحيحه: «باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، ويذكر أن عليًّا (رضي الله عنه) كَرِهَ الصلاةَ بخسف بابل». انظر البخاري مع الفتح (1/ 530).

ومن ذلك يُعْلَمُ أنه لا تجوزُ السُّكْنَى في مَحَلِّ ديارِهم، ولا الزراعةُ ولا الغرسُ في محلِّ ديارهم، كُلُّ ذلك لا يجوزُ. لا يجوزُ الانتفاعُ بمياهِ أرضِهم، ولا الازدراعُ فيها، ولا الشربُ منها، ولا غَرْسُ شجرٍ بها، كُلُّ ذلك حرامٌ ممنوعٌ لا يجوزُ، كما دَلَّتْ عليه الأحاديثُ النبويةُ الصحيحةُ. فيجبُ على مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يدَه إذا أرادَ بعضُ الجهلةِ أن يسكنَ في ديارِ قومِ صالحٍ وأن يشربَ من مياهِها ويزرعَ على مياهِها ويغرسَ عليه الأشجارَ أن يمنعَه من ذلك كُلِّهِ اقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو خيرُ قدوةٍ، فقد مَنَعَ أصحابَه من أن يشربوا من مائِها، وَمَنَعَهُمْ أن يأكلوا عَجِينًا عُجِنَ بمائها، وأن يأكلوا حَيْسًا بُلَّ بمائِها، وهو صلى الله عليه وسلم خَيْرُ أُسوةٍ، وكل هذا ثابتٌ في الصحيحين عن ابنِ عمرَ وغيرِه رضي الله عنهم. فنهيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الشربِ من آبارِ ثمودَ ومنعُه من أَكْلِ العجينِ الذي بُلَّ بمائها، وَمِنْ أَكْلِ الحيسِ الذي بُلَّ بمائها، وَتَلَثُّمُهُ صلى الله عليه وسلم وإسراعُه السيرَ ليجاوزَ واديَهم، وأمرُه أصحابَه أن لا يشربوا إلا من البئرِ التي كانت تشربُ منها الناقةُ يدلُّ على أن بلادَهم أرضُ غضبٍ، وأنها لا يجوزُ السُّكْنَى فيها، ولا يجوزُ دخولُ ديارِهم لأحدٍ إلا وهو يَبْكِي خوفًا من اللَّهِ أن يُنْزِلَ به مثلَ ما أنزل بهم. فالذي يدخلُ بلادَهم ليتفرجَ وينظرَ غيرَ باكٍ ففعلُه حرامٌ لا يجوزُ للأحاديثِ الصحيحةِ النبويةِ الثابتةِ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوزُ أن يُتْرَكَ أحدٌ يزرعُ في ديارِهم، ويشربَ من مائها، ويأكلَ من الحَبِّ المزروعِ

بمياههم، كُلُّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنها أرضُ غضبٍ ملعونةٌ لا يجوزُ المقامُ فيها ولا الانتفاعُ بمائها. ثم ذَكَرَ تعالى القصةَ الرابعةَ وهي قصةُ لوطٍ، قال: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: آية 80] اختلفَ العلماءُ في وجهِ نصبِ {لُوطًا} في قولِه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} على وَجْهَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ (¬1): قال بعضُ العلماءِ: هو معطوفٌ على ما قبلَه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: آية 59] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: آية 65] أي: وَأَرْسَلْنَا هودًا إلى عادٍ {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: آية 73] أي: وَأَرْسَلْنَا صالحًا إلى ثمودَ، وأرسلنا لوطًا أيضًا فقال لقومِه كذا وكذا. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هو منصوبٌ بـ «اذْكُرْ» محذوفًا. وَاذْكُرْ لوطًا حينَ قال لقومِه. وعليه يكونُ: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} بدلُ اشتمالٍ من قولِه: {لُوطًا} كما قاله غيرُ واحدٍ. ولوطٌ: هو لوطُ بنُ هارانَ ابنُ أَخِي إبراهيمَ. والمؤرخونَ يزعمونَ أن أبا إبراهيمَ اسمُه (تارح) والقرآنُ صَرَّحَ بأن اسمَ أبيه (آزر) حيث قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: آية 74] ولا مانعَ من أن يكونَ له اسمانِ، أو اسمٌ وَلَقَبٌ (¬2). وهم يقولونَ: إن نَبِيَّ اللَّهِ لوطًا ابنُ أَخِي إبراهيمَ، وأنه لَمَّا أَنْجَى اللهُ إبراهيمَ من نارِ النمرودِ وسافرَ من سوادِ العراقِ مُهَاجِرًا إلى الشامِ أن لوطًا كان مِمَّنْ هَاجَرَ مع إبراهيمَ {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 370). (¬2) مضى عند تفسير الآية (84) من سورة الأنعام.

رَبِّي} [العنكبوت: آية 26] فَنَزَلَ إبراهيمُ فلسطينَ، وكانت محلَّ مهاجره، ونزلَ لوطٌ بالأردنِّ - والأُرْدُنُّ بضمِّ الهمزةِ والدالِ وتشديدِ النونِ - يقولونَ: إنه نهرٌ وَكُورَةٌ (¬1) في أعالِي الشامِ، فأرسلَ اللهُ نبيَّ اللهِ لوطًا إلى قومِ لوطٍ، وهم قُرًى، يزعمُ بعضُ المفسرين أنها أربعةٌ، وبعضُهم يقولُ: هي خمسةٌ وعاصمتُها - البلدُ الكبيرُ - تُسَمَّى: (سدومَ) وبعضُ علماءِ العربيةِ يقولونَ: (سذوم) بذال المعجمةِ، وهو قولُ الجوهريِّ (¬2)، وَنَصَرَهُ القاموسُ. وبعضُهم يقولُ: هي (سدوم) بالدالِ المهملةِ (¬3)، وهي أكبرُ قُرَاهُمْ، فأرسلَ اللهُ فيهم نبيَّه لوطًا (عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ)، وجرى لهم معه ما قَصَّهُ اللهُ علينا في آياتٍ متعددةٍ، منها آيةُ الأعرافِ هذه. {وَلُوطًا} أي: وَأَرْسَلْنَا لوطًا، أي: وَاذْكُرْ نَبِيَّ اللهِ لوطَ بنَ هارانَ إِذْ قال لقومِه الذين أُرْسِلَ إليهم وهم بلدُ سدوم والقرى التي حَوْلَهَا، وهي المعروفةُ بالمؤتفكاتِ؛ لأن المؤتفكاتِ قُرَى قومِ لوطٍ، والمؤتفكةُ بالإفرادِ يمكنُ أن يكونَ المرادُ بها جميعُ القُرَى؛ لأن مثلَ ذلك يُطْلَقُ عليه ما يُطْلَقُ على المؤنثةِ المفردةِ المجازيةِ التأنيثِ. وقيل لقرى قومِه: (المؤتفكات) لأن جبريلَ عليه السلام أَفَكَهَا أي: قَلَبَهَا بهم فَاقْتَلَعَهَا من الأرضِ وَرَفَعَهَا إلى السماءِ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، كما قال ¬

(¬1) أي: مدينة أو صقع؛ لأنه يدور على ما فيه من قرى. (¬2) المثبت في الصحاح: (سدوم) بالدال. (5/ 1949) قال في القاموس: «وسدوم: لقرية قوم لوط، غلط فيه الجوهري، والصواب: (سذوم) بالذال المعجمة» ا. هـ (مادة: سدم) ص1447. وللتوسع انظر اللسان (مادة: سدم) و (مادة: سذم). (¬3) انظر: معجم البلدان (3/ 200)، معجم ما استعجم (3/ 729).

تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: آية 82] وجَعْلُ العالِي هو السافلَ هو معنَى القلبِ والأَفْكِ؛ لأن العربَ تقولُ: أَفَكَ الشيءَ يأفكه إذا قَلَبَهُ، ومنه سُمِّيَ أسوأُ الكذبِ (إِفْكًا) لأنه قلبٌ للحقيقةِ عن ظاهرِها الصحيحِ إلى شيءٍ آخَرَ بَاطِلٍ. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: آية 80] {أَتَأْتُونَ} هنا همزةُ إنكارٍ، أَنْكَرَ نَبِيُّ اللهِ لوطٌ عليهم الفاحشةَ، وقد قَدَّمْنَا أن الفاحشةَ (¬1) في لغةِ العربِ أنها كُلُّ خصلةٍ متناهيةٍ في القبحِ تُسَمِّيهَا العربُ فاحشة، وكلُّ شيءٍ بالغٍ نهايتَه تُسَمِّيهِ العربُ فاحشًا، ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ في معلقتِه (¬2): أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ فَسَمَّاهُ فاحشًا لَمَّا بَلَغَ نهايتَه في البخلِ. فالفاحشةُ: الخصلةُ المتناهيةُ في القبحِ والشناعةِ، وهذه الخصلةُ الخسيسةُ القبيحةُ هي فاحشةُ اللواطِ - قَبَّحَهَا اللَّهُ وقبحَ مرتكبَها - ولذا أَنْكَرَهَا نبيُّ اللهِ لوطٌ عليهم، وَبَيَّنَ أنه مُبْغِضٌ لها غايةَ البغضِ في قولِه: {إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: آية 168] أَيْ: من الْمُبْغِضِينَ الكارهين أَشَدَّ البغضِ والكراهيةِ. {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي: الخصلةَ الذميمةَ الخسيسةَ الدنيةَ البالغةَ غايةَ الدناءةِ والخبثِ والفحشِ والقباحةِ، وهي إتيانُ الرجالِ في أَدْبَارِهِمْ، وهي فاحشةُ اللواطِ - قَبَّحَهَا اللهُ وَقَبَّحَ مُرْتَكِبَهَا - فإنها فاحشةٌ خسيسةٌ قبيحةٌ لم يَسْبِقْ إليها أحدٌ قَوْمَ لُوطٍ، كما قال هنا: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} الباءُ هذه تأتِي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

بعدَ (سبق) كقولِه صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» (¬1) وهي للتعدي؛ لأن الفعلَ لاَ يتعدى إلى الضميرِ إلا بها {مَا سَبَقَكُمْ} بهذه الفاحشةِ {مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} (من) الأُولَى أصلُها دخلت على الفاعلِ، والأصلُ: ما سَبَقَكُمْ أحدٌ بها. إلا أن النكرةَ في سياقِ النفيِ إن زِيدَتْ قَبْلَهَا (من) نَقَلَتْهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ (¬2). وقولُه: {مِّن الْعَالَمِينَ} تبعيضيةٌ، أي: ما سَبَقَكُمْ أحدٌ من بعضِ جميعِ العالمينَ إلى هذه الفاحشةِ الْمُنْكَرَةِ والخصلةِ القبيحةِ الخسيسةِ - قَبَّحَهَا اللهُ جل وعلا - ولذا بَيَّنَهَا فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: آية 81]. قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا حَفْصًا عن عاصمٍ ونافعًا: {أئنكم لتأتونَ الرجالَ} بهمزةِ استفهامٍ إلا أن أبا عمرٍو وابنَ كثيرٍ سهَّلاَ الهمزةَ الثانيةَ بَيْنَ بَيْنَ، وأبا عمرٍو يُدْخِلُ بينَهما الألفَ المعروفةَ بألفِ الإدخالِ، والباقونَ من القراءِ قرؤوها بتحقيقِ الهمزتين {أئنكم} بهمزتين ولم يُدْخِلْ بَيْنَ الهمزتين المحققتين أَلِفًا من عامةِ القراءِ إلا هشامٌ عن ابنِ عامرٍ، فهشامٌ وحدَه عن ابنِ عامرٍ قرأ: {ءائنكم} بألفٍ بَيْنَ الهمزتين المحققتين، وعامةُ القراءِ غيرُ هشامٍ عن ابنِ عامرٍ الذين حَقَّقُوا الهمزتين لم يُدْخِلُوا بينهما ألفًا، والذين ¬

(¬1) البخاري في اللباس، باب: البرود والحبر والشملة، حديث رقم (5811)، (10/ 276)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم (6542)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب. الأحاديث رقم (216،218،220)، (1/ 197). (¬2) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام.

سَهَّلُوا الهمزةَ الثانيةَ - وَهُمَا: أبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ - ابنُ كثيرٍ منهم لم يُدْخِلِ الألفَ، وأبو عمرٍو أَدْخَلَ الألفَ، فَتَحَصَّلَ أن في قولِه: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ (¬1): قرأه نافعٌ وحفصٌ عن عاصمٍ: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} بهمزةٍ واحدةٍ على الخبرِ لاَ على الاستفهامِ، وقرأه أبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ: {أَينَّكُمْ} بتسهيلِ الهمزةِ الثانيةِ، إلا أن أَبَا عمرٍو زَادَ ألفَ الإدخالِ، وابنُ كثيرٍ لم يَزِدْهُ. وقرأها الباقونَ بتحقيقِ الهمزتين، ولم يُدْخِلْ أَلِفًا معَ تحقيقِ الهمزتين أحدٌ منهم إلا هشامٌ فِي روايتِه عن ابنِ عَامِرٍ. هذه القراءاتُ في الآيةِ. أما على قراءةِ (¬2): {أئنكم لتأتونَ الرجال} [الأعراف: آية 81] فهو توبيخٌ بعدَ توبيخٍ، وتقريعٌ بعدَ تقريعٍ؛ لأن الاستفهامَ للإنكارِ، وهو يتضمنُ التوبيخَ والتقريعَ، فهو يكررُ لهم التوبيخَ والتقريعَ المرةَ بعدَ المرةِ، والإنكارَ بعدَ الإنكارِ؛ لأَنَّ فِعْلَهُمْ القبيحَ الشنيعَ يستحقُّ ذلك التوبيخَ والتقريعَ والإنكارَ. أما على قراءةِ نافعٍ وحفصٍ عن عاصمٍ {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} فبعضُ العلماءِ يقولُ: إنه خبرٌ لاَ استفهامَ فيه، والأظهرُ أنه فيه استفهامٌ إلا أن الاستفهامَ حُذِفَ لدلالةِ القراءةِ الثانيةِ عليه؛ لأَنَّ المقامَ أليقُ بتكريرِ التوبيخِ والتقريعِ من غيرِ ذلك، وهمزةُ الاستفهامِ إذا دَلَّ الدليلُ عليها جَازَ حَذْفُهَا، وهو قِيَاسِيٌّ عند الأخفشِ، وَسَمَاعِيٌّ عندَ غيرِه. وهو موجودٌ بكثرةٍ في كلامِ العربِ مع (أَمْ) وَدُونَ (أَمْ)، ومع ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص210. (¬2) في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات (287، 288).

ذِكْرِ الجوابِ، ودونَ ذكرِ الجوابِ (¬1)، قال بعضُ العلماءِ منه في القرآنِ: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: آية 34] قالوا: الأصلُ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. فَاكْتَفَى بالاستفهامِ الأولِ عن الثانِي، وزعم بعضُهم أن منه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: آية 22]. قالوا: الأصلُ أَوَتِلْكَ نعمةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ؟ وزعم بعضُهم أن منه قولَه: {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] أي: أهذا ربي؟ باستفهامِ الإنكارِ. والدلالةُ على حذفِ الهمزةِ هو توحيدُ إبراهيمَ وعدمُ شَكِّهِ في ربوبيةِ الكوكبِ. وأنشدَ سيبويه (رحمه الله) في كتابِه لِحَذْفِ همزةِ الاستفهامِ إذا دَلَّ المقامُ عليها قولَ الشاعرِ (¬2): لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... شُعَيْثُ بْنُ سُهَيْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ وأنشد له سيبويه أيضًا في كتابِه قَوْلَ الأَخْطَلِ (¬3): كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ فَبَيْتُ الأخطلِ هذا أَوْرَدَهُ سيبويه في كتابِه مُجَوِّزًا أن تكونَ همزةُ الاستفهامِ محذوفةً، وأن الأصلَ: أَكَذَبَتْكَ عَيْنُكَ؟ فَحُذِفَتْ همزةُ الاستفهامِ. وإن كان الشيخُ الخليلُ بنُ أحمدَ يخالفُ سيبويه في معنَى بيتِ الأخطلِ هذا ويقولُ: إنه خَبَرٌ (¬4)، وأن المرادَ به ما يسميه علماءُ البلاغةِ: الرجوعَ، وهو من البديعِ المعنويِّ عندَهم، وهو أن يَأْتِيَ الإنسانُ بأمرٍ ثم ينقضُ ذلك الأمرَ بعينِه ليدلَّ على أنه قاله أولاً، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

وهو في غيبةٍ عن رُشْدِهِ من شوقٍ أو وَلَهٍ أو نحوِ ذلك، ثم يراجعُه رُشْدُهُ، وينفِي الأمرَ للأولِ الذي كان كَذِبًا ويأتِي بالحقِّ (¬1)، ويمثلونَ له بقولِ زهيرٍ (¬2): قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُهَا الْقِدَمُ ... بَلَى وَغَيَّرَهَا الأَرْوَاحُ وَالدِّيَمُ يزعمونَ أن زُهَيْرًا قال: «لَمْ يَعْفُهَا الْقِدَمُ» لَمَّا رأى دارَ المحبوبِ خَامَرَهُ الشوقُ والحبُّ حتى طاش عقلُه، فَعَبَّرَ بغيرِ الواقعِ، ثم رَاجَعَهُ عقلُه فَرَجَعَ للصوابِ، وأن الخليلَ يقولُ: إن بيتَ الأخطلِ من هذا القبيلِ، وسيبويه (رحمه الله) يقولُ: إنه حُذِفَتْ فيه همزةُ الاستفهامِ. وحذفُ همزةِ الاستفهامِ مع ذِكْرِ الجوابِ، وعدمُ ذِكْرِ الجوابِ، ومع (أَمْ) ودونَ (أَمْ) كثيرٌ في اللغةِ العربيةِ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَهَا (¬3)، فَمِنْهُ دونَ (أَمْ) ودونَ ذِكْرِ الجوابِ، كقولِ الكميتِ (¬4): طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْربُ ... وَلاَ لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ يعني: أَوَ ذو الشيبِ يلعبُ؟ فَحَذَفَ همزةَ الاستفهامِ، دون (أَمْ) ودونَ ذِكْرِ الجوابِ، ومنه قولُ خويلدٍ الهذليِّ (¬5): رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ ... فَقُلْتُ - وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ - هُمُ هُمُ يعنِي: أَهُمْ هُمْ؟ كما هو التحقيقُ. ومنه مع ذِكْرِ الْجَوَابِ قولُ ¬

(¬1) انظر: الصناعتين للعسكري ص443، علوم البلاغة للمراغي ص327. (¬2) البيت في ديوانه ص90. (¬3) مضى عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام. (¬4) السابق. (¬5) السابق.

عمرَ بنِ أبي ربيعةَ المخزوميِّ المعروف المشهور، في شِعْرِهِ المشهورِ (¬1): شَفَّ عَنْهَا مُرَقَّقٌ جَنَدِيٌّ ... فَهْيَ كَالشَّمْسِ مِنْ خِلاَلِ السَّحَابِ أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى ... بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبٍ أَتْرَابِ ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا ... عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ فقولُه: «تُحِبُّهَا» يعنِي: أَتُحِبُّهَا؟ على التحقيقِ، وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ. ومنه مع (أَمْ) قولُ عمرَ بنِ أبِي ربيعةَ هذا (¬2): بَدَا لِيَ مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ... وَكَفٍّ خَضِيبٍ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ ... بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يعني: «أبسبعٍ رميتُ الجمرَ أم بثمان» ومنه بهذا المعنَى قولُ أُحَيْحَةَ بنِ الجُلاَحِ الأنصاريِّ (¬3): لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي وَإِنْ ذَمَّرْتَ سَقْبًا ... لِغَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيلُ يعني: أَلِغَيْرِكَ أَمْ يكون لك. وقولُ الخنساءِ الشاعرةِ بنتِ عمرِو بنِ الشريدِ السُلميةِ (¬4): قَذًى بِعَيْنَيْكَ أَمْ بِالْعَيْنِ عُوَّارُ ... أَمْ خِلْتَ إِذْ أَقْفَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا الدَّارُ ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية رقم (76) من سورة (الأنعام)، والبيت الأول من قصيدة في ديوانه ص45، والبيتان الأخيران من قصيدة أخرى. وهي في الديوان ص59 - 60، وبين البيتين أربعة أبيات. (¬2) مضى عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) السابق، ولفظه في الديوان: قذًى بِعَيْنِكِ أم بالعين عُوَّارُ ... أم ذَرَفت إذ خَلَتْ من أهلها الدار

يعنِي: أَقَذًى بِعَيْنَيْكَ؟ ومنه قولُ امرئِ القيسِ (¬1): تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِرْ يعني: أَتَرُوحُ؟ وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ معروفٌ، وَيَكْفِينَا منه ما ذَكَرْنَا على سبيلِ المثالِ. وعلى هذا فقراءةُ نافعٍ وحفصٍ حُذِفَتْ فيها الهمزةُ لدلالةِ المقامِ عليها، فهي لاَ تَخْلُو أيضًا من إنكارٍ وتوبيخٍ كالتي قَبْلَهَا، وهذا أليقُ بالمقامِ، خِلاَفًا لمن قال: لم تُقَدَّرْ هناك همزةُ استفهامٍ، وإنما الجملةُ خبريةٌ لاَ استفهامَ فيها، فكأنه حَكَمَ عليهم بأنهم يفعلونَ هذا الأمرَ لَمَّا وَبَّخَهُمْ عليه. {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} [الأعراف: آية 81] جَمْعُ رَجُلٍ وهم الذكورُ {شَهْوَةً} شهوةً هنا في إعرابِه أَوْجُهٌ متقاربةٌ (¬2)، بعضُهم يقولُ: مفعولٌ لأَجْلِهِ، أي: تأتونَ الرجالَ لأجلِ شهوتِكم لهم دونَ النساءِ. وبعضُهم يقول: هو مصدرٌ مُنَكَّرٌ حالاً، أي: في حالِ كونِكم مُشْتَهِينَ الرجالَ دونَ النساءِ. وبعضُهم يقولُ: هو ما نَابَ عن المطلقِ من قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} فإنه مُضَمَّنٌ معنَى: تشتهونَ الرجالَ شهوةً. والشهوةُ: هي مَيْلُ النفسِ إلى الشيءِ ورغبتُها فيه. {مِّنْ دُونِ النِّسَاءِ} لأَنَّ النساءَ هُنَّ أزواجُكم اللاتِي خَلَقَهُنَّ اللَّهُ لكم، لِتَتَمَتَّعُوا بهن تَمَتُّعًا نزيهًا طاهرًا يكونُ عنه النسلُ وبقاءُ الجنسِ الآدميِّ، فَتَرَكْتُمْ هذا الأمرَ الطيبَ الكريمَ وهو إتيانُ النساءِ، وهي الأزواجُ التي خَلَقَهُنَّ اللهُ لكم، كما قال تعالى عنهم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ ¬

(¬1) السابق، وفي الديوان: «أو تبتكر». (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 372).

مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} [الشعراء: الآيتان 165، 166] فَبَيَّنَ اللَّهُ شدةَ قُبْحِ فعلهم هنا حيث أنكر عليهم في قوله: {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} معناه يأتونَهم في أدبارِهم بفعلِ فاحشةِ اللواطِ قَبَّحَهُمُ اللهُ جل وعلا {مِّن دُونِ النِّسَاءِ} اللاتِي هُنَّ أزواجُكم وَخُلِقْنَ لكم لِتَتَمَتَّعُوا بهن تمتعًا طاهرًا كريمًا لائقًا بالمروءةِ يَتْبَعُهُ النسلُ وبقاءُ الجنسِ الآدميِّ، فتركتُم هذا الأمرَ الطيبَ الذي خلق اللهُ النساءَ له، وذهبتُم إلى هذا الأمرِ الوسخِ القبيحِ النجسِ الذي يقضي بانقطاعِ نَسْلِ الإنسانِ؛ لأَنَّ الرجالَ إذا اكْتَفَوْا بالرجالِ عن النساءِ انقطعَ النسلُ كُلُّهُ وضاعَ جنسُ بَنِي آدمَ؛ ولذا وَبَّخَهُمُ اللَّهُ. وفاحشةُ اللواطِ -قَبَّحَهَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مُرْتَكِبَهَا- أولُ مَنْ فَعَلَهَا من أهلِ الدنيا قومُ لوطٍ، وهي من خسائسِ الذنوبِ الجامعةِ بينَ الخسةِ ودناءةِ صاحبِها ورداءتِه، وشناعتِها وكثرةِ مفاسدِها، فإن لها مفاسدَ عظيمةً، مع أنها لاَ يرتكبُها إلا أخسُّ الناسِ، وأرذلُ الناسِ، وأقبحُ الناسِ دِينًا، ومروءةً وإنسانيةً، الذين يَرْتَكِبُونَهَا أشبهُ شيءٍ بالبهائمِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَقَبَّحَ فِعْلَهُمْ القبيحَ. ومن خسائسِ هذه الفاحشةِ: أنها إن انْتَشَرَتْ في الناسِ واستغنى الرجالُ بالرجالِ صار ذلك سببًا لانقطاعِ الجنسِ الإنسانيِّ ودمارِ الدنيا، وخصلةٌ إذا تَمَادَى الناسُ فيها كانت خَرَابًا لجميعِ الدنيا، هي من أَخَسِّ الخصالِ. ويزعمُ الناسُ الذين مَارَسُوا أضرارَ هذه الخسيسةِ أن الإنسانَ المفعولَ به إذا نَزَلَ مَنِيُّ اللائطِ فيه أن ذلك الْمَنِيَّ - والعياذُ بالله - يُورِثُهُ أضرارًا قبيحةً: يجعلُه دَيُّوثًا، وَيُضَيِّعُ هِمَّتَهُ، ويخربُ إنسانيتَه وكيانَه، فيبقى القبيحُ الخسيسُ الخنزيرُ كَلاَ

شَيْءٍ، وكذلك اللائطُ - قَبَّحَهُ اللَّهُ وقبح فِعْلَهُ - يذهبُ إلى أنتنِ مَحَلٍّ وأقذرِه ومحلِّ النجاساتِ ليتمتعَ بهذا! فهو من أَخَسِّ الناسِ وأنتنِهم، والمحلُّ الذي يريدُ التمتعَ منه هو أنجسُ شيءٍ وأنتنُه وأقبحُه. وفعلُه الخسيسُ يقتضِي بانقضاءِ النسلِ، وربما أورثَ الخبيثَ الخسيسَ أمراضًا كما هو مُشَاهَدٌ عند مَنْ يعلمُ ذلك ويعلمُ الطِّبَّ؛ لأن اللَّهَ جعلَ في أرحامِ النساءِ خاصيةً لجذبِ مَنِيِّ الرجالِ، إذا هَاجَ مَنِيُّ الرَّجُلِ لينزلَ وهو يُجَامِعُ امرأتَه كان في رَحِمِ امرأتِه خاصيةٌ لجذبِ ماءِ الرَّجُلِ، فتجذبُ رَحِمُهَا مَنِيَّهٌ، فيخلصُ من بقايا الْمَنِيِّ، أما إذا كانت القضيةُ لُوَاطًا - قبح الفاعل فيه والمفعول به فيه، قَبَّحَ اللهُ الجميعَ - فإنه لا يكونُ في دُبُرِ الرجلِ استعدادٌ لجذبِ ماءِ الرجلِ الآخَرِ، فيتهيأُ الماءُ للخروجِ، ويبقَى في المجارِي، فينتنُ ويتعفنُ، ثم تنشأُ منه أمراضٌ وأورامٌ وأسقامٌ عظيمةٌ، قَبَّحَ اللَّهُ الجميعَ. والحاصلُ أنها خصلةٌ من أقبحِ الخصالِ وأخسِّها وأكثرِها ضررًا، صاحبُها في الدنيا تُؤْذِنُ بأنه ساقطُ المروءةِ، ساقطُ الدِّينِ، لا يخافُ اللَّهَ، وَتُدْخِلُهُ يومَ القيامةِ النارَ، وَمَنِ ارْتَكَبَهَا أجمعَ العلماءُ على أنه يُعَاقَبُ في الدنيا عقوبةً زاجرةً. واختلفَ العلماءُ في عقوبةِ اللائطِ (¬1)، المرتكِب هذه الفاحشةَ الخبيثةَ - قَبَّحَهَا اللهُ وَقَبَّحَ مرتكبَها - فذهبَ جماعةٌ من العلماءِ، وحكى عليه غيرُ واحدٍ إجماعَ الصحابةِ، وهو مذهبُ مالكٍ وعامةِ أصحابِه، وروايةً عن الشافعيِّ، وروايةً عن الإمامِ أحمدَ أنهما يُقْتَلاَنِ: ¬

(¬1) انظر: المجموع (20/ 27)، المغني (12/ 348)، القرطبي (7/ 243).

الفاعلُ والمفعولُ به يقتلانُ معًا، إلا أن العلماءَ الذين قالوا يقتلانِ، اختلفوا في كيفيةِ قتلِه، فمنهم مَنْ قال: يُقْتَلُ بالسيفِ، ومنهم مَنْ قال: يُرْجَمُ بالحجارةِ حتى يموتَ، ومنهم مَنْ قال: يُحْرَقُ الخبيثُ بالنارِ حتى يُقْتَلَ تحريقًا، ومنهم مَنْ قال: يُرْفَعُ على شَاهِقٍ ثم يُرْمَى من الشاهقِ وَيُتْبَعُ بالحجارةِ كما فَعَلَ اللهُ بقومِ لوطٍ الذين هم أولُ مَنِ ارتكبَ هذه الفاحشةَ، رَفَعَهُمْ إلى أعلى ثم قَذَفَ [بهم إلى] (¬1) الأرضِ وَأَرْسَلَ عليهم حجارةً مِنْ سِجِّيلٍ. والذين قالوا: يُقْتَلُ اللائطُ والملوطُ استدلوا بالحديثِ الذي رَوَاهُ عكرمةُ عن ابنِ عباسٍ، وأخرجَه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ وغيرُهم، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» (¬2). وقال ابنُ حَجَرٍ في رجالِ هذا الإسنادِ: إنهم موثقونَ. وَذَكَرَ فيه بعضَ اختلافٍ (¬3). وأكثرُ العلماءِ يُثْبِتُونَ هذا الحديثَ، وكم من واحدٍ قال: إنه حديثٌ ثابتٌ. وما جاء عن يَحْيَى بنِ مَعِينٍ من أن في إسنادَه عمرُو بنُ أبِي عمرٍو مَوْلَى المطلب، وأنه اتَّهَمَهُ في هذا الحديثِ (¬4)، مردودٌ بأن عَمْرًا المذكورَ من الحفاظِ المشهورين، الذين رَوَى لهم مالكٌ والشيخانِ، فلا يقدحُ فيه هذا، فهذا الحديثُ الذي رواه هؤلاء عن ابنِ عباسٍ هو حجةُ مَنْ قال: يُقْتَلُ الفاعلُ والمفعولُ به، سواء كانا مُحْصَنَيْنِ أو غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ. ¬

(¬1) في الأصل: «قذف الأرض بهم». (¬2) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬3) بلوغ المرام ص259. (¬4) انظر: الدراية (2/ 103).

والذين قالوا: يُقْتَلاَنِ بالسيفِ؛ لأن النبيَّ قال في الحديثِ: «فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». والقتلُ إِذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى القتلِ بالسيفِ. والذين قالوا: يُرْجَمَانِ اسْتَدَلُّوا بآثارٍ جاءت في ذلك، جاء عن عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ أنه رَجَمَ لُوطِيًّا (¬1)، جاء عنه من بعضِ الوجوهِ. وَرُوِيَ عن ابنِ عباسٍ أيضًا أن هذه اللوطيةَ الكبرى، أن فيها الرجمَ (¬2). فقد رُوِيَ عن عَلِيٍّ وابنِ عباسٍ وغيرِهم. والذين قالوا: يُحْرَقُ بالنارِ استدلوا بما رواه البيهقيُّ وغيرُه من أن خالدَ بنَ الوليدِ (رضي الله عنه) أرسل إلى أبِي بكرٍ الصديقِ أيامَ خلافتِه أنه وَجَدَ في بعضِ نواحِي بلادِ العربِ رَجُلاً يُنْكَحُ - والعياذُ بالله - كما تُنْكَحُ النساءُ، وأن أبا بكر جَمَعَ الصحابةَ فاستشارهم فكان أشدُّهم في ذلك قولاً عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ (رضي الله عنه)، فقال: يَا أميرَ المؤمنين، إن هذه فاحشةٌ لم تَرْتَكِبْهَا من الأممِ إلا أمةٌ واحدةٌ، وقد فَعَلَ اللَّهُ بها ما علمتُم في كتابِه، فَأَرَى أن يُحَرَّقَ بالنارِ، واتفقَ الصحابةُ على ذلك (¬3). ذكر هذه القصةَ البيهقيُّ وإسنادُه فيها ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (13488)، وابن أبي شيبة (9/ 530)، والبيهقي (8/ 232)، وانظر: الدراية (2/ 103). (¬2) أخرجه بنحوه عبد الرزاق (13491)، وابن أبي شيبة (9/ 530)، وأبو داود في الحدود، باب: فيمن عَمِلَ عَمَلَ قومِ لوطٍ (4439)، (12/ 155)، والبيهقي (8/ 232)، والدارقطني (3/ 125)، انظر: صحيح أبي داود (3746). (¬3) أخرجه البيهقي (8/ 232)، وعزاه الحافظ في الدراية (2/ 103)، لابن أبي الدنيا والواقدي في الردة. وقال: «ضعيف جِدًّا» ا. هـ.

مرسلٌ، وجاءت مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عن عَلِيٍّ (رضي الله عنه) أنه حَرَّقَ رجلاً وَرَجَمَهُ (¬1). والذين قالوا: يُرْفَعُ من عَالٍ إلى أسفلَ، ثم يُتْبَعُ بالحجارةِ، قالوا: إن اللَّهَ كذلك فَعَلَ بقومِ لُوطٍ. هذا هو القولُ الأولُ - أنه يُقْتَلُ الفاعلُ والمفعولُ - وهو أقوى الأقوالِ دليلاً، وهو مذهبُ مالكٍ وعامةِ أصحابِه، وَحَكَى عليه غيرُ واحدٍ إجماعَ الصحابةِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ، وقولٌ عن الشافعيِّ. المذهبُ الثاني في عقوبةِ اللائطِ: أن اللواطَ كَالزِّنَى، إن كان اللائطُ مُحْصَنًا رُجِمَ، وإن كان غيرَ محصن جُلِدَ مائةً وَغُرِّبَ سَنَةً، كما هو معروفٌ. وهذا هو الروايةُ التي رَجَعَ إليها الشافعيُّ في قولِ الربيعِ وغيرِه (¬2)، وهو الروايةُ الأخرى عن الإمامِ أحمدَ، قالوا: إنه كالزِّنَى: واستدلوا بحديثٍ لا يَصِحُّ، وهو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ، وَإِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» (¬3) وهذا الحديثُ لا يصحُّ إسنادُه، وإن جاء من وَجْهَيْنِ، فلا يصحُّ إسنادُه. واستدلَّ مَنْ قال هذا القولَ بالقياسِ، قَاسُوهُ على الزنى، ¬

(¬1) البيهقي (8/ 232 - 233)، بنحوه. (¬2) السابق (8/ 233). (¬3) أخرجه البيهقي (8/ 233)، قال الحافظ في التلخيص (4/ 55): « ... البيهقي من حديث أبي موسى، وفيه محمد بن عبد الرحمن القشيري كذبه أبو حاتم ... ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى، وفيه بشر بن الفضل البجلي وهو مجهول. وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه» ا. هـ. وضعفه الألباني في الإرواء (2349).

قالوا: بِجَامِعِ أن كلاًّ منهما إيلاجُ فَرْجٍ في فَرْجٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا مُشْتَهًى طبعًا. وهذا رواية عن الشافعيِّ، وَرُوِيَ عن أحمدَ، وقال به جماعاتٌ كثيرةٌ من فقهاءِ الأمصارِ، وَمِمَّنْ رُوي عنه هذا من الصحابةِ: ابنُ الزبيرِ وجماعاتٌ من التابعينَ، وفقهاء الأمصارِ، وهذا هو الروايةُ الأخرى عن الإمامِ أحمدَ، والقولُ الآخَرُ عن الشافعيِّ. وعن الربيعِ: أن الشافعيَّ رَجَعَ إلى هذا القولِ. المذهبُ الثالثُ: أنه لا يُقْتَلُ ولا يُحَدُّ حَدَّ الزنى، وإنما يُعَزَّرُ بحسبِ ما يراه الإمامُ مِنْ ضَرْبٍ أو سَجْنٍ. وهذا مذهبُ أبِي حنيفةَ، إلا أن صَاحِبَيْهِ خالفاه فيما ذَكَرَ بعضُهم أنهما في هذا وَافَقَا الشافعيَّ وغيرَه في أنه كالزاني. ومذهبُ أبي حنيفةَ احتجَّ له بأن الصحابةَ اختلفوا فيه، فَدَلَّ على أنه ليس فيه نَصٌّ صريحٌ، والحدودُ تُدْرَأُ بالشبهاتِ، وقال: قياسُه على الزنى غيرُ مقبولٍ؛ لأن الزنَى له اسمٌ يَخُصُّهُ، واللواطُ له اسمٌ يَخُصُّهُ، واستدلَّ له بعضُ الحنفيةِ ببيتِ أَبِي نُوَاسٍ (¬1): مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍّ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ ... لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ قالوا: الزنى له اسمٌ يَخُصُّهُ، واللواطُ له اسمٌ يَخُصُّهُ، والقياسُ لا يصحُّ مع وجودِ الفارقِ. قالوا: لأن الزنى يُضَيِّعُ الأنسابَ ويورثُ الشبهةَ في الفراشِ، واللواطُ لا يضيعُ نَسَبًا ولا يورثُ شبهةً في فراشٍ؛ لأن اللواطَ لا يقعُ منه ولدٌ، بخلافِ الزنى فقد تَشْتَبِهُ به الفُرُشُ، وتختلطُ به الأنسابُ. قالوا: والداعيةُ في الزنى من الجانبين؛ لأن الزانيَ والزانيةَ كُلٌّ منهما يَتَلَذَّذُ، واللواطُ من جهةٍ ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص28.

واحدةٍ؛ لأَنَّ المفعولَ به - قَبَّحَهُ اللَّهُ - قد لاَ يتلذذُ - قبح الله الجميعَ - واستدلَّ أبو حنيفةَ أيضًا بتفسيرِ مجاهدٍ في قولِه تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: آية 16] قال: اللَّذَانِ يأتيانها: الرَّجُلاَنِ يفعلانِ فاحشةَ اللواطِ، فَآذُوهُمَا بالسبِّ والضربِ بالنعالِ ونحوِ ذلك (¬1). كما قال به بعضُ العلماءِ في تفسيرِ الآيةِ. هذه مذاهبُ العلماءِ في عقوبةِ الخنزيرِ الخبيثِ اللائطِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَاعْلَمُوا أن أَوْجُهَ التلذذِ المحرمةَ على أنواعٍ: منها: أن يأتيَ الرجلُ الرجلَ، ومنها: أن يأتيَ الرجلُ المرأةَ حرامًا، ومنها: أن تأتيَ المرأةُ المرأةَ، قبح اللهُ الجميعَ ولعنَ مَنْ يفعلُ ذلك. أما إتيانُ الرجلِ الرجلَ فهو فاحشةُ اللواطِ الذي كُنَّا نذكرُه الآنَ. وأما إتيانُ الرجلِ المرأةَ غيرَ زوجِه ولا سريته فهو الزِّنَى، وسيأتِي إيضاحُ الكلامِ عليه - إن شاءَ اللهُ - في سورةِ النورِ، حيث أَوْضَحَهُ اللهُ وَبَيَّنَ ما يترتبُ عليه. وكذلك إتيانُ المرأةِ المرأةَ. وإتيانُ الرجلِ زوجَه في دُبُرِهَا هو من هذه المحرماتِ الخسائسِ (¬2). والعلماءُ يُسَمُّونَهُ: اللوطيةَ الصغرى. فيجبُ على كُلِّ مسلمٍ أن يعلمَ أن إتيانَ الرجلِ امرأتَه في دبرِها حرامٌ، وقد قال أبو عبد اللَّهِ القرطبيُّ - رحمه الله - ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (8/ 82)، وابن أبي حاتم (3/ 895)، وعزاه في الدر (2/ 130)، لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬2) انظر: القرطبي (3/ 90 - 95)، المغني (10/ 226)، فتح الباري (8/ 190 - 192).

في تفسيرِه (¬1): إن حرمتَه رواها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم اثْنَا عَشَرَ صحابيًّا من الصحابةِ الكرامِ. وناهيكَ بالتحريمِ شيءٌ يَرْوِي حرمتَه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم اثْنَا عشر صحابيًّا من الصحابةِ الكرامِ (رضي الله عنهم). وأحاديثُهم معروفةٌ موجودةٌ، أخرجَها الإمامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ، وأصحابُ السننِ، وهي معروفةٌ بكثرةٍ، وفيها الوعيدُ الشديدُ والتهديدُ لِمَنْ يأتِي امرأتَه في دُبُرِهَا. وما رُوِيَ عن بعضِ السلفِ: - كما يذكرونَه عن ابنِ عُمَرَ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وجماعةٍ من الصحابةِ والتابعين - من أنهم رَخَّصُوا للرجلِ أن يأتيَ امرأتَه في دُبُرِهَا، كل ذلك بَيْنَ أَمْرَيْنِ (¬2): إما مكذوبٌ لا أصلَ له، وإما مُحَرَّفٌ عن حقيقتِه، مُصَوَّرٌ بصورةٍ غيرِ حقيقتِه؛ لأن الذين قالوا من السلفِ ذلك، وَجَوَّزُوا إتيانَ النساءِ من الأدبارِ يَعْنُونَ أن يأتيَ الرجلُ امرأتَه من جهةِ دُبُرِهَا في قُبُلِهَا، وَكَمْ من رجلٍ يجامعُ امرأتَه في قُبُلِهَا من جهةِ دُبُرِهَا، وهذا معروفٌ، وتدلُّ على هذا وجوهٌ صحيحةٌ ثابتةٌ، منها: ما ثَبَتَ في الصحيحين وغيرِهما عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) أن اليهودَ كانوا يقولونَ: إذا جَامَعَ الرجلُ امرأتَه في قُبُلِهَا من جهةِ دُبُرِهَا جاءَ ولدُها أحولَ. فأنزل اللهُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬3) [البقرة: آية 223] وهذا تفسيرٌ من جابرٍ (رضي الله عنه) للآيةِ الكريمةِ بمعنَى: ¬

(¬1) تفسير القرطبي (3/ 95). (¬2) انظر: السابق (3/ 93 - 96). (¬3) البخاري في التفسير، باب (نساؤكم حرث لكم) حديث رقم (4528، 8/ 189)، ومسلم في النكاح، باب: جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر. حديث رقم (1435)، (2/ 1058).

{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أَيْ: وَأْتُوا نساءَكم في مَحَلِّ الحرثِ وهو القُبُلُ خاصةً، أنى شئتُم، سواء كانتِ المرأةُ باركةً على وَجْهِهَا فلا يكونُ الولدُ أحولَ، أو مستلقيةً على قَفَاهَا، أو على جَنْبٍ. والمقررُ في علومِ الحديثِ: أن تفسيرَ الصحابيِّ إذا كان له تَعَلُّقٌ بسببِ النزولِ فحكمُه حكمُ المرفوعِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم (¬1). وحديثُ جابرٍ هذا له حُكْمُ الرفعِ، وهو حديثٌ ثابتٌ في الصحيحين، يُبَيِّنُ أن المعنَى: إتيانُها في قُبُلِهَا من جهةِ دُبُرِهَا. وما اشتهر عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ أنه أَذِنَ وَرَخَّصَ في ذلك فهو باطلٌ؛ بدليلِ ما رواه الدارميُّ (رحمه الله) في مسندِه بإسنادٍ صحيحٍ أن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ (رضي الله عنهما) سأله رجلٌ فقال له: أيُحَمَّضُ لِلْجَوَارِي؟ فقال: وما التحميضُ؟ فَذَكَرَ له الدبرَ، فقال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ: وهل يفعلُ هذا أحدٌ من المسلمين؟! (¬2) هذا إسنادٌ صحيحٌ في مسندِ الدراميِّ (رحمه الله)، يُبَيِّنُ أن ما ذُكِرَ عن ابنِ عمرَ أنه كَذِبٌ، وأنه لا يَقْصِدُ إتيانَ المرأةِ في دُبُرِهَا. وَمَنْ رُوِيَ عنه من السلفِ ما يُوهِمُ ذلك فمرادُه أنه يجوزُ أن يأتِي الرجلُ امرأتَه في قبلِها من جهةِ دبرِها وهذا لا نَهْيَ فيه، وهو الذي نَزَلَتْ فيه آيةُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: آية 223]. وما يستدلُّ به بعضُ مَنْ لاَ يعلمُ معانيَ القرآنِ من أن اللهَ أَذِنَ للرجلِ أن يأتيَ امرأتَه حيثُ شاءَ لأنه قال: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيفَ شِئْتُمْ. وقولُه: {أَنَّى شِئْتُمْ} يقتضِي سواء كان ذلك في القبلِ أم في الدبرِ!! فهذا جهلٌ وَعُجْمَةٌ، وعدمُ فَهْمٍ للقرآنِ؛ لأن هذا مُرَتَّبٌ بالفاءِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (31) من هذه السورة. (¬2) الدارمي (1/ 208)، (1147).

على قولِه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} فَرَتَّبَ على كونِ النساءِ حَرْثًا أي: مَحَلَّ ازدراعِ الأولادِ بقولِه: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ولا حرثَ في الدبرِ ألبتةَ، فلا يدخلُ في الآيةِ ألبتةَ (¬1). ومما استدلَّ به العلماءُ - مع روايةِ اثني عشرَ صَحَابِيًّا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تحريمُ إتيانِ النساءِ في أدبارِهن، مما استُدلَّ به من غيرِ النصوصِ -: القياسُ، فَمِنْ ذلك أن اللهَ (تعالى) حَرَّمَ على الرجلِ إتيانَ امرأتِه في فَرْجِهَا أيامَ الحيضِ. وَعَلَّلَ ذلك بأن الحيضَ أَذًى يُنَزِّهُ الرجالَ عن أن يتلبسوا بأذَى الحيضِ وقذرِه حيث قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} ثم بَيَّنَ علةَ الاعتزالِ بأنه أَذًى فقال: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: آية 222] وقولُه: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} هو القبُلُ؛ لأن اللَّهَ قال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: آية 223] والمأمورُ بإتيانِه: محلُّ الحرثِ، ومعلومٌ أن محلَّ حرثِ الأولادِ ليس الدبرَ، وتدلُّ عليه آيةٌ أخرى، وهي قولُه تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة آية 187] لأن معنَى: {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: من الأولادِ على أصحِّ التفسيرين، وعليه جمهورُ العلماءِ، يعنِي: بَاشِرُوهُنَّ وَلْتَكُنْ تلك المباشرةُ في محلِّ ابتغاءِ الأولادِ، ومعلومٌ أن الدبرَ ليس محلَّ ابتغاءِ الأولادِ؛ ولذا كانت المرأةُ أيامَ حيضِها يُمْنَعُ على زوجِها جِمَاعُهَا حَذَرًا من أذَى الحيضِ ونجاستِه، فالدبرُ أنجسُ وأنجسُ من محلِّ الحيضِ؛ لأنه محلُّ الغائطِ، ومحلُّ النتنِ والخبثِ والنجاسةِ الدائمةِ، فهو أنجسُ وأنجسُ والعياذُ بالله. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (3/ 91 - 93).

ومما استدلَّ به بعضُ العلماءِ (¬1): قالوا: إن الرجلَ إذا تَزَوَّجَ امرأةً فَوَجَدَهَا رتقاءَ -والرتقاءُ هي التي فَرْجُهَا مسدودٌ، ليس فيها محلٌّ يمكن أن يُجَامِعَهَا فيه؛ لأن فَرْجَهَا مسدودٌ بالكليةِ- قالوا: إن هذا عيبٌ تُرَدُّ به بإجماعِ العلماءِ، ولو كان الدبرُ مَحَلَّ تلذذٍ لَمَا رُدَّتِ الرتقاءُ؛ لأن عندَه محلاًّ آخَرَ يتمتعُ به غير القُبلِ المسدودِ، وهو دُبُرُهَا. وحكى القرطبيُّ إجماعَ العلماءِ على أن الرتقَ عيبٌ يُرَدُّ به، وأن الرجلَ إذا تزوجَ امرأةً فَوَجَدَهَا مسدودةَ الفرجِ بالكليةِ أنه عَيْبٌ يَرُدُّهَا به، ولا يلزمُه شيءٌ من نصفِ الصداقِ. وقال الإمامُ ابنُ عبدِ البرِّ (رحمه الله) (¬2): إن عامةَ العلماءِ أَجْمَعُوا على أن الرتقَ عَيْبٌ تُرَدُّ به الرتقاءُ، ولم يُعْلَمْ في ذلك خلافٌ، إلا شيءٌ ضعيفٌ لم يَثْبُتْ، رُوِيَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ (رحمه الله) أنها لاَ تُرَدُّ بالرتقِ. فإن قيل: قد يكونُ الرتقُ عَيْبًا؛ لأن الرَّتْقَاءَ لاَ تَلِدُ، والعقمُ عَيْبٌ. أجاب عنه بعضُ العلماءِ: بأن العقمَ ليس بعيبٍ، وَمَنْ تزوجَ امرأةً فَوَجَدَهَا عقيمًا لا تلدُ، لا يكونُ هذا عَيْبًا يَرُدُّهَا به، وإن طَلَّقَهَا لَزِمَهُ نصفُ الصداقِ إن كان قبلَ الدخولِ؛ لأن العقمَ في النساءِ ليس عَيْبًا يُرَدُّ به. وحكى القرطبيُّ (رحمه الله) في تفسيرِ قولِه: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: آية 223] إجماعَ العلماءِ على أن عُقْمَ المرأةِ ليس من العيوبِ التي يَرُدُّهَا به الرجلُ (¬3)، ويدلُّ على ذلك ظواهرُ آياتٍ: هذا زكريا صلى الله عليه وسلم يقولُ: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: آية 40] {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: آية 5] وهو مقيمٌ معها على ¬

(¬1) انظر: السابق (3/ 94). (¬2) الاستذكار (16/ 100). (¬3) القرطبي (3/ 94).

ذلك، وذلك يدلُّ على أن ذلك الأمرَ لو كان مِمَّا لاَ ينبغي البقاءُ عليه لَمَا بَقِيَ هو عليه. ولا ينافِي هذا ورودُ أحاديثَ كثيرةٍ بتزوجِ الولودِ؛ لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُكَاثِرُ بنا الأممَ، فالولودُ قَطْعًا خيرٌ من العقيمِ، وكثرةُ النسلِ خيرٌ من قِلَّتِهِ كما لاَ يَخْفَى. والحاصلُ أن الوجوهَ المحرمةَ من التلذذِ أن: منها إتيانَ الرجلِ امرأةً غيرَ زوجِه ولا سُرِّيَّتِهِ، وهذا هو الزنا أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منه. ومنها إتيانُ الرجلِ الرجلَ، وهذا هو اللواطُ - قبحه الله ولعنَ مرتكبه - وهو الذي كُنَّا نتكلم عليه ومنها: إتيانُ امرأةِ الرجلِ في دُبُرِهَا، فلا يَحِلُّ له أن يأتيَ امرأتَه في دبرها، وذلك يُسَمَّى اللوطيةَ الصغرَى، وهو الذي كنا نُبَيِّنُ روايةَ اثني عشرَ صحابيًّا حرمتَه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتشديدَ فيه. ومن ذلك إتيانُ المرأةِ المرأةَ، المعروفُ بِالْمُسَاحَقَةِ؛ لأن بعضَ النساءِ الخبيثاتِ الخسيساتِ التي لا مروءةَ لَهُنَّ ولاَ خُلُقَ ولا حياءَ يجامعُ بَعْضُهُنَّ بعضًا، فتتلاقَى عوراتُهن، وَتَحُكُّ هذه فرجَها بفرجِ هذه - قبح الله الجميعَ، الخسيساتِ - فإن هذا الفعلَ من أخسِّ الأفعالِ وأقبحِها، وهو من المحرماتِ الخسيسةِ الخبيثةِ التي لا تَرْتَكِبُهَا إلا ساقطةُ مروءةٍ، وساقطةُ دينٍ، خبيثةٌ لا حياءَ لها ولاَ مروءةَ ولا إنسانيةَ، وهذه من أقبحِ الأفعالِ وأحرمِها وأشنعِها، وإذا ثَبَتَتْ على امرأةٍ يجبُ على مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يدَه أن يعزرَها التعزيرَ البالغَ الرادعَ لها ولأمثالِها من الخسيساتِ الخبيثاتِ القبيحاتِ، وهذه المساحقةُ - قَبَّحَهَا اللَّهُ وأخزاها، وقبحَ مَنْ تَرْتَكِبُهَا وأخزاها - هي من قبائحِ الذنوبِ، وخسائسِ الفضائحِ، وربما نَشَأَتْ عنها بلايا عظامٌ، ربما نَشَأَ عنها مثلَ الزاني بعينه؛ لأن المُساحِقَاتِ ربما حَمَلَتْ إحداهن

عن طريقِ المساحقةِ فتيقن الناس أنها زانيةٌ. وذلك أن التي تتخذُ أخدانًا مساحقاتٍ - قَبَّحَهَا اللَّهُ - قد تكونُ ذاتَ زوجٍ فَيُجَامِعُهَا زوجُها فيستقرُّ ماءُ زوجِها في رَحِمِهَا، ثم تأتِي أخرى خدنتُها التي تساحقُها وماءُ زوجِها مستقرٌّ في رَحِمِهَا فتحكُّ ذلك العضوَ منها بالعضوِ من الأخرى فتتحركُ الشهوةُ منهما، وعندَ تحركِ الشهوةِ ينزلُ ماءُ زوجِها من رَحِمِهَا فيدخلُ في رحمِ الأخرى عندَ ثورانِ شهوتِها فيختلطُ بِمَنِيِّهَا المنعكسِ إلى رَحِمِهَا فينشأُ من ذلك الحملُ، فيقدرُ الناسُ أن الخبيثةَ الكلبةَ زانيةٌ قبحها اللهُ وقبح فِعْلَهَا وقبحَ مَنْ يرتكبُ هذه الخسائسَ الشنائعَ، فإن الإنسانَ حتى ولو كان غيرَ ذِي دِينٍ لا ينبغي له إن كان ذَا إنسانيةٍ أو مروءةٍ أن يرتكبَ هذا، وقد صَدَقَ الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ مروانَ حيث قال: إنه لو لم يَسْمَعِ اللواطَ يُذْكَرْ في القرآنِ لَمَا صَدَّقَ أن ذَكَرًا يَنْزُو على ذَكَرٍ؛ لأن النفوسَ الطبيعيةَ والفطرَ السليمةَ تستقذرُ هذا وتستخبثُه كُلَّ الاستخباثِ، حتى ولو ضُرِبَتْ عنقُ الرجلِ السليمِ الفطرةِ أن يفعلَ هذا لَمَا فَعَلَ - قبحَ اللَّهُ مَنْ يَرْتَكِبُ هذه الخسائسَ والخبائثَ - فهذه هي الأمورُ التي لا يجوزُ أن تُفْعَلَ، وهي إتيانُ الرجلِ امرأةً أجنبيةً، وإتيانُه زوجتَه في دُبُرِهَا، وإتيانُ الرجلِ الرجلَ، وإتيانُ المرأةِ المرأةَ، كُلُّ هذا خبيثٌ قَبِيحٌ. [13/ أ] / أما استمناءُ الرجلِ بيدِه - لأن الرجلَ إذا اشتدت غُلْمَتُهُ فيجعلُ مثل صابونٍ أو غاسولٍ في يدِه ويحكُّه على ذَكَرِهِ حتى ينزلَ منه الماءُ - فالتحقيقُ أن هذا الاستمناءَ باليدِ المعروفَ في اصطلاحِ الأدباءِ بجَلْدِ عُمَيرَة (¬1)، وَيُسَمَّى (الخضخضةَ)، فالتحقيقُ الذي لا شَكَّ ¬

(¬1) انظر: المنتخب في كنايات الأدباء ص105، القاموس (مادة: عمر) ص 572، البحر المحيط لأبي حيان (6/ 397).

فيه أنه فعلٌ قبيحٌ وأنه حَرَامٌ (¬1)، وإن كان الإمامُ أحمدُ - مع جلالتِه وَعِظَمِ قَدْرِهِ في العلم - يُذْكَرُ عنه أنه يُرَخِّصُ في هذا كالترخيصِ بإخراجِ الدمِ بالفصادةِ إذا خِيفَ منه أَذًى (¬2). إلا أن التحقيقَ مع الجمهورِ، وأن الاستمناءَ باليدِ المعروفَ بجلدِ عميرةَ المُسَمَّى بالخضخضةِ - قبحَّه الله - أنه حرامٌ، وظاهرُ القرآنِ يدلُّ على أنه حرامٌ ظهورًا بَيِّنًا، ولم يَرِدْ في كتابِ الله ولا في سنةِ رسولِ اللَّهِ شيءٌ يعارضُ ظاهرَ آيةِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} الدالةِ على تحريمِ الاستمناءِ باليدِ، وهي قولُه تعالى في: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} و (سَأَلَ سَائِلٌ): {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: الآيتان 5، 6] و [المعارج: الآيتان 29، 30] فلم يَسْتَثْنِ اللهُ إلا نوعين وهو قولُه: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} ثم جاء بِحُكْمٍ عامٍّ شاملٍ قال: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: آية 7] و [المعارج: آية 30] ولا شَكَّ أن الناكحَ يدَه مِمَّنِ ابتغَى وراءَ ذلك فهو داخلٌ في قولِه: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} خِلاَفًا لمن يجيزُ ذلك. والسفهاءُ يفعلونَ هذا كما قال شَاعِرُهُمْ (¬3): إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لاَ أَنِيسَ بِهِ ... فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لاَ عَارٌ وَلاَ حَرَجُ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (12/ 105)، المجموع (20/ 31 - 34). (¬2) المذهب عند الحنابلة أنه حرام، ونقله في الإنصاف عن جميع الأصحاب، وإنما يُباح حال الخوف من الزنا مع عدم القدرة على النكاح أو التسري، وزاد بعضهم ما إذا خاف على نفسه وبدنه. وفي رواية عن الإمام أحمد التحريم بإطلاق. انظر: الإنصاف (10/ 251)، الفروع (6/ 121)، كشاف القناع (6/ 125)، شرح منتهى الإرادات (3/ 362). (¬3) البيت في القرطبي (12/ 105)، المجموع (20/ 33).

وهذا من الشيءِ الذي لا ينبغي أن يُختلفَ في تحريمِه، وإن قال به هذا الإمامُ الجليلُ ما قال، وكلُّ كلامٍ فيه مقبولٌ ومردودٌ كما قال إمامُ دارِ الهجرةِ مالكُ بنُ أنسٍ رحمه الله. فَفَاحِشَةُ اللواطِ - قبحها الله - وما يتبعُها يجبُ على المسلمين الحذرُ منها، وأظهرُ الأقوالِ دَلِيلاً: أن مرتكبَها يُقْتَلُ، يُقْتَلُ الفاعلُ والمفعولُ. أما مَنْ يَزْنِي ببهيمةٍ (¬1) فقد جاء فيه حديثٌ أنه يُقْتَلُ هو والبهيمةُ التي زَنَى بها (¬2)، والحديثُ الذي وَرَدَ في ذلك قد يكونُ لا يَقِلُّ عن درجةِ الاحتجاجِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ على أن مَنْ زَنَى ببهيمةٍ لا يُقْتَلُ هو ولا البهيمةُ؛ واستدلُّوا بحديثِ ابنِ مسعودٍ الثابتِ فِي الصحيحين: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ» (¬3). والثلاثُ معروفةٌ ليس منها نكاحُ البهيمةِ. قالوا: هذا الحصرُ القويُّ اليقينيُّ أقوى من الأحاديثِ الواردةِ في قتلِ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً. وبعضُ العلماءِ يقولُ: إذا أَتَاهَا جَازَ أَكْلُهَا. وهو مذهبُ مالكٍ، وبعضُهم يقول: تُقْتَلُ ولا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا. وَاللَّهُ (جل وعلا) أَعْلَمُ بذلك. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: آية 81] النساءُ: اسمُ جمعٍ لاَ واحدَ له من لَفْظِهِ، واحدتُه امرأةٌ. ¬

(¬1) انظر: المجموع (20/ 29)، المغني (12/ 351). (¬2) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

{شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} هذا النوعُ من الإضرابِ يُسَمَّى (إضرابًا انْتِقَالِيًّا). {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} والإسرافُ مجاوزةُ الحدِّ؛ لأن اللَّهَ خَلَقَ لهم النساءَ وجعلَ فيهن الجمالَ، وركبَ فيهن الشهوةَ؛ لأن اللَّهَ إنما رَكَّبَ الشهوةَ في الرجالِ والنساءِ، الحكمةُ الكبرى في ذلك أن يقعَ التناسلُ ويبقى نوعُ الإنسانِ؛ لأن المرأةَ إذا كانت لا تَشْتَهِي الجماعَ لا يمكنُ أن تَقْبَلَهُ بحالٍ أبدًا، فلا يمكنُ أن يُرْغِمَهَا على قبولِ جماعِ الرجلِ لها إلا شهوتُها في ذلك الفعلِ، فلو كانت لا تشتهيه ألبتةَ لَمَا قَبِلَتْهُ أبدًا وَلَتَمَنَّعَتِ النساءُ عن ذلك الفعلِ فَانْقَطَعَ نسلُ بَنِي آدمَ، وكذلك الرجلُ إن كان لم يُرَكَّبْ فيه شهوةُ هذا الفعلِ لاَ يقبلُ ذلك الفعلَ أبدًا. فجعلَ اللَّهُ الشهوةَ في الرجالِ إلى النساءِ، وفي النساءِ إلى الرجالِ؛ لتجتمعَ الشهوةُ والشهوةُ فيقعُ بذلك التناسلُ، ويبقَى نوعُ الإنسانِ. فَمَنْ صَرَفَ الشهوةَ إلى غيرِ محلِّها وجعلَها في الذَّكَرِ أَسْرَفَ؛ لأنه جَاوَزَ الحدَّ وَوَضَعَ الأمرَ في غيرِ مَوْضِعِهِ؛ لأنه لو اقْتَصَرَ الرجالُ على الرجالِ وتركوا النساءَ لاَنْقَطَعَ النسلُ وانقطعَ بَنُو آدمَ وخرب الْعَالَمُ كُلُّهُ؛ ولذا قال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} وَلَمَّا قال لهم لوطٌ هذا الكلامَ قال اللَّهُ: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف: آية 82] {أَخْرِجُوهُمْ} أي: لوطًا وَمَنْ مَعَهُ، وقد بَيَّنَ القرآنُ أن لُوطًا لم يُؤْمِنْ معه إلا أهلُ بَيْتِهِ فقط، وهم بناتُه. وزوجتُه بَيَّنَ القرآنُ أنها كَافِرَةٌ، وأنها هَلَكَتْ مع الهالكين في آياتٍ كثيرةٍ، والآيةُ التي دَلَّتْ على أنه لم يؤمن معه إلا أهلُ بيتِه هي قولُه في الذارياتِ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: الآيتان 35، 36] وهو

بيتُ لوطٍ، هو وَابْنَتَاهُ؛ ولهذا قال: {إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ} أي: لوطًا وأهلَه {مِّنْ قَرْيَتِكُمْ} سدوم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ} أي: جماعةٌ وناسٌ {يَتَطَهَّرُونَ} يتطهرونَ من أدبارِ الرجالِ، ويتنزهونَ عن إتيانِ الرجالِ في أدبارِهم، فكأنَّهم يعيبونَهم بما ليس بعيبٍ، فهم يعيبونهم بالتطهرِ من أقذارِ أدبارِ الرجالِ، وهذا العيبُ الذي عَابُوهُمْ به هو غايةُ المدحِ والنزاهةِ: وَعَيَّرَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا ... وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا (¬1) قال بعضُ العلماءِ: عَابُوهُمْ والله بما ليسَ بعيبٍ، بل هو غايةُ المدحِ. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأعراف: آية 83] اخْتُصِرَتِ القصةُ هنا وَبُسِطَتْ في مواضعَ أُخَرَ كثيرةٍ، وذلك أن الرسلَ لَمَّا جاؤوا إلى إبراهيمَ وَبَشَّرُوهُ بغلامٍ عَلِيمٍ، ووقعَ ما وقعَ مِنْ ذَبْحِهِ لهم العجلَ، وَخَوْفِهِ منهم، وسؤالِه لهم: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّنْ طِينٍ (33)} [الذاريات: الآيات 31 - 33] وجاءوا لوطًا وَسِيئ بهم لوط {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود: الآيتان 77، 78] وَحَاوَرَهُمُ المحاورةَ المعروفةَ المتكررةَ في القرآنِ {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر: آية 70] وجاءوا يكسرونَ البابَ، يظنونَ أن جبريلَ والملائكةَ معه جاؤوا في صفةِ شبابٍ حِسَانِ الوجوهِ، حسانِ الثيابِ، حسانِ الريحِ، فجاءوا يريدونَ ¬

(¬1) البيت في الفائق للزمخشري (3/ 445)، روح المعاني (1/ 22)، (13/ 161)، (23/ 11)، اللسان (مادة: ظهر) (2/ 659).

أن يفعلوا بهم فاحشةَ اللواطِ، فلما غَلَبُوا لوطًا على البابِ وكادُوا أن يكسروه، وقال لوطٌ كلامَه المحزنَ: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: آية 78] عندَ ذلك أخبرَه جبريلُ والملائكةُ معه: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: آية 81] وَأَمَرُوهُ بالإسراءِ بأهلِه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: آية 81] وقالوا له: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: آية 81] الخبيثةُ الكافرةُ بَقِيَتْ معهم؛ وَلِذَا قال هنا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأعراف: آية 83] حيث أَمَرْنَاهُ بأن يَسْرِيَ ليلاً إنا مُهْلُكُوهُمْ مع الصبحِ {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: آية 81] فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ. وقولُه: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} [هود: آية 81] كانت امرأتُه قبيحةً خبيثةً مع الكفارِ كافرةً، وَضَرَبَ اللَّهُ لها مَثَلاً هي وامرأة نوحٍ في قولِه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} [التحريم: آية 10] قَبَّحَهَا اللَّهُ (¬1). وقراءةُ الجمهورِ ما عدا ابنَ كثيرٍ وأبا عمرٍو لا إشكالَ؛ لأن الجمهورَ قرؤوا: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ} وعلى قراءةِ النصبِ لا إشكالَ في الآيةِ ألبتةَ، وأن المعنَى: فَأَسْرِ بأهلِك بقطعٍ من الليلِ إلا امرأتَك فلا تَسْرِ بها فَاتْرُكْهَا مع الهالكينَ {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: آية 81] لأنها كافرةٌ منهم. أما على قراءةِ أبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ: {إِلاَّ امْرَأَتُكَ} ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 326).

بالرفعِ (¬1) ففي الآيةِ إشكالٌ متعارضٌ مع قولِه: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} لأن قولَه: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} بالفتحِ يدلُّ على أنه لم يَسْرِ بها، وعلى قراءةِ {إلا امرأتُك} يدلُّ على أنه سَرَى بها، وأنها لم يَلْتَفِتْ أحدٌ إِلاَّ هِيَ. وَجَمَعَ بعضُ العلماءِ بينَ القراءتين بأن اللهَ أَعْلَمَهُ أنها هالكةٌ لا مَحَالَةَ، وأنه لم يَسْرِ بها إسراءً إلى حيثُ النجاةُ، سواء بَقِيَتْ معهم أو ذَهَبَتْ معهم قليلاً فالتفتت فأصابَها حجرٌ فأهلكها كما أَهْلَكَ قومَها، فهي هالكةٌ على كِلاَ القولين سواء أَسْرَى بها فالتفتت فهلكت، أو بقيت معهم، فهي هالكةٌ على كُلِّ حالٍ. وفائدةُ إسرائِه بِمَنْ معه هي النجاةُ، وهي محرومةٌ من هذه الفائدةِ. وإذًا يكونُ معنَى القراءتين كالشيءِ الواحدِ. هكذا قال بعضُ العلماءِ. وهذا معنَى قولِه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ}. {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: آية 83] (الغابرين): جمعُ الغابرِ، والغابرُ اسمٌ مشتركٌ من الأضدادِ، يُطْلَقُ على الماضِي وعلى الباقِي، تُقال (الغابر) للماضي، و (الغابر) للباقي. والمرادُ بها هنا: الباقين. {مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: من الباقين في الهلاكِ. فَعَلَى القولِ بأنه لم يَسْرِ بها فالكلامُ ظاهرٌ، وعلى القولِ بأنه أَسْرَى بها: عندما خرجَ بها الْتَفَتَتْ فَهَلَكَتْ، فكأنها بَقِيَتْ معهم، فهي باقيةٌ معهم في الهلاكِ: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: آية 81] وَاللَّهُ بَيَّنَ هذه القصةَ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه وأوضحَها؛ لأن الرسلَ لمَّا قالوا لإبراهيمَ: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} وَبَيَّنُوا له أنهم سَيُهْلِكُونَ القريةَ قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا ¬

(¬1) انظر: السبعة ص338، حجة القراءات ص347، الدر المصون (6/ 365 - 369).

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} [العنكبوت: آية 32] القبيحةَ، فَلَمَّا كان وقتُ الصبحِ الذين جاؤوا يريدونَ كسرَ البابِ وفاحشةَ اللواطِ بجبريلَ والملائكةِ معه لَمَّا قال جبريلُ للوطٍ: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: آية 81] ذَكَرَ المفسرون أن اللَّهَ أَذِنَ له في النكالِ بهم، فجاءَ في صورتِه، وعليه ما عليه من الوشاحاتِ والأجنحةِ، ثم مَسَحَ أعينَهم بريشةٍ من جَنَاحِهِ، فبقيت وجوهُهم كأنها لم تَكُنْ فيها عيونٌ أصلاً، كما سيأتِي في قولِه في القصةِ بِعَيْنِهَا: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: الآيات 37 - 39] وَيَذْكُرُونَ أن جبريلَ عليه السلامُ اقتلعَ أرضَهم من الأرضِ، وَأَدْخَلَ جناحَه من تحتها، وَاقْتَلَعَهَا من الأرضِ، ورفعَها حتى قَرُبَتْ من السماءِ، ثم أَلْقَاهَا مُنَكِّسًا لها، جاعلاً عاليَها أسفلَها، وأنهم أَتْبَعَتْهُمُ الملائكةُ حجارةَ السجيلِ، كما يأتِي في قولِه: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ} [هود: آية 82] والتحقيقُ: أن السجيلَ: أنه الطينُ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّنْ طِينٍ (33)} [الذاريات: آية 33] وخيرُ ما يُفَسِّرُ القرآنَ القرآنُ (¬1)، إلا أنه طينٌ مشويٌّ بالنارِ، شديدُ الحرارةِ، لا يأتي على شيءٍ إلا خَرَقَهُ. وهذه القصةُ مذكورةٌ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابِ اللَّهِ؛ ولذا قال هنا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} [الأعراف: الآيتان 83، 84] لم يَذْكُرْ هنا أنه جَعَلَ عَالِيَ أرضِهم سافلَها، وذكرَه في هودٍ حيث قال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 326).

مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: الآيتان 82 - 83] ذَكَرَ هنا مطرَ الحجارةِ وقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} وهذا المطرُ مطرٌ من حجارةِ السجيلِ كما قال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: آية 74] وقال: {الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: آية 40] وهي حجارةُ السجيلِ. وقال في بعضِ الآياتِ: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء: الآية 173، النمل: الآية 58] وقال هنا: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} انظر يا نَبِيَّ اللَّهِ: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: آية 84]. العاقبةُ: هي ما يَؤُولُ إليه الأمرُ عقبَ الأمرِ الأولِ، وتؤولُ إليه الحقيقةُ في ثانِي حَالٍ. والمجرمونَ جمعُ المجرمِ، والمجرمُ مرتكبُ الجريمةِ، والجريمةُ: الذنبُ الذي يستحقُّ صاحبُه العذابَ والنكالَ (¬1) {فَانْظُرْ كَيْفَ} الحالُ التي يَؤُولُ إليها أمرُ المجرمينَ وعاقبتُهم، وهو الدمارُ والنكالُ، والعذابُ المستأصلُ المتصلُ بعذابِ الآخرةِ. وهذا معنَى قولِه: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} يُخَوِّفُ اللهُ خلقَه أن يقعَ بهم مثلُ ما وقعَ بهؤلاءِ، ومن أعظمِ ما يخوفُ الطغاةَ الفجرةَ من فاحشةِ اللواطِ - قَبَّحَهَا اللهُ وقبَّح مرتكبَها - أن الله بَيَّنَ في كتابِه أن مرتكبيَها أُرْسِلَ عليهم حجارةُ السجيلِ، ثم بَيَّنَ أن تلك الحجارةَ موجودةٌ، وأنها لم تُعْدَمْ، وأنها ليست ببعيدٍ من الظالمينَ الذين يفعلونَ مثلَ فِعْلِهِمْ حيث قال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

الآيتانِ 82 - 83]. فقولُه: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} على أشهرِ التفسيرين وأصحِّهما فيها أعظمُ تهديدٍ وأكبرُ زجرٍ وتخويفٍ لمن يَرْتَكِبُ الخسيسةَ القبيحةَ وهي فاحشةُ اللواطِ. وهذا معنَى قولِه: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِّنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)} [الأعراف: الآيات 85 - 87]. يقول الله جل وعلا: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: آية 85]. قولُه تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} معناه: وَأَرْسَلْنَا إلى مدينَ أخاهُم شعيبًا فهو معطوفٌ على قولِه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: آية 59] لأَنَّا في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأعرافِ - تَكَلَّمْنَا فيما مَضَى في الدروسِ السابقةِ على قصةِ نوحٍ، وقصةِ هودٍ، وقصةِ صالحٍ، وقصةِ لوطٍ مع أصحابِهم، وَكُنَّا واقفينَ عندَ قصةِ شعيبٍ مع مَدْيَنَ، وابتداء ما ذكر قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى

قَوْمِهِ} ثم قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: آية 65] أي: وَأَرْسَلْنَا إلى عادٍ أَخَاهُمْ هودًا، ثم قال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: آية 73] أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إلى ثمودَ أخاهم صالحًا، إلى أن قال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي: أَرْسَلْنَا إلى مدينَ أخاهُم شعيبًا. أكثرُ المفسرين والمؤرخين يقولونَ: إن (مدينَ) اسمُ مدينَ بنِ إبراهيمَ، وأن هذه الأمةَ التي أُرْسِلَ إليها شعيبٌ أنها من ذريةِ مدينَ بنِ إبراهيمَ، وأن شعيبًا أخاهم في النسبِ، وكانت ديارُ مدينَ بأرضِ مَعَانٍ من أطرافِ الشامِ مما يلي الحجازَ، قريبًا من بحيرةِ قومِ لوطٍ. وقال بعضُ أهلِ العلمِ: (مَدْيَنُ) اسمُ بلدةٍ. واختلفَ المؤرخونَ والمفسرونَ (¬1) في نسبِ شعيبٍ اختلافًا كثيرًا لا يقومُ شيءٌ على دليلٍ قاطعٍ منه، فكثيرٌ من المؤرخينَ يقولونَ: هو شعيبُ بنُ ميكيلَ بنِ يشجرَ بنِ مدينَ بنِ إبراهيمَ. وبعضُهم يقولُ: هو ابنُ صيفورَ أو ضيفورَ بنِ عيفاءَ أو عنقاءَ. وبعضُهم يقول: هو شعيبٌ من ذريةِ يشجرَ بنِ لاَوِي بنِ يعقوبَ. والأقوالُ في نَسَبِهِ كثيرةٌ جِدًّا، ولم يَقُمْ برهانٌ على شيءٍ منها. وقد جاء في حديثِ أبي ذَرٍّ المشهورِ في الأنبياءِ عندَ ابنِ حبانَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكرَ لأَبِي ذَرِّ أن أربعةً من الأنبياءِ عربٌ قال: «وَهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ» (¬2) وكان السلفُ الصالحُ يسمونَ شُعَيْبًا خطيبَ الأنبياءِ (¬3) لحسنِ ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 554)، القرطبي (7/ 247)، البداية والنهاية (1/ 184 - 185)، معجم البلدان (5/ 77)، البحر المحيط (4/ 336). (¬2) أخرجه ابن حبان: الإحسان (1/ 287)، حديث رقم (362). (¬3) انظر: تفسير ابن جرير (12/ 567)، القرطبي (7/ 248)، البداية والنهاية (1/ 185)،الدر المنثور (3/ 102).

مراجعتِه لقومِه، ووضوحِ أدلتِه التي يدعوهم بها إلى الدينِ. وسيأتِي في سورةِ هودٍ كلامُ الناسِ وما يُخْتَارُ منه على قولِهم في تفسيرِ قولِه: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: آية 91] أنه كان أَعْمَى. وقد يَشْكُلُ على طالبِ العلمِ كونُ شعيبٍ عَرَبِيًّا فَمِنْ أينَ تَعَرَّبَ وَمِنْ أينَ أخذَ العربيةَ عَمَّنْ؟ لأن إبراهيمَ أَعْجَمِيٌّ، وإسماعيلُ أبو العربِ العاربةِ (¬1)، معلومٌ أنه تَعَرَّبَ من العربِ العاربةِ البائدةِ الذين سَاكَنُوهُ عندَ زمزمَ كَجُرْهُمٍ، وقد أُرْسِلَ إلى جرهمٍ وَتَعَلَّمَ منهم اللسانَ العربيَّ على الصحيحِ. ذَكَرَ بعضُ العلماءِ - وممن ذَكَرَهُ حافظُ المغربِ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ، وذكرَه ابنُ حجرٍ في الإصابةِ أيضًا وغيرُهم - ذَكَرُوا في ترجمةِ سلمةَ بنِ سعدٍ - ويقالُ: سلمةُ بنُ سعيدٍ - أنه وَفَدَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْتَسَبَ له وهو عَنَزِيٌّ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال «نِعْمَ الْحَيُّ عَنَزَةَ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِمْ مَنْصُورُونَ، أُولَئِكَ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَأَخْتَانُ مُوسَى». هذا حديثٌ رواه الطبرانيُّ وغيرُه، وذكرَه ابنُ عبدِ البرِّ في الاستيعابِ وغيرِه (¬2). قال بعضُ العلماءِ: لو كان هذا الحديثُ محفوظًا صحيحًا لكانَ دَالاًّ على أن شعيبًا من قبيلةٍ من قبائلِ العربِ البائدةِ تُسَمَّى: عَنَزَةَ، ¬

(¬1) هكذا في الأصل. ولعله سبق لسان؛ إذ من المعلوم أنه أَبٌ للعرب المستعربة. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 55)، والبزار: كشف الأستار (3/ 313)، وأورده ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 91)، والحافظ في الإصابة (2/ 65)، والهيثمي في المجمع (10/ 51)، وقال: «وفيه من لم أعرفهم» ا. هـ. وقال الحافظُ في الإصابةِ (2/ 65)، عن إسنادِه عند الطبراني: «وفي الإسناد من لا يُعرف» ا. هـ.

ولكنه لم يَصِحَّ. وعنزةُ هؤلاء المذكورونَ في هذا الحديثِ ليس المرادُ بهم بنو عنزةَ بنِ أسدِ بنِ ربيعةَ بنِ نزارٍ، المعروفونَ؛ لأَنَّ شعيبًا قبلَهم بكثيرٍ، كما قالَه غيرُ واحدٍ، وعلى كُلِّ حالٍ فالكلامُ في شعيبٍ ونسبِه كثيرٌ، واختلافُ العلماءِ فيه كثيرٌ، وَغَلِطَ بعضُ العلماءِ وبعضُ المؤرخين - كصاحبِ صُبْحِ الأَعْشَى - فَزَعَمَ أن شعيبًا كان بعد مُوسَى (¬1). وهذا لا شَكَّ أنه غَلَطٌ؛ لأن شُعَيْبًا قَبْلَ موسى، وقد دَلَّتْ عليه آياتُ القرآنِ في سورةِ الأعرافِ هذه وغيرِها؛ لأن اللَّهَ في سورةِ الأعرافِ هذه لَمَّا ذكرَ قصةَ نوحٍ وقصةَ هودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ مع قومِهم قال بعدَ ذلك في الآياتِ الآتيةِ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا} [الأعراف: آية 103] فَدَلَّ على أن بعثَ موسى بآياتِ اللهِ بعدَ هؤلاءِ الرسلِ وَأُمَمِهِمْ، كما هو نَصُّ القرآنِ العظيمِ. وزعمَ بعضُ العلماءِ أن شعيبًا ابنُ بنتِ لوطٍ. وقال بعضُ العلماءِ: هو مِمَّنْ آمَنَ مع إبراهيمَ لَمَّا نَجَا مِنَ النارِ، وهاجرَ معه (¬2). وَكُلُّهَا أقوالٌ لا دليلَ عليها، وغايةُ ما يفيدُه القرآنُ: أن اللَّهَ بعثَ نبيَّه شعيبًا إلى أهلِ مدينَ. وذكر اللهُ في آياتٍ أُخْرَى متعددةٍ - كما سيأتي في سورةِ «الحجراتِ»، وفي سورةِ «الشعراء»، وفي سورةِ «ص» وغيرِ ذلك - أن شعيبًا أرسلَ أيضًا إلى أصحابِ الأيكةِ، كما سيأتِي في قولِه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)} [الشعراء: آية 176] والعلماءُ مختلفونَ: هل أصحابُ الأيكةِ هم مَدْيَنُ أنفسُهم فيكون شعيبٌ أُرْسِلَ إلى أُمَّةٍ واحدةٍ، أو مدينُ أمةٌ وأصحابُ الأيكةِ أمةٌ أخرى، فيكون شعيبٌ قد أُرْسِلَ إلى ¬

(¬1) في (1/ 314) من صبح الأعشى عدَّ (مدين) من قبائل العرب البائدة، وهذا يعني أنه يرى تأخر موسى عن زمان شعيب (عليهما السلام). والله تعالى أعلم. (¬2) انظر: البداية والنهاية (1/ 185).

أُمَّتَيْنِ؟ هذا خلافٌ معروفٌ بَيْنَ العلماءِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنهم أمةٌ واحدةٌ كانوا يعبدونَ أيكةً، أي: شجرًا مُلْتَفًّا، وأن اللَّهَ سماهم مرةً بنسبهم (مدين) ومرةً أضافهم إلى الأيكةِ التي يعبدونَها. وجزمَ بصحةِ هذا ابنُ كثيرٍ في تاريخِه وتفسيرِه (¬1) وَمِمَّنِ اشتهر عنه أنهم أُمَّتَانِ قتادةُ (¬2) وجماعةٌ، وهو خلافٌ معروفٌ. والذين قالوا: إنهما أُمَّتَانِ قالوا: في (مدين) قال: إنه أَخُوهُمْ حيث قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الأعراف: آية 85] أما أصحابُ الأيكةِ فلم يَقُلْ: إنه أخوهم بل قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: الآيتانِ 176، 177] ولم يقل: أخوهم شعيبٌ. وَأُجِيبَ عن هذا بأنه لَمَّا ذَكَرَ مَدْيَنَ ذَكَرَ الجدَّ الذي يشملُ القبيلةَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا شعيبٌ، ذكر أنه أخوهم من النسبِ. أما قولُه: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} فمعناه: أنهم يعبدونَها، وَلَمَّا ذَكَرَهُمْ في مقامِ الشركِ وعبادةِ غيرِ اللَّهِ لم يُدْخِلْ معهم شعيبًا في ذلك وهم أمةٌ واحدةٌ. هكذا قاله بعضُهم (¬3) وَاللَّهُ أعلمُ. وعلى كُلِّ حالٍ فشعيبٌ هذا معروفٌ أنه نبيٌّ من الرسلِ الكرامِ، وقد ذَكَرَ اللَّهُ قصتَه مع قومِه مفصلةً في آياتٍ من كِتَابِهِ، ذكرَها هنا، وذكرَها في سورةِ هودٍ، وفي سورٍ أخرى كما سيأتِي إن شاءَ اللَّهُ. هذا معنَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي: وَأَرْسَلْنَا إلى مدينَ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 556)، البداية والنهاية (1/ 185، 189، 190). (¬2) انظر: تفسير ابن جرير (14/ 48). (¬3) انظر: البداية والنهاية (1/ 190).

أخاهم شعيبًا، ماذا قال لهم؟ وماذا أُرْسِلَ به إليهم؟ قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 85]. قولُه: {اعْبُدُوا اللَّهَ} هو حظُّ الإثباتِ مِنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللَّهُ. وقولُه: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} حظُّ النفيِ منها. وهذه الكلمةُ التي هي (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) هي التي قامت عليها السماواتُ والأرضُ، وَخُلِقَتْ لأجلِ الحسابِ عليها الجنةُ والنارُ وَأُرْسِلَ بها الرسلُ، وهي محلُّ المعاركِ بَيْنَ الرسلِ وَأُمَمِهِمْ، وجميعُ الرسل مَا أُرْسِلَ منهم نبيٌّ إلا بهذه الكلمةِ وما تَتَضَمَّنُهُ من الشرائعِ والأحكامِ. إذا نظرتَ في رسائلِ الرسلِ إجماعًا وتفصيلاً وجدتَ ذلك كما قُلْنَا، ومما يدلُّ عليه تفصيلاً أن كُلَّ رسولٍ إذا أُرْسِلَ إلى قومِه يُبَيِّنُ القرآنَ أن أولَ ما يقولُ لهم هو مضمونُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) كقولِه في قِصَصِهِمْ في هذه السورةِ الكريمةِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ماذا قال لهم؟ قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: آية 59] ثم قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} ماذا قال لهم؟ قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 65] ثم قال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 73] وكذلك قال في شعيبٍ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 85] وهكذا. وكذلك بالإجمالِ قولُه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: آية 25] وفي القراءةِ الأُخْرَى (¬1): {إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (65) من هذه السورة ..

وهو حَظُّ الإثباتِ منها، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النمل: آية 36] وهو حظُّ النفيِ منها {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف: آية 45] وهكذا. وهذا من تاريخِ الأنبياءِ والقصصِ القرآنيةِ يدلُّ على عظمةِ هذه الكلمةِ، وأنها هي رسالةُ اللهِ في أرضِه لِخَلْقِهِ، حتى إنه (جل وعلا) حَصَرَ جميعَ الوحيِ فيها في سورةِ الأنبياءِ في قولِه: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: آية 108] وغيرِ ذلك من الآياتِ و (إنما) أداةُ حصرٍ لشدةِ أهميةِ هذه الكلمةِ. وهي مركبةٌ مِنْ نَفْيٍ وإثباتٍ، إثباتُها قولُه: {اعْبُدُوا اللَّهَ} وهي الأمرُ بعبادتِه وحدَه. أصلُ العبادةِ الذلُّ والخضوعُ، ومنه قِيلَ للعبدِ (عبد) لِذُلِّهِ وخضوعِه بين يَدَيْ سَيِّدِهِ، فكلُّ خاضعٍ ذليلٍ يقال له: عبدٌ وعابدٌ. فالعبادةُ: الذُّلُّ والخضوعُ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ مشهورٌ، ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ في معلقتِه (¬1): تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ ... وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ يعني: فوقَ طريقٍ مُذَلَّلٍ. ومعناها في الاصطلاحِ (¬2): هي الذلُّ والخضوعُ لخالقِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا) بكلِّ ما أَمَرَ أن يُتَقَرَّبَ إليه به على وجهِ الذلِّ والخضوعِ والمحبةِ. فلا تكفِي المحبةُ عن الذلِّ والخضوعِ، ولا الخضوعُ عن الذلِّ والمحبةِ؛ لأن الذليلَ الخاضعَ إذا كان غيرَ مُحِبٍّ لمعبودِه قد يكونُ مُبْغِضًا له، وَمَنْ أَبْغَضَ معبودَه فهو كافرٌ ضَالٌّ. والمحبةُ وحدَها لا تكفي؛ لأن الذي ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (59) من هذه السورة. (¬2) السابق.

لاَ يخافُ قد يحملُه التذللُ على أن يسيءَ الأدبَ مع المحبوبِ الذي يُحِبُّهُ، فإذا اجتمعَ الحبُّ والذلُّ والخضوعُ كان الأمرُ كما ينبغي. وهذا معنَى قولِه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 85] (ما) هنا نافيةٌ، والإلهُ (فِعَال) من الإلهةِ وهي العبادةُ. أي: ما لكم من معبودٍ يُعْبَدُ حَقًّا غيرُه (جل وعلا)؛ لأنه هو المعبودُ وحدَه. والإلهُ: قال بعضُ علماءِ العربيةِ: هو (فِعَال) بمعنَى: (مفعولٍ) أي مَأْلُوهٌ، أي: معبودٌ يعبدُه خَلْقُهُ على وجهِ الذلِّ والخضوعِ والمحبةِ. وإتيانُ (الفِعَال) بمعنَى (المفعولِ) مسموعٌ في أوزانٍ معروفةٍ في اللغةِ العربيةِ، كالإلهِ بمعنَى المعبودِ، والكتابِ بمعنَى المكتوبِ، واللباسِ بمعنَى الملبوسِ، والإمامِ بمعنَى المؤتمِ به، في أوزانٍ غيرِ كثيرةٍ (¬1). والإلهةُ: العبادةُ، وفي قراءةِ ابنِ عباسٍ - وهي من قراءاتِ الصحابةِ الشاذةِ (¬2) -: (ويذرك وإلاهتك) أي: وعبادتَك. وقد قال رؤبةُ بنُ العجاحِ في رجزِه وهو عربيٌّ قُحٌّ فَصِيحٌ (¬3): لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ الْمُدَّهْ ... سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي وقولُه: {يَا قَوْمِ} [الأعراف: آية 85] نَادَى شعيبٌ قومَه باسمِ (القوم) وحذفَ ياءَ المتكلمِ، وَحَذْفُ يَاءِ المتكلمِ من المنادَى الصحيحِ الآخِرِ أحدُ اللغاتِ المشهورةِ المعروفةِ فيه. قال بعضُ علماءِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬2) تقدمت هذه القراءة عند تفسير الآية (59) من هذه السورة. (¬3) البيت في تفسير ابن جرير (1/ 123)، زاد المسير (1/ 9)، ابن كثير (1/ 19)، اللسان (مادة: أله) (1/ 88).

العربيةِ: القومُ في وضعِ اللسانِ العربيِّ الذي نَزَلَ به القرآنُ: يختصُّ بالذكورِ دونَ الإناثِ، وربما دَخَلَ فيه الإناثُ بحكمِ التبعِ (¬1). قالوا: والدليلُ على اختصاصِ القومِ بأصلِ الوضعِ بالذكورِ دونَ الإناثِ قولُه تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} ثم قال: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} [الحجرات: آية 11] قالوا: لو دَخَلَتِ النساءُ بالوضعِ في القومِ لَكَفَى ذلك عن قولِه: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} ونظيرُ آيةِ الحجراتِ هذه قولُ زهيرِ بنِ أبي سُلمى (¬2): وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ والدليلُ على دخولِ النساءِ باسمِ القومِ بحكمِ التبعِ: قولُه تعالى في سورةِ النملِ في ملكةِ سبأٍ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43]. وقولُه: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ} (إله) هنا: نكرةٌ في سياقِ النفيِ زِيدَتْ قبلَها (من) وقد تَقَرَّرَ في الأصولِ - وَذَكَرَهُ الشيخُ عمرو سيبويه (رحمه الله) -: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ إذا زِيدَتْ قبلَها لفظةُ (مِنْ) لتوكيدِ النفيِ انتقلت بذلك من الظهورِ في العمومِ إلى كونِها نَصًّا صريحًا في العمومِ (¬3). فهذا نَصٌّ صريحٌ في عمومِ النفيِ لجميعِ الآلهةِ غيرِه (جل وعلا) وحدَه. وينقاسُ زيادةُ (من) قبلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ في توكيدِ العمومِ ينقاسُ بقياسٍ مطردٍ في اللغةِ في ثلاثةِ مواضعَ (¬4): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة النساء. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬4) السابق.

أحدُها: زيادةُ (مِنْ) قَبْلَ النكرةِ التي هي مبتدأٌ، كما في قولِه هنا: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الأصلُ: (ما لكم إله غيره) مبتدأٌ سَوَّغَ الابتداءَ به النفيُ، وَجَرَّتْهُ (مِنْ) هنا. فدخولُ (من) على النكرةِ التي هي مبتدأٌ لتوكيدِ العمومِ مطردٌ في اللغةِ العربيةِ. الثاني: دخولُ (من) على النكرةِ إن كانت فَاعِلاً، نحو: {مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: آية 46] {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} [المائدة: آية 19]. الثالثُ: زيادتُها قبلَ المفعولِ، نحو: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} [إبراهيم: آية 4] أَيْ: مَا أَرْسَلْنَا رسولاً. وقولُه: {غَيْرُهُ} إنما رُفِعَ (غيرُه) مع أن المنعوتَ مجرورٌ بـ (من) لأَنَّهُ في محلِّ رَفْعٍ، أصلُه مرفوعٌ مبتدأٌ، فَرُوعِيَ في نعتِه محلُّه؛ ولذا قيل: {غَيْرُهُ} مراعاةً للمحلِّ كما هو معروفٌ. أي: ما لكم إله سواه. ثم قال نبيُّ اللهِ شعيبٌ: {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 85] (قد) هنا حرفُ تحقيقٍ لمجيءِ البينةِ، ولا شكَّ أن المرادَ بالبينةِ في هذه الآيةِ: المعجزةُ التي تُثْبِتُ صدقَ شعيبٍ وَتُوجِبُ الإيمانَ بما جاء به. وَالْبَيِّنَةُ: هي الحجةُ الواضحةُ التي لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا، وهي هنا: المعجزةُ بلا نزاعٍ إلا مَنْ شَذَّ، فمعنَى: {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ} أي: جاءتكم معجزةٌ من اللهِ عرفتموها وَعَايَنْتُمُوهَا على أَنِّي رسولُ اللَّهِ. وهذه البينةُ التي جاءهم

بها شعيبٌ وَذَكَرَهَا اللَّهُ هنا على سبيلِ الإجمالِ لم تَأْتِ مفصلةً قي القرآنِ وإنما جاءت مُجْمَلَةً، كما أن أكثرَ معجزاتِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لم تَأْتِ مفصلةً في القرآنِ بل غالبًا يُنَوِّهُ منها عن القرآنِ حيث إنه معجزةٌ عُظْمَى. وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ أن الله ما أَرْسَلَ رسولاً قَطُّ إلا وأعطاه معجزةً تقومُ الحجةُ بها على الخلقِ؛ لأنه إذا لم يُعْطِهِ برهانًا قاطعًا من المعجزاتِ، تقومُ الحجةُ به على الخلقِ قيامًا لا لبسَ فيه؛ تَزْعُمُ الأُمَّةُ أنه مُدَّعٍ لا دليلَ على دعواه؛ ولذا وَجَبَ أن كُلَّ نبيٍّ جاء بمعجزةٍ، وقد صرح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديثِ الصحيحِ الذي يقولُ فيه: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلاَّ أُوتِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1) وقد بَيَّنَ تعالى أن رُسُلَهُ مصحوبونَ بالمعجزاتِ في قولِه: {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [التغابن: آية 6] ونحو ذلك من الآياتِ. وأعظمُ البيناتِ، وأكبرُ البيناتِ، وأوضحُ المعجزاتِ: هو هذا القرآنُ العظيمُ الذي نُفَسِّرُهُ ونتكلمُ فيه؛ لأنه معجزةٌ عُظْمَى، وبينةٌ كُبْرَى تترددُ في آذانِ بَنِي آدمَ إلى يومِ القيامةِ. أما غيرُه من المعجزاتِ: فقد ينقضِي مع انقضاءِ وقتِه، كناقةِ صالحٍ، فإنا لا نجدُها الآنَ، وكما تَقَدَّمَ من معجزاتِ الأنبياءِ لم يَبْقَ بعدَهم منه شيءٌ تراه الناسُ بعدَهم، بخلافِ هذا القرآنِ فمعجزتُه الكبرى [باقيةٌ إلى آخِرِ الزمانِ] (¬2) وذلك في قولِه مُنْكِرًا عليهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} [العنكبوت: آية 51] الآيةَ. وهذا معنَى قولِه: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

أي: جاءتكم علي يَدِي معجزةٌ واضحةٌ مبدأُ مجيئِها كائنٌ من ربكم (جل وعلا). وَرَبُّهُمْ: هو اللهُ، وأصلُ الربِّ في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ: مشتركٌ بين عشرةِ معانٍ، منها (¬1): أن العربَ تُطْلِقُ الربَّ على الذي يسوسُ الأمورَ وَيُدَبِّرُهَا، وعلى السيدِ الذي إليه المرجعُ. فاللهُ (جل وعلا) هو السيدُ الذي إليه المرجعُ، وهو الذي يُدَبِّرُ الأمورَ والشؤونَ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، فالعربُ تقولُ للرجلِ الذي يدبرُ شأنَ البلدةِ: هذا رَبُّهَا، أي: مدبرُ شؤونِها، وهو معروفٌ في كلامِهم، ومنه قولُ علقمةَ بنِ عبدةَ التميميِّ (¬2): وَكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي - فَضِعْتُ - رُبُوبُ أي: قبلَك سَاسَتْنِي سادةٌ فضيعوني. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وأنتم تعرفونَ في التاريخِ والسيرةِ في غزوةِ حُنَيْنٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فتحَ مكةَ وتركَ صفوانَ بنَ أميةَ بنَ خلفٍ ينتظرُ في شأنِه، واقترضَ منه السلاحَ المعروفَ، وذهبَ معه صفوانُ إلى حنينٍ، وكانت هوازنُ في غزوةِ حنينٍ جَمَعَهَا مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ - في مضيقٍ من مضايقِ وادِي حُنَيْنٍ - ودخل النبيُّ وأصحابُه بعد صلاةِ الصبحِ في بقيةِ ظلامِ الغلسِ، وَشَدَّ عليهم هوازنُ شدةَ رجلٍ واحدٍ حتى كأن الرماحَ والنبالَ مطرٌ تزعزعه الريحُ، ووقع ما وقع مما ذَكَرَهُ اللهُ في قولِه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: آية 25] وفي ذلك الوقتِ قال رجلٌ كان مع صفوانَ بنِ أميةَ: بَطَلَ سِحْرُ محمدٍ. زاعمًا أن الذي عنده سِحْرٌ، وأن هوازنَ غَلَبُوهُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

وهزموا أصحابَه، وأن السِّحْرَ بَطَلَ، فقال له صفوانُ بنُ أميةَ - وكان عدوًّا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قَتَلَ أباه أميةَ بنَ خلفٍ يومَ بدرٍ، وقتلَ معه أَخَا صفوانَ وهو: عَلِيُّ بْنُ أميةَ، وقتلَ عمَّه أُبَيَّ بنَ خلفٍ بيدِه الكريمةِ يومَ أُحُدٍ، فلما قال صاحبُه: بَطَلَ سِحْرُ محمدٍ. قال له صفوانُ وقد أَخَذَتْهُ العصبيةُ والحميةُ النسبيةُ -: اسْكُتْ فُضَّ فُوكَ، وَاللَّهِ لأن يَرُبُّنِي رجلٌ من قريشٍ أحبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من هوازنَ (¬1). وهو محلُّ الشاهدِ؛ لأنه أطلقَ (يربني) على معنَى يَسُوسُنِي وَيَسُودُنِي ويدبرُ شؤونِي هذا معناه. {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 85] رَبُّنَا وسيدُنا وخالقُنا ومدبرُ شؤونِنا هو اللَّهُ (جل وعلا)، وأصلُ (البينةِ) صفةٌ مشبهةٌ من بَانَ يَبِينُ فهو بَيِّنٌ، والأنثى يقال لها: (بَيِّنَةٌ) والتأنيثُ ليس بحقيقيٍّ. ومعنى البينةِ: الحجةُ الواضحةُ التي هي المعجزةُ التي لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا. وهذه المادةُ التي منها (البينةُ) (الباء، والياء، والنون) جاء استعمالُها في القرآنِ وفي لغةِ العربِ على أربعةِ أَضْرُبٍ (¬2): جاءت في ¬

(¬1) السابق. (¬2) قال: قال الشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية رقم (101)، من هذه الدروس في سورة الأعراف: «وقد ذكرنا فيما مضى في الكلام على قولِه: {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ} تصريف هذه الكلمة وما جاء من أمثلتها في القرآن ببعض أمثلتها، وكان ذلك الذي ذكرنا هنالك سقط منه قسم نسيانًا، وكنا نتحرى إن جاءت لها مناسبة أخرى أن نبين القسم الذي سقط من كلامنا سهوًا؛ لئلا يضيع على بعض طلبة العلم الذين يسمعون هذه الدروس ... وقد ذكرنا فيما مضى أن البينة جاء من تصاريفها في القرآن ولغة العرب أربعة تصاريف، واحد منها مجرد وثلاثة مزيدة - وهذا محل النسيان- لأنها جاءت على خمسة أنواع، أربعة منها مزيدة وواحد مجرد ومن هنا وقع الغلط، وكنا نريد إذا جئنا بمناسبة كهده أن نتدارك النسيان السابق لنبين القسم الذي سقط ... » إلى آخر ما ذكر (رحمه الله) فليراجع هناك.

كُلِّهَا لاَزِمَةً، وفي ثلاثةٍ منها ربما جاءت متعديةً. والرابعُ: لازمٌ على كُلِّ حالٍ، فإن هذه المادةَ جاء فِعْلُهَا الماضِي مُجَرَّدًا وهو قولُهم: (بَانَ يَبِينُ فهو بَيِّنٌ) وهو الذي منه الصفةُ المشبهةُ التي هي (البينةُ) فهي صفةٌ مشبهةٌ من (بان يَبين). وقد تقررَ في علمِ الصرفِ: أن الثلاثيَّ الأجوفَ تكثرُ الصفةُ المشبهةُ منه على وزنِ (فَيْعِل) سواء كان وَاوِيَّ العينِ أو يَائِيَّهَا، كـ (هان) فهو هَيِّنٌ، و (بان) فهو بَيِّنٌ، و (مات) فهو ميِّت، و (ساد) فهو سيِّد، وما جَرَى مَجْرَى ذلك. هذا أحدُها، وهو مجردُها أعني: (بان يَبْيَنُ فهو بَيِّن) ولم يُسمع هذا في اللغةِ العربيةِ إلا لازمًا. أما الأوزانُ الثلاثةُ المزيدةُ من هذه المادةِ فهي قولهم (¬1): (أَبَانَ) وقولُهم: (بَيَّنَ) وقولُهم: (اسْتَبَانَ) يأتِي مزيدُه على: (أَفْعَل) وعلى: (فَعَّل) وعلى: (اسْتَفعَل). وهذه الأوزانُ الثلاثةُ من (بَانَ يَبِينُ) مزيدةٌ تكونُ متعديةً ولازمةً، وقد جاءت كُلُّهَا في القرآنِ، وجاء كلامُ العلماءِ في تَعَدِّيهَا ولزومِها في القرآنِ. أما (أبان) مزيدةً بالهمزةِ على وزنِ (أفعل) فالعربُ تُعَدِّيهِ وتقولُ: «أَبَانَ الأَمْرَ يُبِينُهُ إبانةً» فهي (أَفْعَل) متعديةً للمفعولِ، واسمُ الفاعلِ منه (مُبِينٌ) واسمُ المفعولِ (مُبَانٌ) وقد تأتِي (أبان) لازمةً، ويكثرُ لزومُها في القرآن، تقول العربُ: «أبان الشيءُ يُبِينُ» بمعنَى: بان في نفسِه وَظَهَرَ لازمًا، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه: «كِتَابٌ مُبِينٌ» أي: بَيِّنٌ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

ومن إتيانِ (أبان) لازمةً غيرَ متعديةٍ للمفعولِ قولُ جريرٍ وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ (¬1): إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ مِنَ العِرَابِ أي: ظَهَرَتْ وَاتَّضَحَتْ. من غيرِ تعديةٍ للمفعولِ، ونظيرُه قولُ عمرَ بنِ أبِي ربيعةَ المخزوميِّ، وهو عربيٌّ قُحٌّ أيضا (¬2): لَوْ دَبَّ ذَرٌ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ... لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ أَيْ: لظهرَ واتضحَ من آثارِهن حدورٌ، أي: وَرَمٌ. هذا مَعْرُوفٌ. الوزنُ الثانِي: (بَيَّنَ) وقد يأتِي لازمًا ومتعديًا، تقول العرب: «بَيَّنْتُ له الأمرَ أُبِينُهُ تبيينًا». متعديًا، وتقولُ العربُ: «بَيَّنَ الأمرُ» بمعنَى: بَانَ وَاتَّضَحَ، ومنه المثلُ المعروفُ (بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ) (¬3) أي: بَانَ وَاتَّضَحَ، ومن شواهدِها المعروفةِ: قولُ قيسِ بنِ ذُرَيْحٍ (¬4): وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تَبَيَّنُ بِالْفَتَى ... شُحُوبٌ وَتَعْرَى مِنْ يَدَيْهِ الأَصَابِعُ فهذا البيتُ روايتُه المشهورةُ: (شحوبٌ) بضمِّ الباءِ، والمعنَى: وللحب علاماتٌ تَبَيَّنُ أي: تظهرُ وتَبِينُ بالفتى، وهي شحوبٌ إلى آخِرِه. وأنشدَ بيتَ ابنِ ذُريح هذا ثعلبٌ: وِلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْفَتَى ... شُحُوبًا. . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

بالنصبِ، وعليه فَلاَ شَاهِدَ في البيتِ. ومن هذا المعنَى قولُ جريرٍ التميميِّ يمدحُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ (¬1): رَأَى النَّاسُ الْبَصِيرَةَ فَاسَتَقَلُّوا ... وَبَيَّنَتِ الْمِرَاضُ مِنَ الصِّحَاحِ أي: ظَهَرَتْ وَاتَّضَحَتْ. الوجهُ الثاني: (اسْتَبَانَ) وقد جاء في القرآنِ، والقراءتانِ في الآيةِ على إحداهما تكونُ (استبان) لازمةً، وعلى الأخرى متعديةً، وهي قولُه: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: آية 55] {ولتستبين سبيل المجرمين} فعلى رفعِ {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} فـ (استبان) لازمةٌ. أي: تستبين سبيلُ المجرمين: تتضحُ وتظهرُ. وعلى قراءةِ النصبِ: {ولتستبين سبيلَ المجرمين} فـ (تستبين) متعديةٌ و (سبيلَ) مفعولٌ به، لتستبينَ أنتَ يا نبيَّ اللَّهِ سبيلَ المجرمين (¬2). هذا أصلُ هذه المادةِ، وما جاء منها في القرآنِ، وما جاء من لغاتِها. والعادةُ في التفسيرِ أن الكلمةَ التي يَكْثُرُ تَكَرُّرُهَا في القرآنِ يُشْبَعُ الكلامُ عليها في موضعٍ واحدٍ لا يُعَادُ؛ ولذلك تَكَلَّمْنَا عليها هنا. ومعنَى قولِه: {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية 85] أي معجزةٌ واضحةٌ لم تَتْرُكْ لكم عُذْرًا في التكذيبِ. وقولُه: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} كان قومُ شعيبٍ الذين أُرْسِلَ إليهم مِنْ أَخَسِّ الخلقِ معاملةً، كانوا يُطَفِّفُونَ المكيالَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

والميزانَ، ويبخسونَ الناسَ أشياءَهم، ويأخذونَ المكوسَ، ويقطعونَ الطريقَ، وَيَصُدُّونَ مَنْ أَرَادَ الإسلامَ عن الإسلامِ، فبعثَ اللَّهُ إليهم هذا النبيَّ الكريمَ؛ لينهاهم عن هذه المنكراتِ؛ ولذا قال لهم: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} لاَ شَكَّ أن إيفاءَ الكيلِ يستلزمُ إيفاءَ المكيالِ، وإيفاء المكيالِ يستلزمُ إيفاءَ الكيلِ حيث إنه آلَتُهُ، فإذا استوفَى الفعل استوفى كيل الآلةِ، وإذا استوفى مَلْء الآلةِ فقد استوفَى الفعل، فَهُمَا متلازمانِ، كُلٌّ منهما يكفِي عن الآخَرِ؛ ولذا فهو (جل وعلا) تارةً يُعَبِّرُ بالكيلِ كقولِه هنا: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ} وقولُه في الشعراءِ: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)} [الشعراء: آية 181] وتارةً يُعَبِّرُ بآلةِ الكيلِ التي هي المكيالُ، كقولِه في سورةِ هودٍ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: آية 84] [13/ب] / فتعبيرُه تارةً بالمكيالِ وتارةً بالكيلِ يدلُّ على أن الْعِبَارَتَيْنِ متلازمتانِ، وَكُلٌّ منهما تُؤَدِّي معنَى الأخرى، وهو كذلك؛ لأن مَنْ أَوْفَى فِعْلَ الكيلِ لابد أن يملأَ الآلةَ كما ينبغي، وَمَنِ اسْتَوْفَى الآلةَ أي: مَلأَهَا تمامًا فقد استوفَى فِعْلَ الكيلِ، فهما متلازمانِ. {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف: آية 85] عَبَّرَ في أحدِهما بالمصدرِ وفي الثانِي بالميزانِ الذي هو آلةُ الوزنِ، وقال قومٌ: الميزانُ هنا كالكيلِ، اسمُ مصدرٍ كالميعادِ بمعنَى الوعدِ، والميلادُ بمعنَى الولادةِ. والياءُ في الميزانِ منقلبةٌ عن واوٍ، أصلُه: (مِوْزَان) بالواوِ، سَكَنَتِ الواوُ بعد كسرٍ فوجب إبدالُها ياءً على القاعدةِ التصريفيةِ المشهورةِ (¬1). ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص279.

وَاللَّهُ (جل وعلا) مِنْ حِكَمِهِ البالغةِ، وتشريعاتِه الرائعةِ وَضْعُهُ المقاييسَ كالمكاييلِ والموازين؛ لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الإنسانَ مُحْتَاجًا للنساءِ، وَمُفْتَقِرًا للغذاءِ، وخلق له ما في الأرضِ جميعًا، ولم يتركه سُدًى، فهو محتاجٌ للطعامِ الذي عِنْدَ أَخِيهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ المقاديرَ والمقاييسَ؛ ليأخذَ قَدْرًا مُعَيَّنًا معلومًا بدقةٍ ويدفعُ ثمنَه فينتفعُ به، وهو وصاحبُه كُلٌّ منهما طيبُ النفسِ. ولو لم تُجْعَلْ مقاييسُ وموازينُ وأشياءٌ دقيقةٌ يعلم بها كُلُّ ما أخذ وما دفع لكانوا يتهارشون على الحاجاتِ الضروريةِ تهارشَ الكلابِ، وَفَسَدَ نظامُ الدنيا، وهذا من تشريعِ خالقِ السماواتِ والأرضِ. وهذا معنَى قولِه: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف: آية 85] والله (جل وعلا) في كتابِه شَدَّدَ في إيفاءِ الكيلِ والوزنِ تشديدًا بالغًا، وهددَ مَنْ يخونُ تهديدًا بالغًا، كما سيأتيكم في قولِه: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: الآيات 1 - 6] وذلك لأَنَّ الطعامَ المكيلَ عليه أساسُ الدنيا؛ لأن البشرَ لا حياةَ لهم دينيةٌ ولا دنيويةٌ إلا بشيءٍ يأكلونَه، واللَّهُ يقولُ في الأنبياءِ الْكِرَامِ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: آية 8] فَلَمَّا كانت المكيلاتُ والموزوناتُ غالبًا أساسَ الحياةِ جاءَ الوحيُ المنزلُ والتشريعُ السماويُّ في شريعتِنا وغيرِها على شِدَّةِ المحافظةِ عليها. وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: آية 85] كانوا يَبْخَسُونَ الناسَ جميعَ أشيائِهم. والبخسُ في لغةِ العربِ التي نزل بها القرآنُ: النقصُ، العربُ تقولُ: بَخَسَهُ

حَقَّهُ إذا نَقَصَهُ منه؛ ولذلك سَمَّوُا المكسَ (بخسًا) لأنه أَخْذٌ من أموالِ الناسِ ونقصٌ لها، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): أَفِي كُلِّ أَسْوَاقِ الْعِرَاقِ إِتَاوَةٌ ... وَفِي كُلِّ مَا بَاعَ امْرِؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ يعنِي: في كُلِّ ما باع امرؤٌ مكس درهم. وكانوا ينقصونَ أشياءَ الناسِ: تارةً يخدعونهم عنها، وتارةً يعيبونَها وَيُزَهِّدُونَهُمْ فيها، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ البخسِ. وهذا معنَى قولِه: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: آية 85] والأشياءُ: جمعُ شيءٍ، وهو - على التحقيقِ - ممنوعٌ من الصرفِ، وقد قَدَّمْنَا اختلافَ أهلِ العلمِ في الموجبِ الذي مَنَعَ لفظةَ (أشياء) من الصرفِ. وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن المسلمَ الإنسانَ لاَ يجوزُ له أن يبخسَ أخاه شيئَه ولاَ ينقصَه، فَيَحْرُمُ عليكَ أيها المسلمُ أن تعيبَ سلعةَ أَخِيكَ، وأن تزهدَه فيها، وأن تخدعَه عنها، كُلُّ ذلك من أفعالِ الكفرةِ - الحرامِ - وهذا يدلُّ على أن أموالَ الناسِ محترمةٌ، وأنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يبخسَ أحدًا شيئًا، ولا أن ينقصَه شيئًا، فأموالُ الناسِ لا يجوزُ أَخْذُهَا. وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في سورةِ النساءِ ما يدلُّ على أن اللَّهَ عَالِمٌ بأنه سيأتِي قومٌ يتخذونَ سبيلاً ووسيلةً من قولِهم: «هذا غَنِيٌّ وهذا فقيرٌ» إلى أن يظلموا هذا الغنيَّ بادعاءِ أنهم يَرُدُّونَ من مالِه على الفقيرِ للمساواةِ والعدالةِ!! وَاللَّهُ حَذَّرَ من هذا غايةَ التحذيرِ، وَنَهَى ¬

(¬1) البيت لزهير، وقيل: لجابر بن حيي التغلبي. وهو في شواهد الكشاف ص116 وشطره الثاني: ................................... ... وما كل ما باع امرؤ مكس درهم

عنه غايةَ النهيِ، وهذا المحكمُ المنزلُ لاَ تأتِي معضلةٌ في الزمانِ ولا يقعُ شَرٌّ إلا هو موجودٌ فيه وموجودٌ فيه دَوَاؤُهُ وَشِفَاؤُهُ، قال اللَّهُ تعالى في سورةِ النساءِ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: آية 135] فلا تقولوا: هذا غَنِيٌّ وهذا فقيرٌ، والعدالةُ الإنسانيةُ تستوجبُ أن نَبْتَزَّ غِنَى هذا لندفعَه لهذا لنساويهم!! لاَ. لاَ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى} فَبَيَّنَ أن أخذَ أموالِ الناسِ وابتزازَ ثرواتِهم بطريقِ: (هذا غَنِيٌّ وهذا فقيرٌ) اتِّبَاعٌ للهوى {فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} ثم قال: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِّنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: الآيات 85 - 89]. يقول الله جل وعلا: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: آية 86].

هذا من كلامِ نَبِيِّ اللَّهِ شعيبٍ يُذَكِّرُ قومَه بنعمةِ اللَّهِ عليهم كي يشكروا نعمةَ الله فيتوبوا إلى اللهِ ويصدقوا رسولَه ويؤمنوا به. وقولُه: {إِذْ} قال بعضُ العلماءِ: هو مفعولٌ به لا مفعول فيه. أي: اذْكُرُوا الوقتَ الذي كُنْتُمْ فيه قليلين فكثركم اللهُ وَأَنْعَمَ عليكم بالكثرةِ. قال بعضُ العلماءِ: هو مفعولٌ فيه ووقت للذِّكْرِ (¬1). وقولُه جل وعلا: {وَاذْكُرُوا} اذْكُرُوا يا قوم {إِذْ كُنتُمْ} حينَ كنتُم {قَلِيلاً} قليلاً عَدَدُكُمْ {فَكَثَّرَكُمْ} اللَّهُ فجعل عددَكم كثيرًا. والكثرةُ تستلزمُ القوةَ؛ لأن الجمعَ الكثيرَ أقوى عادةً من الجمعِ القليلِ. يقولُ المفسرونَ: إن مَدْيَنَ بنَ إبراهيمَ تَزَوَّجَ إحدى ابْنَتَيْ لوطٍ فولدت له فَرَمَى اللَّهُ في نسلِها البركةَ والنماءَ (¬2)؛ فلذا قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: آية 86] كَثَّرَهُ: أي: جَعَلَهُ كثيرًا بعدَ أن كان قليلاً. والمعروفُ أن الكثرةَ بعدَ القلةِ أنها من نِعَمِ اللَّهِ التي تَسْتَوْجِبُ الشكرَ (¬3)، ومن هنا يعلمُ أن الذين يأتونَ بتشاريعِ الشيطانِ دائمًا يعكسونَ نورَ الوحيِ النازلِ على الأنبياءِ!! فَنَبِيُّ اللَّهِ شعيبٌ يذَكِّرُ قومَه بنعمةِ الكثرةِ بعدَ القلةِ، وأولياءُ الشيطانِ وأنصارُ نظامِ إبليسَ يقولونَ: يجبُ على الأُمَّةِ تحديدُ النسلِ ( ... ) (¬4) ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 378). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 340). (¬3) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬4) في هذا الموضع كلام غير واضح. ويمكن استدراك النقص بمراجعة كلام الشيخ (رحمه الله) في هذه المسألة عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

إشفاقًا، كما بَيَّنَّاهُ في قوله: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: آية 85]. وَاعْلَمُوا أن ما قَالَهُ بعضُ المفسرين من أن الكثرةَ لا تستلزمُ العزةَ!! وأن الأقلِّين ربما كانوا أَعَزَّ من الأكثرين!! ويستدلونَ على هذا بشعرٍ للسموألِ بنِ عاديا ( ... ) (¬1) في قولِه (¬2): تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا ... فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ وهذا لا حجةَ فيه؛ لأَنَّ هذا الشاهدَ [من قولِ] (¬3) بعضِ الشعراءِ [الذين لا عبرةَ بقولهم] (¬4) والله يقولُ فيهم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء: الآيات 225 - 227] ولا شَكَّ أن الكثرةَ هي مظنةُ العزةِ والقوةِ، ونعمةٌ تستحقُّ الشكرَ، وهو الصحيحُ؛ ولذا قال الأعشى ميمونُ بنُ قيسٍ في مناظرةِ علقمةَ بنِ علاثةَ وعامرِ بنِ الطفيلِ (¬5): عَلْقَمَ، لاَ لَسْتَ إِلَى عَامِرٍ ... النَّاقِضِ الأَوْتَارَ وَالوَاتِرِ ¬

(¬1) في هذا الموضع كلام غير واضح. والكلام مستقيم بدونه. (¬2) البيتان في البحر المحيط (4/ 340)، الأمالي (1/ 269)، العقد الفريد (1/ 208)، وبينهما بيت آخر، وهو قوله: وما قلَّ من كانت بقاياهُ مثْلُنَا ... شبابٌ تسامَى للعُلاَ وكُهولُ (¬3) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬4) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬5) ديوان الأعشى ص92، 93.

إلى أن قال: ولَسْتَ بِالأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ فصرَّح بأن الكثرةَ تستلزمُ العزةَ، فهذا أفضلُ من قولِ السموألِ كما هو معروفٌ، وهذا معنَى قولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}. {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: آية 86] العاقبةُ: من أسماءِ المصادرِ التي جاءت على وزنِ اسمِ فاعلٍ، فقد تقررَ في علمِ العربيةِ: أن المصدرَ ربما جاء بوزنِ ( ... ) (¬1) كأن يأتِي بوزنِ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ، فَمِنَ المصادرِ الآتيةِ على وزنِ (فاعل): (عاقبة) بمعنَى: العُقْبَى. اسمُ مصدرٍ و (الفاعلة) أصلُها وزنُ (اسم فاعل). ومنه (العافيةُ) بمعنَى: المعافاةِ في أوزانٍ قليلةٍ معروفةٍ. ومن إتيانِ المصدرِ بمعنَى اسمِ المفعولِ قولُهم: مأسورٌ ومقتولٌ ومعقولٌ ( ... ) (¬2) كما هو معروفٌ في محلِّه. والعاقبةُ هي ما يؤولُ إليه الأمرُ في حالِه آخِرًا، سُمِّيَتْ (عاقبةً) لأنها تُبَيِّنُ الحقائقَ عقبَ الأمرِ الأولِ ( ... ) (¬3) وما يؤولُ الشيءُ إليه ( ... ) (¬4) كما تقدمَ (¬5). ومعنَى هذا أن نَبِيَّ اللَّهِ شعيبًا ذكَّر قومَه نِعَمَ اللهِ، أن يُنِيبُوا إلى اللهِ ويشكروا له، وَحَذَّرَهُمْ من الإفسادِ في الأرضِ، وَبَيَّنَ لهم عاقبةَ السوءِ كما كانت عاقبةُ قومِ نوحٍ، وقومِ هودٍ، وقومِ ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. (¬2) في هذا الموضع كلام غير واضح. (¬3) في هذا الموضع كلام غير واضح. والكلام مستقيم بدونه. (¬4) في هذا الموضع كلام غير واضح. والكلام مستقيم بدونه. (¬5) مضى عند تفسير الآية (84) من سورة الأعراف.

صالحٍ، وقومِ لوطٍ، وكان لوطٌ غيرَ بعيدٍ من أهلِ مدينَ كما تَقَدَّمَ في أحدِ التفسيرين في قولِه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: آية 89] وهذا معنَى قولِه: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)} [الأعراف: آية 87]. قد آمَنَتْ لشعيبٍ طائفةٌ من قومِه كما يأتي في قولِه عن الكفارِ منهم: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} الآيةَ [الأعراف: آية 88] فهذه الطائفةُ أَقَلُّ الطائفتين، فكانت طائفةٌ آمَنَتْ بشعيبٍ وطائفةٌ كَفَرَتْ به، فكانت تهددُ شعيبًا وقومَه بالإخلاءِ من الوطنِ والنفيِ من البلدِ أو يرجعوا إلى كفرِ الكفارِ فيكونوا معهم في كُفْرِهِمْ كما سيأتِي قريبًا. فقال لهم نبيُّ اللهِ شعيبٌ: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ} لم تدخل تاءُ التأنيثِ هنا في قولِه: (كان) لأن تأنيثَ الطائفةِ تأنيثٌ غيرُ حقيقيٍّ؛ والفعلُ إذا أُسْنِدَ إلى مؤنثٍ تأنيثًا غيرَ حقيقيٍّ جازَ تجريدُه من التاءِ وإلحاقُ التاءِ له، كما هو معروفٌ (¬1). {طَائِفَةٌ مِّنْكُمْ آمَنُوا} رُدَّ الضميرُ في قولِه: {آمَنُوا} ضميرَ جمعٍ على (الطائفة) نظرًا إلى المعنَى؛ لأن الطائفةَ اسمُ جمعٍ تدلُّ على أفرادٍ كثيرةٍ. وهذا معنَى قولِه: {طَائِفَةٌ مِّنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} أي: آمنوا بما ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (135) من سورة الأنعام.

أَرْسَلَنِي اللَّهُ به من إثباتِ التوحيدِ لله، وإيفاءِ المكيالِ والميزانِ، وعدمِ بخسِ الناسِ أشياءَهم، وعدمِ الإفسادِ في الأرضِ بعدَ إصلاحِها، ونحوِ ذلك. {وَطَائِفَةٌ} أخرى {لَّمْ يُؤْمِنُوا} بي بل كفروا، وصارت الطائفتانِ طائفتين مختلفتين كُلٌّ منهما تقولُ: إننا على الحقِّ والأخرى على الباطلِ {فَاصْبِرُوا} انتظروا قضاءَ اللهِ وحكمَه حتى يحكمَ بيننا وهو خيرُ مَنْ يَحْكُمُ. وفي هذا أعظمُ تهديدٍ، فالكفارُ يَرَوْنَ حكمَ الله سيأتِي بإهلاكِ الظالمِ الكافرِ وإنجاءِ المسلمِ، وقد حَكَمَ اللَّهُ بينهم هذا الحكمَ المنتظرَ في قولِه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا} ثم قال: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)} [هود: الآيتان 94، 95] هذا حكمُ اللهِ جاء مُبَيَّنًا في سورةِ هودٍ، وستأتِي الإشارةُ إليه هنا في سورةِ الأعرافِ (¬1). وهذا معنَى قولِه: {فَاصْبِرُوا} [الأعراف: آية 87] أي: انْتَظِرُوا وَتَرَبَّصُوا. {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} حتى حَرْفُ غايةٍ، والفعلُ المضارعُ بعدَها منصوبٌ بـ (أن) مضمرةً، وهو في محلِّ جرِّ بمعنَى {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} إلى أن يحكمَ اللَّهُ {بَيْنَنَا} إلى أن يأتيَ حكمُ اللَّهِ بَيْنَنَا. فالمقصودُ أن حكمَ اللهِ عاقبتُه لنا فيهلك الكافرُ وينجي المسلمُ كما لا يَخْفَى. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: آية 87] جل وعلا. (خَيْرٌ) هنا صيغةُ تفضيلٍ؛ لأن مِنَ الناسِ مَنْ يحكم، في الدنيا حُكَّامٌ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 327).

يحكمون، ربما حَكَمُوا بعدلٍ وتشريفٍ وَطُهْرٍ، إلا أن اللَّهَ خيرُ مَنْ يَحْكُمُ - جل وعلا - لأنه لاَ يَخْفَى عليه الحقُّ مِنَ الباطلِ، ولا يفعلُ إلا ما هو في غايةِ الصوابِ والسدادِ والحكمةِ؛ ولذا قال: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)} [الأعراف: آية 88]. لَمَّا قال اللَّهُ (جل وعلا) عن شعيبٍ هذا الكلامَ العظيمَ الذي خَاطَبَ به قومَه أجابَ أشرافُ قومِه بهذا الجوابِ السخيفِ الخسيسِ: {قَالَ الْمَلأُ} الملأُ: أشرافُ الجماعةِ من الذكورِ (¬1)، قال بعضُ العلماءِ: سُمُّوا ملأً لأنهم يملؤون صدورَ المجالسِ بقاماتِهم الوافيةِ، وقال بعضُ العلماءِ: سُمُّوا ملأً لأنهم هم الذين يتمالؤون على العقدِ والحلِّ حيث إنهم أشرفُ رجالِ البلدِ. قولُه: {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي: تَكَبَّرُوا عن أن يكونوا أَتْبَاعًا لشعيبٍ ويُقرُّوا بقولِه. قالوا: لشعيبٍ رَادِّينَ عليه أخسَّ رَدٍّ وأسخفَه: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} اللامُ موطئةٌ لقسمٍ محذوفٍ، والمعنَى: وَاللَّهِ لنخرجنك يا شعيبُ {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} قولُه: {وَالَّذِينَ} معطوفٌ على الضميرِ المنصوبِ. ومعلومٌ في علمِ العربيةِ أن الضمائرَ المنصوبةَ يجوزُ العطفُ عليها بلا قَيْدٍ ولا شَرْطٍ، والذي يذكرونَ فيه بعضَ الشروطِ هو العطفُ على الضمائرِ المرفوعةِ المتصلةِ، والضمائرِ المنخفضةِ، كما هو مُقَرَّرٌ في محله. وكان من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (60) من هذه السورة.

سفاهتِهم ووقاحتِهم أن نَادَوْهُ باسمِه مُجَرَّدًا {يَا شُعَيْبُ} كما يُنَادَى أحدُ الناسِ، وهو نَبِيٌّ كَرِيمٌ!! {لَنُخْرِجَنَّكَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} فـ (أو) هذه هي التي يسميها النظارُ: مانعةَ الخلوِّ. وكما أنهم أَقْسَمُوا أن لا يخلُو المقامُ من إحدى حَالَتَيْنِ: إما أن يُخْرِجُوا شعيبًا، وأما أن يعودَ هو وقومُه في ملتِهم، فلا بد من إحدى الاثنتين؛ فهي مانعةُ خلوٍّ. والمعنَى: أن إقسامَهم أن الحالَ لا يَخْلُو من أحدِ أمرين: إما إخراجُ شعيبٍ وَمَنْ آمَنَ به، أو يدخلَ في ملةِ الكفارِ. لا بد من أحدهما. وهذا معنَى قولِه: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ مشهورٌ؛ لأن ظاهرَ القرآنِ هنا أن شعيبًا قد دَخَلَ في ملتهم سابقًا يومًا؛ لأَنَّ قولَهم مخاطبونَ له: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقول شعيبٍ مُجِيبًا لهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: آية 89] يدلُّ بظاهرِه على أنه قد كان فيها سابقًا يومًا ما. وأكثرُ العلماءِ يقولونَ: إن الأنبياءَ (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم) معادنُ وَحْيٍ، ومحلُّ الخيرِ، واللهُ يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: آية 124] وفي القراءةِ الأخرى (¬1): {حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته} فلا يكفرونَ بالله لأَنَّ فِطْرَتَهُمْ التي وُلدوا عليها لا يُبَدِّلُهَا اللَّهُ بالكفرِ لمكانتهم عنده، فبعضُ العلماءِ يقولُ: لو فَرَضْنَا أنهم وقعَ منهم بعضُ الشركِ وأنابوا إلى اللَّهِ [فإنهم يصيرونَ إلى مثلِ حالهم] (¬2) قَبْلَهُ وصارَ كأنه لم يَكُنْ. ¬

(¬1) انظر: إتحاف فضلاء البشر (2/ 29)، حجة القراءات ص270. (¬2) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

وأكثرُ الأصوليين وعلماءِ التفسيرِ أن شعيبًا لم يكن كافرًا يومًا ما. ويجابُ عن ظاهرِ الآيةِ بِجَوَابَيْنِ (¬1): أحدُهما: أن العربَ تطلقُ لفظةَ (عَادَ) تُطلقه إطلاقين: أحدُهما: عَادَ إلى أمرٍ كان فيه سَابِقًا. والثاني: تقولُ العربُ: «عَادَ كذا كذا» بمعنَى (صار) إلى كذا من جَدِيدٍ (¬2)، ومنه [قولُهم: عادَ الطينُ خزفًا، وعادَ الخمرُ خَلاًّ] (¬3) ولا شَكَّ أن هذا الاستعمالَ موجودٌ في (عَادَ) تقولُ العربُ: عَادَ [رجلاً] (¬4) فلان. أي: صارَ إلى [الرجولةِ] (¬5) ولم يتقدمه [وصفٌ مماثلٌ قَبْلَهَا] (¬6) ومنه بهذا المعنَى قولُ الشاعرِ: [وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا مَا تَرَكْتُهُ ... أَخَا الْقوْمِ وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَسْحِ شَارِبُهْ ... وَبِالْمَحْضِ حَتَّى عَادَ جَعْدًا عَنَطْنَطًا ... إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ] (¬7) ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 250)، البحر المحيط (4/ 342)، الدر المصون (5/ 379). (¬2) انظر: فقه اللغة للثعالبي ص355. (¬3) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام. (¬4) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام. (¬5) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام. (¬6) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام. (¬7) في هذا الموضع كلام غير واضح. والبيتان بين المعقوفين في الدر المصون (5/ 379).

قالوا: معناه [صار جَعْدًا] (¬1). الوجهُ الثاني: وبه قال غيرُ واحدٍ: أن نَبِيَّ اللَّهِ شُعَيْبًا كان معه جماعةٌ من قومِه آمنوا به، فالذين آمنوا به من قومِه كانوا كُفَّارًا على ملةِ قومِهم، وهم عددٌ كثيرٌ، وهو رجلٌ واحدٌ [فعُبِّر] (¬2) باسمِ العددِ الكثيرِ وَغَلَّبُوهُ على ذلك الواحدِ، والتزمَ معهم شعيبٌ في هذا الخطابِ تَغْلِيبًا لقومِه الأكثرين. وظاهرُ كلامِ ابنِ جريرٍ (رحمه الله) في تفسيرِ هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ الأعرافِ ذَاهِبًا أن شعيبًا كان معهم - سابقًا - على مِلَّتِهِمْ، وكذلك قال صَرِيحًا عن إبراهيمَ في قولِه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] فنقل ابنُ جريرٍ عن ابنِ عباسٍ أن إبراهيمَ كان يظنُّ ربوبيةَ الكوكبِ في ذلك الزمنِ. ونحنُ نقولُ: إن قولَه في الخليلِ إبراهيمَ غَلَطٌ مَحْضٌ لا شَكَّ فيه، وَإِنْ نَسَبَهُ إلى ابنِ عباسٍ؛ لأن الآياتِ القرآنيةَ صَرَّحَتْ بأن إبراهيمَ لم يكن من المشركين، ونفى عنه الشركَ في الكونِ الماضِي، والكونُ الماضِي يستغرقُ كُلَّ الزمنِ، كقولِه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران: آية 67] قولُه: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نَفَى الشِّرْكَ عن إبراهيمَ في الكونِ الماضِي، والكونُ الماضِي مستغرقٌ. ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)} [النحل: آية 120] ونحو ذلك من الآياتِ، فنفيُ هذا عن إبراهيمَ صريحٌ، ونفيُه ¬

(¬1) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

عن شعيبٍ لم يَقُمْ دليلٌ عليه في الصراحةِ كإبراهيمَ. وأقوالُ أهلِ العلمِ قد ذَكَرْنَاهَا لكم الآنَ فيه. وهذا معنَى قولِه: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الملةُ: الشريعةُ والدِّينُ. قال بعضُ العلماءِ: أصلُها مشتقةٌ من الإملالِ، والإملالُ - بِلاَمَيْنِ - هو الإملاءُ، وهو أن تُلْقِيَ على الكاتبِ الجملةَ ليكتبَها ثم تلقيَ عليه جملةً أخرى، قالوا: [وجه كون] (¬1) الشرائعِ كالإملاءِ: أنها تقعُ كذلك مفرقةً شيئًا بعدَ شيءٍ كما تقعُ جملةُ الكتابةِ إملاءً مفرقةً حتى تَتِمَّ. وعلى كُلِّ حالٍ فَالْمِلَّةُ: الشريعةُ والدينُ، وملتهم كافرةٌ، والعياذُ بالله. قال لهم نَبِيُّ اللَّهِ شعيبٌ: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: آية 88] والتحقيقُ من القولين أن همزةَ الاستفهامِ هنا تتعلقُ بمحذوفٍ، والواوُ عاطفةٌ على ذلك المحذوفِ، هذا أظهرُ القولين اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا مرارًا في هذه الدروسِ (¬2)، وإليه يَلْمَحُ ابنُ مالكٍ في خلاصتِه بقولِه في بابِ العطفِ: وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ ... .............................. (¬3) كما هو معروفٌ في محلِّه، ويكونُ المعنَى: أتُكرهونا على العَوْدِ في ملتِكم وإن كُنَّا كارهين فَتُخْرِجُونَنَا من مقامِنا قَهْرًا ولو كنا كَارِهِينَ لذلك؟! هذا معنَى قولِه: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} الاستفهامُ هنا للإنكارِ، أنكرَ عليهم هذا القولَ السخيفَ [مع بيانِ كراهتِه له] (¬4). ¬

(¬1) في الأصل: «وهو» وما بين المعقوفين [] زيادة ينتظم بها الكلام. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 343)، الدر المصون (5/ 381). (¬3) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة. (¬4) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ثم قال: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: آية 89] فهذه الجملةُ معلقةٌ على شَرْطٍ، والمعلقُ على الشرطِ لاَ يُعْرَفُ كذبُه ولا صدقُه إلا بوجودِ الشرطِ أو عدمِه، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ: قد وقعَ كذا إن كان كذا. فإن كان الشرطُ مَنْفِيًّا انتفى المشروطُ، والمعنَى: قد افْتَرَيْنَا على اللَّهِ كذبًا إن عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ. المعروفُ عند البصريين أن الشرطَ إذا تَقَدَّمَهُ ما يكونُ جزاءً أنه يكونُ دليلاً على الجزاءِ المقدَّر، والكوفيونَ لا يمنعونَ تقدمَ الجزاءِ على الشرطِ. فعلى قولِ الكوفيين لا مانعَ من أن يكونَ المعنَى: إِنْ عُدْنَا في ملتكم فقد افْتَرَيْنَا على اللَّهِ الكذبَ، وأن قولَه: {قَدِ افْتَرَيْنَا} هو جزاءُ الشرطِ قُدِّمَ عليه في قولِه: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}. والثاني: على مذهبِ البصريين من النحاةِ: أن جزاءَ الشرطِ لا يتقدمُ عليه ولكنه يدلُّ عليه، وعلى قولِهم فجزاءُ الشرطِ مقدرٌ تقديره: إِنْ عُدْنَا في ملتكم فقد افترينا على اللهِ كَذِبًا، والمعنَى: أن ملةَ الكفارِ كُلَّهَا كَذِبٌ وزورٌ وبهتانٌ، يدَّعونَ لِلَّهِ الأولادَ، ويجعلونَ له الأندادَ، ويُكَذِّبونَه ويُكَذِّبونَ رُسُلَهُ، فكلُّها كَذِبٌ وافتراءٌ، والعائدُ إليها عائدٌ إلى أعظمِ الكذبِ والافتراءِ، وهذا معنَى قولِه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. الصحيحُ أن الكذبَ هو: عدمُ مطابقةِ الكلامِ للواقعِ في نفسِ الأَمْرِ (¬1)، والأقوالُ فيه معروفةٌ يذكرها البلاغيونَ في فَنِّ المعانِي. {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} أي: رَجَعْنَا إليها، وهذا بالنسبةِ إلى غيرِ شعيبٍ ظاهرٌ أي: أُلْجِئْنَا إليها بالنظرِ إلى شعيبٍ كما ذَكَرْنَاهُ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (93) من سورة الأنعام.

{بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: آية 89] وقولُه: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} قرينةٌ على أنه عودٌ بعدَ ملابسةٍ سابقةٍ لقولِه: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} لأَنَّ الجماعةَ الذين آمنوا لشعيبٍ كانوا كَافِرِينَ، وهذا معنَى قولِه: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} أَنْقَذَنَا اللَّهُ من الكفرِ وعبادةِ الأوثانِ وغيرِ دلك بِأَنْ بَعَثَ إلينا نَبِيًّا كريمًا معه المعجزاتُ الواضحةُ تدلُّ على صِدْقِهِ، كما تَقَدَّمَ في قولِه: {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ... } الآيةَ [الأعراف: آية 85]. ثم قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} {وَمَا يَكُونُ لَنَا} [الأعراف: آية 89] معناه: ما يَصِحُّ لنا، وما ينبغي مِنَّا، ولا يمكنُ لنا {أَنْ نَّعُودَ فِيهَا} أن نرجعَ إليها، أو أن نصلَ إليها كما قِيلَ، فَنَبِيُّ الله شعيبٌ لمَّا تَبَرَّأَ من الملةِ الكافريةِ، وقال إنهم إن عَادُوا إليها فقد افْتَرَوْا على اللَّهِ كَذِبًا، فَوَّضَ جميعَ أَمْرِهِ إلى اللَّهِ، وَبَيَّنَ أن الأمورَ كُلَّهَا بيدِ الله، فهو الذي بيدِه الهدايةُ وإليه الضلالُ، فإن نَبِيَّ اللَّهِ شعيبًا وإن كان من خيارِ المرسلين لاَ يهديه ويوفقُه إلا رَبُّهُ - جل وعلا - وهذه عادةُ العارفينَ بالله يعلمونَ أنه لاَ توفيقَ إلا بتوفيقِ اللَّهِ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: آية 41] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: آية 37] ونحو ذلك من الآياتِ. {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} يريدُ رَبُّنَا بمشيئتِه الكونيةِ القدريةِ شيئًا فلا مَفَرَّ ولاَ مَوْئِلَ عما شَاءَ وَقَدَّرَ. {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (علمًا) هنا: تمييزٌ محوَّلٌ عن الفاعلِ، أصلُه فاعل (وسع) فَأُعْطِيَ الفعلُ فاعلاً آخَرَ وَحُوِّلَ التمييزُ عن الفاعلِ. معنَى {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: وَسِعَ علمُه كُلَّ شيءٍ، فَاللَّهُ يعلمُ كُلَّ شيءٍ، ويعلمُ ما هو أَعَمُّ من الشيءِ؛ لأن المعدومَ في مذهبِ أهلِ

السنةِ والجماعةِ ليس بشيءٍ (¬1)، وَاللَّهُ يعلمُ المعدومَ الذي ليس بشيءٍ، فهو (جل وعلا) يعلمُ الموجوداتِ والمعدوماتِ والجائزاتِ والمستحيلاتِ، فإنه بإحاطةِ عِلْمِهِ ليعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في سابقِ عِلْمِهِ أنه لا يوجدُ، وهو يعلمُ أن ذلك المعدومَ الذي لا يُوجَدُ أن لَوْ وُجِدَ كيف يكونُ، فهو يعلمُ مثلاً: أن أبا لَهَبٍ لَنْ يُؤْمِنَ، ومع ذلك يعلمُ لو آمَنَ أبو لهبٍ أيكونُ إيمانُه تَامًّا أو ناقصًا، كما لا يَخْفَى، وكونُه (جل وعلا) يعلمُ المعدومَ الذي لا يوجدُ أن لو وُجِدَ كيفَ يكونُ، دَلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ من كتابِ اللَّهِ، من الآياتِ الدالةِ على ذلك: أن الكفارَ يومَ القيامةِ إذا رَأَوُا النارَ، وَعَايَنُوا صدقَ ما جاءت به الرسلُ، وندموا وقد فَاتَتِ الْفُرْصَةُ نَدِمُوا حيث لا ينفعُ الندمُ، وَتَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا مرةً أخرى ليُصدقوا الرسلَ، واللَّهُ يعلمُ أنه لا يَرُدُّهُمْ إلى الدنيا مرةً ثانيةً، فقد بَيَّنَ في سورةِ الأنعامِ أن هذا الردَّ الذي عَلِمَ أنه لا يكونُ، بَيَّنَ أنه لو كان لَعَلِمَ كيفَ يكونُ؛ وَلِذَا قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] فهو يعلمُ أنهم لا يُرَدُّونَ ويعلمُ لو رُدُّوا ماذا يكونُ، كما صَرَّحَ بقولِه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [لأنعام: آية 28] والمتخلفونَ عن غزوةِ تبوكَ لا يَحْضُرُونَهَا أبدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ثَبَّطَهُمْ عنها بإرادتِه لحكمةٍ، كما بَيَّنَهُ بقولِه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: آية 46] وهذا الخروجُ الذي لاَ يكونُ قد عَلِمَ (جل وعلا) أَنْ لو كان كيفَ يكونُ، كما صَرَّحَ به في قولِه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام ..

الآيةَ [التوبة: آية 47] وهذا كثيرٌ في كتابِ اللَّهِ كقولِه جل وعلا: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنْ ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: آية 75] هذا هو العلمُ المحيطُ بكلِّ شيءٍ في الجائزاتِ والمعدوماتِ والمستحيلاتِ، والمعدومُ الذي لا يُوجَدُ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ، أما الخلقُ فإنهم لا يعلمونَ من العلومِ إلا ما عَلَّمَهُمْ خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا). وسنوضحُ لكم ذلك بأمثلةٍ قرآنيةٍ: فَمِمَّا لا يَخْفَى عليكم أن أَعْلَمَ المخلوقاتِ وأفضلَهم الملائكةُ والرسلُ عليهم جميعًا صلاةُ اللَّهِ وسلامُه، فالملائكةُ جميعًا - مع عِلْمِهِمْ - لَمَّا قال لهم اللَّهُ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: آية 31] أَطْبَقُوا كلُّهم على جوابٍ واحدٍ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} [البقرة: آية 32] فقولُهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا} بُنِيَتِ النكرةُ مع (لا) وذلك لا يكونُ إلا في لاَ التي لنفيِ الجنسِ، فالملائكةُ نَفَوْا جِنْسَ العلمِ من أصلِه عنهم، ولم يَسْتَثْنُوا إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه. وكذلك وقائعُ الرسلِ القرآنيةِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم - هذا سيدُ الخلقِ، وأعلمُ الناسِ، وأفضلُ الرسلِ، سيدُنا محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، رُمِيَتْ أَحَبُّ أزواجِه إليه - أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ - بأعظمِ فريةٍ وأكبرِ مُنْكَرٍ أنها فَعَلَتْهُ مع صفوانَ بنِ معطلٍ السلميِّ، وهو صَلَّى الله عليه وسلم لاَ يعلمُ ما قالوه عنها أَهُوَ حَقٌّ؟!! أم هو كَذِبٌ؟!! ولذا كان يقولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» وقالت (رضي الله عنها) إنها في ذلك المرضِ أيامَ قولِ الناسِ عليها مسألةَ الإفكِ قالت: فَقَدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللطفَ الذي كنتُ أعرفُه منه. وهي لا تَدْرِي ما قيلَ عنها.

وكان يقولُ لها: «يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ قَدْ فَعَلْتِ شَيْئًا فَتُوبِي، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْكِ، وَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ». ولم يَدْرِ عن الحقيقةِ، حتى عَلَّمَهُ الحكيمُ الخبيرُ خالقُ السماواتِ والأرضِ الذي لا تَخْفَى عليه خافيةٌ وقال له: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ... } الآيات العشر إلى قولِه: {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: آية 26] وَلِذَا لَمَّا قالت لها أُمُّهَا أُمُّ رومانَ: قُومِي إليه فَاحْمَدِيهِ. قالت: واللَّهِ لا أحمدُه، ولا أَحْمَدُ اليومَ إلا اللَّهَ؛ لأنه هو الذي بَرَّأَنِي (¬1). وهذا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ - وهو هو - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه جاء بتاريخِ القرآنِ أنه ذَبَحَ عجلَه للملائكةِ يظنُّ أنهم يأكلونَ، وَتَعِبَ في إنضاجِه، ولم يَدْرِ أن ضيوفَه ملائكةٌ؛ ولذا خَافَ منهم وأخبرَهم بأنه خافَ منهم في سورةِ الحجرِ في قولِه تعالى عنه: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: آية 52] ولم يَدْرِ عنهم شيئًا حتى أَخْبَرُوهُ. وَلَمَّا جاءوا لنبيِّ اللَّهِ لوطٍ: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77] فَظَنَّ أنهم شبابٌ يَفْعَلُ فيهم قومُه فاحشةَ اللواطِ، حتى جاءوه يدافعونَه عن البابِ ليدخلوا عليهم فيفعلوا بهم فاحشةَ اللواطِ، حتى قال ذلك الكلامَ المؤثرَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: آية 80] حتى أَعْلَمَهُ جبريلُ أنهم ملائكةُ اللَّهِ: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: آية 81] فعندَ ذلك عَلِمَ. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ مع جلالتِه وعظمةِ رُتْبَتِهِ في الأنبياءِ مِنْ أُولِي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

العزمِ، قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: آية 45] كان يَظُنُّ أن ذلك الابنَ الكافرَ من الأهلِ الموعودِ بنجاتِهم، ولم يَعْلَمِ الحقيقةَ حتى قال له اللَّهُ: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: الآيتان 46، 47]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ يعقوبُ قال الله فيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: آية 84] ولا يَدْرِي عن ولدِه يوسفَ شيئًا حتى كان يقولُ: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: آية 87]. وهذا سليمانُ سَخَّرَ له اللَّهُ الرياحَ والجنَّ، الريحُ غُدُوُّهَا شهرٌ وَرَوَاحُهَا شهرٌ، ما كان عندَه علمٌ عن مَأْرِبٍ - قريبًا من صنعاءَ باليمنِ - حتى جاءه الهدهدُ وتَمَدَّحَ عليه بما عَلِمَ من عِلْمِ جغرافيةِ وتاريخِ اليمنِ وسليمانُ يَجْهَلُهُ، وكان سليمانُ تَوَعَّدَ الهدهدَ في قولِه: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21)} [النمل: آية 21] فلما جاء الهدهدُ معه بعضُ العلمِ عن تاريخِ مَأْرِبٍ - جماعةِ بلقيسَ من سبأٍ - بعضُ تاريخٍ وجغرافيةٍ عنهم، صَمَدَ أمامَ سليمانَ ولم يَرُعْهُ الوعيدُ الشديدُ من نَبِيٍّ مَلِكٍ، فنسب الإحاطةَ إلى نفسِه، وَنَفَاهَا عن سليمانَ، وقال له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} الآية [النمل: آية 22] [14 /أ] / كما هو معروفٌ. وإنما أَشَرْنَا إلى هذا لِنُبَيِّنَ أن الْعَالِمَ الحقيقيَّ هو اللَّهُ: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: آية 65] فالملائكةُ والرسلُ

لا يعلمونَ إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، والله يُعْلِمُ رسلَه وملائكتَه ما شاء من وَحْيِهِ (¬1)، وقد علَّم نَبِيَّنَا (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) عُلُومًا كثيرةً؛ ولو حَفِظَ الناسُ عنه ما أخبرهم به من الغيوبِ لَمَا مَضَى عليهم شيءٌ من البلايا والزعازعِ إلا وقد كان عندَهم خَبَرٌ منه صلى الله عليه وسلم، فهو أَخْبَرَ بكثيرٍ من الأمورِ، بعضُها حُفِظَ، وأكثرُها لم يَحْفَظْهُ الناسُ، صارت تُشَاهَدُ منه اليومَ غرائبُ عديدةٌ؛ لأنه ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ( ... ) (¬2) القلاص فلا يُسْعَى عليها» هذا الحديثُ العظيمُ من غرائبِ وعجائبِ الإخبارِ بالغيبِ؛ لأنه ما كان أحدٌ في الدنيا يُصَدِّقُ أن الإبلَ تتركُ ولا تُقْطَعُ عليها المسافاتِ، فنحن في هذا الزمانِ شَاهَدْنَا صِدْقَ هذا الحديثِ بِأَعْيُنِنَا، نرى [ونشاهدُ] (¬3) الإبلَ محمولةً مع المتاعِ في السياراتِ!! وهذا من غرائبِ وعجائبِ الوحيِ التي أَخْبَرَ بها - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه - ومن ذلك قوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ... » الحديثَ المشهورَ (¬4) ألا ترونَ كيف اتَّبَعَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬2) لم يتضح الكلام لضعف التسجيل ولفظ الحديث عند مسلم: «والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتُتركن القلاص فلا يُسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد». مسلم في الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. حديث رقم (242)، (1/ 136). (¬3) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬4) () البخاري في أحاديث الأنبياء، باب ما ذُكر عن بني إسرائيل، حديث رقم (3456)، (6/ 495)، وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم (7320)، ومسلم في العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، حديث رقم (2669)، (4/ 2054).

المسلمونَ النصارى واليهودَ - عياذًا بالله؟! وهذا معنَى قوله: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}. {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: آية 89] هذا كلامُ نَبِيِّ اللِّه شعيبٍ، وتقديمُ المعمولِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ يدلُّ على القصرِ (¬1)، أي: لاَ نَتَوَكَّلُ إلا عليه وحدَه جل وعلا. ثم قال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} الفُتاحةُ في لغةِ حميرَ القديمةِ معناها: الحكمُ. كان الحميريونَ وغيرُهم من قبائلِ اليمنِ من قحطانيين يطلقونَ اسمَ الفُتاحةِ على القضاءِ، والفَتَّاح على الحاكمِ، والفتح على الْحُكْمِ، والقرآنُ جاءت فيه لغاتُ العربِ (¬2). ومعنَى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف: آية 89] أي: احْكُمْ بَيْنَنَا وبين قومِنا بالحقِّ، ومعلومٌ أن اللَّهَ لا يحكمُ إلا بالحقِّ. {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي: الحاكمين. وجاء في القرآنِ إطلاقُ الفتحِ على القضاءِ كثيرًا، كقولِه: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة: آية 29] وقولُه جل وعلا {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: آية 26] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ. {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (90)} [الأعراف: الآية 90]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (76) من سورة البقرة.

قَدَّمْنَا الكلامَ على قولِه: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}. وقولُه: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} ذَكَرَ هنا أَمْرَيْنِ كلاهما يحتاجُ] (¬1) إلى جوابٍ، أحدُهما الْقَسَمُ المدلولُ عليه باللامِ. والثاني: الشرطُ الذي من أدواتِه (إن) والقاعدةُ المقررةُ في علمِ العربيةِ أنه إذا اجْتَمَعَ قَسَمٌ وشرطٌ جِيءَ بجزاءِ السابقِ منهما، وَحُذِفَ جزاءُ الثاني؛ لدلالةِ جزاءِ الأولِ عليه (¬2). والسابقُ هنا الْقَسَمُ، وإذا كان الجوابُ هنا جوابَ الْقَسَمِ (¬3) لم يُقْرَنْ بالفاءِ كما هو معروفٌ في مَحَلِّهِ، وهو قولُه: {إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [الأعراف: آية 90] أي: وقال الملأُ الذين كفروا من قومِ شعيبٍ، أي: لِمَنْ دُونَهُمْ: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} وَاللَّهِ لئن اتبعتُم نبيَّ اللَّهِ شعيبًا {إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} التحقيقُ أن التنوينَ في قولِه: {إِذًا} أنه تنوينُ عِوَضٍ، والمعنَى: إن اتبعتموه خَسِرْتُمْ، ومعنَى خسرانِهم هنا: يزعمونَ أنهم عندَ ذلك يشترونَ الضلالةَ بِالْهُدَى زاعمينَ أن الهدى هو الكفرُ الذي كانوا عليه، وأن اتباعَ نَبِيِّ اللَّهِ ضلالٌ كما هو مذكورٌ في إفسادِ الأرضِ بعدَ إصلاحِها، وَمِنْ خُسْرَانِهِمُ المزعومِ: أنهم كانوا ينتفعونَ بأموالِ الناسِ إذا أَضَلُّوهُمْ وَبَخَسُوهُمْ أشياءَهم وَطَفَّفُوا لهم المكيالَ والميزانَ، ونبيُّ اللَّهِ شعيبٌ يُضَيِّقُ عليهم هذه المصالحَ الدنيويةَ ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. (¬3) لعله سبق لسان، والمراد جواب الشرط كما هو معلوم. وفي وجوب اقترانه بالفاء تفصيل معروف. راجع: التوضيح والتكميل (2/ 316).

فيخسرونَ ما كانوا يأخذونَه من أموالِ الناس ظُلْمًا. هذا من خسرانِهم المزعومِ. وهذه الآيةُ تُبَيِّنُ أن الكافرَ الضالَّ يدّعِي بكفرِه وضلالِه أنه هو عَيْنُ الْهُدَى، وأن الْهُدَى هو الخسرانُ والضلالُ كما كنا نُبَيِّنُهُ في آيةِ: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: آية 85] وهذا معنَى قولِه: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (90)}. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: آية 91] الفاءُ سببيةٌ، وقد تَقَرَّرَ في علمِ الأصولِ في مبحثِ مسلكِ الإيماءِ والتنبيهِ، وفي مبحثِ النصِّ والظاهرِ (¬1) أن الفاءَ تُذْكَرُ في التعليلِ لدلالتِها على السببيةِ، كقولِه: «سَهَى صلى الله عليه وسلم فَسَجَدَ» أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ. «سَرَقَ السَّارِقُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ». أي: لِعِلَّةِ سرقتِه قالوا: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} أي: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي: بسببِ كفرِهم وإلحادِهم. وقولُه: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الرجفةُ: معناه الزلزلةُ القويةُ التي تُؤَدِّي إلى تحريكٍ قَوِيٍّ عنيفٍ، فكلُّ مَا تَحَرَّكَ تحريكًا قويًّا عنيفًا فقد رَجَفَ، فالرجفةُ زلزلةٌ قويةٌ حَرَّكَتِ الأرضَ مِنْ تَحْتِهِمْ حتى اهتزت بهم هَزًّا عنيفًا أَدَّى إلى موتِهم. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه: زلزلةُ القيامةِ لزلزلتِها الأرضَ وتحريكِها إياها تحريكًا عنيفًا {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)} [النازعات: الآيتان 6، 7] فهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ مشهورٌ، ومنه قولُ عنترةَ (¬2): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) ديوان عنترة ص61.

مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرجُفْ ... رَوَانِقُ أَلْيَتَيْكَ وتُسْتَطَارَا وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ مشهورٌ عند العلماءِ وطلبةِ العلمِ، وهو: أن اللهَ في هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ الأعرافِ بَيَّنَ أن الذي أَهْلَكَ اللهُ به قومَ شعيبٍ رجفةٌ، حيث قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)} [الأعراف: آية 91] جَاثِمِينَ: أي: مَوْتَى، وَكُلُّ واحدٍ منهم مُنْكَبٌّ على وجهِه لا روحَ في جسدِه، والجاثمُ: الذي يلزمُ مَحَلاًّ واحدًا، لَرُبَّمَا كان على وجهِه كما هو معروفٌ، ومنه قولُ زهيرٍ في معلقتِه (¬1): بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ المجثمُ: مكانُ الجثومِ، وهو المكانُ الذي كان فيه مُنْكَبًّا على وجهِه غالبًا. وهنا قال إن سببَ إهلاكِهم بالرجفةِ، وصرَّح بسورةِ هودٍ بأن سببَ إهلاكِهم صيحةٌ، حيث قال: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: آية 94] وصرَّح في سورةِ الشعراءِ أن قومَ شعيبٍ أصحابَ الظلةِ كان عذابُهم في ظُلَّةٍ، المذكور فِي قولِه: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: آية 189] تارةً يُعَبِّرُ عن سببِ إهلاكِهم بالرجفةِ، وتارةً بالصيحةِ، وتارةً بالظُّلَّةِ، فهذا هو وجهُ السؤالِ المعروفِ في هذه الآياتِ (¬2). وحاصلُ الجوابِ: أن العلماءَ اختلفوا - كما قَدَّمْنَا - هل شعيبٌ أُرْسِلَ إلى أمةٍ واحدةٍ أو أُرْسِلَ إلى أُمَّتَيْنِ (¬3)؟ وكان قتادةُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (78) من هذه السورة. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 327). (¬3) مضى عند تفسير الآية (85) من هذه السورة.

(رحمه الله) في طائفةٍ من العلماءِ يقولونَ: أُرْسِلَ شعيبٌ إلى أُمَّتَيْنِ، أُرْسِلَ إلى مَدْيَنَ فأهلكهم اللَّهُ بالصيحةِ، وأرسلَ إلى أصحابِ الأيكةِ بعدَ أن هَلَكَ أصحابُ مدينَ فأهلكهم اللَّهُ بِالظُّلَّةِ. وهذا القولُ قال به بعضُ العلماءِ، واستدلوا باختلافِ نوعِ العذابِ، وفي أن اللَّهَ قال في أهلِ مَدْيَنَ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: آية 85] ولم يَقُلْ في أصحابِ الأيكةِ: أخاهم. وأكثرُ العلماءِ على أن أهلَ مَدْيَنَ هم أهلُ الأيكةِ، وأنها أمةٌ واحدةٌ، وأنهم نُسِبُوا إلى جَدِّهِمْ مدينَ بنِ إبراهيمَ وأنه كانت لهم أيكةٌ - غيضةٌ - ملتفةٌ من الشجرِ يعبدونَها، وبعضُ المؤرخين يقولونَ: كانت أيكتُهم من شجرِ الدومِ، واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. الجوابُ عن هذا (¬1): هو ما قال به غيرُ واحدٍ، وممن أَلَمَّ به ابنُ كثيرٍ (رحمه الله) في تفسيرِه: أن كُلَّ ذلك وَقَعَ لقومِ شعيبٍ، وأن أصحابَ مدينَ هم أصحابُ الأيكةِ، والاسمُ مُخْتَلَفٌ فيهما والمسمَّى واحدٌ. قالوا: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أن يُهْلِكَهُمْ صاحَ بهم الْمَلَكُ صيحةً شديدةً؛ ولذا قيل: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: آية 94] فَلَمَّا صَاحَ الْمَلَكُ اهتزت الأرضُ بهم هزًّا عنيفًا، وَرَجَفَتْ بهم رجفةً قويةً، فصارَ هو معنَى قولِه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: آية 91] ثم إن اللَّهَ أَضْرَمَ عليهم الظلَّةَ نَارًا فاحترقوا، فَاجْتَمَعَتِ لهم الصيحةُ من أَعْلَى، والرجفةُ من أسفلَ، وَأَحْرَقَهُمُ اللَّهُ، واجتمعَ لهم ذلك كُلُّهُ - والعياذُ بالله تعالى - قال بعضُ العلماءِ: وممن ذَكَرَهُ ابنُ كثيرٍ (¬2): أنهم كان لهم كاهنانِ أحدُهما يُسَمَّى: سُميرًا، والثاني يسمى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (85) من هذه السورة. (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 232)، البداية والنهاية (1/ 189).

عِمْرَانَ بنَ شدادٍ، وأن رجلاً منهم يُقال له: عمرُ بنُ جلهاءَ نَظَرَ إلى الأيكةِ وَرَأَى فيها العذابَ فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عليه، وأنه كان يقولُ لهم أبياتِه المعروفةَ، يقولُ لهم (¬1): يَا قَوْمِ، إِنَّ شُعَيْبًا مُرسَلٌ فَذَرُوا ... عَنْكُمْ سُمَيْرًا وَعِمْرَانَ بْنَ شَدَّادِ ... إِنِّي أَرَى غَبْيَةً يَا قَوْمِ قَدْ طَلَعَتْ ... تَدْعُو بِصَوْتٍ عَلَى صَمَّانَةِ الْوَادِي ... وَإِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا فِيهَا ضَحَاءَ غَدٍ ... إِلاَّ الرَّقِيمَ يُمَشِّي بَيْنَ أَنْجَادِ والرقيمُ: كَلْبُهُمْ. يقولُ: فِي ضُحَى غَدٍ لاَ يُرى إلا الكلبُ وحدَه يمشي. لكونِهم قد أَبَادَهُمُ اللَّهُ. وَزَعَمَ جماعةٌ من المؤرخين (¬2) أن أبا جَاد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت أنها أسماءُ ملوكِ مدينَ الذين أُرْسِلَ إليهم شعيبٌ، وأن وقتَ إهلاكِهم كان في ذلك الوقتِ مَلِكُ مَدْيَنَ المسمَّى (كلمن)، وأنه لَمَّا أهلكَه اللَّهُ قال قالت ابنتُه، وبعضُهم يقول: أختُه تَبْكِيهِ: كلمن قَدْ هَدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ وَسْطَ الْمَحَلَّةْ سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ الْـ ... حَتْفُ نَارًا وَسْطَ ظُلَّةْ جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّةْ (¬3) وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فقد أهلكهم اللهُ ودمرهم بالرجفةِ والصيحةِ والإحراقِ بعذابِ يومِ الظُلةِ {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا معنَى قولِه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} [الأعراف: آية 91] الدارُ ¬

(¬1) الأبيات في ابن جرير (12/ 567). (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 568). (¬3) الأبيات في ابن جرير (12/ 568).

هنا: اسمُ جنسٍ مفردٍ، أُضِيفَ إلى مُعَرَّفٍ فهو يَعُمُّ أي: في ديارِهم. وألفُ الياءِ منقلبةٌ عن واوٍ؛ لأن أصلَها (دوَرَ) ولذا تُصَغَّرُ على (دُويرة) لا على دُيَيْرَةٍ (¬1)، والجاثمُ هو المستلقي على وَجْهِهِ، والمرادُ أنهم أصبحوا مُنْكَبِّينَ على وجوهِهم مَوْتَى لا أرواحَ في أجسادِهم، وانتقلوا إلى الشقاءِ الأبديِّ - عياذًا بالله - وهذا معنَى قولِه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 91 - 92] فَرَدَّ اللَّهُ على الذين قالوا ما قالوا فِي شعيبٍ: تَوَلَّى اللَّهُ الردَّ عنه عليهم؛ لأنهم قالوا لقومهم: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [الأعراف: آية 90]. فَرَدَّ اللَّهُ عليهم فقال: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: آية 92] أُهْلِكُوا وكأنهم لم يُقِيمُوا فيها أحياء أبدًا، ثم قال وهو محلُّ الشاهدِ من الردِّ: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} وهو الخسرانُ الحقُّ لاَ الذين اتَّبَعُوهُ. ومعنَى قولِه: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} (الذين) هنا اسم موصول، ومحلُّه من الإعرابِ: مبتدأٌ، وخبرُ المبتدأِ جملةُ: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} و (كَأَنْ) مخففةٌ من الثقيلةِ، وإذا خُفِّفَتْ من الثقيلةِ نُوِيَ اسمُها وقُدِّرَ مَحْذُوفًا كثيرًا، وربما ظَهَرَ كما هو معروفٌ في محلِّه. والمعنَى: كأنهم، أي: كأنه أَي: الأمرُ والشأنُ لم يَغْنَوْا فيها أبدًا. وقولُه: {يَغْنَوْا} هو مصدرُ (غَنِيَ يَغْنَى غَنًى) بفتحتين على القياسِ؛ لأن المقررَ في فَنِّ العربيةِ: أن (فَاعِلَ) مكسورةِ العينِ إذا كانت لازمةً ينقاسُ مصدرُها على (فَعَل) بفتحتين، والعربُ تقولُ: ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص113.

«غَنِيَ بالمكانِ يَغْنَى به غَنَاءً». إذا أقامَ به في رفاهيةٍ، ومكانُ إقامتِه يُسَمَّى: (المَغْنَى) وَيُجْمَعُ على (المَغَانِي) وهو معروفٌ في لغةِ العربِ كثيرًا (¬1)، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مَلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ (غَنَوْا) أي: أقامُوا في نعمةٍ ورفاهيةٍ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وقد تقولُ العربُ: «غَنِينَا في كذا» أي: عِشْنَا به مقيمينَ عليه. ومنه قولُ حَاتِمٍ (¬3): غَنِينَا زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى ... فَكُلاًّ سَقَانَاهُ بِكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ ... فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ... غِنَانَا وَلاَ أَزْرَى بِأَحْسَابِنَا الْفَقْرُ هذا معروفٌ، وهذه المادةُ جاءت منها خمسُ لغاتٍ في اللغةِ العربيةِ (¬4)، جاء منها: (الغَنَى) بالفتحِ والقصرِ، و (الغِنَى) بالكسرِ والقصرِ، و (الغَنَاء) بالفتحِ والمدِّ، و (الغِنَاء) بالكسرِ والمدِّ. و (الغُنى) بالضمِّ والقصرِ، ولم يَأْتِ منها (الغُناءُ) بِضَمٍّ فَمَدٍّ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأعراف. (¬2) البيت للأسود بن يعفر، وهو في الدر المصون (5/ 387). (¬3) ديوان حاتم ص24، وهي في الديوان هكذا: غنينا زمانًا بالتصعلك والغنى ... كما الدهر في أيامه العسر واليسر ... كسينا صروف الدهر لينًا وغلظة ... وكلاًّ سقاناه بكأسيهما الدهر ... فما زادنا بأوًا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر ولفظها في القرطبي (7/ 252): كما ذكر الشيخ (رحمه الله) إلا أن محقق الكتاب أضاف الشطر الثاني من البيت الأول، والشطر الأول من البيت الثاني ليوافق ما في الديوان. (¬4) مضى عند تفسير الآية (48) من هذه السورة.

أما (الغَنى) بفتحٍ وقصرٍ فهو محلُّ الشاهدِ هنا، وهو مصدرُ غَنِيَ بالمكانِ يغنَى به غَنَاءً إذا أقام به على الدوامِ. أما (الغَنَاءُ) بفتحِ الغينِ مع المدِّ إلى الهمزةِ فهو المَلاَءُ. تقولُ العربُ: «ماله غَنَاء» أي: ماله مَلاَء. ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): قَلَّ الْغَنَاءُ إِذَا لاَقَى الْفَتَى تَلَفًا ... قَوْلُ الأَحِبَّةِ: لاَ تَبْعُدْ وَقَدْ بَعُدَا و (الغِنَى) بكسرٍ فقصرٍ هو ضِدُّ الفقرِ، وهو أن يكونَ الإنسانُ غَنِيًّا مُوسِرًا. وأما المطربُ الخسيسُ الخبيثُ - الأصواتُ المطربةُ - فهو (الغِنَاء) بكسرِ الغينِ ومدِّها إلى الهمزةِ. فالغِنَاءُ بالكسرِ والمدِّ هو المطربُ، والغِنَى بالكسرِ والقصرِ ضِدُّ الفقرِ، والغَنَى بالفتحِ والقصرِ هو الإقامةُ، والغَنَاءُ بالفتحِ والمدِّ هو المَلاَءُ، ومنه قولُ الشاعرِ: قَلَّ الْغَنَاءُ إِذَا لاَقَى الْفَتَى تَلَفًا ... قَوْلُ الأَحِبَّةِ: لاَ تَبْعُدْ وَقَدْ بَعُدَا ومنه قولُ هبيرةَ بنِ أبي وَهْبٍ المخزوميِّ - على إحدى الروايتين في بيتِه - يخاطبُ زوجَه أُمَّ هانئٍ بنتَ أبي طالبٍ لَمَّا هَرَبَ يومَ الفتحِ إلى نجرانَ ومات بها كافرًا، أَرْسَلَ لها يُخَاطِبُهَا (¬2): لَعَمْرِيَ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّدًا ... أَصْحَابَهُ جُبْنًا وَلاَ خِيفَةَ الْقَتْلِ وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي غَنَاءً إِنْ ضَرَبْتُ وَلاَ نَبْلِي يعني: غناء أي: نَفْعًا. ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأعراف.

وَقَفْتُ فَلَمَّا خِفْتُ ضَيَعَةَ مَوْقِفِي ... رَجَعْتُ كَضِرْغَامٍ هِزَبْرٍ أَبِي شِبْلِ (¬1) أَمَّا (الغُنَى) بضمِّ الغينِ مع القصرِ فهو جمعُ غُنْيَةٍ، وَالْغُنْيَةُ: ما يقتنيه الرجلُ من المالِ لِيَسُدَّ به خلَّتَه وَفَقْرَهُ. فهذا ما جاء من هذه المادةِ في اللغةِ العربيةِ، ومحلُّ الشاهدِ منه هنا أن العربَ تقولُ: «غَنِيَ بالمكانِ، يَغْنَى به غَنَاءً» على القياسِ، إذا أقامَ به. والمعنَى: الذين كَذَّبُوا شعيبًا دَمَّرَهُمُ اللَّهُ وأهلكهم إهلاكًا مستأصلاً حتى كأنهم لم يُقِيمُوا في دارهم يومًا من الدهرِ أبدًا ولم يُوجَدُوا، والذي زَالَ زَوَالاً كُلِّيًّا تقولُ العربُ: كأنه لم يكن يومًا ما، كما قال أحدُ الجرهميين لَمَّا طَرَدَهُمُ الخزاعيونَ من مكةَ (¬2): كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ كأن ذلك لم يُوجَدْ أصلاً. وهذا معنَى قولِه: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: آية 92] أي: كأنه. أي: الأمرُ والشأنُ لم يُقِيمُوا في دارهم أبدًا للهلاكِ المستأصلِ الذي دَمَّرَهُمْ. ثم قال: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} فَرَدَّ عليهم كَذِبَهُمْ ردًّا فصيحًا بليغًا، يعني: ليس الخاسرُ مَنِ اتَّبَعَ شُعَيْبًا ولكن مَنْ كَذَّبَ شعيبًا هم الخاسرونَ، وهذا معنَى قولِه: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} والإتيانُ بالضميرِ بعدَ (كان) يدُلُّ على التوكيدِ. ¬

(¬1) لفظ هذا البيت في السيرة لابن هشام: وقَفْتُ فلما لم أجدْ لي مُقَدَّمًا ... صددت كَضِرغَام هِزَبْرٍ أَبِي شِبلِ (¬2) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة الأعراف.

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا معنَى (الخُسرانِ) وما ضَرَبَ العلماءُ له من الأمثالِ (¬1). فالخاسرونَ: جمعُ الخاسرِ، وأصلُ الخسرانِ في اللغةِ هو: ذهابُ بعضِ مالِ التاجرِ، كان يُرْزَأَ بشيءٍ من مالِه من ربحٍ كان أو رأسِ مالٍ، ولكن الخسرانَ أَقْسَمَ (¬2) اللَّهُ في كتابِه على أنه لا يُنَجَّى منه أحدٌ إلا بأمورٍ معينةٍ بَيَّنَهَا في سورةٍ عظيمةٍ من كتابِه وهي قولُه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} أي: إِنَّ كُلَّ إنسانٍ كائنًا مَنْ كان لَفِي خُسْرٍ {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} فهؤلاء هم الذين يَخْرُجُونَ من هذا الْخُسْرَانِ. وقد ضَرَبَ العلماءُ لهذا الخسرانِ مَثَلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ يعطيانِ موعظةً لطالبِ العلمِ وفكرةً صادقةً. قالوا: أحدُ هذين الْمَثَلَيْنِ: أن اللَّهَ تبارك وتعالى أَعْطَى كُلَّ نفسٍ رأسَ مالٍ، وأمرَها بالتجارةِ معَه فيه - ورأسُ هذا المالِ المذكورِ قد قَدَّمْنَا مرارًا في هذه الدروسِ بيانَه، وَكَرَّرْنَاهُ المرةَ بعدَ المرةِ - قَصْدًا - لِنَعِظَ به إخوانَنا المسلمين ونحاولَ نفعَهم بِلِينِ قلوبِهم على ضوءِ القرآنِ العظيمِ - قالوا: رأسُ المالِ هذا المذكورُ المُنَوَّهُ عنه: هو الجواهرُ النفيسةُ العظيمةُ الذي لا يوجدُ في الدنيا شيءٌ يُمَاثِلُهَا أبدًا، وهذه الجواهرُ النفيسةُ، والأعلاقُ العظيمةُ، هي - أيها الإخوانُ - هي ساعاتُ العمرِ ولحظاتُه، فهذا رأسُ مالِ الإنسانِ، وهو أَنْفَسُ شيءٍ يُعْطَاهُ الإنسانُ، وخالقُ السماواتِ والأرضِ يأمرُنا أن نتجرَ معه في رأسِ هذا المالِ، فَنُحَرِّكَ رأسَ هذا المالِ، وهي هذه اللحظاتُ والدقائقُ من ساعاتِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف. (¬2) السابق.

العمرِ المعدودةِ، فَنَتَّجِرَ مع خالقِ السماواتِ والأرضِ فيها، فننظرَ ما يتوجهُ إلينا طولَ حياةِ العمرِ ودقائقِه من أوامرِ اللَّهِ ونواهِيه فنبادرَ بإرضاءِ خالقِ السماواتِ والأرضِ بامتثالِ ما أَمَرَ به واجتنابِ ما نَهَى عنه، وربُّنا (جل وعلا) يُعْطِينَا أرباحًا هائلةً بائنةً على هذا: يُسْكِنُنَا الجنةَ، وهي: زوجةٌ حسناءُ، وغرفةٌ عاليةٌ، ونهرٌ مُطَّرِدٌ، وشجرةٌ مثمرةٌ، وَمُلْكٌ لا ينفدُ أبدًا، فنربحُ رِبْحًا لا نفادَ له، وعافيةً لا كَدَرَ فيها، وحياةً لاَ موتَ بعدَها، وصحةً لا يخالطُها مرضٌ أبدًا، فَمَنْ حَرَّكَ رَأْسَ هذا المالِ على الوجهِ الكيِّسِ الصحيحِ مع رَبِّ العالمين رَبِحَ الأرباحَ الهائلةَ، فإنه يربحُ منه مجاورةَ ربِّ العالمين في دارِ كرامتِه، والنظرَ إلى وجهِه الكريمِ. وإن كان صاحبُ رأسِ هذا المالِ - وهو ساعاتُ العمرِ ودقائقُه - كان رَجُلاً غيرَ عاقلٍ - يعنِي أخرقَ لا يَفْهَمُ الحقائقَ ولا يقدِّر قدرَ عمرِه - فإن المسكينَ يضيعُ هذه الأعلاقَ النفيسةَ، وهذه الجواهرَ العظيمةَ في قَالَ وقالوا، ولا يُرَاقِبُ ما يَتَوَجَّهُ إليه مِنْ قِبَلِ خالقِه بالامتثالِ والاجتهادِ فيضيعُها دائمًا، وربما صَرَفَهَا فيما لا يُرْضِي اللَّهَ من المعاصِي والملاهِي - والملائكةُ تكتبُ عليه - حتى ينقضيَ الوقتُ المحددُ فيذهب إلى القبرِ وهو مُفْلِسٌ - والعياذُ بالله - فعندَ ذلك يندمُ حيث لا ينفعُ الندمُ، فعلينا جميعًا، ما دَامَتِ الفرصةُ ممكنةً أن نعتبرَ في رأسِ هذا المالِ، وأن لاَ نُضَيِّعَهُ، ولا نكونَ حَمْقَى جهلاء، بل نعتبرُ به، ونتصرفُ مع اللَّهِ بتجارةٍ مُرْضِيَةٍ؛ لأن طاعتَنا لِلَّهِ وإثابتَه لنا سمَّاهُ في كتابِه: (تجارةً) (بيعًا) (شراءً) إلى غيرِ ذلك، قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى آخِرِ الآيَاتِ [الصف: الآيتانِ 10، 11]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ

الجَنَّةَ} إلى أن قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: آية 111] وَسَمَّاهُ (قَرْضًا) في قولِه: {مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: آية 45] إلى غير ذلك. ومقصودُنا - أيها الإخوانُ - أن نُنَبِّهَكُمْ وأنفسَنا إلى مكانةِ العمرِ وَعِظَمِهَا، وأن مَنْ خَسِرَهُ خَسِرَ كُلَّ شيء، وأن مَنْ كان حَازِمًا في تحريكِه والعملِ فيه رَبِحَ كُلَّ شيءٍ كما لا يَخْفَى، فعلى هذا القولِ يكونُ خُسرانُ الإنسانِ في رأسِ مالِه الذي أعطاه اللَّهُ - وهو عمرُه إذا ضَيَّعَهُ، ولم يُبْقِ منه شيئًا - كان أَخْسَرَ الخاسرين، وإذا خَسِرَ هو رأسَ المالِ عُلِمَ أنه ليس هناك رِبْحٌ أبدًا كما هو معروفٌ. وَاعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن العمرَ كما أن اللَّهَ (جل وعلا) جعلَه رأسَ المالِ، وهو التجارةُ الرابحةُ مَنْ خَسِرَهَا خَسِرَ كُلَّ شيءٍ، فإنه مع ذلك جَعَلَهُ حُجَّةً على المعمَّر، فأعمارُكم كما أنها رؤوسُ أموالِكم، وأصلُ فوائدِكم، فكذلك هي حجةٌ عليكم؛ لأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ العمرَ مع الرسولِ لأَنَّ كُلاًّ منهما حُجةٌ على المعمِّر كالمرسلِ إليه، كما قال تعالى في العُمْرِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: آية 37] فجاء بالعمرِ والرسولِ مُقْتَرِنِينَ؛ لأن الرسولَ يُنْذِرُكَ وَيَعِظُكَ، والعمرُ مهلةٌ تَقْدِرُ فيها أن تتداركَ ما فَاتَ وَتُصْلِحَ الخللَ، وتنيبَ إلى اللَّهِ، وترجعَ مِنْ ما يُسْخِطُهُ إلى ما يرضيه، فهذه الآيةُ العظيمةُ من عظامِ مواعظِ القرآنِ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} احتجَّ به على أهلِ النارِ الذين لم يُحَرِّكُوا أعمارَهم في خَيْرٍ، ولم يَعْتَبِرُوا بها؛ ولذا قال: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: آية 37] والعياذُ بالله جل وعلا. هذا أَحَدُ الْمَثَلَيْنِ الْمَضْرُوبَيْنِ، الذين جَعَلَهُمَا العلماءُ لهذا الخسرانِ.

الْمَثَلُ الثاني: ما ذَكَرَهُ بعضُ العلماءِ من أن الله (جل وعلا) خلقَ لكلِّ إنسانٍ كائنًا مَنْ كان - جَعَلَ له - مَنْزِلاً في الجنةِ ومنزلاً في النارِ، فكلُّ إنسانٍ له منزلٌ في الجنةِ وله منزلٌ في النارِ، فإذا أَدْخَلَ اللَّهُ أهلَ الجنةِ الجنةَ أَطْلَعَهُمْ على مساكنِهم في النارِ - لو أنهم كَفَرُوا وَعَصَوْا - لِتَزْدَادَ غبطتُهم وسرورُهم وفرحُهم بما هم فيه، فيقولُ الواحدُ منهم عند ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: آية 43] أي: إنه (جل وعلا) يُطْلِعُ أهلَ النارِ على منازلِهم في الجنةِ لو أنهم آمَنُوا وأطاعُوا لتزدادَ ندامتُهم وحسرتُهم - والعياذُ بالله - وعندَ ذلك يقولُ الواحدُ منهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: آية 57] ثم إن الله (جل وعلا) يجعلُ منازلَ أهلِ الجنةِ في النارِ لأهلِ النارِ، ومنازلَ أهلِ النارِ في الجنةِ لأهلِ الجنةِ، وَمَنْ كانت معاملتُه أن استبدلَ منزلَ غيرِه في النارِ بمنزلتِه في الجنةِ فمعلومٌ أن صفقتَه صفقةٌ خاسرةٌ كما لا يَخْفَى، ومضمونُ هذا جاءَ في حديثٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والظاهرُ أن سندَه لا بأسَ به، واللَّهُ تعالى أعلمُ (¬1). هذانِ المثلانِ اللذانِ ضَرَبَهُمَا العلماءُ في الخسرانِ الذي أَقْسَمَ اللَّهُ أنه لا يَنْجُو منه أحدٌ إلا مَنِ اسْتَثْنَى في قولِه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: الآيات 1 - 3] وبهذا تعرفونَ أن هذه السورةَ العظيمةَ؛ سورةَ العصرِ التي قال الإمامُ الشافعيُّ: «إنها لو لم يَنْزِلْ من القرآنِ إلا هي لَكَفَتْ» (¬2)؛ لاشتمالِها على جميعِ تشاريعِ الإسلامِ، بَيَّنَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (9) من هذه السورة. (¬2) أورده ابن كثير في التفسير (4/ 547).

اللَّهُ فيها الأسسَ الكبارَ، والأصولَ العظامَ من وجهِ التجارةِ بالعمرِ مع خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي يحصلُ منه الربحُ الأبديُّ الذي لا ينتهي، وأنه تحريكُ العمرِ والتجارةِ فيه معَ اللَّهِ، بقولِه: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: آية 3] فإن الآيةَ شَمِلَتْ إيمانَ القلوبِ وأعمالَ الجوارحِ، وَدَعَتْ إلى النفعِ إلى الغيرِ بالتواصِي بالحقِّ والتواصِي بالصبرِ، فجاء بها كُلُّ شيءٍ، فسبحانَ العليمِ الكريمِ ما أَعْلَمَهُ وما أَعْظَمَ تعليمَه وأوضحَه، وهذا معنَى قولِه: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: آية 92]. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} [الأعراف: آية 93]. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} ضميرُ الفاعلِ المستتر في قولِه: {فَتَوَلَّى} راجعٌ إلى شعيبٍ، {فَتَوَلَّى} هو أي: نَبِيُّ اللَّهِ شعيبٌ رَجَع مُوَلِّيًا عنهم {وَقَالَ يَا قَوْمِ} خَاطَبَهُمْ وقد أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وهذا الخطابُ بعضُ العلماءِ يقولُ (¬1): قاله لهم في آخِرِ حياتِهم لَمَّا أرادَ أن يخرجَ عنهم كما في قولِه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا} [هود: آية 94] وقد أَمَرَهُ اللَّهُ بالخروجِ عندما قَرُبَ نزولُ العذابِ فيهم. وبعضُ العلماءِ يقولُ: قال لهم هذا بعدَ أن هَلَكُوا وَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ رَجَعَ وقالَه لهم. ولا مانعَ من هذا، وقد وَقَعَ مِثْلُهُ؛ لأنه ثَبَتَ في الصحيحين أن النبيَّ صلى اللَّهُ عليه وسلم جَمَعَ صناديدَ قريشٍ يومَ بدرٍ - أصحابَ القليبِ - وَوَبَّخَهُمْ وقال لهم: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (79) من سورة الأعراف.

رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: آية 44] فَوَبَّخَهُمْ (¬1)، وَبَيَّنَّا أنهم يسمعونَ كلامَه، وأنهم الآنَ يعرفونَ الحقيقةَ كما هو مَعْرُوفٌ. {قَالَ يَا قَوْمِ} قد تَكَلَّمْنَا عن القومِ فيما سَبَقَ قريبًا (¬2). {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} [الأعراف: آية 93] اللامُ موطئةٌ لقسمٍ محذوفٍ (وَاللَّهِ لقد أبلغتُكم رسالاتِ رَبِّي) وهذا النبيُّ الكريمُ أَقْسَمَ في هذه الآيةِ الكريمةِ على أنه أبلغَ رسالةَ رَبِّهِ؛ لأن الأنبياءَ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم) يجبُ عليهم الإبلاغُ على أكملِ الوجوهِ وَأَتَمِّهَا. فَكُلُّ مُشرِّعٍ يأتِي بتشريعٍ ودينٍ لم يأتِ به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم فكأنه يَدَّعِي عليه أنه لم يُبَلِّغْ. وهو (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) بَلَّغَ كُلَّ شيءٍ أُمِرَ بتبليغِه، كما أَقْسَمَ شعيبٌ على أنه بَلَّغَ رسالةَ رَبِّهِ، فَثَبَتَ عن عائشةَ (رضي الله عنها) أنها قالت: مَنْ زَعَمَ أن مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَتَمَ حَرْفًا مما أُنْزِلَ عليه فقد افْتَرَى على اللَّهِ الكذبَ، واللَّهِ لو كان كَاتِمًا شيئًا لَكَتَمَ قَوْلَهُ تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (¬3) [الأحزاب: آية 37]. وقد شَهِدَ اللَّهُ لنبينا صلى الله عليه وسلم آياتٍ عديدةً أنه بَلَّغَ، كما شهد شعيبٌ لنفسه هنا بقولِه: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} فَمِنَ الآياتِ التي شَهِدَ اللَّهُ فيها لنبيِّنا بالإبلاغِ قولُه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: آية 3] فلو كان لم يُبَلِّغْ جميعَه على ما ينبغي لَمَا قال: ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أُخرى، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء؟) حديث رقم (177)، (1/ 160).

{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} للنقصِ في الذي لم يُبلغ، وقال له: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} [الذاريات: آية 54] ولو كَتَمَ شيئًا لكان مَلُومًا. وقال: {فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: آية 54] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، فهو (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) لنا بمنزلةِ الوالدِ الشفيقِ يُعَلِّمُنَا، حتى إنه من شدةِ رَأْفَتِهِ ورحمتِه بنا وحرصِه على هُدَانَا يُعَلِّمُنَا، كُلَّ شيءٍ، حتى إنه يُعَلِّمُ الرجلَ إذا رَاحَ إلى بيتِ الماءِ ليقضيَ حاجتَه - أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ - كيفَ يفعلُ؟ وبماذا يستجمرُ؟ وما لا يفعلُ مع القِبْلَةِ، وفي أَيِّ اليدين يستجمرُ، وماذا يتقِي عندَ الاستجمارِ كما هو معروفٌ في محلِّه. وهذه الآياتُ تَدُلُّ على أن أنبياءَ اللَّهِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم) نَصَحُوا لأُمَمِهِمْ وَبَلَّغُوا أَكْمَلَ البلاغِ وَأَتَمَّهُ، وَصَبَرُوا على الأَذَى، وعلى أتباعِهم من الْمُنْتَسِبِينَ للعلمِ أن يبلغوا العلمَ على الوجهِ الأكملِ، وأن يصبروا على أَذَى الناسِ؛ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يأمرُ بخيرٍ وَيَنْهَى عن منكرٍ لا بُدَّ أن يلحقَه الأَذَى من الناسِ، وهذا أمرٌ معروفٌ؛ لأن كُلَّ مَنْ يتعرضُ للناسِ في مهوياتِهم وينهاهم عَمَّا يَهْوَوْنَ، ويأمروهم بما لا يهوون يكونونَ أعداءً له؛ ولذا كان لقمانُ الحكيمُ لَمَّا أوصاه ولدُه وقال له: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان: آية 17] أَتْبَعَ ذلك بقولِه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} لأنه يعلمُ أن الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ يستلزمُ اتباعَ إصابةِ الأَذَى من الناسِ كما لا يَخْفَى، فعلى طلبةِ العلمِ أن يعتبروا بأمثالِ هذه الآياتِ، وينصحوا لأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا يكتموا العلمَ عند الحاجةِ إليه، وَيُبَلِّغُوهُ على الوجهِ الأكملِ بالإيضاحِ والحكمةِ والصبرِ على الأَذَى.

ونحن معاشرَ هذه الأمةِ سَيَثْبُتُ بقولِنا وشهادتِنا على الأممِ فصلُ القضاءِ يومَ القيامةِ (¬1)، يومَ يجمعُ اللَّهُ الأولينَ والآخِرِينَ في صعيدٍ واحدٍ، ينفذُهم البصرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، كما جاء في القرآنِ العظيمِ، وذلك أنه إذا اجْتَمَعَتِ الخلائقُ سأل اللَّهُ الرسلَ والمرسلَ إليهم كما [مَضَى] (¬2) في قولِه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} فالكفارُ الذين كَفَرُوا من الأممِ يقولونَ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: آية 19] فالرسلُ الذي أُرْسِلَتْ إلينا هم الذين خَانُونَا وَكَتَمُوا عنا رسائلَ رَبِّنَا، ولو جَاءَتْنَا رسالةُ رَبِّنَا لَكُنَّا أطوعَ الناسِ لها وأتبعَها لها!! فيقولُ اللَّهُ - وهو أعلمُ - للرسلِ: هَلْ عِنْدَكُمْ بَيِّنَةٌ على التبليغِ؟ فيقولونَ: نَعَمْ، أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم تشهدُ لنا. فَتُدْعَى هذه الأمةُ الكرامُ الذين قال الله فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: آية 110] فيقال لهم: أَتَشْهَدُونَ أن هؤلاء الرسلَ الكرامَ بَلَّغُوا هؤلاءِ الكفرةَ؟ فنقولُ على رؤوسِ الأشهادِ في ذلك اليومِ العظيمِ: نَعَمْ، نحنُ نشهدُ أنهم بَلَّغُوهُمْ أكملَ البلاغِ وأتمه، وأن هؤلاء الكفرةَ آذَوْهُمْ وَتَعَرَّضُوا لهم بكلِّ سوءٍ، وَلَجُّوا في الكفرِ بعدَ أن بَيَّنُوا لهم كُلَّ شيءٍ، وَتَحَمَّلُوا منهم كُلَّ الأَذَى. فيحتجُّ علينا الأممُ فيقولونَ: كيفَ تشهدونَ علينا وأنتم في وقتِ إرسالِ الرسلِ إلينا في ظلماتِ العدمِ لم تُوجَدُوا إِذْ ذَاكَ، كيف تشهدونَ على شيءٍ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقُوا؟ فنقولُ: نَعَمْ إننا نضعُ أداءَ الشهادةِ على حصولِ العلمِ اليقينِ، وقد حَصَلَ لنا العلمُ اليقينُ بما شَهِدْنَا، فما شَهِدْنَا إلا بما عَلِمْنَا؛ لأن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (6) من سورة الأعراف. (¬2) في الأصل: «يأتي». وهو سبق لسان.

اللَّهَ أَرْسَلَ إلينا نَبِيًّا كَرِيمًا، وأنزلَ إليه أعظمَ الكتبِ، وهو أصدقُ كلامٍ، وَكُلُّ ما في كتابِ اللَّهِ فنحنُ نقطعُ به ونجزمُ به - لأنه كلامُ خَالِقِنَا - أشدَّ مِنْ جَزْمِنَا بما رَأَتْهُ أعينُنا وَسَمِعَتْهُ آذانُنا، فقد قَصَّ اللَّهُ علينا قصصَكم مُفَصَّلَةً ومجملةً، فأنتم يا قومَ نوحٍ قَصَّ اللَّهُ علينا في كتابِه ما جرى منكم معه في دارِ الدنيا وأنه قال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} إلى آخِرِ الآياتِ. [نوح: الآيات 7 - 9]. وأنتم يا قومَ هودٍ قَصَّ اللَّهُ علينا من خَبَرِكُمْ كذا وكذا وكذا، وقولكم له: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} [هود: آية 54] وما صَبَرَ على أذاكم وما جاءكم به من الإنذارِ العظيمِ. وكذلك قومُ صالحٍ، فنفصَّل ما فُصِّلَ، وَنُجْمِلُ ما أُجْمِلَ، فيثبت الحكمُ عليهم بشهادتِنا كما [مضى] (¬1) في قولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: خيارًا عُدُولاً {لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: آية 143] فهذه الآيةُ وأمثالُها كقولِه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: آية 110] فيها الدلالةُ القرآنيةُ الواضحةُ على أن هذه الأمةَ هي خيرُ الأممِ وأفضلُها، ويؤيدُ ذلك ويوضحُه ما جاء في السننِ من حديثِ معاويةَ بنِ حيدةَ القشيريِّ (رضي الله عنه) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الأمةِ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» (¬2). أما قولُه في بني إسرائيلَ: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: آية 47] فلا يتناولُ هذه الأمةَ؛ لأنها في ذلك الوقتِ لم تُوجَدْ، والمعدومُ ليس بشيءٍ حتى يُفضَّل عليه غيرِه؛ فبعدَ أن وُجِدَتْ واستقرَّ كيانُها صَحَّ تفضيلُها على جميعِ الأممِ، واستقراءُ القرآنِ قد دَلَّ ¬

(¬1) في الأصل: «سيأتي»، وهو سبق لسان. (¬2) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

على ذلك دلالةً واضحةً، وإيضاحُ ذلك (¬1): أن الفضلَ العظيمَ إنما يُعْرَفُ بالاختبارِ، فعندَ الامتحانِ ( ... ). (¬2) [14/ ب] / {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: آية 93] لَمَّا عَلِمَ نبيُّ اللَّهِ شعيبٌ أن اللَّهَ مُهْلِكٌ قومَه تَوَلَّى رَاجِعًا عنهم، وقال مُخَاطبًا لهم: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} واللَّهِ لقد أبلغتُكم رسالاتِ رَبِّي التي لو اتَّبَعْتُمُوهَا لَمَا وقعتُم فيما وقعتُم فيه {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} بَذَلْتُ لكم غايةَ النصحِ، وبينتُ لكم، وأمرتُكم بما فيه لكم الخيرُ، ونهيتُكم عما فيه لكم الشرُّ، ولكن تَمَرَّدْتُمْ حتى أَهْلَكَكُمُ اللَّهُ {فَكَيْفَ آسَى} آسَى: معناها أَحْزَنُ، فالعربُ تقولُ: أَسِيَ الرجلُ يَأْسَى بمعنَى: حَزِنَ يحزنُ، و (آسى) فعلٌ مضارعٌ، والهمزةُ الأُولَى همزةُ المتكلمِ، والألفُ مبدلةٌ من فاءِ الفعلِ، والمعنَى: فكيف أَحْزَنُ أنا. {آسَى} أي: أحزنُ {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} مُتَمَرِّدِينَ على اللَّهِ؛ أعداءِ للهِ ورسلِه، فهؤلاء لا يُحْزَنُ عليهم، كما قال اللَّهُ لِنَبِيِّنَا: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل: آية 127] ونحو ذلك من الآياتِ (¬3). وهذه الآيةُ تَدُلُّ أن قومَ الرجلِ إذا كانوا أعداءً لله فأهلكهم اللَّهُ بذنوبِهم لا ينبغِي له أن يحزنَ عليهم؛ لأنهم ليسوا أَهْلاً للحزنِ عليهم لعداوتِهم لِلَّهِ وَرُسُلِهِ. {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ¬

(¬1) السابق. (¬2) في هذا الموضوع انقطع التسجيل، ويمكن استدراك النقص بمراجعة كلام الشيخ رحمه الله في هذه القضية فيما مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬3) انظر: الأضواء (2/ 327 - 328).

الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)} [الأعراف: الآيتان 94، 95]. {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} [الأعراف: آية 94] بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ أنه لم يُرْسِلْ نَبِيًّا قَطُّ من الأنبياءِ إلى أمةٍ إلا كَذَّبَتْ تلك الأمةُ، وبعد تكذيبِها ابْتَلاَهَا اللَّهُ أنواعَ الابتلاءِ، ثم بَيَّنَ مصيرَها النهائيَّ. وهذا العمومُ في (ما) عامٌّ لم يَخْرُجْ منه شيءٌ إلا قوم يونسَ فإن اللَّهَ أَخْرَجَهُمْ من هذا العمومِ في قولِه: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: آية 98] لم يَخْرُجْ من هذا العمومِ إلا قومُ يونسَ فقط كما دَلَّتْ عليه آيةُ يونسَ هذه. ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ} المدينةُ تُسَمَّى (قريةً) (¬1) لأن الناسَ يجتمعونَ فيها، من قولِهم: قَرَيْتُ الماءَ. إذا جَمَعْتَهُ في الحوضِ. والأصلُ: ما أَرْسَلْنَا نَبِيًّا. فالمفعولُ نكرةٌ زِيدَتْ قَبْلَهَا لفظةُ (من) لتأكيدِ العمومِ، وَقَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدَا نافعًا {مِّن نَّبِيٍّ} بالتشديدِ، وقرأه نافعٌ وحدَه: {من نبيء} بالهمزةِ (¬2). أما على قراءةِ نافعٍ فالنبيءُ مُشتقٌّ من النبأِ، والنبأُ: الخبرُ الذي له شأنٌ. فَكُلُّ نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خبرٍ نبأً؛ لأَنَّ النبأَ اسمٌ للخبرِ الذي له شَأْنٌ، تقولُ: جَاءَنَا نبأُ الجيوشِ، وجاءنا نبأُ الأميرِ. ولا تقولُ: جاءنا نبأُ حمارِ الحجامِ؛ لأنه لا خَطْبَ له. أما على قراءةِ الجمهورِ فقال بعضُ العلماءِ: (النبي) أيضًا من (النبيءِ) أُبْدِلَتِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (4) من سورة الأعراف. (¬2) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

الهمزةُ ياءً. وقال بعضُهم: هو مِنَ (النَّبْوَةِ) بمعنَى الارتفاعِ، وهذا معروفٌ {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا} كُلَّمَا أرسلَ اللَّهُ نَبِيًّا إلى قومٍ كَذَّبُوهُ وَنَاصَبُوهُ العداءَ ثم أَخَذَهُمُ اللَّهُ أولاً {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف: آية 94] البأساءُ: الفقرُ والجوعُ. الضراءُ: الأمراضُ. يَبْتَلِيهِمْ أولاً بالفقرِ والجوعِ والجدبِ، ثم يبتليهم بالأمراضِ ونحوِها، وإذا لم يَنْفَعْهُمْ هذا الابتلاءُ بالشرِّ ابتلاهم بالخيرِ؛ لأن الابتلاءَ تارةً بالشرِّ وتارةً بالخيرِ فَبَيَّنَ ابتلاءَه لهم بالخيرِ بعدَ ابتلائِه لهم بالشرِّ في قولِه: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: آية 95] بَدَّلْنَا مكانَ السيئةِ الحسنةَ، (الحسنة) و (مكان) هما مَفْعُولاَ (بَدَّلْنَا) على التحقيقِ؛ خِلاَفًا لِمَنْ زعموا أن (مكان) ظرفٌ، فهما مفعولانِ لِبَدَّلْنَا. ومعنَى: {بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي: بَدَّلْنَا لهم الخصبَ مكانَ الجدبِ، والصحةَ والعافيةَ مكانَ الأمراضِ، فَجَعَلْنَا لهم الشيءَ الحسنَ بدلاً من الشيءِ السيئِ؛ لِنَبْتَلِيَهُمْ أخيرًا بالحسنِ بعدَ أن ابْتَلَيْنَاهُمْ أَوَّلاً بالسيئِ. وأصلُ (السيئةِ) أصلُها: (سَيْوِئَة) حروفُها الأصليةُ هي: السينُ وهو فاؤُها، والواوُ وهو عينُها، والهمزةُ وهي لامُها، وياءُ (فَيْعِلَة) زائدةٌ، فَأُبْدِلَتِ الياءُ الزائدةُ بالواوِ التي هي عَيْنُ الكلمةِ بعدَ إبدالِها ياءً على القاعدةِ التصريفيةِ المشهورةِ المعروفةِ (¬1). و (الحسنةُ) صفةٌ مشبهةٌ من: حَسُنَ الشيءُ فهو حَسَنٌ، وكذلك (السيئةُ) صفةٌ مشبهةٌ من: سَاءَ يَسُوءُ فهو سَيِّءٌ؛ لأن السيئةَ تسوءُ صاحبَها يومَ القيامةِ إذا رَآهَا فِي صَحِيفَتِهِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (160) من سورة الأنعام.

والحسنةُ: أصلُها صفةٌ مشبهةٌ تأنيثُ الحسنِ إلا أنها اشْتُهِرَ استعمالُها حتى اسْتُعْمِلَتْ استعمالَ الأسماءِ الجامدةِ كالصالحةِ والحسنةِ والخصالِ الطيبةِ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ. ومعنَى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: آية 95] بَدَّلْنَا لهم مكانَ الجدبِ خصبًا ورزقًا، ومكانَ الأمراضِ عافيةً وصحةً؛ لِنَبْتَلِيَهُمْ بذلك أيضًا. وقولُه: {حَتَّى عَفَوا} يعنِي: كَثُرُوا. العربُ تقولُ: «عَفَا الشيءُ» بمعنَى: كَثُرَ، فـ (عفوا) معناه: كَثُرُوا. كَثُرَتْ أنفسُهم - بالعافيةِ والصحةِ - وأموالُهم، حتى نَمَوْا وَنَمَتْ أموالُهم، وَكُلُّ شيءٍ كَثُرَ تقولُ فيه العربُ: (عفا) ومنه: إعفاءُ اللحيةِ، وهو تكثيرُ شَعْرِهَا وتوفيرُه لا حلقه وَقَصّه. فمعنَى: {حَتَّى عَفَوْا} حتى كَثُرُوا، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): وَلَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ فَهُوَ معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ. حتى عَفَوْا وكثروا وزالَ عنهم الجوعُ والقحطُ وخصبوا وأنعموا؛ لَمَّا زَالَ عنهم هذا كُلُّهُ ابتليناهم بالحسناتِ، ولم ينفع فيهم الابتلاءُ بالحسناتِ أيضًا، وقالوا: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} معناه عندَهم: أن هذه حياةُ الدهرِ، تارةً يجيءُ بخيرٍ، وتارةً يجيءُ بشرٍّ، وهو أمرٌ طبيعيٌّ ليس من الابتلاءِ ولا الفتنةِ على الذنوبِ ثم إن اللَّهَ قال إنه بعدَ أن لم يَنْفَعِ ابتلاؤُنا ¬

(¬1) البيت للبيد بن ربيعة، وهو في الدر المصون (5/ 389).

دَمَّرَهُمْ؛ ولذا قال: {أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} أَخَذْنَاهُمْ بالعذابِ والهلاكِ بغتةً. أَيْ: في حالِ كَوْنِنَا مباغتين لهم. أي: أخذهم فجأةً. وَالْمُبَاغَتَةُ أشدُّ وأعظمُ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: لاَ يعلمونَ بذلك فأهلكهم اللَّهُ بغتةً (والعياذُ بالله) وهذا معنَى قولِه: {فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: آية 96]. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} (لو): حَرْفُ الشَّرْطِ لاَ تَلِي إلا الْجُمَلَ الفعليةَ و (أنَّ) هنا حرفٌ مَصْدَرِيٌّ، ليست جملةً فِعْلِيَّةً، إلا أن الفعلَ محذوفٌ، ولو وَقَعَ {أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} لو كان أهلُ القرى الذين دَمَّرَهُمُ اللَّهُ وأهلكهم اللَّهُ آمنوا بِاللَّهِ وأطاعوا رُسُلَهُ: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ غيرَ ابنِ عامرٍ: {لَفَتَحْنَا} بالتخفيفِ، وقرأه ابنُ عامرٍ: {لَفَتَّحنَا عليهم} بالتشديدِ (¬1). {بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ} البركاتُ: الخيراتُ، وبركاتُ السماءِ: ما يَنْزِلُ منها من الأمطارِ، وبركاتُ الأرضِ: ما يَخْرُجُ منها من النباتاتِ والزروعِ والحبوبِ ونحوِ ذلك. وهذه الآياتُ تدلُّ على أن الناسَ إِنْ أَطَاعُوا اللَّهَ أَغْدَقَ اللَّهُ عليهم رِزْقَهُ، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ ¬

(¬1) انظر: السبعة ص286.

يَحْتَسِبُ} [الطلاق: الآيتان 2، 3] وقال نوحٌ لقومِه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: الآيات 10 - 12] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: آية 66] في آياتٍ كثيرةٍ. {وَلَكِنْ كَذَّبُوا} [الأعراف: آية 96] ولكنهم لم يُطِيعُوا اللَّهَ فَكَذَّبُوا {فَأَخَذْنَاهُم} أَهْلَكْنَاهُمْ بسببِ ما كانوا يَكْسِبُونَ من الذنوبِ والكفرِ والمعاصِي. وقد نقتصرُ الآنَ على هذه الكلماتِ القليلةِ؛ لأَنَّ البارحةَ أَخَذْنَا دواءً أَثَّرَ عَلَيْنَا، فَمَعِيَ الآنَ بَعْضُ الأَثَرِ.

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)} [الأعراف: الآيات 97 - 101]. يقول الله جل وعلا: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}. بيّن الله (جل وعلا) هنا إنكاره على أهل القرى الذين كفروا به وكذبوا رسله وعارضوا [شرعه] (¬1) وأمنوا مكره، وبيّن (جل وعلا) تفاهة عقولهم وعدم علمهم، وأنكر عليهم بأداة همزة الإنكار ليفتحوا آذانهم ويخافوا عقاب الله ولا يأمنوا مكره. ولذا قال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: آية 97] قدمنا مرارًا كثيرة (¬2) كلام العلماء على همزة الاستفهام التي بعدها أداة ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

عطف كالفاء والواو وثم. والهمزة هنا للإنكار، ومعنى إنكاره على أهل القرى جمعهم بين الكفر به، وتكذيب رسله، وعدم خوفهم من بطشه ونكاله، فهذا يدل على غاية الجهل بالله؛ ولذا قال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} جمع قرية على غير قياس {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} أي: يأتيهم عذابنا ونكالنا وإهلاكنا المستأصل، والبأس: العذاب والنكال من الله (جل وعلا) بسبب كفرهم بنا وتكذيبهم لرسلنا. {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا} [الأعراف: آية 97] قوله: {بَيَاتًا} أي: ليلاً، والحال: {وَهُمْ نَآئِمُونَ} [أي: في غفلة] (¬1) فيأتيهم في تلك الغفلة {بَأْسُنَا} أي: عذابنا فنهلكهم. وهذا معنى قوله: {بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ} أي: ليلاً في حال كونهم نائمين. والليل معروف، وهو الذي تشاهدونه من ظلام. {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: آية 98] في هذا الحرف قراءتان سبعيتان: قرأه جماهير القراء غير الحرمِيَّيْنِ والشامي: {أَوَ أمن أهل القرى} بفتح الواو، كأنه تكرير للجملة بما يماثلها. وقرأه الحرميان -أعني: نافعًا وابن كثير- والشامي-أعني ابن عامر-: {أَوْ أمن أهل القرى} بـ (أو) العاطفة، وهما قراءتان معروفتان، ولغتان فصيحتان (¬2). {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} الضحى: هو وقت ارتفاع النهار. ¬

(¬1) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص210 - 211.

{وَهُمْ يَلْعَبُونَ} لاهون يشتغلون بما لا يجديهم شيئًا، وكل مشتغل بما لا ينفعه يُسمى لاعبًا كما هو معروف. والمعنى: أن الله (جل وعلا) قادر على إهلاكهم في الليل في حالة نومهم، وإهلاكهم في أول النهار في حالة لهوهم ولعبهم، كيف يأمنون مكره مع الكفر به ... وتكذيب رسله وقدرته على إهلاكهم؟ وهذا معنى قوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}. ثم كرر الإنكار عليهم فقال: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: آية 99] كان بعض العلماء يقول: إن المكر من الصفات التي لا تطلق إلا على سبيل المشاكلة. وهذه الآية من سورة الأعراف بيّنت أن المكر يُطلق في غير المشاكلة. والمشاكلة: هذا اللفظ من اصطلاحات علوم البلاغيين (¬1)، يذكره علماء البلاغة في (البديع المعنوي) يقولون: منه قسم يُسمى (المشاكلة) وبعضهم يقول: إن ما يُسمى (المشاكلة) هو مما يسمونه: بعض علاقات المجاز المرسل. وهذا الذي يقولون له (المشاكلة) هو: أن يأتي لفظ موضوع في معنى غير معناه، بل موضوع في معنى أجنبي من معناه الأصلي، إلا أنه وُضع فيه لأجل المشاكلة والمقارنة بينه وبين لفظ آخر مذكور معه، ومن أمثلته عندهم قول الشاعر (¬2): قالوا اقترح شيئًا نُجِد لك طبخَه ... قلتُ اطبخوا لي جُبَّةً وقميصَا ¬

(¬1) انظر: التلخيص للقزويني ص356، جواهر البلاغة ص299. (¬2) البيت في المصدرين السابقين.

فقوله: «اطبخوا لي جبة» يعني: خيطوا لي جبة، فأطلق الطبخ وأراد الخياطة - والطبخ أجنبي من الخياطة - للمشاكلة بينهما. والتحقيق أنه هنا لا مشاكلة، وأن الله ذكر مكره وحده ولم يذكر مكر عبده كما قال هناك: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: آية 30] ذكر مكرهم ومكره، وهنا ذكر مكره وحده. ولذا قال: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: آية 99]. والتحقيق أن المكر صفة أطلقها الله على نفسه، ولا يجوز إطلاقها على الله إلا في الموضع الذي يُطلقها هو على نفسه أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع جميع العلماء أنه لا يجوز أن يُشتق له منها اسم، فلا تقل: من أسمائه الماكر؛ لأن ذلك لا يجوز إجماعًا. ومعنى (مكر الله) أنه (جل وعلا) يستدرجهم ويغدق عليهم النعم والصحة والعافية حتى يكونوا أغفل ما كانوا، ثم يأخذهم بغتة ويهلكهم في غاية الغفلة، وهذا فعل أحسن ما يكون وأبلغ ما يُتصور، وقد ضربوا مثلاً -ولله المثل الأعلى- قالوا: لو فرضنا أن هنالك رجلاً شديد البلية على الناس، يقتل هذا، ويظلم هذا، وجميع الناس في غاية التأذِّي منه، ثم إن رجلاً صالحًا كريمًا طيبًا احتال عليه بحيلة شريفة، حتى قتله وأراح الناس منه، فكلهم يقول: جزاك الله خيرًا، والله إن قَتْلَك له في صورة خفاءٍ إنه أحسن ما يكون. وعلى كل حال فالله لا يصف نفسه إلا بما هو في غاية الحسن والجمال واللياقة، فوصف نفسه هنا بأنه يهلك الكافرين بمكره، وأن كيده متين كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: آية 183] ونحن قد قدمنا لكم في هذه الدروس مرارًا - وكررناه

مرارًا (¬1) لشدة الحاجة إليه-: أن المذهب المُنجي في صفات الله تبارك وتعالى التي ازدحمت فيها عقول العقلاء، وضلّ آلاف الناس من جهة التعطيل، وضلّ آلاف الناس من جهة التشبيه، والتمثيل، أن المذهب المنجي عند الله -الذي لا شك فيه، وأنه الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وسلف هذه الأمة-: وهو ما يقال له: «مذهب السلف» في اصطلاح الناس، أن انتهاجه هو الصواب، وهو المنجي عند الله، وهو العمل بنور القرآن الذي لا شك فيه، فقد أوضحناه لكم مرارًا سنين متعددة، ولا نزال نوضحه ونكرره لشدة الحاجة إليه، وكثرة من غلط فيه من فحول النظار. اعلموا أيها الإخوان - وفقنا الله وإياكم لما يرضيه - أن العمل بضوء هذا المحكم المنزل الذي لا شك أنه على قدم الصواب أن تُجرى آيات الصفات على ثلاثة أصول، إن لقيتم الله وأنتم على هذه الأصول الثلاثة -لم تُخلّوا بواحد منها- فلا شك أنكم تلقون ربكم وأنتم على عقيدة صحيحة، وصلة بالله متينة، ومذهب حق. وإن أخللتم بشيء منها أدخلتم أنفسكم في بلية. واحذروا من قال وقيل، وعلم الكلام، وغير ذلك. وهذه الأصول الثلاثة: الأول منها: - أيها الإخوان - هو أساس التوحيد الأكبر، وهو الحجر الأساسي للصلة بالله صلة صحيحة. هذا الأساس الأعظم هو تنزيه خالق السماوات والأرض (جل وعلا) عن أن يشبه شيئًا من خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم، وكيف يشبهونه؟! ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

أليسوا صنعة من صنائعه؟ بلى هم صنعة من صنائعه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: آية 88]، ومعلوم أن الصنعة لا تشبه صانعها بحال، هذا أصل التوحيد الأعظم في آيات الصفات، وأساسها الأكبر، وهو تنزيه رب العالمين تنزيهًا كاملاً تامًّا لائقًا بكماله وجلاله عن مشابهته لشيء من صفات خلقه أو ذواتهم أو أفعالهم، وهذا الأصل الأعظم نصَّ الله عليه في قوله: ... {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4] {فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الأَمْثَالَ} [النمل: آية 74] ونحو ذلك من الآيات. الأساس الثاني: هو -أيها الإخوان- إذا حققتم هذا الأصل الأعظم الذي هو التنْزيه، فالأصل الثاني: هو الإيمان بما جاء عن الله في كتابه المنزل، والإيمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه؛ لأنه لا يصف الله أعلم باللهِ مِنَ اللهِ {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: آية 140] ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4]. هذان الأساسان العظيمان اللذان هما: تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة خلقه. والثاني: تصديق الله والإيمان بما مدح به نفسه إيمانًا مبنيًّا على أساس التنزيه. وهذان الأصلان العظيمان أيها الإخوان لم أقلهما لكم من تلقاء نفسي لا، لا، وكلا، وإنما بينتهما لكم على ضوء هذا الوحي

المحكم المنزل الذي هو نور الله وهُدَاه. وإيضاح ذلك: أن الله أوضح هذين الأساسين وارتباط أحدهما بالآخر في غاية الإيضاح في أوْجَزِ عبارة وأتمها وكملها، وذلك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] فنؤمل -أيها الإخوان- أن تتأملوا في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وتربطوا أول الآية بآخرها، وآخرها بأولها لتهتدوا كما ينبغي، وإيضاح ذلك: أن السمع والبصر -ولله المثل الأعلى- هما صفتان يتصف بهما -من حيث هما سمع وبصر- سائر الحيوانات، فجميع الحيوانات تسمع وتبصر، والله (جل وعلا) يسمع ويبصر -سبحانه وله المثل الأعلى- ولكن لما أراد أن يبين لنا أنه يسمع ويبصر وضع الأساس الأعظم أولاً فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] لأن الأساس لإثبات الصفات هو التنزيه عن المماثلة وعن التشبيه، فوضع التنزيه هو الأساس الأول فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم قال: ... {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} مبنيًّا على أساس: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: سمعًا وبصرًا لا يماثلهما سمع مخلوق ولا بصره أبدًا ألبتة في حال من الأحوال. فكان أول هذه الآية الكريمة يدل على التنزيه التام من غير تعطيل، وآخرها يدل على الإيمان بالصفات إيمانًا حقيقيًّا من غير تشبيه ولا تمثيل. فعلينا أن نعتقد أولها: وهو التنزيه. ونعتقد آخرها: وهو إثبات الصفات إثباتًا حقيقيًّا على أساس ذلك التنزيه، فكأن الله يقول لك: يا عبدي، يا عبدي تفهَّم وكن عاقلاً، ولا تذهب بسمعي وبصري إلى سمع المخلوقين وأبصارهم حتى تقول: هذه الصفة تُوهِمُ غَيْرَ اللائِقِ فيجب

تأويلها والإتيان بغيرها!! لا، لا، لا يا عبدي، بل لاحظ أولاً أن صفتي في غاية الكمال والجلال والتنزيه عن مشابهة صفات المخلوقين ليمكنك على ذلك الأساس أن تؤمن بها إيمانًا مبنيًّا على أساس التنزيه، كما بينت لك في قولي: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قولي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] هذا أيها الإخوان بيان واضح لا لبس فيه. الأساس الثالث: هو أن تعلموا -أيها الإخوان- أن العقول البشرية مخلوقة، وأنها واقفة عند حدها، وأنها متقاصرة عن إدراك الإحاطات والكيفيات بصفاته (جل وعلا)، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110] فنفى إحاطة العلم البشري نفيًا باتًّا عنه (جل وعلا) لأن الخلق مخلوق، والخالق (جل وعلا) أعظم شأنًا من أن يحيط به خلقه. هذه الأسس الثلاثة -أيها الإخوان- من لقي منكم الله وهو عليها لقيه على هدى ونور من ربه، وعلى عمل بالقرآن. ومن حاد عنها تخَبَّطَ في ظلام لا يدري في أي وقت يخرج منه. وأنا أقول لكم: إن هذه اللحظات من الأيام والليالي سائرة بنا إلى المحشر سيرًا حثيثًا، كصاحب السفينة يكون نائمًا في مُتكئه في البحر يظن أن السفينة واقفة وهي تقطع فيه المسافات العظيمة في الدقائق والثواني!! فنحن تسير بنا الأيام والليالي إلى ربنا (جل وعلا)، وعن قريب سينكشف لكم الغيب، ونكون جميعًا في صعيد واحد أمام رب العالمين (جل وعلا) والله قد يسألكم عن كل شيء كما قال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: آية 6] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر:

الآيتان 92، 93] ويوشك أن يسألكم الله عن ماذا كنتم تقولون فيما مدح به نفسه من صفات الكمال، كاستوائه على عرشه، وكصفة اليد والأصابع، وغير ذلك من الصفات التي أثنى الله بها على نفسه، وكالتي في قوله هنا: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: آية 99] فإذا قال لكم رب العالمين: ماذا كان موقفكم في دار الدنيا من صفاتي التي مدحت بها نفسي، وأثْنَى عَلَيَّ بِهَا رَسُولي صلى الله عليه وسلم، وبلَّغكم إياها عَنِّي في كتابي وسنة رسولي، هل كنتم تصدقونني، وتؤمنون بي، أو كنتم تنفون صفاتي وتكذبونني وتكذّبون رسولي؟! فلا يخفى على أحد منكم -على طريق الإنصاف- أنه إن كان جوابه لربه في هذا التعليم الذي علمناكم في نور القرآن أنه تعليمٌ صاحبهُ ناج من هذه المشكلات، ولا تأتيه بليّة، بل إنك إن قلت لله: أما أنا فكنت في دار الدنيا أُنَزِّهُ صِفَاتك عن صفات المخلوقين، وأعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جازمًا أنَّكَ لا يُمَاثِلُك ولا يشابهك شيء من خلقك، لا في ذاتك، ولا في صفاتك، ولا في أفعالك. فهذا الجواب لا شك أنه لا يُسَبِّبُ لك بَلِيَّة، ولا مشكلة من الله ولا لومًا، ولا تقريعًا، ووالله لا يقول لك الله موبخًا: لم كنت تُنَزِّهني عن مشابهة صفات خلقي؟ لا، لا والله. ثم إنك إذا قلت: أنا كنت أؤمن بصفاتك، وأصدقك بما تمدح به نفسك، وأُصدق رسولك، ولا أكذبك فيما كان يثني به عليك من الصفات، ولكن ذلك الإيمان والتصديق مبني على أساس تنزيهك وتعظيمك وإجلالك عن مشابهة صفات الخلق. والله لا يقول لك الله: لم كنت تصدقني في دار الدنيا، وتصدق رسلي، ولم لا تكذبني وتنفي صفاتي؟ لا، لا. هذا طريق سلامة محقق لا شك فيه.

ولا يقول لك الله في الثالث: لم كنت (¬1) تدعي أن عقلك لا يحيط بصفاتي، ولا بكنهها؟ فهذه طرق حق واضحة، وعمل بنور القرآن، معلوم أنها ليس وراءها تبعة ولا بلايا ولا مشكلة؛ لأنها خروج من مأزق عظيم في ضوء نور كتاب الله (جل وعلا)، وهو المخرج من كل بلية، والمنقذ من جميع أنواع الضلال. واعلموا -أيها الإخوان- أن كثيرًا من أجِلاء المتعلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من النظار -بعد أن نشأ علم الكلام- غلطوا غلطًا شديدًا في هذه المسألة على كثرتهم وقوة علمهم وفهمهم، وهم -كما قال الإمام الشافعي (رحمه الله) - قَصْدُهُمْ حَسَنٌ، ولا يريدون سُوءًا ولا يريدون إلا تعظيم الله وتَنْزِيهَهُ، ولكنهم غلطوا في طريق ذلك، وأخذوا غير الطريق الصواب فغلطوا، فهم كما قال الإمام الشافعي رحمه الله (¬2): رَامَ نَفْعًا فَضَرّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ ... وَمِنَ البِرِّ مَا يكُونُ عُقُوقَا وسنضرب لكم مثلاً في صفة من الصفات كصفة الاستواء مثلاً، هذه من الصفات التي اشتهر غلط كثير من الطوائف فيها من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من أنواع الطوائف. فمعلوم أن الاستواء هو صفة من صفات الله التي أثنى الله بها على نفسه في سبع آيات من كتابه، وما ذكرها مادحًا بها نفسه إلا مقرونة بأنواع من صفات الكمال والجلال تُبْهِرُ العُقُولَ بعِظَمِهَا، فالسَّلَفِيُّ إذا سَمِعَ اللهَ يَمْدَحُ نَفْسَهُ بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: آية 2] امتلأ قلبه من الإجلال والتعظيم والإكبار لصفة الاستواء، واعتقد اعتقادًا جازمًا أنها ¬

(¬1) في الأصل: «كنت لا تدعي». (¬2) مضى عند تفسير الآية (148) من سورة الأنعام.

منزهة كل التَّنْزِيه، مُقَدَّسة كل التقديس عن مشابهة استواء المخلوقين بجميع أنواعه، فكانت أرض قلبه طيبة طاهرة، وعلى أساس هذا التنزيه العظيم وتنزيل صفات الله بما يليق بالله سهُل عليه أن يؤمن بها إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه على غِرار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] لأن الاستواء ليس أوغل في صفات المخلوقين من السمع والبصر، فيكون هذا السلفي أولاً: مُنَزِّهًا صفة الله عن مشابهة صفات المخلوقين. وثانيًا: مؤمنًا بها على أساس ذلك التنزيه في ضوء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} عالمًا بأنه عاجز عن إدراك الكيفية والإحاطة بالكلّ، فهو مُنَزِّهٌ أولاً، مؤمِنٌ مُصَدِّقٌ ثَانِيًا على أساس التَّنْزِيهِ، واقف عند حَدِّهِ وعِلْمِهِ، فلا يأتيه خطر، ولا يحول حوله غلط. أما من غلط من النُظَّار -مثلاً- فإن بَلِيَّةَ الغَلَطِ جَاءَتْهُ أولاً من تفسير صفات الله بما لا يليق بالله، فصار مبتدئًا بنوع من التشبيه، فجاءته القلاقل والبلابل من التشبيه؛ لأن أقذر قذر عرفه الإنسان: هو تشبيه خالق السماوات والأرض بخلقه -سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا- فيقول مثلاً: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5] الاستواء: معناه الانتصاب المعروف كانتصاب المخلوقين، وهذا مستحيل في حق الله! فجاءته البلية من أنه حمل استواء الله على مشابهة استواء الخلق، وهذا رأس الغلط ومَنْشَأُ البَلِيَّةِ، وليس له فيه حق، كان حقه أن ينزه استواء الله، ويعلم أنه صفة الخالِق، والخَلْق صَنْعَة، فصفة الصانع لا تشبه صفة صنعته، وأنها صفة كمال وجلال منزهة عن جميع أنواع التشبيه. فلما حصل في ذهنه التشبيه أولاً وقع في بلايا لا يقصدها، وشر عظيم لا يريد الوقوع فيه، كما قلنا:

رَامَ نَفْعًا فَضَرّ من غير قَصْدِ ... ومن البرِ ما يكونُ عُقُوقَا (¬1) فيقول أولاً: الاستواء معناه: انتصاب المخلوق هذا الانتصاب المعروف، وهذا لا يليق بالله. فكان مبتدأ قضيته بتشبيه صفة الله التي مَدَحَ بها نفسه بصفة الخلق، وهذا منشأ الغلط وسبب البلية، فلما وقع في ذهنه شيء من أنجاس التشبيه، وأقذار تشبيه الخالق بخلقه سبَّب له بليّة عظمى، ومشكلة كبرى، قال: إذًا لما كان الاستواء غير لائق بالله لا بد أن ننفيه ونؤوله بغيره من صفة لائقة، فقال: إذًا معنى الاستواء: الاستيلاء. والعرب تطلق (استوى) -كما يزعم- وتريد (استولى) ويستدل ببيت الرجز المشهور (¬2): قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مهْراقِ يقول: «قد استوى بشر» معناه: قد استولى، وإذًا: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: آية 2] ثم استولى على العرش. وهذا - أيها الإخوان - غَلَطٌ فاحِشٌ، وإن قال به من قال به، واعتقده من اعتَقَدَهُ، إلا أن المُسْلِمَ يجب عليه الإنصاف والنظر في آيات الله، ولا سيما في صفات خالق السماوات والأرض، فلْيَحْذَرْ مِنَ التعصب. وأنا أوَضِّحُ لكم هذا غاية الإيضاح: فنحن مثلاً لو قلنا لمن قال: استوى معناه: استولى. و «قد استوى بشر على العراق». قلنا له: أيها الإنسان أما تخاف الله؟! أما تستحيي من الله؟ في أي مسوِّغ من كتاب أو سنة، أو أي نقل أو عقل سوَّغت لنفسك أن تُشَبِّه استيلاء الله على عرشه -الذي زعمت- باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟! هل يُعْقَل في ¬

(¬1) مضى قريبًا. (¬2) مضى عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام.

الدنيا تشبيه أخس وأنتن وأوضع من تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟! هذا أخسّ تشبيه عرفه التاريخ وأدناه [15/أ] / وأسفهه وأسحقه، فمن أين سوَّغت لنفسك تشبيه العرش بالعراق، وتشبيه الله ببشر بن مروان؟! ومَنْ بشر بن مروان حتى تشبِّه استيلاء الله باستيلائه على العراق؟! وما هو العراق حتى تشبهه بالعَرْش؟! فأنت أعظم المشبهين نصيبًا في التشبيه، وأكثرهم تشبيهًا، وهذا الباب الذي فتحت، فتحت فيه عن بحور من أنواع التشبيه لا سواحل لها؛ لأنك كنت مشبهًا استيلاء الله على عرشه -الذي زعمت- بكل مخلوق قهر مخلوقًا فغلبه فاستولى عليه، صرت تشبه استيلاء الله باستيلاء كل مخلوق قهر مخلوقًا فغلبه فاستولى عليه!! وهذا تحته من بحور التشبيه بحور لا سواحل لها، وهذا لا ينبغي أيها الإخوان. ولا شك أن هذا الذي حمل الاستواء على مَحْمَلٍ غير لائق، ثم اضطره ذلك إلى أن نَفَى الاستواء، وجاء بدله بالاستيلاء، هو مضطر أن يُنَزِّهَ أحد اثنين: إما أن ينزه الاستواء الذي نَصَّ اللهُ عَلَيْهِ أوَّلاً، أو ينزه الاستيلاء الذي فَسَّرَهُ به. فنقول: الاستيلاء الذي ذكرت استيلاء منزه عن استيلاء المخلوقين، وكيف ينزه عن استيلاء المخلوقين وأنت تسميه استيلاء بشر بن مروان على العراق؟ أليس بشر بن مروان من المخلوقين؟ واستيلاؤه من استيلاء المخلوقين؟ ولكن نحن نقول: هب أنك تقول: إنك لا بد أن تنزه أحدهما فهو الاستواء الذي نص الله عليه في كتابه، أو الاستيلاء الذي جئت به من قِبَل نفسك؟ ونحن نقول: أيهما أحق بالتنزيه؟ الاستواء الذي نص الله عليه في كتابه، وأنزل به ملكًا من فوق سبع سماوات قرآنًا يُتلى بكل حرف منه عشر حسنات، وهو قرآن يتلى، أهذا أحق بأن ينزه أم

الاستيلاء الذي جاء به قوم غير مستند لآية من كتاب الله، ولا حديث من سنة رسول الله، ولا لغة صحيحة معروفة من لغة العرب؟! الجواب: الاستواء أحق بالتنزيه؛ لأنه كلام رب العالمين، وصفات رب العالمين أحق بالتنزيه كما بيناه في الأساس الأول في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] فعلينا -أيها الإخوان- أن لا نمشي مع مَنْ تَكَلَّمَ فِي آيَاتِ الصفات بما لا يليق بالله، وحَمَلَها على محامل غير طيبة وغير لائقة ثم نفاها على ذلك الأساس، كل هذا لا ينبغي لنا، والذي ينبغي لنا أن نجزم ونعتقد أن الوصف الذي مَدَحَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ أنه بالغ من غايات الكَمَال والجلال ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فهو في غاية التنزيه وغاية القداسة والكمال والجلال والتباعد عن شبه صفات الخلق، وعلى هذا الأساس الكريم نؤمن بتلك الصفة على أساس قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} هذا هو الذي ينبغي لنا، ومَنْ مَاتَ مِنَّا عَلَيْهِ مات على طريق واضحة لا لبس فيها ولا إشكال. مات غير مشبِّه ربه بأحد، ولا بقلبه قذر من أنجاس التشبيه، ولا في قلبه تعطيل، ولا جحود بشيء من الصفات، ولا بليّة من البلايا. فنحن في هذه السور الماضية في تفسير آي هذا القرآن -المرة الأولى والثانية التي نحن فيها- بالغنا في بيان هذا جدًّا، ومرارًا نذكر مذاهب المتكلمين في الصفات، وما يسمون به كل صفة منها، وتقاسيمهم لها، ونبين أنها جميعها جاءت في كتاب الله موصوفًا بها الخلق من جهة، وموصوفًا بها الخالق من جهة، وأن صفة الخالق حق، وهي لائقة بالخالق، وصفة المخلوق حق، وهي لائقة

بالمخلوق، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، كررنا هذا مرارًا (¬1). وسأضرب لكم منه بعض الأمثال الآن للتذكار والفائدة: لا يخفى عليكم أَنَّ مِنْ تَقَاسِيمِ المتكلمين للصفات -في العلم المعروف بِعِلْمِ الكلام - أنهم يقسمون الصفات إلى صفة معنى، وما يسمونه: صفة معنوية، وما يسمونه: صفة سلب، وما يسمونه: صفة جامعة، وما يسمونه: صفة فعل، كما هو معروف عندهم. فمن صفات المعاني عندهم، وهي الصفات في اصطلاحهم الدالة على معانٍ وجودِيَّة قائمة بالذات زائدة على الذات، وهؤلاء الذين يؤولون الصفات ينكرون جميع المعاني الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله إلا سبعًا منها، وهي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وينفون غيرها من المعاني الثابتة. وهذا غلط لا شك فيه؛ لأن جميع الصفات من باب واحد، فنحن أولاً نقول في صفات المعاني: إن الله وصف نفسه بالقدرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: آية 148]، ووصف بعض خلقه بالقدرة فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة: آية 34] ونحن نعلم أن الله في كتابه صادق في وصف نفسه بالقدرة، وصادق في وصف بعض خلقه بالقدرة، وأن لله قدرة حقيقيَّةً لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضًا قدرة مناسبة لحالِهِ وعَجْزِهِ وافْتِقَارِهِ والفناء، وبين القدرة والقدرة من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات، فنثبت قدرة الخالق لائقة بالخالق، منزهة عن مشابهة قدرة المخلوق، ونثبت قدرة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (147) من سورة الأنعام.

المخلوق منحطّة لائقة بالمخلوق، منحطّة عن مشابهة قدرة الخالق. ووصف (جل وعلا) نفسه بالسمع والبصر فقال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: آية 1] ووصف بعض خلقه بذلك فقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: آية 28] {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: آية 2] ونحن -أيها الإخوان- لا نشك في أن الله صادق في كتابه أن الله سميع بصير، وأن بعض خلقه سميع بصير، إلا أنا نعلم أن سمع الله وبصره لائقان بكماله وجلاله، منزهان عن مشابهة سمع المخلوق وبصره، وأن سمع المخلوق وبصره ثابتان له حقًّا ثبوتًا لائقًا به، متقهقرًا منحطًّا عن مشابهة صفة الخالق جل وعلا. وقد وصف الله نفسه بالحياة فقال: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: آية 255] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: آية 58] ووصف بعض خلقه بالحياة فقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: آية 30] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: آية 19] {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: آية 15] ونحن لا نشك أن الله صادق في وصفه نفسه بالحياة، وصادق في وصفه خلقه بكتابه بالحياة، ونعتقد أن لله حياة حقيقيَّة لائقة بكماله وجلاله، منزهة عن مشابهة صفات المخلوقين، كما أن للمخلوقين حياة حقيقية لائقة بحالهم، متقهقرة منحطّة عن مشابهة صفة خالق السماوات والأرض (جل وعلا) كانحطاط ذواتهم عن ذاته (جل وعلا). وقد وصف (جل وعلا) نفسه بالعلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ

عَلِيمٌ} [الأنفال: آية 75] ووصف بعض خلقه بالعلم فقال: {نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: آية 53] {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] فنحن لا نشك أن الله صادق في وصفه -في كتابه- نفسه بالعلم، وصادق في وصفه بعض خلقه بالعلم، إلا أن صفة الله لائقة بالله، وصفة المخلوق مناسبة للمخلوق، وبينهما من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق كما لا يخفى. وقد وصف (جل وعلا) نفسه بالكلام قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: آية 164] {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: آية 144] {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} [التوبة: آية 6] ووصف بعض خلقه بالكلام فقال: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: آية 54] {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس: آية 65] إلى غير ذلك، ونحن نجزم بأن لله كلامًا حقًّا لائقًا بكماله وجلاله، وللمخلوق كلام أيضًا مناسب لحاله، وبين هذا وهذا كما بين ذات الخالق وذات المخلوق كما لا يخفى. إلى غير هذا من صفات المعاني. وكذلك ما يسمونه: (صفات السلوب) والسلبية عندهم هي ما يسمونه: القِدم، والبقاء، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق الذي يعبرون عنه بالقيام بالنفس، والوحدانية. هذه هي صفات السلوب المعروفة عندهم. وقد جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها على نحو ما ذكرنا، فما يسمونه: القِدم والبقاء ويزعمون أن الله وصف بهما نفسه في قوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد: آية 3] قد جاء وصف الله نفسه بهما، وهو أعني الأولية والآخرية حيث قال: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} ووصف المخلوقين بالأولية

والآخرية قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (17)} [المرسلات: الآيتان 16، 17] ووصف الخلائق بالبقاء فقال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: آية 96] فوصف ما عند الله من بعض مخلوقاته بأنه باق وقال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: آية 77] ووصف بعض المخلوقين بالقِدَم في قوله: {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: آية 95] {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: آية 39]. واعلموا أن جماعة من السلف أنكروا وصف الله بالقِدَم وقالوا: إنه من مبتدعات المتكلمين، ولا يجوز وصف الله بالقِدَم؛ لأن القِدَم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو تقادم زمن الشيء قديمًا مع كونه مسبوقًا بعدم. وبعض العلماء خالف في هذا وقال: عُرف في الشرع إطلاق القِدم على ما يُطْلِقُهُ عليه المتكلمون؛ لأن القِدَم في اصطلاح المتكلمين هو عبارة عن كل ما لا أَوَّلَ له بشرط أن يكون وجوديًّا، فالقِدَم عند المتكلمين أخَفُّ ممَّا يسمونه (الأزل)؛ لأن الأزل في اصطلاحهم هو كل شيء لا أَوَّلَ له، سواء كان وجوديًّا كذات الله -جل وعلا- متصفة بصفات الكمال والجلال؛ لأن وجود ذاته الكريمة متصفة بصفاتها الكريمة لا أول له، فهي عندهم يُقال له: (أَزَلِيٌّ) ويُقال له: (قديم) في اصطلاحهم، أما المعدوم فلا يُقَالُ له قَدِيمٌ عِنْدَهُم، وإنما يُقال له: أَزَلِيٌّ، فَكُلُّ مَا لاَ أَوَّلَ لَهُ من الأعدام فهو أَزَلِيٌّ عندهم، ولا يُسمى قديمًا كأعدام ما سوى الله، فنحن هؤلاء الموجودون هنا قبل أن نولد كنا معدومين، وَعَدَمُنَا السَّابِقُ لا أوَّلَ لَهُ، فأعدامنا أزَلِيَّةٌ؛ لأنها لا أول لها، ولا نقول: إنها قديمة.

والأظهر أنه جاء ببعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن إطلاق المتكلمين للقِدَم على ما لا أول له من الموجود أن له أصلاً، وأنه لا ينبغي أن يُنكر، وقد جاء في سنن أبي داود في دخول المسجد: «أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (¬1) فأطلق اسم القِدَم على سلطان الله، ومعلوم أنه لا يريد بقِدم سلطان الله شيئًا سبقه عدم، فَقَدْ أَخْرَجَ الحاكم في المستدرك في بعض الطرق التي يزعم أنها صحيحة أن القديم من أسمائه (جل وعلا) (¬2) والله (جل وعلا) أعلم (¬3). والحاصل أن جميع أنواع أقسام الصفات التي يذكرها ¬

(¬1) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول الرجل عند دخوله المسجد، حديث رقم (462)، (2/ 132)، والبيهقي في الدعوات الكبير، حديث رقم (68). قال الحافظ في نتائج الأفكار (1/ 281): «حسن غريب، ورجاله موثقون، وهم رجال الصحيح إلا إسماعيل وعقبة» اهـ. وقال النووي في الأذكار ص46: «حديث حسن، رواه أبو دواد بإسناد جيد» اهـ. وانظر: صحيح أبي داود ص441، صحيح الجامع (4591). (¬2) وذلك في الزيادة على حديث الصحيحين: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا» وهي الزيادة المعروفة التي فيها ذكر الأسماء، وهي زيادة لا تصح، وقد أخرجها الحاكم من طريقين، وجاء اسم (القديم) في إحدى روايتي الحديث عنده. وعقَّب هذه الرواية بقوله: «وعبد العزيز بن الحصين بن الترجمان ثقة وإن لم يخرجاه، وإنما جعلته شاهدًا للحديث الأول» اهـ. (المستدرك 1/ 17). وسيأتي تخريجه عند نفسير الآية (180) من سورة الأعراف. (¬3) انظر: الفتاوى (1/ 245)، لوامع الأنوار (1/ 38)، (تعليق البابطين رحمه الله)، شرح الطحاوية ص57 - 58، كتاب مناهل العرفان دراسة وتقويم ص212، 725.

المتكلمون جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وكل منهما حق، وهذا لائق بموصوفه، وهذا لائق بموصوفه، وبينهما من الفرق كما بينّا. ومن أكبر ذلك: الصفات التي يسمونها: (الصفات الجامعة) التي تدل على العظمة واستلزامها لجميع الصفات، كالكِبَر، والعِظَم، والعلو، والملك، وما جرى مجرى ذلك، فقد وصف (جل وعلا) نفسه بأنه عَلِيٌّ عظيم قال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: آية 255] ووصف بعض خلقه بالعلو فقال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: آية 57] {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: آية 55] ووصف بعض خلقه بالعِظَم فقال: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: آية 63] {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: آية 40]. وصف نفسه بالمُلك فقال: {يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} [الجمعة: آية 1] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: آية 23] وقد وصف [بعض خلقه] (¬1) بالملك {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: آية 54] {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء} [آل عمران: آية 26] إلى غير ذلك من الآيات. ووصف (جل وعلا) نفسه بالكِبَر فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: آية 34] {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: آية 10] ووصف بعض خلقه بالكِبَر فقال: {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: آية 7] {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: آية 31] ونحو ذلك من الآيات. ¬

(¬1) في الأصل: «نفسه». وهو سبق لسان.

وكذلك الصفات التي هي من صفات المعاني على التحقيق، والمؤولون من الكلاميين يزعمون أنها من صفات الأفعال، وهي صفات معنى لا شك فيها، كالرأفة، والرحمة، وما جرى مجرى ذلك. فإن الله وصف بها نفسه قال: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: آية 47] ووصف بها بعض خلقه فقال في صفة نبينا (صلوات الله وسلامه عليه): {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128)} [التوبة: آية 128]. وصف نفسه بالحلم {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: آية 59] ووصف بعض خلقه بالحلم {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: آية 101] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: آية 114] ونحو ذلك من الآيات. وكذلك صفات الأفعال وصف نفسه بها ووصف خلقه بها، وصف نفسه بأنه المعلّم قال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن: الآيتان 1، 2] ووصف مخلوقه بأنه يعلّم، وجمع الوصفين في قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: آية 4]. ووصف نفسه بأنه المُنبئ قال: {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: آية 3]. ولو تَتَبَّعْنَا هَذَا لأَطَلْنَا فيه الكلام، فحَاصِل هذا أن جميع الصفات التي يذكرها علم الكلام جاء بالقرآن العظيم وصف الخالق بها ووصف المخلوق، فيجب علينا أن نتمشى مع القرآن، ونسلك طريق الحق الواضح الذي لا تبعة فيه، ولا غرر فيه، ولا سخط من

رب السماوات والأرض يستوجبه، فنضع كل شيء في موضعه، فنثبت للخالق صفته على وجه الكمال والجلال وغاية التنزيه عن مشابهة الخلق، ونثبت للمخلوق صفته على الوجه الملائم للمخلوق، المناسب للمخلوق، المتواضع المنحط المتسافل عن صفة الخالق (جل وعلا)، ونعلم أن كلاً حقٌّ في موضعه، وأنه لا مناسبة بين صفة الخالق والمخلوق حتى نشبهها بها، أما الذهاب بصفة الخالق إلى صفة المخلوق فهذا غلط لم يقله أحد من السلف الصالح، وهو غلط حدث من مقالات الكلام؛ لأنه لما دخل علم الكلام وصارت الناس تُحكم العقول، ولو كان كذا لكان كذا، وتُجري العقائد على الأقيسة المنطقية جاءت البلايا؛ لأن كلاً يظن صحة الربط بين هذا اللازم والملزوم فينتج منهما قضية، ويكون الربط بينهما منفكًّا فيأتي الآخر ويبين انفكاك الربط بينهما، وصارت مقالات وطوائف كل منهما تكذّب الأخرى، وتُقيم الدليل والبرهان العقلي في زعمها على أن الحق معها والغلط مع غيرها. ونحن نقول: إن الفصل في كل شيء هو هذا المحكم المنزل، والنور الذي أنزله رب العالمين على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يوضح الحقائق، ويكشف ظلمات الجهل، ويبين الحقيقة ناصعة واضحة على وجهها الأكمل، وقد بين لنا الطريق المثلى، والمعتقد الصَّواب الذي لا شك فيه، وهو أنّا نُنَزِّه ربنا عن مشابهة صفات الخلق، ونؤمن بما وصف به نفسه، ونُصَدِّقه على أساس ذلك التَّنْزِيهِ، ونَقِف عند حَدِّنا، ونعرف قَدْرَنَا وقَدْرَ عقولنا ولا نَتَجَاوز حَدَّنَا. هذه طريق القرآن، وهي طريق مأمونة لا غائلة وراءها ولا عاقبة سيئة، وعلى هذا فقوله جل وعلا: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ

إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: آية 99] نقول: هذه صفة مَدَحَ اللهُ بها نَفْسَهُ، وهذا الذي أثْنَى بِهِ على نفسه فهو لا شك أنه في غاية اللياقة والكَمَالِ والجَلالِ، والسلامة من النقص والمباعدة عن مشابهة مكر المخلوقين وصفاتهم، فنثبته ونصدق الله بما وصف به نفسه منزهين ربنا غاية التنزيه، معترفين بالقصور والوقوف عند حدنا كما بين في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110] وقد بينا أن بعض مكر المخلوقين -ولله المثل الأعلى- قد يكون في غاية الاستحسان عند الناس، كما بَيَّنَّا أنه لو كان الرجل في غاية الشر وعِظَم الأذِيَّة على العامة، يقتلُ هذا، ويسبي هذا، ويأخذ مال هذا، ويظلم هذا، والناس عاجزون عنه، حتى جاءه رجل عظيم معروف بالفضل والمروءة والخير واحتال عليه بطرق خفية حتى قدر على قتله وأراح المسلمين منه، فكل الناس يقولون: إن كيدك هذا لفي غاية الكمال، وفي غاية الحسن، وفي غاية اللياقة والقبول عند عقول المخلوقين. هذا في كيد مخلوق، فما ظنك -ولله المثل الأعلى- بخالق السماوات والأرض جل وعلا. يقول الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)} [الأعراف: آية 100]. قوله في هذه الآية الكريمة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ} قال جمهور علماء التفسير: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ} معناه: أولم يُبيِّن للذين؟ فـ (هدى) تستعمل في معنى (بيّن) ومنها هذه كما رُوي عن غير واحد

من علماء التفسير من الصحابة فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فمن إطلاق (هَدَى) بمعنى (بيّن): قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: آية 17] أي: بيّنا لهم على لسان نبينا صالح، فهو هداية بيان لا هداية توفيق، بدليل قوله بعده: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} الآية. ومن إطلاق (هدى) بمعنى البيان والإرشاد: قوله تعالى في الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: آية 3] أي: بينّا له السبيل، وليست هداية توفيق، بدليل قوله بعده: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ} [الأعراف: آية 100] أَوَ لَم يُبَيِّن للذين {يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} اعلموا أولاً أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي تشكل على كثير من المنتسبين للعلم، ويتبيَّن معناها ببيان إعرابها وإيضاح موضع الفاعل والمفعول منها، وفي ذلك ثلاثة أوجه معروفة لا يُكذب بعضها بعضًا (¬1): الأول: أن الفاعل لقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ} ضمير عائد إلى الله {أَوَلَمْ يَهْدِ} هو؛ أي: الله؛ أي: يبين هو، أي: الله {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} وعلى هذا فالمفعول في محل المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: {أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} والمعنى: ألم يبين لهم الله أنه لو شاء إِصَابَتَهُم بذنوبهم لأصابهم بها، وكون الفاعل هنا ضميرًا يعود إلى الله تدل عليه قراءة بعض السلف: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ} بالنون (¬2)، فهي وإن كانت غير سبعية إلا أنها قرأ بها بعض السلف، وهي تفيد في التفسير. وعلى هذا المعنى أن الله بين لهؤلاء الأمم الذين أوْرَثَهُمُ الله في الأرض ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 393). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 349، 350)، الدر المصون (5/ 393).

بعد أن أهلك أهلها، بيّن لهم بإهلاك الظالمين المكذبين للرسل واستخلافهم بعدهم، بيّن لهم بهذا إصابته لهم بذنوبهم لو شاء أن يصيبهم بها كما أصاب مَنْ قَبْلَهم، وهذا وجه لا إشكال فيه. الوجه الثاني: أن الفاعل في قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ} ضمير عائد على ما كان يُذكر من قصص الأمم الماضية، والمعنى: ألم يبين قصص الأمم الماضية من إهلاك الله لها لما كذبت رسلها ألم يبين ذلك للذين يرثون الأرض أن الله قادر على إهلاكهم بذنوبهم كما أهلك من كان قبلهم لما كفروا وكذبوا رسله؟ وعلى هذين الوجهين فالمصدر المنسبك من (أن) المخففة من الثقيلة وصلتها في محل نصب على المفعول به. الوجه الثالث: أن مفعول (يهد) محذوف، وفاعلها هو المصدر المنسبك من (أن) وصلتها، والمعنى: أولم يبين للذين يرثون الأرض إصابتُنا الأمم الماضية وإهلاكنا إياهم ألم يبين لهم ذلك أنَّا لو شئنا لأهلكناهم؟ أولم يبين لهم ذلك وخامة عاقبة أمر من عصى الله؟ وهذا هو حاصل معنى كلام العلماء في هذه الآية، يدور على أن الله (جل وعلا) أهلك الأمم الماضية التي كذبت الرسل كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وبيّن أن ذلك يدل على أن من أهلكهم بذنوبهم لو شاء لأهلك من جاء بعدهم بذنوبهم كما أهلك الأولين، كما قال تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)} [المرسلات: الآيات 16 - 18] وهذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف:

آية 100] معنى: {يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} يخلفون أهلها الذين هلكوا ويسكنون أرضهم بعدهم؛ لأن هؤلاء الجيل يبيدهم الله فيموتوا فيسكن مواطنهم قوم آخرون، فذلك معنى إيراثهم الأرض بعدهم. فالإرث هنا معناه: انتقال شيء كان عند أحد إلى أحد آخر، ولو لم يكن على سبيل الإرث المعروف؛ لأن العرب تطلق في لغتها الإرث على مجرد الانتقال من ميت إلى حي كما هو معروف. وهذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: آية 100] أي: الذين كانوا يسكنونها ودمرهم الله. {أَن لَّوْ نَشَاء} (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن كما هو معروف في محله، وخبرها جملة: {أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} أنه أي: الأمر والشأن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم. اعلموا أن المقرر في علوم العربية أن فعل المشيئة إن اقترن بأداة الشرط فإن مفعوله يُحذف لدلالة جزاء الشرط عليه، وتقدير المفعول المحذوف هنا: أن لو نشاء إصابتهم بذنوبهم أصبناهم بذنوبهم. فحذف المفعول لدلالة جزاء الشرط عليه، وربما أُظهر نادرًا كما قال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ} [الأنبياء: آية 17] الأغلب أن يُقال: لو أردنا لاتخذنا لهوًا، ولكنه هنا ذكر مفعول الإرادة مع جزاء الشرط، وذلك يوجد في كلام العرب في بعض الحِكم، ومنه قول الشاعر (¬1): ¬

(¬1) البيت لأبي يعقوب الخزيمي، مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام.

وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ ... عَلَيْكَ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ هذا معنى قوله: {أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف: آية 100]. قرأ هذا الحرف جماهير القراء غير نافع، وابن كثير، وأبي عمرو: {أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} بتحقيق الهمزتين. وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: {أن لو نشاءُ وَصَبْنَاهُم} بإبدال الهمزة الثانية واوًا (¬1)، وهما قراءتان سَبْعِيَّتَانِ صَحِيحَتَانِ ولُغَتَانِ معْرُوفَتَانِ فصيحتان. وصيغة الجمع في قوله: {نَشَاء} وفي قوله: {أَصَبْنَاهُم} كِلتاهما للتعظيم. وقوله: {أَصَبْنَاهُم} أي: بالعذاب، أصبناهم بالعذاب والإهلاك بسبب ذنوبهم، والذنوب: جمع ذنب، والذنب معروف. أهلكناهم بسبب ذنوبهم ككفرهم ومعاصيهم، وهذا معنى قوله: {أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ}. وأقرب الأقوال وأصحها في قوله: {وَنَطْبَعُ} أنها جملة مستأنفة على التحقيق، أي: ونحن نطبع على قلوبهم، والطبع هنا على القلب معناه الختم عليه والاستيثاق منه حتى لا يصل إليه خير ولا يخرج منه شر، فمعنى (طَبْعُ الله على القلوب) أنه -والعياذ بالله- يختم على قلب المجرم ويطبع عليه بحيث لا يخرج منه شر ولا يدخل إليه خير، كالقارورة إذا ختمتها وطبعت عليها لا يخرج شيء مما فيها، ولا يصل إليها شيء آخر. وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تُصَحِّحُ عَقِيدَةً مِنْ عَقَائِدِ السَّلَفِ المشهورة التي وقع فيها القيل والقال والخلط الكثير، وذلك ¬

(¬1) انظر: إتحاف فضلاء البشر (2/ 55).

لا يخفاكم -أيها الإخوان- أن هذه المسألة التي هي مسألة (الجبر والاختيار والكسب) أنها هي أصعب مسألة في دين الإسلام، وأعقد تخلصًا على العوام؛ لأن الناس انقسمت فيها إلى ثلاث طوائف: طائفة ضلّت في الإفراط، وطائفة ضلت في التفريط، وطائفة خرج من هضمها حقًّا صافيًا كاللبن يخرج من بين فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهو أفعال العبد؛ لأن أفعال العبد، وقدرة العبد، وإرادته، هي أصعب شبهة وقعت في دين الإسلام وأعسرها تخلصًا، ونحن في بعض المرات نهاب أن نثيرها لئلا يقع منها شيء في قلوب بعض الناس الذين لا يعرفون، فيعسر عليهم التخلص منه، وتارة نستعين بالله ونذكرها ونبينها ليرزق الله الهدى في ذلك وتستنير قلوب من وفقه الله. اعلموا أولاً أن من يَتَسَمَّون باسم المسلمين، مِنْ طَوَائِفِهِم التي هي على الحَقِّ والبَاطِلِ انقسمت في كسب العبد إلى ثلاثة أقسام: فطائفة قالت: إن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها -والعياذ بالله- كالمعتزلة. وهذا المذهب ينصره محمود الزمخشري في تفسيره دائمًا، يزعم أن الله لا يريد الشر ولا يخلق الشر، وأن الله أنْزَه مِنْ أَنْ يُرِيد الشر، وأن الشر بمشيئة العبد وإرادته وقدرته من غير تأثير لقدرة الله فيه. وهذا -والعياذ بالله- مذهب باطل باطل، صاحبه يريد أن يسلب الله قدرته -سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا- وهذه الطائفة ضلت في التفريط؛ لأنهم فرطوا في قدرة الله حتى زعموا أنه تقع في ملكه أفعال العبيد من غير قدرته ولا مشيئته!! وهذا تفريط في صفات الخالق (جل وعلا)، فإنه (جل وعلا) لا يمكن أن يقع في خلقه تحريكة ولا تسكينة ولا طرفة عين

إلا بمشيئته وإرادته (جل وعلا) وله الحكمة البالغة في كل ما يشاء. وهذا المذهب الذي يقول: إن العبد يخلُق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها هو الذي ردّت عليه هذه الآية الكريمة الرد الواضح كما ترون؛ لأن الله إذا بيّن أنه هو الذي طبع على قلبه فمنعه من سماع الحق لحكمة كيف يقول الإنسان إن ذلك الشر لم يقع بمشيئته (جل وعلا) فهذه الآية وأمثالها تردّ ردًّا صريحًا على مذهب المعتزلة أقوى رد وأعظمه، فهم ينتحلون شُبهًا وتأويلات كل عاقل يعرف أنها باطلة. المذهب الثاني: هو مذهب الجبرية، وهؤلاء ضلّوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا تأثير له ولا فعل له، وأن هذا كله فعل الله، وأن الله لا يعذب العبد بذنب؛ لأن الله هو الذي شاءه وقدّره عليه، وهذا من أخطر الباطل كما ترون. المذهب الثالث الذي هو الحق: مذهب المسلمين وسلف هذه الأمة وجماعتها: أن العبد خَلَقَ الله له قدرة وإرادة، وله مشيئة وفعل يختار ويفعل ويقدر، إلا أن قدرة الله وإرادته تصرفان قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به العلم الأزلي فيأتيه طائعًا مختارًا. وهنا سنّة سنتكلم عليها لعل الله ينفع بها، فلنضرب مثلاً: مناظرة للجبريّ ومناظرة للقدري: أما مناظرة الجبري فانقطاعه فيها قريب، وهي واضحة؛ لأن الجبري لو قال: أنا لا فعل لي، وهذا فعل الله، وأنا لا أوخذ بشيء من ذلك؛ لأن الله فعل هذا ولا ذنب لي. فإنك لو فقأت عينه، أو ضربته ضربًا مؤلمًا، أو قتلت ولده لا يجعل لك القدر حجة،

ولا يقول: هذا فعل الله وأنت بريء، لا وكلا، بل يسارع كل المسارعة في ضربك وقذفك والانتقام منك مصرحًا بأن هذا فعلك!! وانقطاعه قريب. وأما المشكلة القوية فهي مشكلة المعتزلة الذين يزعمون أن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها. وسنبين لكم إن شاء الله الجواب عنها موضحًا من كتاب الله: اعلموا أولاً أنّا لو فرضنا رجلاً يعتنق هذا المذهب ورجلاً من أهل السنة يتناظران، فقال معتنق هذا المذهب: إن كانت ذنوبي التي أؤاخذ عليها بمشيئة الله، ولست مستقلاً بمشيئتي، فمن أي وجه هو يشاء الذنب فيعذبني أنا عليه؟ وأنا غير مستقل المشيئة، إذ لو كنت مستقل المشيئة لما فعلت إلا ما يرضيه، وقد كتب على البعيد قبل وجوده أنه يرتكب هذا الكفر وهذا الذنب، ولا بد أن يرتكبه؛ لأن علم الله لا يتغير، وما سبق في علمه الأزلي لا بد أن يقع؛ لأن علمه لا يستحيل جهلاً. فيقول: إذا كان الله قدّر عليه - عياذًا بالله - أنه يكفره ويعصيه، ولا قدرة له على التخلص من قدر الله، فبأي ذنب يُؤخذ؟ وأي استقلال له في فعله حتى يؤخذ عليه؟! هذه حجته وأقصى شبهته. فيقول له السُّنّي: جميع الأسباب التي أعطى الله للمهتدين الذين اهتدوا بسببها أعطاكها جميعها، إلا شيئًا واحدًا هو الذي حصل به الفرق، لا حجة لك فيه ألبتة على ربك، فإن هؤلاء الذين اهتدوا، وأطاعوا الله، ودخلوا الجنة، جميع أسباب الهدى التي اهتدوا بها كما أعطاهم الله أعطاك، فالعيون التي أصابوا بها آيات الله، واستدلوا بها على قدرته وعظمته، وأنه الرب المعبود وحده أعطاك عينين مثلها،

وكذلك القلوب التي عقلت عن الله، وأدركت وحي الله، وصارت سببًا للإيمان أعطاك مثلها، فجميع أنواع الأسباب التي أعطاها الله للمهتدين أعطاك مثلها. بقي هنالك شيء واحد هو الذي حصل به التفاوت لم يعطكه وهو تفضله بالتوفيق، فقد تفضّل على هؤلاء بالتوفيق، ولم يتفضل عليك بالتوفيق، فمن هنا حيث إنه تفضّل على هؤلاء ولم يتفضل عليك من هنا حصل الفرق بينكما، وتفضله ليس واجبًا لك عليه حتى تحتج به عليه. ويوضحه بعض المناظرات، فإن المناظرة المشهورة التي دارت بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار من كبار المعتزلة توضح هذا المعنى، وقد بينّاها في هذه الدروس مرارًا (¬1)، وذلك أن المعتزلي الكبير المشهور عبد الجبار جاء يتقرب بهذا المذهب الباطل، وناظره أبو إسحاق الإسفراييي وقطعه في جمع بهذه الحجة التي أصلها القرآن كما سنبينه، فجاء عبد الجبار وقال: سبحان من تنزّه عن الفحشاء! يعني أنه تَنَزَّهَ عن أن تكون السرقة والزنا بمشيئته، فيزعم أن الله أنْزَهُ وأجَلّ وأعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُون السرقة والزنا والضلالة بمشيئته؟ وقال في هذا: سبحان من تنزّه عن الفحشاء. [15/ب] فقال أبو إسحاق: كلمة حق أُريد بها باطل، ثم قال:/ سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرًا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليَّ بالردى، دعاني وسدّ الباب دوني، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟! فقال أبو إسحاق: أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقًّا واجبًا لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبُهت عبد الجبار!! وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب (¬1). وهذا الجواب الذي أجاب به أبو إسحاق هو مضمون قوله: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: آية 149] حجته البالغة على خلقه هي تفضله بالهدى، فمن شاء أن يتفضل عليه بالهدى فهو فضل منه، ومن لم يتفضل عليه فما ظلمه، وقد أنصفه من جميع النواحي، ومن أعطي فضله ففضل، ومن مُنِعَهُ فعدل كما ذكرنا. ومما يوضح هذا ما يذكرون عن عمرو بن عبيد (¬2) - وهو من كبار المعتزلة المشهورين المعروفين بالعبادة والنسك - أنه جاءه بدوي وقال له: يا شيخ ادعُ الله أن يردَّ عليّ دابتي، سرقوها. فقام عمرو بن عبيد يتقرب بهذا المذهب الباطل، وقال: اللهم إنها سُرقت ولم تُرد سرقتها؛ لأنك أكرم وأنزه وأجلّ من أن تريد هذه القذرة القبيحة. فالبدوي أعرابي جاهل، قال له: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دُعائك الخبيث، إن كانت سُرقت ولم يُرد سرقتها، فقد يُريد ردّها ولا تُرد، فربٌّ يقع في ملكه ما لا يشاء لا ثقة لي به. فألقمه حجرًا!! ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

والتحقيق في هذا المعنى أن الله خلق للعباد قُدرًا وإرادات يقدرون بها ويريدون، والله (جل وعلا) أقام عليهم الحجة من جميع الوجوه، فتفضّل على بعضهم بالتوفيق، ولم يتفضّل على بعضهم، وتفضُّله فضل منه، وعدم تفضّله بملكه المحض عدل منه، فهو (جل وعلا) يصدُر منه إما فضل وإما عدل، وليس هنالك ظلم لأحد. أما المخلوقون فلا شك أن لهم قُدرًا وإرادات، وعامَّة العقلاء يطبقون على أن هنالك فرقًا بين حركة اليد الاختيارية والحركة الارتعاشية كحركة [المحموم] (¬1) كما لا يخفى على أحد، وأن الله خلق للعبد قدرة وإرادة، وأقدره بتلك القدرة والإرادة على فعل ما يشاء مما هو في مقدوره، إلا أن قدرة الله وإرادته تصرف قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به العلم الأزلي، فيأتيه العبد طائعًا في غاية الطوع، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: آية 30] فصرح بأن للمخلوقين مشيئة، وأنهم لا يشاءون إلا ما شاءه الله، والله (جل وعلا) قد عَلِمَ في أزَلِهِ ما تَسْتَحِقّه عبيده، فمنهم من هو أهْلٌ لِلْخَيْرِ وفَّقَهُ للخير، ومنهم من هو أهل للشر وفّقه للشر، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سأله أصحابه عن هذه الشبهة، قال: «كل ميسر لما خُلق له» (¬2). والمعنى: أن الله خلقهم وأمرهم وسيوفق كُلاً منهم إلى ما سبق له به العلم الأزلي في الكتاب. وهذا كلام موجز عن قضية الكسب، فعلينا أن نَعْلَمَ أنَّ اللهَ خَلَقَ لنا قُدرًا وإرادات نؤاخذ بها، وأنّا نأتي الأفعال طائعين، ولنا قدرة ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

مخلوقة وإرادة مخلوقة كلتاهما خلقها الله بقدرته وإرادته، فربنا يصرف إراداتنا ومشيئاتنا وقُدرنا إلى ما سبق به علمه الأزلي فنأتيه طائعين. نرجو الله (جل وعلا) أن يوفقنا إلى ما يرضيه منّا، ولا يصرف قلوبنا إلا لما يرضيه. وهذا معنى قوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: آية 100]. اعلموا أن السمع في القرآن وفي اللغة يُطلق إطلاقين: يُطلق السمع على ما سمعه الإنسان وسَمِعَتْهُ أُذُنُه فوَعَاهُ قَلْبُهُ. ويُطلق السمع على القبول والاستجابة، ومن إطلاق السمع على القبول والاستجابة: قوله في الصلاة: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» أي: لمن أطاعه فاستجاب له. فالعرب تقول: سمعًا وطاعة. أي: إجابة وقبولاً، ومنه هذه الآية. فقوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} السمع المنفي هنا هو سمع الطاعة والقبول. أي: إن الله إذا طبع على القلوب فالأسماع تسمع ولكن ذلك السمع لا ينشأ منه طاعة ولا قبول، والله (جل وعلا) بين أنه إذا وقع على القلوب مثل هذا الطبع وما جرى مجراه أنهم لا يستطيعون أن يسمعُوا. ونفي الاستطاعة ذكره في آيات كقوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: آية 20] فنفى عنهم استطاعة السمع. وكقوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: آية 101] وقال (جل وعلا) في الفرقان: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان: آية 9] وهذه الاستطاعة نفيها إنما هو بحسب مشيئة الله من معاقبة الإنسان على ذنب، لأن هذه الآيات فيها سؤال معروف مشهور لطالب العلم أن يسأل عنه ويُجاب عنه، وهو أن يقول طالب العلم: إن الله في غاية الإنصاف والعدالة، فهو (جل وعلا) منصف عدل في

غاية الإنصاف والعدالة؛ وفي هذه الآيات بيَّن أنه طبع على قلب هذا الإنسان، قال في بعض الآيات: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة: آية 7] {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: آية 100] {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: آية 57] ومن جُعل على قلبه الطبع والختم، وجُعل في عينه الغشاوة، وفي أذنه الوقر، فهذا في حكم العاجز، فعلى هذا يكون في هذه الآيات شبهة للجبرية، فنحن نقول: إن القرآن العظيم بيّن أن هذا الطبع وهذا الختم والإزاغة النهائية عن الحق لا يأتي الإنسان إلا بسبب ذنب من ذنوبه، فهو جزاء وفاق على بعض الذنوب، وذلك ما دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كثيرة أن الله (جل وعلا) يُسَبِّبُ للإنسان الضَّلالة بِسَبَبِ ارتكاب الذنوب كما يسبب له الهدى بسبب الطاعات، فالعبد إذا سارع إلى الكفر، وتكذيب الرسل، وإلى ما يُسخط الله عاقبه الله بأن زاده ضلالاً فوق ضلاله، وظلامًا على ظلامه، وجاءه هذا الطبع بسبب كفره وبغيه وتمرده على الله. وقد بيّن (جل وعلا) هذا في آيات كثيرة كقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] (الباء) في قوله: {بِكُفْرِهِمْ} سببية، فبيّن أن هذا الطبع بسبب كفرهم الذي سارعوا إليه، وكقوله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: آية 3] وكقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5] ما أزاغها بالطبع والختم حتى بادروا إلى الذنوب والكفر فعاقبهم الله وجزاهم جزاء وفاقًا، وكقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: آية 10] وكقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}

[التوبة: الآيتان 124، 125] والآيات القرآنية كثيرة في هذا، ومن هنالك يُعلم أن الحسنات وطاعة الله أن الله يجعل ذلك سببًا لهدى عبده، كما أن السيئات والمبادرة إلى ما لا يرضيه تكون سببًا للرّين على القلوب والطبع عليها كما قال: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية 14] وقال في الهدى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: آية 17] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: آية 69] وأمثال ذلك من الآيات. قوله جل وعلا: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: آية 100] قوله تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} هنا أن موضع هذا الطبع القلوب، والقلوب: جمع القلب، وهو عضو من الإنسان معروف على هيئة شكل حب الصنوبر وهو معروف، وكون الطبع محله على القلوب يبين أن مركز العقل هو القلب كما أشرنا له مرارًا (¬1)، وإنما بينّا هذا مرارًا لئلا تبقى الناس مصدّقة للكفرة الملاحدة الإفرنج، مكذّبة لله ولرسوله، فالقرآن العظيم في عشرات الآيات، والسنة النبوية في أحاديث صحيحة كلها مطبقة على أن مركز العقل هو قلب الإنسان لا دماغه؛ لأن الله يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: آية 46] فصرح بأن العقل والإدراك بالقلوب لا بالأدمغة، ثم قال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] ولو كان الإدراك ليس في القلب الذي في الصدر لما كان له عمى ولا إبصار، ولم يقل الله يومًا ما: ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس، لم يقل هذا أبدًا، وإنما قال: {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

الصُّدُورِ} وقال جل وعلا: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} فبين أن الفِقه منفي عن محله الذي يفقه به وهو القلب، والآيات على هذا لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم، أن العقل الذي به الإدراك محلّه في القلب، والآيات الدالة على هذا كثيرة، والأحاديث لا تكاد تحصيها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ» ثم فسرها صلوات الله وسلامه عليه قال: «أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ» (¬1). ولم يقل: «ألا وهي الدِّمَاغ». هذا أمر معروف، ومعروف أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية طافحة بهذا، والغريب أنك ترى عامّة من ينسبون للإسلام يضربون بهذه النصوص الحائط ويزعمون كلهم بأن مركز العقل الدماغ!! ونحن نعلم أن الله هو الذي خلق العقل، وهو الذي وضعه في محله، ولا شك أن من خلقه وأبرزه من العدم إلى الوجود، ووضعه في محله أنه أعلم بمحله من الملاحدة الذين يبرهنون على ما يزعمون بفلسفات قد لا تكون مَبْنِيَّة على مقدمات يقينية، ولا ينبغي للمسلم أن يضرب بالقرآن عرض الحائط. فالآيات القرآنية لا تكاد في المصحف تحصيها دالة على أن العقل في القلب؛ لأنه دائمًا يذكر القلوب ويجعل الإثم مكانه القلب، والتقوى مكانه القلب فالله، يقول: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: آية 283] [ولم يقل:] (¬2) «إنه آثم دماغه» يومًا ما!! وقال جل وعلا: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: آية 32] ولم يقل: «من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة تم بها المعنى.

تقوى الأدمغة» يومًا ما. فالقرآن طافح بهذا بكثرة، والسنة النبوية طافحة بهذا بكثرة. أما الذين يقلدون ملاحدة الإفرنج فهم على نوعين: من جاء منهم بطريق لا تُكذب القرآن فما علينا منه، ومقالته لا نتعرض لها؛ لأن كل ما يصعب علينا هو ما يعارض نصوص السماء التي أنزلها خالق السماوات والأرض، فإذا جاء بما يخالفه مخالفة قطعيّة وجب علينا أن نرد عليه ونكذبه، وإن كان لم يكن هناك مخالفة فمَنْ عنده دليل خاص فليُبْرِزه، ومن ليس عنده فليسكت. وهنا تجب مسألة: يجب على المسلمين أن يتحفظوا كل التحفظ من أن يُحَمّلُوا القرآن ما لا يحتمله، فعلينا أن لا نقول: إن الله قال في كتابه هذا إلا بعد اليقين الجازم والتحري العظيم، خوفًا أن يكون ذلك الظاهر الذي نفهمه غير المراد فنقول على الله بغير حق، ويكون الحق عند غيرنا. هذا أمر يجب أن يُتحفظ منه. ولكن الآيات القرآنية الدالة على أن العقل في القلب لا تكاد تحصيها، وهو أمر قطعي لا نزاع فيه. أما الذين قالوا من فلاسفة الملاحدة: إن مركز العقل مثلاً: القلب، ولكن نوره روحاني يمتد نوره فيتصل شعاعه بالدماغ؛ ولذا من قال: إنه في الدماغ لم يكذب لاتصال أحد طرفيه به، من قال هذا وجاء بهذا فما علينا منه، وقد يمكن أن يكون صادقًا، ولم يأتِ بما يخالف نصوص ربنا، فلو قال هذا فهو أهون. أما الذي يقطع علاقة العقل بتاتًا بالقلب، ويقول: كله في الدماغ. فهذا الذي نقول له: كذاب، كذاب، كذاب؛ لأن الله يقول: إنه في القلب.

وهذه الفكرة أن شعاعه يتصل بالدماغ، وأنه بين هذا وهذا، فمن قال في القلب فقد صدق، كما جاء به الوحي، ومن قال في الدماغ بهذا الاعتبار فقد صدق لاتصال نوره به. من قال هذا فقوله أهون، والمسألة على قوله أسهل؛ لأنها لا تستلزم تكذيب الله. ومعلوم أن البحث في العقل بحث فلسفي معروف، وأن الفلاسفة بحثوا في العقول أكثر من مائة نوع من البحوث مختلفة، ومنها بحثهم في محل مركزه، وقدماء الفلاسفة كانوا يستدلون على أن مركز العقل الدماغ، ويستدلون بما إذا نُظر في الاصطلاح إذا هو شرطيّ مركب من شرطية متصلة لزومية، يظنون أنها لزوميّة وهي اتفاقية!! وإيضاح ذلك: أنهم بحسب الاستقراء والتتبع وجدوا كل ما يؤثر على الدماغ من جميع المؤثرات يضر بالعقل، وهذا أمر مُشاهد لا نزاع فيه؛ لأن كل ما يضرّ بالدماغ يؤثر على العقل، فَزَعَمُوا مِنْ هُنَا أنَّ مَرْكَزَهُ الدماغ لتأثره بما يؤثر عليه، فقالوا: في الشرطية المتصلة المذكورة: لو لم يكن محله الدماغ لما تأثر بجميع المؤثرات على الدماغ، لكنه تأثر بها، ينتج: محله في الدماغ. ومتأخروهم يزعمون أن عندهم آلات رصدوه بها حتى رأوا حركة الفكر أنها في الدماغ. وعلى كل حال فهذه النظرات الفلسفية إنما يُنظر فيها إذا لم تخالف نصوص كتاب الله، ومقصودنا أن ننبهكم على أن لا تنجرفوا مع أقوال الكفرة، ضاربين بقول خالق السماوات والأرض الحائط، وأن لا تقبلوا إلا شيئًا يمكن ألا يكون مخالفًا لكتاب الله كما أشرنا إليه، وهذا معنى قوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: آية 100].

ثم إن الله قال: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} [الأعراف: آية 101] الإشارة في قوله: {تِلْكَ} إشارة للقرى، ومعلوم أن (القرى) وما جرى مجراها أنه يعامل معاملة المؤنثة المجازية التأنيث. والقرى: جمع قرية على غير مثال، والقرى المشار إليها هي ما تقدم ذكرها في آيات سورة الأعراف الماضية؛ كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب كما تقدم قصصهم مفصلاً (¬1). {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} بعضهم يقول: {تِلْكَ} مبتدأ، و {الْقُرَى} خبره، و {نَقُصُّ} جملة حالية، كقوله: {وَهَذَا بَعْلِي شيخًا} [هود: آية 72] على أن (هذا) مبتدأ، و (بعلي) خبره، و (شيخا) حال، ولهم فيه غير ذلك (¬2). وبعضهم يقول: إن (تلك) مبتدأ و (القرى) نعته. وهذا مبنيٌ على ما يقوله جماعة من النحويين أن أسماء الأجناس الجامدة أنها ربما نُعِت بها ووُصِفَ بها، وبه قال جماعة من علماء النحو كما هو معروف في محله. وقوله: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} [الأعراف: آية 101] صيغة الجمع للتعظيم، ومعنى: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} نتلوا عليك أخبارها في هذا الكتاب العظيم. والأنباء: جمع النبأ وهو الخبر، وقد قَدَّمْنَا مرارًا (¬3) أن النبأ أخص من الخبر، فكل نبأ خبر وليس كل خبر نبأ؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على الخبر الخاص، وهو الخبر الذي له خطب وشأن، كما قلنا: إنك لا تقول: جاءني اليوم نبأ عن حمار ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 328). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 397). (¬3) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

الحجام؛ لأن حمار الحجام لا خطب له ولا شأن، فلا يطلق فيه النبأ، وإنما يطلق فيه الخبر. وإنما كانت هذه الأنباء عن هذه القرى أخبار لها خطب وشأن؛ لأنها دَلَّتْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ الله، وعلى صبر أنبيائه، وعلى شدة بطشه وعدالته وإنصافه، وإهلاكه للظالمين، وأن فيها من التخويف للموجودين من عذاب الله وسخطه ما ينهاهم أن يقع منهم مثل ما وقع من الأوَّلِين، ولذا كان لها شأن وخطب؛ ولذا قال: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} [الأعراف: آية 101]. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} اللام مُوطئة لقسم محذوف، وقوله: {جَاءتْهُمْ} ضمير جماعة الذكور راجع إلى سكان القرى المعبّر عنهم بقوله: {تِلْكَ الْقُرَى} فأنث في قوله: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} نظرًا إلى لفظ القرى، وذكَّر في قوله: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ} نظرًا إلى سكانها. وبعض العلماء يقول: القرى تطلق إطلاقين: تطلق على الأبنية، كما تطلق على السكان. وعلى هذا فلا إشكال. {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} قد قدمنا فيما مضى (¬1) أن البينات جمع بينة، وأن البينة هي الحجة القاطعة التي لا تترك في الحق لبسًا، ومنه (البينات في الشهادات)؛ لأنها شهادات قوم عدول لا تترك في الحق لبسًا، فالبينات: الحجج الواضحة البينة التي لا تترك في الحق لبسًا. ومعنى (البينات) هنا على التحقيق: المعجزات؛ لأن الله ما أرسل نبيًّا قط إلا ومعه معجزة تُقارب التحدِّي، يعجز عنها الخلق، فتثبت بها نبوته؛ لأن إثبات الله للمعجزات للرسل هي بمثابة قوله ¬

(¬1) مضى عند نفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

لهم: أنتم صادقون في خبركم عني. فهي تصديق من الله لهم؛ لأنه ما خرق لهم العادة وقت التحدي وجاء بهذا العلم الخارق الذي لا يقدر عليه غيره إلا ومعناه عنده: أنت صادق يا عبدي فيما تنقل عَنّي. فهو تصديق من الله، ولذا سُمِّيَ مُعْجِزَة؛ لأن المعجزة فعل خارق يحصل عند التحدي لا يقدر عليه البشر (¬1). وقد ذكرنا فيما مضى في الكلام على قوله: {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ} [الأعراف: آية 73] تصريف هذه الكلمة، وما جاء من أمثلتها في القرآن ببعض أمثلتها (¬2)، وكان ذلك الذي ذكرنا هنالك سقط منه قسم نسيانًا، وكنا نتحرى إن جاءت لها مناسبة أخرى أن نبيّن القسم الذي سقط من كلامنا سهوًا لئلا يضيع على بعض طلبة العلم الذين يسمعون هذه الدروس. ذكرنا فيما مضى أن (البينة) أنها صفة مشبهة من (بان يبين) فهو (بيّن) والأنثى (بينة) بمعنى: وضح. وأنها المعجزة الواضحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في الحديث الصحيح أن الله ما أرسل رسولاً إلا أتاه بمعجزة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ إِلا أُوتِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» (¬3). هذا حديث صحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ما بعث نبيًّا قَطُّ إلا أعْطَاه ما آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، أي: معجزة تفحم الناس وتلزمهم الحق كما هو واضح. ¬

(¬1) في هذا الموضوع راجع: كتاب مناهل العرفان للزرقاني، دراسة وتقويم (1/ 292 - 310). (¬2) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام.

وقد ذكرنا فيما مضى (¬1) أن البينة جاء من تصاريفها في القرآن ولغة العرب أربعة تصاريف، واحد منها مجرد وثلاثة مزيدة -وهذا محل النسيان- لأنها جاءت على خمسة أنواع، أربعة منها مزيدة وواحد مجرد، ومن هنا وقع الغلط، وكنا نريد إذا جئنا بمناسبة كهذه أن نتدارك النسيان السابق لنبين القسم الذي سقط. اعلموا أولاً: أن هذه المادة أعنى مادة (الباء والياء والنون) (ب، ي، ن) جاء منها لفظ (بان) ثلاثيًّا مجردًا، ومنه هذه؛ لأن قوله: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} [الأعراف: آية 101]، البينات: وزنه (فيعلات) وهو من (بان) الثلاثية بلا نزاع عند من يعرف فن الصرف معرفة معروفة، فـ (بان) الثلاثي المجرد دل عليه قوله: {فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ} {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} [الأنعام: آية 157] لأنها (فَيْعِلَة) وهي من (بان) الثلاثية المجردة بلا نزاع عند مَنْ له إلمام بموازين الصرف وأصوله. هذا الوجه المجرد، وهذا لازم في القرآن، وفي اللغة العربية، ولم يُسمع متعديًا بقية الأوزان الأربعة المزيدة التي تُستعمل لازمة ومتعدية. ذكرنا فيما مضى منها ثلاثة، وهي: (أبان) بزيادة الهمزة على وزن (أفعل) ومن هذه المادة قوله في جميع القرآن: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الدخان: آية 2] {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل: آية 1] لأن المبين هو الوصف من (أبان) الرباعية بالهمزة بلا نزاع عند من له إلمام بالفن. [وقد قدمنا الكلام على هذه المسألة] (¬2) ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

فقد بينَّا (¬1) أن (أبان) بالهمزة تكون متعدية وتكون لازمة، وذكرنا شواهد ذلك، وقلنا: إن من إتيانها متعدية: أبان حجته، وأبان للناس ما كان يخفى عنهم، وأنها تأتي لازمة، ومنه: {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: البين الواضح، ومنه لازمًا قول كعب بن زهير (¬2): قَنْواء في حُرتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مبينٌ وفي الخَدَّيْنِ تَسْهيلُ وقد بينا هذا فيما مضى. الثاني من الأوزان المزيدة: (بيَّن) بالتشديد على وزن (فعَّل) بتضعيف العين، وهذه في القرآن كثيرة كما قال: {نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ} [المائدة: آية 75] وهي كثيرة في القرآن العظيم، وهي تأتي في كلام العرب أيضًا متعدية ولازمة، وذكرنا شواهدها لازمة كما في مثل: (قد بيَّنَ الصبحُ لذي عينين) (¬3) إلى آخر ما ذكرنا من شواهدها. الثالث: (استبان) على وزن (استفعل) وقد ذكرنا أنها تأتي متعدية أيضًا ولازمة، وأن تعديها ولزومها جاء مثالهما في القراءتين في قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: آية 55] لأنه فيه قراءتان سبعيتان (¬4) {ولتستبين سبيلَ المجرمين} {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} فعلى قراءة: {سَبِيلُ} بالرفع، فـ (تستبين) لازمة معناه: تظهر وتتضح، وعلى قراءة: {سبيلَ المجرمين} فـ (تستبين) متعدية للمفعول، تستبين أنت يا نبي الله {سبيلَ المجرمين} أي: ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬4) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

تعلمها وتعرفها حتى تتضح لك، هذه الأوزان التي ذكرنا، والذي نسيناه في ذلك، وهو سبب الرجوع لهذا الكلام: الوزن الرابع من المزيد وهو قوله: (تبيَّن) على وزن (تَفَعَّلَ) بزيادة التضعيف والتاء، وهذا موجود في القرآن بكثرة، وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: آية 114] {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: آية 45]. (وتبين) أيضًا بزيادة التاء مع التضعيف تأتي في لغة العرب لازمة ومتعدية، مثال إتيانها لازمة: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: آية 45] {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله} وقد سُمعت في كلام العرب متعدية، ومن سماعها متعدية قول الشاعر (¬1): وَلَمَّا تَزَايَلْنا من الجزعِ وانْتَأَى ... مُشَرِّقُ رَكْبٍ مُصْعِدًا عَنْ مُغَرِّبِ ... تَبَيَّنْتُ أَلاَّ دَارَ مِنْ بَعْدِ عَالجٍ ... تَسُرُّ وَأَلاَّ خُلَّة بَعْدَ زَيْنَبِ فالمصدر المنسبك في قوله: «أن لا دار» في محل المفعول لـ (تبين). فنحن نذكر هذه المناسبات؛ لأننا نعلم أن القرآن العظيم هو مصدر العلوم، وله في كل علم بيان، فنتطرق الآية من وجوهها، وقصدنا انتفاع طلبة العلم؛ لأن القرآن أصل عظيم تُعرف به أصول التصريف والنحو وأصول الفقه والتاريخ والأحكام إلى غير ¬

(¬1) البيتان للبحتري، وهما في ديوانه ص (1/ 88) وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) البيت الأول بلفظ مغاير، لكن لما كانت بعض الكلمات غير واضحة بسبب ضعف التسجيل أثبته كما في الديوان.

ذلك من جميع النواحي، فنحن جرت عادتنا بأن نتطرق الآية من جميع نواحيها بحسب الطاقة لينتفع كل بحسبه. [16/أ] /يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)} [الأعراف: الآيات 101 - 105] اللام موطئة لقسم محذوف، والله لقد جاءتهم. والضمير في قوله: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ} عائد إلى الأمم المذكورة في قوله: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} والله لقد جاءت تلك القرى التي قصصنا عليك من أنبائها رسلهم بالبينات، فجاء نوح قوم نوح، وهود عادًا، وصالح ثمود، وقوم لوط لوط، وقوم شعيب شعيب. هذه الرسل جاءت هذه الأمم. وهذا معنى قوله: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} والله {لَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ} [الأعراف: آية 101] من عندنا، أي: من عند خالقهم {بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالأدلة الواضحة، وهي المعجزات؛ لأن الله ما أرسل نبيًّا قط إلا ومعه معجزة تثبت قوله وتقوم بها الحجة على من أُرسل إليهم. وقوله: {رُسُلُهُم} الرسل (¬1) جمع رسول، والرسول هو من أُرسل بشيء إلى غيره، وأصل الرسول مصدر، وإتيان المصادر على ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

(الفَعُول) قليل، كالقبول والولوع والرسول، وإنما قلنا: إن أصل الرسول مصدر لأن ذلك يزول به بعض الإشكالات في القرآن؛ لأن الرسول أصله مصدر بمعنى الرسالة، ومنه قول الشاعر (¬1): لقد كذبَ الواشُونَ ما فُهتُ عندهم ... بقولٍ ولا أَرْسَلتُهم برسولِ أي: ما أرسلتهم برسالة، وإنما قلنا: إنه مصدر لأن كونه مصدرًا يزيل بعض الإشكالات؛ لأن المصادر إذا وُصف بها ونُعت بها جاز إفرادها وتذكيرها من غير جمع؛ ولذلك جاز إفراد الرسول في حالة التثنية والجمع نظرًا إلى أن أصله مصدر، ومن إفراده في التثنية: قوله تعالى في الشعراء: {فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 16] وقد ثنَّاه في طه في قوله: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: آية 47] فإفراده وهو تثنية نظرًا إلى أن أصله مصدر، وتثنيته اعتبارًا بوصفيَّتِهِ الطَّارِئَة وقطعًا للنظر عن مصدريته الأصلية، وسُمع في كلام العرب إطلاق الرسول على الجمع بلفظ المفرد، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (¬2): أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو ... لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَواحِي الخَبَرْ إذا علمت أن أصل الرسول مصدر، وأنه وُصف به، فإذا جُمع كقوله: {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} أو ثُنِّي كقوله: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه: آية 47] فذلك للاعتداد بالوصفية العارضة، وإذا أُفرد كقوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 16] فذلك نظرًا إلى المصدرية الأصلية كما لا يخفى. ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

قوله: {بِالْبَيِّنَاتِ} أي: المعجزات. وقوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} [الأعراف: آية 101] هذه الآية الكريمة فيها أوجه عديدة من التفسير، معروفة عند علماء التفسير (¬1)، لا يرجحون منها شيئًا، وأظهرها عندي واحد لدلالة القرينة القرآنية هنا عليه، وكثرة ما يدل عليه في القرآن، فمن هذه الأوجه المذكورة في تفسير هذه الآية: أن المعنى: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بعد الموت إذا بُعثوا وردوا {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} في دار الدنيا التي هي وقت الإيمان، وهذا الوجه قال به جماعة من العلماء، واستدلوا له بمطابقته لقوله جل وعلا: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] ومن أوجه التفسير في هذه الآية: ما قاله بعض أهلِ العلم: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بعد مجيء الرسل بالمعجزات {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قبل مجيء الرسل بالمعجزات، واستأنس أهل هذا القول بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: آية 6]. وقال بعض العلماء: هي لقوم لم يؤمنوا طوعًا ليلة أخذ الميثاق التي سيأتي الكلام موضحًا عليها -إن شاء الله- في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف: آية 172] على أحد الوجهين: أن الله أخرجهم من أصلاب آبائهم في صفة الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وأن بعضهم شهد كرهًا لا طوعًا، وهو بطوعه ليس بمؤمن، قالوا: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} [الأعراف: آية 101] بعد ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 7)، القرطبي (7/ 255)، الأضواء (2/ 328).

مجيء الرسل بما كذبت أرواحهم ليلة طلب الإيمان منهم كالذر، وهذا قال به جماعة من أهل العلم، ولا يخلو من بُعد، إلى غير ذلك من أوجه التفسير في الآية. والذي يظهر لنا صوابه لدلالة القرينة هنا عليه، والآيات القرآنية عليه: هو أن معنى هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف هو الذي قدمناه موضحًا في سورة الأنعام، وإيضاح ذلك: أن الله إذا أرسل الرسل إلى خلقه قام المُتَنَطِّعون الكفرة فبادروا إلى الكفر وتكذيب الرسل، والمبادرة إلى ذلك التكذيب يكون ذنبًا عظيمًا يمنعهم الله بسببه أن يؤمنوا بعد ذلك، فيزيغ قلوبهم ويطبع عليها ويختم، ويبعدهم عن الخير نتيجة لمسارعتهم إلى ذلك الشر. وإنما قلنا: إن هذا الوجه هو أظهر الأوجه لدلالة القرآن عليه لأمرين: أحدهما: القرينة المقترنة به هنا، وهو أنه قال: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي: لأن الله طبع على قلوبهم بسبب تكذيبهم السابق؛ ولذا قال بعده مقترنًا به: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: آية 101] كذلك الطبع الذي منعهم من أن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك الطبع يطبع الله على قلوب الكافرين، وقد صرح (جل وعلا) في آيات من كتابه أن هذا الطبع يقع بسبب كفر سابق كما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: آية 3] فبين أن الطبع بسبب كفر سبقه. وكذلك قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] ومن أوضح ما يوضح هذا المعنى آية الأنعام، وهي قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام:

آية 110] على أظهر التفسيرات، أي: نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالطبع والختم والغشاوة عليها وإزاغتها عن الحق {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} كما أنهم سارعوا إلى الكفر أول مرة عاقبناهم بعدم الهدى -والعياذ بالله - كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5]، {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: آية 10] {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: آية 125] {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: آية 82] {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: آية 64] وهذا معنى قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ} [الأعراف: آية 101] أي: كذلك الطبع الذي طبع الله على قلوب هؤلاء الأمم الذين كذبوا رسلهم يطبع الله على قلوب الكافرين طبعًا مانعًا لهم من الإيمان لتكذيبهم السابق ومبادرتهم إلى الكفر والعياذ بالله. {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)} [الأعراف: آية 102]. (ما): نافية. وصيغة الجمع في (وجدنا) للتعظيم، و (وجد) هنا علمية. والمعنى: {وَمَا وَجَدْنَا} ما علمنا. ومعلوم أن (وجد) في اللغة من أخوات (عَلِمَ) وهذا أظهر الأقول فيها هنا (¬1). {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم} أي: لأكثر الأمم السابقة. وقال بعض العلماء: لأكثر الخلق ما وجدنا لهم {مِّنْ عَهْدٍ} (مِنْ) دخلت على المفعول به، فالأصل: ما وجدنا لهم عهدًا. ولكن (من) إذا دخلت على النكرة في ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 400).

سياق النفي نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم (¬1). والعهد: هو ما تجب المحافظة عليه والوفاء به. والأصل: ما وجدنا لأكثرهم عهدًا. ويُفهم من قوله: {لأَكْثَرِهِم} أن هنالك عددًا قليلاً لهم عهد. وهذا هو ظاهر الآية؛ لأن الذين هم الأكثر لا عهد لهم. ثم قال: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (إن) هذه وهذه (اللام) فيها خلاف معروف بين البصريين والكوفيين، المذهب المشهور عند علماء العربية وهو مذهب البصريين أن (إن) مخففة من الثقيلة، وأنها مهملة، وأن (اللام) فارقة بين (إن) المخففة من الثقيلة، وبين (إن) النافية، ولا يكاد هذا يوجد إلا مع الفعل الناسخ كما هنا؛ لأن (وجد) كـ (علم) وغيرها من أفعال القلوب. ومذهب الكوفيين يقولون: إن (إن) نافية، و (اللام) بمعنى (إلا). وهو غريب. والمعنى عندهم: وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين. والناس على ارتضاء مذهب البصريين دون مذهب الكوفيين في هذه (¬2). وقوله: {مَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: آية 102] بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا عهد لهم - والعياذ بالله - لأن من لا عهد له لا خير فيه؛ لأن كل التكاليف عهود. ومن لا يفي بعهد لا يطيع الله في شيء، وقد جاءت آيات قرآنية كثيرة تبين ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المصدر السابق (5/ 399 - 400).

أن أكثر الخلق لا خير فيهم كقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} [غافر: آية 59] {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: آية 100] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: آية 103] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8)} [الشعراء: آية 8] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} [الصافات: آية 71] إلى غير ذلك من الآيات. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نصيب الجنة مِنَ الألْفِ وَاحِد، وأن نصيب النار من الألف تسع وتسعون وتسعمائة. ولما شق ذلك على أصحابه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بكثرة الكفار، وأنه يمكن أن يكون من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد، وهذا يدل على أن أكثر الخلق ضُلال (¬1) {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام: آية 116] وأهل الهدى قلة، وهذا قضاء الله وقدره في الجميع. وهذا معنى قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [لأعراف: آية 102]. هذه الآية فيها سؤال معروف: وهو أن يقال: إن أكثر الكفار لهم عهد، ولكن لا يوفون بهذا العهد، والعهد على قسمين: عهد مُوفى به، وعهد يُنقض، والمذموم هو العهد الذي يُنقض به، والممدوح هو الذي يُوفى به، فبعض العلماء يقول (¬2): إن معنى {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} أن الذي ينقض العهد تقول العرب: لا عهد له. فالذي لا وفاء له كأنه لا عهد له؛ ولذا قال: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 255).

{وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} وهذا لا يتعين، وقد يظهر للناظر في الآية أن فيها حذف الصفة، وهو في نظري أقرب مما يذكرون، أن فيها حذف الصفة؛ لأن حذف الصفة إذا دل المقام عليها أسلوب معروف واضح في القرآن العظيم وفي غيره لا لبس فيه. وعلى هذا فالمعنى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: آية 102]. أي: ما وجدنا لهم من عهد مُوفى به. أي: ما وجدنا لهم من عهد يحصل فيه الوفاء خاصة، أما العهد المنقوض فقد يُوجد لكل من الفجرة. وهذا الوجه ظاهر لا خفاء به، ونظيره في القرآن قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: آية 79] والمعنى: يأخذ كل سفينة صحيحة صالحة؛ لأنه لو كان يأخذ السفينة التي خُرقت لما كان خرق الخضر لتلك السفينة فيه فائدة؛ لأن الخضر صرح بأنه خرقها لِتَتَعَيَّب بذلك الخرق، ويكون ذلك سببًا لسلامتها من غصب ذلك الملك لها؛ ولذا قال: {كُلَّ سَفِينَةٍ} وظاهره يعم المخروقة وغيرها، فالصفة محذوفة دلّ المقام عليها. ونظيره قوله: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء: آية 58] يعني: من قرية ظالمة، بدليل قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: آية 59] وحذف النعت موجود في كلام العرب بكثرة، وإن قال ابن مالك في خلاصته: إنه يقل (¬1). فهو كثير في كلام العرب. ومن أمثلته في كلامهم: قول المرقَّش الأكبر (¬2): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (71) من سورة البقرة وهو قوله: وما من المنعوت والنعت عُقل ... يجوز حذفه وفي النعت يقل (¬2) السابق.

ورُبَّ أسيلَةِ الخَدَّيْنِ بِكْرٍ ... مُهَفْهَفَة لها فَرْعٌ وَجِيدُ فقول المرقش الأكبر: (لها فرع وجيد) يعني: لها فرع فاحم وجيد طويل. فحذف الصفة لدلالة المقام عليها. ومنه قول عبيد بن الأبرص الأسدي (¬1): مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ، وَمْنْ فِعْلُهُ ... فِعْلٌ، وَمَنْ نائِلُهُ نَائِلُ يعني: من قوله قول فصل، ومن فعله فعل جميل، ومن نائله نائل جزل. فحذف النعوت لدلالة المقام عليها، ومن هذا القبيل قول الآخر (¬2): أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ... وَنَارٍ توقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارًا يعني: كل امرىءٍ تحسبينه امرأً طَيِّبًا له شأن، وكل نار تحسبينها نارًا. يعني: نارًا موقدةً للقِرى. فحذف الأوصاف لدلالة المقام عليها كما هو معلوم في محله. قوله: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: آية 102] (إن) مخففة من الثقيلة، والتقدير: وإنه، أي: الأمر والشأن وَجَدْنَا أكْثَرَ النَّاسِ لفاسقين. (اللام) هي الفارقة على التحقيق بين المخَفَّفَة من الثقيلة والنافية، كما هو معروف في محله. والفاسقون: جمع تصحيح للفاسق، والفسق في لغة العرب: الخروج، فكل من خرج عن الطريق فقد فسق، ومنه قول الراجز (¬3): ¬

(¬1) السابق. (¬2) البيت لأبي دؤاد الإيادي. وهو في الكتاب (1/ 66)، شواهد الكشاف ص47، الدر المصون (5/ 634). (¬3) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

يَهْوَيْنَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غَائِرا ... فَوَاسِقًا عن قَصْدِهَا جَوَائِرا أي: خوارج عن قصدها الذي تَمْشِي عَلَيْهِ. هذا أصل الفسق في لغة العرب (¬1)، ومنه قولهم: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ؛ أيْ: خرجت. وهو في اصطلاحِ الشرع: الخروج عن طاعة الله، كما قال تعالى: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: آية 50] أي: خرج عن طاعة ربه والخروج عن طاعة الله قد يكون أعظم أنواع الخروج وهو الكفر، وقد يكون خروجًا دون خروج وهو المعاصي، ومن هنا أُطلق في القرآن الفسق على الكفر والمعاصي، فمن إطلاقه على الكفر قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: آية 26] ومن إطلاقه على المعاصي دون الكفر: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: آية 6] وهذا معنى قوله: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: آية 102]. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)} [الأعراف: آية 103]. معلوم أن (ثم) حرف عطف مع الترتيب والانفصال، و {بَعَثْنَا} معناه: أرسلنا. وصيغة الجمع للتعظيم {مِن بَعْدِهِم مُّوسَى} من بعدهم أي: من بعد الرسل المذكورين في هذه السورة، وهم: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، {بَعَثْنَا} من بعد هؤلاء نبينا موسى، بعثناه {بِآيَاتِنَا} وهي الآيات التسع والمعجزات التي جاء بها فرعونَ، كاليد البيضاء، والعصا الآتية في هذه السورة، وبعض الآيات المذكورة في سورة الأعراف كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ¬

(¬1) السابق.

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الأعراف: آية 103] الملأ (¬1): أشراف الجماعة من الذكور. و (فرعون) هو ملك مصر. يقولون: إن كل من ملَكَ مصر يُسمى (فرعون) كما هو معروف من تسمية (كسرى) و (قيصر) لكل من مَلَك ذلك المحل المعروف، وبعض العلماء يقول: (فرعون) لفظ عربي من تَفْرَعَن الرجل إذا كان ذا مكر ودهاء، وعلى تقدير أن (فرعون) لفظ عربي فوزنه: (فِعْلَول) باللام لا (فِعْلَون) بالنون. وبعضهم يقول: هو اسم أعجمي، وهو الأظهر؛ لأنه لو كان عربيًّا لما مُنع من الصرف؛ لأن هذا الوزن إذا كان عربيًّا قد لا يُمنع من الصرف (¬2). وفرعون المذكور هنا هو ملك مصر الذي جاءه موسى وأُرسل إليه، وقصَّ الله من خبره ما قص، والمؤرخون والمفسرون بعضهم يقول: اسمه: (طالوس)، وبعضهم يقول اسمه: الوليد بن مصعب بن الريان كما هو معروف في تاريخه. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي: أشراف جماعته {بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} قوله: {بِآيَاتِنَا} [الأعراف: آية 103] أي: بمعجزاتنا التي جاء بها موسى. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬3) أن المحققين من علماء العربية يقولون: إن أصل الآية (أَيَيَة) فوزنها (فَعَلَة) وفاؤها همزة، وعينها ولامها كلاهما ياء (أَيَيَة) وقد اجتمع فيها موجبا إعلال؛ لأن العين واللام كلتاهما ياء مفتوحة قبلها فتحة أصلية. فالإعلال تكرر ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (60) من هذه السورة (¬2) مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

مُوجبه هنا، وقد عُرف في فن الصرف أن الإعلال إذا تَكَرَّرَ موجبه يكون الإعلال غالبًا في الأخير. وهنا خولف الأغلب، وصار الإعلال في الأول، فأُبدلت الياء الأولى ألفًا، وصُححت الياء الثانية، وفيه أقوال غير هذا ولكن هذا أشهرها عندهم. والآية في لغة العرب: تطلق إطلاقين: أحدهما: تطلق الآية ويراد بها العلامة. وهذا إطلاقها المشهور. تقول: آية كذا. أي: علامة كذا. وقد جاء في شعر نابغة ذبيان -وهو عربيّ جاهليّ- تفسير الآية بالعَلاَمَة، وذلك في قوله (¬1): تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لِسِتَّةِ أعوامٍ وذا العام سابعُ ثم فسر الآية بأنه يريد بها علامات الدار، وما تشخص من آثارها بقوله: رماد ككُحْلِ العينِ لأْيًا أُبينه ... ونُؤيٌ كجِذْمِ الحوضِ أثلَمُ خاشِعُ الإطلاق الثاني: هو إطلاق الآية على الجماعة؛ لأن العرب تقول: جاء القوم بآيتهم. أي: بجماعتهم. ومنه قول برج بن مسهر الطائي أو غيره (¬2): خَرَجْنَا مِنَ النقْبَيْن لا حَيَّ مِثْلِنَا ... بآيتِنَا نُزْجِي اللّقَاحَ المَطَافِلاَ أي: بجماعتنا. والآية هنا بمعنى العلامة؛ لأن المعجزات أفعال خارقة للعادة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

هي علامات واضحة قاطعة على أن الله مصدق لمن أعطاه إياها مقارنة للتحدي كما هو معروف (¬1). وقوله: {فَظَلَمُواْ بِهَا} الباء في قوله: (بها) عدَّى به. و (ظلموا) فيه وجهان معروفان لعلماء التفسير (¬2): أحدهما: أن (ظلموا) معناه: كفروا. أي: فكفروا بها، وإذا كان (ظلموا) بمعنى: كفروا فلا إشكال في الباء، والظلم كثيرًا ما يُطلق بمعنى الكفر كقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: آية 106] وعلى هذا فالظلم بمعنى الكفر، وتعديته بالباء واضحة، وبعض العلماء يقول: فظلموا بسببها، حصل منهم الظلم الكبير بسببها حيث كذبوا بها ولم تدلهم على الحق وعاندوا. وذلك الظلم قد بين (جل وعلا) أنهم أيقنوا أن الآيات حق، وأنهم ظلموا عدوانًا منهم، كما قال في قوم فرعون لما علموا الحق من آيات موسى في أول سورة النمل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: آية 14] فقوله: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} في النمل يوضح قوله: ... {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي: بسببها، وقد قال تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} [الإسراء: آية 102] أي: {لَقَدْ عَلِمْتَ} يا فرعون {مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} الآيات {إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} أي: دلالات قاطعة لا تترك في الحق لبسًا، وهذا معنى: {فَظَلَمُواْ بِهَا}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (101) من سورة الأعراف. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 256)، الدر المصون (5/ 400).

وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬1): أن الظلم في لغة العرب هو: وضع الشيء في غير موضعه فكل من وضع شيئًا في غير موضعه فقد ظلم، وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه: وضع العبادة في غير من خلق، ثم يليه: وضع الطاعة في الشيطان دون الله (جل وعلا)، والعرب كلُّ من وضع شيئًا في غير موضعه تقول له: ظَلَم. ومن هذا المعنى قالوا للذي يضرب لبنه قبل أن يروب: إنه ظالم؛ لأن الضرب وقع في غير موضعه؛ لأنه يُضيع زُبده؛ ولذا كانوا يُسمّون الذي يضرب [لبنه] (¬2) قبل أن يروب: ظالمًا، ففي لُغَز الحريري يقول: «هل يجوز أن يكون الحاكم ظالمًا؟ قال: نعم إذا كان عالمًا» (¬3). فقوله: «ظالمًا» يعني: يضرب لبنه قبل أن يروب، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬4): وقائلةٍ ظلمتُ لكم سِقَائي ... وهل يخفى على العَكدِ الظَّلِيمُ وقول الآخر (¬5): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرُبْنِي شَكَاتُه ... ظلمتُ وفي ظَلْمي له عامِدًا أَجْرُ فهذا معروف في كلام العرب بكثرة، ومنه قيل لمن وضع شيئًا في غير موضعه: (ظالم)؛ ولذا سَمّوا الحُفَرَ في الأرض التي ليست محلاً للحفر والماء: (مظلومة)، ومنه قول نابغة ذبيان (¬6): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة .. (¬2) في الأصل: (زبده) وهو سبق لسان. (¬3) مضى عند تفسير الآية (129) من سورة الأنعام. (¬4) السابق. (¬5) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬6) السابق.

إلا الأوَارِيَّ لأْيًا ما أُبَيِّنُها ... والنُّؤيُ كالحوضِ بالمظْلُومةِ الجَلَدِ وسمُّوا تراب القبر: (ظليمًا)؛ لأنه يُحفر وهو ليس محلاً للحفر أصلاً، ومنه قول الشاعر (¬1): فأَصْبَحَ في غَبْراءَ بعد إِشَاحةٍ ... من العيش مردودٍ عليها ظَلِيمُها هذا معروف في كلام العرب، ولم يأت الظلم في القرآن إلاّ بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف: الظلم منه بمعنى النقص، وهو قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} [الكهف: آية 33] يعني: ولم تنقص {مِنْهُ شيئًا}. إذا عرفتم هذا فَكُلّ مَنْ كَفَرَ بالله فقد وَضَعَ العِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعَها، ومن عصى ربه وأطاع الشيطان فقد وضع الطاعة في غير موضعها، ووضع المعصية في غير موضعها، ومن هنا كان الظلم يُطلق على الكفر وعلى المعاصي، قد قدمنا إطلاق الظلم على الكفر آنفًا في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: آية 106] وقد يطلق الظلم على معصية الله ولو لم تكن كفرًا كقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: آية 32] {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} إلى قوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: آية 36] لا تعصوا الله فيهن، هذا معنى قوله: {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي: بسببها. {فَانظُرْ} يا نبي الله {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ¬

(¬1) السابق.

[الأعراف: آية 103] ماذا يؤول إليه أمر المفسدين من الوبال والدمار والخسار فإن جميع الأمم الماضية كانت عاقبة إفسادها عاقبة وخيمة جدًّا، فأهلك الله قوم نوح بالطوفان، وقوم هود بالريح العقيم، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بالصيحة والرجفة والظّلة، وأهلك قوم موسى -فرعون وقومه- بالغرق كما سيأتي إيضاحه، وهذا معنى قوله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أهل الإفساد، وقد قدمنا أنهم الذين يحاولون أن يعملوا في الأرض بغير ما أنزل الله (جل وعلا) على رسله. يقول الله جل وعلا: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)} [الأعراف: الآيتان 104، 105] قرأ هذا الحرف جماهير القراء، منهم السبعة كلهم غير نافع: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} وقرأه نافع وحده من السبعة: {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حقيق عَلَيَّ أنْ لا أقول على الله إلا الحق} (¬1)، وقراءة الجمهور فيها إشكال معروف سنُلم به الآن إن شاء الله (¬2). معنى الآية: {وَقَالَ مُوسَى} نبي الله موسى يعلم أن فرعون ينكر رسالته كما بيَّنه تعالى في الشعراء بقوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)} [الشعراء: الآيتان 18، 19] من يقول فرعون عنه ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص211. (¬2) في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات ص289، ابن جرير (13/ 13)، القرطبي (7/ 256)، البحر المحيط (4/ 355)، الدر المصون (5/ 401).

هذه الأوصاف لا يصدقه، وموسى يعلم ذلك. فأكد له في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف أنه رسول حقيق الرسالة، ليست رسالته بكذب ولا بزعم باطل، أنها رسالة صحيحة حق لا شك فيها، وأنها كائنة من رب العالمين، وهذا معنى قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ} ناداه باسمه {إِنِّي رَسُولٌ} رسالته مبدؤها {مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (العالَمين) تشمل من في السماوات والأرض وما بينهما كما يأتي في الشعراء في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآيتان 23، 24] {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (من) لابتداء الغاية. {حَقِيقٌ} أصل مادة (الحاء والقاف والقاف) في لغة العرب تدل على الثبوت وعدم الاضمحلال. معناه: إني رسول حقيق. أي: رسالتي لا شك فيها، وأني رسول ثابت في ديوان المرسلين، رسالتي حق لا شك فيها، وأني رسول مبدأ رسالته من رب العالمين. أما على قراءة نافع فمعنى الآية واضح، ومعناه: {عَلَيَّ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ} يلزمني ويجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق، فما أخبرتك يا فرعون إلا بالحق، وأني رسول من رب العالمين، ولو ربيتني وقتلتُ القبطي قتلة متقدمة، كل ذلك لا ينافي أني رسول، وأني صادق في مقالتي، فما قلت على الله إنه أرسلني إليك إلا وأنا قائل عليه بالحق لا كاذب عليه ولا متخرص.

أما على قراءة الجمهور فمعنى الآية الكريمة مشكل؛ لأن معنى {حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} فهذا معناه لم يتبادر إلى الذهن. وللعلماء في تفسير هذه الآية أجوبة معروفة عن هذا الإشكال، أقربها عندي واحد دلت عليه القرينة القرآنية، ولا ينبغي العدول عنه ومع أنه أصوب الأقوال فيما يظهر يَقِل مَنْ يَتَطَرّقه مِنَ العلماء، فأكثر أقوال المفسرين لا يذكرونه فيها، والظاهر أنه الصواب وإن قلَّ من يذكره منهم، وسنذكر الآن أقوال أهل العلم في الآية -على قراءة الجمهور- الكريمة: أن (على) بمعنى (الباء)، وقالوا: إن حروف الجر يخلف بعضها بعضًا، قالوا: و (الباء) تأتي بمعنى (على)، و (على) تأتي بمعنى (الباء). قالوا فمن إتيان الباء بمعنى (على): {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} [الاعراف: الآيه 86] أي: على كل صراط، كما زعموا. ومن إتيان (على) بمعنى (الباء) قالوا: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ} أي: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي: حقيق أي: جدير وخليق بأن لا أقول على الله إلا الحق. وهذا التفسير تشهد له قراءة أُبيّ بن كعب رضي الله عنه {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقُ بأَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} (¬1) قرأها أُبيّ هكذا، وهي وإن كانت قراءة شاذة فإنها تفيد بالنسبة إلى التفسير. ومما لا ينافي هذا قراءة بعض الصحابة غير أُبي: {إِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ أَنْ لاَ أقُولَ علَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ}؛ لأن هذه تحتمل تقدير الباء أيضًا، فهذا قول. القول الثاني: هو ما زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ من أن قوله: {حَقِيقٌ} ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 256)، البحر المحيط (4/ 356)، الدر المصون (5/ 405).

مُضمّن معنى (حريص) على قراءة الجمهور، قالوا: {حقيق على أن لا أقول} [الأعراف: آية 105] أي: حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق، واستشهد لهذا التضمين صاحب الكشاف في كشافه (¬1) بالبيت الذي أَنْشَدَهُ سيبويه في الكتاب (¬2)، قال: ومثله تضمين بيت الكتاب (هيجني) بمعنى: ذكَّرني. والبيت الذي يعني هو البيت المشهور في كتاب سيبويه وهو قول الشاعر (¬3): إِذا تَغَنَّى الحمامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي ... ولو تَسَلَّيْتُ عنها أُمَّ عَمَّارِ قالوا: (هَيَّجَنِي) معناه: فَكَّرَنِي أمَّ عَمَّار ولو تسلت عنها، وهذا القول من الأقوال التي لا تظهر، فلا يخلو عندي من بعُد، والله أعلم. وقال بعض العلماء (¬4): في الآية الكريمة قلب. وهذا القلب الذي يعنون هنا هو المعروف بالقلب العربي الذي فيه النزاع بين البلاغيين والنحويين كما هو معروف في محله، وهذا القلب أنكره جماعة من العلماء، وقال به جماعة. والحق أن هذا القلب العربي وإن أنكره البلاغيون وقالوا لا يجوز في العربية إلا إذا تضمن اعتبارًا لطيفًا، وسرًّا من أسرار اللغة العربية، وبغير ذلك لا يجوز. والنحويون يجيزه أكثرهم أنه أسلوب عربي إذا دل المقام عليه، وهو موجود في القرآن، وكثير في كلام العرب كما سنُلم به الآن إن شاء الله. ¬

(¬1) الكشاف (2/ 80). (¬2) الكتاب (1/ 286) (¬3) البيت للنابغة، وهو في ديوانه ص21. (¬4) انظر: الدر المصون (5/ 401 - 402).

واعلموا أن القلب يُطلق إطلاقين: يطلق في البديع، وهذا ليس من غرضنا؛ لأنه في فن البديع يسمى نوع منه القلب، وهو أن يكون الكلام إذا جئته من آخره قرأته كما جئته من أوله، فيكون الكلام يُقرأ معكوسًا كما يُقرأ مرتبًا (¬1)، كقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: آية 3] وقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: آية 33] وقول الشاعر (¬2): مَوَدَّتهُ تدُومُ لكلِّ هولٍ ... وَهَل كُلّ مودتُه تدومُ فالآيتان والبيت تقرؤهما بالانعكاس كما تقرؤهما بالاطراد، وهذا ليس من غرضنا. النوع الثاني: القلب الذي يُذكر في المعاني، وهو القلب الذي يكون فيه قلب الفاعل مفعولاً مثلاً، وهذا أسلوب عربي معروف إذا دل المقام عليه، وهو موجود في كلام العرب وفي القرآن العظيم، ومن أمثلته في القرآن العظيم: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: آية 76] فالآية تقول: إن المفاتح تنوء بالعصبة، والمقصود القلب العربي؛ لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتح، أي: تنهض بها بمشقة وجهد كما هو واضح، قال بعضهم: ومنه في القرآن: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَاء} [القصص: آية 66] قالوا: يعني: فعموا عن الأنباء؛ لأن الإنسان هو الذي يعمى والأنباء لا تعمى، في أمثلة قرآنية. وهذا المعنى [16/ب] /إن دلت عليه القرائن، كثير في كلام العرب، ومنه قول كعب بن زهير (¬3): ¬

(¬1) انظر: التلخيص للقزويني ص404. (¬2) البيت في المصدر السابق ص404. (¬3) هذا هو الشطر الثاني من البيت، وشطره الأول هو قوله: كأن أوب ذراعيها إذا عرقت ... ........................... شرح قصيدة بانت سعاد للتبريزي ص27.

...................... ... وقد تَلَفَّعَ بالقُورِ العَسَاقِيل لأن الكلام مقلوب؛ لأن (القُور) وهي الحجارة هي التي تتلفع. أي: تلتحف بالعساقيل، وهو السراب، فهو قال: إن السراب يلتحف بالعساقيل. والكلام مقلوب؛ لأن الحجارة هي التي تتلفع بالسراب، وهذا معنى قوله: ........................... ... وقد تَلَفَّعَ بالقُورِ العَسَاقِيل ومنه قول الآخر (¬1): ......................... ... كما طَيَّنتَ بالفِدَنِ السَّيَاعَا يعني: كما طينت الفدن بالسياع. أي: طينت القصر بالطين. وهو معروف في كلام العرب بكثرة، ومنه قول الشاعر (¬2): نزلت بخَيلٍ لا هوادةَ بينها ... وتشقى الرماحُ بالضَّيَاطِرةِ الحُمر يعني: وتشقى الضياطرة بالرماح. وهذا النوع من القلب أنكره علماء البلاغة وقالوا: لا يجوز إلا بما تضمن اعتبارًا وسرًّا لطيفًا كقلب التشبيه. فالتشبيه المقلوب يُقلب فيه المشبه مشبهًا به، والمشبه به مشبهًا. قالوا: إنما جاز هذا لنكتة، وهي إيهام أن الفرع أقوى في وجه الشبه من الأصل كقوله (¬3): ¬

(¬1) البيت للقطامي، وهو في اللسان (مادة: سيع) (2/ 253)، الأمالي (2/ 211)، مغني اللبيب (2/ 200)، وصدره: «فلما أن جرى سِمَنٌ عليها». (¬2) البيت لخداش بن زهير، وهو في الدر المصون (5/ 401)، شواهد الكشاف ص46، والضياطرة: جمع ضيطار، وهو الضخم. (¬3) البيت لرؤبة، وهو في شذور الذهب ص320، مغني اللبيب (2/ 200).

وبَلَدٍ مُغبرةٍ أرجاؤهُ ... كأَنَّ لونَ أرضِهِ سَمَاؤُه والذين قالوا: في الآية قلب قالوا: المعنى: حقيق على أن لا أقول على الله، كأنه جعل نفسه حقيق على أن لا يقول على الله إلا الحق. والمراد: قلب الكلام. أي: يجب عليه، حقيق عليه هو {أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} فكأنه جعله هو الحقيق على القول. والمقصود: أن القول هو الحقيق عليه أن لا يقوله إلا بالحق، وفي الكلام قلب كما ترى، وهذا لا يلزم، وأنكره كثير من علماء العربية. والوجه الذي يظهر أنه أصوب الأوجه ولا ينبغي العدول عنه وإن قلّ من تنبه إليه من علماء التفسير: هو إن معنى الآية الكريمة: {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ} [الأعراف: الآيتان 104، 105] وأما قوله: {عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ} تتعلق بمعنى الرسالة المشار إليها في الرسول، أي: أُرسلت مشترطًا علي، أُرسلت {عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} أي: أرسلني ربي على شرط ووتيرة معينة، وهي أن لا أقول عليه إلا الحق. وقال بعض العلماء: {عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ} تتعلق بقوله: {رَسُولٌ} {إِنِّي رَسُولٌ} أي: رسول {عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}. وبعضهم يقول: هذا لا يجوز. والنحويون من البصريين يقولون: إن العامل إذا أخذ نعته -نُعت ووُصف- لا يعمل بعد ذلك. وعلى هذا لا يجوز إعمال (رسول) في قوله: {عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ} لأنه نُعت بقوله: {حَقِيقٌ} ولكن الأصوب في هذا أن يُقدّر عامل من جنس الرسول، فيكون المعنى: إني رسول حقيق من رب العالمين

أُرسلت. أي: أرسلني رب العالمين، أرسلني على أن لا أقول عليه كذبًا، ولا أقول على الله إلا الحق، وهذا الوجه واضح لا إشكال فيه، ليس فيه تعسف ولا تكلف، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره وإن قل من انتبه إليه من علماء التفسير. وهذا معنى قوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف: آية 105]. الحق في لغة العرب: الثابت الذي ليس بزائل ولا بمضمحل، وعكسه الباطل. والمراد بالحق هنا: هو الشيء المطابق للحقيقة والصواب والواقع في نفس الأمر. {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} قد قدمنا أن البينة (¬1) هي الدليل الواضح الذي لا يترك بالحق لبسًا. {بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (من) لابتداء الغاية، والرب هو السيد الخالق المدبر الذي يدبر أمور الناس، وهو مُشْتَرك بين عشرة معان كما قدمنا (¬2). {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (إسرائيل) هو نبي الله يعقوب (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام)، ومعنى: (إسرائيل): عبد الله، و (إسرائيل): هو يعقوب، و (بني إسرائيل): أولاد يعقوب؛ لأنكم عرفتم في القرآن في قصة يوسف أنه لما أرسل إليهم وجاءوه في آخر حياة يعقوب، واجتمعوا به في مصر، سكنوا بعد ذلك في مصر وتناسلوا، وحتى سلط الله عليهم فرعون وأهانهم الإهانة المشهورة المعروفة بالقرآن، وسيأتي بيانها في هذه السورة الكريمة - سورة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف. (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

الأعراف - وكان الله (جل وعلا) سلط فرعون مصر على الإسرائيليين فكان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويستعمل الموجودين منهم بالخدمة الشاقة، وأنقذهم الله منه على يد موسى بن عمران (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام). يزعم بعض المفسرين والمؤرخين أن بين مجيء يعقوب وأولاده ليوسف في مصر وبين مجيء موسى من مدين - لينقذهم من فرعون - يزعمون أن بينهما أربعمائة سنة والله أعلم. ويزعمون أيضًا أن مجيء يعقوب وأولاده أنهم كانوا حول الثمانين، وأن خروج الإسرائيليين الآتي ذكره من مصر عند فلق البحر لهم وإغراق فرعون وقومه أنهم كانوا يزيدون على ستمائة ألف والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} معنى (أرسل معي بني إسرائيل) ارفع يدك عنهم، ولا تعذبهم، ولا تتعرض لهم بسوء، وخلّهم يذهبون معي إلى حيث يشاءون، هذا معنى قوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: آية 105]. {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} [الأعراف: آية 106] في هذه السورة الكريمة لم يذكر عن فرعون أنه تعرض لموسى بكلام وإنما أجابه على طبق السؤال؛ لأن موسى قال: {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ورتب عليه بالفاء {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: آية 105] قال فرعون مجاوبًا على طبق السؤال: {إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} يعني إن كنت صادقًا في قولك: {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} فالبينة (¬1): الدليل الذي لا يترك في الحق لبسًا. والآية: العلامة على الصدق، ¬

(¬1) مضى قريبًا.

وهي المعجزة كما ترى هنا. {فَأْتِ بِهَا} يعني: ائتنا بها وبَيِّن لنا إن كنت من الصادقين {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} جزاء الشرط فيه محذوف دل عليه ما قبله، أي: {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فأت بها. عند البصريين، ولا مانع عند الكوفيين من تقدم جزاء الشرط عليه فيكون قوله: {فَأْتِ بِهَا} جواب شرط {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا عند الكوفيين لا مانع منه. ( ... ) (¬1) تجيب بها إلا كلامًا لا نفي فيه، لا تكاد تجد (نعم) في كلام العرب إلا جوابًا لكلام إثبات لا نفي فيه؛ لأن الكلام إذا كان فيه نفي كان جوابه بـ (بلى) لا بـ (نعم). فلو قلت لك: هل جاء زيد؟ أعندك ذا؟ تقول: نعم. ولو قلت لك: ألم يأت كذا؟ تقول لي: بلى ولا تقول: نعم. وإذا سُمع عن العرب إتيان (نعم) في كلام فيه نفي فإنه يُحفظ ولا يُقاس عليه؛ لأنه لا ينقاس، ولكنه سماع يُحفظ ولا يقاس عليه، وقد سُمع عن العرب إتيان (نعم) جوابًا لسؤال مقترن بنفي. فالمحل إذْ ذاك بـ (بلى) لا بـ (نعم)، إلا أنهم جاءوا بـ (نعم) سماعًا، ومنه قول الشاعر (¬2): أَلَيْسَ الليلُ يجمعُ أُمَّ عمروٍ ... وإيَّانَا فذاك بنا تَداني ... نَعَم وتَرى الهِلالَ كما أراهُ ... ويعلُوها النهارُ كما عَلاني فالمحل هنا لـ (بلى) لا لـ (نعم)، ولكنه جاء بـ (نعم) هنا، وقد نص علماء العربية أنها لو سمعت عن العرب في مثل هذا حُفظ ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، والكلام الآتي متعلق بالآية رقم (114)، وهي قوله تعالى: {قَالَ نَعَمْ وَإنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) .... }. (¬2) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (44) من سورة الأعراف.

ولا ينقاس عليه (¬1). قوله: {وَإنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: ولكم عندي زيادة على الجُعل الذي تطلبون وهو كونكم من المقربين، أي: من أهل المكانة والوجاهة والجاه العظيم عندي، ذلك زيادة لكم على ما سألتم من الجعل. هذا معنى قوله: {قَالَ نَعَمْ وَإنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)} [الأعراف: آية 114]. {قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} [الأعراف: الآيات 115 - 124]. يقول الله جل وعلا: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} [الأعراف: الآيتان 115، 116]. بين (جل وعلا) في سورة طه أنه عند هذه المناظرة والمغالبة نصح [موسى] (¬2) السحرة وقال لهم: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ¬

(¬1) في الكلام على هذه المسألة راجع ما مضى عند تفسير الآية (44) من سورة الأعراف. (¬2) في الأصل: (فرعون) وهو سبق لسان.

فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وفي القراءة الأخرى (¬1): {فَيَسْحَتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَن افْتَرَى} [طه: آية 61] ثم ذكر عن السحرة ما ذكر في قولة: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)} [طه: الآيات 62 - 64]. لما أجمعوا كيدهم وجاءوا صفًّا قالوا لموسى: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: آية 115] (إما) هذه أداة تقسيم معروفة، والمصدر المنسبك من (أن) وصلتها في إعرابه للعلماء وجهان: أحدهما: أنه في محل نصب بمفعول محذوف. والمعنى: إما أن تختار أن تلقي أولاً، أي: تختار إلقاءك قبلنا، وإما أن تختار كوننا من الملقين؟ ومفعول الإلقاء لم يذكر هنا إلا أنه ذكر قي آيات أُخر، فإلقاء موسى مفعوله العصا، والمعنى: إما أن تلقي عصاك وإما أن نكون نحن الملقين حبالنا وعصينا؛ لأن الذي يلقيه هو: هو عصاه، والذي يلقونه: هو حبالهم وعصيهم كما قال هنا: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف: آية 117] فبين أن الذي يلقي هو عصاه، وذكره في طه والشعراء، وبين في سورة الشعراء أن الذي يُلقيه السحرة هو حبالهم وعصيهم كما قال: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)} [الشعراء: آية 44] هذا معنى قوله: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}. الوجه الثاني: أن المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في محل ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص295.

رفع مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: إما إلقاؤك أولَ، وإما كوننا نلقي أولَ. وقال بعض العلماء: هو خبر مبتدأ محذوف: إما الأمر إلقاؤنا، وإما الأمر إلقاؤك. والكل متقارب، وهذا معنى قوله: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}. يقول جماعة من علماء التفسير هنا: إن هذا حُسن أدب من السحرة، تأدبوا مع موسى هل يحب أن يكون هو أول من يلقي، أو يلقي هو الآخر. وحتى قال بعضهم (¬1): لما تأدبوا مع نبي الله كان من حكمة الله أن تفضّل عليهم بالهدى والإيمان. والتحقيق الذي يظهر: أن السحرة في ذلك الوقت كفرة فجرة قبل أن يهديهم الله، وأن هذا كأنه إظهار ثقتهم بأنفسهم وسحرهم واعتقادهم أنهم غالبون، يعنون: إن ألقيت قبلنا غلبناك، وإن ألقينا قبلك غلبناك، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر!! هذا هو الأظهر، وهذا معنى قوله: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: آية 115] قال لهم نبي الله موسى: تقدموا أنتم أولاً وألقوا قبلي. ومفعول (ألقوا) محذوف، ألقوا ما أنتم ملقون. {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)} [الشعراء: آية 44] فلما قال لهم نبي الله موسى: «ألقوا» يعني: ألقوا ما أنتم ملقون. يزعم بعض المفسرين أنهم نحو من [] (¬2) عند كل واحد منهم عصا ضخمة، وحبل ضخم، وأن كل واحد منهم جعل السحر في عصاه وحبله، حتى كانت الدنيا كأنها حيات كالجبال ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 259). (¬2) لم تتضح الرقم المذكور لضعف التسجيل الصوتي، وكأنه قال: ((سبعمائة ألف)). وللوقوف على الأقوال في عددهم انظر زاد المسير (3/ 240 - 241) حيث ذكر (13) قولاً.

يركب بعضها بعضًا، وخاف الخلق جميعًا خوفًا عظيمًا. وذكر الله في سورة طه أن موسى داخله بعض الخوف كما يأتي في قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67)} [طه: آية 67] حيث قال: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67)} [طه: الآيات 65 - 67] وهذا الترتيب بالفاء لأن نبي الله موسى أوجس في نفسه الخيفة من عِظَم سحرهم كما قال هنا: {وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: آية 116]. وبعض المفسرين يقولون: لم يخف نبي الله من سحرهم، وإنما خاف أن يتفارق الناس ويهربوا قبل أن يُقيم حجته أمامهم. هكذا قاله بعضهم والله أعلم، هذا معنى قوله: {قَالَ أَلْقُوْاْ}. وهذه الآية فيها سؤال معروف، وهو أن يُقال: إن نبي الله موسى بن عمران (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) رسول كريم، والرسول لا يأمر بمنكر، وقوله لهؤلاء السحرة: {أَلْقُوْا} أمر بمنكر؛ لأنه أمرهم بأشد المنكر، وهو الإتيان بالأسحار تُعارض بها معجزات الله التي أيَّد بها رسله؟ والجواب عن هذا معروف (¬1): وهو أن نبي الله موسى (صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم) لا يريد أمرهم بإلقاء الحبال والعصي سحرًا خبيثًا تُعارض به آيات الله، وإنما مراده إبطاله؛ لأنه في ذلك الوقت لا طريق إلى إبطاله إلا هذا، وهي أن يبرزوه ثم تأتي آية الله ومعجزة الله التي هي هذه العصا فتبتلع جميع ذلك وتترك ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 259).

الميدان خواء ليس فيه شيء، ولما كان هذا هو الطريق الوحيد للحق اضطُر إليه (صلوات الله وسلامه عليه)، وهذا معنى قوله: {قَالَ أَلْقُوْا}. وفي الكلام حذف دل المقام عليه، أي: ألقُوا حبالكم وعصيكم فألقَوا، فلما ألقَوا حبالهم وعصيهم {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} دل قوله: {أَعْيُنَ النَّاسِ} على أن سحرهم من جنس الشعبذات؛ لأنهم جاءوا بسحر أخذ بعيون الناس حتى صارت ترى تخييلات ليست بحقيقية، وترى العصي والحبال تظنها حيات - ثعابين - من أضخم الحيات، بالمئات والآلاف مكدّسة كالجبال، يركب بعضها بعضًا، حتى خاف الخلق منها خوفًا شديدًا، فقوله هنا: {أَعْيُنَ النَّاسِ} يدل على أنه تخييل بالنسبة للعين لا حقيقة. وقد صرح بذلك في طه بقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: آية 66] وزعم بعض المفسرين أن الزئبق كان متوفرًا عندهم، وأنهم ملؤوا داخل العصي والحبال من الزئبق وطرحوها حتى تأثر الزئبق بحرّ الشمس فلما تأثر الزئبق تحركت العُصي والحبال صار بعضها يلتوي على بعض ويركب بعضها بعضًا!! هكذا يقول بعضهم (¬1). ويظهر أنه سحر أخذوا به عيون الناس حتى صار يَتَراءى لهم هذا من الحيات العظام الكبار الضخام يركب بعضها بعضًا. وهذا معنى قوله: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ}. {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} قد تقرر في فن العربية أن تأتي (اسْتَفْعَل) مزيدة بهمزة الوصل والسين والتاء بمعنى (أفْعَل) وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق (7/ 259).

رَبُّهُمْ} [آل عمران: آية 195] يعني: أجاب، ومما يدل عليه من كلام العرب قول سعد بن كعب الغنوي (¬1): وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى ... فلَم يَسْتجبه عند ذَاكَ مُجيبُ فإنه جاء بـ (مجيب) التي هي اسم فاعل (أجاب) جاء بها فاعلاً لـ (استجاب)، فدل على أنه أطلق (استجاب) وأراد (أجاب) كما هو واضح. معنى: {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أرهبوهم. والرهب: الخوف. يعني: خوفوا الناس خوفًا شديدًا. قال بعض العلماء: استرهبوهم: استدعوا رهبتهم وخوفهم بهذا السحر العظيم. وفي هذه الآية من سورة الأعراف سؤال معروف: وهو أن يُقال: دلت آية الأعراف هذه على أن سحر سحرة فرعون من نوع الشعبذات والأخذ بالعيون حتى يتراءى للإنسان غير الواقع في الحقيقة؛ لأنه قال: {أَعْيُنَ النَّاسِ} وصرح بما يدل على ذلك في قوله في طه: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: آية 66] وهاتان الآيتان - آية طه وآية الأعراف - كلتاهما تدل على أن سحر سحرة فرعون من نوع الخيالات والشعبذات، ومع هذا وصفه الله بالعِظَم في قوله: {بِسِحْرٍ عَظِيم} هذا هو وجه السؤال؟ وللعلماء عنه جواب (¬2): وهو أنه في الحقيقة تخييل وأخذ بالعيون حتى صار يَتَراءَى لها غير الواقع، وإنما وصفه بالعِظَم قالوا: لكثرة العصي والحبال وضخامتها. فهذا التخييل وإن كان تخييلاً خيل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 259).

للناس هذا العدد الضخم الكبير من هذه الحيات العظام الكبار كأنها جبال يركب بعضها بعضًا، فصار بهذا المنظر الهائل مع التخييل وكثرته كأنه عظيم، وصار في نفس الأمر أخذًا بالعيون وتخييلاً، وفي هذا يزول الإشكال بين الآيات، وهذا معنى قوله: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أي: أخافوهم. والرهب: الخوف. أرهبه: أخافه. والإرهاب: التخويف {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أرهبوهم، أي: أخافوهم. فجاءوا بسحر عظيم؛ لكثرة تلك الحبال والعصي وضخامتها وكبرها، وكون بعضها يركب بعضًا حتى امتلأ الوادي بالحيات العظام والأفاعي، حتى خاف جميع الناس، وهذا معنى قوله: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: آية 116]. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119)} [الأعراف: الآيات 117 - 119]. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)}. في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات (¬1): قرأه جمهور القراء غير حفص عن عاصم والبزي عن ابن كثير: {فإذا هي تَلَقَّفُ ما يأفكون} وقرأه البزي وحده عن ابن كثير: {فإذا هي تَّلَقَّفُ ما يأفكون} بتشديد التاء بإدغام إحدى التاءين في الأخرى؛ لأن أصله: (تتلقف) وقرأه حفص عن عاصم: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} مضارع لقِفه بكسر القاف يلقَفه بفتحها. فَتَحَصَّل أن قراءة الجمهور: ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص213، حجة القراءات ص292.

{تَلَقَّف ما يأفكون} [الاعراف: آيه 117] وهو مضارع (تَلَقَّفَه يَتَلَقَّفه) إذا ابتلعه بسرعة هائلة. والمعنى: كل من التقم شيئًا بسرعة تقول العرب: «تَلَقَّفَه ولَقِفَه». فقراءة الجمهور حُذف فيها إحدى التاءين، أصلها: فإذا هي تتلقف ما يأفكون، أي: تبتلعه وتلتقمه بسرعة، وعلى قراءة البزي فأصله: فإذا هي تَّلَقَّف ما يأفكون. في الصلة خاصة، فهي واضحة؛ لأن (تفعّل) و (تفاعل) يجوز فيها الإدغام. واستجلاب همزة الوصل، وهو كثير، كاطّيرنا بمعنى: تطير، وازيّنت بمعنى: تزين، وادّارك بمعنى: تدارك، وهو كثير، ومن أمثلته في الماضي في كلام العرب قول الشاعر (¬1): تُولي الضجيعَ إذا ما الْتَذَّهَا خَصِرًا ... عَذْبَ المَذَاقِ إذا ما اتَّابَعَ القُبَلُ يعني: تتابع القُبل. وهذا لا إشكال فيه. أما على قراءة حفص عن عاصم: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} فهو مضارع لقفه يلقفه إذا ابتلعه بسرعة. فمعنى القراءتين واحد. ومعنى: {مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: آية 117] يأفكون: مضارع أفكه يأفكه بالكسر، وأصل المادة الهمز والفاء والكاف (أَفَكَ) معناه: قَلْبُ الشيء وصرفه، فالأَفْك قلب الشيء وصرفه؛ ولذا سُمي الكذب إفكًا لأنه قلب للكلام وصرف له عن حقيقته الواقعة إلى الكذب والباطل، ومن أجل هذا سُميت قرى قوم لوط: (المؤتفكات)، سمَّاها الله: (المؤتفكات) وسماها: (المؤتفكة) في قوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)} [النجم: آية 53] وإنما سماها: (مؤتفكة) لأن جبريل عليه السلام أَفَكَها بإذن الله. أي: قلبها، ومعنى ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.

أَفْكِهِ لها هو قلبها وجعل عاليها سافلها كما صرح الله به في قوله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: آية 74] وما جُعل عاليه سافله فقد أُفك، أي: قُلب حتى صار أعلاه أسفله. هذا أصل الإفك (¬1). ومعنى: (يأفكون) يختلقون ويكذبون ويفترون من أن هذه العصي والحبال أنها حيات حقيقية مثل العصا التي عند موسى. سماه إفكًا لأنه قلب [لحقيقة الأمر] (¬2) وصرف له عن حقيقته الصحيحة إلى الكذب والافتراء. ومعنى الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما جاءوا بذلك السحر العظيم أوحى الله إلى نبيّه موسى أن يلقي عصاه؛ ولذا قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} وصيغة الجمع للتعظيم؛ يعني: فألقى عصاه بأمر من الله {فَإِذَا هِيَ} فاجأ ذلك من العصا، إذا هي {تَلْقَفُ} أي: تبتلع جميع ما يأفكون. فلما ألقاها موسى من يده، وانقلبت إلى ذلك الثعبان العظيم، وجاءت بسرعة وقوة هائلة وعناد هائل، قال ابن زيد: كانت مناظرة موسى وسحرة فرعون في الإسكندرية من مصر، وكان ذَنَبُ العصا لما انقلبت حية وراء البحر كما يزعمون، والله أعلم. وعلى كل حال فقد صرّح الله بأنها ابتلعت جميع ما في الميدان من الحبال والعصي. يقولون: انقلبت إلى ذلك الثعبان العظيم، وجاءت تبتلع ذلك الموجود حبلاً حبلاً، عصًا عصًا، تلتقم ذلك وتبتلعه ولا يظهر في ضخم جثتها ولا يزيد فيها حتى تركت الميدان ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأعراف. (¬2) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ليس فيه حبل وليس فيه عصا!! ويقول المؤرخون والمفسرون (¬1): إن الخلق خافوا خوفًا شديدًا، وأنه مات منهم عدد من الآلاف كثير من شدة الزحام هربًا من خلقها!! ويزعمون أن فرعون كان في مجلس له هو وقومه ينظر، وأنه داخله خوف شديد حتى قال بعضهم: إِنَّهُ سَلَحَ ثلاثمائة سلحة (¬2)!! وقال بعضهم: كان لا يأتي الغائط في أربعين يومًا إلا مرة واحدة وفي ذلك اليوم وقع منه ذلك أربعون مرة كما يقولون!! والله أعلم. وعلى كل حال لما ألقى موسى العصا واستحالت إلى هذا الثعبان العظيم والتقمت جميع ما كانوا يكدّسونه من الحبال والعصي ولم يبق فيهم شيء، وجاء موسى وأخذها بيده فإذا هي عصاه، ولم يوجد أثر ولا عين لتلك الحبال والعصي، عرف السحرة أن هذا أمر من خالق السماوات والأرض فخرّوا ساجدين لله بإيمان صحيح، وإخلاص عظيم رغم فرعون، وقالوا: آمنا بالله رب العالمين، رب موسى وهارون، وداخلتهم بشاشة الإيمان مداخلة هائلة عظيمة، فعبّر الله عن شدة عظم البرهان بقوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} [الأعراف: آية 120] عبر بقوله: {وَأُلْقِيَ} كأن إنسانًا أمسكهم وألقاهم ساجدين بالقوة لقوة البرهان الذي رأوا به الحق، ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 258 - 259). (¬2) قال في المصباح المنير: «سلح الطائر من باب (نفع) وهو منه كالتغوط من الإنسان» اهـ (مادة: سلح) ص108.

ومن هنا تعلم أنه قد يكون الشيء الخسيس الحقير وفيه بعض النفع كما قالوا: ( .... ) (¬1) لأن علم السحر -قبَّحه الله- من أخسّ العلوم وأقبحها، وقد صرح الله (جل وعلا) في المحكم المنزل في سورة البقرة أن تعلمه يضر ولا ينفع، فهو ضرر محض لا نفع فيه كما قال تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} ولكن الله قد نفع هؤلاء القوم بهذا العلم الخسيس الخبيث، فتبين أن قوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [البقرة: آية 102] من جميع الحيثيات غير هذه الحيثية وهو انتفاعهم به أنهم كانوا عالمين بالسحر عارفين بحدوده التي ينتهي إليها، فلما جاءت العصا والتقمت جميع الحبال والعصي ولم يجدوا حبلاً ولا عصا عرفوا أن هذا من الله؛ لأنهم يعرفون السحر ويعرفون مدى تأثيره، فمعرفتهم بالسحر كانت نفعًا لهم بأن عرفوا أن العصا ليست من جنس السحر، فلو كانوا جاهلين بالسحر لظنوا أن عصا موسى من جنس السحر والشعوذة، وهم لما عرفوا السحر تمامًا عرفوا أن البرهان خارج عن طور السحر، وأنه لا يدخل فيه، وأنه أمر إلهي؛ ولذا ذُكر عنهم أنهم قالوا: لو كانت العصا من جنس السحر لوجدنا حبالنا وعصينا، فما انعدمت حبالنا وعصينا من أصلها إلا ببرهان من السماء. قيل: وقد قالوا لفرعون: إن كان هذا من سحر أهل الأرض فثق بأنا نغلبه، والذي لا طاقة لنا به هو شيء يأتي من السماء، فإن كان عنده شيء يأتي من السماء فلا طاقة لنا به، فلما كان من أمر العصا ما كان علموا أنه من السماء وأنه مِنْ أَمْرِ اللهِ فآمنوا هذا الإيمان العظيم؛ ولذا قال الله عنهم: ¬

(¬1) في هذا الموضع كلام غير واضح.

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} [الأعراف: آية 120]. ومعنى قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} لما ابتلَعَتِ العصا كل ما في الميدان مما أفكوه واختلقوه من الحبال والعصِي لما ابتلعت العصا ذلك كله قال تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118)} رتب على ذلك وقوع الحق بالفاء، قال بعض العلماء: (وقع الحق) معناه: حصل وانثبت. وجماهير المفسرين يقولون: (وقع الحق) هنا معناه: ظهر واستبان واتَّضَحَ، حيث ظهر الحق واستبان واتضح، وبطل الباطل واضْمَحَلَّ، وعُرفت الحقيقة على بابها. والعرب يطلقون الوقوع على الظهور، قال بعضهم: الوقوع في لغة العرب: ظهور الشيء بوروده منحدرًا إلى مستَقَرِّهِ. وعلى كل حال فأكثر العلماء منهم ابن عباس وغيره يقولون: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} أي: ظَهَرَ واسْتَبَان واتَّضَحَ الحق أنه مع نبي الله موسى، وبطل ما كان يعمله السحرة من المخطط في الحبال والعصي. وهذا معنى قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118)} [الأعراف: آية 118]. وكان نبي الله موسى قبل أن يلقي عصاه عالمًا أن سحرهم باطل، وأنه سيُبْطِلُهُ ويَضْمَحِلّ كما جاء عنه في سورة يونس: {فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)} [يونس: الآيتان 81، 82]. {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119)} [الأعراف: آية 119] معروف أن (هنالك) إشارة لمكان بعيد، والواو في قوله: {فَغُلِبُواْ} راجع

إلى السحرة، (غُلبوا هنالك) غلبهم موسى ببرهان العصا لما ابتلعت جميع ما عندهم من الحبال والعصي {وَانقَلَبُواْ} أي: السحرة وكل مَنْ كَانَ مَعهم كفرعون وحزبه {وَانقَلَبُواْ} رجعوا صاغرين؛ أي: أذلاء حقيرين داخرين، وهذا معنى قوله: {وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ} الصاغر: هو وصف من الصَّغَار، والصَّغَار: الهوان والدخور والذلة كما هو معروف، وهذا معنى قوله: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119)}. {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} [الأعراف: الآيتان 119، 120] بعد أن غُلبوا عرفوا بُرْهَانَ اللهِ وآمَنُوا بالله إيمانًا صحيحًا. وهو أمر في الحقيقة فيه عجب؛ لأنهم أول النهار كانوا يجادلون بالباطل ويعارضون آيات الله بالسِّحْرِ، وفي آخر النهار صاروا من أولياء الله، وصار تعذيب الدنيا وما فيها كله ليس عندهم بشيء لقوة الإيمان الداخل في قلوبهم؛ ولذا هدّدهم فرعون بأعظم تهديد وهو أن يقطع يد الواحد اليمنى ورجله اليسرى ويصلبه على جذع النخلة، وجذع النخلة هو أخشن جذع خلقه الله في الأشجار، وهذا عذاب شديد، ومع هذا احتقروا عذابه ولم يكن عندهم بشيء، كما قال الله عنهم: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: الآيتان 49، 50] أي: لا ضرر علينا في ذلك. حتى قالوا له في سورة طه: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: آية 72] أي: وليس فيها شيء يهم؛ [لسرعة زوالها] (¬1) وانقضائها، نحن نرغب فيما عند الله، ولا نبالي بما في الدنيا، كما يأتي في قوله: {قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125)} [الأعراف: آية 125] ونحو ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: لزوال سرعتها. وهو سبق لسان.

فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب هان على صاحبه كل شيء، وصغرت في عينه الأذيّات والتعذيب، ورجا ما عند الله كهؤلاء السحرة. وقوله هنا: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} [الأعراف: آية 120] هم وقت إلقائهم ساجدين ليسوا بسحرة، بل إنما هم من عباد الله المكرمين المؤمنين الأفاضل، ولكنه سماهم سحرة نظرًا لحالهم الماضية كما سمى البالغين (يتامى) نظرًا لهم في حالهم الماضية في قوله: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: آية 2] كما هو معروف، وهذا معنى قوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} أي: لله إيمانًا بالله. {قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121)} [الأعراف: آية 121] أي: خالق السماوات والأرض وما بينهما؛ لأن (العالمين) تشمل السماوات والأرض وما بينهما، كما قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} الآية [الشعراء: الآيتان 23، 24]. {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف: آية 122] الذي أنزل عليهما هذه المعجزة العظيمة الدالة على صدقهما وعلى ربوبيته وحده جل وعلا. {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} قرأ هذا الحرف حفص عن عاصم وحده من السبعة قال: {ءامَنتُم} بلا همزة استفهام على الخبر، وقرأه الجمهور: {ءآمَنتُم به} (¬1) وهم على أصولهم في تسهيل الهمزتين، من يسهل الثانية ويأتي بألف الإدخال، ومن ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص213.

يحققهما كما هو معروف في محله: {ءَامَنتُم بِهِ} أي: أآمنتم به أيها السحرة؟ آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم في ذلك؟ {إِنَّ هَذَا} الذي تواطأتم أنتم وهو عليه {لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [الأعراف: آية 123] لحيلة احتلتموها وتوافقتم عليها وتواطأتم عليها لتخرجوا أهل البلد من بلادهم -وهم القبط- وتُسكنوا في أرضهم بني إسرائيل، وتتفقوا معهم على ذلك!! وهذا فعله فرعون مكرًا منه وخداعًا، وخوفًا منه أن تتبع الناس السحرة فيؤمنوا بموسى!! [فادعى] (¬1) أن موسى والسحرة تواطئوا على مكر خبيث يريدون ظلم أهل البلد وإخراجهم من بلدهم وإسكان غيرهم فيه -قبّحه الله- وهذا معنى قوله: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} يعني: إيمانكم أنتم بموسى وسجودكم لربه وموافقتكم له {مَكْرَ} أي: حيلة احتلتم أنتم وإياه بها، احتلتم بها على أهل البلد لتخرجوهم من بلادهم، وهذا معنى قوله: {لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} بعضهم يقول: المدينة التي وقع فيها: الإسكندرية. والله تعالى أعلم. {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} لأجل أن تخرجوا منها أهلها باتفاقكم عليهم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: فسوف تعلمون ما أُنكلكم به من التعذيب على مكركم وموافقتكم مع موسى [17/أ] على المكر، وإخراج أهل الأرض منها. ثم بين ما يعدهم به/ فقال: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ} [الأعراف: آية 124] الأيدي: جمع يد، ووزنه (أَفْعُل) والأرجل كذلك وزنه (أَفْعُل) ومعلوم أن (أَفْعُل) من جموع القلة، إلا أن المقرر في الأصول وفي علوم العربية: أن جموع القلة لا تكون جموع قلة إلا إذا كانت مُنكَّرة خاصة، أما إذا أُضيفت إلى معارف فهي صيغ عموم، وهي إذًا من جموع الكثرة. ¬

(¬1) في الأصل: فجعل.

ومعنى قوله: {مِّنْ خِلاَفٍ} أي: من جهتين مختلفتين بأن يقطع اليد اليمنى من شِق فيضعف ذلك الشِّق باليد [ويقطع] (¬1) الرجل اليسرى من الشق الآخر فيكون كل من الشّقين قد ضعف. {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} لم يبيّن هنا في الأعراف ولا في الشعراء ماذا الذي يصلبهم عليه، وقد بيّن في سورة طه أنه يصلبهم في جذوع النخل (¬2) كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: آية 7] وجذع النخل هو أخشن جذع من جذوع الشجر خلقه الله -جل وعلا- وأصعب على المصلوب الصلب عليه. وعلماء البلاغة يقولون: إن قوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: آية 71] فيه ما يسمونه (استعارة تبعية) في معنى مُتَعَلَّق الحرف (¬3). والأظهر أنه أسلوب عربي معروف، فالعرب تقول: صلبه على الجذع، وصلبه فيه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومن قولهم: «صلبه في الجذع» قول الشاعر (¬4): همو صلبوا العَبْديَّ في جِذْعِ نخْلةٍ ... فلا عطستْ شيبانُ إلا بأَجْدَعَا وهذا معنى قوله: {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: آية 124] لأصلبنكم في جذوع النخل أجمعين. وهذا يدل على أن أولياء الله يُمتحنون دائمًا في الله، فخير ما تكون به المحنة: المحنة في الله، فعلى المسلم إذا بُلي في دينه ¬

(¬1) في الأصل: «ويضعف». وهو سبق لسان. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 330). (¬3) انظر: جواهر البلاغة ص248. (¬4) البيت في اللسان (مادة: فيا) (2/ 1158).

وامتُحِنَ في اللهِ أنْ يَصْبِرَ ويصمد، ويعرف أن هؤلاء السحرة وُعِدُوا بِقَطْعِ أيديهم وأرجلهم، والصلب على جذوع النخل، ومع هذا همْ صَامِدُون صابرون لا يلتفتون إلى فرعون، بل يقولون له: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: آية 72] فالله قصّ علينا خبر هؤلاء لنعتبر بهم كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: آية 111] فإذا جاءتنا أذيّة وبلايا في ديننا فعلينا أن نصبر على المحن بالغة ما بلغت، ولا نتلاشى ولا نضعف، ولا نضيع ديننا؛ لأن خير ما يُبلى الإنسان فيه ويصمد ويصبر هو دينه. {قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: الآيات 125 - 129]. {قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125)} هذا جواب السحرة لفرعون لما آمنوا بالله إيمانًا عظيمًا، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، وقال لهم فرعون إنهم هم وموسى تواطئوا واتفقوا على إخراج أهل قريتهم من مدينتهم مكرًا منهم، وتواطئوا على الظلم، ووعدهم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم في جذوع النخل، لمّا توعدهم فرعون هذا الوعيد الشديد، وعابهم هذا العيب المختلق أجابوه هذا الجواب

الإيماني العظيم، وقالوا له كأنهم يقولون له: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} [طه: آية 72] وأوعد من العذاب ما أنت واعد فنحن لا نبالي بك ولا نرائي بك {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف: آية 125] راجعون إلى رب رحيم كريم عظيم الجزاء سنجد عنده من النعيم ما يُنسينا جميع مضار الدنيا وما فيها من البؤس، كأنهم برغبتهم فيما عند الله وعلمهم بما يجازيهم به الله من النعيم سقط من أعينهم عذاب الدنيا، وصاروا يعتقدونه كَلاَ شيء، وهذا هو الصحيح بالآية، وقد بيّنه الله في سورة الشعراء، وبيّنه بإيضاح: أنه لما ذكر في سورة الشعراء أن فرعون توعدهم هذا التوعد بالعذاب في قوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} [الأعراف: آية 124] أجابوه قائلين كما قصّ الله عنهم في سورة الشعراء: {قَالُوا لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: آية 50] (لا ضير) الضير معناه: الضرر. قالوا: ضَارَّه يضيره ضيرًا، وضره يضره ضرًّا بمعنى واحد، كما قدمنا إيضاحه بشواهده في قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئًا} على قراءة: {لا يَضِرْكُم كيدهم شيئًا} [آل عمران: آية 120] (¬1). وقوله: {لَا ضَيْرَ} بناه مع (لا)، والنكرة المبنية مع (لا) تدل على أن (لا) هي التي لنفي الجنس، فكأنهم نفوا جنس الضرر في عذاب الدنيا واحتقروه وهان في أعينهم ورأوه لا شيء بالنظر إلى ما عند الله. ثم بينوا علّة انتفاء ذلك الضرر في أعينهم فقالوا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف: آية 125] كما يوضح آية الأعراف هذه. ثم قالوا موضحين: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص168.

الْمُؤْمِنِينَ (51)} [الشعراء: آية 51] فالمؤمن الحق إذا علم ما عند الله من النعيم والثواب هان وصغر في عينه كل عذاب وبلاء في الدنيا، كما قالوا لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: آية 72] أي: وليس فيها شيء يهم [لسرعة زوالها] (¬1) وانقضائها. فهذا معنى قوله: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف: آية 125]. هذا الانقلاب ينقلب به كل أحد كائنًا ما كان، فينبغي لكل إنسان أن يُحسِّن منقلبه إلى الله؛ لأن الله يقول: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: آية 227] فمعنى: {مُنقَلِبُونَ} أنهم يموتون فيبعثون فيُقلبون إلى الله، يرجعون إليه فيجازيهم، هذا معنى قوله: {قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125)} [الأعراف: آية 125]. ثم بيّنوا لفرعون أنه ظالم لهم وليس لهم ذنب يعيبهم به ولا يعذبهم لأجله، وقالوا: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} العرب تقول: (ما تنقم مني)؟ معناه: ما تعيب مني وما تَنْتَقِدُ مِنيِّ؟ وأقوال علماء التفسير متقاربة (¬2)، كلها راجعة إلى شيء واحد، فبعضهم يقول: {وَمَا تَنقِمُ} ما تعيب منا؟ ما تُنكر منا؟ ما تكره منا؟ ونحو ذلك، فهي أقوال معروفة، والعرب تقول: نقم عليّ فلان كذا ونَقِمَهُ. أي: انتقده وأنكره عليَّ وكرهه مني. فكأنهم يقولون لفرعون: ما تعيب وتكرهه منا وتنكره حتى تجعله سببًا لتعذيبنا إلا أعظم الأشياء وأحسنها وأشدها استجلابًا للمودة والمحبة، فهو الإيمان بالله أي: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} يعني: ما تعيب علينا شيئًا ولا تكره منّا شيئًا فعلناه ¬

(¬1) في الأصل: «لزوال سرعتها». وهو سبق لسان. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 35)، القرطبي (7/ 261).

{إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} [الأعراف: 126] واضحة لا لبس فيها. وهذا معنى قوله: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا}. ولما بينوا لفرعون أنهم ما فعلوا شيئًا يستوجبون عليه تعذيبًا سألوا الله أن يرزقهم الصبر على العذاب الدنيوي، وأن يميتهم وهم على إسلامهم، سألوه سؤالين عظيمين: أحدهما: أن يعطيهم الصبر ويعينهم عليه. والثاني: أنه يثبتهم على إيمانهم وإسلامهم حتى يموتوا ويلقوه مسلمين؛ ولذا قال الله عنهم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} الإفراغ في لغة العرب التي نزل بها القرآن: الصبُّ الشديد الذي يترك الإناء فارغًا لا شيء فيه {أَفْرِغْ عَلَيْنَا} معناه: اصبب علينا صبرًا من عندك. ونكَّر الصبر هنا للإشعار بالتعظيم؛ أي: صبرًا عظيمًا جميلاً، عظيمًا نواجه به تعذيب هذا الجبار {وَتَوَفَّنَا} أمِتْنا، {مُسْلِمِينَ} أي: ونحن على إسلامنا لا تزغ قلوبنا ولا تُشقنا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}. وهذه الآية الكريمة نظائرها كثيرة في القرآن وفي كلام العرب، وأسلوبها الذي جاء بها هو الذي يقول له البلاغيون: (تأكيد المدح بما يشبه الذم) (¬1) ونظيرها في القرآن قوله: {وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: آية 74] {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: آية 8] وهو كثير في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): ¬

(¬1) انظر: الملخص للقزويني ص382. (¬2) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات. وهو في اللسان (مادة: نقم) (3/ 710)، البحر المحيط (5/ 73)، الدر المصون (6/ 87).

ما نقِموا من بني أُمَيَّةَ إلا ... أنهم يَضرِبُون فَيَغْلِبُون وهو كثير في كلام العرب، كقوله: {أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: آية 40] ومنه قول نابغة ذبيان (¬1): ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائبِ وهذا معنى قوله: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [الأعراف: آية 126] اصبب علينا صبرًا عظيمًا نواجه به نكال هذا الجبار. والصبر في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو حبس النفس عن المكروه، تقول: صبرت نفسي. ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} ومادته تتعدى وتلزم، ومن تعديها قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف: آية 28] وقول عنترة العبسي (¬2): فَصَبَرْتِ عَارِفَةً بِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الجَبَانِ تَطَلَّعُ كما هو معروف. والصبر في اصطلاح الشرع (¬3) خصلة عظيمة يندرج فيها جميع خصال الإسلام؛ ولذا قال الله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: آية 10] ومن سادات الصابرين: الصائمون؛ لأنهم صبروا لله عن شهوات بطونهم وفروجهم طاعة لربهم. والصبر في اصطلاح الشرع يستلزم الصبر عن جميع المعاصي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

ولو اشتعلت نار الشهوات، والصبر على الطاعات وإن كان كالقابض على الجمر، والصبر على البلايا عند الصدمة الأولى كما طلبه هؤلاء؛ لأنهم في بلية ومحنة كبرى يطلبون الصبر عليها، ويدخل فيه الصبر على الموت تحت ظلال السيوف عند التقاء الصفين (¬1). وقوله: {مُسْلِمِينَ} [الأعراف: آية 126] قدمنا مرارًا معنى الإسلام والإيمان، وأن الإسلام في لغة العرب معناه: الإذعان والانقياد، فكل مذعن منقاد فهو مسلم. وأسلم له إذا أذعن وانقاد (¬2)، وهو معروف في كلامهم، ومنه قول زيد بن نفيل مؤمن الجاهلية (¬3): وَأَسْلَمتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالا دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوْتْ شَدَّها ... جَمِيعًا وَأَرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي ِلمنْ أسْلَمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلاَلا إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سجَالا فقوله: أسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الأرض، وأسلمتْ له الصخر. وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالاً فَحَالا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المقاييس في اللغة. كتاب السين، باب السين واللام وما يثلثهما ص487. (¬3) مضت هذه الأبيات عند تفسير الآية (57) من سورة الأعراف. ولفظ البيت الثاني في السيرة لابن هشام (1/ 247): دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا

معناه: أذعنتُ وانقدتُ لمن أذعن له الريح والمزن والحجارة. هذا أصل معنى الإسلام في لغة العرب. وهو في اصطلاح الشرع (¬1): الإذعان والانقياد التام من جهاته الثلاث، أعني: انقياد القلب بالاعتقاد والنيات، وإذعان اللسان بالإقرار، وإذعان الجوارح بالعمل. أي: توفَّنا منقادين لك ولطاعتك بقلوبنا وألسنتنا وجوارحنا حتى نلقاك وأنت راض عنا. وهذا معنى قوله: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: آية 126]. {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)} [الأعراف: آية 127]. لما وقع ما وقع وآمن السحرة لله حرّض أشرافُ جماعة فرعون حرضوا فرعون على موسى وقومه يريدون أن يقتلهم أو يُنكل بهم؛ ولذا قال الله عنهم: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ} أي: أشراف جماعة فرعون قالوا لفرعون: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ} (أتذر موسى) معناه: أتترك موسى وقومه الذين هم معه مؤمنون به وهم بنو إسرائيل، أتذرهم؛ أي: تتركهم لأجل أن يفسدوا في الأرض؟ وهذا الفعل الذي هو (تذر) لم يُسمع منه إلا مضارعه وأمره، تقول العرب: (ذر) بمعنى اترك. و (تذر) بمعنى: تترك. ولم يُسمع منه غير هذا (¬2). فلم يأت من كلامهم فعل ماض، ولا مصدر، ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، فاسم فاعله: تارك. واسم مفعوله: ¬

(¬1) انظر: شرح الطحاوية ص488. (¬2) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة المائدة.

متروك. وهكذا نطقت به العرب أمرًا ومضارعًا فقط. أي: أتترك موسى وقومه؟ واللام في قوله: {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} هذه لام التعليل المعروفة بلام كي، وأصلها تُشكل على طلبة العلم: كيف جاءت هذه اللام المُعَلِّلة بهذا الوضع؟ والجواب عن ذلك: أن الملأ من قوم فرعون زعموا أن مجرد تركه لهم هو علة لإفسادهم في الأرض؛ فجعلوا مجرد ترك فرعون لموسى وقومه، وعدم قتلهم أو التنكيل بهم جعلوه هو نفس علَّة الإفساد في الأرض، ولذا جاءوا بعد قولهم: {أَتَذَرُ} باللام في قوله: {لِيُفْسِدُواْ} [الأعراف: آية 127] كما يزعمون: (إن السَّفيه إذا لم يُنه مأمور) (¬1)؛ لأنك إن لم تنههم فتضرب على أيديهم فكأنك قد أمرتهم بالإفساد في الأرض!! وقد قدمنا مرارًا أن الكفرة الفجرة يزعمون العمل بكتب الله واتباع رسله إفسادًا في الأرض. وقد أوضحنا ذلك فيما مضى. فمعنى إفسادهم في الأرض: أنهم يزعمون أنهم يؤمنون بموسى، ويكونون معه، ويكونون حربًا على القبط فيخرجوهم من بلاد مصر، هذا معنى إفسادهم في الأرض المزعوم. {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} نصب {وَيَذَرَكَ} عطفًا على {لِيُفْسِدُواْ} وقيل: إنه منصوب بـ (أن) بعد الواو؛ لأن الواو هي أخت الفاء، فبعد الاستفهام يُنصب بعدها المضارع بـ (أن) مضمرة، كما هو معروف، كقول الحطيئة (¬2): ¬

(¬1) انظر: جمهرة الأمثال للعسكري ص512، معجم الأمثال العربية (2/ 366). (¬2) البيت في ديوانه ص 54، والقرطبي (1/ 275).

ألَمْ أكُ جَاركُمْ وَيَكُونُ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإِخَاءُ كما هو معروف في محلّه، وأظهر القولين: أنها عطف على الفعل المنصوب في {لِيُفْسِدُواْ}. {وَيَذَرَكَ} يعني: يتركك وآلهتك، لا يعبدك ولا يعبد آلهتك. يزعم المؤرخون أن لفرعون آلهة يأمر قومه بعبادتها، وهم يتقربون إليه هو بعبادتها، وهو كأنه هو الإله الكبير، كما يأتي في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: آية 24] عليه لعائن الله، وقراءة الجمهور {وَآلِهَتَكَ} ويذرك فلا يعبدك ويذر آلهتك فلا يعبدها، وقراءة ابن عباس: {ويذرك وإِلاهَتكَ} (¬1) أي: وعبادتك. وهي قراءة شاذة، فـ (الإلاهة): العبادة. قال فرعون لهم: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ}، سنُنكل بهم ولا نمهلهم، {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ}، كل مَنْ يولَدُ لهم قَتَلْنَاهُ {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ} نترك بناتهم {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} ( ... ) (¬2) يعني: فوقيّة مكانة ومنزلة، قاهرون لهم، مذللون لهم تحت سلطاننا. وهذه الآية الكريمة تدل على أن فرعون ذبح أولاد بني إسرائيل تذبيحتين: التذبيحة الأولى التي كانت سببًا لجعل أم موسى موسى في التابوت، كما سيأتي خبرها مفصَّلاً في سور من كتاب الله، حيث قال لها: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: آية 7] وخوفها عليه أي من قتل فرعون للأولاد حذرًا من ذلك الغلام الذي سيزول ملكه عليه. ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (59) من هذه السورة. (¬2) في هذا الموضع وقع مسح يسير في التسجيل، وهو لا يؤثر؛ لأن المعنى مستقيم بصورته الحالية.

وتذبيح الأولاد الثاني: هو بعد أن جاءهم موسى نبيًّا من الله، كما صَرَّحَ الله به هنا، وأوضحه في سورة المؤمن في قوله: {فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (25)} [غافر: آية 25] وهذا معنى قوله: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ} وقرأ بعضهم: {سَنَقْتُلُ أبناءهم} (¬1). {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: آية 127] لما هددهم فرعون هذا التهديد بقتل الأبناء جزع الإسرائيليون، جزعوا جزعًا شديدًا من ذلك، وخافوا منه خوفًا شديدًا، فصار نبي الله موسى يهدئهم، ويشير لهم إلى الوعد الذي عنده من الله، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} [الأعراف: آية 128] استعينوا: معناه اطلبوا العون من الله، والياء في (استعينوا) مُبدلة من واو؛ لأن المادة واوية العين، ووزن (استعينوا): (اسْتَفْعِلُوا) (¬2) والسين والتاء للطلب؛ أي: اطلبوا العَوْن من الله على هذا الطاغية العظيم، وهذا الجبار الكافر، وتَرَقَّبُوا ما عند الله مِنَ الفَرَجِ، {وَاصْبِرُواْ} احبسوا نفوسكم على المكروه حتى يخلصكم الله بفضله: {إِنَّ الأَرْضَ لله} الأرض بجميعها ويدخل فيها أرض مصر {يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: يجعلها في آخر الأمرين لمن يشاء أن يجعلها له من عباده {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَالْعَاقِبَةُ} (¬3): الحال الحسنة التي تكون في آخر الأمرين، وما يؤول إليه الحال {لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الله بامتثال أوامره واجتناب ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص213. (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (84) من سورة الأعراف.

نواهيه. وقد قدمنا مرارًا في هذه الدروس (¬1) أن المتقي اسم فاعل الاتقاء، وأن (الاتقاء) في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه: اتخاذ الوقاية. تقول مثلاً: اتقيت الرمضاء بنعلي، والسيوف بمِجَنِّي. وكل شيء جعلت بينه وبينك وقاية فقد اتقيته، ومنه قول نابغة ذبيان (¬2): سَقَطَ النَّصِيْفُ ولم تُرِدْ إسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ واتْقَتْنَا بِالْيَدِ أي: جعلت يدها وقاية بيننا وبين وجهها لئلا نراه. وأصل مادة التقوى من (وقي) ففاؤها واو، وعينها قاف، ولامها ياء (¬3). فهي مما يسميه الصرفيون: لفيفًا مفروقًا (¬4)، هذا أصلها. والاتقاء: اتخاذ الوقاية، والاتقاء في الشرع: هو اتخاذ الوقاية التي تقي سخط الله وعذابه، وهذه الوقاية التي تقي الإنسان سخط ربه وعذابه هي امتثال أمره واجتناب نهيه (جل وعلا). فالاتقاء: امتثال الأمر واجتناب النهي، وهو اتخاذ الوقاية التي تقي سخط الله وعذابه، وهذا معنى قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: آية 128]. لما هدَّأ موسى قومه، وأمرهم بالصبر، وأشار لهم إلى وعد الله، وأن العاقبة لمن اتقى الله وهم المؤمنون لا الكافرون قال له قومه: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا} [الأعراف: آية 129] حُذف الفاعل هنا وهو معروف، أي: آذانا فرعون وقومه من قبل أن تأتينا من مدين ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬2) مضى عد تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬3) السابق. (¬4) لأن حروف العلة غير متوالية فيه، بخلاف اللفيف المقرون.

بعد أن صرت نبيًّا، وذلك الإيذاء هو ذبح أولادنا، واستحياء نسائنا، وإهانتنا بالأعمال الشاقة. وقعت لنا منه هذه الإهانات وأنت هنالك في مدين قبل أن تأتينا ووقع لنا ذلك بعد ما جئتنا، فتراه الآن يقول: إنه يذبح أبناءنا!! فقد حصل لنا الأذى في كل الأوقات قبل مجيئك وبعده. وهذا معنى قولهم: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} فَهَدَّأَهم نبي الله موسى، وأشار لهم إشارة أكبر من الأول إلى الوعد بنصر الله لعباده المؤمنين، وإهلاك الكفرة الظالمين، قال: {عَسَى رَبُّكُمْ} (عسى) فعل تَرَجٍّ يدل على رجاء اتصاف المبتدأ بالخبر، وخبره غالبًا إنما يكون فعلاً مضارعًا مقرونًا بـ (أن) وربما جُرِّد من (أن) كما هو معروف في محله. أي: فأرجو لكم رجاء قويًّا من عند خالقكم (جل وعلا)، أي: من خالقكم ومدبر شؤونكم عسى أن يهلك عدوكم فرعون وقومه بأمر من عنده {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي: يجعلكم خلفاء في الأرض من بعدهم {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فذلك يدل على أن المستخلفين في الأرض لم يُستخلفوا فيها لأجل الإنعام بها عليهم، بل كل ذلك للابتلاء والامتحان، فيطيعون الله فيما استخلفهم فيه أو يعصونه. وهذه الآية الكريمة فيها وعيد شديد، وتخويف عظيم، لمن استخلفه الله في الأرض بعد عدوِّه الذي كان يقاومه وبسط يده بالأرض، فإذا كان عنده عقل فإنه يخاف من نظر الله إليه كيف يفعل، فيطيع الله في كل ما يفعل كما لا يخفى. فهذه من أعظم المواعظ وأكبرها التي يعظ الله بها الذين يُستخلفون في الأرض بعد الذي كانوا فيها. وهذا معنى قوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ

تَعْمَلُونَ} [الأعراف: آية 129]. {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)} [الأعراف: الآيات 130 - 135]. يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131)} [الأعراف: الآيتان 130، 131]. اللام في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا} موطئة للقسم، وصيغة الجمع للتعظيم، والمراد بـ (آل فرعون): فرعون وقومه (¬1)، والمعنى: أن السحرة لما غُلبوا، وأظهر الله معجزة نبيه، وعرف فرعون وقومه أنه الحق، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: آية 14] امتحنهم الله بآيات فيها بعض العذاب، أخذهم أولاً بالسنين ونقص من الثمرات، كما قال هنا: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا} والله لقد أخذنا {آلَ فِرْعَونَ} أي: فرعون وقومه. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

{بِالسِّنِينَ} والمراد بالسنين: الجدب والقحط حتى تقل بسببه الأرزاق، يعني: هذا البلاء بالسنين، العرب تقول: هذه سنة، وهذه سنون -يعنون أنها عام أو أعوام- جُدب، يقلّ فيها المطر، ويكثر فيها الجدب، ويقل فيها الأرزاق. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» (¬1) حتى إن العرب ليقولون: أسنت القوم. أي: أصابتهم السنة الشهباء المجحفة، التي فيها جدب وعدم المطر. ومنه قول ابن الزبعرى السهمي (¬2): عَمْرُو العُلا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... وَرَجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُون عِجَافُ (مسنتون): أصابتهم السنة بالقحط وعدم المطر حتى جاعوا، وهذا معنى قوله: {بِالسِّنِينَ}. {وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ} أي: وأخذناهم بنقص من الثمرات بحيث لا تثمر أشجارهم. قال بعضهم: كانت النخلة قد تكون فيها تمرة واحدة. قال بعض العلماء: السنين: هي الجدب بباديتهم، ونقص الثمرات: قلة الزروع والثمرات لأمصارهم (¬3). وعلى كل حال فالمراد أن الله يُقل عليهم المطر حتى تقل أرزاقهمِ من زروع وثمار وغيرها، وهذا معنى قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)} [الأعراف: آية 130] أي: يتعظون. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام. (¬2) البيت في القرطبي (7/ 264)، الدر المصون (5/ 427). (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 46).

وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬1) أن أشهر معاني (لعل) معنيان: أحدهما: أنها حرف ترجٍّ كما هو معروف، إلا أن الترجّي فيها بالنسبة إلى خصوص علم المخلوقين؛ لأن الله (جل علا) عالم بما كان وما سيكون وما تؤول إليه عواقب الأمور. وعلى هذا فمعنى قوله تعالى لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: آية 44] أي: على رجائكما أنتما أنه يتذكر، أما الله فهو عالم أنه لا يتذكر ولا يخشى. المعنى الثاني: هو ما ذكره بعض العلماء من أن كل (لعل) في القرآن هي بمعنى التعليل إلا التي في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: آية 129] قالوا: هي بمعنى: كأنكم تخلدون. هكذا ذكر بعضهم، ومن المعلوم أن (لعل) تأتي في القرآن مُرادًا بها التعليل، منه قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: آية 78] أنعم عليكم بهذه النعم لأجل أن تشكروا. ومن شواهد إتيان (لعل) مرادًا بها التعليل قول الشاعر (¬2): وقُلتُم لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ ووثَّقْتُم لنا كُلَّ مَوْثِقِ يعني: كفوا الحروب لأجل أن نكف عنكم. وهذا معنى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: يتعظون بما سلط الله عليهم من السنين ونقص الثمرات، وهذا معنى قوله: {وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: آية 130]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ} المراد بالحسنة هنا بإجماع المفسرين: هو ذاك الخصب، وكثرة المطر، وكثرة الأرزاق والعافية؛ أي: فإذا جاءهم الله بالحسنة فأَدَرّ عليهم السماء، وأنبت لهم الزروع والثمار، وأكثر غلات مواشيهم مِنْ ألْبَانٍ، وأسْمَان، وأزْبَاد، ولحوم، وشُعُور، وأوْبَارٍ، وأصْوَافٍ، إلى غير ذلك مما ينتفعون به مِنْ مَتَاعِ الدنيا، إذا جاءتهم هذه الحسنة {قَالُواْ لَنَا هَذِهِ} المعنى: هذه لنا ونحن نستحقها، وما أُعطيت لنا إلا أننا قوم عظام يستحقون هذه الكرامة، فهذا مما نستحقه؛ افتراء وكذبًا على الله. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الأعراف: آية 131] المراد بالسيئة هنا في أقوال المفسرين: هو ضد الحسنة، والمراد: إذا جاءهم قحط، وكان في الأرض جدب، وقلَّت أرزاقهم، وجاءتهم الأمراض. والمعنى: أن الله إذا قلَّل عليهم الأرزاق، وأمسك عنهم المطر، وجاءتهم الأمراض، إن جاءتهم هذه البلايا {يَطَّيَّرُواْ} أصله: يتطيروا {بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: آية 131] والتطير في لغة العرب: التَّشَاؤُمُ؛ أي: يَتَشَاءموا بموسى ومن معه، ويقولون: هذا الجدب، وهذه قلة الأرزاق، وهذه الأمراض ما جاءنا إلا بسبب شؤمكم، وسبب ما جئتم به من دين موسى، كل هذه البلايا بسبب شؤمكم. وهذه عادة الكفار إذا تَمَرَّدوا على الله، وعصوا الله، وكذبوا رسله، وعذبهم الله على ذلك، زعموا أن ذلك جاءهم من قِبَلِ الأنْبِيَاء (¬1). ونظائره في القرآن كثيرة، كما قال الكفار لنبيِّنَا صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لما ذكره الله عنهم في سورة النساء في قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} [النساء: ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 330 - 331).

آية 78] وكما قال عن الرسل المذكورين في يس إن قومهم قالوا: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: الآيتان 18، 19] وكما ذكر عن قوم صالح أنهم قالوا له: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)} [النمل: آية 47] والتطير معناه: التشاؤم، والتشاؤم هو أن يقول: جاءني هذا بِشُؤْمِكَ. وأصل [17/ب] التطير (¬1) مشتق من الطير،/ لأن عادة العرب أن أكثر ما كانوا يتشاءمون به الطير، وهو الطيرة المعروفة، كانوا يأتون الطَّير ويطيرونها مِنْ مَوَاقِعِهَا، فإذا طارت على اليمين قالوا: هذا سانح. وتَيَمَّنُوا به، وإذا طارت إلى الشمال قالوا: هذا بَارِح، وتشاءموا له، كما قال علقمة بن عبدة التميمي (¬2): وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلأَطْيَارِ يَزْجُرُهَا ... عَلَى سَلاَمَتِهِ لاَ بُدَّ مَشْؤُومُ وكانوا يدّعون أنهم يعرفون أمور الغيب من طيران الطيور، وجِهَات طيرانها، وأصواتها، والأشجار التي تنزل عليها، وكان من المشتهرين بذلك بنو لِهْب من قبائل العرب، وفيهم قال الشاعر (¬3): خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلا تَكُ مُلْغِيًا ... مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إذا الطَّيرُ مَرَّتِ وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تنهى عن الطيرة وتحذِّر المسلمين، منها: حديث ابن مسعود في سنن أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 264). (¬2) البيت في ديوانه ص56، وشطره الأول في الديوان هكذا: وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْغِرْبَانِ ....... ... ....................................... (¬3) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنعام.

قال: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» (¬1) وفيه أحاديث كثيرة معروفة تنهى عن ذلك، وجاء ببعض الأحاديث أن الإنسان إذا وجد شيئًا منها يقول: «اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ ضَرَرَ إِلاَّ ضَرك» (¬2) الحديث المشهور. وعلى كل حال فالتطير والتشاؤم من صفات الكفار، وعلى المسلمين اجتنابه، وأن يتوكلوا على الله، ولا ينبغي لهم أن يمنعهم التطير من سفر، ولا أن يجزعوا من التطير. واعلموا أن الأمور بيد الله، وأن الشؤم الحقيقي الذي يستجلب كل الضرر هو مخالفة رب العالمين (جل وعلا)، أما كل فعل لم يخالف به الله فهذا لا ضرر فيه ولا طيرة؛ لأن الله ما أباحه إلا لأنه لا ضرر فيه. وعلى المسلم أن يتحرز من هذا كله، ولا يتشاءم بشيء، وأن يبني الأمور على التوكل ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 389، 438، 440)، والبخاري في الأدب المفرد حديث رقم (912)، وأبو داود في الكهانة والتطير، باب: في الطيرة. حديث رقم (3892)، (10/ 405)، والترمذي في السير، باب ما جاء في الطيرة. حديث رقم (1614)، (4/ 160)، وقال: «حسن صحيح» اهـ. وابن ماجه في الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة. حديث رقم (3538)، (2/ 1170)، والحاكم (1/ 17 - 18)، والطيالسي في المسند ص47، والطحاوي في المشكل (1/ 358)، وشرح المعاني (4/ 312)، وابن حبان، الإحسان (7/ 642)، والبيهقي (8/ 139)، والبغوي في شرح السنة (12/ 177 - 178)، من حديث ابن مسعود (رضي الله عنه). وهو في صحيح الأدب المفرد برقم (698)، السلسلة الصحيحة برقم (429)، صحيح أبي داود (3309)، صحيح ابن ماجه (2850)، غاية المرام (303)، صحيح الترمذي (1314). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 220)، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص117، ولفظه: «اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك».

على الله، ومراعاة أوامره ونواهيه، كما هو معلوم لا يخفى. وهذا معنى قوله: {يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ}. {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة: أن الله لمّا ذكر أنهم يكفرون به، ويتمردون ويعارضون رسله، وأنهم مع ذلك يزعمون أن الذي يصيبهم [إنما هو بسبب شؤم نبيهم موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، فأكذبهم] (¬1) الله {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} أي: الطائر المشؤوم التي جاءتهم البلايا منه عند ربهم وذلك إنما جاءهم بسبب كفرهم بالله ومعصيتهم لله؛ لأن الكفر بالله ومعصية الله هو الطائر المشؤوم الذي يأتي صاحبه بسببه كل سوء ومكروه في الدنيا والآخرة. وقال بعض العلماء: طائرهم وحظهم عند الله هو الذي يأتيهم بالخير ويأتيهم بالشر، وليس ما جاءهم من قِبلنا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لا يعلمون أن ذلك هو الحق فيكذبون على الله ويَتَقَوَّلُونَ عَلَى موسى ومَنْ مَعَهُ أن ما أصابهم بسبب شؤمهم. وهذا معنى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: آية 131]. {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133)} [الأعراف: الآيتان 132، 133]. {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)} [الأعراف: آية 132]. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

( ... ) (¬1) و (ما) الثانية مؤكدة لها تأكيدًا لها؛ لأن تكريرها يفيدها تأكيدًا، وأصلها: ما ما بتكرير لفظة (ما) وأنهم استثقلوا توالي حرفين متجانسين فأبدلوا ألف (ما) الأولى هاء، وقالوا: (مهما) هذا قول الخليل واختيار جلّ البصريين. وقال جماعة آخرون: إن (مهما) أصلها: (مه) التي هي اسم فعل بمعنى: اكفف، وأن (ما) الأخرى هي (ما) التي تُعلِّق الشرط بالجزاء، والمعنى: اكفف. اكفف يا موسى ما تأتينا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين؛ أي: كف عنا مجيئك بالآيات، ما تأتينا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. وعلى هذين القولين فأصل (ما) مركبة لا بسيطة. وقال جمهور علماء العربية: إن (مهما) أصلها حرف بسيط وَضَعَتْهُ العَرَبُ هذا الوضع تُعلِّق به الجزاء على الشَّرْطِ، وهو عند الأصُوليِّينَ من صِيَغِ العُمُومِ، وعمومها من جهة الأحوال والأوضاع. والمعنى: أي شيء تأتينا به كائنًا ما كان من آية. الضمير في قوله: (به) راجع إلى (مهما) وكذلك الضمير المؤنث في قوله: (بها) راجع إلى الآية التي هي مبنية لـ (مهما)، فكلا الضميرين راجع في الحقيقة ¬

(¬1) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل كما ترى، ويمكن أن يُستدرك بعضه مما ورد في الدر المصون (5/ 431)، وهو قوله: «واختلف النحويون في (مهما) هل هي بسيطة أم مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا: فمنهم من قال: هي مركبة من ما ما، كُررت (ما) الشرطية توكيدًا فاستثُقل توالي لَفْظَيْنِ فأُبدلت ألف (ما) الأولى هاء. وقيل: زيدت (ما) على (ما) الشرطية كما تُزاد على (إنْ) في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} فعُمل العمل المذكور للثقل الحاصل. وهذا قول الخليل ... ».

إلى (مهما) إلا أن الضمير المذكر رُوعي به لفظ (مهما) والضمير المؤنث روعي به معنى الآية المبينة لـ (مهما). ومن علامات الاسم عند علماء العربية: رجوع الضمير، فمن علامات أن (مهما) اسم: رجوع الضمير إليها، وقد رجع إليها ضمير مذكر باعتبار اللفظ، وضمير مؤنث باعتبار المعنى، كما جاء ذلك فيها في قول زهير (¬1): وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَلَوْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ {تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} (من) بيانية. والآية بيان لـ (مهما). أي: من شيء تأتينا به مبنيًا كونه آية. وفي الآية سؤال: كيف أقروا بأنه آية، وزعموا أنه جاء بها ليسحرهم؟ وأُجيب عن هذا: بأن قولهم: {مِن آيَةٍ} أي: بزعمك ودعواك، لا أنهم يُقرون بذلك. {لِّتَسْحَرَنَا بِهَا} لتصرفنا بها عن ديننا وتخدعنا عما نحن فيه. {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بوجه من الوجوه، ولا بحال من الأحوال، ولو أتيت بما أتيت به من الآيات؛ لأن (مهما) عموم شامل يدل على أنه لو جاء بجميع الآيات لكانوا كما قالوا، فلما تمردوا هذا التمرد العظيم، وعاندوا هذا العناد الكبير، ولجوا هذا اللجاج الشديد، عَاقَبَهُم اللهُ مُعَاقَبَات دنيوية بعضها يتبع بعضًا، قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: آية 133] قد تقرر في فن الأصول ¬

(¬1) البيت في معلقته (شرح القصائد المشهورات 1/ 125)، البحر المحيط (4/ 371)، الدر المصون (5/ 432).

في الكلام على مسلك الإيماء والتنبيه: أن (الفاء) من حروف التعليل (¬1)، يقولون: سها فسجد. أي: لِعِلَّة سهوه. سرق فقُطعت يده. أي: لِعِلَّة سرقته، قالوا: {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي: لِعِلَّة عنادهم وضلالهم وكفرهم وعدم إيمانهم بآيات الله. وصيغة الجمع في قوله: {أَرْسَلْنَا} للتعظيم. {عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} قال بعض العلماء: أصل الطوفان مصدر من: طاف يطوف، كالرجحان، والكفران، والغفران، نُعت به وللعلماء في الطوفان المذكور هنا أقوال متقاربة (¬2): أشهرها وعليه الجمهور أن المراد بالطوفان: الماء الكثير كما صَرَّحَ اللهُ بِذَلِكَ؛ لأنه أهلك قوم نوح بالطوفان، وأن الله أولاً عذبهم بالماء الكثير، فأرسل عليهم مطرًا كثيرًا حتى دخل الماء بيوتهم، وصار الواحد منهم في بيته والماء إلى ترقوتِهِ، وإذا جَلَس غرق في الماء، ومنعهم الماء حراثتهم أن يحرثوا أو يزرعوا أو يعملوا شيئًا، صار يكاد يهلكهم، هذا هو الأظهر في الآية، أن المراد بالطوفان: الماء الكثير بأن أرسل الله عليهم الأمطار الغزيرة حتى فاض الماء على وجه الأرض ودخل بيوتهم. يقول المفسرون والمؤرخون (¬3): حتى إن الماء ليبلغ تراقيهم، ومن جلس منهم غرق في الماء، فمنعهم النوم وحالة المعائش والعمل في أرضهم، وكاد يقضي عليهم، وهذا هو القول المشهور الذي عليه أكثر العلماء. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 49)، القرطبي (7/ 267). (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 65).

وقال جماعة من علماء التفسير: الطوفان: الجدري. وهو قول غريب، وإن ذكره غير واحد. وقال بعض العلماء: الطوفان: المُوتان. والمُوتان بضم الميم: موتٌ كثيرٌ يأتي الحيوانات فيقع فيها موت كثير، وربما أُطْلِقَ على الطَّاعون؛ لأنه يموت به موت كثير. وكان بعض علماء السلف يقول: الطوفان: هو كل ما طاف بك لِيُهْلِكَكَ ولا قُدْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ (¬1)، من ذلك قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)} [القلم: آية 19]. فالحاصل أن أشهر أقوال علماء التفسير: أن المراد بالطوفان هنا: الماء الكثير. وقيل: إنه الجدري. وقيل: المُوتان، وهو موت الحيوانات الكثير، أي: الطاعون. والأظهر هو القول الأول: أنه الماء الكثير الذي دخل بيوتهم ومنعهم من أن يعملوا شيئًا. وبعض علماء التفسير يقولون: مكث عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت. ومنهم من يقول: أربعون يومًا، ومنهم من يقول غير ذلك (¬2). فلما شق عليهم وأجهدهم شكوا إلى فرعون، فجاء فرعون إلى موسى وقال له: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} أي: هذا العذاب والله {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)} [الأعراف: الآيتان 134، 135] فكشفه الله عنهم. قال المفسرون: وأنبتت أرضهم من ذلك الماء أكثر ما كانت تنبته، وجاءهم نعيم، فرجعوا إلى كفرهم، وقالوا: والله إنه لساحر. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 52)، القرطبي (7/ 268). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 65، 69)، القرطبي (7/ 268).

ثم إن الله بعد الطوفان {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ} سلط الله عليهم الجراد. والتحقيق أن الجراد هو هذا الجراد المعروف الذي يطير الذي تعرفونه. وبعض العلماء يقولون: إن أصله نثرات الحوت. وقد جاء ذلك في حديث عند ابن ماجه من حديث أنس وجابر (رضي الله عنهما) (¬1). وتسليط الجراد عليهم: أكثر الله عليهم الجراد، قال بعض العلماء: حتى كانوا لا يرون شعاع الشمس من كثرة الجراد، وأنه [كثر عليهم] (¬2) وملأ بيوتهم، وأكل أبوابهم ومساميرها، وسقوف البيوت، حتى تساقطت البيوت، وأكل جميع ما عندهم من غلات وثمار وزروع، وكاد يهلكهم. والجراد هو الحيوان المعروف، وهو يؤكل، يجوز أكله على ¬

(¬1) وهما في الترمذي في الأطعمة، باب ما جاء في الدعاء على الجراد، حديث رقم (1823)، (4/ 269)، وقال: «حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» اهـ. وابن ماجه في الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، حديث رقم (3221)، (2/ 1073)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/ 478، 479)، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 14)، وعقبه بقوله: «هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» اهـ. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: (3/ 64 - 65): «هذا إسناد ضعيف» اهـ. وقال السيوطي في اللآلئ المصنوعة (2/ 232 - 233): «أخرجه ابن ماجه عن هارون به وأسقط والد زياد، والله أعلم» اهـ. كما ذكره الكناني في تنزيه الشريعة (2/ 251 - 252)، وعزاه للخطيب ثم قال: «وأخرج الحاكم في تاريخ نيسابور والطبراني عن ابن عمر أن جرادة ... » وذكر نحوه. كما ذكره الفتني في تذكرة الموضوعات ص154، 155، وضعفه الحافظ في الفتح (9/ 621). (¬2) في هذا الموضع كلام غير مفهوم، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

التحقيق (¬1)، كما ثبت في الصحيح عن ابن أبي أوفى قال: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الجَرَادَ» (¬2) وفي ابن ماجه: «كانَ أزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَادَيْنَ الجَرَادَ عَلَى الأَطْبَاقِ» (¬3). وعامة العلماء على أن الجراد كالسمك، ميتته حلال، ولم نعلم مخالفًا في هذا إلا مالك بن أنس (رحمه الله) وأصحابه يقول: لا يؤكل الجراد إلا إذا ذُكّي بما يموت به. أي: ولو مات حَتْفَ أنْفِهِ فَهُوَ ميتة لا يؤكل (¬4). واحتج جمهور العلماء بحديث ابن عمر المشهور: «أُحِلَّ لَنَا ميتتانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الميتتانِ: فالسَّمَكُ وَالجَرَادُ، والدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» (¬5). ومالك يقول -وهو صادق-: إن هذا الحديث لم يأتِ من ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 268). (¬2) البخاري في الذبائح والصيد، باب أكل الجراد. حديث رقم (5495)، (9/ 620)، ومسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة الجراد. حديث رقم (1952)، (3/ 1546)، من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه. (¬3) أخرجه عبد الرزاق (4/ 533)، وابن أبي شيبة (8//138)، وابن ماجه في الصيد، باب صيد الحيتان والجراد. حديث رقم: (3220) (2/ 1073)، والبيهقي (9/ 258) وانظر: ضعيف ابن ماجه (691). (¬4) انظر: القرطبي (7/ 269). (¬5) أحمد (2/ 97)، وابن ماجه في الصيد، باب صيد الحيتان والجراد. حديث رقم (3218)، (2/ 1073)، وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم (3314)، والدارقطني (4/ 272)، وعبد بن حميد (المنتخب) (818)، والبيهقي (1/ 254)، والعقيلي (2/ 331)، وابن عدي (1/ 35، 388). وانظر السلسلة الصحيحة (1118)، صحيح ابن ماجه (2607).

طريق صحيحة مرفوعة، فجميع طرقه المرفوعة ضعيفة لا تقوم الحجة بشيء منها. واحتج على المالكية مَنْ خَالَفَهُمْ بأنه جاء من رواية موقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال، وهي طريق صحيحة، وهي موقوفة على ابن عمر، إلا أن لها حكم الرفع؛ لأن طريق سليمان بن بلال صحيحة، وكونها موقوفة على ابن عمر لا يضر؛ لأن لها حكم الرفع، وكل ما هكذا له حكم الرفع؛ لأن من المعلوم أنه لا يُحله إلا هو صلى الله عليه وسلم. أما المالكية فقالوا: نعم، نحن نعلم طريق سليمان بن بلال هذه، ونعلم أن هذا له حكم الرفع، ولكن كونه له حكم الرفع هذا من صناعة الحديث التي اتفق أهل الحديث عليها، لا من قول الله، ولا من قول رسوله، ونحن يجب علينا أن نتمسك بعموم كلام الله وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: آية 3] وميتة الجراد داخلة في عموم الميتة، فلا ننصرف عن تحريم الله للميتة إلا بدليل جازم يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا كلام العلماء فيه، ووجه اختلاف وجهات نظرهم في ذلك، وهو معروف. وجاء في سنن ابن ماجه من حديث أنس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الجراد وقال: «اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ، وَاقْتُلْ صِغَارَهُ، وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ، وَاقْطَعْ دَابِرَهُ، وَخُذْ بَأَسْرَابِهِ عَنْ مَعَائِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ». وأن جابرًا لما سمعه يدعو عليه قال له: كيف تدعو على جند من جند الله؟ وأنه قال له: «هو نثرة حوت» (¬1). ¬

(¬1) مضى قريبًا في تفسير هذه الآية.

هكذا ذكروا في سنن ابن ماجه (رحمه الله) عن هذين الصحابيين. وذكر القرطبي في تفسير هذه الآيات (¬1) أن الجراد إن هجم على زروع الناس اختلف العلماء: هل تجوز مقاتلته ومكافحته؟ وأن أظهر القولين أنه تجوز مكافحته وقتله لِكَفِّ أذَاهُ عَنِ النَّاسِ، وهذا القول هو الذي لا ينبغي العدول عنه لجريه على ظاهر النصوص؛ لأن المسلم إذا تَعَدَّى على أموال الناس لَزِمَ دَفْعُهُ عَنْهَا ولو أدَّى إِلى القِتَال، فكيف بالجراد؟! وهذا معنى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} [الأعراف: آية 133]. لما أنهكهم الجراد وكاد يهلكهم جاءوا إلى فرعون وشكوا إليه، فذهب فرعون إلى موسى وقال له: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} يعني الجراد {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ... } [الأعراف: آية 134] إلى آخر القصة. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)} [الأعراف: آية 135] يقول بعض المفسرين: فمكثوا شهرًا في عافية (¬2). وبعضهم يقول: سنة. فأرسل الله عليهم القُمَّل، هذا القُمَّل الذي أرسل الله عليهم فيه للعلماء أقوال متقاربة (¬3): كان ابن عباس (رحمه الله) يقول: هو سوس الحنطة. أرسل الله عليهم سوس الحنطة -على قول ابن عباس- فتكدس عليهم، وملأ عليهم بيوتهم وآنيتهم وأطعمتهم، وكان يدخل بين الواحد وبين ثيابه، فبلغوا منه أذى شديدًا. ¬

(¬1) القرطبي (7/ 268). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 66). (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 54)، القرطبي (7/ 269).

وقال بعض العلماء: القُمَّل: صغار الدَّبَى، والدَّبَى: صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة. وكان أبو عبيدة في طائفة من علماء التفسير يقول: القُمَّل هو المعروف بالحمن (¬1)، ويقال له: الحمنان، وهو نوع من القراد صغير، وأن الله ملأ عليهم الأرض منه. وذكر بعضهم: أن موسى جاء لكثيب أعفر (¬2) وضَرَبَهُ بعصاه، فجعله الله قُمَّلاً (¬3). وأنه تكدس عليهم فملأ بيوتهم وآنيتهم وأطعمتهم، وامتص دماءهم تحت ثيابهم حتى بلغوا منه غاية الجهد. والحاصل أن القُمَّل هنا فيه أقوال متقاربة، بعضهم يقول: هو الحمنان المعروف بالحمن، وهو نوع من القردان صغير، وبعضهم يقول: هو صِغار الدَّبى، والدَّبى: الجراد الصغار قبل أن تنبت له أجنحة، وبعضهم يقول: هو البراغيث (¬4). هذه أقوال فيه لا يُكذب بعضها بعضًا، وعلى كل حال فهو شيء من خلق الله سلَّطه الله عليهم فعذبهم به، وآذاهم إيذاءً كثيرًا، حتى ضجوا وزعموا أنهم يتوبون، فهذا معنى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} [الأعراف: آية 133] لما عذبهم الْقُمَّل -سواء قُلنا: إنه البراغيث، أو قُلنا: إنه الدَّبى، أو قلنا: إنه سوس الحنطة، أو قلنا: إنه الحمن والحمنان، وقال بعضهم: هو حيوانات تُشبه القُراد الكبير لها ريح ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 56)، القرطبي (7/ 269). (¬2) في ابن جرير (13/ 64): «فمضى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه ... » اهـ. (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 64 - 66). (¬4) انظر: هذه الأقوال في المصدر السابق (13/ 54 - 57).

منتنة سلطها الله عليهم- قال بعض المفسرين (¬1): مكث عليهم أيضًا سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فشكوا إلى فرعون، فجاء فرعون موسى فقال: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)} [الأعراف: الآيتان 134، 135] والقمل هذا كان يأتي بعض الناس فيتأذى به كما هو معروف، قال بعضهم: ومنه قول الأعشى (¬2): قَوْمًا يُعالجُ قُمَّلاً أَبْنَاؤُهُمْ ... وَسَلاَسِلاً أُجُدًا وَبَابًا مُؤْصَدًا أن هذا القمل يؤذيهم، وقد عرفنا أقوال العلماء في تفسيره، وهذا معنى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} [الأعراف: آية 133]. لما رفع الله عنهم القُمَّل وأزاله ولم يبق له أثر مكثوا شهرًا في عافية، كما قال بعضهم، وقال بعضهم غير ذلك (¬3)، فأرسل الله عليهم الضفادع، والضفادع جمع ضفدع، وهو الحيوان المعروف، وكان بعضهم (¬4) يزعم أن الضفادع كانت بريّة، وأنها لم تكن من حيوانات البحر كما زعموا، فلما عذّب الله بها قوم فرعون صارت تقتحم في قدورهم وهي تفور، وتقتحم في تنانيرهم في شدة حرها، ومنعتهم الطعام، كان الرجل يجلس في الضفادع إلى عنقه، وإذا أراد أن يتكلم بادرته الضفدع فجاءت في فِيه، ولقوا منها العذاب الشديد ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 67). (¬2) ديوان الأعشى ص 54. والأُجد: مُحكمة الربط. (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 67). (¬4) انظر: السابق (13/ 63).

-والعياذ بالله- فلما لقوا منها ذلك كانوا ليس عندهم شيء إلا به الضفادع، لا يرفعون ثوبًا ولا إناء إلا وبه الضفادع، وبيوتهم ملأى منها، والواحد جالس في الضفادع إلى عنقه، تتساقط لهم في قدورهم وأطعمتهم وثنانيرهم، وكادت تهلكهم، فمكثت عليهم -يقولون- سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فشكوا ذلك إلى فرعون، فجاء فرعون موسى فقال: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} [الأعراف: آية 134] إلى آخر ما ذكرنا (¬1). والضفادع حيوانات تكون برية وتكون بحرية، والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أنها لا يجوز أكلها ولا قتلها، وقد ثَبتَ في السنن من حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله طبيب في ضفدع يجعلها في دواء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتلها (¬2) هذا جاء في السنن في حديث صحيح عن النبي، وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله لا يجوز أكله؛ لأنه لا يوصل إلى أكله إلا بقتله بالذبح، هذا هو التحقيق. فالذين يأكلون الضفادع يرتكبون الحرام الذي لا شك فيه، وظاهر هذا الحديث سواء كانت بريّة أو بحرية، وهو الأظهر، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: {وَالضَّفَادِعَ} [الأعراف: آية 133]. ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق (13/ 58 - 69). (¬2) أبو داود في الطب، باب في الأدوية المكروهة، حديث رقم (3853)، (10/ 352)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث رقم (5247)، والنسائي في الصغرى، كتاب الصيد والذبائح، باب الضفدع، حديث رقم (4355)، (7/ 210)، وفي الكبرى، كتاب ما قذفه البحر، باب الضفدع، حديث رقم (4867)، (3/ 166)، والبيهقي في الصغرى، كتاب الصيد والذبائح، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكله العرب، حديث رقم (4232)، (2/ 411)، والطيالسي في المسند ص163، والطحاوي في المشكل (2/ 312 - 313).

ولمّا رفع الله عنهم الضفادع، وبقوا في عافية شهرًا أو غير ذلك، وهم راجعون لأشد ما هم فيه من العذاب، وقالوا: تبيّن لنا أن هذا الرجل هو رئيس السحرة وكبيرهم، كما قص الله عنهم في قوله: {إِِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه: آية 71] عندما آمن السحرة لرب موسى وهارون، فلما رجعوا إلى كفرهم بعد ذلك أرسل الله عليهم الدم، والدم: هو الدم هذا المعروف الذي تعرفونه، وأصل الدم (دَمَيٌ) بالياء، فهو من الأسماء الثلاثية التي حذفت العرب لامها وعاضتها على العين، والتحقيق أن لامه المحذوفة ياء، خلافًا لمن زعم أنها واو، فهو (دمي) على وزن (فَعَل) (¬1) وربما ظهرت ياؤه المحذوفة عند التثنية وغيرها، ومن ظهورها عند التثنية قول سحيم بن وثيل الرياحي (¬2): فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا ... جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ اليَقِينِ وهذه الياء المحذوفة من الدم تظهر في كثير من التصاريف، تظهر في الفعل الماضي، وتظهر في المضارع، ومن ظهورها في الفعل الماضي المشتق من الدم قول الراجز (¬3): هَلْ أَنْتِ إِلاَّ أُصْبُعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ لأن الياء من (دَمِيَ) (فَعِلَ). و (دمي) معناها: جاء منها الدم. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (145) من سورة الأنعام. (¬2) البيت للمثقب العبدي، وهو في ديوانه ص99، رصف المباني ص242، اللسان (مادة: أخا) ص32، (مادة: دمي) ص1017، ونسبه بعضهم لعلي بن بدال. (¬3) مضى عند تفسير الآية (145) من سورة الأنعام.

وكذلك تظهر في المضارع، ومنه قوله (¬1): وَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا ومعنى: (تَدْمَى) أصله: (تَدْمَيُ) (تَفْعَلُ) أُبدلت الياء ألفًا لسبق الفتحة قبلها كما هو معروف، هذا أصل الدم. ومعنى تعذيبهم بالدم (¬2): أنهم كانوا كلما أخذوا الماء ليشربوا فإذا ذلك الماء دمٌ أحمر قانٍ عبيط، ليس لهم ماء، فإذا صبوا من أوعيتهم ماء فإذا ذلك الماء دم، وإذا استقوا من الأنهار فإذا الماء الذي استقوا منها دم، وإذا استقوا من الآبار فإذا هو دم. يذكرون أن فرعون كان يجمع القبطي والإسرائيلي، والإسرائيلي يشرب الماء من إناء واحد فما أخذ منه الإسرائيلي فهو ماء، وما أخذه القبطي يكون دمًا، حتى إنهم زعموا أن القبط لما أضرّ بهم العطش؛ لأن جميع مياههم صارت دمًا، وصار كل ماء استقوه دمًا عبيطًا، أن القبطية كانت تقول لجارتها الإسرائيلية: اجعلي الماء في فيك ومُجيه في فيّ لأتبرد به، فإذا مَجَّتْه في فيْها نزل من فم الإسرائيلية ماء، فإذا وصل فم القبطية إذا هو دم عبيط!! هكذا يقولون (¬3). والمفسرون يقولون: إن هذا الذي وقع كله للقبطيين لم يقع منه شيء للإسرائيليين، فلم يدخل الماء بيوتهم، ولم يأتهم القمل، ولم تأتهم الضفادع، ولم يأتهم الدم كما يقولون. والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 58 - 68). (¬3) انظر المصدر السابق (13/ 64).

قالوا: زعموا أن فرعون -قبّحه الله- أضرّ به العطش، وعطش عطشًا شديدًا؛ لأنه صار كلما استقى ماء فإذا هو دم عبيط، وأنه اضطر إلى مَصِّ مِيَاهِ الشَّجَرِ التي تكون في الشجر، قالوا: فإذا مصّ ماء الشجرة فوصل فاه فإذا هو دم - والعياذ بالله تعالى - قالوا: مكث عليهم الدم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فلما تأذوا به كثيرًا شكوا إلى فرعون، وجاء فرعون موسى وقال: الآن حُق لنا أن نتوب التوبة النصوح فـ {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: آية 134] فلما كشفه عنهم رجعوا إلى أخبث كفرهم وأشده، وهذا من اللجاج؛ ولأجل هذا - اللجاج والكفر وإخلاف الوعد - غضب موسى عليهم غضبًا شديدًا، ودعا رَبَّهُ ذلك الدعاء الحاد العظيم حيث ذكره الله في سورة يونس في قوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} [يونس: آية 88] وفي قراءة أخرى (¬1): {لِيَضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: الآيتان 88، 89]؛ لأن [هارون] (¬2) قال: آمين. والمُؤَمِّن أحد الداعيين. وهذا معنى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ} [الأعراف: آية 133] (آيات) حال. أرسلنا عليهم هذه الأشياء في حال كونها آيات. أي: علامات ودلالات واضحات لا شك في الحق معها. وقوله: {مُّفَصَّلاَتٍ} قال بعض العلماء: {مُّفَصَّلاَتٍ} أي: بينات ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (55) من هذه السورة. (¬2) في الأصل: «موسى». وهو سبق لسان.

واضحات لا لبس فيها أنها من الله، وأنها حق، وأن هؤلاء الكفرة عاندوا الحق الواضح. وقال بعض العلماء: مفصلات: بينها فصل؛ لأنه كلما جاءتهم آية وعَذَّبَهُم الله بها وضَجُّوا إلى فرعون، وضَجَّ فرعون إلى موسى، وقال: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: آية 134] فكشف عنهم الرجز ومكثوا زمنًا في عافية فصار بين الآيات فصل من العافية بين هذه وهذه، وأن ذلك هو معنى قوله: {مُّفَصَّلاَتٍ} أي: متتابعات بين كل اثنتين منها فصل، هكذا قاله بعضهم، وهذا معنى قوله: {وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ}. {فَاسْتَكْبَرُواْ} أي: تَكَبَّرُوا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ مَعَ مشاهدة هذا عندما ينزل بهم العذاب يستكينون ويخضعون قهرًا لا رغبة في الخير، فإذا رُفع عنهم أعرضوا إلى ما كانوا عليه، هذا معنى: {فَاسْتَكْبَرُواْ}. {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: آية 133] قدمنا مرارًا (¬1) أن القوم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: اسم جمع لا واحد له من لفظه، يختص في الوضع في الذكور دون الإناث، وربما دخل فيه الإناث بحكم التبع، والدليل على اختصاصه بالذكور في الوضع قوله تعالى في الحجرات: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} ثم قال: {وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاءٍ} فلو دخل النساء في اسم القوم وضعًا لما قال: {وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاءٍ} [الحجرات: آية 11] ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى (¬2): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام.

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أدرِيْ ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ ومن الدليل على أن النساء ربما دَخَلْنَ في القوم بحكم التبع: قوله تعالى في بلقيس: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43] وهذا معنى قوله: {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: آية 133]. المجرمون: جمع تصحيح للمجرم، وهو اسم فاعل الإجرام، والمجرم هو مرتكب الجريمة، والجريمة: الذنب الذي يستحق صاحبه التنكيل والعذاب، وهذا معنى قوله: {فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: آية 133]. {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)} [الأعراف: الآيتان 134، 135]. هذه الآية كأنها تُقرأ عند كل واحدة من الآيات السابقة {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)} [الأعراف: آية 130] قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: آية 133] أي: ولما عُذبوا بالطوفان ووقع عليهم رجز الطوفان {قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} فلما رفعه عنهم ووقع عليهم رجز الجراد {قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: آية 134]. [وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ}]

(¬1) هم بنو إسرائيل بإجماع العلماء (¬2)، وكونهم {كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} [الأعراف: آية 137] كان فرعون يستضعفهم ويأخذهم أخذ الضعيف الذي لا حيلة له فيقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويستخدمهم في الأعمال الشاقة، إلى غير ذلك من الإهانات، كما يأتي في قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: آية 141]. فقوله: {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: آية 137] جماهير العلماء على أن مشارق الأرض هو المفعول الثاني لـ (أورثنا) (¬3)، أورثنا المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها. أي: جعلناها آيلة إليهم بعد أن أهلكنا الكفار الذين كانوا فيها، وهذا هو التحقيق خلافًا لما نُقل عن الكسائي والفراء (¬4) مِنْ أنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الخَافِضِ، وأن المعنى: وأوْرَثْنَا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى هذا القول فمفعول الإيراث محذوف. ولا يخفى أن هذا القول غير صواب، وإن نقل عن الكسائي والفراء وغيرهم، وأن التحقيق أن الإيراث واقع على بني إسرائيل، وأن قوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ} أن (أورثنا) تطلب مفعولين، المفعول الأول: هو قوله {الَّذِينَ} والمفعول الثاني: هو قوله: {مَشَارِقَ الأَرْضِ} أي: أورثناهم مشارق الأرض كما جاء موضحًا في آيات أُخر، كقوله: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)} [الدخان: آية 28] {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} [الشعراء: آية 59] ونحو ذلك من الآيات. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 331). (¬3) انظر: الدر المصون (5/ 438). (¬4) انظر: القرطبي (7/ 272).

ومعنى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} قال أكثر المفسرين (¬1): {مَشَارِقَ الأَرْضِ}: الشام، ومغاربها: مصر. وأن الله أهلك فرعون وقومه وأورث بني إسرائيل أرضهم كما صرح بذلك في قوله: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)} [الدخان: آية 28] وقوله: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} [الشعراء: آية 59] وهي ما تركوا من جنات وعيون، وزروع، ونعمة كانوا فيها فاكهين، وأن مشارق الأرض: هي الشام، أورثهم الله إياها بعد أن أهلك الجبارين الكنعانيين وأبادهم. هذا يقوله أكثر العلماء، ويزعمون أن في التوراة: أن هذه المشارق والمغارب من الفرات، وأنها من الفرات إلى المحل الذي خرجوا من البحر منه [وطلبهم] (¬2) منه فرعون!! وبعض العلماء يقول (¬3): مشارق الأرض ومغاربها: الشام فقط؛ لأنه أورثهم أرضه من مشرقها ومغربها، أي: ما يلي المشرق منها وما يلي المغرب. واعلموا أن الآيات القرآنية دلت دلالة واضحة على أن الله أورث بني إسرائيل ما كان عند فرعون وقومه من الجنات والعيون، والزروع والكنوز، والمقام الكريم، هذا جاء في آيات متعددة، جاء موضحًا في سورة الشعراء، وفي سورة الدخان، وأُشير له هنا في الأعراف. ¬

(¬1) أكثر السلف على القول الثاني. راجع: ابن جرير (13/ 76)، الدر المنثور (3/ 111 - 113). (¬2) في هذا الموضع كلمة غير واضحة وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 76)، القرطبي (7/ 272).

وبعض العلماء يقول: في إيراثهم ديار مصر وأمواله، وديار قومه وأموالهم، فيه إشكال؛ لأنه لم يُعلم في التاريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد أن أنجاهم الله من عذاب فرعون وفلق لهم البحر -والله تعالى أعلم- ولأجل ذلك قال بعض العلماء: أراضي الشام ومشارقها: ما يلي جهة المشرق من أرض الشام من أطرافها، وما يلي جهة المغرب. هذا أقوال العلماء في الآية. وقوله: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي: أكْثَرْنَا فيها البَرَكَات من كثرة المياه والزروع والثمار ونحو ذلك من بركات الأرض وخيراتها. وهذا معنى قوله: {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} [الأعراف: آية 137] جماهير العلماء (¬1) على أن المراد بهذه الكلمة التي صرح الله بأنها تمت على الإسرائيليين أنها هي قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} [القصص: الآيتان 5، 6] ومعنى تمام الكلمة: أنها أولاً كانت وعدًا، فلما أُنجز هذا الوعد فقد تم ذلك بإنجازه كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} الحسنى: تأنيث الأحسن، والأحسن: الذي يفوق غيره في الحسن ويفضُله. وقوله: {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} تمت عليهم؛ أي: مضت عليهم وكملت عليهم بإنجازها لما كانت وعدًا. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 77)، القرطبي (7/ 272)، الأضواء (2/ 331).

وقوله: {بِمَا صَبَرُواْ} الباء سبَبِيَّة، و (ما) مصدرية، أي: بسبب صبرهم. وذلك يدل على أن الصَّبْرَ سَبَبٌ لِلْفَرَجِ كما هو معروف، وكما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: آية 45] وهذا معنى قوله: {بِمَا صَبَرُواْ}. وقوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} التدمير: الإهلاك التام. والمعنى: دمرنا وأهلكنا ما كان يصنعه فرعون وقومه من القصور التي كان يبنيها، والبنايات التي كان يضعها في الأرض دَمَّرَهَا الله وهَدَمَها وأهلكها. وقوله: {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} قرأ هذا الحرف جماهير القراء غير ابن عامر وشعبة عن عاصم: {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} بكسر الراء مضارع عَرَشَه يعرشه. وقرأ من السبعة: ابن عامر وشعبة عن عاصم: {وما كانوا يَعْرُشُون} (¬1) وهما لغتان وقراءتان صحيحتان، (يعرُشون) بضم الراء لغة بني تميم. ومعنى: {يَعْرِشُونَ} فيه وجهان للعلماء (¬2): قال بعض العلماء: {يَعْرِشُونَ} أي: لجنات الكرم، وهو العنب يجعلون لها العريش لتمتد عليه، كما تقدم في قوله: {جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: آية 141]. وقال بعضهم: عَرَشَه: إذا رفع بناءه، والعرش أصله السقف، وعروش الأبنية: سقوفها. يعني: ودمرنا ما كانوا يرفعونه من البناء كصرح هامان المشهور، ونحو ذلك. وهذا معنى قوله: {وَدَمَّرْنَا مَا ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص214. (¬2) انظر: ابن جرير (12/ 156)، (13/ 78)، القرطبي (7/ 272).

كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: آية 137]. [18/أ] / {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139)} [الأعراف: الآيتان 138، 139]. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} العرب تقول: جاوز الشيء وجاوز به غيره إذا جازه وتعدّاه، و (فَاعَلَ) هنا بمعنى المجرد بمعنى: جاز. أي: إذا تخطاه وتعداه، وذلك أن الله (جل وعلا) لما أمر نبيه موسى أن يُسري ببني إسرائيل ويرفع عنهم يد قهر فرعون، وأسرى بهم ليلاً ذاهبين إلى جهة البحر الأحمر، وأن فرعون استيقظ من الصباح فلم يجد من الإسرائيليين أحدًا، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، وزعم أن الإسرائيليين قليل {إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)} [الشعراء: الآيتان 54، 55] وأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا، فلما ارتفع النهار تراءا الجمعان: بنو إسرائيل على شاطىء البحر، وفرعون يتبعهم من ورائهم، فخاف الإسرائيليون خوفًا شديدًا كما أوضحناه سابقًا في سورة البقرة، فقالوا: إن تقدمنا فالبحر أمامنا، وإن تأخرنا ففرعون وجنوده من ورائنا. فقال الله لهم ما قال في سورة طه: {لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى} وفي قراءة أخرى: {لا تَخَفْ دركًا ولا تخشى} (¬1) [طه: آية 77] دركًا مما وراءك من فرعون وجنوده، ولا تخشى من البحر أمامك، سيجعل الله لكم مخرجًا. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص296.

وعند ذلك أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب البحر بعصاه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم. يعني صار البحر كأنه جبال عظام بينها طرق، وأرسل الله عليها الريح -كما يقول المفسرون- فيبست كما أشار له تعالى بقوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: آية 77] يزعم المفسرون أنه كانت في البحر اثنتى عشرة طريقًا، وأن الأمواج ممسكة بين الطرق بقدرة الله وإرادته كأنها الجبال الشامخة، كما قال تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: آية 63] أي: كالجبل الشامخ المنيف، ويزعم المفسرون أن الله جعل بينها فُرجًا كالكّوة التي تكون في البيوت حتى صار ينظر بعضهم إلى بعض (¬1)، وأنهم سلكوا في تلك الطرق قاطعين للبحر، وأن فرعون لما وجدهم دخلوا البحر يزعمون أنه كان على جواد ذكر من الخيل، وأن جبريل جاء أمامه على فرس وديق -وهي التي تحب الفحل، وإذا كانت تحب الفحل كان يُشم فيها ريح ذلك- وأن الجواد شم فيها ريح ذلك واقتحم، فاقتحموا في البحر مع تلك الطرق (¬2)، ولما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل أراد أن يضرب البحر بعصاه ليلتئم، فقيل له: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: آية 24] أي: خَلِّه ساكنًا منفلقًا. ليدخل فرعون وقومه فيغرقوا؛ لأنه لو التطم لرجع إلى حالته ولرجعوا، فلما تكامل خروج بني إسرائيل ومجاوزتهم البحر، وتكامل دخول القبط -فرعون وقومه- أطبق الله عليهم البحر، وتلاطمت أمواجه، فلم يبق منهم داع ولا مجيب، كما أوضحناه سابقًا في ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (1/ 271). (¬2) انظر: ابن جرير (15/ 195).

البقرة (¬1)، وذلك معنى قوله: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الأعراف: آية 136]. لما ماتوا كلهم وأنجى الله بني إسرائيل، ووقع الغرق بالقبط وهم ينظرون، كما تقدم في قوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: آية 50] لما وقع هذا وجاوزوا البحر كانوا في الحقيقة قومًا غير طيبين؛ لأنهم لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعبدون الأصنام، أتوا على قوم يعكفون وراء البحر لما جازوه، وهؤلاء القوم يقول بعض المؤرخين: إنهم من لخم قبيلة العرب المشهورة. وبعضهم يقول: من لخم وجذام. وبعضهم يقول: هم من الكنعانيين الذين أُمروا بقتالهم في البلاد المقدسة (¬2). وكان ابن جريج يقول: أصنامهم أمثلة البقر، فلما رأوا أمثلة البقرة كأنهم من ذلك الوقت أحبوا عبادة البقر (¬3)؛ ولذلك أخرج لهم السامري العجل كما هو معروف، وكان بعض المؤرخين يقول: هم قوم كانوا نازلين بالرّقة من مصر. ويقولون: إنها من الريف، قريب من الساحل، يُوصَل منها إلى الفيوم. هكذا يقولون. والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فلما جاوز الله بهم البحر بعد هذه الآيات والعبر وهذه النعم العظيمة طلبوا من نبيهم عبادة الأوثان -والعياذ بالله- وهذا يدل على عدم الطيب؛ ولذا قال: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ} {فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ} معناه: مروا على قوم. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (50) من سورة البقرة. (¬2) هذه الأقوال ذكرها ابن جرير في التفسير (13/ 81). (¬3) انظر المصدر السابق (13/ 80).

{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} قرأ هذا الحرف جمهور القراء منهم السبعة غير حمزة والكسائي: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} بضم الكاف. وقرأه من السبعة حمزة والكسائي: {يَعْكِفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لهُمْ} بكسر الكاف (¬1). وهما قراءتان سبعيتان صحيحتان، ولغتان عربيتان فصيحتان. والعكوف: معناه الإقامة، أي: يقيمون ملازمين عبادة الأصنام. {عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} يعكفون مقيمين عليها دائمًا يعبدونها، يُقال: إنها تماثيل بقر كما قاله ابن جريج. {قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا} صنمًا مثل أصنام هؤلاء نعبده {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (ما) بقوله: {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قيل: هي كافة للكاف؛ ولذا جاءت بعدها جملة. وبعضهم يقول: هي مصدرية. وبعضهم يقول: موصولة. والخطب في ذلك سهل (¬2). والمعنى: كما أن هؤلاء لهم آلهة فاجعل لنا إلهًا كآلهتهم نعبده -والعياذ بالله- وبعض العلماء يقول: هم كفروا بهذا القول؛ لأن من طلب عبادة غير الله فقد كفر. وقال بعض العلماء: كانوا قومًا يتمكن منهم الجهل، يظنون أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ إلى الله بعبادة غيره أن ذلك يُقَرِّبُهُ إلى الله!! ويعتقدون أن ذلك يصح! وهذا غاية الجهل، كما قال لهم نبي الله موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وصفهم بالجهل المطلق، وجاء بصيغة المضارع يشير إلى أن الجهل كأنه معهم في الحال والمستقبل لا يفارقهم، ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص214. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 442).

ثم أجابهم هنا قال: {إِنَّ هَؤُلاء} الذين يعبدون هذه الأصنام {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} [الأعراف: آية 139] المُتَبَّر: اسم مفعول (تبَّره) والعرب تقول: تبّره يُتَبِّره تتبيرًا: إذا كسّره ودمره، والإناء المُتَبَّر: معناه المكسر. والذهب المُتبَّر: المكسر. والتِّبر: قطعة من الذهب إذا تُبِّر، أي: إذا كُسِّر. ومنه قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [الإسراء: آية 7] هذا الذي فيه هؤلاء من عبادة الأوثان مُدَمَّر، مُحْرقٌ، مُكسر لا خير فيه؛ لأنه كله باطل، ولا ينبغي لأحد أن يفعله (¬1) {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأظهر أوجه الإعراب في هذا (¬2): أن قوله: {مُتَبَّرٌ} هو خبر (إن) وأن قوله: {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} نائب فاعل (مُتَبَّر) وكذلك {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فاعل به لقوله: {وَبَاطِلٌ}. هذا أجود الأعاريب في الآية. وهذا معنى قوله: {إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139)} الباطل: هو الزائل المضمحل الذي لا بقاء له؛ لأن الله يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)} [الفرقان: آية 23] فهذا معنى قوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} [الأعراف: آية 140] بهمزة استفهام الإنكار، ينكر عليهم إنكارًا شديدًا، والعرب تقول: أبغيك وأبغي لك. معناه: أطلب لك. أفغير الله أطلب لكم إلهًا؟ {إِلَهًا} غير الله، والهمزة للإنكار، أَنْكَرَ عليْهِمْ هذا الطلب إنكارًا شديدًا؛ أوَّلاً وَصَفَهُمْ بالجَهْلِ، وبيَّن لهم بطلان عبادة الأصنام، ثم أنْكَر عليهم طلبهم إلهًا غير الله؛ ولذا قال: {أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} أبغي لكم ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 273). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 444).

وأطلب لكم معبودًا غير الله سبحانه عن ذلك وتعالى علوًّا كبيرًا {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} والحال: هو فضلكم على العالمين. ومن تفضيله لكم: أن أهلك عدوكم وأنجاكم وأنقذكم من هذا الطاغية العظيم، وهم في ذلك الوقت -جميع الناس كفرة- وهم عندهم إيمان، فهم أحسن الموجودين على ما كان منهم مما لا ينبغي، وهذا معنى قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} وقد بينّا مرارًا النصوص الصحيحة الدالة على أن هذه الأمة الكريمة أفضل منهم مرارًا (¬1)، وهذا معنى قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: آية 140]. {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} [الأعراف: آية 141]. قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} وقرأه ابن عامر وحده من السبعة: {وَإِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} من غير ياء ولا نون (¬2). فعلى قراءة ابن عامر: اذكروا إذ أنجاكم الله. أنجاكم هو، أي: الله. وعلى قراءة الجمهور: {أَنجَيْنَاكُم} فالنون للتعظيم، والله هو المتكلم بذلك معظمًا لنفسه، وقوله: واذكروا {إِذْ أَنجَيْنَاكُم} حين أنجيناكم {مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} أي: من فرعون وقومه. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} قال بعض العلماء: {يَسُومُونَكُمْ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص214.

يبغونكم سوء العذاب، كما تقول لمن طلب السلعة: سامها. والعلماء يقولون: سامه كذا: إذا أذاقه إِيَّاهُ، ومنه: سَامَهُ العَذَاب: إذا أذاقه العذاب وكلَّفَهُ إيَّاهُ. وهو مَعْنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته (¬1): إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ الناسَ خَسْفًا ... أَبَيْنَا أنْ نُقِرَّ الذُلَّ فِينَا ومعنى {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}: يذيقونكم ويكلفونكم سوء العذاب، والإضافة في قوله: {سُوءَ الْعَذَابِ} من إضافة الصفة إلى موصوفها؛ أي: يذيقونكم العذاب الموصوف بسوء من يقع عليه؛ أي: العذاب السيئ الشديد. {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ} قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ} وقرأه نافع وحده: {يَقْتُلون أبناءكم} بسكون القاف وضم التاء (¬2). وقرأ مع نافع ابن كثير: {سَنَقْتُلُ أبناءهم} (¬3) [الأعراف: آية 127] والجمهور يقرءون: {سَنُقَتِّلُ} و {يُقَتِّلُونَ} بصيغة التضعيف؛ لأن التضعيف يدل على التكثير، يقتل أولادهم كثيرًا. وهذا معنى قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي: إناثكم يتركوهن حيات. وفي هذه الآية الكريمة ونظائرها في القرآن سؤال معروف، وهو أن التحقيق في قوله: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} كأنه بدل من قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: آية 141] ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص214. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص213.

فتقتيل الأبناء واستحياء النساء هو من نفس سوء العذاب الذي كان يسومهم. ووجه السؤال هو أن يُقال: أما تقتيل الأبناء فكونه من العذاب الذي يسومهم به [فظاهر] (¬1)، وأما استحياء النساء فمن أين كان يُعد من جملة العذاب الذي يسومهم؛ لأن استحياءها قد يسبق إلى الذهن إنه خير من موتها، وأن بقاء أحد الولدين خير من موتهما جميعًا، والإناث هبة من الله أيضًا، كما قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: آية 49] فوجه السؤال: كيف عدّ استحياء النساء من جملة العذاب الذي يسومهم، مع أن ترك قتلهم أهون، كما قال (¬2): حَمِدْتُ إِلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إِذْ نَجَا ... خِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ فما وجه جعل استحياء النساء من جملة العذاب الذي يسومهم؟ هذا وجه السؤال. وأجاب بعض العلماء عن هذا السؤال: بأن استحياء الأُنثى قد يكون خيرًا (¬3) [من تذبيح الكل، كما قال الهذلي: حَمِدْتُ إِلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إِذْ نَجَا ... خِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ لكن استحياءهم للنساء ها هو من جملة العذاب؛ لأنهم يفعلون ذلك لإعمالهن في الأعمال الشاقة، وليفعلوا بهن ما لا يليق من العار والشنار، ولا شك أن بقاء البنت - وهي عورة - تحت يد ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة. (¬3) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل، وتجد جواب هذا السؤال فيما مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة وما بين المعقوفين نقلته منه (بتصرف).

عدو لا يشفق عليها، ويفعل بها ما لا يليق، ويكلّفها ما لا تطيق أن هذا من سوء العذاب، وقد قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ ... } الآية [النساء: الآية 9] (¬1) وهذا معروف، وقد كان العرب إنما وأدوا بناتهم وفعلوا ذلك الفعل القبيح يخافون أن تبقى بعدهم فيهينها الناس، أو يتزوجها غير الأكفاء، فإهانة البنت وفضيحتها عَذَاب عَلَى وَلِيِّهَا؛ ولذا كان العرب يَتَمَنَّوْنَ الموت لبناتهم خوفًا مِنَ العَار، وخوفًا من الأذيّة والفضيحة والاضطرار لتزويج غير الأكفاء. وهذا كثير معروف في كلامهم، وكان شيخ كبير له بنت تُسمى (مودّة) كان يقول فيها (¬2): مَوَدَّةُ تَهْوَى عُمْرَ شَيْخٍ يَسُرُّهُ ... لها المَوْتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لَوْ أَنَّهَا تَدْرِي ... يَخَافُ عَلَيْهَا جَفْوةَ النَّاسِ بَعْدَهُ ... وَلاَ خَتَنًا يُرْجَى أَوَدُّ مِنَ الْقَبْرِ ولما خُطِبَتْ عند عقيل بن عُلَّثَة المري ابنته الجرباء قال (¬3): إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ المَهْرُ ... أَلْفٌ وَعُبدَانٌ وذَوْدٌ عَشْرُ ... أَحَبُّ أَصْهَارِي إِلَيَّ الْقَبْرُ وفي شعر الحماسة (¬4): تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَها شَفَقًا ... وَالمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الحُرَمِ والله يقول في كتابه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9)} [النساء: آية 9] قال بعض العلماء: هذا وجه كون استحياء النساء من جنس ¬

(¬1) نهاية الانقطاع. (¬2) مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

العذاب (¬1)، ولا شك أن الرجل المسلم إذا خُيّر بين أن يقبض الله ابنته إليه ويسترها برحمته وعفوه، وبين أن تبقى تحت يد الكفرة الفجرة يفعلون بها ما يشاءون من الفواحش والعار والعيب والشنار، ويُعملونها بالأعمال الشاقة والخدمة العظيمة والإهانة، أنه يختار لها ما عند الله، أنها تصير إلى الله، وأن بقاءها بعده فيه تعذيب لقلبه، حتى إن الإنسان إذا كانت بناته بعده تجوع أو تعرى يألم من ذلك ويحزن كما قال الحماسي (¬2): لقد زَادَ الحياةَ إلي حُبًّا ... بناتي، أنهن من الضِّعَافِ ... فأكره أن يَرَيْنَ البُؤسَ بعدي ... وأنْ يشربن كدرًا بعد صافي ولا سيما التعذيب والفواحش ونحو ذلك والعياذ بالله، وهذا معنى قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} الإشارة في قوله: {ذَلِكُم} مرجعها فيه وجهان معروفان (¬3): أحدهما: أنها راجعة إلى الإنجاء: أنجيناكم وفي ذلك الإنجاء بلاء، أي: بلاء بالنعمة من الله عظيم عليكم. القول الثاني: أن الإشارة في قوله: {ذَلِكُم} راجعة إلى ما يسومهم من سوء العذاب من تقتيل الأبناء، وعليه فقوله: {بَلاَءٌ} ¬

(¬1) السابق. (¬2) البيتان لعمران بن حطان، وقيل لعيسى بن فاتك، أو محمد بن عبد الله الأزدي، أو لأبي خالد القناني. وهما في تاريخ دمشق (43/ 500)، عيون الأخبار (3/ 97)، الكامل ص1082، وطرف البيت الثاني: «مخافة ... »، وشطره الثاني: «وأن يشربن رَنْقًا ... ». (¬3) انظر: القرطبي (1/ 387)، الدر المصون (1/ 348).

[الأعراف: آية 141] أي: بلاء بالشر -والعياذ بالله- عظيم من ربكم. والبلاء يكون بالخير ويكون بالشر كما هو معروف (¬1)، {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: آية 168]. {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: آية 142]. قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير أبي عمرو {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} بألف بين الواو والعين من المواعدة. وقرأه أبو عَمْرٍو وحْدَهُ: {وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} من غير ألف بين الواو والعين (¬2). ومعنى القراءتين واحد. {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} صيغة الجمع في قوله: {وَوَاعَدْنَا} للتعظيم، كان الله وعد نبيه موسى أنه إن أهلك عدوه وأراح قومه من تعذيب فرعون وإهانته لهم أن الله يُنزل عليه كتابًا فيه شَرْعٌ تَامٌّ، وأوامِرُ ونواهٍ، وشريعة كاملة؛ وذلك الكتاب الموعود به هو التوراة، فلما جاوزوا البَحْرَ جَاءَ وقت الميقات فذهب موسى إلى الميقات، وكان أولاً ثلاثين، وقال لبني إسرائيل: إن الميقات ثلاثون فقط؛ لأنه ما كان يدري عن العشرة التي صار بها أربعين. والمفسرون يقولون: إن سبب العشرة: أن الله وعد موسى ثلاثين ليلة -يقول جماهير من أهل ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص129.

التفسير: إنها هي شهر ذي القعدة، أولها من ذي القعدة، وأن العشر الذي تمم بها أربعون: عشر ذي الحجة (¬1)، وأن إعطاء التوراة كان يوم النحر في اليوم العاشر، انتهاء العشر. يقولون: إن الله لما أراد الميعاد مع موسى واعده ثلاثين ليلة - ليصوم فيها وينقطع للعبادة لمناجاة الله، فلما صام الثلاثين يقول المفسرون (¬2): إنه لما صام ثلاثين يومًا أحس بخلوف فمه -خلوف فم الصائم- فاستاك فَغَيَّرَ السواك ريح خلوف الفم، وأن الملائكة قالوا: كنا نشم من فِيك ريح المسك فأفسدته بالسواك، وأنه لما استاك بعد الثلاثين أمَرَهُ الله أن يصوم عشرة أيام أُخَر لأجل أن يرجع له خلوف الفم، ويكون وقت المناجاة عند انتهاء الميقات وفمه فيه خلوف الصائم، وخلوف فم الصائم معروف، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لخلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ» (¬3). وهذا معنى قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} يصوم أيامها ويَتَعَبَّد هذه المدة قبل المناجاة، وذلك يدل أنه ينبغي العبادات والانقطاع إلى الله قبل مناجاته. {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} ما ذكرنا. {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: آية 142] بالعشر التي زِيدَتْ على الثلاثين، ومعلوم أن العشر إن زيدت على الثلاثين صارت أربعين كما قال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 86)، ابن كثير (2/ 243)، القرطبي (7/ 274). (¬2) انظر: ابن كثير (2/ 243)، القرطبي (7/ 274). (¬3) أخرجه البخاري في الصوم، باب فضل الصوم، حديث رقم: (1894)، (4/ 103). وأطرافه في: (1904، 5927، 7492، 7538). ومسلم في الصوم، باب: فضل الصيام حديث رقم: (161 - 165)، (2/ 806).

كَامِلَةٌ} [البقرة: آية 196] وبعضهم يقول (¬1): نصّ على الأربعين لئلا يتوهم مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الثلاثين تُمِّمَتْ بِعَشْرٍ من الثلاثين، بل بين أنها تُممت بشيء زائد على الثلاثين، وهذا معنى قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} ليصومها ويتعبد فيها فيناجيه الله وينزل عليه الكتاب المعروف التوراة {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} للسبب الذي ذكرنا {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: آية 142] يقولون: إن انتهاءها عاشر ذي الحجة، وأن الله أنزل عليه التوراة في عشر ذي الحجة. قال بعض العلماء (¬2): هذه الآية الكريمة يؤخذ منها بعض الأحكام: وهي أن ضرب التأجيل وتحديد المُدة للميعاد ونحوه أنه أمر معروف قديم، فيدل على ضرب الأجل، والتحديد بثلاثين أو أربعين لموعد ونحو ذلك كدين أو غيره مما يحتاج إلى الآجال. وقال جماعة من العلماء (¬3): هذه الآية من سورة الأعراف دَلَّت على أن التاريخ بالليالي لا بالأيام، وذلك هو المقرر في فَنِّ العربية كما دلت عليه هذه الآية أن التاريخ بالليالي لا بالأيام، فتقول: وقع هذا لكذا وكذا ليلة. ولا تقول: لكذا يومًا. فالتاريخ بالليالي؛ لأن الليالي أوائل الشهور وهي سابقة للأيام، فالتاريخ بها لا بالأيام، وهذه الآية نص صريح في ذلك؛ لأن الله قال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} ولم يقل: ثلاثين يومًا. وقال: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} حذف منها التاء ولم يقل: «بعشرة»؛ لأن الليالي مؤنَّثَة، ولو أراد الأيام لقال: «بعشرة». بالتاء كما هو معروف في محله، وهذا معنى ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 275). (¬2) انظر: المصدر السابق (7/ 275). (¬3) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} الميقات: (مِفْعَال) من الوقت، أي: الزمان المؤقت لهذه المناجاة وإعطاء هذا الكتاب العظيم الذي هو التوراة {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: آية 142] أي: ولمّا تم ذلك الميقات ناجاه الله وكلمه الله. وسيأتي تكليمه له قريبًا في الآيات الآتية، وأعطاه التوراة كما سيأتي موضحًا في هذه السورة الكريمة، ولما أراد موسى أن يغيب عن قومه وكّل أخاه هارون على قومه؛ لأن موسى هو الذي نُبئ وأُرسل أولاً، وهو الذي شفع لأخيه في الرِّسَالة فكأنه هو الأصل في هذا كله، وهارون إنما نَبَّأَهُ اللهُ لمّا سَأَلَهُ موسى ذلك كما في قوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)} [طه: آية 36] لما أراد السفر إلى الميقات للمناجاة قال: يا هارون {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} معنى {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي: كن خليفتي فيهم {وَأَصْلِحْ} [الأعراف: آية 142] يعني: أصلح كل ما يحتاج إلى الإصلاح من أمرهم، وإذا رأيت من يريد الفساد كمن يريد عبادة العجل لا تتبع سبيله، بل كن على الإصلاح دائمًا، كن خليفتي فيهم وافعل فيهم ما كنت أفعل، وكن مصلحًا كل ما يحتاج إلى الإصلاح، ولا تتبع سبيل من أراد الفساد. هذه وصية موسى لأخيه هارون لما أراد السفر، ولما عجل عن قومه، وجاء ربه للميقات، وسأله ربه عن سبب عجلته عنهم {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاَء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه: الآيتان 83، 84]. {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي

فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144)} [الأعراف: الآيتان 143، 144]. يقول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} [الأعراف: آية 143]. (لما) هذه هي التي تربط شرطًا بجزاء، وقد قدمنا أن علماء العربية اختلفوا فيها: هل هي حرف أو اسم؟ (¬1). {وَلَمَّا جَاء مُوسَى} نبي الله موسى بن عمران {لِمِيقَاتِنَا} أي: جاء للوقت الذي حددناه له للميعاد للمناجاة وإعطاء التوراة بعد انتهاء الأربعين يومًا كما تقدم إيضاحه، كما تقول: جاءني فلان لستة خلون من شهر كذا، لما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه وسمع كلام الله (جل وعلا) اشتاق موسى إلى رؤية الله لما كلَّمه الله، قال موسى لربه: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} (رب) أصله: يا ربي، حُذفت أداة النداء، وحُذفت ياء المتكلم اكتفاء عنها بالكسرة. وحَذْفُ ياء المتكلم إحدى اللغات الخمس المشهورة في المنادى إن كان صحيح الآخر، مضافًا إلى ياء المتكلم كما هو معروف في محله (¬2). وقوله: {أَرِنِي} قرأ هذا الحرف جماهير القراء منهم السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو {أَرِنِي} بكسر الراء كسرة تامة. وقرأ هذا ¬

(¬1) انظر: الحروف العاملة في القرآن الكريم ص596. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

الحرف ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو: {أرْني أنظر إليك} بسكون الراء. وقرأه الدوري عن أبي عمرو بكسرة مُختلسة. فتحصَّل أن جميع القراء غير ابن كثير، وأبي عمرو قرءوا: {أَرِنِي} بكسرة تامة، وأن ابن كثير قرأ بسكون الراء، وكذلك قرأه السوسي عن أبي عمرو، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بكسرة مُختلسة (¬1) -وقد قدمنا- بأن هذه القراءات في: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} هي بعينها في قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: آية 128]. وفي إسكان الراء في القراءة السبعية إشكال، فلطالب العلم أن يقول: ما وجه إسكان الراء {أرْني أنظر إليك} في قراءة ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو؟ والجواب عن هذا السؤال: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أنها ربما اعتبرت العين كأنها لام، وكانت العين وراءها حرف لين محذوف لأمر أو لجزم - مثلاً - فتتخيل العرب العين كأنها اللام وتُنزّلها منزلة الحرف الأخير فتسكنها، ونظير هذا في القراءات: قراءة حفص في سورة النور (¬2): قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: آية 52] بسكون القاف، قوله: {وَيَتَّقْهِ} كقوله هنا: {أرْني} في قراءة ابن كثير والسوسي، وهذا معروف في كلام العرب، ومن أساليب اللغة أن العين المتحركة إذا كانت بعدها لام محذوفةٌ حرف علّة أنهم ربما اعتدوا بالعين فتخيلوا أنها اللام فسكنوها للأمر، وعليه قراءة: {ويخش الله ويتقْه} وقوله: ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص136. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

{أرْنا مناسكنا} [البقرة: آية 128] {أرْني أنظر إليك} ونظيره من كلام العرب قول الشاعر (¬1): أَرْنَا إِداوَةَ عبد الله نَمْلَؤُهَا ... من ماءِ زَمْزَمَ إن القومَ قد ظَمِئُوا وقول الآخر (¬2): وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللهَ مَعْهُ ... فَرِزْقُ اللهِ مُؤْتَابٌ وغَادِ ومن شواهده المشهورة قول الراجز (¬3): قَالتْ سُلَيْمى اشْتَرْ لَنا سَوِيقا ... وهَاتِ خُبزَ البُّرِّ أَوْ دَقِيقَا ... لَوْ كُنْتُ يَا سَلْمَى لِذَا مُطِيقا ... مَا كَانَ عَيْشِي عِنْدَكُمْ طَمِيقَا فقوله: «اشتر» أصله: (اشتري) وهو كقوله: {أَرِنَا} في القراءة المذكورة، وهذا معنى قوله: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}. قال بعض العلماء: مفعول (أرني) الثاني محذوف (¬4). أي: أرني نفسك أنظر إليك، والفعل المضارع مجزوم بجواب الطلب، فقد قدمنا أن علماء العربية (¬5) يقول جماعة منهم: إن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط محذوف؛ أي: إن تُرني أنظر إليك. ولما قال موسى هذا وسأل ربه أن يُريه ينظر إليه، طلب الله النظرَ إليه (جل وعلا)، قال الله مجيبًا لموسى: {لَن ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) انظر: الدر المصون (5/ 449). (¬5) مضى عند تفسير الآية (69) من سورة البقرة.

تَرَانِي} [الأعراف: آية 143] (لن) هنا حرف نفي {لَن تَرَانِي} يعني: لن تراني في هذه الدار الدنيا كما سنوضحه قريبًا إن شاء الله، والمعنى: أنت أضعف يا موسى من أن تقدر على رؤية خالق السماوات والأرض؛ لأن شأنه أعظم وأمره أكبر وأجلّ من أن يقدر على رؤيته أحد في الدنيا؛ لأن الناس في الدنيا مركّبون تركيبًا لا يبلغ غاية القوة، معرضون للموت والهلاك، فأنت بهذه الدار لا تقدر أن ترى رب السماوات والأرض، وهذا هو التحقيق في الآية كما سنوضحه إن شاء الله. ثم إن الله كأنه يقول له: هذا الجبل لا شك أنه أقوى منك وأصلب، فهو إذن سأتجلى له، فإنْ تحمّل الجبل رؤيتي وتجلِّيّ له فأنت يمكن أن تقدر وَسَتَرانِي، وإن عجز الجبل عن ذلك -صار دكًّا وصار فتاتًا ترابًا- علمتَ أن الشيء الذي يدك الجبال لا يقدر عليه الدم واللحم منك يا موسى، وهذا معنى قوله: {لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} مع قوته وصلابته {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} وتحمّل تجلّيّ له فيمكن أن تراني، وإن صار الجبل فتاتًا فالذي يدك الجبال لا تقدر عليه أنت يا موسى، فأنت أضعف من أن تتحمل ذلك، وهذا معنى قوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} جاء في حديث عند الحاكم (¬1) أن الله كشف من نوره شيئًا قليلاً بقدر بعض ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 125، 209)، والترمذي في التفسير، (ومن سورة الأعراف) حديث رقم (3074)، (5/ 265)، وقال: «حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة» اهـ. والحاكم (2/ 320)، وقال: «صحيح على شرط مسلم» اهـ ووافقه الذهبي. وابن جرير (13/ 98)، والطبراني في الأوسط (2/ 232)، وابن أبي حاتم في التفسير (5/ 1559)، (1560)، وابن أبي عدي في الكامل (2/ 677)، وأورده البغوي في التفسير (2/ 197)، وابن كثير (2/ 244)، والسيوطي في الدر (3/ 119)، وعزاه لأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وأبي الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الرؤية .. وقد صحح سند الحديث ابن كثير في التفسير (2/ 244)، ومحمود شاكر في التعليق على ابن جرير (13/ 98). وقد أخرج ابن جرير (رحمه الله) نحوه موقوفًا على ابن عباس (رضي الله عنهما) (13/ 97).

الخنصر، فلما كَشَفَهُ وظهر للجبل صار الجبل دكًّا، اندك الجبل حَتَّى استوى بالتراب، وصار ترابًا. {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} الصحيح أن معنى قوله: {صَعِقًا}: مغشيًّا عليه، خلافًا لقتادة القائل: (خَرَّ صعقًا) أي: ميتًا (¬1). وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن معنى (صعقًا): مغشيًا عليه، وهي قوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ} لأن الإفاقة من الغشية والموت يقال: بعثه بعد الموت. لا أفاق بعد غشيته منها. وهذا معنى قوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}. قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير حمزة والكسائي {جَعَلَهُ دَكًّا} مصدر بمعنى اسم المفعول، وقرأه حمزة والكسائي: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكَّاءَ وخر موسى صعقًا} (¬2). أما على قراءة الجمهور: صار الجبل دكًّا، أي: مدكوكًا (¬3)، والدكّ: أصله طحن الجبال، فطحنه الله. قال بعضهم: حتى استوى ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1561)، وأورده ابن كثير (2/ 244)، والسيوطي في الدر (3/ 120)، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص214. (¬3) انظر: حجة القراءات ص295.

بالتراب وصار فتاتًا ترابًا لعظمة رب العالمين (جل وعلا). فتبين لموسى أن الله لو تجلى له -يعني- لما أطاق ذلك؛ ولأن ما فتت الجبال لا يقدر على حمله موسى، هذا معنى الآية. ومَعْلُوم أنَّ المُعْتَزِلة والخوارج وبعض الضُلاَّل يستدلون بهذه الآية من سورة الأعراف على أن رؤية الله مستحيلة بتاتًا في الدنيا والآخرة، ويزعمون أن (لن) في قوله: {لَن تَرَانِي} [18/ب] أنها للنفي المؤبد في المستقبل/ وأنها تنفي الرؤية مستقبلاً بتاتًا في الدنيا والآخرة، وأن موسى تاب إلى الله من هذا الطلب، حيث قال: {تُبْتُ إِلَيْكَ} (¬1). والتحقيق الذي لا شك فيه الذي يجب على كل مسلم اعتقاده في شأن رؤية الله (جل وعلا) أنها بدار الدنيا جائزة عقلاً غير واقعة شرعًا، أما جوازها عقلاً فمن أعظم الأدلة عليه: أن نبي الله موسى طلبها من ربه، ولا يخفى على موسى الجائز عقلاً من المستحيل عقلاً، فمن المحال الباطل أن يكون نبي الله موسى يجهل المستحيل بحق الله ويعلمه أشياخ القدرية الجهلة الضُّلال!! أشياخ المعتزلة الجهلة الضُّلاّل!! هذا مما لا يكون ولا يقع!! فقول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} يدل على أن رؤية الله في دار الدنيا جائزة عقلاً، والذي منع منها عجز الآدميين عن تحمُّلها؛ لأن الله لما تجلى للجبل انْدَكَّ الجبل، فما بالك باللحم والدم؟! فهي في دار الدنيا جائزة عقلاً، وأما في الآخرة فلا شك أنها واقعة، ومن أنكرها فهو ¬

(¬1) انظر: شبهتهم هذه والجواب عنها في شرح الطحاوية ص212، الأضواء (2/ 332)، دفع إيهام الاضطراب ص120 - 122 وراجع ما سبق عند تفسير الآية (103) من سورة الأنعام.

ملحد في دين الله، ضال مُضل منابذ للسنة المتواترة والقرآن العظيم. فلا شك أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وقد جاءت آيات تدل على ذلك كقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23] وقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: آية 15] يفهم من دليل خطابه -أعني مفهوم مخالفته- أن المؤمنين ليسوا يومئذ محجوبون عند ربهم، وقد استحسن العلماء استدلال الإمام الشافعي (رحمه الله) بهذه الآية على رؤية الله يوم القيامة (¬1)، أما الأحاديث فَحَدِّثْ ولا حَرَج، فقد تواترت الأحاديث الصحاح في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد والأجزاء عن نحو من عشرين صحابيًّا كرامًا فضلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ولا يكاد ينازع من له إنصاف، في تواتر أحاديث رؤية الله يوم القيامة (¬2). وجاء في الصحيحين وغيرهما [أحاديث كثيرة تدل على ذلك، وقد] (¬3) روى رؤية الله يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوٌ مِنْ عِشْرِين صحابيًّا، والأحاديث في ذلك متواترة مشهورة منها: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيانًا» «هَلْ تُضارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ؟ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَذَلِكَ» (¬4) «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ اللهَ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ» وأحاديث الرؤية صحيحة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (103) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (103) من سورة الأنعام. (¬3) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬4) جاء ذلك من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) ... } حديث رقم: (7437)، (13/ 419). ومسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم: (182)، (1/ 163)، ومن حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عند البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) ... } حديث رقم: (7439)، (13/ 420) ومسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية. حديث رقم: (183)، (1/ 167). ومن حديثهما كما في البخاري (الكتاب والباب السابقان)، حديث رقم: (7438)، (13/ 420)، ومسلم (الكتاب والباب السابقان). حديث رقم: (182)، (1/ 163). ومن حديث جرير البجلي (رضي الله عنه) عند البخاري في مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة العصر. حديث رقم: (554)، (2/ 33)، وأطرافه: (573، 4851، 7434، 7435، 7436). ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر، حديث رقم: (633)، (1/ 439).

متواترة لا يطعن فيها إلا ملحد، والمعتزلة يحاولون دفعها، وهي لا تُدفع بالتأويلات الباطلة، والكلام الذي لا طائل تحته، فتحصّل أن التحقيق أن رؤية المؤمنين لربهم أنها في دار الدنيا جائزة عقلاً، وأنها في الآخرة واقعة شرعًا، فهي في دار الدنيا جائزة عقلاً غير واقعة شرعًا، وفي الآخرة واقعة شرعًا بلا نزاع ممن يُعتد به لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث المتواترة. وما استدل به المعتزلة على استحالة رؤية الله: أما الأدلة العقلية التي يزعمون فكلها فلسفات باطلة لا طائل تحتها، كزعمهم أن رؤية الله تستلزم الجهة، وأن ذلك محال، وتستلزم أنواعًا من المقابلات، وأن كل ذلك محال، وأنهم يقولون: لو خيلنا أن بين العبد وربه حين

يراه شكلاً مثلثًا، فشعاع العين الذي يمشي مع المستقيم يسبق إليه (جل وعلا) قبل الذي يمشي مع الزاوية المنفرجة فيسبق هذا هذا، وهذا محال. وهو كلام كله باطل وضلال لا طائل تحته!! وما استدلوا به من قوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فقد أجاب العلماء عنه بأن المنفي بقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: آية 103] الإدراك المشعر بالإحاطة، أما مطلق الرؤية فليس هو المنفي في ذلك، بدليل قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23] فما يدّعونه من الاستحالات العقلية لا طائل تحته. وما تمسكوا به مِنَ النَّقْلِ لا حُجَّةَ لهم فيه، والتحقيق الذي لا شك فيه أنَّ المؤْمِنين يرون ربهم يوم القيامة لا يضارون في ذلك، كما صرّح به الصادق المصدوق، ورواه عنه نحو عشرين صحابيًّا من أصحابه (رضي الله عنهم). هذا هو التحقيق في هذا المقام. وقول المعتزلة: «إن (لن) حرف نفي يدل على نفي الشيء للمستقبل نفيًا باتًّا» هو كذب أيضًا، وتَقَوَّلٌ على اللغة العربية بما ليس منها!! والذي دَلَّتْ عَلَيْهِ أدِلَّة العَرَبِيَّةِ الواردة في القرآن الذي هو في الطرف الأعلى من الفصاحة والإعجازات على أن قول المعتزلة هذا بأن (لن) إنها للنفي في المستقبل نفيًا أبديًّا باتًّا هذا باطل كذب. وقد دلت ثلاث آيات من كتاب الله على كذب هذا القول، وأنه ليس بصحيح: إحداها: أن (لن) لو كانت نصًّا صريحًا في النفي المستقبل الباتّ الأبدي لما جاز تقييد نفيها في يوم ولا ظرف معين، وقد جاء

بالقرآن تقييد نفيها بيوم معين، في قوله: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم: آية 26] لو كان نفي (لن) للكلام نفيًا مؤبدًا إلى يوم القيامة لكان قول مريم مناقضًا لذلك التأبيد كما ترى. الموضع الثاني: أن (لن) لو كانت تقتضي التأبيد الأبدي لما كان الله يقول بعد نفيها (أبدًا)، لأن لفظة (أبدًا) تكون تكرارًا مع التأبيد الذي دلت عليه (لن) كقوله: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: آية 95] لأن قوله: {أَبَدًا} على زعم المعتزلة يكون تكرارًا مع النفي الأبدي الذي زعموا أنه تدل عليه (لن) فلما قال الله بعد نفيها: {أَبَدًا} عرفنا أنهم كاذبون في ذلك. الموضع الثالث: أن (لن) لو كانت تدل على النفي المؤَبَّد البات إلى الأبَدِ لما جاز أن يوقّت نفيها بغاية معينة، وقد جاء في القرآن أن الله غيَّا نفيها بغاية معينة، وكونه غيّاه بغايَة معينة يناقض أنه إلى الأبد، كما في قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} قوله: ... {حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: آية 80] قَصْرُ هذا النفي على وقت الإذن ينافي كون (لن) هي نصّ في النفي البات كما ترى، فتبين من هذا أن قول المعتزلة: إن (لن) للنفي المستقبل البات الأبدي ولو فرضنا أن العربية تساعدهم على ما يقولون - فرض جدل - لما كان لهم في ذلك حجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - بيّن في الأحاديث الصحيحة المتواترة أن نفي {لَن تَرَانِي} منقطع يوم القيامة، فصرح بأنهم يرونه يوم القيامة كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: {لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}. قرأ هذا الحرف من السبعة: عاصم وأبو عمرو وحمزة:

{وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} بكسر نون (لكن) على قاعدة التخلّص من التقاء الساكنين. وقرأه باقي السبعة: {ولكنُ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ} بضم النون إتْباعًا لضمة الراء كما هو معروف (¬1). {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ} الجبل {مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي: ظهر (جل وعلا) وكشف نوره للجبل انهد الجبل، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} أي: مدكوكًا، قال بعض العلماء: رفاتًا ترابًا مختلطًا بالأرض. وعلى قراءة حمزة والكسائي: {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} (¬2) [الأعراف: آية 143] كأنه شبهه بالناقة الدكَّاء، والعرب تقول: ناقة دكَّاء، وجبل أَدَكّ. فالناقة الدكَّاء هي التي لا سنامَ لها؛ أي: لا ارتفاع في ظهرها، فظهرها كله مستو غير مرتفع، فكانت أرض الجبل كأنها لا ارتفاع فيها، وأنها دكّاء مستوية بالأرض، خلافًا لبعضهم القائل: إن دكَّاء مرادها: المرتفعة عن الأرض قليلاً كالدكة، وعلى كل حال فالله (جل وعلا) لما تجلَّى للجبل دك الجبل وأزاله وكسَّره، وصار رُفاتًا لعظمة خالق السماوات والأرض على القراءتين: {جَعَلَهُ دَكًّا} {جعله دكَّاء}. {وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} خرّ نبي الله موسى من شدة الخطب الذي دك الجبل، خرّ في حال كونه صعقًا، أي: مغشيًّا عليه، خلافًا لقتادة القائل: ميتًا، وأن الله أحياه. ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 61). (¬2) مضى قريبًا.

وقوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ} أي: نبي الله موسى أفاق من غشيته قال: {سُبْحَانَكَ} (سبحان) كلمة تدل على التنزيه. معناه: تنزيهًا لك عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك (¬1)، وهذه الكلمة أعربها الشيخ سيبويه بأنها مصدر منصوب بفعل يُحذف دائمًا (¬2)، أي: أُسبحك سبحانك. أي: تسبيحًا أنزهك عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك. ولفظة (سبحان) ملازمة للإضافة إلى المفرد، وسُمع نادرًا إتيانها غير مضافة، ومنه قول الأعشى: في شعره بالمنافرة بين علقمة بن عُلاثة وعامر بن الطفيل المشهورة (¬3): فَقُلْتُ لمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ وهذا معنى قوله: {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهًا لك عما لا يليق بكمالك وجلالك، ومن ذلك أن يَتَحَمَّلَ أحد رؤيتك في دار الدنيا، فإن عَظَمَتَكَ تدكّ الجبال. وقال بعضهم: قوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} لأن موسى تجرّأ على سؤال الرؤية من غير إذن (¬4)، وقد كان يظن أن قدرته تتحملها، فالذي جهله موسى هو مدى قدرة نفسه، أما ما يجوز في الله وما يستحيل فلا يجهله نبي الله موسى كما هو معروف. {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير نافع: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} من ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 265). (¬2) الكتاب (1/ 322 - 327). (¬3) ديوان الأعشى ص93، وأوله: «أقول ... ». (¬4) انظر: القرطبي (7/ 279).

غير مدّ النون. وقرأه نافع وحده: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنآ أَوَّلُ المؤْمِنِينَ} (¬1). قال بعض العلماء (¬2): أول المؤمنين من بني إسرائيل. وقال بعضهم: أول المؤمنين بأن البشر لا يقدرون على رؤيتك في دار الدنيا. هكذا قاله بعضهم (¬3)، والله أعلم. هذا معنى قوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. قال الله {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} قرأه بعض السبعة: {إنّيَّ اصْطَفَيْتُكَ} (¬4) اصطفيتك: معناه: اخترتك. والطاء مبدلة من تاء الافتعال؛ لأن المقرر في فن الصرف: أن تاء الافتعال إذا جاءت بعد حرف من حروف الإطباق أُبدلت طاءً كما هو معروف في محله (¬5). والاصطفاء معناه: الاختيار. أي: اخترتك على الناس {بِرِسَالاَتِي}. قرأ هذا الحرف جمهور القراء غير نافع وابن كثير: {بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} بصيغة الجمع المؤنث السالم، وقرأه من السبعة نافع وابن كثير: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِي} بالإفراد (¬6)، ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 62). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 104). (¬3) المصدر السابق (13/ 102 - 103). (¬4) انظر: المبسوط لابن مهران ص219. (¬5) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال 418 - 419. وراجع ما سبق عند تفسير الآية (119) من سورة الأنعام. (¬6) انظر: السبعة ص293.

ومعنى القراءتين واحد؛ لأن الرسالة أُضيفت إلى معرفة فهي تعم، وتكون بمعنى الجمع كما هو معروف. {بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} الذي كلمتك به {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ}. {مَا آتَيْتُكَ} وهو التوراة. يعني: خذها كما يأتي: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: آية 145]. {وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: آية 144] لله على هذه النعم العظام حيث كلمك، وأهلك عدوك، وكتب لك هذا الكتاب العظيم الذي هو التَّوْرَاة. وقوله: {مِّنَ الشَّاكِرِينَ} الشاكرون جمع الشاكر، وهو اسم فاعل الشكر، وقَدْ قَدَّمْنَا مرارًا (¬1) أن الشكر في لغة العرب: الظهور، ومنه: (ناقة شكور) يظهر عليها السِّمَن، و (الشكير): الغصن الذي يظهر في الجذع الذي كان مقطوعًا، كما هو معروف. والشكر في القرآن يطلق من الرب لعبده، ومن العبد لربه، كما قال في شكر الرب لعبده: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 158]، وقوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: آية 34] ومعنى شكر الرب لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل. ويُطْلِق الشكر من العبد لربه كقوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: آية 13] {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] وضابط شكر العبد لربه: هو أن يصرف نعمته بما يرضيه. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

اعلموا -أيها الإخوان- أن شكر خالقنا واجب علينا (¬1)، فهذه العيون التي فتح الله في أوجهكم من أعظم نعمه عليكم، فمِن شُكْرِها: أن لا تنظروا بهذه العيون إلا ما يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وتَفَضَّلَ عَلَيْكم بها، أما النَّظَرُ في المحرَّمَات فلا ينبغي للعبد أن يَسْتَعْمِلَ نِعْمَةَ اللهِ فيما يغضب الله ويسخطه، فهذا أمر فظيع شنيع!! منّ الله عليكم بهذه الأيدي، وفرّق أصابعها، وأبعد إبهامها من الأصابع ليمكنكم العقد والحل، وشد رؤوسها لكم بالأظفار، فَشُكْر هذه الأيدي: ألا تبطشوا بها، ولا تتناولوا بها إلا ما يرضي مَنْ خَلَقَهَا وامْتَنَّ عليكم بها، وهكذا في سائر الأعضاء والجوارح، والجاه والمال، وغير ذلك، فلا تستعينوا على سخط الله بنعم الله، بل اشكروا لله نعمه، واصرفوا نعمه فيما يُرْضِيهِ، واعلموا أنَّ مِنْ أَقْبَحِ القبائح وأرْذَلِ الرذائل أن يكون العبد الضعيف الحقير يمُنّ عليه خالق السماوات والأرض (جل وعلا) مع عظمته وجلاله بنعمه ثم إنه يصرف نعمه فِيمَا يغضبه ويسخطه!! هذا مِنْ أقْبَحِ الأفْعَالِ وأخَسِّهَا، ومَنْ لَهُ عَقْلٌ يستحيي مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلكَ. واعلموا أن مادة (الشكر) تتعدى إلى النعمة بنفسها بالإجماع، كقوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: آية 19] أما تعدي مادة (الشكر) إلى المنعم فاللغة الفصحى أنها تتعدى باللام، وبالغ قوم من علماء العربية فقالوا: لا يجوز تعديها بنفسها (¬2)، وهذا إفراط شديد!! فمثلاً لو قلت: نحمد الله ونشكره. هذا لا ينبغي أن يُقال!! وليس هو الأولى. وزعم بعضهم أنه لا يجوز. فيقول: نحمد ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

الله ونشكر له. ولا يقول: ونشكره. ومن ادعى أن: (ونشكره) وأن تعدي مادة الشكر إلى المفعول الذي هو المنعم بنفسها لا يجوز؛ خلاف التحقيق. والحق الفصل الذي لا شك فيه في هذا المقام: أن اللغة الفصحى أن تتعدى إليه باللام لا بنفسها، وأن تقول: نحمد الله ونشكر له. هذه اللغة الفصحى بلا نزاع. وهي لغة القرآن، يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] ولم يقل: أن اشكرني. ويقول: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: آية 152] ولم يقل: واشكروني. أما قولهم: إن مثل قوله: (أحمده وأشكره) أنه لحن لا يجوز. فليس بصواب، بل (أشكره) لغة مفضولة، و (أشكر له) هي اللغة الفصحى، وقد جاء عن العرب أنهم يُعَدُّونَ -مثلاً- الشكر إلى المنعم بلا واسطة الحرف، وهو متبوع في كلامهم، ومن أمثلته في كلامهم قول أبي نخيلة (¬1): شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى ... وَمَا كُلُّ من أَوْلَيْتَهُ نعمةً يَقْضِي ولم يقل: شكرت لك. وإنما قال: شكرتك. ومنه بهذا المعنى قول جميل بن معمر (¬2): خَلِيْلَيَّ عُوجَا اليومَ حتى تُسَلِّمَا ... على عَذْبَةِ الأَنْيَابِ طَيِّبَةَ النَّشْرِ فإنكُما إنْ عُجْتُمَا ليَ ساعةً ... شكرتُكُمَا حتى أُغَيَّبَ في قبري فإنه عربي قح، وقد قال: شكرتكما. ولم يقل: شكرت لكما. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

وقول الله في هذه الآية: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: آية 144] صفة الكلام هي التي جاء بها الذين يبحثون عن الكلام (¬1)، وجاءوا ببلايا، وجاءوا بعلم الكلام، وغيّروا عقائد الناس، وجاءت البلايا من ذلك الوقت لما دخل علم الكلام في المسلمين، وصاروا يحكِّمون العقل في صفات الله تعالى، وينفون الصفات بالتأويلات، بزعمهم أن العقل يمنعها، جاء من ذلك شر كبير، ومصدر هذا الشر الكبير، عسى الله أن يعفو عن المأمون فيه؛ لأنه هو أول من ترجم الكتب اليونانية، وكان منها هذه المقاييس المنطقية، وقد قدمنا لكم مرارًا (¬2) أن الطريق الأحوط الذي يُنجي المسلم ويخلصه من القيل والقال والبلايا كلها حتى يلقى الله سالمًا على أساس صحيح في نور القرآن العظيم هو أن يلتزم الأسس الثلاثة التي أكثرنا من تكرارها في هذه الدروس، ونحن كررناها قصدًا لشدة الحاجة إليها، وكثرة من غفل عنها من المتعلِّمين، وقد بيّنا لكم مرارًا أَنَّ مَنْ أرَادَ مِنْكُمْ أن يلقى الله سالمًا ويتخلص من هذا المأزق في آيات الصفات؛ كصفة الكلام، وصفه اليد، والاستواء وجميع الصفات أن يبنيه على ثلاثة أُسس: أولها: وهو أساس العقيدة الصحيحة: تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم. والخلق صنعة، وهو (جل وعلا) صانعها، والصنعة لا تشبه صانعها لا في ذاته، ولا في فعله، ولا في صفته. فإذا ¬

(¬1) يريد أنهم جاءوا فيها بالخوض في الباطل، وإلا فمن المعلوم أن صفة الكلام ثابتة في الكتاب والسنة. (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

استقر هذا الأساس الأعظم في القلوب وطهرت من أقذار التشبيه، وغلب عليها تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة خلقه سهل عليها. الأساس الثاني: وهو أن تؤمن بصفات الله الثابتة في كتابه وسنة رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه. ونحن نكرر لكم مرارًا أن هذا التعليم ما قلناه من تلقاء أنفسنا، لا والله وكلا، ولكنا نقوله في ضوء المحكم المُنَزَّل، كلام رب العالمين؛ لأنه أوضح هذا إيضاحًا شافيًا لا يترك في الحق لبسًا، وذلك أنه لما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أتبعه بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فجميع الحيوانات تبصر -ولله المثل الأعلى- فكأن الله يقول لك في هذه الآية: يا عبدي لا تتنطع وكن عاقلاً، ولا تذهب بصفتي إلى صفة خلقي فتكون مشبهًا، وتضطر إلى التأويلات والبلايا، بل لاحظ في إثبات الصفات أني لا مثيل لي ولا نظير، وأَثْبِتْ لِي صِفَاتِي عَلَى ذلك الشَّرْط المُعَيَّن؛ ولذا جاء بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] أي: أثبت لي سمعي وبصري، ولا تذهب بهما إلى مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم، بل أثبتهما على أساس ما ذكرتُ قبلهما، وهو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فتثبت له سمعه وبصره على أساس التنزيه والتقديس والتكريم عن مشابهة صفات المخلوقين، فتكون أولاً مُنزّهًا، وثانيًا مُثْبِتًا على أساس التنزيه، وإن جئت يوم القيامة لا يأتيك لوم ولا توبيخ من أنك نزهت الله، والله لا يقول لك الله: لِمَ كنت تنزهني في دار الدنيا عن مشابهة خلقي؟ لا، أبدًا. هذا طريق سلامة محقق. ولا يقول لك: لِمَ كنت تصدقني في صفاتي التي مدحت بها نفسي وأثنى عليَّ بها

رسولي صلى الله عليه وسلم وعليك أن تقف عند حدّك (¬1). هذا ذكرناه مرارًا مطولاً ومختصرًا، فعلينا أن ننزّه خالقنا عملاً بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4] {فَلاَ تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74] وعلينا أن نُصَدِّقَهُ بما وصف به نفسه، ولا نقول: هذا نص يوهم غير اللائق!! فنثبت: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} على أساس: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} [الشورى: آية 11] ولا نقول: هذا نص يوهم غير اللائق؛ لأن الحيوانات تسمع وتبصر فنؤوّله!! لا نفعل ذلك، ونقف عند حدّنا {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاُ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110] ونعلم أن الله وصف نفسه بأنه كلم موسى، وأكد ذلك التكليم في سورة النساء بالمصدر في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: آية 164] يجب علينا أن نعلم أن الكلام صفة الله الأزلية، وأنه لم يَتَجَرَّدْ يومًا ما عن أنه متكلِّم، وأنه في كل يوم يتكلم بما شاء، كيف شاء، على الوجه اللائق بكلامه وجلاله المنزّه عن مشابهة كلام المخلوقين من جميع الجهات، ونُمِرُّه كما جاء مع تنزيه الله وتعظيمه، ولا نأتي بشيء من المحالات والبلايا. وهنا للمتكلمين ضلالات طويلة، وكلام باطل طويل في الكلام لا يسعه هذا المقام. [19/أ] / {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا ¬

(¬1) لم يذكر الأساس الثالث وقد ذكره في الموضع السابق عند الكلام على هذا الموضوع، وهو قطع الطمع عن إدراك كيفيات الصفات.

أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} [الأعراف: الآيات 148 - 150]. يقول الله جل وعلا: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (148)}. {قَوْمُ مُوسَى} هم بنو إسرائيل، أي: واتخذ بنو إسرائيل {مِنْ حُلِيِّهِمْ} أصل هذا الحلي للقبط استعاره منهم الإسرائيليون لعُرس أو ليوم زينة عندهم كانوا يَتَزَيَّنُون فيه، وأُمر موسى أن يسري ببني إسرائيل قبل أن يردوا الحلي للقبط، فسافروا به، وأهلك الله فرعون وقومه، وبقي ذلك الحلي المستعار منهم عند الإسرائيليين، فاتخذ السامري العجل من ذلك الحلي. وهنا قال: {مِنْ حُلِيِّهِمْ} قال بعض العلماء: لأن الله أَوْرَثَهُمْ أموالهم بعدهم كما في قوله: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} [الشعراء: آية 59] ولذا أضافه إليهم بعد هلاك فرعون وقومه. وقال بعض العلماء: الإضافة تقع بأدنى ملابسة، فلما كان تحت أيديهم عاريةً عندهم أضافه إليهم بهذه الملابسة، وقد بيَّن في «طه» أنه من زينة قوم آخرين كما ذكر عن الإسرائيليين أنهم قالوا: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} [طه: آية 87] وهي حلي القبط. هذا وضابط ذلك أن السامري -قبّحه الله- موسى بن ظفر رأى جبريل لما جاء على فرس

ليأخذ موسى إلى الميعاد، أو ليمشي أمام فرعون وقومه، والأكثرون يقولون: إن موسى لما أراد الله إتيانه للميعاد أرسل إليه جبريل. قالوا: وكان جبريل راكبًا على فرس فلاحظها السامري، كل شيء مسه حافر تلك الفرس ينبت فيه النبات، فَعَرَفَ السَّامِرِيُّ أن الله (جل وعلا) جعل في أثر تلك الفرس خاصة الحياة، فجاء وقبض قبضة من التراب الذي مسه حافر ذلك الفرس ثم أمسك ذلك التراب عنده، وكان السامري -قبحه الله- صائغًا فصاغ ذلك العجل. يقول بعض المؤرخين: إنه بعد غيبة موسى قال لهارون: هذا الحلي صار غنيمة، والغنائم لا تحل لكم فاجعلوه في النار ليكون قطعة واحدة ليكون ذلك أيسر لأمره حتى يأتي نبي الله موسى فَيَرَى رَأْيَهُ فيه، وإنهم لما جعلوه في النار صاغه السامري على صورة عجل، ولما صاغ ذلك الحلي على صورة عجل جعل فيه ذلك التراب الذي كان مُدَّخرًا له -الذي مسه حافر فرس جبريل وجعل الله فيه خاصة الحياة- فصار ذلك العجل جسدًا له خوار. وقد أشار الله إلى هذا في سورة (طه) في قوله عن موسى والسامري: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} يعني من أثر حافر فرس الرسول، يعني جبريل {فَنَبَذْتُهَا} [طه: الآيتان 95، 96] أي: على العِجْل. فجعله الله جسدًا له خوار، فلما ألقى السامري ذلك التراب على العِجْل وصار ذلك العِجْل المصوغ من الحلي جسدًا له خوار. الخوار في لغة العرب: هو أصوات البقر خاصة، تقول العرب: خارت البقر تخور وتخاورت البقر؛ أي: صَوَّت بعضها إلى بعض، وهذا معروف في كلامهم، ومنه قول العباس بن مرداس السُّلَمِي في غزوة حنين في

معرض مدحه لسليم (¬1): لا يغرسونَ فَسِيْلَ النخلِ حولهم ... ولا تَخَاوَرُ في مَشْتَاهُم البقرُ فالخوار: صوت البقر. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: {مِنْ حُلِيِّهِمْ} بضم الحاء وتشديد الياء (¬2). والحُلي أصله: (حُلُوْي) جمع حَلْي (فَعل) مجموع على (فُعُولَ) وجمعه (حُلُوْي) كفَلْس وفُلُوس، وظَهْر وظُهُور، وحَلي وحُلُوْي، اجتمعت فيه الواو والياء، أولاهما ساكنة غير عارضة ولا عارضة السكون، فوجب إبدال الواو ياءً، وقُلبت ضمة اللام كسرة لمجانسة الياء فقيل: من حُليِّهم (¬3). وقرأه حمزة والكسائي: {واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حِلِيِّهِمْ} بكسر الحاء إتباعًا للاَّم، وأصل الحاء مضمومة (¬4). وقوله: {عِجْلاً} العِجْلُ وَلَدُ البَقَرَةِ، ويجمع على عجاجل على غير قياس (¬5). وقوله: {عِجْلاً جَسَدًا} [الأعراف: آية 148] قال بعض العلماء: الجسد هو البدن الذي فيه اللحم والدم، ويدل لهذا قوله: ¬

(¬1) البيت في السيرة لابن هشام (4/ 1317)، وسيأتي في سياق أبيات القصيدة عند تفسير الآية (25) من سورة التوبة. وشطره الأول: لا يغرسون فسيل النخل وسطهم (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص214. (¬3) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص86. (¬4) انظر: المبسوط لابن مهران ص214. (¬5) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)} [الأنبياء: آية 8] واختلف العلماء في هذا العِجْلِ هل جعل الله فيه لحْمًا ودَمًا وجعله حيًّا، أو هو عجل باقٍ في صورة الذهب والفضة إلا أن الرياح إذا دخلت في منافذه كان يُسمع في داخله صوت يشبه أصوات البقر؟ قال بكلٍّ منهما بعض العلماء (¬1). وظاهر قوله: {جَسَدًا} أن الله جعله عجلاً، والله (جل وعلا) قادرٌ على كل شيء لا يتعاصى على قدرته شيء. وقوله الآتي: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ} [طه: آية 57] على أن التحريق معناه التحريق بالنار كما قاله جماعة من العلماء، فيظهر أن العجل صار جسدًا لحمًا ودمًا؛ لأن اللحم والدم إذا أُحرق بالنار يبس وأمكن دقه ونسفه في البحر؛ لأن الذهب والفضة لا يمكن دقهما ونسفهما في البحر، وأما على أن المعنى لنحرّقنّه: نبردنّه بالمبارد كما تشهد له القراءة الأخرى: {لَنَحْرُقَنَّهُ} (¬2) [طه: آية 97] فعلى هذا المعنى فالأليق أن يكون بقي ذهبًا وفضة إلا أنه يصوّت صَوْتَ البَقَر إذا دخلت الريح في داخله. وقوله: {عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ} مفعول (اتخذ) الثاني محذوف لدلالة المقام عليه، أي: اتخذوا عجلاً جسدًا إلهًا معبودًا من دون الله. فحذف المفعول الثاني لدلالة المقام عليه، وهذا هو التحقيق، والنكتة في حذفه: أنه لا ينبغي أن يُتَلَفَّظَ بأن عجلاً مصطنعًا إلهًا (¬3) فحذف لهذه النكتة كما قاله بعضهم. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (2/ 63)، فما بعدها. (¬2) انظر: إتحاف فضلاء البشر (2/ 256)، وانظر: القرطبي (11/ 242). (¬3) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. وانظر: الأضواء (2/ 333).

{عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ} قال في سورة طه: إنَّ السامري لمّا اصطنعه لهم قال لهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: آية 88] فنسي موسى أن هذا إلهه، وذهب يطلبه في موضع آخر. وقال هنا: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} قرر علماء التفسير أن كل فعل مضارع مجزوم بـ (لم) إذا جاءت همزة الاستفهام قبل لم ففيه في جميع القرآن وجهان معروفان لعلماء التفسير (¬1): أحدهما: أن المضارع تنقلبُ مُضَارَعَتُه مَاضَويَّة، وينقلب نفيه إثباتًا، فيصير قوله هنا: {أَلَمْ يَرَوْا} ينقلب المضارع ماضيًا، والنفي إثباتًا، فيصير المعنى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ} أي: رأوا أنه لا يكلمهم، أي: علموا بذلك، وعليه فيكون معنى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: آية 1] شرحنا لك. {أَلَمْ أَقُل لَّكَ} [الكهف: آية 75] قلت لك، {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)} [البلد: آية 8] جعلت له عينين، وهكذا. أما انقلاب المُضَارَعَة مَاضَوِيَّة فلا إشكال فيه؛ لأن (لم) حرف قلب، تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى الماضي، كما هو معروف لا إشكال فيه. أما وجه قلب النفي إثباتًا: فالهمزة الداخلة على (لم) مضمنة معنى الإنكار، ففيها معنى النفي، فيتَسَلَّطُ النفي الكامن فيها على النفي الصريح في (لم) فينفيه، ونفيُ النفي إثبات. الوجه الثاني: أن الاستفهام في (ألم) في جميع القرآن هو استفهام تقرير (¬2)، والمقرر في فن المعاني أن المراد باستفهام ¬

(¬1) انظر: الحروف العاملة في القرآن الكريم ص633. (¬2) انظر: الإتقان (3/ 235)، الحروف العاملة في القرآن الكريم ص634.

التقرير: هو حمل المخاطب على أن يقر ويقول: بلى (¬1)، وعلى هذا فالمراد بالاستفهام: حمل المخاطبين على أن يقروا ويقولوا: بلى هو لا يكلم ولا يهدي سبيلاً، وليس بشيء يستحقُّ أن يُعبد. وهذا معنى قوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ} ألم يروا أن هذا المعبود الذي افتروه واختلقوه لا يكلمهم؟ والمعبود الحق لا بد أن يكون يُكلم، ومعبود أهل السماوات والأرض بالحق يقول عن كلام نفسه: {لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: آية 109]، وفي الآية الأخرى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: آية 27] هذه صفة المعبود حقًّا، أمّا الذي لا يقدر على أن يتكلم كلمة واحدة فهذا ليس بمعبود. وقوله: {وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} المعبود هو الذي يهدي، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ} [يونس: آية 35] أما الذي لا يهدي سبيلاً أي: طريقًا كائنًا ما كان فلا يمكن أن يكون برب ولا بمعبود، فلما قرر (جل وعلا) أن هذا العجل الذي اتخذوه إلهًا تنتفي عنه الصفات التِي يجب أن تكون للإله صرح بأنهم عبدوه وهم ظالمون في ذلك فقال: {اتَّخَذُوهُ} اتخذوه إلهًا {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} ظالمين في ذلك. وقد فسرنا الظلم مرارًا (¬2)، وبيّنَّا أن أصله في لغة العرب: وضع الشيء في غير موضعه، وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه: ¬

(¬1) انظر: البرهان للزركشي (2/ 333)، (4/ 235)، جواهر البلاغة ص78. (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

وضع العبادة في عجلٍ مصطنع جماد!! من عبد هذا وأعطاه حق الله فقد وضع العبادة في غير موضعها، وأكبر أنواع الظلم: وضع العبادة في غير موضعها كظلم هؤلاء بعبادة هذا العجل؛ ولأجل ذلك كثر في القرآن إطلاق الظلم على الشرك بالله كقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] وقوله: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: آية 106] أي: من يعبد عجلاً مصطنعًا فهو من الظالمين الواضعين العبادة في غير موضعها كما هو ظاهر. {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} [الأعراف: آية 149]. قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} كناية عَنْ شِدَّةِ النَّدَمِ، فكُلّ مَنْ أصَابَهُ نَدَمٌ شَدِيدٌ حتى بقي حائرًا من شِدَّةِ نَدَمِهِ تقول العرب: سُقِطَ فِي يَدِهِ (¬1). فمعنى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} لما ندموا غاية الندم وبقوا مُتَحَيِّرينَ على كُفْرِهِمْ بالله وعبادتهم لعجل مصطنع {وَرَأَوْاْ} رأى هنا بمعنى علم (¬2). أي: وعلموا علمًا يقينًا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} ضلوا عن طريق الصواب والرشد، وقد بيّنا في هذه الدروس مرارًا (¬3) أن الضلال جاء في القرآن إطلاقه على ثلاثة معان، وهي إطلاقات معروفة مشهورة في كلام العرب مستفيضة فيه، فمن إطلاقات الضلال: إطلاقه على الذهاب عن الإيمان إلى الكفر، وعن طريق ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 285)، الدر المصون (5/ 462). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 464). (¬3) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

الجنة إلى طريق النار، وهذا أكثر إطلاقاته. ومنه بهذا المعنى: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: آية 7] وإطلاق الضلال مرادًا به الذهاب عن علم شيء، فليس من الضلال في الدين، فكل من ذهب عن علم شيء تقول العرب: ضل عنه. ومنه بهذا المعنى قول أولاد يعقوب لأبيهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: آية 95]، أي: ذهابك عن معرفة حقيقة يوسف، هو قد مات من زمان وأنت كل يوم تسأل عنه. وكقولهم فيه: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: آية 8] لا يعنون الضلال في الدين، وإنما يعنون الذهاب عن حقيقة الأمر حيث زعموا أنه فَضَّل يوسف وأخيه عليهم، وأنهم أكثر نفعًا على أبيهم من يوسف وأخيه، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} أي: تذهب عن علم معرفة المشهود به {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: آية 282]، ومنه بهذا المعنى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} [طه: آية 52] أي: لا يذهب عنه علم شيء سبحانه وتعالى عن ذلك، ومنه بهذا المعنى قول الشاعر (¬1): وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلاً أرَاهَا في الضَّلالِ تَهِيمُ أي: في عدم معرفة الحقيقة حيث ظنت أني أبغي بها بدلاً، والأمر على خلاف ذلك. الاستعمال الثالث: هو استعمال العرب الضلال في الغيبة والاضمحلال، يقولون لكل شيء غاب واضمحل يقولون فيه: ضَلَّ، كقولهم: ضل السمن في الطعام. إذا غاب واضمحل فيه، ومنه بهذا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

المعنى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأنعام: آية 24] وقوله: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة: آية 10] يعنون: إذا ضلت عظامهم في الأرض؛ أي: أكلها التراب واختلطت به وغابت واضمحلت فيه. ومن أجل هذا كانت العَرَبُ تسمِّي الدَّفْنَ (إضْلالاً) لأنَّ مَنْ دُفِنَ يَضِلّ في التّراب، وتأكل الأرض عِظَامَهُ ويختلط بها؛ ولذا كانوا يسمون الدفن إضلالاً، ومنه قول نابغة ذبيان (¬1): فَجَاءَ مُضلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وغُودِرَ بالجولانِ حزمٌ ونَائِلُ مضلوه: يعني دافنيه. وقول المخبَّل السَّعْدِي يرثي قيس بن عاصم المنقري التميمي (¬2): أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْن سَعْدٍ عَمِيدهَا ... وفَارِسَهَا في الدَّهْرِ قيسَ بْنَ عَاصِمِ ومن إطلاق العرب الضلال على الغيبة والاضمحلال قول النَّصْرَانيّ الشَّاعر الأخطل (¬3): كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبدِ ... قَذَفَ الأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلاَلاً أي: إذا غاب غيبوبة واضْمَحَلّ اضْمِحْلالاً، ومنه بهذا المعْنَى قول الآخر (¬4): أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ ... عَنِ الحَيِّ المُضَلّلِ أَيْنَ سَارُوا أي: المغيب. ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب ... ». (¬2) مضت عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب ... ». (¬3) مضت عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب ... ». (¬4) مضت عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب ... ».

زاد بعض العلماء: أن العَرَبَ تطلق الضلال على الحبّ، وهذا إطلاق غير مشهور معروف كهذه الإطلاقات الثلاثة التي ذكرنا. {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي: علموا أنهم قد ضلوا عن طريق الإيمان إلى طريق الكفر، أنابوا إلى الله وتابوا ملتجئين إلى الله. {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف: آية 149] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} بـ (ياء الغيبة) و {رَبُّنَا} مرفوعٌ فاعل: {يَرْحَمْنَا}. وقرأه حمزة والكسائي من السبعة: {قَالُوا لَئِن لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (¬1). فمعنى قراءة حمزة والكسائي (¬2): لئن لم ترحمنا يا رَبَّنَا، وتغفر لنا يا ربنا لنكونن من الخاسرين. أمّا على قراءة الجمهور: فالمعنى: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} أي: يتداركنا برحمته {وَيَغْفِرْ لَنَا} الغفران: هو محو الذنوب حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها بعد ذلك. {وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} والله لنكونن من الخاسرين. وأصل الخسران: نقصان مال التاجر مِنْ رِبْحٍ أوْ رَأْسِ مَالٍ، وهو قد يُطلق في الشَّرْعِ وفي القرآن على غَبْنِ الإنسان في حظوظه مِنْ رَبِّهِ، وأكبر الخسارة غبن الإنسان بحظوظه من خالقه جل وعلا. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص215. (¬2) انظر: حجة القراءات ص296، القرطبي (7/ 286)، الدر المصون (5/ 465).

وقد بيّنا في هذه الدروس مرارًا وكررنا (¬1) أن هذا الخسران أقسم الله في سورة عظيمة من كتابه أنه لا ينجو منه أحد إلا بشروط معينةٍ منصوصة في كتاب الله، كما أوضح الله ذلك في قوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} {إِنَّ الإِنسَانَ} الألف واللام للاستغراق، فهو بمعنى: أن كل إنسان كائنًا من كان {لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: الآيات 1 - 3]. وقد كررنا في هذه السور الماضية مرارًا (¬2) أن العلماء ضربوا لهذا الخسران مثلين، في كل منهما موعظة يتعظ بها المؤمن في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، كررناها مرارًا، ولا نزال نكررهما لعل الله أن يرسل موعظة لقلوب إخواننا تهديهم إلى ما يرضي الله، وتنهاهم عما يكرهه خالقهم، فمن ذلك: أن العلماء قال بعضهم: إن الله (جل وعلا) أعطى كل إنسان رأس مال، وأمره بالتجارة فيه مع خالقه، ورأس هذا المال المعطى لكل إنسان هو الجواهر النفيسة، والأعلاق العظيمة التي لا مثيل لها في الدنيا، ألا وهي: ساعات العمر ودقائقه وثوانيه. فليعلم كلٌّ منا أن رأس ماله الذي أعطاه خالقه جواهر لا مثيل لها في الدنيا، ولا نظير لها، ولا يوجد شيء أكبر منها فائدة إذا أُعملت على الوجه الأتم، ألا وهي: ساعات عمره ودقائق حياته وثوانيها. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف. (¬2) السابق.

هذا رأس مالك أيها الإنسان، وأنت مأمور بتحريكه والتجارة فيه مع خالق السَّمَاوات والأرض، فإن كنت رجلاً عاقلاً يُقَدِّرُ الأمُورَ ويَخَافُ العَوَاقِبَ

السَّيِّئَةَ حركت عمرك وتاجرت فيه مع خالق السماوات والأرض تجارة، وذلك أن تصرف ساعات العمر وأوقاته ودقائقه وثوانيه فيما يُرْضِي رَبَّكَ، وتحذر أن تصرف شيئًا منه فيما يسخط خالقك (جل وعلا) فتنظر في أوقات عمرك الوقت الذي يتوجَّهُ إليك فيه أمرٌ من السماء -كأوقات الصلوات وأوقات الصوم وأوقات الحج وما جرى مجرى ذلك- فتبادر إلى امتثال أمْرك بنفس طيِّبَة مُسارعة راغبة فيما عند الله، والأوقات الذي لم يتوجه عليك طلب مخصوص تستزيد من الخير بالنصوص العامة التي تحثك على طلب الخير ومرضاة مَنْ خَلَقَكَ (جل وعلا) وتَحْذَر كُلَّ الحَذَرِ من أن ترتكب شيئًا يغضب خالقك ويسخطه، فإذا اتجرت مع الله هذه التجارة في رأس هذا المال فحركته فيما يرضيه ربحت أيها الأخ ربحًا عظيمًا، ربحت الحور العين والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، وسكنى الجنة {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: آية 17] وقد سمى الله هذه المعاملة معه من عبده سماها: (تجارة) وسماها: (بيعًا) وسماها: (شراءً) وسماها: (قرضًا) قال تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: آية 245] وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} وقال: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} [التوبة: آية 111] وقال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية [الصف: الآيتان 10، 11]. أما إذا كان الإنسان المسكين أحمق أهوج لا يبالي بالعواقب السيئة، ولا يعرف حقيقة الأمر فإنه يَزْدَرِي الجواهر التي أعطاه الله وهي أيام عمره، كصاحب المزبلة تكون عنده اليواقيت وهو يظنها حجارة عادية لا يعرف قيمتها، فيُضَيِّعُ رأس ماله وأيام عمره في قال وقيل، وفيما لا يجدي، حتى تضيع، وربما أعملها فيما لا يرضي خالقه (جل وعلا) حتى ينتهي العمرُ المحددُ له، وينفد رأس ماله، فيُذهب به إلى القبر وهو مفلس لا رأس مالٍ عنده، فإذا عدم رأس المال فالرِّبْحُ مَعْدُومٌ!! والآخرة -أيها الإخوان- دارٌ لا تصلح للمفاليس؛ لأنها ليس فيها إرفاق وليس فيها بيعٌ ولا شراء ولا هبة، ليس فيها للإنسان إلا ما قَدَّمَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ. لاَ دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوْتِ يَسْكُنُهَا ... إِلاَّ الَّتِي كَانَ قَبْلَ المَوْتِ يبنِيْهَا فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا (¬1) فعلى العاقل أن يَتَّجِرَ مَع الله، ولا يضيِّع رَأْسَ مَالِهِ، والعمر كما جعله الله رَأْسَ مَالٍ فمَنْ ضَيَّعَهُ فَقَدْ خَسِرَ الخُسْرَانَ الأَعْظَم، كذلك جعله حجة على العبد؛ ولذا عَدَّهُ مَعَ النذير في قوله في سورة فاطر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: آية 37] فجعل تعمير الإنسان عمرًا يتذَكَّر فيه ويُنِيبُ إلى رَبِّهِ حُجَّةً عليه كالرسول، فعلينا جميعًا ألا نضيع أعمارنا، ونعرف قدر قيمتها، ونُعْمِلُهَا فيمَا نَتَمَتَّعُ بِهِ بَعْدَ المَوْتِ مِمَّا يُرْضِي خالقنا؛ لأن رأس المال إِنْ ضَاع خَسِرَ الإنسان كل شيء وَنَدِمَ حيث لا ينفع النَّدم. المثل الثاني الذي ضَرَبَهُ العُلَمَاء لهذا الخسران: هو حديث جاء ¬

(¬1) هذان البيتان تقدم ذكرهما عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف.

عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أطلع أهل الجنة على مساكنهم في النار لو أنَّهم كفروا وعصوا؛ لتزداد غبطتهم وسرورهم بما هم فيه، وعند ذلك يقول الواحد منهم: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: آية 43] ثُمَّ يُطْلِع أهْلَ النار على مَنَازِلِهِمْ في الجَنَّة لو أنهم آمنوا وأطاعوا؛ لتزداد ندامتهم وحسرتهم وعند ذلك يقول الواحد منهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: آية 57] ثم إن الله يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، ومن عُوِّض منزل غيره في النار بمنزله في الجنة فصفقته صَفْقَة خَاسِرَة، وهو مِنَ الخَاسِرِين كما لا يَخْفَى. قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ ¬

(¬1) السابق.

وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: الآيات 150 - 155]. {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} [الأعراف: آية 150]. {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} لما رجع موسى إلى قومه من الميقات، عندما انتهى الميقات، وكلّم ربه وناجاه، وكتب له التوراة في الألواح، ورجع إلى قومه {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} رجع في حال كونه {غَضْبَانَ أَسِفًا} (غضبان) حال من فاعل (رجع) رجع في حال كونه غضبان. وقوله: {أَسِفًا} حال أخرى. والأسف: شدّةُ الغضب، فمعنى: {غَضْبَانَ} شديد الغضب. والتحقيق: أن {أَسِفًا} هنا معناه: شديد الغضب، فهو كالتوكيد لغضبان. ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي: فلما أغضبونا انتقمنا منهم وأغرقناهم. قوله: {غَضْبَانَ أَسِفًا} هذان حالان من قوله: {رَجَعَ مُوسَى} أي: في حال كونه غضبان أسِفًا (¬1). وجمهور علماء العربية: أن الحال تتعدد وعاملها واحد وصاحبها واحد (¬2)، خلافًا لجماعة من علماء العربية منهم أبو الحسن ابن عصفور ومن وافقه قالوا: لا يجوز تعدد ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 465). (¬2) انظر: شرح الكفاية (2/ 754)، التوضيح والتكميل (1/ 484)، ضياء السالك (2/ 96).

الحال، وإنما تتداخل، فزعموا أن {أَسِفًا} حال من الضمير المستكن في {غَضْبَانَ} وأن العامل فيها هو {غَضْبَانَ} فقالوا: الأحوال متداخلة، والجمهور يقولون: إنها متعددة لا متداخلة، وأن الحال تتعدد من غير تداخل مع العطف وبدون العطف. ومن أمثلتها بدون العطف قوله هنا: {غَضْبَانَ أَسِفًا} وقول الشاعر (¬1): عَلَيَّ إِذا مَا زُرْتُ لَيْلَى بخُفْيَةٍ ... زِيَارَةُ بَيْتِ اللهِ رَجْلاَنَ حَافِيا أي: في حال كوني ماشيًا على رجلي غير منتعل. وتأتي أيضًا مع العطف كقوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا} [آل عمران: آية 39] فهي أحوال متعددة متعاطفة. والأَسِفُ: شديد الغضب، وشذ بعض العلماء هنا فقال: الأسِفُ: الحزين، أي: غضبان حزينًا. والأول هو الأظهر (¬2)، وغضبه وشدة أسفه مما فعله قومه من عبادة العجل. {غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ} قرأ هذا الحرف جمهور القراء: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} بتحقيق الهمزة، وقرأه ورش عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو: {بِيسَمَا خَلَفْتُمُونِي} بإبدال الهمزة ياءً. ومعروف أن (بئس) في العربية فعل جامد لإنشاء الذم، وإذا جاءت بعدها (ما) فالخلاف فيها مشهور: هل فاعل (بئس) ضمير محذوف و «ما» نكرةٌ مميزةٌ لذلك الضمير؟ أو (ما) هو الفاعل؟ خلافٌ معروفٌ (¬3)، وأقوال لأهل العلم فيها، أظهرها: أن الفاعل ¬

(¬1) البيت في ضياء السالك (2/ 96)، الدر المصون (2/ 500). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 120). (¬3) انظر: الدر المصون (1/ 507 - 509).

ضمير محذوف، وأن «ما» نكرة ميزت ذلك الفاعل المحذوف، بئس هو ما. أي: شيئًا خلفتموني به. ومعنى {خَلَفْتُمُونِي} قمتم مقامي في غيبتي فيه، وكنتم خليفتي فيه، وهو عبادة العجل، على أن هذا راجعٌ للسامري ومن عبد معه العِجْل، وعلى أنه راجع للوجهَاء مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ -هارون ومن معه- فتكون خلافتهم التي ذَمَّهَا: أنهم لم يمنعوا مَنْ عَبَدَ العجل عَنْ عِبَادَةِ العجل، يعني: لم تخلفني يا هارون في قومي خلافةً حسنة حيث لم تكفف هؤلاء عن عبادة العجل. وهذا أظهر؛ لأنه قال لهارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: آية 142] ولم يقل للسامري وعَبَدةِ العجل إنهم يخلفونه في قومه، وهذا معنى قوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ}. {خَلَفْتُمُونِي} تدل على أنه غير موجود، فهي قد تغني عن قوله: {مِن بَعْدِيَ} قال بعض العلماء: وإنما زاد من بعدي مع أن {خَلَفْتُمُونِي} تدل عليها ليشير إلى أنه ما دام موجودًا كان معروفًا بالتوحيد، والقمع عن الشرك، والحمل على ما يُرْضِي اللهَ جَلَّ وَعَلا. ثم قال منكرًا عليهم: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} للعلماء في هذه الآية أقوالٌ متقاربة (¬1)، وخير ما يفسر به القرآن: القرآن؛ لأن آية طه كالتفسير لآية الأعراف هذه، وعلى ذلك فالمعنى: أن الله أمركم بأمر، ووعدكم وعدًا، وقال لكم على لسان نبيه: إن موسى يذهب إلى الموعد، وأن الله يناجيه وينزل عليه كتابًا وفيه كل خير، وكل هدى ونور، يصلح الله لكم به دنياكم ودينكم وآخرتكم، وهذا وعدٌ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 288).

عظيمٌ من الله، كما أشار له في قوله: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه: آية 80] على أحد التفسيرين. فلما وعدكم الله هذا الوعد العظيم الذي فيه كل هذا من الخير عَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكُم بِذَلِكَ الوعد، أي: عجلتم عنه، وسبقتموه، وعبدتم العجل، ولم تنتظروا الخير الذي وعدكم الله به، وجئتم قبله بكل شر وسوء وخبث. والدليل على أنّ هذا هو تفسير الآية الصحيح: أنّ الله قال في سورة طه: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} [طه: آية 86] هذا هو الأظهر في معنى الآية الكريمة: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أعجلتم عن أمر ربكم بانتظار موسى، وانتهاء الوعد، وإتيانكم بكل خير تصلح به دنياكم وآخرتكم، عجلتم عن هذا كله، وعبدتم العجل، وكفرتم بالله والعياذ بالله. {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} جاء في حديث رواه ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ الخَبَرُ كالمُعَايَنَةِ» (¬1) واستدل لهذا بأن موسى ¬

(¬1) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم: 1 - ابن عباس عند أحمد (1/ 271)، والحاكم (2/ 321، 380)، وابن حبان (الإحسان 8/ 32)، والطبراني في الأوسط (1/ 12)، (7/ 104)، وابن أبي حاتم (5/ 1570)، والخطيب في تاريخه (6/ 56)، (8/ 12)، وابن عديّ (4/ 1580)، (7/ 2596)، وذكره السيوطي في الدر (2/ 127)، وعزاه لعبد بن حميد وأحمد البزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه. وهو في المشكاة (5738)، وصححه الألباني، وهو في الكنز (44111)، (44126). 2 - أنس عند الطبراني في الأوسط (7/ 90) والخطيب في تاريخه (3/ 360)، وابن عدي (1/ 203)، وقال: «هذا حديث باطل بهذا الإسناد» اهـ. وفي (4/ 1580)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 153)، وقال: «رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات» اهـ. وهو في الكنز (44110)، (44126). 3 - ابن عمر عند ابن عدي (7/ 2493)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 153)، وقال: «رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح، وصَحَّحَهُ ابن حبان» اهـ. 4 - أبو هريرة عند الخطيب في تاريخه (8/ 28)، هو في الكنز (44110)، (44126)، وانظر في الكلام على هذا الحديث: كشف الخفاء (2/ 218)، تذكرة الموضوعات (204)، إتحاف السادة المتقين (6/ 363).

لما قال له ربه: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} هذا خبرٌ يقينٌ من الله، لم ينفعل موسى، ولم يلق الألواح، فلما جاء حاملاً ألواح التوراة، ونظر إليهم يعبدون العجل، ويعكفون حوله، لم يتمالك حتى ألقى الألواح، وانفعل عند المعاينة انفعالاً لم ينفعله عند الخبر اليقين، ومن هنا عُرِفَ أن الخبر ليس كالمعاينة. وهذا معنى قوله: {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ} يعني: طرح ألواح التوراة التي هي مكتوبة فيها من شدةِ غضبه لانتهاك حرمة الله، وعبادة العجل معه. وكثيرٌ من المفسرين يقولون: إنه ألقاها إلقاءً قويًّا حتى تكسرت، وأنه رُفع شيء منها مع المكسر منها. وكل هذا لا دليل عليه، ولم يقم عليه دليل صحيح لا في كتاب ولا من سنة (¬1)، وظاهر القرآن أنها لم تتكسر، ولم يَضِع منها شيء؛ ¬

(¬1) بل ثبت في بعض الروايات ما يدل على ذلك، وللوقوف على هذه الروايات انظر: تفسير ابن أبي حاتم (5/ 1563)، الإتقان للسيوطي (1/ 123)، التفسير الصحيح (2/ 350)، جامع التفسير من كتب الأحاديث (2/ 746، 1091). وفي الحديث المُتقدم ((ليس الخبر كالمُعاينة)) تصريح بتَكَسُّرِها.

لأنه قال: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} [الأعراف: آية 154] و (أل) هنا عهدية، وهي الألواح المعهودة التي ألقاها. / [19/ب] يقول الله جل وعلا: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: آية 150] لما غضب موسى، وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، استعطفه أخوه وقال له: {ابْنَ أُمَّ} معناه: يا ابن أمي {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} يعني: أن القوم الذين عبدوا العجل لما نهاهم كما شهد الله له بذلك في سورة طه في قوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: الآيتان 90، 91] فلما ناصبوه وقالوا له علنًا: «لن نبرح عاكفين على عبادة هذا العجل حتى يرجع موسى». دل ذلك على أنهم استضعفوه، أي: تقوّوا عليه واستذلوه، ورأوه ضعيفًا عاجزًا عن مقاومتهم. {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} قاربوا قتلي وما قصَّرت، ثم إنه بيّن عذره في طه؛ لأن موسى قال له: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} استعطفه واعتذر له أيضًا وقال: {إِنِّي خَشيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: الآيتان 93، 94] وقال له هنا: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء} يعني: لا تفعل بي فعلاً سيئًا يفرح به أعدائي، فالشماتة هي سرور العدو بما ينال عدوه الآخر من مكروه أو سوء. فإذا أتى الله إنسانًا بمكروه أو سوء ومصائب نزلت به وفرح عدوه بما أصابه فذلك الفرح يُسمى: الشماتة، والذي تسبب فيه يقال: أشمته به يُشمته، ونفس العدو: شامت؛ أي: فَرِحٌ مَسْرُور بما يصيب عَدُوَّهُ مِنَ الأذَى. وهو

معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى أو غيره (¬1): كَمْ شَامِتٍ بِي إِنْ هَلَكْـ ... ـتُ وَقَائِل للهِ درُّه وفي شعر الحماسة (¬2): إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُناسٍ ... كَلاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا ... فقُلْ للشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُون كَمَا لَقِينَا يعني: لا تشمت بي الأعداء، لا تفعل لي فعلاً سيئًا يفرح به أعدائي، لا تفعل لي ذلك: {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لا تجعلني مع عَبَدَة العجل كأني ممالئ لهم وموافقهم على ذلك، فأنا بريء من ذلك، وقد نصحتهم غاية طاقتي وجهدي. وهذا معنى قوله: {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. فلما قال هارون هذا لموسى رجع موسى ودعا لنفسه ولأخيه، قال موسى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} واغفر {وَلأَخِي} هارون {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} اجعلنا ممن شملته رحمتك الواسعة {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: آية 151] لأن الله (جل وعلا) أرحم الراحمين، أرحم بعباده من الأم بولدها كما هو معروف. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153)} [الأعراف: الآيتان 152، 153]. ¬

(¬1) البيت نُسب للبيد، وهو ملحق في ديوانه ص235، ونسبه بعضهم للنابغة الذبياني، وهو ملحق في ديوانه ص122، ونسبه بعضهم للنابغة الجعدي. (¬2) البيتان في القرطبي (7/ 291).

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)} {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ} إلهًا فعبدوه من دون الله {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ} الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتُهكت حرماته، فنحن نصفه بها كما وصف بها نفسه، وننزه خالقنا أتمَّ التنزيه وأكمله عن مشابهة صفات المخلوقين؛ لأن جميع الصفات من بابِ واحد، فكما أنه (جل وعلا) ذات لا تشبهها شيء من الذوات فكذلك لها صفات لا يشبهها شيء من صفات خلقه، أي: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ} إلهًا فعبدوه من دون الله {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} هذا الغضب كائنٌ {مِّن رَّبِّهِمْ} معناه: يغضب الله عليهم، ومن غَضِبَ الله عليه فقد هلك. {وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} الذلة: الصغار والهوان. قال جماعة من العلماء (¬1): هذه الآية من سورة الأعراف في طائفة من بني إسرائيل أُشربت قلوبهم حُبّ العجل، ولم يتوبوا فيمن تاب، بل بقوا غير تائبين، وعدهم الله هذا الوعيد، وهددهم هذا التهديد، وهذا هو الأظهر؛ لأن المعروف أن أكثر الإسرائيليين تاب من عبادة العجل تلك التوبة العظيمة التي بيّناها مفصَّلة في سورة البقرة؛ حيث قدموا أنفسهم للقتل تائبين إلى الله، الواحد منهم يجود بنفسه فيُقتل مرضاة لله وإنابةً إليه، كما تقدم إيضاحه في قوله: {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: آية 54] فمن تاب هذه التوبة النصوح ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 292)، ولابن جرير (رحمه الله) تحقيق جيد في معنى الآية فراجعه في تفسيره (13/ 134).

العظيمة لا يُعقل أن الله يهدده هذا التهديد، ويتوعده هذا الوعيد؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيظهر هنا ما ذكره جماعة أنها في طائفة أُشربت قلوبهم حب العجل ولم يتوبوا -والعياذ بالله- ووعدهم الله هذا الوعيد: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ} الجزاء الذي جزينا به هؤلاء الذين عبدوا العجل: {نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} كان العلماء يقولون: كل من افترى في الدين وابتدع في الدين سلط الله عليه الذلة، وكان الحسن يقول في المبتدعين المفترين في دين الله: والله إن الذلة على أكتافهم ولو هملجت بهم البَغْلاَتُ، وطقطقت بهم البراذين (¬1). وقال هذا غير واحدٍ من العلماء، أن كل مبتدع في الدين مفتر فيه آتٍ بِنِحْلَة ليست بحق لا بد أن يسلط الله عليه الذلة ولو بلغ ما بلغ، كما صرح بذلك في قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فعلى المسلم أن يخاف من الذلة والغضب، ولا يفتري في دين الله، ولا ينتحل ولا يبتدع، بل يبقى على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وهذا معنى قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}. {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ} كالذين عبدوا العجل، {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد تلك السيئات، {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ} يعني من بعد ذلك الذي ارتكبوه من السيئات {وَآمَنُواْ} داموا على إيمانهم، أو أخلصوا في إيمانهم، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: تلك السيئات والفعلات، وقال بعضهم: {مِن بَعْدِهَا} أي: التوبة المفهومة من قوله: {تَابُواْ} {لَغَفُورٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة لعباده. ¬

(¬1) أورده ابن كثير في التفسير (2/ 248).

وهذه الآية الكريمة تدل على أنَّ مَنِ ارْتَكَبَ السيئات العظام ثم تاب إلى الله تاب الله عليه، والله يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: آية 82] ويقول للذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة -يستعطفهم ليتوب عليهم مع شناعة كفرهم حيث يقول لهم -: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74)} [المائدة: آية 74] والتوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة من كل ذنب كائنًا ما كان (¬1)، ولا يجوز تأخيرها، فإذا اقترف ذنبًا وأَخَّر التوبة منه كان تأخير التوبة ذنبًا يستوجب توبة أخرى. وقد أجمع العلماء على أن التوبة تتركب من ثلاثة أركان (¬2): أحدها: الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسًا به. والثاني: الندم على ما صدر منه من الذنب (الندم الشديد). والثالث: النية ألا يعود إلى الذنب أبدًا. هذه أركان التوبة التي أجمع عليها العلماء. وفي اثنين من أركانها في كلِّ واحد منهما إشكالٌ معروف (¬3): أحدهما: الندم، فالندم أجمع العلماء على أنه ركن التوبة، والتوبة واجبة بالإجماع، كما أوجبها الله بقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: آية 31] وركن الواجب واجب إجماعًا، فلا خلاف بين العلماء أن الندم ركنٌ من أركان التوبة واجب. وفي هذا إشكالٌ معروف شديد، وهو أن الندم من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

الانفعالات والتأثرات النفسية لا من الأفعال الاختيارية كما هو معروف، فترى البائع المغبون يندم وهو يحاول أن يطرد عنه الندم فلا يستطيع؛ لأن الندم انفعال وتوتر نفساني لا فعل اختياري، ومعروف أن الانفعالات والتأثرات النفسانية ليست تحت قدرة العبد، وقد أجمع العلماء أن الله لا يكلف عبده إلا بفعل اختياري هو في طاقة العبد، ولذلك كان في التكليف بالندم هنا الإشكال المعروف. هذا السؤال الأول في الندم، وأجاب بعض العلماء عن هذا، قالوا: نعم إن الندم انفعال وتأثر نفساني ليس تحت طاقة العبد؛ لأنَّا نرى الإنسان يحاول أن يندم فلا يندم، ويحاول أن يطرد الندم فلا يطرده، يُشاهَد البائع المغبون يحاول أن يطرد الندم عن نفسه، والندم يضعه على الأرض من شدته، وهو لا يقدر أن يدفعه عن نفسه، وكذلك بعض عوام المسلمين قد ينال الواحد منهم قُبْلةً -مثلاً- من امرأةٍ بارعةٍ في الجمال يعشقها غاية العشق، فإذا أراد أن يندم على ذلك دعاه خيال ذلك الجمال ولذة ذلك الشيء القبيح فلا يستطيع أن يندم كما هو مشاهد، وإذا كان انفعالاً لا قدرة للعبد عليه فما وجه التكليف به؟! أجيب عن هذا: بأن المراد بالتكليف بالندم: التكليف بأسبابه الموصلة إليه، ومَنْ تَعَاطَى أسْبَابَهُ الموصّلة إليه تعاطيًا حقًّا لم يُحابِ فيه نفسه لا بد أن يَنْدَمَ، وَضَرَبَ العلماء لذلك مثلاً، قالوا: كل العقلاء إذا قَدَّمت إلى واحدٍ منهم شرابًا لذيذًا ولكنه فيه السم القَاتل الفتَّاك، فجميع العقلاء لا يستلذُّون ذلك الشراب ولا يعدّون لذته لذة؛ لأن السم القاتل الذي هو فيه يبطل لذته وينفِّر منها، ولا شك أن حلاوات المعاصي -قبّحها الله- ولذاتها تتضمن سمًّا قاتلاً فتَّاكًا

هو سخط رب العالمين، وغضبه والخوف من عقابه العاجل والآجل، فإذا أخذ الإنسان نفسه أخذًا حقًّا، وعَرَفَ أنَّ حَلاوَةَ المعاصي يضاف فيها السم القاتل الفتَّاك من سخط رب العالمين فلا بد أن يَنْدَمَ، والذي لا يندم إنما جاءه ذلك من أنه يحابي نفسه، وينجرف معها بالمعاصي، فلا يأخذها بالأسباب أخْذًا حقًّا، ولمَّا كان الندم أسبابه مُتَيَسَّرة ومن تعاطاها حقًّا حصل عليه، صار كأنه فعلٌ في طاقة المخلوق فكُلّف به. وأما الإشكال الثاني: فهو في الإقلاع؛ لأن بعض الناس قد يتوب ويندم ولا يقدر على إكمال الإقلاع، كالذي بث بدعةً وعمل بها الناس في مشارق الأرض ومغاربها، والنبي يقول: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» (¬1) إذا تاب هذا الإنسان وبدعته متمادية يُعمل بها في مشارق الأرض ومغاربها، هل نقول: هو مقلع؛ لأنه فعل طاقته وما يقدر عليه؟ أو نقول: ركن التوبة هنا معدوم؛ لأن الإقلاع معدوم؛ لأن ذنبه متمادٍ جار في أقطار الدنيا؟! وكذلك الإنسان إذا رمى إنسانًا من بعيد بسهم أو رصاصة ثم بعد أن زايل السهم تاب ذلك الإنسان قبل أن يصل السهم إلى المرمى، هل نقول: هو تائب؛ لأنه فعل قدر طاقته؟ أو نقول: لا تقبل توبته؛ لأن الإقلاع ركن في التوبة، ولم يتحصَّل؛ لأن فساده متمادي، وسهمه رائحٌ إلى المسلم ليقتله؟ وكذلك من غصب - مثلاً - أرضًا عشرين كيلاً، ثم إنه ندم وخرج منها، هل هو في أثناء الخروج قبل أن ينفصل عن الأرض لو أدركه الموت نقول: أدركه الموت تائبًا؛ لأنه فعل قدر طاقته؟ ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (38) من سورة الأعراف.

أو نقول: لم تحصل توبته؛ لأن الإقلاع لم يكن؛ لأنه ما زال يشغل فراغًا مغصوبًا بجسمه استولى عليه بغير حقا شرعي؟. والصحيح عن الأصوليين أن هذا الأخير تقبل توبته وإن كان الإقلاع لم يصح منه؛ لأنه عاجزٌ عنه، وقد جاء في توبته بما يستطيع، والله لا يكلف إلا بما يستطيعه عبده {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: آية 286] وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الحديث (¬1). وهذان السؤالان في التوبة. وهذا معنى قوله: {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ}. {مِن بَعْدِهَا} أي: السيئات، {وَآمَنُواْ} داموا على إيمانهم؛ أي: أخلصوا في إيمانهم وتوبتهم {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: التوبة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أو {مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد السيئات التي تاب العبد منها {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} كثير الغفران والرحمة لعباده. {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: آية 154] سكت عن موسى الغضب معناه: سكن غضبه وطفئ. لما طفئ غضبه وسكن، وفي بعض القراءات الشاذة: {وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (¬2) يعني: لما سكن غضبه وَطُفِئَ، وذلك باعتذار أخيه حتى عرف صدق عذره، وبتوبة الذين عبدوا العجل حتى قدموا أنفسهم للموت طائعين مَرْضَاةً لربهم. {أَخَذَ الأَلْوَاحَ} طرح الألواح مِنْ أَجْلِ الغَضَبِ، ولما سكن الغضب أخذها. و (أل) في الألواح عهدية، وظاهر هذه الآية أن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 398)، الدر المصون (5/ 471).

الألواح لم تَتَكَسَّر، وأن التوراة لم يُرفع منها شيء، ومعلوم كثرة أقوال المفسرين أنها تكسَّرت، وأنّ رضاضها لم يزل عند الملوك الإسرائيليين، وأنها رُفع منها كل التفاصيل، وبقي منها الهدى والرحمة. ولكن هذا لم يقم عليه دليل يجب الرجوع إليه، وهذا معنى قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} أي: أخذها ليعمل بما فيها؛ لأن ربه قال له: خذها بقوة. {وَفِي نُسْخَتِهَا} النسخة هنا (فُعْلَة) بمعنى (مفعول)، أي: المنسوخ فيها، أي: المكتوب فيها من التوراة من كلام رب العالمين، وفيه {هُدًى} أي: دلالة وإرشاد إلى الخير، ورحمة تقي عذاب الله وسخطه لمن عمل به. {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} الذين هم يخافون الله، وخصَّهم لأنهم هم المنتفعون به، وجرت العادة في القرآن أن الله يخص المنتفعين (¬1)، كما قال: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: آية 11] وهو منذر للأسود والأحمر، {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: آية 45] وهو منذر للجميع، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] وهو مذكر لمن يخاف ومن لا يخاف كما هو معلوم. واللام في قوله: {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} ففيها أوجه (¬2)، وأظهرها أن المعمول إذا قُدِّم على عامله ضعفت تعديته إليه، فإذا جيء باللام تقوَّتِ التَّعْدِيَةُ، ونظيره قوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 472).

تَعْبُرُونَ} [يوسف: آية 43]. وقال بعض العلماء: هي اللام الأجَلِيَّةُ التَّعْلِيليَّةُ، {يَرْهَبُونَ} يخافون لأجل ربهم، لا للسّمْعَة ولا الرياء، كما قاله بعضهم. ومعنى: {يَرْهَبُونَ}: يخافون، والرَّهَب: الخوف، والمعنى: أن في المنسوخ المكتوب في تلك الألواح هدىً ورحمة لمن يخاف الله؛ لأنه هو الذي يعمل به وينتفع به، وهذا معنى قوله: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي: يرهبون ربهم، أي: يخافونه، ولما قُدِّمَ المعْمُول ضعف تعدي الفعل إليه فأُكِّد باللام كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} [الأعراف: آية 155] جمهور العلماء على أن {قَوْمَهُ} منصوب بنزع الخافض؛ لأن أصل الفعل يتعدى إليه بـ (من) فحذفت (مِن) فتعدى الفعل إليه بنفسه فنُصب، والأصل: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فحُذفت (مِن) ونُصب {قَوْمَهُ}، وهذا الأسلوب معروف في كلام العرب، ومنه قول الفرزدق (¬1): مِنّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَال سَمَاحةً ... وَجُودًا إذا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ معناه: (اختير الرجال) أي: اختير من الرجال؛ لأجل سماحته وجوده. ومنه قول الراعي يمدح رجلاً (¬2): اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذا رثّتْ خلائِقُهُم ... واختَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عنْدَهُ السُّولُ يعني: اخترتك من الناس، هذا أسلوب معروف لا إشكال فيه. ¬

(¬1) البيت في نقد الشعر لقدامة بن جعفر ص9، ديوان المعاني للعسكري (1/ 87)، القرطبي (7/ 294)، الدر المصون (5/ 474). (¬2) البيت في غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 156)، القرطبي (7/ 294)، البحر المحيط (4/ 398)، الدر المصون (5/ 473).

وزعم الأخفش الصغير -سليمان بن علي- أن النصب بنزع الخافض مطَّرِدٌ قِيَاسِيٌّ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، وجماهير علماء العربية يقولون إنه سَمَاعِي يُحْفظُ ما سُمع منه ولا يُقاس عليه، كما هو معلوم في محلّه (¬1). واختار موسى من قومه سبعين رجلاً. اعلم أن هذه السبعين لا شك أن الله أمر موسى أن يختارها، ووقَّت لها وقتًا معينًا يأتيه بها في محل معين، إلا أنه مُخْتَلَف في ميقات هذه السبعين ما هو؟ وما سببه؟ اختلف العلماء في ذلك (¬2)، فذهب بعض العلماء إلى أن ميقات السبعين هذه المذكور هنا في قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} زعم بعضهم أنه الميقات الأول الذي قال فيه: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: آية 143] وأن الله لما أمر موسى بذلك الميقات أمره أن يأتيه في سبعين رجلاً من قومه يختارها، وتكون من خيارهم، وأنه جاءه بسبعين منهم، وسأل الله أن يُسمعهم كلام الله، فسمعوا كلام الله يكلم موسى، يأمره ويَنْهَاه، افْعل ولا تفعل، وأنه لما انْقَضَتِ المُنَاجَاةُ، وارْتَفَعَ عَمُود الغمام الذي كانوا فيه قالوا له: يا موسى {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: آية 55] وأنهم أخذتهم الصاعقة، كما سيأتي تفصيله، وعلى هذا القول فالميقات ميقات السبعين هو ميقات موسى للمناجاة وإنزال التوراة. وهذا القول ليس بظاهر؛ لأن ما وقع في الميقاتين والقِصَّتَيْن كله مختلف، فيظهر أنه ميقات آخر وقصة أخرى، وللعلماء فيه أقوال: ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 398)، الدر المصون (5/ 474). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 140)، ابن كثير (2/ 249).

قال بعض العلماء: لما عَبَدُوا العِجْلَ أمَرَهُ الله أن يأتي إلى الطور بسبعين يختارها من خيارهم ليعتذروا إلى ربهم من عبادة قومهم للعجل حتى يتوب عليهم، وأن هذا هو ميقات السبعين التي اختيرت من أجله. وقال بعض العلماء: ذهب موسى وهارون ومع هارون ابنه شبر وابنه شبير، جاءوا إلى جبل فوجدوا عند ذلك الجبل كرسيًّا فاضطجع عليه هارون وقَبَضَ الله رُوحَهُ، فلما رجع موسى لبني إسرائيل قالوا: أين هارون؟ قال: مات. قالوا: بل قتلته وحسدتنا على لين خلقه، أنت الذي قتلته!! وأنه قال: كيف أقتله ومعي ابناه؟ وأن الله أعطاه وعدًا يختار منهم سبعين حتى يُحيي لهم هارون ويسألوه، وأن السبعين ذهبت حتى جاء هارونَ وقال: مَنْ قَتَلَكَ؟ قال: ما قتلني أحد ولكن الله توفاني. إلى أقوالٍ كثيرةٍ من هذا النمط لا دليل عليها. هذه هي الأقوال في الميقات، وعلى كل حال فَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً مِنْ خِيَارِ الإِسْرَائِيليين اختارها موسى لميقاتٍ وقَّتَه الله له، ولما جاءوا ذلك الميقات أخذتهم بالرجفة، والرجفة: الزلزلة الشديدة، والهزَّة العظيمة. واختلف العلماء في سبب هذه الرجفة وهذه الهزة اختلافًا مبنيًّا على الميقات الذي كنا نقول (¬1)، فقال بعضهم: إنه ذهب بهم ليعتذروا من عبادة العجل، وأن الله أسمعهم كلامه لنبيه، وأنهم قالوا له: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فامتنعوا من الإيمان والتصديق ¬

(¬1) انظر: المصدرين السابقين.

حتى يروا الله، فأخذتهم الصاعقة، وتلك الصاعقة هي التي أرجفتهم، وقال هنا: {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: آية 155]. وقال بعض العلماء: هؤلاء الطائفة لم يفعلوا ذنبًا لكنهم لما ذهبوا مع موسى وسمعوا كلام الله داخلتهم هيبة شديدة وخوف عظيم حتى كادت مفاصلهم يبين بعضها من بعض. وهذا القول لا يتجه؛ لأنه يقول: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء} وهذا يدل على أن هنالك بعض الشيء. وقال بعض العلماء: إن الله لما أمر موسى أن يأتي الميقات بسبعين، اختار السبعين وهم في نظره أفضل بني إسرائيل، وما كان يظن أنهم قد عبدوا العجل مع من عبده، وهم قد عبدوه، وموسى لا يدري عن ذلك، فلما جاءوا الميقات جاءتهم الرجفة والهزة العنيفة بسبب عبادة العجل. وقال بعض العلماء: لم يعبدوا العجل ولكنهم داهنوا من عبَدَه فلم يزجروه زجرًا قويًّا، فجاءتهم الرجفة لعدم زَجْرِهِمْ كَمَا يَنْبَغِي. هذه أقوال المفسرين، وفيها غير هذا، ولا شيء يقوم عليه الدليل القاطع منها، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الهزة الشديدة، سواء قلنا إنها بسبب قولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] أو بسبب أنهم عبدوا العجل، أو أنهم لم ينهوا مَنْ عَبَدَ العِجْلَ، أو غير ذلك من الأسباب، ضاق الأمر بموسى، وعلم أنهم إن ماتوا وقعت بنو إسرائيل في بليةٍ لا مخرج منها؛ لأنه لو ماتت تلك

السبعون من خيارهم وجاءهم فقالوا: أين السبعون؟ فقال: ماتوا. يقولون: أنت الذي قتلتهم!! ويقع فيهم الخلاف والشقاق والفساد الذي لا حد له، ومن هنا كان نبي الله موسى حريصًا جدًّا على أن الله يحييهم -على القول بأنهم ماتوا- أو يرفع عنهم الرجفة -على القول بأنهم سقطوا مغشيًا عليهم غير ميتين- كما هو معروف. وهذا معنى قوله: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} قال موسى متضرِّعًا لِرَبِّهِ ألاّ يقتلهم في ذلك الوقت الحَرِج، وذلك الظرف العصيب الذي له عواقب سيئة في قومه: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ} يا رب لو شئت إهلاكهم أهلكتهم من قبل هذا الوقت؛ لأنه مَرَّتْ أوْقَات لو هلكوا فيها ما كان في إهلاكهم عاقبة سيئة، فلو قتلتهم بمحضر قَوْمِهِمْ وهم ينظرون لما كانوا يَتَّهِمُونِي ولا نشأ عن ذلك فساد ولا بلايا {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} أي: وأهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ في غير هذا الظرف كان ذلك أهون عليَّ وأقل أذيةً لي. ثم إنه قال مُنَاجِيًا رَبَّهُ، وهذا الاستفهام -على التحقيق- استفهام استعلام مع تذللٍ واستعطاف {أَتُهْلِكُنَا} تهلكني أنا وإياهم. وقال بعض العلماء: تهلك جميع بني إسرائيل؛ لأنهم إن ماتوا في ذلك اتهموا نبيَّهُمْ ووقع فيهم الخلاف والقيل والقال الذي لا يرتفع. {بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا} السفهاء: جمع سَفِيهٍ. والمراد بهم هنا: الذين فعلوا الموجب الذي أخذتهم الرجفة بسببه سواء قلنا: إنه قولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: آية 55] ولا سفه أكبر من ذلك، أو عبادتهم العجل، أو عدم نهيهم من عَبَدَ العجل، إلى غير ذلك.

والسفهاء: جمع سفيه، والسفه في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه: الخِفَّة والطيش (¬1)، تقول العرب: «تَسَفَّهَت الريحُ الريشةَ» إذا استخَفَّتْهَا فطارَتْ بِهَا كُل مَطَارٍ. وهو في الاصطلاح: خِفَّةُ العَقْلِ وعَدَمُ رَجَاحَةِ الحلم، حتى يفعل الأشياء التي تضره وهو لا يدري أنها تضره (¬2). والسفه في اصطلاح الفقهاء الذي يحجر به على المال (¬3) اختلف علماء الفقه في تحقيق مناطه (¬4)، فَذَهَبَ مالك بن أنس ومَنْ وَافقَهُ من العلماء أن مناطه على حفظ المال وحسن النظر فيه، فلو كان الإنسان يحفظ ماله ويحسن النظر فيه لم يكن سفيهًا عند مالك، وأُعطي له ماله ولو كان فاسقًا شِرِّيبًا سكِّيرًا عاصيًا لله. وذهب الشافعي في طائفةٍ من العلماء إلى أنه إن كان يعصي الله فهو أسْفَهِ السفهاء، وأنه لا يستحق ماله إلا وهو مطيع لله؛ لأن من عصى الله سفيه خفيف العقل طائشه لا يعلم مصلحته. وَشَارِبُ الخَمْرِ إِذَا مَا ثَمَّرا ... لما يَلِي مِنْ مَالِهِ لَمْ يُحْجَرَا (¬5) أي: عند مالك، خلافًا للشافعي ومن وَافقه -رحم الله الجميع- وهذا معنى {بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (66) من سورة الأعراف. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) مضى عند تفسير الآية (66) من سورة الأعراف.

ثم قال موسى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} الذي جرأ موسى على أن يضيف الفتنة إلى الله هو أن الله قال له: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} [طه: آية 85] فأسند الله هذه الفتنة لنفسه بقوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} فجرأ ذلك موسى على أن يقول: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} سواء قلنا: إنَّ الرجفة أخذتهم بسبب قولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} فهذا امتحان وابتلاء من الله، أو بسبب أنهم عبدوا العجل فذلك ابتلاء وامتحان من الله، أو بسبب أنهم لم ينهوا من عَبَدَ العجل فذلك ابتلاء وامتحان من الله. وهذا معنى قوله: {إِنْ هِيَ} أي: الفتنة التي فتنوا بها، ما هي إِلاَّ {فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء}. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا أن (الفتنة) أُطلقت في القرآن إطلاقاتٍ معروفة مشهورة (¬1)، فمن أشهر إطلاقاتها: الاختبار والامتحان، ومنه قوله: {لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: الآيتان 16 - 17] {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: آية 35] فأشهر إطلاقاتها: الامتحان والابتلاء. ومن إطلاقات الفتنة هو: الإحراق بالنار كقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} [النازعات: آية 13] أي: يحرقون، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: آية 10] أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك. ومن إطلاقات الفتنة: نتيجة الاختبار إن كانت سَيِّئَةً خاصةً، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: لا يبقى شرك على وجه الأرض، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» (¬1) وتدل على ذلك الآيتان في سورة البقرة وسورة الأنفال؛ لأن الله قال في البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله} [البقرة: آية 193] فقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لله} معناه: أنه لا يبقى شرك في الأرض؛ لأن الشرك ما دام في الأرض فالدين بعضه للشركاء، وآية الأنفال قوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: آية 39] كما هو ظاهر. وأطلقت الفتنة في سورة الأنعام على الحُجة في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ} وفي القراءة الأخرى: {فتنتَهم} (¬2) أي: حجتهم {إِلاَّ أَن قَالُواْ وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 23]. {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء} كما أضللت الذين عبدوا العجل والذين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: آية 55] {وَتَهْدِي} بها {مَن تَشَاء} فلا تفتنه. {أَنتَ وَلِيُّنَا} الولي في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وبينه سبب يجعلك تواليه ويواليك (¬3)، والله ولي المؤمنين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: آية 55] والمؤمنون أولياء الله {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)} [يونس: الآيتان 62، 63] فهم يوالونه بالطاعة وهو يواليهم بالثواب الجزيل والرحمة والغفران. وهذا معنى قوله: {أَنتَ وَلِيُّنَا}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص192. (¬3) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

{فَاغْفِرْ لَنَا} الغفر في لغة العرب: معناه الستر، ومنه سُمِّي المغفر مغفرًا؛ لأنه يستر الرأس، والمراد به سَتْر الذنوب ومحْوها حتى لا يَظْهَرَ لها أثر يَتَضَرَّر به صاحبها (¬1). {وَارْحَمْنَا} الرحمة: صِفَة معروفة من صفات الله تظهر آثارها في خَلْقِهِ، وهي على التحقيق صفة معنى قائمة بالذات، غلط كثيرٌ من المتكلمين زعم أنها من صفات الأفعال، كما هو معلوم في محله. {وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الذين يغفرون الذنوب؛ لأن مَنْ غَفَرَ في الدنيا قد يغفر لتحسن سمعته ( ... ) (¬2). [20/أ] / {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الاعراف: آيات 156 - 159]. ¬

(¬1) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الغين، باب الغين والفاء وما يثلثهما، (مادة: غفر) ص811، المفردات (مادة: غفر) ص609. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل.

يقول الله عز وجل: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} هذا من بقية دعاء موسى بن عمران (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام)، قال: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} قوله: {وَاكْتُبْ لَنَا} معناه قدر لنا واقض لنا، أي: اجعل ذلك قدرًا مقدورًا وقضاءً مقضيًّا لنا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} في هذه الحياة (الدنيا) تأنيث الأدنى لدنوِّها أو لدناءتها بالنسبة إلى الآخرة. {حَسَنَةً} قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: آية 201] أن أظهر الأقوال أنّ الحسنة المطلوبة في الدنيا شاملة، فهي شاملة للتوفيق، والحياة الطيبة، والرزق الحسن، والعافية، وأن حسنة الآخرة المسئولة هي الجنة ونعيمها والنظر إلى وجه الله الكريم، فطلب موسى حسنة الدنيا الشاملة لعافيتها وتوفيقها ورزقها، وحسنة الآخرة التي هي التَّنَعُّمُ في الجَنَّةِ، والنَّظَر إلى وجْهِهِ الكَرِيمِ، هذا معنى قوله: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} أي: وفي الآخرة حسنة. فحُذفت لدلالة ما قبلها عليها. وقوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} العرب تقول: هاد يهود: إذا تَابَ

ورَجَعَ، وهذا هو المعنى المشهور الصحيح في هذه الآية {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي: تُبْنَا ورَجَعْنَا إليك. وهذا كالتعليل لما قبله؛ لأن التوبة والإنابة والرجوع إليه من الأسباب التي يكتب الله بها حسنة الدنيا وحسنة الآخرة العرب تقول: هد أيها الرجل. تُبْ إلى الله من ذنوبك وارجع، وهاد: أي: تاب. والهُود: جمع هائد وهو التائب. وقد قال بعضهم (¬1): يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْ هُدْ ... واسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُد معنى: {هُدْنَا إِلَيْكَ} أي: تبنا ورجعنا منيبين إليك. قال الله جل وعلا: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} قرأ هذا الحرف جماهير القراء: ... {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} بإسكان ياء المتكلم. وقرأه نافع: {عَذَابيَ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} وهما لغتان فصيحتان وقراءتان صحيحتان (¬2). {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ} أعذب به وأهين به {مَنْ أَشَاء} أي: من أشاء إهانته به. والقراءة الصحيحة التي قرأ بها الجمهور: {مَنْ أَشَاء} بالشين المعجمة المثلثة وضم الهمزة. أما القراءة التي تُذكر عن الحسن وغيره أنه قرأ: «قال عذابي أصيب به من أساء ورحمتي وسعت كل شيء» (¬3) فهي قراءة شاذة لا تجوز القراءة بها. ومعلوم أن أهل الأهواء والبدع من قدرية وغيرهم يستدلون بتلك القراءة: «أصيب به من أساء» يستدلون بها ¬

(¬1) تقدم عند تفسير الآية (146) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص219. (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 402)، الدر المصون (5/ 477).

لشيء من مذاهبهم، ولما كانت قراءةً شاذةً لا تجوز القراءة بها فلا معول عليها ولا طائل لما أخذوه منها واستدلوا به لمذاهبهم الباطلة. وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الرحمة صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الله اشْتَقَّ مِنْهَا لِنَفْسِه اسمه (الرحمن) واسمه (الرحيم)، وهي على التحقيق من صفات المعاني القَائِمَة بذاته (جل وعلا)، وكثيرٌ من المتكلمين الذين يُؤَوِّلون صفات الله ويحملونها أولاً على محامل غير طيبة ثم يُلْجِئُهم ذلك إلى تأويلها يزعمون أنها صفة فعل. وذلك ليس بحق، والحق أنها صفة ذات من صفات المعاني القائمة بذات الله، ولا تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ المخْلُوقِين، ليس فيها رقة مخلوقية، ولا انعطاف مخلوقي، لا وكلاّ، بل هي صفة كمال وجلال لائقة برب العالمين، منزهةٌ كل التنزيه، مقدسةٌ كل التقدير، لم تشبه شيئًا من صفات الخلق. وقوله: {وَسِعَتْ كُلَّ شيء} رحمة الله واسعةٌ لا تضيق عن شيء، فهي تسع كل شيء كائنًا ما كان. و (الشيء) عند أهل السنة والجماعة يُطلق على الموجود، ولا يُطلق على المعدوم (¬1)، فكل موجود يُطلق عليه اسم (الشيء) عند أهل السنة والجماعة، ولا يُطلق (الشيء) على [المعدوم] (¬2). وجاز إطلاقه على الله كما قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: آية 88] وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: آية 19]، ولا يطلق على المعدوم بدليل أنّ الله صرح بأن المعدوم ليس بشيء كقوله: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام. (¬2) في الأصل: «الموجود» وهو سبق لسان.

{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شيئًا} [مريم: آية 9] فصرح بأن المعدوم ليس بشيء. والمعتزلة يقولون: إنّ المعدوم يصدق عليه اسم (الشيء) ويتعسفون الاستدلال لذلك من آية من كتاب الله، قالوا: إن الله قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشيء إِذَا أَرَدْنَاهُ} فسماه (شيئًا) قبل أن يريده، وقبل أن يقول له: «كن» وهو في ذلك الحين معدوم. وهذا لا دليل فيه؛ لأنه لما تعلقت إرادة الله به صار كأنه موجود بالفعل؛ لأن المتوقع وجوده كالموجود بالفعل. هذا معنى قوله: {وَسِعَتْ كُلَّ شيء}. يقول بعض المفسرين: إنه لما عمم سعة رحمته لكل شيء أن إبليس طمع ومد عنقه، وأنه لما قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أنه يئس ورجع. هكذا يقولون، والله أعلم بصحته (¬1). ويزعمون أن أهل الكتابين قالوا: نحن ممَّنْ يَتَّقِي. فلمّا جاء بعض الصفات علموا أنها لا تنطبقُ كل الانطباق إلا على هذه الأمة الكريمة المرحومة (¬2)؛ ولذا قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}. {فَسَأَكْتُبُهَا} أجعلها مكتوبة مُقَدَّرَةً مقضيةً لهم، والعرب كل شيء لازم محتوم تسميه مكتوبًا، وهو معروف في لغتهم، ومنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: آية 183] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: آية 178] لأن (كَتْب الشيء) معناه: جعله لازمًا، وهذا معروفٌ في لغة العرب، ومنه قول الشاعر (¬3): ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 157). (¬2) المصدر السابق (13/ 163). (¬3) البيت في ابن جرير (3/ 365)، المقاييس في اللغة (5/ 159).

يَا بِنْتَ عَمِّي كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُمْ فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلاَ قوله (كتاب الله) أي: ما كتبه وقَضَاهُ وحَكمه. ومنه بهذا المعنى قول ابن أبي ربيعة (¬1): كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيولِ وهذا معنى قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: يجعلون بينهم وبين غضب خالقهم وعقابه وقاية تقيهم سخط ربهم وعذابه. وتلك الوقاية هي امتثال أَمْرِهِ واجتناب نهيه (جل وعلا) كما بيّناه مرارًا (¬2). أي: يتقون الشرك والمعاصي، ويمتثلون أوامِرَ الله، هذا معنى قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. أكثر العلماء على أن معنى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} يُعطون الحقوق الواجبة في المال المقررة المفصلة في السنة في المواشي والزروع والثمار والمعادن والذهب والفضة والتجارة وما جرى مجرى ذلك مما تجب فيه الزكاة، وأن هذا هو المراد بالزكاة الحقوق الواجبة في المال. وقال بعض العلماء: هي زكاة الأبدان وتطهيرها من أدران الذنوب والمعاصي والشرك بطاعة الله (جل وعلا)؛ لأن من أطاع الله زكى، أي: طهر من أدناس الذنوب وأرجاسها كما قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النور: آية 21] هذا معنى قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ ¬

(¬1) البيت في البيان والتبيين (2/ 236)، عيون الأخبار (2/ 49)، جمهرة خطب العرب (3/ 357)، الأغاني (9/ 264). (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

بِآيَاتِنَا} الشرعية التي أنزلنا على رسلنا {يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون الرسل فيها، ويشمل ذلك عند بعضهم: {بِآيَاتِنَا}: الكونية القدرية، كما نصبنا من العلامات على قدرتنا، وأني أنا المستحق العبادة وحده، يؤمنون بذلك فيعلمون أنها دالة على ربوبية من نصبها، واستحقاقه للعبادة وحده. ويفهم من هذه الآية من مفهوم مخالفتها: أن الذين لا يتقون الشرك ولا المعاصي، ولا يؤتون الزكاة لا تكتب لهم هذه الرحمة، وقد بيّن تعالى ذلك في قوله: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الآية [فصلت: الآيتان 6، 7] وهذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: آية 156]. ثم ذكر من صفاتهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ} [الأعراف: آية 157] للعلماء كلامٌ كثير في الفرق بين الرسول والنبي، وأشهر الفوارق المعروفة عندهم: أن الرسول من أُرسل إليه وحي وأُمر بتبليغه، وأن النبي من أُوحي إليه سواء أُمر بتبليغه أو لم يؤمر (¬1). وهذا الفرق مشهورٌ على ألسنة العلماء، تأباه آية من سورة الحج، وهي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: آية 52] فإنه صرح فيها بأن هناك نبيًا مرسلاً ورسولاً مرسلاً، ومع أنهما مرسلان فهما متغايران كما دل عليه العطف؛ ومن أجل هذه الآية قال بعض العلماء: الرسول: من أُنزل إليه كتاب مستقل كمحمد صلى الله عليه وسلم وموسى، والنبي: من أُمر بأن يتعبد بكتاب منزل على غيره كأنبياء بني إسرائيل الذين يؤمرون بالتعبد ¬

(¬1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص155، لوامع الأنوار البهية (1/ 49).

بما في التوراة، كما بينا ذلك سابقًا في المائدة في الكلام على قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة: آية 44] أي: يحكمون بها بأمرٍ من الله أنهم يحكمون بما فيها، إلى غير ذلك من الفوراق (¬1). وفي حديث البراء الثابت في الصحيح أنّ البراء لما قال: «آمنت برسولك الذي أرسلت» قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ» (¬2). وذلك يدل على أنه لو قال: «رسولك الذي أرسلت» يكون الكلام تكرارًا محضًا، فلما قال: «وَنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ» صار الكلام ليس تكرارًا محضًا. هذا معنى قوله: {يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: آية 157]. الأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم لا يعرف الكتابة ولا يعرف قراءة الكتب. وقد عرفتم في السيرة والتاريخ في صلح الحديبية أنه لما كتب عليٌّ (رضي الله عنه) وثيقة الصلح التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مع سهيل بن عمرو العامري قال: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش. قال له: امحُ عنّا هذا، لو كنا نقرّ بأنك رسول الله لما صددناك عن البيت الحرام وأنت محرم. فقال لعلي: امْحُها. فامتنع علي أن يمحوها، فطلب منهم أن يروه محلها -لا يعرفها- حتى محاها (¬3). هذا يُذكر في ¬

(¬1) من المفيد في هذا الموضوع مراجعة كتاب النبوات لشيخ الإسلام ص55، وانظر: الرسل والرسالات للأشقر ص14، 15. (¬2) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة. (¬3) أخرجه البخاري في المغازي، باب عمرة القضاء، حديث رقم (4251)، (7/ 499).

الأخبار والسيرة، ولكن الله نص على ما يدل على هذا في سورة العنكبوت حيث قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: آية 48] وهذا معنى (الأمي): الذي لا يقرأ ولا يكتب. واختلف العلماء في منشأ النسبة إلى الأمي هذه (¬1)، فقال بعض العلماء: منسوب إلى أمة العرب؛ لأنهم أمةٌ أميون لا يكتبون ولا يحسبون؛ ولذا كانوا يعدون بالحصى؛ لأنهم لا يكتبون ولا يحسبون. (الأمي) أي: من أمة -منسوب إلى أمة- لا تحسب ولا تكتب ولا تقرأ. قال بعض العلماء: منسوبٌ إلى أم القرى وهي مكة المكرمة حرَسَها الله. وجماعةٌ من العلماء يقولون: الأمّيّ: الذي لا يقرأ ولا يكتب، منسوب إلى أمِّه؛ لأنه كأنه على الحالة التي ولدته بها أمُّه لم يتعلم بعدها كتابة ولا قراءة. هكذا زعمه بعضهم والله تعالى أعلم. {يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ} [الأعراف: آية 157]. قوله: {يَجِدُونَهُ} معناه يجدون صفته الكاشفة ونعوته الواضحة مكتوبةً عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأن الله بَيَّن صفات هذا النبي الكريم ونعوته الكاشفة التي لا تترك في النبي لبسًا، بَيَّنها في التوراة، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى، وبَيَّنها في الإنجيل، وهو الكتاب الذي أنزل على عيسى (عليهم وعلى نبينا صلاة الله وسلامه)، فصفاته موجودةٌ عندهم، حتى إن الله قال عنهم: ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 298)، الدر المصون (5/ 478).

{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: آية 146] لشدةِ إيضاحه بالصفات الكاشفة التي لا لبس فيها بُينت لهم صفاته موضحة، وأُخذت عليهم المواثيق إن بعثه الله ليؤمنن به ولينصرنه، وأخذ الله ذلك الوعد على جميع الرسل، وعلى جميع أمم الرسل على ألسنة الرسل، كما أوضحه الله (تعالى) في سورة (آل عمران) وهو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتيناكم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} وفي القراءة الأخرى: {لماءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} (¬1) هو محمد صلى الله عليه وسلم على أصح التفسيرين، وهو الحق الذي لا شك فيه -إن شاء الله- وجزم به غير واحد {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} [آل عمران: الآيتان 81، 82] أخذ عليهم هذه العهود المؤكدة العظيمة بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم صفاته الكاشفة ونعوته الواضحة، كما قال هنا: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا} أي: صفته ونعته الذي يوضحه ولا يترك فيه لبسًا. {مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف: آية 157] قرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} وروي عن الدوري أنه اختلس الضمة، وقرأه أبو عمرو: {يَأْمُرْهُمْ بِالمَعْرُوفِ} بسكون الراء (¬2). وجزْم الفعل المضارع بلا جازم للتخفيف لغةٌ موجودةٌ في كلام العرب، جاءت بها ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص167. (¬2) للوقوف على القراءات في الراء من (يأمرهم) انظر: السبعة (156)، النشر (2/ 212)، الإتحاف (2/ 65).

قراءات صحيحة في كتاب الله لا إشكال فيها (¬1)، وأنشد بعض علماء العربية لجزم المضارع من غير جازم تخفيفًا قول امرئ القيس (¬2): الْيَوْمَ أشْرَب غَيْر مُسْتَحْقب ... إِثْمًا مِنَ الله ولا وَاغِلِ ومعروف أن بعضهم كَوَرْش يُبدل الهمزة ألفًا، تقول: {يامُرُهُم بالمعروف} {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} {يأمُرْهم بالمعروف} (¬3). (المعروف): هو كل ما عرفه الشرع وكان منه، كعبادة الله وحده، وصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق، وغير ذلك مما جاء به صلى الله عليه وسلم. {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} المنكر: اسم مفعول (أنكره) وهو ما أنكره الشرع ولم يكن منه، ولم يأمر به، كعبادة الأوثان، وادعاء الأولاد لله، وكالخصال السيئة، وارتكاب المعاصي. {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} اختلف العلماء في معنى الطِّيْب والخُبث في هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات في كتاب الله (¬4)، واختلافهم هذا من الاختلاف الذي ينبني عليه بعض الأحكام الشرعية، فذهب جماعة من العلماء إلى أن الطيبات هنا طِيبُها على نوعين: طِيب شرعي، وهو أن يكون الله أباحها وجعلها حِلاً لخلقه، فالله لا يُحِلُّ إلا الطيب، ولا يبيح إلا الطيب. ومعنى هذا -أنها طيبات- أن الله أباحها لخلقه واستطابها لهم، أي: يحل لهم الأشياء التي لا تحريم فيها. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) للوقوف على القراءات في الهمزة وإبدالها ألفًا من (يأمرهم) انظر: النشر (1/ 276، 277، 390 - 391)، الإتحاف (1/ 199 - 200). (¬4) انظر: ابن جرير (13/ 165)، القرطبي (7/ 300)، ابن كثير (2/ 254).

وقال بعض العلماء: الطيبات؛ لأنها مستلذَّة يستطيبها من يستعملها. وكذلك يُحرِّم عليهم الخبائث، قال بعض العلماء: هي التي دَلَّ الشرع على خبثها بنهيه عنها، كالميتة والدم ولحم الخنزير وما جرى مجرى ذلك. وقال بعض العلماء: كل ما استخبثه الطبع العربي الذي صاحبه ليس ببالغ من الجوع غايةً تجعله يستطيب غير الطيب أنه يحرِّم ذلك. فالذين قالوا: إن المراد بالطيبات هو الطيب الشرعي، وأن الله أباحها لخلقه مما يستلذه خلقه، وأنّ الخبائث هي ما خبث شرعًا مما منعه الله (جل وعلا) على خلقه كمالك بن أنس - وهو ممن قال هذا القول- فإنه لا يجعل استخباث الطبع العربي علة للتحريم؛ ولذا جاز عند مالك أكل المستخبثات التي يستخبثها الطبع العربي السليم، فإنه يجيز أكل الحيات إذا أُمن سمها، والعقارب والحشرات، وما جرى مجرى ذلك. ولا شك أن هذه الأشياء مما يستخبثه الطبع العربي السليم. وكانت جماعة من العلماء منهم الإمام الشافعي (رحمه الله) يقول: دلَّ قوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} أن كل ما استخبثه الطبع العربي السليم الذي لم يتضرر بالجوع- لأن مَنْ آذاه الجوع جِدًّا قد يستطيب الخبيث لشدة جوعه كما قال بعض شعراء العرب (¬1): ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: ربا) (1/ 1117)، وفي القرطبي (7/ 120)، وشطره الثاني في اللسان هكذا: «غريبًا بأرض يأكل الحشرات». وفي القرطبي: «غريبًا لديكم ... ».

أَكَلْنَا الرُّبى يَا أُمَّ عمروٍ وَمَنْ يَكُنْ ... لَدَيْكُمْ غَريبًا يأكُلُ الحَشَرَاتِ أي: لشدة جوعه. وسُئل أعرابي عن جماعته من البدو: ما تأكلون؟ قال: نأكل كل ما دب ودرج إلا أم حُبين. فقال: لِتَهْنِ أم حُبين العافية. وأم حبين دويبة معروفة، يفر الإنسان ويستقذرها إذا رآها. فعلى هذا القول فالاستخباث الطَّبعي من العرب الذين لم تلجئهم ضرورة الجوع قد يكون عنوانًا للتحريم عند بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي (رحمه [20/ب] الله) ومن وافقه، قال:/ دلت هذه الآية وأمثالها في القرآن على أن كل ما يستخبثه الطبع العربيُّ السليم الذي لم يَشْتَد جوعه أنه لا يجوز؛ لأنه يصدق عليه اسم الخبيث في لغة العرب التي نزل بها القرآن. والخبائث حَرَّمَهَا اللهُ في كتابه على لسان رسوله، وتحريم هذا النبي الكريم للخبائث من أعلام نبوته (صلوات الله وسلامه عليه)؛ لأنه مكتوبٌ في الكتب السابقة أنه إذا بُعث: من صفاته أنه يحرم الخبائث، فإذا جاء محرمًا لها كان ذلك من معجزاته ومصداقًا لنبوته صلى الله عليه وسلم. والحاصل أن الذي يستخبثه الطبع السليم العربي كأشياء كثيرة كالخنفساء والحشرات، وما جرى مجرى ذلك، والعقارب والحيات: بعض العلماء يقول: هو حرام لهذه الآية الكريمة، كالشافعي، وأن الذين أجازوا ذلك كمالكٍ وأصحابه قالوا: ليس المراد بالخبث استخباث الطبع، وإنما المراد به ما دَلَّ الشرع على خبْثِهِ كما هو مُقَرَّرٌ في مذاهب الأئمة، وهذا معنى قوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} بكسر الهمزة وإسكان الصاد، وقرأه ابن عامر وحده: {ويضع عنهم آصَارهم والأغلال التي كانت

عليهم} (¬1) فالآصار جمع إصر (فِعْل) مجموع على (أَفْعَال) والإصر في اللغة العربية التي نزل بها القرآن: الثقل الذي كان من التكليف على من قبلهم؛ لأنَّ مَنْ قَبْلَنَا كانت عليهم من التكليف آصارٌ وأغلال. الآصار: الأثقال التي تثقل صاحبها (¬2)، منها ما قدمنا أن توبة الذين عبدوا العجل لم يقبلها الله إلا بتقديمهم أنفسهم للموت، فهذا ثقلٌ عظيم؛ لأنه لا حادث في الدنيا أعظم من الموت. والمَوتُ أعظَمُ حادثٍ ... فيما يمرُّ على الجِبِلَّهْ (¬3) فرفع هذا الثقل عن هذه الأمة صلى الله على نبيّها، فصار مَنِ ارْتَكَبَ أعظم كفر وأشنع ذنب يكفيه أن يتوب إلى الله، وأن يُقلع عن الذنب، ويندم على ارتكابه، وينوي ألا يعود، فيتوب عليه ربه بذلك، فهذا من رفع الآصار. والإصر: هو الثقل المعروف، ومنه قول الشاعر (¬4): .......................... ... وحَامِل الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا وقوله: {وَالأَغْلاَلَ} الأغلال جمع غُل، والغُلّ هو القيد المعروف؛ لأن التكاليف القوية الشديدة كأنها أغلال يُغَلُّون بها، مثل ¬

(¬1) انظر المبسوط لابن مهران ص215. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 166)، القرطبي (7/ 300)، المفردات (مادة: أصر) ص 78. (¬3) البيت في المحرر الوجيز (12/ 78)، القرطبي (13/ 136)، البحر المحيط (7/ 30)، الدر المصون (8/ 550). (¬4) هذا هو الشطر الثاني من بيت للنابغة الذبياني، وهو في ديوانه ص 162، وشطره الأول: يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... ......................................

أن الواحد منهم كان لا يصلي إلا بالماء، ولا يصلي إلا في الكنيسة، وإذا مست النجاسة شيئًا من ثوبه لزم أن يقرضه بمقراض، إلى غير ذلك من التشديدات (¬1)؛ بخلاف هذه الأمة فقد رُفع عنها ذلك، فجُعلت لها الأرض كلها مسجدًا وطهورًا، وأُجيز لها إزالة النجاسة بالماء، وسهل لها كل شيء كان مُصَعَّبًا على من قبلها، وهذا معنى قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}. وهنا عَبَّر عن التكاليف الشاقة بالأغلال؛ لأن الأغلال كأنها تُقَيِّدُ صاحبها وتمنعه، وكذلك التكاليف الشاقة والأغلال التي كانت عليهم جاء النبي بوضعها كلها، وجاء بحنيفيةٍ سمحة، فالأرض فيها طهور، والأرض كلها مسجد، والماء يطهر كل شيء، وكل من استعصى عليه شيء وشق عليه رخص له فيه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: آية 78] أي: من ضيق {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: آية 185]، والآيات في مثل ذلك كثيرة، وهذا معنى قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي: أثقال التكاليف التي كانت عليهم جاء صلى الله عليه وسلم بإزالتها ووضعها؛ لأنه (صلوات الله وسلامه عليه) جاء بالحنيفية السمحة التي لا حرج فيها. وهذا معنى قوله: {وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}. {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ} أي: صدقوا به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ} قرأ الجمهور: {عَزَّرُوه} وفي بعض القراءات -غير السبعة-: بتخفيف الزاي (¬2). ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 300). (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 404)، الدر المصون (5/ 481).

قال بعض العلماء: {وَعَزَّرُوهُ} أي: مدحوه وأثنوا عليه ثناءً عظيمًا. قال بعض العلماء: {وَعَزَّرُوهُ} أي: منعوه من أن يناله أحدٌ بسوء، حتى لا يقوى أحدٌ على أن يصل إليه، ولا يؤذيه بأذيَّةٍ ما. والمعاني في التعزير تدور حول هذا؛ لأن أصله يُشعر بالتعظيم، وهذا معنى قوله: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ}. {وَنَصَرُوهُ} النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم، أي: أعانوه على أعدائه الذين ظلموه وكذبوه، وكل من كذبه فهو ظالمٌ له، وهذا معنى قوله: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ}. {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} النور الذي أُنزل معه صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن العظيم؛ لأنه النور الذي أنزله الله من السماء يبصر الناس ببصائرهم في ضوئه الحق حقًّا، والباطل باطلاً، والحسن حسنًا، والقبيح قبيحًا، فهو أعظم نور يُكشفُ به ظلمات الباطل ويُرى في ضوئه الحق واقعًا كما ينبغي. وقد سماه اللهُ نورًا في آياتٍ كثيرة كقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن: آية 8] وقوله: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ} [الشورى: آية 52] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174)} [النساء: آية 174] فهذا النور العظيم لمّا صرح الله في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه أنه نوره الذي أنزله مع سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) ليكشف به ظلمات الجهل والباطل كان على المؤمن ألا يطلب الضوء إلا في نوره، ولا يطلب الهدى إلا منه، فالذين يتركون هذا النور ويطلبون الهدى في الظلام الذي جاءت به الكفرة الفجرة دليل على أنهم خفافيش

البصائر يعميهم النور، والله قد صرح في سورة الرعد أن من لم يعلم أحقية هذا القرآن وأنه الحق الذي لا شك فيه أن ذلك إنما جاءه من قِبل عماه؛ لأن الأعمى إذا كان يعجز عن رؤية الشمس لا يؤثر ذلك في ظهور الشمس شيئًا!! فنحن نقول: لا شك في وضوح الشمس وإن كان الأعمى لا يراها!! كذلك القرآن معجزته ونوره أوضح وأعظم من نور الشمس، ولا ينافي ذلك أن هنالك عميانًا لا يرون الشمس في رابعة النهار!! إِذَا لمْ يكنْ للمرءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فلا غَرْوَ أنْ يَرْتَابَ والصُّبْحُ مُسْفِرُ (¬1) والله صرح بهذا في سورة الرعد في قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فصرح أن الذي منعه من أن يعلم أنه الحق إنما هو عماه. ........................... ... وَلاَ تَرَى الشَّمْسَ عَيْنٌ تَشْتَكِي العَوَرَا كما هو معروف. فهؤلاء -والعياذ بالله- الذين يعدلون عن هذا النور الذي هو أعظم من نور الشمس في رابعة النهار، وأوضح وأشد كشفًا وإيضاحًا لحقائق الأشياء وإيضاح الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، هم خفافيش البصائر قطعًا والخفاش إذا ارتفع شعاع الشمس، وانتشر ضوؤها على الدنيا، وصار جميع الناس يمشون في ذلك الضوء، يقضون جميع حوائجهم، أعمى ذلك الضوء الخفافيش، فإذا جاء الظلام وزال النور قام الخفاش يفرح ويمرح، وذلك الظلام عنده كأنه ضوء. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

خَفَافِيشُ أَعمَاهَا النهارُ بِضَوئِهِ ... فَوَافَقَها قِطْعٌ من الليلِ مُظْلِمُ (¬1) فإذا رأيت من لا يقبل كتاب الله ولا يطلب الهدى فيه، ويذهب ويزعم أن الهدى في زبالات أذهان الكفرة الفجرة الخنازير الحمير فاعلم أنه خفاش البصيرة يقينًا لا شك في ذلك، وأنه إنما عمي عن نور القرآن الذي هو أعظم من نور الشمس كما أعمى نور الشمس الخفاش، كما هو مشاهد: مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى ... نُورًا ويُعْمِي أَعْيُنَ الخُفَّاشِ (¬2) كما هو معروف، وهذا معنى قوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: آية 157] المفلحون: جمع المفلح، وهو اسم فاعل (أفْلَحَ) والعَرَب تقول: (أفلح) إذا نال الفلاح، والفلاح يُطلق في اللغة العربية إطلاقين معروفين صحيحين (¬3): أحدهما: تُطلق العرب الفلاح على الفوز بالمطلوب الأكبر، فَمَنْ فَازَ في مطلوبه الأكبر تقول العرب: «أفلح»، ومنه قول لبيد بن ربيعة (¬4): فَاعْقِلي إِنْ كُنْتِ لمَّا تَعْقِلي ... ولَقْد أَفْلَح مَنْ كَانَ عقَلْ يعني: فاز بأكبر المطلوب من كان عنده العَقْل؛ لأنه رأس الخيرات. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (8) من سورة الأعراف. (¬4) مضى عند تفسير الآية (8) من سورة الأعراف.

وتُطلق العرب الفلاح على البقاء والدَّوَامِ في النَّعِيمِ، وكل مَنْ بَقِيَ بقاءً سرمديًّا في النعيم تقول له العرب: (أفلح) وتقول لذلك البقاء: (فلاح) ومنه بهذا المعنى قول الأضبط بن قُريع. وقيل: كعب بن زهير (¬1): لكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمُومِ سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُبْحُ لا فَلاَحَ مَعَهْ يعني: أن تَعَاقُبَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لا بقاء للحَيِّ مَعه، ومنه بهذا المعنى قول لبيد بن ربيعة أيضًا (¬2): لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الْفَلاَحِ ... لَنَالَهُ مُلاعِبُ الرِّمَاحِ يعني: لو أن حيًّا ينال البقاء ولا يموت لناله ملاعب الرماح. وفي هذين المعنيين بكل منهما فُسِّر حديث الأذان والإقامة في قوله: «حي على الفلاح» فقال بعضهم: (حي على الفلاح) أي: الفوز بالمطلوب الأكبر وهو الجنة. وقال بعضهم: (حي على الفلاح) هَلُمَّ إلَى البَقَاءِ السَّرْمَدِيّ في النعيم الذي لا ينقطع في الجنة؛ لأنكم تنالون ذلك بالمواظبة على الصَّلَوات. وهذا معنى قوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} كان بعض أفاضل العلماء يقول: هذه الأخيرة وهي قوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} هي التي جاءت منها البليَّةُ إلى عَمِّهِ صلى الله عليه وسلم أعني أبا طالب؛ لأن أبا طالب من الذين آمنوا برسول الله، فهو مؤمن برسول الله يقينًا (¬3)، ولا يشك في نبوّته ورسالته، وقد صرح بذلك كثيرًا في شعره كقوله في شعره (¬4): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (111) من سورة الأنعام. (¬3) والمقصود يهذا الإيمان: التصديق لكن من غير انقياد وإذعان، وهذا لا يكفي في تحقيق الإيمان. (¬4) هذا أحد أبيات قصيدته المشهورة التي يذب فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 53 - 57).

لَقَدْ عَلِموا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكذَّبٌ ... لَدَيْنَا ولا يُعْنَى بقولِ الأَبَاطِلِ وقوله في شعره الآخر (¬1): وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا فهو يعتقد أنه رسول الله حَقًّا ولا يشك في ذلك، فهو ممن آمن به قلبه وآمن به لسانه ( .... ) (¬2). [21/أ] / {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: آية 158]. معنى قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قل يا نبي الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (أيُّ) هنا نُودي ليُتوصل به إلى نداء الاسم المقترن بـ (أل)؛ لأن ياء النداء لا تجتمع مع (أل)، فجعلت (أي) متصلة بالياء مناداة ليكون ذلك اتصالاً إلى نداء ما فيه الألف واللام؛ لأن (يا) النداء والألف واللام لا يجتمعان. و (الهاء) هاء تنبيه. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} أي: مرسلٌ من الله {إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ولم يرسل قبله نبي لعامة الخلق، إنما كان يرسل النبي لقومه ونحو ذلك، وهو صلى الله عليه وسلم أُرسل للأسود والأحمر، وهذه من الأشياء التي فضله الله بها على جميع الرسل. {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} مرسل من الله إليكم أُبيّن لكم ما يأمركم به ربكم من عقائد وحلالٍ وحرام وغير ذلك. ¬

(¬1) البيت في الإصابة (4/ 116). (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل.

وقوله: {جَمِيعًا} يُعرب حالاً، ويُفسر بأنه توكيد، أي: إني رسول الله إليكم في حال كونكم جميعًا مجتمعين لم يتخلف منكم أحد {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قال بعض العلماء: هو في محل خَفْضٍ نعتٌ لله، إني رسول الله الذي. وهذا على هذا القول لم يمنع من تبعيته له الفصل بينهما بقوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. وقال بعض العلماء: الفصل بينهما بقوله: {إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} يمنع من الإتباع و {الَّذِي} في محل نصب منصوبًا على المدح، أو محل رفع خبر مبتدأ محذوف، كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هذا الذي جئتكم مرسلاً منه ينبغي أن يُهاب، وأن يُخاف منه، وأن تُحترم رسله، وتُطاع أوامره، وتجتنب نواهيه لشدةِ عظمته، وشدة الخوف من بأسه، وشدة الرغبة فيما عنده، فلا ينبغي أن يُعصى، فهذا الذي أرسلني؛ لأن هذه صفاته {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هو ملك السماوات والأرض وهو المعبود وحده. {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي: لا معبود يُعبدُ بحق لا في السماء ولا في الأرض ولا في غيرهما إلا هو وحده جل وعلا. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} هو الذي يحييكم ويميتكم. والكفار كانوا يقرون بإماتتين وإحياءة وينكرون إحياءة، ويوم القيامة أقروا بالإحياءتين والإماتتين فقالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر: آية 11] فالإماتتان: الأولى منهما: هي أطوارك أيها

الإنسان قبل أن تحيا، فالذي تمكثه وأنت نطفة كأنك ميت، والذي تمكثه في بطن أمك وأنت علقة كأنك ميت، والذي تمكثه وأنت مضغة كذلك، فإذا نفخ الله فيك الروح فقد أحياك الإحياءة الأولى بعد الإماتة الأولى. ثم إذا أمَاتك المرة الثانية وصرت إلى القبر فقد مِتَّ الموتة الثانية، ثم يحييك حياة البعث، وهي الإحياءة الثانية التي كانوا ينكرون؛ ولذا قالوا لما أحياهم الإحياءة الثانية وعاينوها وبُعثوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر: آية 11] وقد أوضح الله هاتين الإحياءتين والإماتتين في سورة البقرة في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} الآية [البقرة: آية 28] هذا معنى قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ومن كان يحيي ويميت فهو الذي يُخاف منه غاية الخوف؛ لأنه لا يقع على الإنسان في هذه الدار الدنيا حادث أعظم من الموت الذي يقطعه عن كل شيء. والمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... فيمَا يَمُرُّ عَلَى الجِبِلَّهْ (¬1) ولا شيء أعظم -من التصرفات- من إحياء الإنسان بعد موته والإتيان به حيًّا بعد أن صار عظامًا رميمًا -سبحان ربنا وخالقنا ما أعْظَمَهُ! وما أعظم قدرته (جل وعلا)! وما أظهر براهين توحيده! - وهذا معنى قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ} أي: صَدِّقُوا بِهِ وَبِكُلِّ مَا يجب له، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم. {النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} [الأعراف: آية 158] قرأ نافع هنا في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (157) من هذه السورة.

الموضعين وفي جميع القرآن (النبيء) بالهمزة إلا في موضعين من سورة الأحزاب قرأ في رواية قالون بالإدغام موافقة للجمهور (¬1). وعلى قراءة نافع فالنبيء من (النبأ)، والنبأ (¬2): هو الخبر الذي له الشأن، فكل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ. وعلى قراءة الجمهور: فقيل هي كقراءة نافع، أصلها من (النبأ) إلا أنّ الهمزة أُبدلت ياءً، وأُدغمت فيها الياء التي بعد الباء. وقال بعض العلماء: (النبي) في قراءة الجمهور من النَّبْوَة وهي الارتفاع؛ لارتفاع شأن الأنبياء ومكانتهم بالوحي الذي فضلهم الله به. وهذا معنى قوله: {وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ويؤمن بكلمات الله، ومن كلمات الله: كتبه المنزلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يؤمن بكتب الله كما شهد الله له بذلك في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: آية 285] وقراءة الجمهور: {وَكَلِمَاتِهِ} وفي بعض القراءات الشاذة: {يؤمن بالله وكلمته} (¬3)، قال بعض العلماء: كلمته هي عيسى؛ لأن الله قال لمريم: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} [آل عمران: آية 45] كما قال عن زكريا: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: آية 39] هذا معنى قوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: البحر المحيط (4/ 406)، الدر المصون (5/ 483).

{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: آية 158] أمر الله هذه الأمة أن تتبع سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) ومعنى اتباعه: هو الاقتداء به فيما جاء به من عقائد وأفعالٍ وأقوال، هذا هو معنى الاتباع. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: لأجل أن تهتدوا، أو على رجائكم الهداية باتباعه صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الأعراف: آية 159] بيّن الله أن قوم موسى -وهم بنو إسرائيل- منهم قوم {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} وهو كتاب الله الذي أنزله على نبيه، يهدون بما فيه من الحق، يأمرون الناس فيه بالخير الذي يرضي الله جل وعلا {وَبِهِ} أي: بذلك الحق الذي هو ضد الباطل {يَعْدِلُونَ} من العدل الذي هو ضد الجور. جرت عادة المفسرين بعضهم يذكر عند هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف قصةً غريبةً معروفة عن بعض بني إسرائيل الله أعلم بها (¬1)، يزعمون أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا وثبتوا وأطاعوا الله تمامًا، ولم ينجرفوا مع الذين غَيَّرُوا وبَدَّلُوا وكفروا وعصوا، وسألوا الله أن يثبتهم على ما هم فيه، وأن الله شق لهم نفقًا من الأرض، وأنهم مشوا في ذلك النفق أكثر من سنة، وأنهم خرجوا من وراء بلاد الصين، وأنهم كانوا هناك في بلاد شاسعة وراء بلاد الصين، وأنهم على إيمانهم، يزعمون كثيرًا هذا، ويذكره جماعة منهم عند هذه الآية من سورة الأعراف، والله أعلم بذلك. وظاهر القرآن: أن الله أثْنَى على قوم موسى أن منهم أمة يأمرون ¬

(¬1) وهي في ابن جرير (13/ 173).

الناس بالحق الذي علموه من كتاب الله، وأنهم يعدلون به العدل الذي هو ضد الجور، هذا هو الظاهر (¬1). يقول الله جل وعلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: آية 158]. أمر الله (جل وعلا) نبينا صلى الله عليه وسلمَ في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف أن يقول لجميع الناس أسودهم وأحمرهم: إنه رسولٌ إليهم من رب السماوات والأرض، وهذه من المسائل التي فضله الله بها (صلوات الله وسلامه عليه) على جميع الرسل؛ لأنه فُضل بخصال لم يُعْطَها أحد قبله من الرسل (صلوات الله وسلامه عليهم)، كما جاء مبيّنًا في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، فقد أُحلت له الغنائم ولم تُحل لأحد قبله، كانوا يحرقونها بالنار، وقد جُعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا، وقد نصره الله بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وأرسله إلى كافة الناس (صلوات ¬

(¬1) تنبيه: هذا الموضع هو آخر درس للشيخ (رحمه الله) في رمضان سنة (1390 هـ) كما هو مُثبت على إحدى النسخ. وقد قال (رحمه الله) في خاتمة هذا المجلس: «ونستودعكم الله -أيها الإخوان- ونرجو أن تكون مجالسنا هذه من مجالس الخير، وأن نكون من الذين يتعاونون على البر والتقوى؛ لأنَّا نريد العمرة إلى مكة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» اهـ ولعل هذا الدرس كان في (24/ 9/1390هـ) لأن الدرس الذي قبله كان في (23/ 9/1390). ثم لما بدأ (رحمه الله) في دروس التفسير في اليوم الأول من رمضان المبارك عام (1391هـ) [كما هو مثبت على إحدى النسخ] أعاد تفسير الآيتين (158، 159). وهذا سبب التكرار الذي قد يتساءل عنه القارئ الكريم.

الله وسلامه عليه) فهو (صلوات الله وسلامه عليه) أفضل الرسل، وخير العالمين صلى الله عليه وسلم، ومنْذُ بَعَثَهُ الله لم تبلغ دعوته أحدًا من الخلق ولم يؤمن به إلا دخل النار، فالذين يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى العرب ولم يُرسل إلى غَيْرِهم كفرة ملاحدة، كفرة بالله، مكذبون كتاب الله، مخالفون الضروري من دين الإسلام، فهو صلى الله عليه وسلم مرسل إلى جميع الخلائق كما صرحت به هذه الآية الكريمة {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وجاء في آيات أُخر من كتاب الله وأحاديث صحيحة معروفة، فمن الآيات الدالة على ذلك (¬1): قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: آية 1] فصرح بأنه نذير للعالمين، وكقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: آية 19] فكُلّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا القرآن فهو مُنْذَرٌ بِرِسَالَةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: آية 28] أي: إلا للناس كافة على التحقيق، خلافًا لمَنْ زَعَمَ من علماء العربية أن صاحب الحال إذا كان مجرورًا باللام أنه لا تتقدم عليه الحال (¬2). والمتأخرون من علماء العربية قالوا: إن ذلك جائز وتدل عليه الآية التي ذكرنا، وهي قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: آية 28]. {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: آية 17] وكلّ مَنْ سَمِعَ بِرِسَالَةِ محَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وبلغته ولم يؤمن به دَخَلَ النَّارَ؛ لأنه رسول الله إلى الأسود والأحمر، وليس الخلق كافة (صلوات الله وسلامه عليه)، مرسل إلى الجن والإنس، عام الرسالة، ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 334). (¬2) انظر: الدر المصون (9/ 186).

باقيها إلى يوم القيامة؛ لأن الله لما أرسله رسالة عامة وجعلها باقية على مر العصور جعل معجزتها -وهي هذا القرآن العظيم- قائمة باقية تَتَرَدَّد في آذان الخلق إلى يوم القيامة، محفوظة من رب العالمين، لو أراد إنسان أن يزيد حرفًا أو ينقصه، أو نقطًا أو ينقصه لرد عليه الآلاف من صبيان المسلمين في أقطار الدنيا؛ لأن الله تولى حفظ هذا القرآن المحكم الذي هو أساس هذه الرسالة العامة الخالدة (صلوات الله وسلامه على من جاء بها). وهذا معنى قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. الرسول هنا (فَعُول) بمعنى (مُفْعَل) إني مرسل من الله إليكم جميعًا. وقد قدمنا مرارًا (¬1) أن علماء العَرَبِيَّة يقولون: إن أصل الرسول أصلُه مصدر وُصف به فجيء به بمعنى اسم المفعول، وإتيان المصادر على وزن (فَعُول) مسموع في أوزان قليلة كالقبول والولوع والرسول، في أوزان قليلة. وفائدة ذكرنا أن أصل الرسول مصدر وُصف به وجيء به بمعنى اسم المفعول؛ لنُزِيل بذلك إشكالاً في كتاب الله، وإيضاح ذلك: أن المعروف عند عُلَمَاءِ العَرَبِيَّة أن المصادر إذا نُعِت بها -أعني أُجريت مجاري الأوصاف- أنها تُلْزَمُ الإفراد والتذكير باللغة الفصحى (¬2)، فتقول: هذا رجل عدل، وهذه نساءٌ عدل، وهذه امرأة عدل، وهؤلاء رجال عدل. هذا في اللغة الفصحى، وربما تُنُوسي أصل المصدر وعُومل معاملة الأوصاف نظرًا إلى وصفيته ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

الطارئة، فالرسول على هذا تارة في القرآن يلاحظ فيه أصله الذي هو المصدر، وتارة يُلاحظ فيه الوصفية العارضة التي جُعل بمعناها. وإيضاح هذا: أن الرسول على أن أصله مصدر يُفرد عند حالة التثنية والجمع، تقول: هذان رسول، وهؤلاء رسول. وربما جُمع الرسول نظرًا إلى الوصفية وتناسيًا لأصل المصدرية، فَمِن جَمْع الرسول اعتبارًا بالوصفية: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: آية 253] {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ} [النساء: آية 165] ومن تثنيته: قوله في سورة طه: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه: آية 47] فقد ثَنَّى الرسول اعتبارًا بوصفيته، وفي سورة الشعراء أفرد الرسول مع أن المراد به اثنان؛ نظرًا إلى أصله الذي هو المصدر، وذلك في قوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 16] ولم يقل: إنا رسولا، فنطقت العرب بلفظ الرسول مفردًا مرادًا به الجمع، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (¬1): أَلِكْنِي إِلَيْها وَخَيْرُ الرَّسُول ... أَعْلَمُهُم بِنَواحي الخَبَر فجمع الضمير في قوله: «أعلمهم» وهو عائد إلى الرسول المفرد نظرًا إلى أصل مصدريته. والرسول مسموع في كلام العرب بمعنى المصدر، ومنه قول الشاعر (¬2): لَقَد كَذَبَ الواشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِقَوْلٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أي: برسالة. وقول الآخر (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (78) من سورة البقرة.

أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولاً ... بِأَنِّي عَنْ فُتاحَتِكُم غَنِيٌّ أي: رسالة. وهذا معنى قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أي: مرسل من الله إليكم أيها الناس جميعًا. فقوله: {جَمِيعًا} يُعْرَبُ حَالاً ويُفسَّر توكيدًا. {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} في حال كونكم مجتمعين لم يشذ أحد منكم، بل رسالتي عامة لجميعكم في حال كونها شاملة لكم مجتمعين فيها. هذا معنى قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. ولما بيّن أنه مرسل من الله ذكر الله (جل وعلا) من صفات هذا الرب المُرسِل ما يدعو خلقه إلى القبول والامتثال، فبين أن هذه الرسالة جاءتكم من عند عظيم العظمة الكاملة، فهو جدير بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وألاَّ تكذَّب رسله ولا يُعصى؛ ولذا قال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. اختلف علماء العربية والتفسير في موضع قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} من الإعراب (¬1): فقال قوم: إنه في محل خفض نعتٌ للجلالة في قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} إني رسول الله الذي له ملك السماوات والأرض. قالوا: ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: {إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} لأنه معمول المضاف الذي هو {رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} قالوا: وربما حيل بين النعت والمنعوت حتى ولو بأجنبي، كقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة: آية 76]. وقال قوم: هذه الحيلولة بين الصفة والموصوف لا تُغتفر، ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 482).

وأعربوا: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بأنه في محل نصب {رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أعني {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وهذا القطع هو الذي يسميه علماء العربية: النصب على المدح {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الله (جل وعلا) الذي يرسل الرسل ويشرع الأحكام هو الذي له ملك السماوات والأرض. وهذه الآية الكريمة دالة على أنه لا يشرع للخلق ويأمرهم وينهاهم ويحرم عليهم إلا الملك الذي هو نافذ التصرف نفوذًا مطلقًا، وله الكلمة العليا، وهو فوق كل شيء. هذه الآية تدل على هذا، وبذلك يُعلم أن الضعيف المسكين العاجز لا تشريع له، ولا يصح منه أن يحلل ولا أَنْ يُحَرِّمَ، فالَّذِي يُحَلِّلُ ويُحرِّم ويُشرع هو خالق هذا الكون (جل وعلا)؛ لأنه لا يشرع إلا الملك الأعظم الكبير الأكبر، كما قال هنا فيمن يرسل ويشرع على ألسنة الرسل: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف: آية 158] فالذي يشرع قانونًا وضعيًّا إن كان له ملك السماوات والأرض، وهو الذي يحيي ويميت، وهو المعبود وحده فليتقدم وليشرع، وإن كان عاجزًا مسكينًا مربوبًا فليعلم قدره، وليقف عند حده، وليعلم أن من يحلل ويحرم هو الكبير الأكبر، والملك العظيم، كما قال تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: آية 12] فالعلي الكبير الذي هو أعلى وأكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو الملك الأعظم، هذا هو الذي له حق التشريع، والتحليل والتحريم. وبهذا تعلمون أن الأمر ما أمر الله به، والنهي ما نهى الله عنه، والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله،

وأن القوانين الوضعية خزي ووبال وكفر على أصحابها، يعطون مُسْتَحَق خالق السماوات والأرض لأجهل خلق الله، وأخسهم وأكفرهم سبحانه (جل وعلا) أن يكون له في حكمه شريك، كما تقدس (تعالى) أن يكون له في عبادته شريك، فحكم الله (جل وعلا) كعبادته، فَكَمَا أنَّ مَنْ أشْرَك به في عبادته كافر به فكذلك مَنْ أشْرَكَ به في حكمه فهو كافر به. والقرآن بين استوائهما، قال في الإشراك في العبادة: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110] وقال في حكمه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: آية 27] {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26] وقرأه ابن عامر من السبعة: {ولا تُشْرِك في حكمه [21/ب] أحدًا} (¬1) / فالحكم لخالق السماوات والأرض، لا تشريع لغيره، لا تحليل إلا لله، ولا تحريم إلا لله، ولا تشريع إلا لخالق السماوات والأرض {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: آية 59] فما جعل (جل وعلا) بين إذنه والافتراء عليه واسطة. وقد ذكرنا مرارًا (¬2) أن هذه الآيات القرآنية تدل على أن الذين يتحاكمون إلى نظم وضعية وقوانين لم يشرعها خالق السماوات والأرض زاعمين أنها هي الكفيلة بتنظيم الحياة، ومسايرة ركب الحضارة، والكفالة للناس بحقوقهم، زاعمين -لطمس بصائرهم وقلة عقولهم- أن نور السَّمَاءِ الذي أنزله خالق السماوات والأرض ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

على سيد الخلق من تشريع رب العالمين لا يمكن أن يكون كفيلاً بذلك!! فهؤلاء كفرهم لا يخفى، ولا يشك في كفرهم وبعدهم من الإيمان إلا مَنْ طَمَسَ اللهُ بَصِيرَتَهُ. وهذا كثير في القرآن لا تكاد تحصيه في المصحف الكريم. وقد بيّنا لكم مرارًا في هذه الدروس والمناسبات (¬1) أن ذلك الأمر وقعت فيه مناظرة بين حزب الشيطان وحزب الرحمن، وكل يتمسك بمستنده، فحزب الشيطان يتمسك بوحي الشيطان وفلسفة إبليس، وحزْب الرَّحْمَن يَتَمَسَّكُ بهذا الوحي المُنَزَّل الذي لا يَضِلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولما تناظرت الفئتان تَوَلَّى الحكم بينهما خالق السَّمَاوَاتِ والأرض بفتوى سماوية تُتْلَى في كتاب الله على آذان الخلق. وهذا أوضحناه في هذه الدروس مرارًا، وأكثرنا مِنْ ذِكْرِه في المناسبات لشدة الحاجة إليه، ذلك أن إبليس أوحى من وحيه الشيطاني إلى إخوانه مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: أن سلوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها؟ فأجابهم: «بأن الله قتلها» فاستدلوا على إباحة الميتة بفلسفة إبليس ووحي الشيطان فقالوا: ما ذبحتموه بأيديكم -يعنون المُذَكَّى- تقولون: هو حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة -يعنون الميتة- تقولون: حرام. فأنتم إذًا أحسن من الله؟! فهذه طائفة تتمسك بوحي إبليس، وفلسفة الشيطان، وتقول: إنه أحسن، وأن ذبيحة الله أحل من ذبيحة الناس!! وهذه طائفة أُخرى تتمسك بهذا المحكم المنَزّل في تحريم الميتة {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة: آية 173] هؤلاء يستدلون بالقرآن وهؤلاء بوحي الشيطان، فتناظرا هذه المناظرة، ¬

(¬1) السابق.

فتولى الله الفتيا فيها قُرآنًا يُتلى في سورة الأنعام، فأنزل في هذا: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يعني: الميتة. أي: وإن زعموا أنها ذبيحة الله، ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: خروج عن طاعة الله، ثم قال: {وَإِنَّ الشياطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} يعني وحي الشيطان وفلسفة إبليس {لِيُجَادِلُوكُمْ} بوحي الشيطان: ما ذبحتموه حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذن أحسن من الله!! ثم أفتى بين الفريقين، وحكم بين الخصمين قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] فحكم على هؤلاء المسلمين أنهم إن أطاعوا حزب الشيطان واتبعوا نظام إبليس وتشريعه وقانونه بالفلسفة الإبليسية أن ما ذبح الله أحل مما ذبح الناس أنهم مشركون. وهذه الآية الكريمة من سورة الأنعام هي عند علماء العربية مثال لحذف اللام الموطئة للقسم (¬1). قالوا: هنا قسم، واللام الموطئة محذوفة، والأصل: ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون. قالوا: والقرينة الدالة على لام القسم الموطئة المحذوفة: أنه لو لم يكن هناك قسم وكانت (إن) الشرطية في قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} خالية من قسم لوجب اقتران الجملة بالفاء في قوله: فإنكم لمشركون. فلما عريت من الفاء دل خلوها من الفاء على حذف القسم. وهذا وجيه. فما زعمه قَوْمٌ مِنْ أَنَّ الفَاءَ في جملة الجزاء التي لا تصلح أن تكون فعلاً للشرط أنه يجوز سقوط [الفاء] (¬2) منها اختيارًا، فهو غير صحيح، والتحقيق في لغة العرب: أنها لا بد من اقترانها بالفاء، وأن سقوط الفاء من آية الأنعام هذه نظرًا للقسم ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. (¬2) في الأصل: «الجزاء».

المحذوف، وما احتجوا به من قراءة نافع وابن عامر (¬1) في سورة الشورى في قوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)} [الشورى: آية 30] قالوا: لم تكن في قراءة نافع وابن عامر الفاء، بل قرآ: {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم} وكذلك هو في مصحف عثمان بن عفان الذي بقي عنده بالمدينة ليس فيه فاء {فَبِمَا كَسَبَتْ} وكذلك في المصاحف التي أُرسلت إلى الشام. والتحقيق أن قراءة نافع وابن عامر هذه من السبعة: {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} لا تدل على خلو جملة الجزاء من الفاء إن كانت لا تصلح أن تكون فعلاً للشرط، بل (ما) من قوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} على قراءة نافع وابن عامر موصولة لا شرطية. والمعنى: والذي أصابكم من المصائب كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم. أما على قراءة بقية السبعة: فـ (ما) شرطية؛ ولذلك اقترنت الجملة بالفاء في قراءتهم وفي المصاحف التي أُرسلت إلى أقطارهم. وهذا الشرك في قوله: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] أجمع العلماء على أنه شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام؛ لأن من حكَّم تشريع غير الله فقد كفر بالله. وهذا الشرك هو الذي وبخ الله صاحبه ويوبخه على رؤوس الأشهاد في سورة (يس) ويبين مصيره وقراره النهائي -والعياذ بالله- وذلك في قوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} معنى عبادتهم الشيطان: هي اتباع نظامه وتشريعه وقانونه فيما أحل لهم من الكفر والمعاصي لله، ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف. وانظر: الأضواء (7/ 170).

المخالفة لما جاء به الرسل: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا} [يس: الآيات 60 - 62] أضل الشيطان منكم خلائق كثيرة لا تحصى، ويدخل فيها الدخول الأوَّلِي: الذين اتبعوا نظامه وقانونه وتشريعه، وفضلوه على نور السماء الذي أنزله خالق الخلق على خيرته مِنْ خَلْقِهِ وهُمْ الرسل (صلوات الله وسلامه عليهم). ثم قال: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: آية 62] لم تكن هنالك عقول ترشدكم إلى أن الذي يتبع تشريعه ويطاع في تحليله وتحريمه هو خالق هذا الكون الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، وأن ذلك ليس للشيطان ولا لاتباع الشيطان. ثم بيّن المصير والقرار النهائي لمن كان يتبع تشاريع إبليس ونظمه وقوانينه: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 63 - 65]. وهنالك قوم قد أرادوا التَّحَاكُم لغير ما أنزل الله، وزعموا أنهم مؤمنون، فعجَّب الله نبيه من دعواهم الكاذبة الخائنة الفاجرة؛ لأنها حقيقة بأن يُعْجَبَ منها، وما ذلك إلا لشدة كذبها وبعدها عن الحق، وذلك بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60)} [النساء: آية 60] فالله قال مستبعدًا لحجة هؤلاء مستبعدًا لصدقها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ} إرادتهم للتحاكم للطاغوت أبعدت دعواهم عن أن يُقبل منهم أنهم يؤمنون. والآيات

القرآنية الدالة على هذا كثيرة؛ ولذا ثبت أن عدي بن حاتم (رضي الله عنه) سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله} [التوبة: آية 31] كيف اتخذوهم أربابًا من دون الله؟ قال: «ألم يحلوا لهم ما حرم الله، ويحرموا عليهم ما أحل الله؟» قال: بلى. قال: «بذلك اتخذوهم أربابًا» (¬1) والعياذ بالله. ولذلك بين هنا صفات من يُتبع تشريعه ويُعمل به ليبين للخلق أن التشريع لا يُقبل ولا يُتبع إلا ممن هو أهل لأن يشرع؛ ولذا لما ذكر أنه أرسل هذا النبي الكريم لجميع الناس كافة بيَّن أن الذي أرسله بهذا التشريع وهذه الأوامر والنواهي والحلال والحرام أنه الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو يحيي ويميت. هذه صفات المشرع الذي يُحَلِّلُ ويُحَرِّمُ، وأما غير مَنْ هذه صفاته فليس له حق في ذلك، فاتباع تشريعه كفر برب العالمين كما أوضحناه مرارًا. وهذا معنى قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لأنه (جل وعلا) هو ملك السماوات والأرض النافذ تصرفه فيها، لا يُسأل فيها عما يفعل، لا معقب لحكمه؛ ولذا كان أمره ونهيه هو اللازم أن يُتبع. وهذا معنى قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. وقوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} قال بعض العلماء: هو في معنى البدل والبيان من: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لأن المعبود الذي يستحق أن يُفرد بالعبادة وحده هو الذي له ملك السماوات والأرض، الذي يحيي ويميت؛ ولذا قال: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي: لا معبود يُعْبَدُ بالحق إلا هو وحده (جل وعلا) وقد ذكرنا مرارًا أن الإله في (¬2) ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة المائدة.

لغة العرب: بمعنى المعبود، والإلهة: العبادة. وتألّهَ: إذا تَعَبَّدَ، فالإله (فِعَال) بمعنى: (مَفْعُول) بمعنى: مألوه؛ أي: معبود على سبيل المحبَّة والخوف والتعظيم. وإتيان (الفِعَال) بمعنى (المفعول) مسموع في أوزان من لغة العرب، وليس قياسيًّا فيها، فمنه: الكتاب بمعنى المكتوب، واللباس بمعنى الملبوس، والإله بمعنى المألوه. أي: المعبود. والإمام بمعنى المُؤتم به، في أوزان قليلة. والعرب تُسمِّي التألُّه تعبدًا، والإلاهة عبادة. وفي قراءة ابن عباس (¬1) -وإن كانت شاذة-: {وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ} وفي رجز رُؤْبَة (¬2): للهِ دَرُّ الغَانِيَاتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي أي: لا معبود يُعبد بالحق إلا ملك السماوات والأرض (جل وعلا)، الذي يحيي ويميت، الذي أرسلني إليكم فأنا مرسل ممن هو جدير بأن يُطاع ولا يُسْتَهْزَأ بأوامره ونَواهِيهِ. وهذا معنى قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} يحيي من شاء أن يحييه، ويميت من شاء أن يميته، فحذف المفعول للتَّعْمِيم. وهذا الإحياء والإماتة تدخل فيه الإماتتان والإحياءتان دخولاً أوليًّا المذكورتان في سورة المؤمن -سورة غافر- في قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: آية 11] وهاتان الإماتتان والإحياءتان اختلف فيهما العلماء (¬3)، والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه: أن الإماتة الأولى هو كونهم في بطون ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (59) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (85) من هذه السورة. (¬3) انظر: القرطبي (15/ 297)، ابن كثير (4/ 73).

أمهاتهم علقًا ومُضَغًا لا حياة فيهم قبل أن يُنفخ فيهم الروح، وأن الإحياءة الأولى هي إحياءتهم في بطون أمهاتهم التي خرجوا بها إلى الدنيا. والإماتة الثانية: الإماتة إلى القبور، بالإحياءة الثانية: الإِحْيَاءَة من القبور بالبعث إلى الحساب والجزاء. وهذا المعنى أوضح الله أنه المراد في سورة البقرة في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ... } الآية [البقرة: آية 28] والله (جل وعلا) قد يحيي غير هذا الإحياء ويميت غير هذه الإماتة، فهو يميت الأرض ويحييها كما قال جل وعلا: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: آية 50] وكذلك يحيي الإنسان لسؤال الملكين في قبره كما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ} الفاء سببية، وهذه الرسالة لما أُرسل بها هذا الأمين الكريم من قِبَل هذا الملك العظيم الأعظم ملك السماوات والأرض، المعبود وحده، الذي بيده الحياة والموت، هذا يتسب للإيمان بها، وعدم الكفر بها؛ ولذا جاء بالفاء المؤذنة بالسبب في قوله: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ}. قال بعض علماء العربية: العرب تطلق الإيمان لغة على التصديق، وهذا موجود في لغتها وإن أنكره بعض أهل العلم، كقوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: آية 17] أي: بمصدقنا في أن يوسف أكله الذئب {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: آية 17]. والإيمان في الشرع: هو التصديق الكامل من جهاته الثلاث، أعني: تصديق القلب بالاعتقاد والنية الصالحة، وتصديق اللسان

بالإقرار، وتصديق الجوارح بالعمل (¬1). {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم. قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} بالإدغام. وقرأه نافع وحده: {ورسوله النبيء الأمي} ونافع في جميع القرآن قرأ (النبيء) و (النبيئين) و (الأنبئاء) بالهمزة المحققة إلا حرفين في سورة الأحزاب وافق الجمهور فيهما بالتشديد في رواية قالون عنه خاصة دون ورش، كما هو معروف في قراءته (¬2). أما على قراءة نافع: {ورسوله النبيء الأمي} فالنبيء: فاعل من النبأ، والنبأ في لغة العرب: هو الخبر الذي له خطب وشأن، فالنبأ أخص من مطلق الخبر، فكل خبر نبأ وليس كل نبأ خبرًا؛ لأن العرب لا تكاد تُطلق النبأ إلا على خبر له شأن وخطب (¬3)؛ فلو قال قائل: «جاءنا اليوم نبأ عن حمار الحجام» لما كان هذا من كلام العرب؛ لأن خبر حمار الحجام لا أهمية له ولا خطب له، فلا يُسمى نبأ وإنما يقول له: خبر. هكذا حققه بعض علماء العربية. أما على قراءة الجمهور: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} ففيه وجهان: أحدهما: أن معناه كمعنى قراءة نافع، وأن الهمزة أُبْدلت ياء، وأُدغمت الياء في الياء، كقراءة ورش عن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬2) تقدمت هذا القراءات وتوجيهها عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

نافع (¬1): {إنما النَّسِيُّ زيادة في الكفر} [التوبة: آية 37] بإدغام الياء في الياء، والأصل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} كقراءة الجمهور. وعلى هذا فمعنى القراءتين واحد. وقال قوم: النبي على قراءة الجمهور مشتق من النَّبْوَة وهي الارتفاع، والعرب تسمي المرتفع من الأرض نبيًا، ومنه قوله (¬2): لأَصبَحَ رتْمًا دُقاقُ الحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ النبي: يعني به رملاً مرتفعًا. هكذا قاله العلماء (¬3). وهذا معنى قوله: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} هذه صفاته صلى الله عليه وسلم. وقد أجرى الله العادة أنه يصف المرسلين والملائكة بما يصف به مطلق عوام المؤمنين؛ لأن قوله: {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} كل عامي من المسلمين يؤمن بالله، وقد وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بصفة يتصف بها جميع المسلمين، وذلك للإيذان بشرف الإيمان بالله وكلماته وعِظَمِه كما قال جل وعلا: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وصفهم بالإيمان ووصف المسلمين بالإيمان {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: آية 7] وبين أن ذلك الإيمان الذي اتصف به حملة العرش وأهل الأرض من بني آدم صار الرابطة العظمى بينهم التي عطفت قلوبهم عليهم من فوق سبع ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬2) البيت لأوس بن حجر، وهو في ديوانه ص10 - 11، اللسان (مادة: كثب) (3/ 223)، الدر المصون (1/ 402). (¬3) قال في اللسان (مادة: كثب 3/ 223)، معقبًا على هذا البيت: «يريد بالنبي: ما نبا من الحصى إذا دُق فندر. والكاثب: الجامع لما ندر منه. ويقال: هما موضعان» اهـ.

سماوات فدعوا لهم ذلك الدعاء القرآني العظيم المذكور في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم} إلى آخر دعائهم الكريم [غافر: الآيتان 7، 8]. وهذا معنى قوله: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ}. الأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ ولا يكتب {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: آية 48] وكونه لا يقرأ ولا يكتب مع هذه العلوم التي لا يُطَّلع عليها إلا بالوحي يدل على أن هذا إنما عَلِمَه بوحي من الله (جل وعلا). وقوله: {وَكَلِمَاتِهِ} قال بعض العلماء: معنى كلماته: كتبه التي أنزلها على خلقه (¬1)، كما قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة: آية 285] والتحقيق: أن كلمات الله أعم من كتبه (¬2)، وأنها لا يحصيها إلا هو (جل وعلا) كما نوَّه عنها في أُخريات الكهف وأُخريات لقمان في قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: آية 109] وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: آية 27] وكلمات الله لا يعلمها إلا الله (جل وعلا)، ولو كانت البحور مدادًا لكلماته لنفدت البحور وتلاشت قبل أن ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 302). (¬2) انظر ابن جرير (13/ 171)، الأضواء (2/ 334).

تنفذ كلماته (جل وعلا). والكلام صفته الأزلية التي لم يتجرد عنها يومًا ما، فهو (جل وعلا) متصف بكلامه الأزلي الذي لم يتجرد عنه يومًا ما، وفي كل يوم يتكلم بما شاء كيف شاء على الوجه اللائق بكماله وجلاله سبحانه (جل وعلا) ما أعظم شأنه. وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} الضمير المنصوب في قوله: {وَاتَّبِعُوهُ} لهذا النبي الأمي (صلوات الله وسلامه عليه) أمر الله باتباعه؛ لأن اتباعه هو عين طاعة الله جل وعلا {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: آية 80] {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: آية 31]. وقوله: {لعلكم تهتدون} أشهر معاني (لعل) في القرآن عند المفسرين معنيان (¬1): أحدهما: أنها لمعنى التعليل، وهو الأنسب هنا. قال بعض علماء العربية: كل (لعل) في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: آية 129] قالوا: هي بمعنى: كأنكم تخلدون. وإتيان (لعل) بمعنى التعليل صحيح معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): فقلتُم لنا كُفُّوا الحُروبَ لعلَّنَا ... نكُفُّ ووثَّقْتُم لنا كُل موثقِ «كفوا الحروب لعلنا نكف» أي: كفوا لأجل أن نكف. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

وقال بعض العلماء (¬1): (لعل) هي للرجاء، يعني: على رجائكم أيها الخلق الذين لا تعلمون العواقب وما تؤول إليه الأمور، أما الله (جل وعلا) فهو عالم بما تؤول إليه الأمور فلا تجري له (لعل)؛ ولذا قال لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ} يعني فرعون {قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: آية 44] على رجائكما أن يتذكر أو يخشى ومبلغ علمكما، أما الله فهو عالم بأنه لا يتذكر ولا يخشى، ولا يجري عليه (لعل). هذان الوجهان معروفان، والتعليل هنا أنسب. وقوله: {تَهْتَدُونَ} تكونون على طريق الهدى التي هي موصلة إلى القصد والصواب من رضا الله (جل وعلا) ونيل ما عنده من الخلود في الجنة. (¬2) [22/أ] / {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)} [الأعراف: الآيتان 159، 160]. يقول الله (جل وعلا): {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: آية 159] موسى هو نبي الله موسى بن عمران (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام). وقومه: هم بنو إسرائيل. وأصل (القوم) في لغة العرب: اسم جمع لا واحد له من ¬

(¬1) السابق. (¬2) جاء في أول الشريط المسجل لهذا الدرس (كما في إحدى النسخ) ما نصه: «اليوم: يوم الخميس، الموافق 2/ رمضان المبارك سنة (1391هـ) ... » اهـ، وهو التاريخ المثبت كتابيًّا على إحدى النسخ.

لفظه، وُضع للذكور دون الإناث، وربما دخلت الإناث فيه بحكم التَّبَع (¬1)، والدليل على أنَّ لَفْظَ القوم يختص بالوضع بالذكور دون الإناث قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} ثم قال: {وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} فلو دخل النساء في اسم القوم لما كان لقوله: {وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء} [الحجرات: آية 11] فائدة، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير بن أبي سلمى (¬2): وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْري ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنِ أَمْ نِسَاءُ فدل على أن العَرَبَ تخص به الذكور، والدليل من القرآن على أن النَّسَاء رُبَّمَا دَخَلْنَ في اسم القوم بحكم التبع: قوله تعالى في ملكة اليمن: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43]. وقوله: {أُمَّةٌ} مبتدأ سوَّغ الابتداء به وهو نكرة اعتماده على المجرور قبله. والأمة: الطائفة الكثيرة المتفقة في دين ونحوه، وقد جاء في القرآن العظيم إطلاق الأمة على أربعة معان كلها صحيح موجود في كتاب الله (¬3)، ومنه إطلاق الأمة على الطائفة المتفقة في دين ونحوه، وهذا أكثر إطلاقات الأمة، كقوله هنا: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: آية 213] ونحو ذلك من الآيات. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام.

الإطلاق الثاني: إطلاق الأمة على الرجل المقتدى به، كقوله في إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: آية 120]. الإطلاق الثالث: إطلاق الأمة على القطعة والبرهة من الزمان، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: آية 45] أي: تذكر بعد برهة من الزمان وقطعة من الدهر. وهو بهذا المعنى قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ} [هود: آية 8] أي: إلى مدة معينة في علمنا. الإطلاق الرابع: إطلاق الأمة على الشريعة والدين، وهذا الإطلاق مشهور في القرآن، كقوله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: آية 23] أي: على شريعة وملة ودين، ومنه بهذا المعنى قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: آية 92] أي: دينكم وشريعتكم شريعة واحدة. وهذا الإطلاق معروف مشهور في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان (¬1): حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُك لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ يعني: أن من كان صاحب دين وشريعة لا يرتكب الإثم قاصدًا أبدًا، وهذا يقوله جاهلي، فكيف بالمسلم، فما ينبغي له أن يقول؟! وهذا معنى قوله: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي: يهدون الناس بالحق، والمراد بالحق الذي يهدون به الناس: هو شرع الله ودينه الذي أنزله على رسله. {وَبِهِ} أي: بالحق المذكور {يَعْدِلُونَ} يصيبون العدالة ¬

(¬1) السابق.

المتجافية عن طرفي الإفراط والتفريط. فالعدالة: المشي على الصواب وطريق القصد المتجافي عن طرف الإفراط والتفريط. وهذه الآية الكريمة دلت على أنَّ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أمة طيبة، على الحق، وهذا المعنى جاء مُصرَّحًا بِهِ في آيات كثيرة كقوله تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [آل عمران: الآيتان 113، 114] وكقوله جل وعلا: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)} [آل عمران: آية 199] وكقوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا ... } الآية [الإسراء: الآيتان 107، 108] وكقوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: آية 36] في أهل الكتاب الذين يفرحون بما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن القرآن أن هذه الطائفة من أهل الكتاب -التي كانت متمسكة بشريعة موسى وبما في التوراة إذا كانت على ذلك حتى آمنت بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم- أنها تُؤتى أجرها مرتين، أجر إيمانها الأول بموسى وكتابه، وإيمانها بمحمد وكتابه، نص الله على هذا في سورة القصص في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الآية [القصص: الآيات 51 - 54]. وهذا معنى قوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ

بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: آية 159]. وقد قدمنا في سورة المائدة أن ظاهر القرآن أن هذه الأمة هي الأمة المقتصدة المذكورة في قوله: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: آية 66] وهذه الأمة غاية ما نوَّه الله به عنها أنها مقتصدة، وهذه الأمة الكريمة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم لمَّا نوَّه عنها وعن كتابها جعل فيها مرتبة أعظم من المقتصدة، وذلك في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: آية 32] فجعل فيهم سابقًا بالخيرات فوق المقتصد، ووعد الجميع ممن أورثوا هذا الكتاب بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} الآية [فاطر: آية 33] فآية فاطر هذه تدل دلالة عظيمة واضحة على عظيم هذه الأمة المحمدية، وعلى عظيم نعمة هذا الكتاب والرحمة والنور الذي أنزل الله إليها من السماء على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لما قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} بيّن أن إيراث هذا الكتاب علامة الاصطفاء -وهو الاختيار من الله- ثم قسم هذه الأمة التي اصطفاها الله بإيراث هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام (¬1): قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} ثم نوّه عن أن إيراث هذا الكتاب فضلٌ عظيم من الله قال: {ذَلِكَ} أي: إيراثه إياكم ذلك الكتاب {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} من الله عليكم. ثم وعد الجمِيع والأول منهم الظالم لنفسه بوعده الصادق إن الله لا يخلف الميعاد {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام.

حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: الآيات 33 - 35] ولم يبق عن الطوائف الثلاثة الموعودة بالجنة -ممن لا يخلف الميعاد- إلا الكفار؛ لأن الله ذكر في مقابلتهم الكفار في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: آية 36]. وكان بعض العلماء يقول (¬1): «حُق لهذه الواو - في سورة فاطر - أن تُكتب بماء العينين» يعني واو {يَدْخُلُونَهَا} لأنها واو شاملة بالوعد الصادق من الله بجنات عدن لجميع هذه الأمة التي أورثت هذا الكتاب، وعلى رأسهم الظالم لنفسه. وأصح التفسيرات في (الظالم، والمقتصد، والسابق بالخيرات) في آية فاطر هذه: أن الظالم: هو الذي يطيع الله تارة ويعصيه أُخرى، وهو من الذين قال الله فيهم: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 102] والمقتصد: هو الذي ينتهي عن المحرمات، ويأتي بالواجبات، ولا يتقرب بالنوافل التي هي غير ترك الحرام أو أداء الواجب. والسابق بالخيرات: هو الذي يمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويتقرب إلى الله بالنوافل (¬2). وقد ذكرنا مرارًا أن العلماء اختلفوا في السبب الذي قُدم من أجله الظالم لنفسه في هذا الوعد العظيم من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام.

الله (¬1) - الذي لا يخلف الميعاد - بجنات عدن وما فيها من النعيم، فمن أين للظالم لنفسه أن يُقَدَّم على السابق بالخيرات والمقتصد؟ فقال بعض العلماء: هذه الآية من سورة فاطر مقام إظهار كرم رب العالمين، وشدة رحمته ولطفه بعباده، فقدم الظالم لئلا يقنط، وأَخَّر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط. وقال بعض العلماء: قدم الظالم لنفسه لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا؛ لأن السابقين قليل، والمقتصدون أقل من الظالمين، وهذا معنى قوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: آية 159] وسيأتي حديث عند قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} [الأعراف: آية 181] فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِيَ القَوْمُ مِثْلَهَا» (¬2) يعني قوم موسى في قوله هنا: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ولكن آية فاطر هذه التي ذكرناها زادت بالسابق بالخيرات، وبالوعد بالجنات للجميع، ففيها من إظهار فضل هذه الأمة ما لم تتناوله إحدى الآيتين هنا في سورة الأعراف. {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬2) أخرجه ابن جرير (13/ 286) عن قتادة مرسلاً. وأورده السيوطي في الدر المنثور (3/ 149) كذلك عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير. وعزاه الزيلعي للثعلبي كما في تخريج أحاديث الكشاف (1/ 474).

كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)} [الأعراف: آية 160]. {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}، الضمير في {وَقَطَّعْنَاهُمُ} عائد إلى قوم موسى، فقوله: {وَقَطَّعْنَاهُمُ} فيه وجهان معروفان من التفسير، وبحسبهما يكون القولان في إعراب قوله: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} (¬1) قال بعض العلماء: {وَقَطَّعْنَاهُمُ} أي: صَيَّرْنَاهم قطعًا. وعلى هذا فقطعنا تطلب مفعولين لتضمينها معنى (صيرنا)، ومفعولها الأول: هو الضمير {وَقَطَّعْنَاهُمُ}، ومفعولها الثاني: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} أي: صيرناهم اثنتي عشرة فرقة. وقال بعض العلماء: {وَقَطَّعْنَاهُمُ} معناه: فرقناهم وميزنا بعضهم عن بعض؛ لأنهم أبناء اثني عشر رجلاً، وكل رجل صار من نسله قبيلة، والسبط في أولاد إسحاق بمعنى القبائل في أولاد إسماعيل، ويعقوب (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) كان له اثنا عشر ابنًا كل ابن منهم وُلد له نسل، فصار كل ابن منهم قبيلة، والقبائل عندهم تسمى (أسباطًا) (¬2). والمفسرون يذكرون أسماء هؤلاء الأسباط الذين تَفَرَّعَتْ منهم القبائل (¬3)، وذِكْرُها إنما هو عن طريق الإسرائيليات؛ ولذا اختلفوا فيها، فمنهم من يقول: هم روبيل، وشمعون، ويهوذا، وربالون، ويشجر، ودان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ويوسف، وشقيقه بنيامين. ومنهم من يذكر غير ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 484). (¬2) انظر: القرطبي (2/ 141). (¬3) انظر: ابن جرير (2/ 121).

ذلك (¬1)، ولا طريق صحيحة تثبت ذلك، إلا أن الأظهر أن هؤلاء الاثنتي عشرة أن كل واحدة منهم من سبط من أولاد يعقوب كما تقدم في قوله: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: آية 12] لأن كل سبط من هذه الأسباط بعث الله موسى فيه نقيبًا سيدًا يتفقد شؤونه وأحواله؛ لتكون تلك الرجال الاثني عشر يُطلعون موسى على سرائر قومهم فيهون عليه الإصلاح من شؤونهم؛ ولذا قال هنا: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: آية 160] فعلى أن (قطعنا) بمعنى (صيرنا) فـ (اثنتى عشرة) هو المفعول الثاني، وعلى أن (قطعنا) بمعنى (ميزنا) بعضهم عن بعض، وفرقنا بعضهم عن بعض؛ لنجعل على كل فرقة منهم نقيبًا، فقوله هنا: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} هي حال جامدة مؤولة، أي: ميزناهم وفرقناهم في حال كونهم بالغين هذا العدد الذي هو اثنتي عشرة، واختلف العلماء في مميز {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} (¬2) وظاهر القرآن أن مميزه {أَسْبَاطًا} ولكن المعروف في لغة العرب أن العدد كله من الثلاثة إلى العشرة يميز بالجمع مضافًا إليه العدد، أما غيره من الأعداد فإنه يميز بالمفرد التمييز المطابق للعربية المعروفة لو قيل: قطعناهم اثنتي عشرة سبطًا. وذهب بعض العلماء في الجواب عن هذا إلى أن الأسباط هنا جمع سبط مضمَّن معنى القبيلة، وأن الأسباط: القبيلة تكون فيها أسباط كثيرة، وعليه فالمعنى: قطعناهم اثنتي عشرة قبيلة. فالأسباط بمعنى القبيلة. وهذا مردود لما ذكرنا من أن الأسباط ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري (1/ 163)، التفسير له (3/ 111 - 113)، القرطبي (9/ 130)، البداية والنهاية (1/ 195). والذين ذكرهم الشيخ (رحمه الله) أحد عشر. والثاني عشر هو: (لاوي) على اختلاف في ضبط أسمائهم. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 484) ..

في ذرية إسحاق بمعنى القبائل في ذرية إسماعيل. والذي اختاره غير واحد من المحققين: أن المُمَيَّز محذوف دل المقام عليه: وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرة فِرْقَةً. وقوله: {أَسْبَاطًا} بدل من {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} و {أُمَمًا} بدل بعد بدل على الصواب، ولا مانع من إتيان البدل بعد البدل كما هو معروف في علم العربية، فقد وُجد في كلام العرب. وهذا معنى قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} كل سبط منهم أمة، أي: خلق وقبيلة كثيرة كثيفة العدد. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} ذكر (جل وعلا) هنا بعض ما أنعم الله به على الإسرائيليين في التيه يُذكِّر الموجودين منهم زمن نبينا نعمه عليهم، وُيذكِّرهم أيضًا كثرة ما هم فيه من الخلاف وعدم طاعة الله ورسله؛ لأن سبب هذا التيه: أن الله لما أنجا موسى وقومه من فرعون، وفلق لهم البحر، وأمرهم بقتال الجبارين، أصابهم الجبن الذي قدمنا شرحه في سورة المائدة، وقالوا لنبيهم موسى: {لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} فأصابهم الجبن والخوف، فقال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} فضرب الله علبهم التيه أربعين سنة {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: الآيات 24 - 26] يصبحون حيث أمسوا، فإذا مشوا النهار كله أصبحوا من حيث كانوا أمس!! الله ضرب عليهم هذا التيه. وأصحاب الأخبار والتاريخ يطبقون على أن موسى وهارون (عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام) توفيا في التيه (¬1)، ثم صار الخليفة بعد موسى يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف (عليهم ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري (1/ 223)، البداية والنهاية (1/ 316).

السلام) وهو الذي فتح الله على يديه كما سيأتي هنا وتقدم في سورة البقرة. ولما كان بنو إسرائيل في التيه هذه الأربعين سنة أصابهم العَطَشُ وشَكَوْا إلى موسى فأوْحَى الله إليه أن اضرب بعصاك الحجر، فضَرَبَهُ فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا. وشكوا له مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فظلل الله عليهم الغمام يقيهم حر الشمس، وشكوا له من الجوع فأنزل الله عليهم المن والسلوى كما تقدم في سورة البقرة (¬1) وكما هو مذكور هنا في سورة الأعراف. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} [الأعراف: آية 160] أوحى الله إلى نبيه موسى حين استسقاه قومه. الإيحاء في لغة العرب: هو كل إلقاء بشيء في سرعة وخفاء فهو إيحاء. فهذا معناه اللغوي، والوحي له معنى لغوي ومعنى شرعي كغيره من المعاني (¬2). فالوحي الشرعي معروف، وهو: ما يوحي الله لنبيه بواسطة الملك مثلاً، وربما أوحى إلى النبي بغير واسطة كما أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، فظاهر حديث ابن مسعود عند مسلم أنه من غير واسطة الملك (¬3). وقد يكون الوحي بواسطة الملك وهو على أنحاء كثيرة معروفة. وأصل الإيحاء في لغة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬3) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى. حديث رقم: (173)، (1/ 157). ولفظه: «لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتُهي به إلى سدرة المنتهى -إلى قوله- قال: فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: أُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحِمَات».

العرب: هو كل إلقاء جامع بين الخفاء والسرعة تسمية العرب (وحيًا)، فكل من ألقى شيئًا بخفاء وسرعة فهو وحي في كلام العرب؛ ولأجل ذلك كانت العرب تطلق اسم الوحي على الكتابة، وعلى الإشارة، وعلى الإلهام؛ لأن كلاً من هذه إلقاء في سرعة وخفاء. ويطلقون الوحي على الإلهام، ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} [النحل: آية 68] أي: ألهمها. ويطلق الوحي على الإشارة، وهو أصح القولين في قوله عن زكريا: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشيًا} [مريم: آية 11] أي: أشار إليهم. وتطلق العرب الوحي على الكتابة؛ لأنها معان تُلْقَى بِأَفْعَالٍ سَرِيعَةٍ خُفْيَةً، وإطلاق الوحي على الكتابة إطلاق كثير مشهور في كلام العرب، وكان بعض المفسرين يقول: منه قوله في زكريا: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: كتب لهم، والأظهر: الإشارة، كما يدل عليه قوله: {إِلاَّ رَمْزًا * وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: آية 41] وإطلاق العرب الوحي على الكتابة مشهور جدًّا في كلامها، كثير جدًّا في أشعارها، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته (¬1): فَمَدافِعُ الرَّيَانِ عُرِّيَ رَسمُها ... خَلَقًا كما ضَمِنَ الوُحيَّ سِلاَمُها الوُحيُّ: جمع وحي، وهو الكتابة، وهو (فَعْلٌ) مجموع على (فُعُول)، كَفَلْس وفلوس، ومنه قول عنترة (¬2): كوحي الصَّحائفِ منْ عهدِ كسرى ... فأهْدَاهَا لأعْجَمَ طِمْطِمي ¬

(¬1) شرح القصائد المشهورات (1/ 130)، والمدافع هنا: الأودية التي يتصل بعضها ببعض، كأن بعضها يدفع السيل إلى بعض. و «الريان» واد. و «عُري»: خلا. و «الرسم»: الأثر. و «خلَقًا»: متجردًا بعد جدته. (¬2) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

وقول نابغة ذبيان (¬1): دارٌ لأَسْمَاءَ بالغَمْرينِ ماثلةٌ ... كالوَحْيِ ليسَ بها مِن أَهْلِهَا أَرِمُ وقول نابغة ذبيان أيضًا (¬2): لِمَنِ الدِّيَارُ غَشيتُها بالفَدْفَدِ ... كالوَحْي في حَجَرِ المَسِيلِ المُخْلِدِ ومنه قول ذي الرمة (¬3): سِوَى الأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ وقول جرير (¬4): كأنَّ أَخَا الكتابِ يَخُطُّ وحْيًا ... بِكَافٍ في مَنَازِلِهَا وَلاَمُ وهو كثير مشهور، وهذا معنى قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} نبي الله موسى بن عمران {إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} حين استسقاه قومه. والمقرر في فن التصريف أن (استفعل) من أبنية الطلب؛ لأن السين والتاء تدلان على الطلب، فاستسقى معناه طلب السقيا، واستطعم طلب الطعام، واستنزل طلب النزول، إلى غير ذلك. {إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} طلبوا منه السقيا، أن يسأل الله لهم فيسقيهم. وقوله: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ} (أن) هذه هي التي يسميها ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: أرم) (3/ 893)، ونسبه لزهير. وليس في ديوان النابغة. (¬2) البيت في ابن جرير (13/ 270)، القرطبي (7/ 322). (¬3) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬4) السابق.

علماء العربية: (أن المُفسِّرة) وضابطها: أن يتقدمها معنى القول ولا يكون فيه حروف القول (¬1)؛ لأن {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} يتضمن معنى (قلنا لموسى) وليس فيه [حروف] (¬2) القول، ومعنى كونها تفسيرية: أن ذلك الذي أُوحي إلى موسى يفسره ما بعد (أن) وهو الأمر بضرب الحجر لتنبجس منه اثنتا عشرة عينًا. وبعض علماء العربية يقولون: لا مانع من دخول أن المصدرية على الأفعال الطلبية، وعليه فتكون مصدرية على هذا القول. قوله: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ} [الأعراف: آية 160] العصا معروفة، يعرفها كل أحد، وألفها مبدلة من واو، فلو ثنيت لقيل فيها: (عَصَوَان) ومنه قول ذي الرمة -غيلان بن عقبة (¬3) -: فجاءَتْ بنَسْجِ العنكَبُوتِ كأنَّهُ ... على عَصَوَيْهَا سابِريٌّ مُشَبْرَقُ وقوله: {الْحَجَرَ} قال بعض العلماء: هذه الألف واللام تدل على عهد، وأنه حجر كان معهودًا عند موسى. وبعض العلماء يقول: هي لمطلق الجنس. وفيه هنا مقالات إسرائيلية لا يثبت شيء منها (¬4). قوم زعموا أنه حجر مربع كان يحمله في التيه معه في مخلاته ويضربه [بالعصا] (¬5) فكل جهة من جهاته الأربع تنفجر فيها ثلاث عيون، ويكون المجموع اثنتا عشرة عينًا. وقال بعض العلماء: هو كلما نزل في محل أخذ حجرًا منه وضربه فانفجرت منه تلك العيون. وقال ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬2) في الأصل: «معنى» وهو سبق لسان. (¬3) البيت في اللسان (مادة: عصا) (2/ 802). (¬4) انظر: ابن جرير (2/ 120). (¬5) في الأصل: «بالحجر» وهو سبق لسان.

بعض العلماء: هو الحجر الذي هرب بثوبه وقصته مشهورة، وسيأتي الكلام عليها في تفسير سورة الأحزاب في قوله تعالى: {لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: آية 69] لأن نبي الله موسى كان بنو إسرائيل في زمنه يذهبون إلى البحر فيغتسلون بعضهم ينظر إلى بعض وهم عراة، وكان نبي الله موسى لا يغتسل حيث يراه أحد، بل يبعد ويغتسل من حيث لا يراه أحد، وكانوا يقولون: ما منعه أن يغتسل بمرأى منا إلا أنه آدر، والآدر: المصاب بالأُدرة، والأُدرة انتفاخ إحدى الخصيتين حتى تعظم وتكبر من مرض. فيومًا وضع ثوبه على حجر فأجرى الله الحجر بالثوب إلى جماعة بني إسرائيل، فاشتد موسى يعدو في أثر الحجر يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى رآه بنو إسرائيل كأحسن ما يكون من الرجال، سالمًا من الأُدرة كل السلامة، فقالوا: والله ما بموسى من بأس (¬1). ويذكر بعضهم أنه قيل له: احتفظ بهذا الحجر فإن له لشأنًا، وأنه هو الذي كان يضربه بعصاه. وكل هذه مقالات إسرائيلية لا ثبوت لشيء منها، هذا معنى قوله: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}. قال في سورة البقرة: {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: آية60] وقال في سورة الأعراف هنا: {فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} وأكثر علماء العربية على أن معنى (الانبجاس) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الغسل، باب من اغتسل عريانًا وحده، حديث رقم: (278)، (2/ 385) وأطرافه: في (3404، 4799). ومسلم في الفضائل، باب من فضائل موسى، حديث رقم: (339)، (4/ 1841) وفي الحيض، باب جواز الاغتسال عريانًا في الخلوة، حديث ر قم: (339) (1/ 267).

و (الانفجار) أن معناهما واحد واللفظ مختلف، فكل من الانبجاس والانفجار انشقاق واسع ينحدر منه الماء بقوة (¬1). وزعم قوم أن الانبجاس أنه يكون أولاً قليلاً ثم لم يزل يكثر حتى يكون انفجارًا. وعلى هذا فقد ذكر في سورة الأعراف بدء انفجار الماء، وفي سورة البقرة منتهاه، والأظهر أنهما سواء، وهو معروف في كلام العرب، وقد قال العجاج (¬2): وانحَلَبتْ عيناهُ من فَرْطِ الأَسَى ... وَكِيْفَ غَرْبَيْ دالجٍ تبجَّسا يعني بقوله: «تَبَجَّسَا» أي: أفرغ ماء كثيرًا في الحوض، وهذا معروف في كلام العرب. وقوله: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} العين معروفة، وهو كل ماء كثير تسميه العرب عينًا. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} (الأناس) اسم جمع لا واحد له من لفظه، والمعنى: أن كل أمة من أمم بني إسرائيل علموا مشربهم، أي: عينهم التي يشربون منها؛ لأنهم اثنتا عشرة أسباطًا أُممًا، والحجر فيه اثنتا عشرة عينًا، وكل أمة لها عين، وكل أمة عرفت عينها تشرب منها؛ وهذا معنى قوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (1/ 419)، الدر المصون (1/ 385)، (5/ 487). (¬2) البيت في شواهد الكشاف ص63، وشطره الثاني في اللسان (مادة بجس)، (1/ 161)، والوكيف: مصدر؛ أي: وكفت. والغرب: الدلو العظيم. والدالج: من يأخذ الدلو من البئر فيفرغه في الحوض. والمعنى: انصبت دموع عينيه من شدة الحزن كانصباب دَلْوَي رجل مفرغ لهما في الحوض.

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} الغمام: هو السحاب، وهو وعاء الماء. قالوا: وهو سحاب أبيض رقيق يُظَلِّلُهُمُ اللهُ به ويَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ. {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أكثر المفسرين على أن (المن) هو الترنجبين، والترنجبين شيء يشبه العسل الأبيض ينزل كنزول الندى والثلج ثم يجتمع كثيرًا، لونه أبيض، وطعمه طعم العسل، فهو عسل أبيض، أو شيء يشبه العسل الأبيض، بالغ في الحلاوة واللذاذة. وقال بعض العلماء: المن أعم من هذا، واستدلوا بحديث الصحيحين الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعيد بن زيد (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» (¬1) وفي بعض رواياته: «مِنَ المَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى» جاءت في بعض روايات الحديث. فبعض العلماء يقول: الظاهر أن المَنَّ كان أعم من الترنجبين. وأكثر علماء التفسير يقولون: هو الترنجبين، والحديث على نوع التشبيه. وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الكمأة من ذلك المن الذي أُنزل إليهم (¬2). وقوله: {وَالسَّلْوَى} التحقيق أن المراد بالسلوى طائر، وعليه جماعة المفسرين (¬3)، قال بعض العلماء: هو طائر يشبه السُّمَانَى، وقال بعض العلماء: هو السُّمَانَى بعينه، وهو طائر. فالترنجبين شبه الشراب والفاكهة، والسُّمَانَى لحم طير لذيذ. فهو أكل وغذاء عظيم لذيذ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة البقرة.

أما تفسير السلوى بالعسل فقوم زعموا أن العرب لا تطلق السلوى على العسل. والتحقيق خلاف هذا، وأن إطلاق السلوى على العسل إطلاق صحيح معروف في كلام العرب، إلا أنه صحيح في العربية وليس صحيحًا في التفسير؛ لأن المراد بالسلوى في الآية ليس العسل، وإن كانت السلوى تطلق على العسل إطلاقًا صحيحًا معروفًا. ومنه قول الهُذلي (¬1): فَقَاسَمْتُهَا بِاللهِ جَهْدًا لأنَتْمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نشورُهَا السلوى: العسل. ونشورها: نستخرجها. والشَّوْر: استخراج العسل خاصة. هذا معنى قوله: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}. {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: وقلنا لهم. و {كُلُواْ} هذا أمر إباحة. فيه ثلاثة أفعال في اللغة العربية مبدوءة بالهمزة يجوز حذف همزتها في الأمر، ولا نظير لها، وهي: أخذ، وأمر، وأكل (¬2). تقول: في الأمر منها: (خُذ، مُرْ، كُلْ) بقياس مُطَّرد، إلا أن (أَمَرَ) إذا كان قبل الهمزة واو أو فاء كان إثبات الهمزة في الأمر أفصح. ومنه قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: آية 132] فإن لم يكن قبلها واو ولا فاء فإسقاط الهمزة في الأمر أفصح، كقوله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوهُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ» (¬3) «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» (¬4) ونحو ذلك. وهذا معنى قوله: {كُلُواْ مِن ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} كهذا الطائر اللذيذ الذي هو السُّمانَى وهذه الفاكهة العظيمة التي هي المن، أو غير ذلك على أنه أعم من الترنجبين. والطِّيب هنا شامل طِيبَ الإباحة وطِيبَ اللذاذة؛ لأن الطِّيبَ يطلق إطلاقين: يطلق طَيِّبًا من جهة الإباحة وعدم الشُّبْهة، ويُطلق طَيِّبًا من جهة اللذاذة وحسن المأكل، وهو جامع لهما هنا في قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: آية 160] فهؤلاء اليهود لمَّا أنْعَمَ الله عليهم هذه النعم وخالفوا ادَّخَرُوا من المن والسلوى وهم منهيون عن الادِّخَار، وسيأتي ما بدلوا من القول والفعل ما سلط الله عليهم بسببه من العذاب، قال الله: إن مخالفاتهم عند الإنعام عليهم، ومقابلاتهم إنعام الله بمعاصيه أنهم ما ظلموا الله في ذلك، وما ظلموا إلا أنفسهم، أي: وما ظلمونا بمقابلتهم إنعامنا بالمعاصي ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا} هو نص صريح على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه؛ لأن الله نفى ظلمهم له، ونفيه (جل وعلا) ظلمهم له لا يدل على إمكان ذلك سبحانه عن ذلك علوًّا كبيرًا (¬1). {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} قدَّم المفْعُول لأجْلِ الاختصاص؛ أي: لا يظلمون بذلك إلا أنفسهم. [22/ب] / يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)} [الأعراف: آية 161]. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

واذكر يا نبي الله خسائس هؤلاء اليهود العريقة في أسلافهم؛ ليُعلم بذلك أن تكذيبهم لك وإنكارهم لما عندهم من صفاتك أنه أمر أصله فيهم وفي أسلافهم. واذكر {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} حين قال لهم الله على ألسنة أنبيائه {اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} قوله: {اسْكُنُواْ} أمر من السكنى لا من السكون الذي هو ضد الحركة؛ لأن الأمر بالسكون الذي هو ضد الحركة سجن وحبس، فهو أمر بالسُكنى، وأن يتخذ ذلك البلد مسكنًا، وكون البلد مسكنًا له لا ينافي أن يتجول في أنحائه ويتنعم فيها، كما قال هنا بعد الأمر بقوله: {اسْكُنُواْ} {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} هذا معنى قوله: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ}. وأكثر المفسرين على أن هذه القرية هي بيت المقدس. وبعض المفسرين يقول: هي أريحا. وبعضهم يقول غير ذلك، فهي قرية في فلسطين من قرى الشام (¬1)؛ لأن الشام كان يطلق أولاً على ما يضم دمشق وفلسطين والأردن وغير ذلك من نواحيه، وهذا معنى قوله: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} القرية: هي المحل الذي يجتمع فيه السكان، من: قريتَ الماء في الحوض: إذا جمعته. {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا} أي: كلوا من ثمارها وحبوبها وزروعها حيث شئتم؛ لأنهم كانوا في التِّيهِ يَتَمَنَّوْن الأكْلَ من ذلك كما قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} وقد قال لهم: {اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

آية 61] ولما أُمروا بدخول هذه القرية وبسُكْنَاها أُمروا بالأكل من ذلك أمر إباحة وتكريم {وَكُلُواْ مِنْهَا} أي: من ثمارها وحبوبها وزروعها وغير ذلك. وقوله: {حَيْثُ شِئْتُمْ} أصل (حيث) في لغة العرب كلمة تدل على المكان كما تدل (حين) على الزمان، وربما ضُمِّنت معنى الشرط، ويجوز في العربية لا في القراءة تثليث فائها وإبدال يائها واوًا كما هو معروف في علم العربية (¬1). قوله: {شِئْتُمْ} أي: مِنْ أَيّ مكان من هذه القرية أرَدْتُمْ أن تأكلوا مِنْ ثِمَارِهَا وحبوبها، وهذا معنى قوله: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وهذا الأكل رَغدًا بدليل ما تقدم في سورة البقرة: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة آية 58]. وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} لما كان في التيه مات نبي الله هارون أولاً، ثم مات موسى في التيه كما أطبق عليه المؤرخون (¬2). ثم إن خليفة موسى كان يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف، وهو الذي فتح الله عليه هذه القرية قرية الجبارين بيت المقدس أو أريحا، وقيل غير ذلك. لما فتح الله عليهم أَمَرَهم أن يشكروا لله نعمته التي أنعمها عليهم فأمرهم بقول، وأمرهم بفعل، أما الفعل: فقد أمرهم بأن يدخلوا الباب سُجَّدًا، أي: يدخلوا من باب القرية التي فتحها الله لهم سُجَّدًا. قال بعض العلماء: المُراد بالسجود هنا: الركوع تواضعًا وانحناءً وتعظيمًا لله، وشكرًا له على نعمة الفتح. وقال بعض ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

العلماء: هو السجود على الجَبْهَة، يسجدون (¬1). ثم إنهم أُمروا أيضًا بقول، وهو أن يدخلوا الباب وهم يقولون: (حطة) وأكثر المفسرين -وهو ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة- أنهم تُعبدوا بهذه اللفظة (حطة). وقراءة الجمهور التي لا يجوز العدول عنها: {حِطَّةٌ} بالرفع، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حطة، والحطة فِعْلة من الحط الذي هو الوضع. والمعنى: مسألتنا لربنا هي حِطَّةٌ لذنوبنا وأوزارنا. معناه: مسألتنا لك أن تحط عنا ذنوبنا وأوزارنا، فهي كلمة استغفار تُؤْذِنُ بِحَطِّ الذنوب ووضع الأوزار، وهي خَبَر مبتدأ محذوف، (فِعْلَة) من الحط، بمعنى الوضع، هذا معناه. وقال بعض العلماء: الحطة: الكلمة التي تحط الذنوب، وهي لا إله إلا الله، والقول الأول أظهر. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيرِه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أنهم أُمروا بقول وأمروا بفعل، وأَمْرهم بالقول والفعل كلاهما مذكور في القرآن؛ لأن الله أمرهم بأن يدخلوا الباب سجدًا، وهو الفعل الذي أُمروا به، وأمرهم أن يقولوا: حطة، وهو القول الذي أُمروا به، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره أنهم بدلوا القول الذي قيل لهم بقول غيره، وبدلوا الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره؛ ولذا قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الأعراف: آية 162] قال بعض العلماء: في الكلام حذفان، أي: فبدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم، وبالفعل الذي قيل لهم فعلاً غير الذي قيل لهم، فالفعل الذي قيل لهم -وهو دخولهم الباب سجدًا- بدلوه فدخلوا يزحفون على أستاههم، كما ثبت ¬

(¬1) السابق.

في حديث البخاري المذكور (¬1)، وبدلوا القول الذي قيل لهم فقالوا مكان حطة: حبة في شعرة. وفي بعض روايات الحديث في غير البخاري: حنطة في شعرة. فبدلوا القول وبَدَّلُوا الفِعْلَ، وقابلوا نعم الله بالكفران والمعصية في الأقوال والأفعال -عياذًا بالله- وهذا معنى قوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} [الأعراف: آية 161]. في هاتين الكلمتين بضميمة إحداهما إلى الأخرى أرْبَعُ قِراءَات سَبْعِيَّات كلها صحيحة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2)، فقرأه نافع وحده من السبعة {وادْخُلُوا الباب سُجَّدًا تُغْفَرْ لكُمْ خَطِيئاتُكُمْ} بضم تاء (تُغفَر) وفتح الفاء مبنيًّا للمفعول. و (خطيئاتُكم) هو جمع مؤنث سالم، هو نائب فاعل (تُغْفَر) فهذه قراءة نافع وحده. وقرأه الشامي -أعني ابن عامر- وحده من السبعة: {وقُولُوا حِطَّة وادْخُلوا البَابَ سُجَّدًا تُغْفَرْ لَكُمْ خَطِيئَتُكُمْ} فقراءة ابن عامر كقراءة نافع إلا أن نافعًا قال: {خَطِيئَاتُكُمْ} بالجمع، وابن عامر قرأ {خَطِيئتُكُمْ} بالإفراد، واكتسبت العموم من إضافتها إلى الضمير. وقرأ أبو عمرو وحده: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِر لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} بـ (نغفر) بنون العظمة، و (خطاياكم) جمع تكسير. وقرأ الباقون من السَّبْعَةِ وهم: ابن كثير، وعاصِم، وحمزة، والكِسَائي: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة. (¬2) انظر المبسوط لابن مهران ص215، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

خَطِيئَاتِكُمْ} بكسر التاء جمعًا مؤنثًا سالمًا، والكسرة علامة النصب. هذه القراءة -في الآية- الصحيحة، ومعناها شيء واحد كما ترون. الغفران في لغة العرب: هو الستر والتغطية. والخطايا والخطيئات: جمع خطيئة وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال يُقال لها: (خَطِيئَة) و (خِطْء) ومنه قوله: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: آية 31] ويقال لمرتكبها عمدًا: (خاطِئ) ومنه قوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق: آية 16] وقوله: {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: الآيتان 36، 37] فالخاطئ بصورة الفاعل إنما هو على مرتكب الخطيئة عمدًا، أما مرتكب الذنب غير عامد فهو المُسمَّى بالمخطئ، فلا يقال له: خاطئ كما هو معلوم. وعلى قراءة (نغفر) فصيغة الجمع للتَّعْظِيمِ، عظم الله (جل وعلا) نفسه، هذا معنى قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ}. {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: آية 161] هذا استئناف، فكأن قائلاً قال: وماذا بعد غفران الخطايا؟ قال: سنزيد المحسنين. السين للتنفيس، وهو وعد صادق من الله. واختلفت عبارات المفسرين في المراد بالمحسنين، ولا ينبغي أن يُختلف فيه؛ لأن خير ما يُفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد فسر المحسنين تفسيرًا ثابتًا في الصحيح فلا ينبغي العدول عنه لغيره وذلك ما هو مشهور في حديث جبريل لما جاء في صورة الأعرابي وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا محمد أخبرني عن الإحسان».

فقال صلى الله عليه وسلم: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1). وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬2) أن سؤال جبريل هذا ليُعَلِّم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإحسان أنه سؤال عظيم مُحتاج إليه غاية الحاجة، وذلك أن الله (جل وعلا) بيّن في آيات من كتابه أن الحكمة التي خلق مِنْ أجْلِهَا خَلْقَهُ وسَمَاوَاتِه وأرضه هي أن يبتلي الخلق، أي: يختبرهم في شيء واحد هو إحسانهم العمل ليظهر مَنْ يُحْسِن منهم عمله ومن لا يُحْسِنُهُ، كما قال تعالى في أول سورة هود: {خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ثم بَيَّن الحِكْمَة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] ولم يقل: أيكم أكثر عملاً. وقال في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بيَّن الحكمة بقوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: آية 7] وقال في أول سورة الملك {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بيّن الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] فاتضح في هذه الآيات أن الإحسان (¬3) هو الذي خُلقتم من أجل الابتلاء فيه -ولا ينافي هذا قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: آية 56] أي: إلا لآمرهم بالعبادة على ألسنةَ رُسُلِي فأبْتَلِي مُحْسِنَهُمْ من غير محسنهم، كما لا يخفى- صار الإحسان محتاجًا إلى معرفته؛ ولذا سأل جبريل عنه وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». والإحسان مصدر أحْسَن العَمَلَ يُحْسِنُهُ إِحْسَانًا: إذا جاء به حَسَنًا مُتْقَنًا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬3) السابق ..

لا نَقْصَ فِيهِ ولا وصم. وإحسان العمل لا يمكن إلا بمراقبة خالق هذا الكون (جل وعلا). وقد قَدَّمْنَا فِي هَذِهِ الدروس مرارًا (¬1) أن العلماء أجمعوا على أنه لم ينزل الله واعظًا من السماء إلى الأرض ولا زاجرًا أكْبَر مِنْ وَاعِظِ المُرَاقَبَة المُعَبَّر عنه هنا بالإحسان، وقد ضرب العلماء لهذا مثلاً قالوا: لو فرضنا أن في هذا البراح من الأرض ملكًا عظيم البطش، شديد النكال، وسيَّافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط، والسيف يقطر منه الدم -ولله المثل الأعلى- وهذا الملك الذي هذا بطشه وشدته ينظر، أترى أن أحدًا من الحاضرين يهتم بريبة مع بناته أو زوجاته أو نسائه؟! لا، كلهم خاشع الطرف، ساكن الجوارح، أمنيته السلامة -ولله المثل الأعلى- فرب العالمين أعظم اطلاعًا وأشد بطشًا، وحِمَاه في أرضه محارمه، فمن لاحظ أن رب السماوات والأرض مطلع عليه، وأنه يرى كل ما يفعل إن كان عاقلاً لا بد أن يُحاسِب. ولو علم أهل بلد أن أمير ذلك البلد بات مطلعًا على كل ما يفعلون من القبائح والخسائس لكفوا عن كل ما لا ينبغي، ولم يرتكبوا إلا ما يجمل -ولله المثل الأعلى- فكيف بخالق السماوات والأرض الذي يعلم خطرات القلوب، وكيف يجهل خطرات القلوب خالق خطرات القلوب؟ {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: آية 14] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: آية 16] معناه: أن المحسنين الذين يراقبون ¬

(¬1) السابق.

الله ويعبدونه كأنهم يرونه أن الله يزيدهم على هذه المراقبة وهذه النية وهذا الإحسان لِلْعَمَلِ يزيدهم أجرًا على أجرهم، وقد جاءت آية في سورة يونس تدل على أن إحسان العمل يزيد الله صاحبه النظر إلى وجهه الكريم كما يأتي في تفسير قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: آية 26] فقد جاء في الصحيح أن المراد بالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم (¬1). وبذلك فسر بعض العلماء قوله تعالى في (ق): {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: آية 35] ومعنى الآية: أن المحسنين الذين يراقبون الله عند الأعمال ويعبدونه كأنهم يرونه يزيدهم أجرًا، ولا مانع من أن يكون مما يزيدهم: النظر إلى وَجْهِهِ الكريم كما فُسِّرَتْ بِهِ آية يونس المذكورة آنفًا. وهذا معنى قوله: {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: آية 161]. وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} [الأعراف: آية 162] لم يقل: فبدلوا. وعدل عن الضمير إلى الظاهر ليسجل عليهم ظلمهم وينيط ما نزل عليهم باسم الظلم الذي ارتكبوا. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬2) أن الظلم في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم هو وضع الشيء في غير محله، فكُلّ مَنْ وضَعَ شَيْئًا في غير موضعه فقد ظلم في لغة العرب، وهذا معروف في كلامهم، ومنه قالوا للذي يضرب لبنه قبل أن يروب قالوا: هو ظالم؛ لأنه وضع ضرب اللبن في غير موضعه؛ لأن ضَرْبَه قبل أن يروب يفسد زبده فهو ظلم؛ لأنه وضع للضرب في غير موضعه، وفي لُغَز الحريري في مقاماته: «هل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (103) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

يجوز أن يكون الحاكم ظالمًا؟ قال: نعم إذا كان عالمًا» (¬1) يجوز أن الحاكم إذا كان يضرب لبنه قبل أن يروب لا مانع من توليته إذا كان من أهل العلم. وهذا معنى مطروق في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): وقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُم سِقَائِي ... وهَلْ يَخْفَى عَلَى العَكدِ الظَّلِيمِ (ظلمت لكم سقائي) أي: ضَرَبْتُهُ لكم قبل أن يروب. والعَكَد: عصب اللسان، لا يخفى عليه اللبن المضروب قبل أن يروب من غيره. ونظيره قول الآخر (¬3): وصَاحبِ صِدْقٍ لم تردني شَكَاتُه ... ظَلَمْتُ وفي ظَلْمِي له عامدًا أجْرُ يعني سقاءه ضربه قبل أن يروب. ومن هذا المعنى قيل للأرض التي حُفر فيها وليست محلاً للحَفْرِ مظلومة، ومنه قول نابغة ذبيان (¬4): إلا الأَوَارِيَّ لأْيًا ما أُبَيِّنُها ... والنُؤيُ كالحَوْضِ في المظْلُومَةِ الجَلَدِ وقالوا لتراب القبر: ظليم. فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه مظلوم؛ لأن القبر يُحْفَرُ غَالِبًا في محل ليس محتاجًا للحفر سابقًا، ومنه قول الشاعر يصف رجلاً مقبورًا (¬5): فأَصْبَحَ في غَبْراءَ بعد إِشَاحَةٍ ... من العَيشِ مردودٍ عليها ظَلِيْمُها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) السابق.

هذا معروف في كلام العرب، وإذا عرفتم أن الظلم في لغة العرب معناه: وضع الشيء في غير موضعه فاعلموا أن أعظم أنواع وضع الشيء في غير موضعه: وضع العبادة في غير من خلق، فمَنْ أكَلَ رِزْقَ اللهِ الذي خلقَهُ ورزقه وعبد غيره فقد وَضَعَ العبادة في غير موضعها فهو ظالم، ولذا كثر في القرآن إطلاق الظلم على الشرك بالله، كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: آية 106] وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82] قال: بشرك. ثم تلا قوله تعالى عن لقمان الحكيم: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬1) [لقمان: آية 13] فوضع العبادة في غير مَنْ خَلَقَ هو أكبر أنواع الظلم. وكذلك وضع الطاعة في غير موضعها، كالذين يعصون الله ويطيعون الشيطان وذُرِّيَّتَهُ فقد وضعوا الطاعة في غير موضعها حيث أطاعوا عدوهم إبليس {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: آية50]. وقد عصوا الله فوضعوا المعصية في غير موضعها، والطاعة في غير موضعها. ومن هنا كان الظلم ظلمان: ظلم بالكفر المخرج عن الإسلام، وظلم دون ظلم، وهو ظلم النفس بارتكاب المعاصي؛ لأن كلاً منهما وضع الشيء في غير موضعه، وقد جاء في موضع واحد من القرآن في سورة الكهف وضع الظلم بمعنى النقصان، وهو قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ ¬

(¬1) السابق.

شيئًا} [الكهف: آية 33] يعني: ولم تنقص منه شيئًا كما سيأتي. وهذا معنى قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} [الأعراف: آية 162] يعني وضعوا الأمر في غير موضعه حيث قابلوا نعم الله بالعصيان، وعصوا الله، وأطاعوا إبليس. بدَّل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم وهو (حطة) بدلوه قولاً غير الذي قيل لهم فقالوا: حبة في شعرة، أو حنطة في شعيرة، أو غير ذلك من الألفاظ. وقد قدمنا أن كون الذي قالوه (حبة في شعرة) ثابت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة (¬1). وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} هو معنى: {فَأَنزَلْنَا} [البقرة: آية 59] عليهم في سورة البقرة. {رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ} الرجز بكسر الراء: العذاب. قال المفسرون: هو طاعون أنزله الله بهم فأهلك منهم سبعين ألفًا في مدة قليلة. وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: آية 162] الباء سببية و (ما) مصدرية. أي: بسبب كونهم ظالمين واضعين الأمر في غير موضعه حيث يعصون الله ويطيعون الشيطان، ويقابلون النعم بالمعاصي. وهذا معنى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: آية 162]. {واسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} [الأعراف: آية 163]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

قصة هذه القرية كان يخفيها اليهود لأنها سُبة عليهم، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بها وسؤالهم عنها مع أنه نبي أمي من معجزاته وأدلة نبوته؛ لأنه ما علمها إلا عن طريق الوحي. وسنذكرها ملخصة موجزة ثم نذكرها مفصلة في الآيات التي شَرَحَتْها. وقد ألممنا بهذه القصة في هذه الدروس في سورة البقرة (¬1) في الكلام على قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} [البقرة: آية 65] فآيات سورة الأعراف هنا بسط وشرح لقوله في البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}. هذه القرية يزعم المفسرون -أغلبهم وأكثرهم- أنها قرية تسمى (أيلة) قريب من العقبة، على ذلك الشاطئ، بين الطور ومدين، وأنها في زمن داود (عليه السلام) كان محرم عليهم الاصطياد في السبت كما تقدم في قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: آية 78] وكان يشتد قرمهم إلى لحم السمك -والقَرَمُ بفتحتين: شهوة اللحم- وكان الله افتتنهم فتنة، كان إذا كان يوم السبت جاءهم السمك على وجه البحر أفواجًا أفواجًا كالكباش البيض حتى يتمكن كل إنسان من أخذ ما شاء منه في أحسن حال وأسمنها، فإذا غربت شمس يوم السبت تمنَّع في البحر فلا يقدرون على شيء منه!! وهذا ابتلاء وامتحان لهم، فمكثوا من الزمن بهذا ما شاء الله، ثم بعد ذلك اشتدت شهوتهم إلى اللحم فصاروا يحتالون على السمك يوم الجمعة -مثلاً- فيحفرون فَيُجْرُون ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

في الماء أخاديد يسيل فيها الماء، فإذا انتهت حفروا حُفرًا عميقة، فإذا جاء الحوت مع تلك الأخاديد المائية نزل في الحفر فلا يَقْدِر على الرجوع فأخذوه يوم [الأحد]!! (¬1) وكان بعضهم -فيما يقولون- يجعل في ذنب الحوت خيطًا ويدُقّ وتدًا على الشَّاطِئِ، ويمسك رأس الخيط فيه، فيبقى الحوت في الماء ممسكًا بالخيط، فإذا غَرَبَتِ شَمْسُ يَوْمِ السبت جاء وأخذه، فلمَّا فعلوا هذه الحيل ولم يعاجلهم العذاب كأنهم تجرءوا وتشجعوا وقالوا: لعل حرمة صيد السمك رفعها الله؛ لأنه لم يفعل بنا بأسًا، فلم يزالوا يتدرجون في الحيل حتى صار بعضهم يصطاده علنًا ويملحونه ويبيعونه في الأسواق، وكانوا ثلاث طوائف: طائفة باشرت العدوان يوم السبت واصطياد السمك، وطائفة نهتهم عنه وقالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: آية 164] وطائفة قالوا للذين نهتهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}، والله بيّن أن الذين اعتدوا في السبت عَذَّبَهُمْ عَذَابًا بئيسًا وهو مسخهم قِرَدَة، وقيل: بعضهم خنازير، كما يأتي تفصيله، كما ذكره في قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: آية 166] وفي قوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: آية 165]. والطائفة الذين نهت أنجاهم الله كما ذكره بقوله: {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: آية 165] وبقيت الطائفة التي قالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} فبعض العلماء يقول: هم مع الهالكين، ¬

(¬1) في الأصل: «السبت» وهو سبق لسان.

والمحققون يقولون: هم ناجون؛ لأنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا لقومهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: آية 164] وذكروا عن عكرمة أنه كان يقول: إن ابن عباس ما كان يدري هل نجوا أو هلكوا حتى أقنعه عكرمة بأنهم نجوا فكساه حُلَّة (¬1). ومن أظهر الأدلة في أنهم نجوا قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} [البقرة: آية 65] فرتب بالفاء قوله: {قِرَدَةً} لخصوص الذين اعتدوا، وهؤلاء لم يعتدوا بل إنما لم يُذكر عنهم أنهم نهوا. ولما كانوا يفعلون هذا، وصاروا يصطادون السمك علنًا، ونهاهم قومهم قال لهم قومهم: والله لا نساكنكم؛ لأنا نخاف أن ينالنا العذاب الذي سينزل عليكم. فيذكر المفسرون في قصتهم أنهم قسموا القرية، ويزعمون أن الذين اصطادوا قُربًا من سبعين ألفًا، وأن الذين نهوا قُربًا من اثني عشر ألفًا، والله أعلم. فهي إسرائيليات لم يثبت فيها شيء. قالوا: فجعلوا بينهم حائطًا، وقسموا القرية بينهم نصفين، لكل منهم مدخل ومخرج غير مدخل الثاني ومخرجه، فمكثوا على ذلك ما شاء الله، ثم لما كان ذات يوم فإذا قرية المعتدين لم يفتح بابها، ولم يخرج منها أحد، فتسوروا عليهم الحائط فوجدوهم -والعياذ بالله- مُسخوا قردة. يذكر المفسرون أن الواحد من القردة يعرف نسيبه من ¬

(¬1) أخرحه ابن جرير (13/ 187، 188، 193)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 138) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. وقد جاء في هذا المعنى رواية أخرى أخرجها عبد الرزاق (12/ 242)، وابن جرير (13/ 189 - 190)، وذكره السيوطي في الدر (3/ 137) وعزاها لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن.

الآدميين الذين لم يُمسخوا فيجيئه ويتمسح به ويبكي، وأن الآدميين يقولون: ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله؟ وأنهم يشيرون برؤوسهم أن نعم -هكذا- وسيأتي هذا مفصلاً بحسب الآيات التي ذكره الله فيها من سورة الأعراف هذه. وهذا معنى قوله: {واسْأَلْهُمْ} يا نبي الله. قرأه أكثر السبعة: {واسْأَلْهُمْ} وخفف بعضهم بنقل الحركة (¬1) {وسَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}. {حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} معناها: مَبْنِيَّةً على شاطئه بحضرته قريبًا منه، وهو على ما يقوله أكثر المفسرين قرية تسمى (أيلة) خلافًا لمن زعم أنها (مدين)، ومن زعم أنها (طبرية)، ومن زعم أنها تُسمى مَعَنَّى (¬2)، ومن زعم أنها تُسمى (مقنات) فكل هذا إسرائيليات، ولكن أكثر الأخبار والروايات أنها (أيلة) كما ذكرنا (¬3). وهذا معنى قوله: {واسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: آية 163] اسألهم عنهم حين {يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}. ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 66). (¬2) جاء في تفسير مبهمات القرآن (1/ 495) ما نصه: « ... وقيل: (مقْنَا) بالقاف ساكنة، ويقال: (مقْنات)، و (معَنَّى) بالعين المفتوحة ونون مشددة، وهي ساحل مدين» اهـ. وقد أفاد محقق الكتاب أن (مغَنَّى) كُتبت في جميع نُسخ الكتاب بالعين المهملة المفتوحة، وقد اعتمد في كتابتها بالغين على المحرر الوجيز لابن عطية؛ لأن المؤلف صرح بنقلها عنه. والمقصود أن (معَنَّى) سواء كانت بالغين أم بالعين هي و (مقْنات) مكان واحد. (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 180 - 182)، القرطبي (7/ 304)، الدر المنثور (3/ 136)، تفسير مبهمات القرآن للبلنسي (1/ 494 - 495).

{يَعْدُونَ} معناه: يجاوزون حدود الله، وينتهكون أوامره باصْطِيَادِ السَّمَكِ يَوْمَ السبت {إِذْ تَأْتِيهِمْ} حين تأتيهم {حِيتَانُهُمْ} الحيتان: جمع حوت، وياؤه مبدلة من واو؛ لأن أصل الحوت ثلاثي واوي العين، زيدت في جمعه الألف والنون وأُبدلت الواو ياء لسكونها بعد كسرة، كما في (الميزان) من الوزن، و (الميعاد) من الوعد، و (الميقات) من الوقت، و (الحيتان) ياؤه مبدلة من واو جمع حوت (¬1). {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} السبت مصدر سَبَتَ اليهود سَبتًا إذا عظموا يوم السبت بالانقطاع للعبادة فيه وترك صيد السمك. وهذا معنى قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: آية 163] {شُرَّعًا} جمع شارع. قال بعض العلماء: تأتيهم مقبلة، تأتيهم الحيتان مقبلة ظاهرة على وجه الماء كأنها صفوف كثيرة حتى تستر وجه الماء من كثرتها، فالشُرَّع على هذا بمعنى الظاهرة المقبلة على وجه الماء، والعرب تقول: شرعت على فلان فوجدته يفعل كذا. معناه: أقبلت عليه حتى قربت منه فوجدته يفعل كذا. {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} أي يوم لا يعظمون السبت؛ لأنه يوم آخر من أيام الأسبوع {لاَ تَأْتِيهِمْ} فتنة لهم وامتحانًا {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم} {كَذَلِكَ} البلاء العظيم {نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. {نَبْلُوهُم} معناه: نختبرهم بسبب كونهم فاسقين، فقد ابتُلوا بالطمع ولم ينجحوا، وقد ابتُلوا بالخوف ولم ينجحوا؛ لأن الابتلاء الذي يميِّز ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص87.

ذهب الرجال من زائفهم هو الطمع والخوف، فإن المحن التي يظهر بها ذهب الرجال وإِبْرِيزهم إنما هي محن الخوف والطمع، وقد ابتلى الله أمة موسى بالخوف والطمع، وابتلى أمة محمد بالخوف والطمع، فنجحت أمة محمد ولم تنجح أمة موسى؛ لأن الطمع الذي ابتلى الله به بني إسرائيل هو هذه القرية التي ذكرنا، وسيأتي أنهم اصطادوا السمك في السبت فمُسخوا قردة كما يأتي في قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} [الأعراف: آية 166] والعياذ بالله؛ لأنهم لم يصمدوا أمام الطمع، ولم تَقْوَ شكائمهم أمام الطمع، بل ذابوا وانْمَاعُوا أمام طمع شهوة اللحم. وكذلك لما ابتلاهم بالخوف في جهاد الجبارين وقال لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: آية 21] فجبنوا ولم يشجعوا. وقال تعالى عنهم إنهم قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} [المائدة آية 22] وقد قالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: آية 24] فلم يثبتوا أمام عواصف الطمع، ولم يثبتوا أمام عواصف الخوف، بخلاف هذه الأمة الكريمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلاهم بالطمع بنفس الصيد، وذلك في غزوة الحديبية في ذي القعدة من عام ست، ابتلاهم الله وهم في سفر وشدة قَرَم -أعني شدة شهوة إلى اللحم- ابتلاهم بأن يسر لهم جميع أنواع الصيد وهم محرمون، كبير الصيد وصغيره من أنواع الوحوش والطير وغير ذلك فلم يمد رجل منهم يده إلى شيء من ذلك، فنجحوا ولم تُزعزعهم عواصف الطمع، بل ثبتوا أمامه ثبوت الرجال، وهذا قد تقدم (¬1) في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة ..

لَيَبْلوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشيء مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)} [المائدة: آية 94] فثبتوا ولم تزعزعهم عواصف الطمع، وكذلك ابتلاهم بالخوف لما سافر النبي صلى الله عليه وسلم سفره في غزوة بدر الكبرى كما سيأتي تفاصيله في سورة الأنفال -إن شاء الله تعالى- وقد خرج لأجل عير في ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً يريدون عيرًا ليأخذوها، فجاءهم جيش عرمرم، نفير مسلح، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش وذكر أمرهم لقومه -وهو أمر مخيف؛ لأنه جيش عظيم في عَدَدِه وعُدَدِه وهم قليلون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: آية 123] هم قليل عَددهم وعُددهم بالنسبة إلى عدوهم فلما عرض ذلك عليهم- قال له المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود من بني بهراء من قبائل اليمن، حليف قريش، قال له: والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا من دُونَهُ معك، ولو خضت بنا البحر لخضناه، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى فلما أعاد الكلام قال له سعد بن معاذ (رضي الله عنه وأرضاه): كأنك تعنينا معشر الأنصار؟ قال: نعم. لأن الأنصار اشترطوا عليه ليلة العقبة أنهم يحمونه مما يحمون منه أبناءهم ونساءهم في نفس المدينة، ولم يشترطوا له الخارج عن بلادهم، فكان صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا يكونوا معه في الخارج عن ديارهم، فلما قال له سعد بن معاذ (رضي الله عنه): كأنك تعنينا معشر الأنصار؟ قال له: نعم. قال كلامه المعروف المشهور في المغازي والتاريخ -العظيم الدال على عظيم الثبات- الذي يقول فيه: والله إنا لقوم صُبُرٌ في الحرب، صُدَّقٌ عند اللقاء، ووالله ما نكره أن تلقى بنا عدوك حتى ترى منا ما يقر عينك، والله لقد تخلف عنك

بالمدينة أقوام لو علموا أنك تلقى كيدًا ما تخلف عنك منهم أحد (¬1). ونحو هذا من الكلام؛ فثبتوا وصمدوا عند هذا الخوف العظيم، وثبتوا أمام هذا الطمع العظيم، بخلاف الاسرائيليين -كما بيّنا وكما جاء هنا في الأعراف- من سقوطهم أمام الطمع، وكما قدمنا في سورة المائدة من سقوطهم أمام الخوف، وهذا معنى قوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: آية 163] البلاء معناه الاختبار، وهو يقع بالخَيْرِ والشَّرِّ، كما قال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: آية 168]، ولم ينجحوا في هذا البلاء إلا الذين عَصَمَهُم الله جل وعلا. [23/أ] / {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: الآيات 164 - 170]. يقول الله جل وعلا: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} [الأعراف: آية 164]. قرأ هذا الحرف عامة القراء منهم السبعة غير عاصم في رواية حفص خاصة: {معذرةٌ إلى ربكم} بضم التاء، وقرأهُ عاصمٌ وحده في رواية حفص: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} بنصب التاء (¬1). أما على قراءة الجمهور فـ {مَعْذِرَةٌ} خبر مبتدأ محذوف، أي: موعظتنا لهؤلاء معذرة عند الله. أو هذه الموعظة معذرة. أما على رواية حفص عن عاصم: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} ففي إعرابه وجهان: أحدهما (¬2): أنه مفعول من أجله، أي: وعظناهم لأجل المعذرة. أي: لنقيم عذرنا عند الله. الثاني: أنه مفعول مطلق، أي: نعتذر بذلك معذرة عند الله جل وعلا (¬3). وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} واذكر يا نبي الله {وَإِذَ قَالَتْ} حين قالت أمة منهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص216. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص216. (¬3) انظر: حجة القراءات ص300، القرطبي (7/ 307)، الدر المصون (5/ 495).

مُهْلِكُهُمْ} الميم في قوله: {لِمَ تَعِظُونَ} هي ما الاستفهامية. والمقرر في علم العربية أنّ ما الاستفهامية إذا جُرَّت حُذف ألفها كما هو معروف، والمعنى: لأي موجب تعظون؟ (تعظون) مصدر وعظه يعظه إذا كلّمه كلامًا يلين له قلبه لينتهي عما لا يرضي الله. {لِمَ تَعِظُونَ} لأي موجب وأي حكمة تعظون قومًا متمرِّدين مُتَمَادِين على العصيان وعدم الانكفاف {اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} إهلاك استئصال {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} لجراءتهم عليه وانتهاكهم حرماته. وهذه الطائفة قال بعض العلماء: هي أشد الذين نَهوا، وإنما قالت: {لِمَ تَعِظُونَ} لأنها جرّبت وعظهم وعلمت أنهم لا فائدة فيهم ولا ينزعون ولا يُقْلعون. وقال بعض العلماء: هذه الطائفة الثالثة التي لم تباشر الاعتداء في السبت ولم تنهَ الذين اعتدوا في السبت. وقد ذكرنا أنّ العلماء اختفلوا فيها، وأنّ أظهر القولين: أنها نجت كما أقنع به عكرمة ابن عباس (رضي الله عنه)، وكما يدل عليه ترتيبه بالفاء في قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} [البقرة آية 65] في سورة البقرة على خصوص الاعتداء في السبت خاصة في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} فرتب قوله: {كُونُواْ قِرَدَةً} على خصوص الاعتداء في السبت. وهذا معنى قوله: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} إهلاكًا مستئصلاً {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} نعتذر بموعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. أو وَعظناهم لأجل المعذرة عند ربكم {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولرجائنا أيضًا أن تؤثر فيهم الموعظة فيتقوا الله ويكفوا عن ما هم مصرون عليه من ارتكاب هذا الذنب العظيم الذي هو صيد السمك يوم السبت.

وهذه الآية الكريمة جاء فيها بيان حكمتين من حِكَم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن استقراء القرآن دل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له حِكَمٌ ثلاث تضمنت هذه الآية من سورة الأعراف من تلك الحكم الثلاث اثنتين، أمّا الحِكَم الثلاث (¬1): فالأُولى منها: أن يقيم الإنسان عذره أمام ربه، ويخرج بذلك الأمر من عهدة التقصير في الأمر بالمعروف؛ لئلا يدخل في قوله: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: آية 79] وهذه الحكمة أشاروا لها بقوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}. الحكمة الثانية: هي رجاء انتفاع المذكر، كما قال هنا عنهم: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وذكر الله هذه الحكمة في قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: آية 55]. الحكمة الثالثة من حِكَم الأمر بالمعروف التي لم تذكر في هذه الآية الكريمة: هي إقامة الحجة لله على خَلْقِهِ في أرْضِهِ نيابةً عن رسله؛ لأن الله يقول: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: آية 165] فأهل العلم يقيمون حجة الله على خلقه بإقامة الحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابةً عن الرسل في ذلك، وهذا معنى قوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: آية 164]. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} [الأعراف: آية 165] يعني فترك المأمورون الموعوظون تركوا أمر الله ولم يلتفتوا إلى ذلك التذكير؛ ¬

(¬1) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أصوله، وضوابطه، وآدابه) ص68، 348.

ولذا قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ} اعلموا أن النسيان يطلق في القرآن العظيم إطلاقين (¬1): أحدهما: نسيان الشيء بأن ينساهُ الناسي ويزول علمه منه فيكون ناسيًا له غير ذاكر. والثاني: يطلق النسيان على ترك العمل عمدًا وهو المقصود هنا، منه قوله تعالى: {نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: آية 67] أي: تركوه فتركهم؛ لأن الله لا ينسى، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: آية 64] {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى (52)} [طه: آية 52] فالنسيان هنا معناه الترك عمدًا، وهو أسلوبٌ عربي معروف، تقول العرب: نسي الأمر وتناساه: إذا صَدَّ عنه وأَعْرَضَ وتَرَكَهُ عَمْدًا. ومنه على أصح التفسيرين قوله عن آدم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: آية 115] أي: ترك ذلك الأمر لما قاسمه الشيطان، كما تقدّم إيضاحه، وهذا معنى قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} المراد بالسوء هنا هو معصية الله (جل وعلا) وانتهاك حرمته باصطياد السمك في السبت، وكل معصية من معاصي الله فهي من السوء؛ لأنها تسوء صاحبها إذا نظرها في صحيفته يوم القيامة. {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: ارتكبوا الجريمة وعصوا الله واصطادوا السمك في السبت. {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} في هذا الحرف أربع قراءات سَبْعِيَّات (¬2): قرأ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص216، حجة القراءات ص300، الدر المصون (5/ 496).

هذا الحرف ابن كثير والكوفيون -أعني عاصمًا وحمزة والكسائي-: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} على وزن (فعِيل). والعذاب البئيس: هو العذاب الشديد العظيم الذي وقْعُه شديد على صاحبه. وقرأه نافع في روايتي ورش وقالون: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بباء مكسورة بعدها ياء ولا همزة فيه. وأصل هذه القراءة كما قاله بعض العلماء: (بَئِس) على وزن (فَعِل) فخففت، كما تقول في (كَبِدٍ): (كِبْدٍ) فقيل: (بِئْس) وخففت الهمزة أيضًا فقيل: (بِيس) ومعناه عائد إلى الأَوَّل. وقرأه ابن عامر: {بِعَذَابٍ بئْسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} كقراءة نافع إلا أن ابن عامر همز الياء فقال: {بعذابِ بِئْسٍ بما كانوا يفسقون}. أما أبو بكر -أعني شعبة عن عاصم - فله روايتان: أحدهما توافق قراءة الجمهور، وهي قوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} وروى أبو بكر شعبةُ روايةً أخرى عن عاصم: {بعذاب بَيْئَس بما كانوا يفسقون} (بيْئس) على وزن (ضَيْغَم) والعذاب البيئَس: هو الشديد أيضًا، ورجل بَيْئَس: شديد البأس، ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي (¬1): كِلاهُمَا كَانَ رَئِيسًا بَيْئَسًا ... يَضْرِبُ فِي يَوْمِ الهيَاجِ القَوْنَسَا وهذا معنى قوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: آية 165] الباء سببية، و {مَا} مصدرية. والفسق في لغة ¬

(¬1) البيت في ابن جرير (13/ 200)، البحر المحيط (4/ 413)، الدر المصون (5/ 496).

العرب معناه: الخروج عن طاعة الله. كل من خرج عن شيء فقد فسق (¬1). والعرب تقول: «فسقت هذه الرواحل عن قصدها»؛ أي: جارت عن طريقها، ومنه قول رُؤْبَة بن العَجَّاجِ (¬2): يَهْوَيْنَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غَائِرًا ... فَوَاسِقًا عن قَصْدِهَا جَوَائِرا والفسق في الشرع: الخروج عن طاعة الله، كما قال تعالى: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: آية 50] أي: خرج عن طاعة ربه. هذا هو معنى الفسق. والخروج عن طاعة الله قد يكون خروجًا أعظم وهو الخروج المخرج عن دين الإسلام، وقد يكون خروجًا دون خروجٍ وهو الفسق بارتكاب كبيرة. ولأجل هذا المعنى كان الفسق يطلق في القرآن على الخروج عن طاعة الله بمعناه الأعظم وهو الكفر بالله كقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: آية 26] وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: آية 20] وقد يطلق الفسق على خروج دون خروج بارتكاب بعض الكبائر كقوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: آية 4] وقوله: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: آية 6] وهذا معنى قوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}. {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: آية 166] (لمّا) هذه هي التي تربط جملة بجملة رَبْط الشرط بالجزاء. و (لما) تأتي في اللغة العربية على ثلاثة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

أنواع (¬1): فتأتي نافية نحو {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم} [البقرة: آية 214] وتأتي مُثْبِتَة على لغة هذيل بن مدركة كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: آية 4] أي: ما كل نفسٍ إلا عليها حافظ. وهاتان حرفان بلا خلاف بين علماء العربية. الثالثة: (لمَّا) هذه -التي تربط جملةً بأخرى ربط الشرط بالجزاء- يختلف فيها علماء العربية، فبعضهم يقول: هي حرف؛ لأنها لم يعد إليها عائد ولم يرجع إليها ضمير فهي حرف. وبعض علماء العربية يقول: هي اسم، وهي ظرفٌ مُضَمَّنٌ معنى الشرط، واختار هذا غير واحد. وما زعمه بعضهم مستدِلاًّ بآية من كتاب الله: أنّ (لمّا) أنها حرف لا يستقيم كل الاستقامة. والحاصل أن فيها خلافًا معروفًا بين علماء العربية: هل هي حرفٌ أو ظرف؟ وهذا معنى قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} والعرب تقول: «عتا يعتو» إذا تمرَّدَ وتَكَبَّرَ؛ أي: فلما تمرَّدُوا وتَكَبَّرُوا. وقوله: {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} في الكلام حذفُ مضافٍ دل المقام عليه، وحذف المضاف إذا دل المقام عليه وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ مشهورٌ، وتقدير المضاف المذكور: {فَلَمَّا عَتَوْا} أي: فلما تمردوا وتكبروا عن ترك ما نُهوا عنه وهو صيد السمك يوم السبت {قُلْنَا لَهُمْ} صيغة الجمع للتعظيم، والقائل هو الله (جل وعلا). وصيغة الأمر في قوله: {كُونُواْ} هي المعروفة بأنها للتكوين. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 159 - 160)، الحروف العاملة في القرآن الكريم ص596، 638، 703.

والقردة: جمع قرد، والقرد هو الحيوان المعروف الذي يعرفه كل الناس. وقوله: {خَاسِئِينَ} جمع تصحيح للخاسئ، والخاسئ في لغة العرب معناه: الحقير الذَّليل الخسيس؛ ولذا كانت (اخْسَأ) خطابًا للكلاب، كما قال تعالى لأهل النار مخاطبًا لهم بالخطاب الذي يؤذن بالخِسَّة والصغار: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: آية 108]. ومعلوم أن الله إذا قال لهم: {كُونُواْ قِرَدَةً} لا بد أن يكونوا قردة؛ لأنه يقول: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشيء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40)} [النحل: آية 40] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: آية 82] يذكرون في قصتهم (¬1) أنّ المعتدين في السبت لمّا تمادوا في عتوهم وظلمهم ولم يسمعوا نصيحة قومهم خاف قومهم من البلاء والهلاك الذي سينزل بهم فقسموا القرية بينهم، وجعلوا بينهم حائطًا، وصار لهؤلاء باب ولهؤلاء باب، فبينما هم ذات يوم إذ أصبحوا والمعتدون لم يخرج منهم أحد، وبابهم مقفول، فتسوروا الحائط عليهم فوجدوهم -والعياذ بالله- قردة، فلما فتحوا الباب ودخلوا عليهم يذكرون في القصة أن القردة تعرف أنسابها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسابهم من القردة، وأن القردة تأتي إلى أنسابها فتشمها وتبكي، وأنهم يقولون لهم: ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله؟ فيشيرون برؤوسهم أن نعم، والعياذ بالله تعالى. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 188 - 198)، ابن كثير (1/ 106)، (2/ 258).

واعلموا أنّ العلماء اختلفوا في الممسوخين هل يمكن أن يكون لهم نسل وعقب (¬1)؟ اختلف العلماء في هذا، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا مانع من أن يكون الممسوخون لهم نسلٌ وأعقاب، وأن يكون بعض الحيوانات من نسلهم. وممّن انتصر لهذا القول: ابن العربي المالكي. واستدل أهل هذا القول ببعض الأحاديث الثابتة في الصحيح، منها حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (رحمهما الله) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ». وفي رواية: «ولاَ أُرَى إِلاَّ أنَّهَا الفَأْرُ، أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا وُضِعَتْ لهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ، وَإِذَا وُضِعَتْ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ» (¬2) هذا حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن أمة من بني إسرائيل فُقدت، وأنه يظن أنَّهَا الفأر. والفأر هو الحيوان المعروف. واستدل على ذلك بأن أصل الإسرائيليين لا يشربون ألبان الإبل، ولا يأكلون لحومها، كما قدّمنا إيضاحه في سورة آل عمران في تفسير قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: آية 93] فقد ذكرنا سابقًا في تفسير هذه الآية أن المفسرين يقولون: إن نبي الله يعقوب -وهو إسرائيل- أصابه ¬

(¬1) انظر: تفسير القرطبي (1/ 440 - 443). (¬2) البخاري في بدء الخلق، باب: خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، حديث رقم (3305)، (6/ 350)، ومسلم في الزهد، باب: في الفأر وأنه مسخ، حديث رقم (2997)، (4/ 2294)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

مرض عرق النَّسَا فنذر لله إن شفاه الله ليتركن لله أحب الطعام والشراب إليه، فكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فحرمهما على نفسه. ويقولون: إن هذا النوع من النذر كان جائزًا في شرعه، وأن اليهود صارت لا تشرب ألبان الإبل ولا تأكل لحومها. وأن الفأر لا يشرب لبن الإبل ولكنه يشرب لبن الشاء، أي: الغنم!! فكان النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنه مُسخ. وعلى أن الفأر مَسْخٌ فالفأر يتناسل. ومما استدل به أهل هذا القول: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بِضَب فأبَى أنْ يَأْكُلَهُ وقال: «لَعَلَّهُ مِنَ القُرُونِ الأولَى الَّتِي مُسِخَتْ» (¬1) وهذا الحديث الذي رواه مسلم عن جابر روى مسلم أيضًا نحوه عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنهم) (¬2). فهذا الحديث المتفق عليه، وحديث مسلم هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم جوّز فيه أن يتناسل الممسوخ. وذهب آخرون من العلماء إلى أن الممسوخ لا يعيش فوق ثلاثة أيام، ولا يشرب ولا يأكل، ولا يكون له نسل ولا عقب. واستدل أهل هذا القول بما أخرجه مسلم في صحيحه من رواية عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ لمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلاَ عَقِبًا» (¬3) هذا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث ¬

(¬1) مسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، حديث رقم (1949)، (3/ 1545)، من حديث جابر (رضي الله عنه). (¬2) مسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، حديث رقم (1951)، (3/ 1546)، من حديث أبي سعيد (رضي الله عنه). (¬3) مسلم في القدر، باب: بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر، حديث رقم (2663)، (4/ 2050).

ابن مسعود، نفى عنه النسل والعقب، وكان أبو عبد الله القرطبي (رحمه الله) في تفسير سورة البقرة (¬1) في الكلام على قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: آية 65] يقول: إن الصحيح أن التحقيق أن الممسوخ لا يولد له، ولا يكون له نسل ولا عقب، ولا يعيش، وأن هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود، الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر يدل على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يظن بعض الشيء، وأن الله علّمه فجزم بأنه لا يكون له نسل ولا عقب. وهذا أظهر وأقرب، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم هذا الأخير المذكور من حديث ابن مسعود أن القِرَدَة والخنازير كانوا موجودين قبل مَسْخِ بَنِي إِسْرَائِيل، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: آية 166]. القردة: جمع القرد، وهو الحيوان المعروف، وهو مِنْ أَخَسّ الحيوانات، والدليل على أنه من أخس الحيوانات أن الله مسخ في صورته من أراد إذلالهم وإهانتهم وصَغَارَهم، وهذا معروف أن القرد من أخس الحيوانات. وقد قال الشاعر (¬2): قَدْ يُكْرَمُ القِرْدُ إِعْجَابًا بِخَسَّتِهِ ... وَقَدْ يُهانُ لِفَرطِ النخوةِ الأَسَدُ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167)} [الأعراف: آية 167]. ¬

(¬1) القرطبي (1/ 441 - 442). (¬2) البيت لأبي الفضل الغسَّاني الجلياني، وهو في تُحفة القادم لابن الأَبَّار ص129، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أُصَيْبِعة ص634، ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعدوي (9/ 504). وفي جميع المصادر: (السَّبُع) في موضع (الأسد) هنا.

(تأذن) تفعَّل من الأذان، والأذان في لغة العرب: الإعلام، ومنه أذان الصلاة؛ لأنه الإعلام بدخول وقتها مع الدعاء لها، وقد قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: آية 3] والعرب تقول: آذنني: أعلمني. ومنه قول الحارث بن حِلِّزَة اليشكري (¬1): آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ ... ربَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثواءُ فتأذن معناه تَفَعَّل من الأذان بمعنى الإعلام، أي: أعلم الله الخلق. وقال بعض العلماء (¬2): (تأذن) بناء هذا الفعل على (تفعّل) يجعله كأفعال القسم. ولذا جاء اللام في قوله: {لَيَبْعَثَنَّ} معناه أعلم الله جل وعلا. وهذا الإعلام في معنى القسم، أو كأنه مؤكد بالقسم بدليل اللام في قوله: {لَيَبْعَثَنَّ}. {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} أي: ليسلطن عليهم، أي: اليهود {مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} يسومهم معناه: يُذيقهم سوء العذاب. العرب تقول: سامه العذاب: إذا أذاقَهُ إِيَّاهُ وعَذَّبَهُ به، وهو معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلَّقَتِه (¬3): إذا مَا المَلْكُ سَامَ الناسَ خَسْفًا ... أبيْنا أن نُقِرَّ الذُّلَّ فينَا {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يوم القيامة إنما سُمي يوم القيامة؛ لأن الناس يقومون فيه لخالق السماوات والأرض، كما قال جل وعلا: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: آية 6] وقيل له (القيامة) كما قيل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 500 - 501). (¬3) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

الحِيَازَة والصِيَانَة وغير ذلك من الحَوز والصَّون، وهذا معنى قوله: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: آية 167]. وهذه الآية الكريمة من سورة الأعراف فيها التنصيص الصريح مِنْ رَبِّ العالمين أنه يُسلّط على اليهود في دار الدنيا حتى تقوم الساعة من يذيقهم سوء العذاب، ويعذبهم أشد التعذيب وأتمّه، وهذا قد بيّنا بعضه مرارًا؛ لأن الله سلّط عليهم سابقًا بختنصر وأهانهم تلك الإهانة الشديدة، وملك الرومان، وسلّط عليهم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لما كفروا وتمردوا، فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وذبح مقاتلة بني قريظة، وأجلى خيبر، وربنا يقول: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: آية 8] وقد بيّنا في سورة بني إسرائيل (¬1) طرفًا من هذا؛ لأن الله يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ} [الإسراء: الآيتان 4، 5] يعني: أنهم يجوسون -يمشون- في الأزقة خلال ديارهم محتليها يهينونهم ويعذبونهم، ثم قال في الثانية: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [الإسراء: آية 7] المفسرون والمؤرخون يقولون (¬2): إن إحدى المرتين تسليط بختنصر عليهم، والثانية: تسليط ملك الرومان، وأن كلاًّ منهما قتلهم ¬

(¬1) ولا يرد عليه أن سورة بني إسرائيل تأتي بعد سورة الأعراف وبينهما سور متعددة؛ لأن الشيخ (رحمه الله) فسر القرآن كاملاً في المسجد النبوي قبل ذلك. وهذه الدروس التي وقفنا عليها هي من تفسيره في المرة الثانية. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 25)، البداية والنهاية (2/ 34).

وسبى نساءهم وذراريهم. والله بعد ذلك قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: آية 8] فعادوا لأكبر الفساد والمنكر زمان النبي صلى الله عليه وسلم فعاد الله لقهرهم وإذلالهم بأن سلّط عليهم رسوله ومَنَعَ إقامتهم في جزيرة العرب، فكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إذا جاء منهم تاجر أجَّل له ثلاثة أيام يبيع ويشتري ثم يخرج، ولا يرضى بجلوسهم في جزيرة العرب. وفي هذه الآية من سورة الأعراف تأذن الله وأعلم أنه سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب، إلا أنهم يَرُدّ اللهُ لهُمُ الكَرَّةَ حتى يجتمعوا ويكونوا أمَّة؛ لأنهم لو بقوا مقطعين في الأرض لن تقوم لهم قائمة -كما قال: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: آية 168]- ولم يكن العذاب والهلاك، ولم يجد موقعًا يقع عليه، فصار من عادة الله أن يَردّ لهم الكَرَّةَ ويجعلهم أمة حتى يكونوا أمة فيسلّط عليهم من يعذبهم ليكون العذاب واقعًا موقعه، والله (جلّ وعلا) أصدق من يقول، وهذا معنى قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} السرعة ضد البطء؛ لأنه سريع العقاب؛ لأنه يقول للشيء: (كن) فيكون، وما أمره إلا واحدة كلمح بالبصر. والعقاب: هو التنكيل بسبب الذنب؛ لأنه يأتي عقب الذنب، والعرب تقول: «عَاقَبَه معاقبة وعقابًا» إذا نكَّلَه بسبب ذنب ارتكبه، وهو معنىً مشهور في كلامهم، ومنه قول نابغة ذبيان (¬1): وَمَنْ عصاكَ فَعَاقبهُ مُعَاقَبَةً ... تَنهى الظَّلُومَ ولا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ ¬

(¬1) ديوان النابغة ص13.

{وَإِنَّهُ} جل وعلا {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة لعباده المؤمنين التائبين؛ الرحيم بهم. وقد جرت العادة في القرآن أن الله (تعالى) يجمع فيه بين الوعد والوعيد؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين: هما جلب المصلحة، ودفع المضرة، والله (جل وعلا) يأتي بالوعد والوعيد ليستحث الناس بذلك إلى طاعته كما قال هنا: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن عصاه {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أطاعه. فهذا الوعد يطمعنا فيما عنده، وهذا الوعيد يخوّفنا مما عنده، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ (50)} [الحجر: الآيتان 49، 50] وكما قال تعالى: {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: الآيات 1 - 3] والآيات في مثل هذا كثيرة، وهذا معنى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: آية 167]. {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)} [الأعراف: آية 168]. {وَقَطَّعْنَاهُمْ} معناه: جعلناهم قطعًا متفرقين في أرض الله لا تكاد تجد أرضًا إلا وفيها شِرذِمَةٌ منهم. أجرى الله العادة بتفريقه اليهود في أقطار الدنيا لحكمة يعلمها هو (جلّ وعلا)؛ ولذا قال: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} أي: طوائف متفرقة في أنحاء الدنيا. ثم قال: {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ} منهم قوم صالحون مطيعون لله، وهم الذين كانوا على شرع موسى بن عمران، لم يغيروا ولم يُبَدِّلُوا حتى ماتوا على ذلك، أو أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، كعبد الله بن سلام.

وبعض العلماء يقول: من هؤلاء الأمم الصالحين: السبط الذين خرجوا من بين أظْهُرِ بَنِي إِسْرَائِيل. وجَرَتْ عَادَةُ المُفَسِّرِينَ أَنْ يذكروا قصة غريبة عنهم في آية ذكرناها قبل هذا من سورة الأعراف (¬1) وهي قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: آية 159] لأن هذه الآية من سورة الأعراف يذكر المفسرون عندها قصة غريبة: يزعمون أن واحدًا من أسباط بني إسرائيل لما عصى الإسرائيليون، وقتلوا الأنبياء، وارتكبوا المناكر تبرؤوا منهم، وطلبوا من الله أن يُفَرِّق بينهم وبينهم، ويزعمون أن الله فتح لهم نفقًا في الأرض فدخلوا فيه وساروا فيه سنة ونصف السنة، حتى خرجوا من وراء الصين، وأنهم كانوا وراء الصين على دينٍ صحيح يعبدون الله. هكذا يقولون. وتكثر هذه القصة -يكثر ذكرها- في كلام المفسرين عند هذه الآية الكريمة، وقد ألممنا بالآية ولم نذكرها؛ لأنها لم يثبت عندنا فيها شيء. وبعضهم يقول: من هؤلاء الأمم الصالحة ذلك السبط الذين ساروا في النفق في الأرض سنة ونصف السنة حتى خرجوا من وراء الصين. وعلى كل حال فقد كان في اليهود قوم هم على دين موسى حتى ماتوا على ذلك، وقوم كانوا على دين موسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الذين كانوا على دين موسى وأدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فآمنوا به هم الذين ذكر الله في سورة القصص أنّ لهم أجرهم مرتين: أجر إيمانهم الأول، وأجر إيمانهم الثاني، كما نص الله على ذلك في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (159) من سورة الأعراف.

مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: الآيات 51 - 54]. وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أي: ومنهم أمة وناسٌ آخرون دون ذلك الصلاح؛ أي: منحطون عن مرتبة الصلاح، قاصرون عنها؛ لارتطامهم في المعاصي أو الكفر بالله جلّ وعلا. وهذا الحرف قرأه عامة القراء: {دُونَ ذَلِكَ} بفتح النون ظرفًا غير متصرف، ولم يقرأه أحدٌ اسمًا. وكونه اسمًا يجوز لغة لا قراءة؛ لأن العرب تطلق (دون) إطلاقين (¬1): تطلقها ظرفًا جامدًا غير متصرف، وتطلقها اسمًا بمعنى الشيء الردي، ومن إطلاقها اسمًا: قول الشاعر (¬2): إِذَا مَا عَلاَ المَرْءُ رامَ العَلاَء ... ويقْنَعُ بالدونِ من كان دُونَا فالرواية في قوله: «من كان دونا» أصله: «من كان دونًا» بالتنوين، أي: حقيرًا. وهذه الآية لم يُقْرأ فيها بجعله اسمًا متصرفًا. هذا معنى قوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أي: ومنهم أمة، كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164)} [الصافات: آية 164] أي: وما منا أحد إلا له مقام معلوم؛ أي: ومنهم طائفة {دُونَ ذَلِكَ} أي: منحطون عن رتبة الصلاح لكفرهم أو معاصيهم. وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ} البلاء: الاختبار. والحسنات جمع الحسنة، والحسنة المراد بها هنا الخصلة الطيبة كالخصب والعافية؛ لأن الله يبتلي بالطيبات ويبتلي بالبلايا. يبتلي الناس بأن يُغدق عليهم نعمه ويرزقهم العافية والأموال والأمطار ليبتليهم أيشكروا نعمة الله؟ وكذلك يبتلي بالسيئات كالجدب والمرض وغير ذلك من البلايا هل ¬

(¬1) انظر: اللسان (مادة: دون) (1/ 1038). (¬2) البيت في اللسان (مادة: دون) (1/ 1038)، فتح القدير (1/ 52).

ينيبوا إلى الله؟ فالله (جل وعلا) ذكر هنا أنه ابتلى اليهود بالحسنات كسعة الرزق والخصب والصحة والعافية، والسيئات؛ كالأمراض والجدب والزلازل والبلايا {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: لأجل أن يرجعوا فينيبوا عند [23/ب] أحد الابتلاءين. ودلت الآية على أنّ منهم طائفة كانوا صالحين كما بيّناه مرارًا./ كقوله: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)} [آل عمران: آية 113] وقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} الآية [آل عمران: آية 199]. وهذا معنى قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. السيئات: جمع سيئة، وعلماء العربية يقولون: إن أصل السيئة: (سَيْوِئَة)، فهي على وزن: (فَيْعِلَة)، ووزنها بالميزان الصرفي: (فَيْعِلَة)، والزائد فيها: ياء (الفَيْعِلَة)، وحروفها الأصلية هي: السين في مكان الفاء، والواو في مكان العين، والهمزة في مكان اللام. أصل حروفها الصحيحة: (سَوَء) بسين، وواو، وهمزة. وياء (الفَيْعِلَة) زائدة، أصلها: (سَيْوِئَة) فاجتمعت الياء والواو، وسكنت أولاهما غير عارضة ولا عارضة السكون، فوجب قلب الواو ياء، وإدغام الياء في الياء، على القاعدة التصريفية المشهورة (¬1). فقوله: (السيئة) هذه الياء المشددة فيها حرفان: أولاهما: ياء (الفَيْعِلَة) الزائدة، والثانية: الواو الواقعة عين الكلمة المبدلة ياء. وإنما سُميت السيئة (سيئة) لأنها تسوء صاحبها يوم القيامة إذا نظر إليها في صحيفته. وهذا معنى قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (160) من سورة الأنعام.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: آية 168]، أي: يرجعون إلى ما يرضي ربهم من طاعته جلّ وعلا. {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ} [الأعراف: آية 169] كان بعض العلماء يقول (¬1): (الخَلَف) بفتح اللام هم من يخلفون من قبلهم خلافة حسنة. و (الخَلْف) بسكون اللام هم الذين يخلفون من كان قبلهم بسوء. وهذا اصطلاح أغلبي؛ لأن (الخَلَف) ربما أُطلق في خَلَف سيئ. و (الخَلْف) بالسكون ربما أُطلق في خَلَفٍ صالحٍ، ومنه قول حسّان (¬2): لنَا القَدَمُ الأولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا ... لأَوَّلِنَا في طاعَةِ اللهِ تَابِعُ وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي: من بعد هؤلاء الذين قطّعناهم وجعلنا منهم الصالحين خلف {مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} من ذرياتهم من اليهود {وَرِثُواْ الْكِتَابَ} معنى وراثتهم للكتاب: أن التوراة بقيت عندهم ورثوها عن أسلافهم فصارت التوراة لديهم، وصاروا عياذًا بالله يغيرون أحكامها. {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ} يعني: خلف من بعد أولئك خلف من ذرياتهم من اليهود ورثوا الكتاب، معناها: بقي كتاب الله التوراة في أيديهم وراثة عن أسلافهم. وكان هذا الخَلْف خلفًا خبيثًا يأكلون الرُّشَا ويبيعون حكم الله بأعراض الدنيا -والعياذ بالله- فعابهم الله هنا بذلك؛ ولذا قال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ} معنى {وَرِثُواْ الْكِتَابَ} ورثوا التوراة عن أسلافهم فبقي عندهم، وهو كتاب الله الذي كتب فيه العقائد والحلال والحرام وتفصيل كل شيء يُحتاجُ إليه. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 209)، القرطبي (7/ 310)، الدر المصون (5/ 502). (¬2) ديوان حسان ص155.

{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} والعياذ بالله إذا عرض لهم عرض من حطام الدنيا. العَرَض: المراد به الشيء الزائل؛ لأنه عارض زائل مُضْمَحِل. وقوله: {هَذَا الأدْنَى} إشارة إلى متاع الدنيا وحطامها الزائل القليل الذي لا جدوى فيه {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} يستعيضونه عما في كتاب الله؛ لأنهم يأكلون الرُّشَا ويغيرون الأحكام. وبعض العلماء يقول: الخَلْف المذكورون هم اليهود الذين كانوا موجودين في زمن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، عندهم التوراة فيها صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ العهود والمواثيق عليهم باتباعه فكتموه وغيّروا صفاته وبدّلوها، حتى إنهم يجدون في التوراة عندهم أنه (رَبْعَة) يعني: متوسط القامة، فيكتبون: طويلاً مُشذّبًا. وكل وصف يحرّفونه ويغيرونه، يأخذون قراطيس يكتبونها عندهم محرفة كما تقدّم في الأنعام في قوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: آية 91] يقولون: إنهم كان إذا تخاصم إليهم اثنان وأعطاهم صاحب الحق رشوة حكموا له بكتاب الله التوارة، فإذا أعطاهم المُبْطِل الرشوة تركوا التوراة وجاءوا بالكتب التي كتبوها بأيديهم، التي قال الله عنها: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: آية 79] يأتون بالكتاب الذي كتبوه ويحكمون له به بدل الرشوة. ومما ذكر العلماء أنهم كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم لعرض زائل مِنْ أعْرَاضِ الدّنْيَا؛ لأنهم كانوا يأكلون بالرئاسة الدينية، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم لو أخبروا بأنه نبي الله لزالت عنهم الرئاسة الدينية فضاع المأكل الذي كانوا

يأكلون بها، فكتموا وغيّروا صفاته حرصًا على ما كانوا يتعاطونه برئاستهم الدينية -قبّحهم الله- هذا معنى قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى}. العرض: حطام الدنيا الزائل، سُمِّي عرضًا؛ لأنه شيء عارض لا بقاء له. والإشارة في قوله: {هَذَا} إلى متاع الدنيا وحطامها الزائل. و {الأدْنَى} لدنوه أو لدناءته ورذالته وعدم أهميته. يعني: يأخذون هذا العرض مُعْتَاضين منه العمل بكتاب الله وتحقيق ما أنزل الله، فهم يأكلون الرُّشَا ليُغَيِّرُوا أحْكَامَ الله ولا يقيموا حُكْمَه في كتابه والعياذ بالله. وهذه الآية وإن كانت في اليهود فكُلّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ فهو أخوهم يناله من وعيدها وعذابها ما نالهم. فيجب على المسلم إذا كان في منصب يوصل فيه الحق لصاحبه بإنابة من بسط الله يده ألاّ يغير أحكام الله ويأخذ الرُّشَا بدلاً منها (¬1)، فإنه إن أخذ الرشوة وغيّر وبدّل فهو أخو اليهود، وهو من هذا الخلْف السيئ القبيح. وأقبح شيء يأكله الإنسان هو الرُّشَا وما جرى مجراها من أنواع السحت؛ لأن السارق خيرٌ من المرتشي، لا شك أن السارق أخف شرًّا من المرتشي؛ لأن السارق يأخذ مال الناس بغير حق مع أنه عالم أنّ فعله خسيس وأنّه خبيث، ولا يدعي أبدًا أنّ فعله طيّب، بخلاف المرتشي -قبّحه الله- فإنه يأكل مال الناس بالباطل وهو يزعم أنّ هذا دين الله وشرعه الذي أنزل به رسله -والعياذ بالله- فمن أقبح المآكل وأخسها الرُّشَا. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

وأعظم أنواع الرُّشَا خطرًا ارتشاء القاضي الذي هو منصوبٌ ليحكم بين الناس بما أنزل الله، فإذا ترك ما أنزل الله وتعوّض عنه عرض هذا الأدنى -والعياذ بالله- فهو أخس خلق الله، والسارق قد يكون أخف شرًّا منه؛ لأن السارق هو سارق، ولا يدعي سرقته، ولا يجعلها على الله، ولا على رسوله، ولا يقول: الله أمرني أن أسرق. بخلاف القاضي المرتشي فإنه يزعم أن الله أمره بهذا القضاء، وأن هذا حكم الله، وهو سارق شر سرقة. وكذلك كل من كان في مصلحة -ولو غير قضاء- جعله فيها ولي أمر المسلمين، وأعطاه ماهية شهرية يتقاضاها، فإنه لا يجوز له أن يعطل حقوق الناس ويقول لهم: بُكْرة، وبعد بُكْرة، إلى ألف بُكْرة!! ليرتشي منهم، فإن هذا أمر خسيس قبيح، وفاعله أخو اليهود، لا خير فيه ألبتة، فلا دين له ولا مروءة. فيجب على المسلمين أن يُنَزِّهُوا ضَمَائِرَهم، وأن يكونوا أمة -ناسًا- كالرجال، ولا ينحطوا أمام هذه المطامع الخسيسة المدنَّسة المُخْزِيَة، لأنه رُبَّ أكلة قبيحة أعقبت صاحبها شرًّا عظيمًا، ألا ترون إلى هؤلاء القوم من اليهود أكلوا سَمَكًا فانظروا ما أعقبتهم هذه الأكلة من الوبال، صاروا قِرَدَةً -والعياذ بالله- فهذه الآية وإن كانت في اليهود فكل من أخذ بشيء منها فهو أخو اليهود بقدر ما أخذ منها، وسيناله من الوعيد بقدر ما أخذ منه. وهذا معنى قوله: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} أي: هذا المتاع والحطام الزائل الأدنى القريب العاجل. أو (الأدنى) لدناءته ورذالته، ومع هذا هم يأكلون الرُّشَا ويُغَيِّرُونَ أحْكَامَ اللهِ، ويدَّعون على الله أنه يغفر لهم هذه الذنوب!! فهذا من الجراءة والجَهْلِ وطَمْسِ البَصَائِرِ لا يعلمه إلا الله.

{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} سيغفر الله لنا أكلنا لهذه الرُّشَا وتبديلنا لهذه الأحكام. وهذا هو الذي جاء فيه: «والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَع نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ» (¬1) أتبع نفسه هواها فأكل الرُّشَا، وتمنّى على الله أن يغفر له، والله لا يغفر للمُصِرِّين؛ ولهذا بيّن تعالى أنه يدعي أن الله يغفر له وهو مُصِرّ على أكله الرُّشَا وتَعَوُّضِه حُطَام هذه الدنيا وعَرَضها الزائل من أحكام الله؛ ولذا قال: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: آية 169] وإن أصابوا عرضًا آخر زائلاً من الدنيا أخَذُوهُ وأكَلُوه، ومع هذا يَزْعُمون أن الله يغفر لهم!! فهم مُصِِرُّون على أكل الحرام وتغيير أحكام الله بالرُّشَا، ومع هذا هم جازمون بأن الله يغفر لهم!! وهذا هو الغرور، فإذا رأيت المسلم أو مَنْ يَدَّعِي أنَّهُ مسلم يَنْتَهِكُ حرمات الله ويصر ويثق بالمغفرة فاعلم أنه مغرور، وأنه أخو اليهود، ولا يغفر الله له (¬2). هذا معنى قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ} الميثاق (¬3): معناه العهد المؤكد، فكل ميثاق عهد، وليس كل عهد ميثاقًا؛ لأن العهد لا يُسمى ميثاقًا إلا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 124)، والترمذي في صفة القيامة، حديث رقم (2459)، (4/ 238)، وقال: «هذا حديث حسن» اهـ. وابن ماجه في الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له. حديث رقم (4260)، (2/ 1423)، والطبراني في مسند الشاميين (1/ 266 - 267)، (2/ 354)، وفي الصغير (الروض الداني) (2/ 107)، وابن عدي (2/ 39)، والحاكم (1/ 57)، (4/ 251)، والبغوي في شرح السنة (14/ 308)، وهو في ضعيف ابن ماجه حديث رقم (930)، المشكاة حديث رقم: (5289). (¬2) لو قال: «وقد لا يغفر الله له» لكان هو اللائق. (¬3) انظر: المفردات (مادة: وثق) ص853.

إذا كان مؤكدًا خاصة. وقد قدّمنا في هذه الدروس مرارًا (¬1) أنّ كل فعل مضارع مجزوم بـ (لم) إذا تَقَدَّمَتْه همزة الاستفهام قبلها (لم) كقوله هنا: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ} أنّ فيه وجهين معروفين من التفسير في جميع القرآن: أحدهما: أنه تنقلب مُضَارَعَتُه مَاضَوِيَّة، وينقلب نَفْيُهُ إِثْبَاتًا، فيكون معنى هذا المضارع المنفي بـ (لم) ماضيًا مثبتًا، فيكون معنى {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ}: أخذ عليهم ميثاق الكتاب. {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)} [البلد: آية 8]: جعلنا له عينين {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: آية 1]: شرحنا لك صدرك. وهكذا. ووجه هذا: أما وجه قلب مُضَارَعَته مَاضَوِيَّة فلا إشكال فيه؛ لأن (لم) حرف قلب يقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى الماضي، وهذا لا إشكال فيه. أما قلب نفيه إثباتًا فهو الذي يحتاج إلى نظر. وقال بعض العلماء: وجه صيرورة نفيه إثباتًا: أنّ (لم) حرف نفي صريح، وأن الهمزة التي قبلها همزة استفهام إنكار، والإنكار مُضَمَّنٌ معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن في الهمزة على النفي الصريح في (لم) فينفيه، ونفي النفي إثبات، فيؤول إلى معنى الإثبات. هذا وجه في التفسير في جميع القرآن في كلّ ما جاء فيه «ألم». الوجه الثاني: أن الاستفهام لا يُراد به أصل الاستفهام وإنّما يُراد به حمل المخاطب على أن يقر فيقول: بَلَى. وهو المعروف في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (148) من سورة الأعراف.

فنّ المعاني باسْتِفْهَام التقرير (¬1). والمعنى: أن المراد {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ} أن يقولوا: بلى أُخذ علينا ميثاق الكتاب. وقوله: {أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ} أُخذ عليهم العهد المؤكد أن لا يقولوا على الله شيئًا إلا الشيء الحق، فلا يقولوا: إن الحكم هكذا. وهو باطل ليتَعَوَّضُوا الرُّشَا ويأخذوا عرض هذا الأدنى. {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} أي: في الكتاب الذي هو التوراة، درسوه: معناه تعلّموه وفهموا معانيه وعلموا أنه لا يجوز تغيير أحكام الله واستعاضة الرُّشَا منها. ثم قال تعالى: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ} هي دار القيامة خير من حطام الدنيا وعرض هذا الأدنى الذي أخذوه {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} يتقون الله جلّ وعلا: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وقُرئ {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} [الأعراف: آية 169] (¬2). ثم قال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} ولا يأكلون الرُّشَا ولا يَتَعَوَّضُون منه عرض هذا الأدنى {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} هي داخلة في التمسك بالكتاب إلا أنه خصّها، لِعِظَم شأنها؛ ولأنها أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: آية 170] الأصل: إنا لا نضيع أجرهم [وقرأ العامّة: {يُمسِّكُونَ} بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك، حكاه أهلُ التصريف، أي: إنَّ (فَعَّل) بمعنى (تَفَعَّل)، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في: تمسَّكْتُ بالحبل. وقرأ أبو بكر عن عاصم -ورُوِيت عن ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: الإتحاف (2/ 68).

أبي عمرو وأبي العالية: {يُمْسِكُونَ} بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمسَك، وهما لغتان، يقال: مَسَكْت وأمْسكت، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله:] (¬1). وَمَا تَمَسَّك بالعَهْدِ الذي زَعَمت ... إلاَّ كَمَا يُمْسِكُ المَاءَ الغَرَابيلُ (¬2) وفي رواية شعبة عن عاصم (¬3): {وَالَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: آية 170] أظهر في محل الإضمار، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)} [الكهف: آية 30] والمصلحون: هم الذين يصلحون أعمالهم بامتثال أمر الله واجتناب نواهيه. {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} [الأعراف: الآيات 171 - 174]. يقول الله جل وعلا: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} [الأعراف: آية 171]. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة نقلتها بحروفها من الدر المصون (5/ 508) وبها يتم الكلام. (¬2) شرح قصيدة كعب بن زهير لابن هشام ص138. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص216.

الظرف في قوله: {وَإِذ} يقول المفسرون: هو منصوب بـ (اذكر) مقدرًا (¬1). والدليل على أن العامل في هذا الظرف المحذوف هو (اذكر) كثرة ورود لفظة (اذكر) عاملة في (إذ) في القرآن، نحو قوله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ} [الأحقاف: آية 21] {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: آية 26] {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: آية 86] ونحو ذلك من الآيات. واذكر يا نبي الله عناد اليهود ولجاجهم القديم في أسلافهم، ومن جملة ذلك العناد واللجاج والكذب العريق في أسلافهم تكذيبهم برسالتك وإنكارهم لصفاتك الموجودة في كتبهم عندهم. وقوله: {نَتَقْنَا} العرب تقول: نَتَقَ الشَّيْءَ: إذَا رَفَعَهُ. وبعض العلماء يقول: النتق أخص من مطلق الرَّفْع؛ لأن النتق رفع مع حركة قوية؛ تقول العرب: نَتَقْتُ السِّقاء: إذا رَفَعْتَهُ وَهَزَزْتَهُ هزًّا قويًّا ليخرج زُبْده (¬2). والجبل هنا هو الطور. وقد ذَكَرْنَا رَفْع الطور عليهم في سورة البقرة وفي سورة النساء. وبعض العلماء يقول (¬3): كل جبلٍ طور. وبعض العلماء يقول: الطور أخص من مطلق الجبل، فالطور هو خصوص الجبل الذي تحفّ به أشْجَار مُثْمِرة. وعلى هذا القول فكل طور جبل، وليس كل جبل طورًا. والنتق في هذه الآية من سورة الأعراف هو الرفع المصرّح به في البقرة والنساء. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 217، 219)، الدر المصون (5/ 509). (¬3) انظر: المفردات (مادة: طور) ص528، القرطبي (1/ 436).

والجبل المذكور في الأعراف هو الطور المصرّح به في سورة البقرة وفي سورة النساء؛ لأن الله ذكر رفع هذا الجبل عليهم في سورة البقرة فقال جلّ وعَلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [البقرة آية 63] وقال في سورة النساء: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا} الآية [النساء: آية 154]. ورفع الطور عليهم لأن نبي الله موسى (عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام) لما كتب الله له كتابه التوراة بَيّنَ فيه الحلال والحرام والعَقَائِدَ وتفصيل كل شيء يُحْتَاج إليه من أمور الدنيا والآخرة، كانت فيه أوامر ونواهٍ زَعَمَ اليهود أنها شَاقَّةٌ عليهم فامتنعوا من قبولها، فلما عرض عليهم نبي الله موسى التوراة قالوا: لا نقبل هذا الكتاب، ولا نَتَحَمَّلُ هَذِهِ الأوَامِر والنواهي التي هي فيه؛ لأن فيها مشقة علينا. فأمر الله المَلَك فهزَّ الطور فاقتلعه ورفعه فوقهم قدر معسكرهم. والمؤرخون يقولون: هم قدر فرسخ في فرسخ، فصار الجبل فوقهم بقدرة الله كأنه ظُلّة، كأنه غمامة تظلهم فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إنما هي واحدة من اثنتين: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [البقرة: آية 63] التزموا ما في التوراة من الأحكام بقوة، أي: بجدٍّ واجتهادٍ بالعمل بما فيه والمحافظة عليه، وإلاّ سقط عليكم هذا الجبل. فلما نظروا الجبل فوقهم كأنه ظلّة خروا ساجدين، كل واحدٍ منهم خَرَّ ساجدًا على شِقِّ جبهته الأيسر، فسجود الواحد منهم بحاجبه الأيسر وعينه اليمنى ناظرة إلى الجبل خوفًا من سقوطه إليه، والتزموا العمل بما في التوراة، فرفع الله عنهم الجبل. وكان سجود اليهود على شِقِّ الجبهة الأيسر يقولون: هذا السجود هو الذي رفع الله عنا بسببه العقوبة، وهذا معنى قوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ}؛ أي: رَفَعْنَا فوقهم الطور

لما امتنعوا أن يقبلوا ما في التوراة {كَأَنَّهُ} أي: الجبل الذي هو الطور {ظُلَّةٌ} كأنه غمامة أو مُزنة تظلهم من فوق رؤوسهم، فخافوا أن يسقط عليهم فالتزموا ما في التوراة. وقوله: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} مَحْكِيُّ قَوْلٍ محذوف، والمقرر في علم العربية: أن حذف القول وبقاء مقوله قياسي مُطَّرد معروف لا تكاد تحصيه في لغة العرب وفي القرآن العظيم، أمّا عكسه -وهو ثبوت القول وحذف المقول- فهو نادر يُحْفَظ ولا يُقَاس عليه. قال بعض علماء العربية: ومنه قول الشاعر (¬1): لَنَحْنُ الأُلى قُلْتْمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ ... بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبَا قال: (قلتم) هنا حذف مقوله، أي: قلتم: نقاتلهم فأنى ملئتم رعبًا منا قبل أن نقاتلكم. وهذا معنى قوله: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم}. {مَا آتَيْنَاكُم} معناه: أعطيناكم في هذا الكتاب المشتمل على خير الدنيا والآخرة، وصيغة الجمع في قوله: {آتَيْنَاكُم} للتعظيم {بِقُوَّةٍ} أي: بعزم وجدٍّ واجتهادٍ. ويُفْهَم من هذه الآية أنَّه يجب على من خوطب بأوامر الله في كتبه المنزلة أن يلتزمها بقوةٍ ونشاطٍ واجتهادٍ، فلا يضعف فيها، ولا يُفَرط فيها؛ لأنها لا تُمْتَثَل على الوجه الأكمل إلا بالقوة والجد والاجتهاد -أعاننا الله على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والقيام بما في كتابه- وهذا معنى قوله: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} وهو هذا الذي آتيناكم؛ يعني: التوراة اذكروا ما فيه من العقائد والأوامر والنواهي، اذكروه ذِكْرَ مدارسة وعمل، فتعلموا ما فيه، ¬

(¬1) البيت في البحر المحيط (5/ 181)، الدر المصون (6/ 247).

واعملوا بما فيه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: لأجل أن تتقوا بذلك سخط الله وعذابه؛ لأن ما يُتقى به سخط الله وعذابه هو معرفة أوامره ونواهيه، واجتناب النواهي وامتثال الأوامر كما هو معروف. وهذا معنى قوله: {وَاذكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: الآيتان 172، 173]. واذكر يا نَبِيَّ اللهِ {وَإِذْ أَخَذَ} حِينَ أَخَذ {رَبُّكَ} جلّ وعلا {رَبُّكَ} معناه: خالقك وسيدك ومدبر شؤونك؛ والرب يطلق في لغة العرب على عشرة معانٍ، منها (¬1): السيد الذي يدبّر الشؤون ويسوس الأمور، تقول العرب: فلان رب هذه البلد؛ أي: سيدها الذي يدبر شؤونها ويسوس أمورها، ومنه قول علقمة بن عَبَدة التميمي (¬2): وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رَبَابَتي ... وقَبْلَكَ رَبَّتْني فَضِعْتُ ربُوبُ أي: سادتني سادة وساسوني. وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} من أولاد أبينا آدم. وقوله: {مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من {مِن بَنِي آدَمَ} بدل بعضٍ من كل. وقوله: {ذُرِّيَّتَهُمْ} قرأ هذا الحرف ابن كثير والكوفيون -أعني عاصمًا، وحمزة، والكسائي-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} بصيغة الإفراد، والذرية بالإفراد تعم، وقرأه نافع، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

وأبو عمرو، وابن عامر: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم} بجمع السلامة. وكلتاهما قراءة صحيحة متواترة ومعناها صحيح (¬1). {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} اختلف العلماء في معنى هذا الأخذ -أخذ الذرية- من ظهور بني آدم على قولين (¬2): فذهبت جماعة من المفسِّرِين إلى أنّ مَعْنَى أخْذِهِم من ظهور بني آدم هو وجودهم قَرْنًا بعد قَرْنٍ، وجيلاً بعد جِيل، على طريق التناسل، والمعنى: أنّ اللهَ خلق بني آدم وخلق من هؤلاء ذرية، فينقضي هذا القرن ويخلق من هذا القرن ذرية كما قال: {كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: آية 133] وعلى هذا القول فالأخذ من ظهورهم: هو استخراج النُّطَف من أصلابهم على طريق التناسل قرنًا بعد قرن. وعلى هذا القول فقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} الذين قالوا هذا القول قالوا: أشهدهم على أنفسهم بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الله نصب لهم من الأدلة الواضحة الظاهرة على كمال قدرته وأنه المعبود وحْدَه ما لا يُحْتَاج معه إلى شيء {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} يعني: أَثْبَتَ لهم ربوبيته واستحقاقه للعبادة بما ركز فيهم من الفِطْرَة والعقول، وما نصب لهم من الأدِلَّة، وعلى هذا القول فقوله: {قَالُواْ بَلَى} قالوا ذلك أيضًا بلسان حالهم، والعرب قد تطلق المقال على مقال لسان الحال، قال بعض العلماء: منه قوله تعالى: ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص216. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 222)، ابن كثير (2/ 261 - 264)، القرطبي (7/ 314)، أحكام أهل الذمة (2/ 523)، فما بعدها، شرح الطحاوية (302 - 316)، الروح لابن القيم (244 - 265)، الأضواء (2/ 335).

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: آية 17] أي: بلسان حالهم -على القول بذلك- ومنه قوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} [العاديات: آية 7] أي: بلسان حاله عند من يقول ذلك. والذين قالوا هذا القول -واختاره غير واحد من المحققين المتأخرين- قالوا: الدليل على أنّ هذا هو المراد أن الله لم يخلق أحدًا من بني آدم ذاكرًا الميثاق ليلة الميثاق وهم كالذر، وما لا يذكره الإنسان لا يكون حجة عليه، وهذا كأنه جعل حجة مستقلة عليه، كما يدل عليه قوله: {شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} [الأعراف: الآيتان 172، 173] فعلى هذا القول فأخذ الذُّرِّيَّات من ظهور بني آدم هو إيجادهم منهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل عن طريق التناسل المعروف. وعلى هذا القول فالإشهاد عليهم بلسان الحال بما نصب لهم من الأدلة، وما ركز فيهم من الفطرة. واختار هذا ابن كثير (¬1)، والزَّمَخْشَرِي (¬2)، وغير واحدٍ من المتأخرين. القول الثاني: وعليه أكثر المتقدمين من السلف، وهو الذي يدل له بعض الأحاديث الصحيحة، والقرآن قد يُرْشِدُ إليه: أنه هو الأخذ يوم الميثاق المعروف، أن الله تبارك وتعالى أخذ من ظهر آدم ومن ظهور ذرياته كل نسمةٍ سبق في عِلْمِهِ أنها مخلوقة إلى يوم القيامة فأخذهم بيده (جلّ وعلا) بعضهم للجَنَّة وبعضهم للنار، وجعل فيهم إدراكًا وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فقالوا: بلى. إلاّ أن هذا العهد لا يولد أحد إلا وهو ناسٍ له، والله (جلّ وعلا) أرسل ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 264). (¬2) الكاشف (2/ 103).

الرسل يُذَكرون بهذا العهد، وما ثبت عن الرسل هو وما حضره الإنسان في التحقيق واحد؛ لأن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن نجزم بوقوعه أشد مما نجزم بما شاهدناه ولاحظناه وتذكرناه. وهذا القول قال به كثير من السلف، ودلت عليه أحاديث كثيرة من أصحها وأدلها عليه ما ثبت في الصحيحين -صحيح البخاري وصحيح مسلم- من حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ اللهُ لأَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عِنْدَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ اللهُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَلاَّ تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ بِي» (¬1) فهذا الحديث ثابتٌ في الصحيحين من حديث أنس، وقد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن عدم الإشراك أُخِذ عليهم وهم في ظهر آدم، فدل ذلك على أن قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أنه استخراج الله لهم، وإشهاده عليهم، ثم ردهم في ظهر أبيهم آدم. ومما يدل على هذا: أن الذين قالوا: إن معنى أخذهم من ظهورهم: هو تناسلهم قرنًا بعد قرنٍ، وجيلاً بعد جيلٍ، أنهم جعلوا ما ركب فيهم من الفطرة السليمة والعقول، وما نصب لهم من الأدلة القطعية كافيًا في قيام الحجة عليهم. والقرآن يدل على عدم صحة هذا القول؛ لأن القرآن العظيم - وهو كلام ربّ العالمين - دل على ¬

(¬1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته، حديث رقم (3334)، وأخرجه في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث رقم: (6538)، (6557). ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب في الكفار، حديث رقم (2805)، (4/ 2160).

أنه لا يُقطع عذر أحد بنصب الأدلة، وتركيز الفطرة، وخلق العقول؛ بل لا ينقطع عذر بني آدم إلا بإرسال الرسل في دار الدنيا، إنذارهم مؤيَّدين بالمعجزات؛ ولذا قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: آية 15] ولم يقل: حتى نخلق عقولاً ونركز أدلة وننصب فطرة. لم يقل شيئًا من هذا، وقال جل وعلا: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: آية 165] فبيّن أن حجة الناس لا يقطعها إلا إعذار الرسل وإنذارهم له. وهذه الحجة التي بَيَّن في سورة النساء أنه أرسل الرسل لقطعها بقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أوضحها في أُخريات سورة طه وأشار لها في القصص، قال في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134)} [طه: آية 134] ولم يقل: لولا خلقت لنا عقولاً، ونَصَبْتَ لنا أدِلَّة، ورَكَّبْتَ فِينا فطرًا، لم يقل شيئًا من هذا. وأشار لها في القصص بقوله: {وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [القصص: آية 47]؛ لأنه قال: {لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} ولم يقل: لولا خلقت لنا عقولاً، وركزت فينا فطرة، ورتبت لنا أدلة. لم يقل شيئًا من هذا. وقد صرَّح (جلّ وعلا) بأن جميع أفواج النّار الذين يدخلونها يوم القيامة أنهم جميعهم أنْذَرَتْهُمُ الرُّسُل في دار الدنيا، وقطعت أعذارهم قبل الموت، وذلك في قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شيء إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)} [الملك: الآيتان 8 - 9]،

فقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} يدل على أن جميع الأفواج التي دخلت النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا. وقد صرّح الله بذلك في سورة الزمر - التي ذكر فيها القيامة كأنك تنظر إليها- قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)} [الزمر: آية 71] وكذلك لما قسم الله (جل وعلا) الخلائق قسمين في سورة فاطر جعل المسلمين ثلاث طوائف في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: آية 32] ثم ذكر الكفار فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: الآيتان 36، 37] فقوله: {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} هو محل الشاهد و {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} عام لما تَقَرَّر في الأصول أنّ صيغ الموصولات أنها من صيغ العموم؛ لأن الموصول من المعلوم أنه يعم كل ما تشمله صلته كما هو معروف في محله (¬1). وهذا معنى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} على القول الأول: بلسان [الحال] (¬2)، وعلى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام. (¬2) وقع للشيخ (رحمه الله) في هذا الموضع سبق لسان، فالعبارة في الأصل: «على القول الأول: بلسان المقال، خلق فيهم عقولاً أدركوا بها {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} أنت ربنا» وقد جرى تصويبه بين المعقوفين [].

الثاني: بلسان [المقال] (¬1) {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} أنت ربنا. واعلموا أن لفظة (بلى) تأتي في القرآن وفي اللغة العربية لِمَعْنَيَيْنِ لا ثالث لهما (¬2): أحد معنيي (بلى) المشهورين في كلام العرب وفي القرآن العظيم: أنّ (بلى) يُجاءُ بها لنفي نفي قبلها، فهي نقيضة (لا)؛ لأن (لا) لنفي الإثبات، و (بلى) لنفي النفي، فَيتقدم قبلها نفي فَيُؤْتَى بـ (بلى) لتنفي ذلك النفي فيصير ما بعدها إثباتًا؛ لأنّ نفي النفي إثبات، وهذا الوجه كثيرٌ في القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: آية 3] نفوا إتيان الساعة فنفى الله نفيهم إياها وأثبته، قال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: آية 3] {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: آية 7] وهذا الوجه كثير في القرآن {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: آية 28]. الوجه الثاني: أن يُؤْتَى بلفظة (بلى) جوابًا لاستفهام مُقْتَرِنٍ بالنَّفْيِ خاصَّةً، ولا يُجاب بـ (بلى) استفهامٌ إلا الاستفهام المقترن بالنفي خاصة، وإذا جاءت (بلى) أحالت ذلك الاستفهام المقترن بالنَّفْيِ إِلَى طريق الإثبات أيضًا، كقوله هنا: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: آية 172] وإذا أجَابَتِ الْعَرَبُ اسْتِفْهَامًا مقترنًا بالنفي بغير (بلى) فإنه ليس على القواعد العربية، فهو يُحفظ ولا يُقاس عليه. قال بعض علماء العربية: ربما أجابت العرب بـ (نعم) سؤالاً مقترنًا بنفي، وهو شاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه. قالوا: ومنه قول الشاعر (¬3): ¬

(¬1) وقع للشيخ (رحمه الله) في هذا الموضع سبق لسان، فالعبارة في الأصل: «على القول الأول: بلسان المقال، خلق فيهم عقولاً أدركوا بها {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} أنت ربنا» وقد جرى تصويبه بين بين المعقوفين []. (¬2) مضى عند تفسير الآية (44) من سورة الأعراف. (¬3) السابق.

أَلَيْسَ الليلُ يَجْمَعُ أم عَمْرو ... وإيانَا فذاكَ لنا تَدَاني نَعَمْ، وَتَرَى الهِلالَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلانِي فالقياس أن يقول هذا الشاعر: «بلى» ولا يقول: «نعم» ولما قال: «نعم» صار يُحفظ ولا يُقاس عليه. وربما أجابت العرب استفهامًا غير مقترنٍ بالنفي بـ (بلى) إذا كان ذلك الاستفهام يُقْصَدُ به الاستبعاد والنفي، وهذا معروف في كلامهم، ولذا لما قال الأخطل يُعَيّر الجَحَّاف (¬1): أَلاَ فاسأل الجَحَّافَ هل أنت ثائرٌ ... بقَتْلَى أُصيبَتْ من نُمير بن عامرِ قال: «هل أنت ثائرٌ» ولكن هذا الاستفهام بـ (هل) يُضَمِّنه معنى: أنه لا يثأر بهم، ولا يقتل قَتَلَتَهم، ففهم ذلك وأجاب بـ (بلى) لأن الأخطل لما قال: أَلاَ فاسأل الجَحَّافَ هل أنت ثائرٌ ... بقَتْلَى أُصيبَتْ من نُمير بن عامرِ أجابه الجَحَّاف بـ (بلى) لينفي النفي الذي ضَمَّنَه في (هل) بقوله (¬2): بلى سَوفَ نبكيهم بكل مُهَنَّدٍ ... ونبكي نُميرًا بالرماحِ الخَوَاطِرِ وهذا معنى قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}. وقوله: {شَهِدْنَا} اختلف العلماء هو مِنْ كلام مَنْ (¬3)؟! فقال بعض العلماء: هو مِنْ كَلام الملائِكَة. ¬

(¬1) ديوان الأخطل ص130. (¬2) البيت في الكامل للمبرد ص624. (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 250)، القرطبي (7/ 318)، شرح الطحاوية ص308.

وقال بعض العلماء: من كلام الله والملائكة. وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: {بَلى} لما استخرجهم في صورة الذَّرِّ لَيْلَة الميثاق، وأخذ عليهم الميثاق، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} أنت ربنا، قال الله والملائكة: {شَهِدْنَا} عليكم بهذا الإيمان وهذا الميثاق الذي التزمتم. {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} وقرأ هذا الحرف عامة القُراء غير أبي عمرو: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} وقرأه أبو عمرو وحده من السبعة: {أن يَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: الآيتان 172، 173] بالياء التحتية الدالة على الغيبة (¬1). والمعنى: أن الله شهد عليهم والملائكة لئلا يقولوا بعد هذا: كنا غافلين عن هذا، أو آباؤنا هم الذين سَنّوا الكفر وجعلوه طريقةً لنا. فإن قيل: هذا لا يُولد أحدٌ إلا وهو ناسٍ له. قلنا: بأن الرسل تُذكرهم به، وتذكير الرسل إياهم به يجعله قطعيًّا كأنهم متذكرون سماعه من الله كما ذَكَرْنَا. وقال بعض العلماء: يشهدُ بعضهم على بعض فيقول هؤلاء: شهدنا عليكم أيها القوم لئلا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. ويقول البعض الآخر لمن شَهدَ عليهم من الآدميين: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص216.

وعلى هذا القول فالشهادة من شهادة بني آدم لما استخرجوا من ظهور آبائهم ليلة الميثاق في صورة الذر يشهد بعضهم على بعض، وهذا معنى قوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لم نعلم. {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} أولادًا سرنا على ما كان عليه آباؤنا، ولم نخترع الكفر، ولم نتخذه طريقًا {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: آية 173] قد قدّمنا مرارًا (¬1) أنه إذا جاءت همزة استفهام بعدها أداة عطف كالفاء، والواو، وثم أنها فيها وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن همزة الاستفهام تتعلق بمحذوف، والفاء عاطفة عليه. وهذا الذي مال إليه ابن مالك في الخلاصة حيث قال (¬2): وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ ... ............................... وعلى هذا القول: أتعاملنا بغير ما فعلنا فتهلكنا بما فعل المبطلون؟ وقال بعض العلماء: همزة الاستفهام أصْلُهَا بعد الفاء، إلا أن للاستفهام صدر الكلام، فتَزَحْلَقَتِ الهمزة قبل الفاء، والفاء قبل الهمزة في الرُّتْبَة، فتكون الفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها، والأول أظهر. وهذا معنى قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

المبطلون: هم الذين يأتون بالباطل وهو ضِدّ الحق، الذين عبدوا غير الله (جلّ وعلا). وهذا معنى قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: آية 173]. {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} وكذلك التفصيل الواضح. الكاف في محل وصفٍ لمصدر، أي: نُفَصِّل الآيات تفصيلاً كذلك التفصيل الواضح، كما بَيَّنَّا أخبار هذه الأمم، وما جَرَى عليها، وسبب إهلاك مَنْ هَلَكَ منها، ونجاة مَنْ نَجا منها. والتفصيل ضِدّ الإجْمَالِ {نُفَصِّلُ الآيَاتِ} ونُوَضِّحُهَا كذلك التفصيل {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ولأجل أن يرجعوا إلى طريق الهدى فَصَّلنَاهَا ذلك التفصيل. فالظاهر أنّ متعلق الجملة محذوف، أي: ولأجل أن يرجعوا فَصَّلْنَاها ذلك التفصيل ليعتبروا به ويهتدوا به فينيبوا. وهذا معنى قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} [الأعراف: آية 174]. [24/أ] / قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177)} [الأعراف: الآيات 175 - 177]. {اتل} معناه: اقرأ عليهم يا نَبِيَّ الله. نبأ: أي خَبَرَ هَذَا الذي آتيناه آيَاتِنَا فانْسَلَخَ منها. وهذا الذي آتاه الله آياته أكثر المفسرين يقولون (¬1): إنه رَجُل مِنْ بَنِي إسرائيل. وبعض العلماء يقول: هو ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 252)، القرطبي (7/ 319)، ابن كثير (2/ 264).

رجل من الكنْعَانيِّين الجبارين الذين أُمر الإسرائيليون بقتالهم. واعلموا أن قول من قال من العلماء إن معنى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}: آتيناه النبوة. أنه قول باطل لا يُشك في بطلانه، كما أوْضَحه الماوردي وغيره (¬1)؛ لأن الأنبياء لا يفعلون هذه الأفعال ولا يَنْسَلِخُون من آيات الله؛ لأن الله لم يجعل نبوّته إلا في مَنْ يَعْلَم أنَّه أهل لها، كما قدمنا إيضاحه في الأنْعَام في الكلام على قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاته} [الأنعام: آية 124] على إحدى القراءتين (¬2)، وهي أخبار إسرائيلية لم يدل شيء على صحة تعيين هذا {الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} وأكثر المفسرين والمؤرخين يقولون: إنّه رجل من بني إسرائيل يُقال له: بلعام بن باعوراء. وبعضهم يقول: بلعم بن باعر، وفيه غير ذلك. ومعنى {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} لا يقتضي النبوة، فكل من أُعطي شيئًا مِنْ كِتَابِ الله بواسطة نبي من الأنبياء فقد أُوتي الكتاب، وقد قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: آية 4] وهم ليسوا أنبياء، وقال في هذه الأمّة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: آية 32] {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [البقرة: آية 63] فإنّ إيتاء الآيات قد يكون بالأخذ عن الرسل. والمفسرون يقولون: إن هذا الرجل الذي هو بلعام بن باعوراء -قبّحه الله- ويقال: بلعم بن باعوراء، أو ابن باعر، أو غير ذلك أنه أعطاه الله الاسم الأعظم، وبعضهم يقول: علمه الله شيئًا من كتبه المنزّلة، فكان يعلم ¬

(¬1) النكت والعيون (2/ 279). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص186، الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 449) وراجع منه ص415.

بعض كتب الله التي أنزلها. وهذا معنى {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} سواء قلنا: إن الله علّمه بعض الكتب المنزلة، أو أنه علّمه الاسم الأعظم. {فَانسَلَخَ مِنْهَا} -والعياذ بالله- انسلخ منها: خرج منها -والعياذ بالله- ولم يعلق به شيء منها. والمفسرون يقولون: إنه بلعام بن باعوراء، وأنه أغراه الكنعانيون الجبارون بالمال فقالوا له: ادع على نبيّ الله موسى وقومه -مع أنّ نبيّ الله موسى الذي يذكر المفسرون أنه مات في التيه، وأنّ الذي دَخَلَ القرية وفتح الله على يَدَيْهِ يوشع بن نون وهم يزعمون في قصته أنهم أمروه أنْ يدعو على موسى- فقال: كيف أدعو على مَنْ مَعَهُ الملائكة؟ ولم يزالوا به يغرونه بالمال حتى دعا على موسى. وبعض العلماء يقول: إنه دعا على موسى كان ذلك سبب التيه، وهذا بعيد جدًّا. فعلى كل حال يقولون: إنه دعا على نبيّ الله موسى، فلما أراد أنْ يدعو عليه حوّل الله دُعَاءَهُ على القوم الذين يريدونه أنْ يدعو على موسى، فقالوا: دَعَوْتَ عَلَيْنَا. فقال: ما أقدر على غير هذا. وقال بعض العلماء: إنه كان له ثلاث دعوات مُجَابَة أعطاه الله إياها، وأنه كان يعلم الاسم الأعظم فأعطاه الله ثلاث دعوات -وكل هذه إسرائيليات- يزعمون أن هذه الدعوات الثلاث المجابة أنه ضيّعها في امرأته كانت من أقبح نساء بني إسرائيل فلم تزل به حتى دعا الله أنْ يجعلها أجمل امرأة، فدعا الله فصارت أجمل امرأة، فلما بلغت هذا الجمال تكبَّرَتْ عنه وطلبت غيره، فدعا الله عليها فصارت كلبة نبّاحة، فآذى ذلك أولادها، ولم يزالوا به حتى دعا الله عليها أنْ

يرجعها إلى حالتها الأولى، فذهبت الدعوات كلها. وهذه إسرائيليات لا معوَّل عليها، يذكرها المفسرون. وقال بعض العلماء: أغروا امرأته بالمال فلم تزل به حتى دعا على نبيّ الله موسى، وأنه لما دعا عليه اندلع لسانه فصار على صدره، وصار يلهث كما يلهث الكلب، وأنه قال لهم: إنه - والعياذ بالله خسر الدنيا والآخرة قال لهم-: لم يبق إلا المكر والحيلة؛ إن الله يبغض الزنا، فأرسلوا النساء متزينات إلى بني إسرائيل فإنْ زنوا أهلكهم الله. فأرسلوا لهم النساء فيما يزعمون فوقع منهم الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون. وغير هذا من روايات كثيرة إسرائيلية يحكيها المفسرون في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف لا طائل تحتها ولا دليل على شيء منها (¬1). وكان بعض العلماء يقول (¬2): هذه الآية الكريمة تدل على أنّه لا ينبغي للإنسان أن يقلّد غير معصوم ويثق به كل الثقة؛ لأن هذا الإنسان ذكر الله أنه آتاه آياته وبعد ذلك صار مآله إلى أخس مآل وأقبحه -والعياذ بالله- حيث قال: {فَانسَلَخَ مِنْهَا}. وقال بعض العلماء: هذه الآية نزلت في أميّة بن أبي الصلت الثَّقَفِي، وكان يقرأ الكتاب الأوّل، ويتعلم من الكتب الأولى، وكان يعلم عن الله بعض كتبه، وكان يعلم بأن جزيرة العرب سيُبعث فيها نبيّ، وكان يرجو أن يكون هو ذلك النبي، فلما بَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر. وقصة استنشاد النبيّ أخته الفارعة لشعره مشهورة في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (159) من سورة الأعراف. (¬2) انظر: القرطبي (7/ 323).

التاريخ معروفة، ويذكر المؤرخون أنّ النبيّ لما حَكَت عليه شِعْرَهُ قال: آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ (¬1). والله تعالى أعلم. وبعض العلماء يقول: نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب ابن صيفيّ (قبّحَهُ اللهُ). وأبو عامر هذا رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ هو: والد حَنْظَلَةَ الغِسِّيل (رضي الله عنه وأرْضَاه)، الذي يذكر الإخباريّون وأصحاب المغازي أنّ الملائكة غَسَّلَتْهُ يَوْمَ أُحُدٍ؛ لأنه كان قَرِيب عرس بتزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وأنّه كان يغتسل فاستخفّه القتال فلم يكمل غسله، فمات شهيدًا يوم أُحد، وأن الملائكة غسلته (¬2). هكذا يقول أصحاب المغازي والأخباريون. ¬

(¬1) الرواية التي فيها استنشاد النبي صلى الله عليه وسلم شعره، وأنه قال فيه: «فلقد كاد يُسلم في شعره» أخرجها مسلم في الشعر، حديث رقم (2255)، (4/ 1767)، من حديث الشريد رضي الله عنه. وأما رواية: «آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ» فقد أخرجها ابن عبد البر في التمهيد (4/ 7)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (9/ 272)، عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت: «آمن شعره وكفر قلبه»؟ إلخ. وأخرجه الفاكهي في أخبار مكة (1973)، (3/ 168) من وجه آخر من طريق هشام بن الكلبي عن أبيه. وقال الحافظ في الإصابة (4/ 376): ((وأخرج القصة - قصة قدوم أخته الفارعة على النبي صلى الله عليه وسلم - الفاكهي في كتاب مكة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مطولة. وقد نقلها الثعلبي في تفسيره، وفيها أنها أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم عدة قصائد من شعره ... فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((آمن شعره وكفر قلبه)) ا. هـ. وانظر تفسير الثعلبي (4/ 306 - 307). قلت: لم أقف في أخبار مكة في الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يتعلق بقدومها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: ((آمن شعره وكفر قلبه)). وإنما روى واقعة أٌخرى، انظر: أخبار مكة (1970، 1971)، (3/ 166). والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير (فيض القدير) (1/ 57)، وعزاه لأبي بكر الأنباري في المصاحف، والخطيب وابن عساكر ورمز له بالضعف. وقال المناوي في الفيض (1/ 59): «ورواه عنه أيضًا الفاكهي وابن منده» اهـ. وقال في أسنى المطالب ص31: «رواه الخطيب وهو ضعيف» اهـ. وأما خَبَر قُدوم أُخته الفَارِعة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد ساقه الخطابي بإسناده في كتابه غريب الحديث (1/ 444) عن ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 388) من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن شهاب، عن سعيد بن المسيب (مرسلاً). قال الحافظ في الإصابة (4/ 375 - 376): ((وأخرج القصة أبو نُعيم من طريق ثعلب، عن ابن الأعربي، قال: قال ابن إسحاق بهذا السند نحوه. وأخرجها ابن أبي عاصم، وابن مَنْدَه، من طريق إبراهيم بن محمد بن يحيى السِّجْزِي، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس ... قال الحافظ: وفي السند إلى ابن إسحاق ضعف ... )) ا. هـ. (¬2) أخرجه الإمام قوام السنة الأصبهاني في دلائل النبوة (1/ 110)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 357)، من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. كما أخرجه البيهقي (4/ 15)، والحاكم (3/ 204)، وقال: «صحيح على شرط مسلم» اهـ. وأخرجه ابن حبان (الإحسان) (9/ 84)، من حديث يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده. وأخرجه البيهقي (4/ 15)، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وعامر الشعبي مرسلاً.

فوالده هو أبو عامر هذا الخبيث الذي يُقال له: أبو عامر الراهب، وهو الذي حفر الحفر في الميدان يوم أُحد التي جاء النبي في واحدة منها وانتشله منها عَلِيّ بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله، كما هو مذكور في المغازي في غزوة أحد (¬1). كان هذا الخبيث أبو عامر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّه على دين إبراهيم. فبيّن له النبي -فيما يذكرون- أنّه على الحنيفية بعد التغيير. وأنّه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أمات الكاذب منا وحيدًا طريدًا (¬2). وسافر إلى الشام، وراح إلى بعض الملوك يريد جيشًا يُخرج به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وهو الذي أوعز للمنافقين أنْ يبنوا له مسجد الضرار بقباء ليدبروا الشؤون فيه. وهو المذكور في قوله: {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} [التوبة: آية 107] هو أبو عامر هذا (¬3). وقول من قال: إنّ آية الأعراف هذه في أمية بن أبي الصلت أو أبي عامر الراهب كله لا دليل عليه، وأكثر المفسرين يقولون: إنها في رجل علَّمه الله علم الكتاب من بني إسرائيل. وشذ قوم فقالوا: من الكنعانيين. وهذا معنى قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}. ¬

(¬1) المغازي (1/ 244)، ابن هشام ص620 - 621. (¬2) ذكره ابن هشام في السيرة ص620 - 621، وأبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 93 - 94). (¬3) أخرجه ابن جرير (14/ 470)، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.

{آيَاتِنَا} هنا: آيات كتابه الشرعية. {فَانسَلَخَ مِنْهَا}: خرج منها والعياذ بالله كما تنسلخ الحيّة من ثَوْبِهَا، ولم يعلق به منها شيء. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} العرب تقول: «أَتْبعه وتبعه واتَّبعه» بمعنى واحد ومعنى: (أتبعه الشيطان): اتّبعه الشيطان حتى لحق به وأدركه وجعله قرينًا له يذهب معه حيث يذهب. هذا معنى قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}. والشيطان في لغة العرب (¬1): هو كل عات متمرِّد، فكل من كان عاتيًا متمردًا فهو شيطان في لسان العرب، سواء كان من الجن أو من الإنس، أو من غيرهما. وجاء في القرآن العظيم: إطلاق الشياطين على العتاة المتمردين من الإنس والجنّ، كما قال جل وعلا: {شياطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: آية 112] وقال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شياطِينِهِمْ} [البقرة: آية 14] أي: رؤسائهم وعتاتهم المتمردين، وفي الحديث: «الكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» (¬2) وقد قال جرير وهو عربي قحّ (¬3): أَيَّامَ يَدعُونني الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَني إِذْ كُنْتُ شَيْطَانًا يعني: عاتيًا مُتَمَرِّدًا. واختلف العلماء في وزن الشَّيْطَان بالميزان الصرفي على قولين (¬4) أشار إلى كل واحد منهما سيبويه في كتابه، فقال المحققون: وزن الشيطان: (فَيْعَال) بالميزان الصرفي، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

فالزائد فيه: الياء والألف. وحروفه الصحيحة: الشين في مكان الفاء، والطاء في مكان العين، والنون في مكان اللام (شَطَن) وأنّ هذا أصله، وأن اشتقاق المادة من البُعد؛ لأنّه بعيد من رحمة الله تعالى غاية البُعد، والعرب تقول: نوىً شطون. أي: بعيد، وبئر شطون: بعيدة القعر، ومن هذا المعنى قول الشاعر (¬1): نَأتْ بِسُعَادَ عنكَ نَوىً شَطُون ... فبانتْ والفؤادُ بها حَزِينِ ويؤيد هذا القول - أن وزن الشيطان بالميزان الصرفي (فَيعَال) وأنه من (شَطَنَ) - قول أمية بن أبي الصلت، وهو عربي قح فصيح (¬2): أيُّما شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ... ثم يُلقَى في السِّجْنِ والأَكْبالِ فصرح عن الشيطان بالشاطن، وهو اسم فاعل (شطَن) من غير نزاع. وقال قوم آخرون -وأشار له الشيخ عمرو أعني سيبويه في موضع من كتابه (¬3) - بأن وزن الشيطان (فَعْلاَن) وأن الألف والنون زائدتان، وعلى هذا فأصله من (شَاطَ) فعلى هذا القول ففاء المادة شين، وعينها ياء، ولامها طاء. من (شاط) وأصله: (شيط) والعرب تقول: «شاط يشيط». إذا هلك؛ لأن الشيطان هالك لبعده عن رحمة الله. ومِن شاط بمعنى هلك قول الأعشى في شعره (¬4): ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام. (¬4) السابق.

قَدْ نُخْضِبُ العِيرَ من مَكنُونِ فَائِلِهِ ... وقد يَشِيطُ على أَرْمَاحِنَا البَطَلُ أي: يهلك. وهذا معنى قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: آية 175]. الظاهر أن (كان) هنا بمعنى (صار) وقد تَقَرَّرَ في علم العربية: أن (كان) تطلق ويراد بها صار. ومعنى قوله: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} صار من الكافرين. وإطلاق (كان) بمعنى (صار) إطلاق معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬1): بتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمُطي كأنَّها ... قَطَا الحَزْنِ قد كانت فِرَاخًا بُيوضُهَا يعني: قد صارت فراخًا بيوضها. و {الْغَاوِينَ} جمع الغاوي، والغاوي: صاحب الغي، والغي: الضلال (والعياذ بالله) فكان من الضالين أشد الضلال. ثم قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: آية 176] القاعدة المقررة في علم العربية: أن فعل المشيئة إذا قُرن بالشرط حذف مفعوله؛ لأن جزاء الشرط يغني عن المفعول، فالمفعول محذوف، والأصل: ولو شئنا رفعه بها لرفعناه بها. ولا تكاد العرب تنطق بالمفعول -مفعول فعل الإرادة مع ربطه بالجزاء- وقد يذكر نادرًا، وجاء ذكر المفعول في مواضع من القرآن مع أنه مصدر منسبك من (أن) وصلتها في آيات غير كثيرة، كقوله جل وعلا: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى} [الزمر: آية 4] فجملة {أَنْ يَتَّخِذَ} في محل مفعول (أراد) ولم يَكْتَف هنا بجزاء الشرط، ونحو ذلك من الآيات. ¬

(¬1) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي. وهو في المقتصد في شرح الإيضاح (1/ 402)، اللسان (مادة: عرض) (2/ 745).

وهذا معنى قوله: {وَلَوْ شِئْنَا} رفعه بها {لَرَفَعْنَاهُ} لو شئنا رفع هذا الذي آتيناه آياتنا بتلك الآيات لوفقناه للعمل بها فعمل بها حتى مات عليها فكان مرفوع الدرجة رفيع الذكر في الدنيا والآخرة. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ معناه: ركن ومال إلى لَذَّاتِ الدّنْيَا وحطامها وشهواتها فآثَرَها على آيات الله فسَلَخَهُ الله من آياته (والعياذ بالله). والعرب تقول: أخلد إلى الشيء: إذا رَكَنَ ومَالَ إلَيْهِ، وأصل الإخلاد: هو ملازمة الشيء والدوام فيه. فالعرب تقول: أخلد بهذا المكان: إذا لازَمَهُ ودَامَ فِيه، وهو معنى معروف في كلامها (¬1)، ومنه قول زهير بن أبي سُلمى (¬2): لِمَنِ الدِّيَارُ غَشَيْتُهَا بِالْفَدْفَدِ ... كَالْوَحْي في حَجَرِ المَسِيلِ المُخْلِدِ أي: اللازم محله. وهذا معنى قوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الهوى بفتحتين: مَيلُ النفس، ولا يكاد يطلق إلا على ميلها لما لا ينبغي، وقد يُطلق في غير ذلك (¬3). واتباع الهوى (والعياذ بالله) هو أعظم الآفات. ثم إن الله ضربه مثلاً قال: {فَمَثَلُهُ} أي: فصفته (والعياذ بالله) في خساسته وقبحه وملازمته الخساسة في جميع الأحوال {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} وهو الحيوان المعروف. وجملة: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} جملة شرطية، وهي في محل نصب في موضع الحال على ما حَقَّقَهُ بَعْض علماء العربية مِنْ أَنَّهُ لا مَانِعَ مِنْ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 270). (¬2) مضى عند تفسير الآية (160) من سورة الأعراف. (¬3) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة الأنعام.

أَنْ تَأْتِيَ الجُمَل الشَّرْطِية أحوالاً (¬1). المعنى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} في حال كون الكلب مُتَّصِفًا بأخس حالاته وهو مُدَاوَمَتُهُ اللَّهْث في جميع حالاته. {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} معنى {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} إن تشد عليه وتطرده وتُجْهِده يلهث وإن {تَتْرُكْهُ} في رخاء ودَعة {يَلْهَثْ} والعرب تقول: لَهَثَ الكلب -بفتح الهاء- يَلْهَث -بفتحها؛ لأنه حَلْقِي العين- لَهْثًا ولُهاثًا: إذا فتح فاه ومَدَّ لسانه وصار يلهث، يطلع النَّفَسَ ويردها بقوة كفعل الذي أصابه إعياء وتَعَبٌ شَدِيد. وجميع الحيوانات لا يلهث شيء منها إلا إذا أصابه إِعْيَاء شديد، أو تعب شديد، أو عطش شديد، إلا الكلب وحده فإنه يلهث دائمًا، في حالة الرِّيّ يَلْهَث، وفي حالة العطش يلهث، وفي حالة الشد عليه والطرد والتعب يلهث، وفي حالة الرَّخَاءِ يَلْهَث، فهو يلازم اللهْث في جميع حالاته (¬2). واللهث مِنْ أخَسّ حالاته؛ لأنه فاتِحٌ فاه، مادٌّ لِسَانَهُ، يُطْلعِ النَّفَس وينزلها بقوة، وهذه مِنْ أخسّ الحالات وأقبحها، فضربه الله مثلاً لهذا الكافر، إن وَعَظْتَهُ وذَكَّرْتَهُ بآيات الله فهو كافر لا محالَةَ، لا يسمع ولا يتَّعِظ، كلهث ذلك الكلب في حالة الرخاء وعدم العطش. {تَتْرُكْهُ يَلْهَث} إن وعظته لم يَتَّعِظْ، وإن تَرَكْتَهُ لم يَتَّعِظْ، فهو ملازم -والعياذ بالله- كفرانه وعصيانه على جميع الحالات. وهو في أخس تلك الحالات كالْكَلْبِ الذي يلازم لهثَهُ في جميع الأحوال، وهي حالة من أخس حالاته والعرب تُسَمِّي الذي أصابه شيء حتى بَهَظَه تقول: هذا لاهث، وتقول: فلان ملجأ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 516). (¬2) انظر: القرطبي (7/ 322)، الدر المصون (5/ 517).

للاهث. معناه: ملجأ للمحزوب المحْزُون الذي فَدَحَه الأمر، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الشاعر وهو بعض الأزْدِيّين (¬1): فنِعْمَ فتى الجُلَّى ومُسْتَنْبَط النَّدى ... ومَلْجَأ محْزُوبٍ ومَفْزَع لاهِثِ. عِيَاذُ بْنُ عَمْرِو بن الحُلَيْس بن جَابِر ... ابْن زَيْدِ بْنِ مَنْظُور بن زيد بنِ وَارِثِ وهذا من تتابع الأعلام، ويسميه البلاغيون في البديع: اطرادًا. وشاهده المشهور عندهم قول الشاعر (¬2): إنْ يقتلوكَ فقد ثَلَلْتُ عروشَهُم ... بعتيبةَ بن الحارثِ بن شهابِ والمعنى: أن هذا الخبيث الكافر ضُرب له المثل بالكلب في أخس حالاته، فكما أن الكلب لا يفارق هذه الحالة الخسيسة مِنْ فَتْحِ فِيهِ وَمَدّ لِسَانِهِ وإِخْرَاج النفس بقوة فكذلك هذا الكافر لا يفارق هذه الحالة الخسيسة من الكفر وعدم الاتعاظ في جميع أحواله، إن وَعَظْتَه لا يَتَّعِظُ، وإِنْ تَرَكْتَهُ فكذلك، كما أن الكَلْبَ إذا شددت عليه وطردته وأتعبته -وهو معنى: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} - لهث، وإن تركته في رخاء ودعة لهث، فهو مُتَّصِفٌ بهذه الحالة القبيحة على كل حال. وكذلك هذا الخبيث متصف بتلك الحال القبيحة على كل حال. هذا معنى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}. وأما قول من قال: إن بلعام بن باعوراء لما دعا على نبي الله ¬

(¬1) البيتان لابن دريد، وهما في ديوانه ص104. (¬2) البيت في البحر المحيط (2/ 285)، الدر المصون (2/ 560)، فتح القدير (2/ 211).

موسى اندلع لسانه فصار على صدره، فصار لسانه متدليًا - كلسان الكلب - يلهث كلهاث الكلب، وأن هذا معنى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ... } الآية. هذا التفسير غير صحيح، بل الصحيح أنه مثل مضروب كما بيّنَّا، ويدل عليه قوله: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} {مَثَلُ الْقَوْمِ} وصفتهم {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} في ملازمتهم حالة الكفر والتكذيب القبيحة كمثل هذا الكلب في ملازمته حالة اللهث القبيحة في جميع أحواله. {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} {فَاقْصُصِ} معناه: اقصص عليهم يا نبي الله {الْقَصَصَ} أي: هذا الخبر كخبر بلعام بن باعوراء وغيره {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: لأجل أن يتفكروا ويُعملوا أفكارهم فيتعظوا بمثلات الله وما أوقعه بالذين عصوه في الزمن الماضي لينزجروا وينكفوا. وهذا معنى قوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: آية 176]. وقوله: {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ} (ساء) بمعنى: بئس. و (مثلاً) مُمَيِّز. و (القوم) فاعل بئس (¬1) {مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ساء مثلهم والعياذ بالله؛ لأنه مثل السوء {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ (¬2) كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: آية 177]. يقول الله (جل وعلا): {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ¬

(¬1) هذا الإعراب لا يخلو من إشكال، وللوقوف على كلام المعربين انظر: القرطبي (7/ 324)، البحر المحيط (4/ 425)، الدر المصون (5/ 518). (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وبقية الآية معروفة.

الْغَافِلُونَ (179) وَلله الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)} [الأعراف: الآيات 178 - 186]. {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: آية 178] لما ذكر (جل وعلا) قصة الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها -والعياذ بالله- وبيّن أنه لو شاء رفعه بتلك الآيات وهداه إلى العمل بها في قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} صرَّح بأن المهتدي هو من هداه الله، والضال هو مَنْ أضَلَّه الله {مَن يَهْدِ اللَّهُ} الأصل: من يهده الله. فحذف المفعول لدلالة المقام عليه. {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} والمهتدي هو السالك طريق الهدى التي تستلزم رضا الله ونيل ما عنده من الرضوان والجنات. {وَمَن يُضْلِلْ} حذف المفعول أيضًا و «مَن» شرطية في الموضعين، أي: ومن يضلله الله. مضارع أَضَلَّه يَضِلُّه إضلالاً. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن بكثرة حجة على القدرية الزاعمين أن الله لا يضل أحدًا، فقد تكلمنا في هذه الدروس مرارًا على مسألة القدر (¬1)، وأن التحقيق أنه لا تقع في الكون تسكينة ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

ولا تحريكة إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض -جل وعلا- والعباد لا يخلقون أعمالهم بل ما يشاءون إلا أن يشاء الله، كما صرح الله به، والقدرية على كثرتهم وكثرة حججهم وجدالهم يأتون بشبه فلسفية يزعمون أنهم ينزهون الله بها، وهم يقعون في أعظم مما فروا منه بأضعاف، يقولون: إن الله أعظم وأنزه وأَجَلّ وأكرم من أن يريد الإضلال والقبائح والمعاصي. قالوا: فهو أَجَلُّ وأعظم وأكرم وأنْزَهُ من أن يكون الزنا بمشيئته، وأن تكون السرقة بمشيئته ونحو ذلك. فأرادوا أن ينزهوه عن أن يشاء السرقة والزنا والإضلال والقبائح، ووقعوا في الداهية الكبرى والطامة العظمى، هو أنهم جعلوا بعض خلق الله إلى غيره من خلقه، وجعلوا أن المكلف يخلق أعمال نفسه، فصارت عندهم أعمال المكلفين ليست بمشيئة الله، فسلبوه ملكه وقَدَره ومشيئته وكل شيء، قبحهم الله! والتحقيق في هذه المسألة: أن الله (جل وعلا) سبق في علمه وسابق أزله أن بعض من يخلقهم مجبولون على الخبث، وأنه سيشاء منهم أن يشاءوا أعمال أهل النار حتى يدخلوها، وأن قومًا آخرين قوم طيبون، وأنه يشاء منهم أن يعملوا أعمال أهل الجنة فيدخلوها، ثم إن الله (جل وعلا) يصرف بقدرته ومشيئته مشيئة العبد وقدرته حتى يأتي العبد ما سبق له في كتابه من شقاوة أو سعادة يأتيه طائعًا مختارًا {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: آية 30] فلو فرضنا أن قدريًّا قال لسنّي: هذه الأعمال كتبها الله في سابق الأزل وجفت الأقلام وطُويت الصحف، أو هو شيء مُستأنف؟ فمذهب أهل السنة والجماعة -وهو الحق- هو إثبات القدر، وأن كل شيء قضاه الله وقدَّره، وأن الكائنات صائرة إلى ما شاءه الله وقدَّرَه (جل وعلا)، وأنه خلق خلقًا

وقال: هؤلاء للنار ولا أُبالي، وخلق للجنة خلقًا، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (¬1) والله يقول: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: آية 47] مثلاً لو قال القدري: هذه المعاصي والذنوب التي كانت سبب كونه في النار، قال البعيد: قدرها الله عليه، وسبق في علمه أنه مرتكبها، وأنه هو لو شاء لقلب العِلْم الأوَّل السابق في ذلك جهلاً لا يمكنه ذلك فما شاءه الله وعلمه وقدره في الأزل واقع لا محالة. فيقول البعيد: هو إذن مجبور. فإن السني يقول له: جميع الأسباب التي أعطاها الله للمهتدين أعطاك مثلها، فالعيون التي أبصروا بها آياته حتى آمنوا أعطاك عينين مثلها، والقلوب التي فهموا بها عن الله آياته حتى اهتدوا أعطاك مثلها، والآذان التي سمعوا بها آيات الله واتعظوا بها حتى اهتدوا أعطاك مثلها، ولكن وقع التفاوت في شيء واحد: وهو أن الله (جل وعلا) وفق هؤلاء لما يرضيه، وصرف قدرتهم ومشيئتهم بقدرته وإرادته إلى عمل أهل الجنة، وأنت لم يوفقك لما يرضيه، وهذا التوفيق ليس واجبًا لك عليه حتى تدعي عليه أنه ظلمك!! وقد ذكرنا مرارًا (¬2) أن هذا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في القدر، باب حجاج آدم وموسى (عليهما السلام) حديث رقم: (2653)، (4/ 2044). ولفظه عند مسلم: «كتب الله مقادير الخلائق ... ». وفي لفظ عند البيهقي في الأسماء والصفات: «قدر الله المقادير ... » وفي لفظ: «فرغ الله (عز وجل) من المقادير وأمور الدنيا ... ». (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

أَوْضَحَتْهُ مناظرة أبي إسحاق الإسفراييني مع عبد الجبار - من كبار المعتزلة القدريين القائلين بهذا المذهب - وأن عبد الجبار جاء يتقرب بهذا المذهب فقال عند أبي إسحاق: سبحان من تَنَزَّه عن الفحشاء! يعني أنه تَنَزَّهَ عن أن تكون السرقة والزنا ونحوها بمشيئته. فقال أبو إسحاق: كلمة حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطل. ثم قال أبو إسحاق: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرًا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني لِلْهُدَى وقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى، دَعَاني وَسَدَّ الباب دوني أتراه أحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أسَاءَ؟ قال أبو إسحاق: أرى هذا الذي منعكه إن كان حقًّا واجبًا لك عليه فقد ظَلَمَك وقد أساء، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. فبُهِتَ عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب!! ولذا قال تعالى: {قُلْ فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: آية 149] مَنُّهُ بالتوفيق على قوم وعدم مَنِّهِ بالتوفيق على آخرين حجته البالغة. وذكروا أن عَمْرَو بن عبيد -كبير المعتزلة، المشهور بالعبادة والنسك، وهو من كبار أهل هذا المذهب الخبيث- جاءه بدوي أعْرَابي يقول له: إنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ. يريد أن يدعو الله ليردها عليه، فأراد عمرو بن عبيد التقرب بهذا المذهب الخبيث فقال: اللهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ ترد سرقتها فارْدُدْهَا عليه. فقال له الأعرابي البَدَوِيّ

الجاهل: ناشدتك اللهَ يَا هَذا إلا ما كففت عني من دُعَائِكَ الخبيث، إن كانت قد سُرقت ولم يُرد سرقتها فقد يريد ردها ولا تُرد (¬1)، فالذي يُفعل الشيء دونه ولا بمشيئته فأنا لست على ثقة منه أن بيده شيئًا. فالحاصل أنهم وقعوا في شَرٍّ مما فَرّوا منه. والدليل القاطع الذي لا يترك لهم شبهة هو دليل العلم، وإيضاح ذلك أنك تقول للمعْتَزلي القدري إذا ناظرته: هل أنت مقر بأن الله (جل وعلا) يعلم ما يكون قبل أن يكون؟ فلا بد أن يقول: نعم؛ لأن كل من يقر بالإسلام يقر بهذا. فتقول له: إذن هذا العمل الذي زعمت أن العبد يخلقه بقدرته وإرادته من غير مشيئة لله آلله عالم أنه يقع من هذا العبد؟ فيقول: نعم. فقل له: لو شاء العبد أن يعمل ذلك العمل ويستقل به مخالفًا لما سبق به علم الله الأزلي [فهل يمكنه ذلك؟] (¬2) فقولك إنه مستقل به يقتضي أنه يمكنه أن يعمل عملاً مستقلاً غير ما سبق به العلم، فينقلب علم الله جهلاً -سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون الفجرة علوًّا كبيرًا- فإذن لا بُدَّ أن يكون العمل مطابقًا لما سبق به علم خالق السماوات والأرض في أزَلِهِ. فالحاصل أن الله (تبارك وتعالى) خلق للنار خلقًا علم أنهم من أهل النار وأنها أولى بهم، وخلق للجنة خلقًا علم في أزَلِهِ بأنَّهُمْ أهْل لها، ثم إن الله (تبارك وتعالى) يُيَسِّر كُلاً من الفريقين لما خلقه له، فيعمل هؤلاء بعمل أهل الجنة حتى يدخلوها، وهؤلاء بعمل أهل النار حتى يدخلوها، وقد جاءت أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) السابق. (¬2) ما بين المعقوين [] زيادة يقتضيها السياق.

بمثل هذا، منها حديث عمران بن حصين المتفق عليه المشهور أنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن الأمر قُضي وفُرغ منه قالوا له: ففيم العمل؟ أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (¬1) فالله (جل وعلا) لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته، يَصْرف قُدر قَوْمٍ وإراداتهم إلى ما هو أليق بهم، ويَصْرف قُدر قوم وإراداتهم إلى ما هو أليق بهم فيعمل هؤلاء بعمل أهل الجنة، وهؤلاء بعمل أهل النار، وإنما كان ذلك من حكمته (جل وعلا) لتظهر بذلك أسرار أسمائه وصفاته في خلقه؛ لأنه لو لم يصرف قدرة قوم ومشيئتهم إلى ما لا يرضيه حتى يعذبهم لم يظهر بطشه وقوته وشدة نكاله التي تستوجب الخوف منه، فخلق قومًا فَصَرَفَ قُدرهم وإراداتهم لما يستوجبون به النار ليظهر بذلك سر أسمائه وصفاته، من جبروته وقوَّتِهِ وبطشه وشدة عذابه ليخافه خلقه، وصَرَفَ قُدَرَ قوم وإراداتهم إلى ما يستوجبون به جنته ليظهر بذلك أسرار بعض أسمائه وصفاته من رحمته ولطفه وعدله (جل وعلا) وغير ذلك؛ ولذا قال: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: آية 178] من أضله الله فقد ضل (والعياذ بالله)، وكل الناس ضال إلا مَنْ هَدَاهُ الله، ولا مهتد إلا مَنْ هَدَاه الله. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬2) أن لفظ الضلال يطلق في القرآن العظيم وفي اللغة العربية إطلاقات مشهورة معروفة، من أشهرها ثلاثة إطلاقات معروفة في القرآن وفي كلام العرب: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

منها: إطلاق الضلال على الضلال عن طريق الهدى إلى طريق الزيغ، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، كما في هذه الآية {وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ومنه قوله تعالى: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: آية 7] وقوله: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: آية 77] وهذا أغلب استعمال الضلال والعياذ بالله. الاستعمال الثاني: هو إطلاق الضلال على الغَيْبَةِ والاضمحلال، تقول العرب: «ضل هذا الشيء». إذا غاب واضْمَحَلَّ ولم يبق له وجود. تقول العرب: «ضَلَّ السمن في الطَّعَام» إذا غاب فيه واضْمَحل ولم يبق له أثر. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأخطل (¬1): كُنْتَ القَذَى في مَوْجٍ أَكْدَرَ مُزْبِد ... قَذفَ الأَتِيُّ به فَضَلَّ ضَلاَلاً أي: غاب غيبوبة واضمحل اضمحلالاً. ومنه بهذا المعنى قول الآخر (¬2): أَلَمْ تسألْ فتخبركَ الديارُ ... عن الحي المُضَلَّلِ أينَ سَارُوا ومعنى (المُضَلَّل): الذي ذهب على مرِّ العصور ولم يبق لهم أثر. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: آية 30] أي: غاب واضمحل ولم يبق له أثر. ولأجل إطلاق العرب اسم الضلال على الغيبة والاضمحلال أطلقوه على الدفع في القبر، تقول العرب: أضلوا الميت في قبره. إذا دفنوه فيه؛ لأنه إذا ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

دُفن فيه يؤول إلى أن تختلط أجزاؤه وعظامه في الأرض فيغيب فيها ويضمحل كما يغيب السمن في الطعام، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: آية 10] يعنون بقولهم: {ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} أنه اضمحلت عظامهم ولحومهم وجلودهم فيها فأكلتها واختلطت بها. وإطلاق العرب الإضلال على الدفن مشهور في كلامهم وأشعارهم، ومنه قول المُخَبَّل السعدي يرثي قيس بن عاصم التميمي المنقري المشهور (¬1): أَضَلَّت بنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيْدَهَا ... وفَارِسَهَا في الدهْرِ قيسَ بن عَاصِمِ وقوله: «أضلت» يعني: دفنته في قبره. ومنه بهذا المعنى قول نابغة ذبيان يرثي بعض ملوك الغسانيين الذين كانوا بالشام، وقد مات ودُفن بالجولان، وسمع أولاً أنه مات، وجاء تكذيب موته، حتى جاء الذين دفنوه وأخبروه بموته وقال شعره المشهور فيه، الذي منه (¬2): فإنْ تَحْيا لا أملكْ حياتي وإنْ تَمُتْ ... فما في حياتي بعدَ موتِكَ طائِلُ فآبَ مُضِلُّوهُ بعينٍ جَلِيَّة ... وغُودِرَ بالجَولانِ حَزمٌ ونَائِلُ [24/ب] / فقوله: «مضلوه» يعني دافنيه. وقوله: «بعين جلية» أي: بخبر يقين أنه مات حقًّا؛ لأنهم هم الذين أضلوه ودفنوه في قبره. وهذا معنى معروف في كلام العرب، يكثر في كلامها. وأما الإطلاق الثالث من إطلاقات الضلال: فإنه جاء في القرآن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام. (¬2) هذان البيتان مضى ذكرهما مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

وفي لغة العرب إطلاق الضلال على الذهاب عن علم الشيء، فكل ما لم يهتدِ إلى علم شيء تقول العرب: ضل. أي: لم يهتد إلى علم هذا الشيء بعينه. وهو بهذا المعنى يكثر في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قول أولاد يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: آية 8] أي: ذهاب عن علم الحقيقة حيث يُفَضِّل يوسف على هذا (¬1) من الرجال. وقوله: {قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف: آية 95] أي: ذهابك عن حقيقة العلم بالشيء؛ لأنك تظن يوسف حيًّا، ولا يريدون الضلال في الدين؛ لأنهم لو أرادوا الضلال في الدين لكانوا كفرة لتضليلهم نبيًّا من الأنبياء. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: آية 52] أي: لا يذهب عنه علم شيء ولا ينسى شيئًا. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: آية 282] {أَن تَضِلَّ} يعني: تذهب عن علم حقيقة المشهود به فتذكرها الأخرى. قال بعض العلماء: وأنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7)} [الضحى: آية 7] على القول بذلك، ووجهه أن المعنى: ووجدك يا نبي الله ضالاً؛ أي: ذاهبًا عن هذه العلوم التي لا تُعلم إلا بالوحي فهداك إليها وعلمك إياها بالوحي كما قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف: آية 3] فالغافلون ضالون ذاهبون عن علم حقيقة هذه العلوم، ومنه قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء} الآية ¬

(¬1) أي: الجمع.

[الشورى: آية 52]. ومن إطلاق الضلال على الذهاب عن حقيقة علم الشيء قول الشاعر (¬1): وتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِيْ أَبْغِيْ بِهَا ... بَدَلاً أُرَاها في الضَّلاَلِ تَهِيمُ معناه: أراها في عدم معرفة حقيقة الشيء وهذه المعاني للضلال، وبعضهم يذكر أنه يُطلق على (الحُب) وليس إطلاقًا معروفًا مشهورًا كمعرفة هذه الإطلاقات، وهذا معنى قوله: {وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. والخاسرون جمع الخاسر. وبعض العلماء يقول: {الْخَاسِرُونَ}: الهالكون. وأصل الخسران (¬2): هو ذهاب مال التاجر، سواءً كان ربحًا أو رأس مال، وكل من خسر شيئًا من ماله فقد خسر. وخسران الناس: المراد به غبنهم حظوظهم من ربهم (جل وعلا) (¬3)، وقد أقسم الله (جلّ وعلا) على أن هذا الخسران لا ينجو منه أحد إلاّ بتلك الصفات المقررة المعروفة في تلك السورة الكريمة، أعني قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} {إِنَّ الإِنسَانَ} الألف واللام للاستغراق، فهو بمعنى: إن كل إنسان كائنًا من كان لفي خسر، أي: في غبن من حظوظ ربه (جل وعلا) ونقص {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: الآيات 1 - 3]. وخسران الناس: أي: غبنهم في حظوظهم من ربهم (جل وعلا). ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف. (¬3) السابق.

ذكرنا في هذه الدروس مرارًا أنه جرت عادة بعض العلماء في أن يضربوا له مثلين يبين بهما حقيقته (¬1): المثل الأول: قالوا: إن كل إنسان معمر أعطاه الله (جل وعلا) رأس مال، ورأس هذا المال هو الجواهر التي لا يزنها في الدنيا شيء، ولا يقوم مقامها شيء، وهي رأس مال كل إنسان. ونعني بهذه الجواهر: ساعات العمر وأيَّامه؛ لأن رأس مال الإنسان هو ساعات عمره وأيامه، وهذا هو أنفس شيء وأعظم شيء يُعطى للإنسان، وهو رأس ماله، وكما أن الله لما جَعَلَهُ رأس ماله جعله أخا الرسول أيضًا في إقامة الحجة عليه به حيث قال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: آية 37] فإذا كان الإنسان المُعمر -سواء عُمِّر تعميرًا طويلاً أو غيره كما قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: آية 11] فإن كان هذا المُعمر- حاذقًا لبقًا يعرف كيف يحرك رؤوس الأموال، وكيف يستفيد منها، حرك رأس هذا المال -أعني ساعات عمره وأيامه حركها- فيما يرضي الله، فراقب اللحظات والأيام والليالي والدقائق والثواني لئلا يضيع شيء منها في غير طاعة الله، فنظر الأوقات التي تتوجه فيها أوامر من ربه -كأوقات الصلاة، وأوقات الحج، وغير ذلك من المطلوبات التي لها أوقات تتوجه عند وجودها- فقام لله بذلك أحسن قيام، ثم إنه في الأوقات التي لا تتوجه بها وظائف من رب العالمين، وأوامر معينة يكفُّ شرَّه ويخاف الله (جل وعلا) ويستكثر من الخير ما استطاع، فإذا حرك هذا رأس هذا المال هذا التحريك العظيم وتَجِر مع رب العالمين هذه التجارة الرابحة ربح منها ¬

(¬1) السابق.

مُلكًا لا ينفذ، ربح منها الحور العين والجنات والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، والنظر إلى وجه الله الكريم. وقد سمى الله تحريك رأس هذا المال معه (جل وعلا) على الوجه الذي ذكرنا سمّاه (بيعًا) وسَمَّاهُ (شِرَاءً)، وسَمَّاهُ (تجارة)، وسماه (قَرْضًا)؛ لأنّ صاحبه حرّك رأس ماله -وهو أيام عمره - تحريكًا حسنًا لائقًا؛ ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية [الصف: الآيتان 10، 11]. فصرح بأن ذلك تجارة مع الله، وقال جل وعلا: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: آية 29] وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} إلى قوله: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: آية 111]. وقال جل وعلا: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: آية 245] فإذا كان صاحب رأس هذا المال المسكين رجلاً أحمق لا يعرف حقائق الأشياء، ولمْ يَتَنَوَّر باطنه بنور الوحي، لمْ يعرف قيمة رأس هذا المال، ولا قَدْرَ هَذِهِ الجواهر التي أعطاه الله فضيعها في قال وقيل، ولم يكتسب منها شيئًا حتى ينتهي الأجل المحدد له فيُجر إلى القبر وهو صفر الكفين، والآخرة أيها الإخوان دار لا تصلح للمفاليس، لا تصلح للفقراء؛ لأن ليس فيها إرفاق، ولا عارية، ولا صدقة، ولا خلة، ليس فيها للإنسان إلا ما قَدَّمَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَلا يَنْبَغِي للإنسان أن يقدم عليها مُفْلِسًا، فيجب على المسلمين كلاًّ أن يحترموا رأس هذا المال (¬1). إذا كان رأسُ المالِ عمركَ فاحتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ في غَيْرِ وَاجِبِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (9) من هذه السورة.

فلا ينبغي للمسلم أن يضيع أوقات عمره في لعب الأوراق، وفي قيل وقال، فإن هذا فعل السفهاء، ولا يدري في أيِّ وقت يموت. وأنا أؤكد لكم كل التوكيد أنه إن مات ندم غاية الندم بعد فوات الفرصة على ضياع هذه الأعلاق النفيسة، والجواهر الثمينة -التي هي أيام عمره- في قال وقيل، ولعب أوراق، وربما كان ضيعه في أشياء لا ترضي من خلقه (جل وعلا)، فهذا لا ينبغي، فعلينا معاشر المؤمنين أن نَعْرِفَ قَدْرَ رَأْسِ مَالِنَا، وأن نُقدِّر أعمارنا، ونعرف قصرها، ولا ندري في أيِّ وقت تَنْخَرِمُ كما سيأتي قوله في هذه [السورة] (¬1): {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: آية 185] فلا نضيعه فيما لا يعني كألعاب الأوراق، والمجون والعبث، وغير ذلك مما لا يفيد، فهذا فعل السفهاء، وسيعلم صاحبه إذا انتهى إلى ربه أنه فعل السفهاء الذي لا يُجدي، فعليه أن يكفَّ عنه، ويكون رجلاً جديًّا، ويصدق المعاملة فيما بينه وبين ربه (جل وعلا)، ولا يترك أوقاته تضيع هدرًا؛ لأن هذا تضييع لجواهر عظيمة، وأعلاق نفيسة، لا يعرف قدرها إلاّ من علمه الله ذلك. المثل الثاني المضروب لهذا: هو ما ذكره بعض العلماء وقد جاء به حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن سنده لا يقل عن درجة القبول (¬2) أن الله (جل وعلا) جعل لكل إنسان مسكنًا في الجنة ومسكنًا في النار، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أطلع أهل الجنة على مساكنهم في النار لو أنهم كفروا بالله وعَصَوْهُ لِتَزْدَاد غبطَتُهُم وسرورهم بما هم فيه، وعند ذلك يقول الواحد منهم: {الْحَمْدُ للَّهِ ¬

(¬1) في الأصل: (الآية) وهو سبق لسان. (¬2) مضى عند تفسير الآية (9) من هذه السورة.

الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: آية 43] ثم إنَّه يُري أهل النار منازلهم في الجنة لو أنهم آمنوا بالله وأطاعوه لتزداد ندامتهم وحسرتهم والعياذ بالله. وعند ذلك يقول الواحد منهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: آية 57] ثم إن الله يجعل مساكن أهل النار في الجنة لأهل الجنة، ومساكن أهل الجنة في النار لأهل النار، ومن استبدل مسكنه في الجنة بمسكن غيره في النار فصفقته خاسرة، فهو خاسر لا محالة، وذلك طرف من هذا الخسران الذي دلت عليه آيات القرآن العظيم؛ ولذا قال تعالى: {وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: آية 178]. {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف: آية 179] اللام موطئة لقسم محذوف، و (قد) حرف تحقيق تضمنت معنى التوكيد. و {ذَرَأْنَا} معناه: خلقنا. العرب تقول: ذرأ الله الخلق؛ أي: خلقه. فصيغة الجمع في قوله: {ذَرَأْنَا} صيغة تعظيم؛ لأن الله خلق خلقًا للنار فقال: هؤلاء في النار ولا أُبالي. وقوله: {لِجَهَنَّمَ} بعض العلماء يقول: هي طبقة من طبقات جهنم، ولكنها تطلق على جميع طبقات النار، كما قال تعالى في جهنم: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44)} [الحجر: آية 44] فجهنم تطلق على جميع طبقات النار، وإن كان بعض العلماء يزعم أنها طبقة من طبقاتها السبع. واختلف العلماء في لفظة (جهنم) هل أصلها عربية أو مُعَرَّبة (¬1)؟ بناء على قول من يقول: إنَّ فِي القرآن كلمات ¬

(¬1) انظر: اللسان (مادة: جهنم) (1/ 525) , الدر المصون (2/ 355).

مُعَرَّبة (¬1). والتحقيق الذي هو الأشبة أن القرآن كله عربي إلا الأعلام. وما دمنا نقول: أخذ العرب هذه الكلمة من الجيل العجمي الفلاني فلِمَ لا نقول: إن ذلك الجيل الأعجمي أخذها عن العرب؟ الكل محتمل ولا دليل على أنه أخذها خصوص هؤلاء عن هؤلاء، فعلينا أن نتمسك بالعموم في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} [الشعراء: آية 195] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: آية 2] ولا خلاف في الأعلام أن فيه أعلامًا عجمية. هذا لا نزاع فيه؛ لأن العَلَم يُحكى بلفظه في أي لغة كان كما هو معروف. وقال بعض العلماء الذين يقولون إن في القرآن مُعَرَّبًا: إن (جهنم) أصلها فارسية. والذين قالوا هذا القول يزعمون أن في الفارسية القديمة إطلاقًا (كَهَنَّام) على النار، وأنها عَرَّبتها العرب وأبدلت الكاف جيمًا، والله أعلم بصحة هذا. وقال جماعة من علماء العربية (¬2): أصل الكلمة عربية، ووزنها بالميزان الصرفي (فَعَنَّل) فالنون المشددة زائدة، وأصل الحروف الأصلية: الجيم في مكان الفاء، والهاء في مكان العين، والميم في مكان اللام، من: جَهَمَه يَجْهَمُه وتَجَهَّمَهُ إذا عبس في وجهه وقَطَّبَ وجهه وعقده فيه. قالوا: سُميت (جهنم) لأنها تلقى من يدخلها بوجه عابس مقطب متجهم، وأنهم تعبس وجوههم، وتَجَهَّم فيها من شدة ما يلاقون من عذابها والعياذ بالله. وهذا المعنى معروف في كلام ¬

(¬1) في هذه المسألة انظر: الرسالة (41 - 53)، ابن جرير (1/ 13)، ابن عطية (1/ 36)، القرطبي (1/ 68)، ابن كثير (1/ 8) البحر المحيط للزركشي (1/ 449)، (2/ 170) شرح الكوكب (1/ 192). (¬2) انظر: الدر المصون (2/ 355).

العرب، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني (¬1): لاَ تَجْهَمينَا أُمَّ عَمْرٍو فَإِنَّمَا ... بِنَا دَاءُ ظَبْيٍ لمْ تخُنْهُ عوامِلُه ومن هذا المعنى قول مسلم بن الوليد الأنصاري، وإن كان شعره يصلح مثالاً لا شاهدًا لتأخر وقته (¬2): شَكَوْتُ إِلَيْهَا حُبَّهَا فَتَبَسَّمَتْ ... ولَمْ أَرَ شَمْسًا قَبلَهَا تَتَبَسَّمُ ... فَقُلْتُ لهَا جُودِي فأَبْدتْ تَجَهُّمًا ... لِتَقْتُلَنِي يَا حُسْنها إذ تَجَهَّمُ وهذا معنى قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أي: خلقنا {لِجَهَنَّمَ} أي: لصيرورتهم إلى النار يوم القيامة {كَثِيرًا} خلقًا كثيرًا {مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} لأن الجن يدخلون النار بلا خلاف إذا عصوا الله كما قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف: آية 31] ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل للإنس والجن، وأن كفار الجن يدخلون النَّار، وإنما اختلفوا في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة أو لا يدخلونها (¬3)؟ فشَذَّ قوم وقالوا: إن المؤمنين من الجِنِّ لا يدخلون الجنة وإنما جزاؤهم الإجارة من النار، واستدلوا لهذا بدليل لا ينهض، وهو ظاهر قوله تعالى: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قالوا: دلت الآية على أن إجابتهم داعي الله والإيمان به إنما ينالون منها غفران الذنوب والإجارة من العذاب دون دخول الجنة. والظاهر أن المؤمنين من ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: جهم) (1/ 524)، الأضواء (2/ 473). (¬2) البيتان في ديوانه ص143، وهما في الأضواء (2/ 473). (¬3) راجع ما سبق عند تفسير الآية (38) من سورة الأعراف.

الجن يدخلون الجنَّة كالمؤمنين من الإنس، وقد دلت على هذا آيات من كتاب الله قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: آية 56] فَفُهم منه أن في الجنة جانًّا يطمثون النساء. ومن أصرح الأدلة -أن الجن يدخلون الجَنَّة- قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: آية 46] فهذا شامل للإنس والجن يقينًا بدليل قوله بعده مخاطبًا للجن والإنس: {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} [الرحمن: آية 13] وهذا نصٌّ قرآني لم يقم ما يعارضه فلا ينبغي العدول عنه. وهذا معنى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف: آية 179]. ثم إنه تعالى ذكر صفات الكفار الأشقياء الذين سبق في علم الله أنه خلقهم للنّار، وأنهم يعملون بعمل أهل النار، ذكر صفاتهم الكاشفة قال: {لَهُمْ قُلُوبٌ} بين أنه خلق لهم قلوبًا، وخلق لهم أعينًا، وخلق لهم آذانًا، إلا أنهم لا يفقهون بقلوبهم الحق، ولا يبصرون بأعينهم الحق، ولا يسمعون بآذانهم الحق والعياذ بالله كما قال تعالى عنهم: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْء إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآية [الأحقاف: آية 26] ولذا قال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: آية 179] القلوب: جمع قلب، وهو عضو من الإنسان معروف يزعمون أنه على هيئة حَبّ الصنوبر. وقوله: {لاَّ يَفْقَهُونَ} الفقه في لغة العرب معناه: الفهم والإدراك، أي: لا يفهمون بهذه القلوب عن الله؛ لأن الله لمْ ينفعهم بها (والعياذ بالله)، كما قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ} [الأحقاف: آية 26] ونفيه الفقه عن

القلوب يدل كما ذكرنا مرارًا (¬1) على أن مركز العقل هو القلب لا الدماغ كما يقوله الإفرنج، ومما يؤسفنا أن عامة المسلمين لا يكاد في الوقت الحاضر- لجهلهم - لا يكاد يختلف من عامتهم اثنان في أن العقل في الدماغ. ويقولون: هذا ليس له مخ. يعنون: ليس له دماغ، قاطعين بأن العقل في الدماغ، والله يصرح بأن العقل في القلب. ولا شك أن الذي خلق نور العقل وجعله في العبد ونوَّره به هو أعلم بالموضع الذي وضعه فيه مِنْ كَفَرَةِ الإفْرِنْج -قبَّحهم الله- ومن فلسفتهم الكاذبة. فالذي يقول: ليس الفقه في القلوب كالذي يقول: ليس الإبصار بالعيون، وليس السماع بالآذان؛ لأن الله قال: {قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} {أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} {آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} فدل على أن الإبصار بالعين، والسماع بالأذن، والفقه بالقلب. وهذا أمر معروف لا تكاد تحصي الآيات الدالة عليه في القرآن؛ ولذا قال تعالى: {قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الله (جل وعلا) نفى عنهم الفقه بتاتًا. أي: الفهم، ونفى عنهم الإبصار، ونفى عنهم السماع، والمراد بهذا كما دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله: أن الفقه المنفي هو الفقه عن الله النافع الذي يوصل لطاعة الله والإيمان به، والإبصار المنفي: هو إبصار الآيات النافع الذي يرشد صاحبه إلى الإيمان، والسماع المنفي: هو السماع النافع الذي يسمع صاحبه به ما ينفعه. وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية؛ لأن القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين، ومن أساليب اللغة العربية: أنهم يطلقون الصمم على السماع الذي لا جدوى فيه، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

فإذا كان الإنسان لا ينتفع بسمعه انتفاعًا صحيحًا يقولون: «هذا أصم» وهو يسمع. وهذا أسلوب معروف في كلامهم، ومنه قول قَعنب بن أم صاحب (¬1): صُمٌّ إذا سَمعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ به ... وإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عنْدهُم أذِنوا فقال: «صُمٌّ إذا سمعوا» فصرح بأنهمْ صمٌ، وأنهمْ يسمعون؛ لأنَّ ذلك السماع الذي لمْ تترتب عليه فائدة حكمه حكم الصمم، ومنه قول الآخر (¬2): أَصَمُّ عنِ الأَمْرِ الذي لا أُرِيدُهُ ... وأسْمَعُ خَلقِ اللهِ حينَ أُريدُ وقول الآخر (¬3): قُلْ ما بَدى لك من زورٍ ومن كَذِب ... حِلْمِيْ أَصَمّ وأُذني غير صَمَّاء وقول الآخر (¬4): فأَصْمَمْتُ عَمْرًا وأَعْمَيْتُهُ ... عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يومَ الفَخَارِ وهذا أسلوب معروف مطروق في كلام العرب، نزل به القرآن؛ لأنه بلسان عربي مبين. وهذا معنى قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} الآذان: جمع أُذن. والأعين: جمع عين، وجمعهما على (أَفْعُلٌ) و (أفعال) ليس للقلة. ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام. (¬2) البيت في شواهد الكشاف ص26، وأوله: «أصم عن الشيء ... ». (¬3) مضى عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام. (¬4) البيت في الخصائص (3/ 254)، شواهد الكشاف ص40. وشطره الثاني هكذا: «عن الفخر والجود ... ».

والمقرر (¬1) في علم العربية: أن جموع القلة لا تكون إلا في النكرات؛ لأنها بالمعرفات تكتسي العموم من أداة التعريف فتكون جمع تكثير. وهنا هي مُنَكَّرات وهي جموع قلة، إلا أن محل كونها جموع قلّة ما لم يقم دليل على أنها تُراد بها الكثرة كما هنا، وكما هو معروف في محله. وقوله: {آذَانٌ} أصله (أَأْذَان) جمع (أُذن) مجموعة على (أَفْعال) أُبدلت الهمزة الثانية مدًّا للأُولى على القاعدة التصريفية المجمع عليها (¬2). وهذا معنى قوله: {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا}. {أُوْلَئِكَ} المذكورون الذين ذرأهم الله للنار، ولم ينفعهم بقلوبهم، ولا بأسماعهم، ولا بأعينهم {كَالأَنْعَامِ} الأنعام: تقدم في سورة الأنعام أنها أصناف الإبل والبقر والغنم؛ لأن الأنعام إذا صاح بها راعيها تسمع ما يقول ولكنها لا تنتفع به؛ فلو صاح بإبله أو غنمه وقال: اذهبي إلى عُدْوَةِ الوادي الفلانية فإن فيها خصبًا، واحذري من عُدْوَتِه الفلانية فإن فيها جدبًا وسباعًا. فإنها تسمع صوته ولكن لا تفهم هذا ولا تنتفع به، كما تقدم إيضاحه في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} [البقرة: آية 171] ولذا قال هنا: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ} تسمع الأصوات ولا تفهم ما فيها فهمًا ينفع، كما أن هؤلاء يسمعون الأصوات ولا يفهمون عن الله فهمًا يجرهم إلى الإيمان. ثم أضرب، قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام؛ لأن الأنعام ربما تَهْتَدِي لبعض مصالحها، تذهب إلى المحل الذي فيه المَرْعَى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص20.

فتَرْعَى فيه، وتَرُوحُ عَنْ محلّ الجَدْب، وإذا رَأَتْ صَاحِبَهَا الذي يسقيها ويطعمها فرحت به وتبعته، وهؤلاء يعادون ربهم ولا يفعلون شيئًا ينفعهم -والعياذ بالله- فهم أضل من الأنعام. {أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الذين اسْتَوْلَتْ عَلَى قلوبهم الغَفْلَة لا يفهمون عن الله شيئًا -والعياذ بالله-. وهذا معنى قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: آية 179]. {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: آية 180] لله (جل وعلا) الأسماء الحسنى، والحسنى: تأنيث الأحسن، وهو صيغة تفضيل الأحسن الذي هو أحْسَن مِنْ غَيْرِهِ، والحسنى التي هي أحْسَن مِنْ غَيْرِهَا، وأفْرد نعت الأسماء في قوله: {الأَسْمَاء الْحُسْنَى} لما تقرر في علم العربية من أن ثلاثة من الجُمُوعِ -أعْنِي جمع المكسر بنوعيه، وجمع التأنيث- كل منها يجري مجرى الواحدة المؤنثة المجازية التأنيث (¬1)، ومثله كثير، كقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: آية 18] {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً} [الأنعام: آية 19]. قال بعض العلماء: سبب نزول هذه الآية: أن رجلاً من المسلمين قال: يا الله، يا رحمن. فقال واحد من كفار مكة: كيف يقول محمد: إن الإله واحد، ثم إنه يدعو إلهين: أحدهما: الله، والثاني: الرحمن؟! فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} وأنزل قوله: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء: آية 110] (¬2). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (34) من سورة الأنعام. (¬2) الأثر بهذا السباق -من دون الآية الثانية - أورده القرطبي عن مقاتل من غير ذكر من خرّجه. وقد وردت بعض الآثار في سبب نزول الآية الثانية ذكرها السيوطي في الدر (4/ 206)، وكلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هذا الأثر منها.

{وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} أسماء الله حسنى، أي: هي أحسن شيء؛ لأن الحسنى صيغة تفضيل، هي أفضل من كل شيء في الحُسْنِ والجمال لما تدل عليه من صِفَاتِ الكمال والجلال الموصوف بها خالقنا (جل وعلا) تَقَدَّسَ وتَعَاظَمَ وتَنَزَّهَ؛ لأن أسماءه تدل على صفات كماله وجلاله جل وعلا. {فَادْعُوهُ بِهَا} فادعوه بتلك الأسماء كأن تقول: يا رحمن ارحمنا، يا رحيم ارحمني. قال بعض العلماء: تقول: يا رحيم ارحمني، يا رازق ارزقني، يا حكيم احكم لي. ولا تقول: يا حكيم اغفر لي، أو: يا رزاق ارحمني. والتحقيق أن هذا كله جائز؛ لأن أسماء الله متلازمة، كل صفة في واحد منها تستلزم جميع الصفات الأخرى لعظمة صفاته (جل وعلا)، واستلزام كل واحدة منها غاية الكمال والجلال، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلاَّ واحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» (¬1) هذا حديث صحيح معروف، وقد جاء عَدُّ أسمائه عن بعض الناس، ذكره الترمذي، وذكر غيره روايات فيها بعض الأسماء، ¬

(¬1) البخاري في الشروط، باب: ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس. حديث رقم (2736)، (5/ 354)، وأخرجه في مواضع أخرى كما في الأحاديث (6410)، (7392)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها. حديث رقم (2677)، (4/ 2062)، من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) دون سرد الأسماء.

والرواية التي ذكرها الترمذي تقريبًا مائة وواحد تزيد باثنين (¬1)، وهي معروفة (¬2)، وجاءت روايات في السنن وأخرج الحاكم بعضها وصححه تذكر بعض أسماء الله جل وعلا. والمحققون من العلماء يقولون: إن أسماء الله لا تُحصر في ذلك، كما دل عليه الحديث المشهور حديث ابن مسعود الذي بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن كل من أصابه حزن -مثلاً- أو غم إذا دعا به أَذْهَبَ اللهُ حُزْنَهُ وأبْدَلَهُ له سرورًا، وهو حديث معروف مشهور: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِي حُكْمُكَ، ¬

(¬1) أي: على التسعة والتسعين. (¬2) أخرجه الترمذي في الدعوات، حديث رقم (3507)، (5/ 530)، وعقبه بقوله: «هذا حديث غريب، حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم في كَثيرِ شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح» اهـ. (5/ 531، 532)، وأخرجه ابن ماجه في الدعاء، باب أسماء الله عز وجل .. حديث رقم (3861)، (2/ 1269 - 1270)، والحاكم (1/ 16، 17)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص15، وفي الاعتقاد ص13، وفي شعب الإيمان (1/ 277)، وفي سننه (10/ 27 - 18)، والبغوي في شرح السنة (5/ 32)، كلهم من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وهذه الرواية لا تصح والله أعلم. وقد أطال الحافظ (رحمه الله) في الكلام على هدا الحديث سندًا ومتنًا. انظر: الفتح (11/ 214 - 219). وانظر: الفتاوى (6/ 379 - 382)، (22/ 481 - 486)، درء التعارض (3/ 332)، وقد صرح جمع من أهل العلم بأن سرد الأسماء في الرواية أنه مدرج. انظر: سبل السلام (4/ 24)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1040).

عَدْلٌ فِي قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ بَصَرِي، وِشَفَاءَ صَدْرِي، وَجِلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي» (¬1). ومحل الشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم فيه: «أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ» فدل أن له أسماء اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَهُ. وهذا هو الأصح؛ لأن صفاته (جل وعلا) الحسنى لا تحصى، وأسماءَهُ لا يُحْصِيهَا غَيْرُهُ (جل وعلا). وقد جاء في رواية الترمذي (¬2) أنه لما ذكر الحديث الذي أصله في الصحيحين: «إِنَّ لله تسعة وتسْعِين اسْمًا، مائة إلا واحِدًا، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ، وهو جلَّ وعلا وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ - أنه سردها كما يلي - هو الله الذي لاَ إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَن، الرَّحِيم، الملك، القُدُّوس، السَّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المُصَوِّر، الغفار (¬3)، الوَهَّابُ، الرزَّاقُ، الفتَّاحُ، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المُعِزُّ، المُذِل، السميع، البصير، الحَكَم، العدل، اللطيف، الخبير، ¬

(¬1) أحمد (1/ 391، 452)، والحاكم (1/ 509 - 510)، وقال: «صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه؛ فإنه مختلف في سماعه من أبيه» اهـ. والبيهقي في الأسماء والصفات ص18، وابن حبان (الإحسان) (2/ 160)، وأبو يعلى (9/ 198 - 199)، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص133، وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5/ 266): «إسناده صحيح» اهـ. ويشهد له أيضًا حديث أبي موسى (رضي الله عنه) عند الطبراني وابن السني. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا .. (¬3) يأتي بعده في رواية الترمذي. (القهار) وقد سقط هنا.

الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحَفِيظ، المُقِيت، الحَسِيب، الجليل، الكريم، الرَّقيب، المُجيب، الواسِعُ، الحكيم، الودود، المجيد، الباعِث، الشَّهِيد، الحق، الوكيل، القَوِيُّ، المتين، الوَلِيُّ، الحميد، المُحْصِي، المُبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحَيّ، القيوم، الواجد، الماجِد، الواحِد، الأحَد (¬1)، الفرد (¬2)، الصَّمد، القادر، المقْتَدِرُ، المُقَدِّم، المُؤَخِّرُ، الأوَّلُ، الآخِرُ، الظاهِرُ، الباطن، الوالي، المتعالي، البَرُّ، التَّوَّابُ، المنْتَقِمُ، العَفُوُّ، الرَّؤُوفُ، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المُقسِط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضَّار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور». هكذا ذكره، ¬

(¬1) هذان الاسمان غير موجودين في رواية الترمذي التي أشار لها الشيخ رحمه الله. و (الأحد) ضمن الأسماء المذكورة في أحد روايتي الحاكم (1/ 17)، وهو عند ابن ماجه في السنن، كتاب الدعاء، باب أسماء الله عز وجل. حديث رقم: (3861)، (2/ 1270)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص19، وعقبه بقوله: «تفرد بهذه الرواية عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان وهو ضعيف الحديث عند أهل النقل، ضعفه يحيى بن معين ومحمد بن إسماعيل البخاري» اهـ. وأخرجه أيضًا في كتاب الاعتقاد ص14. وأبو نعيم في جزئه في الأسماء الحسنى ص20 (18)، وابن خزيمة في صحيحه كما في الفتح (11/ 216). وأما الفرد فقد ساق فيه البيهقي حديثين في كتابه الأسماء والصفات ص17، الأول منهما: عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) مرفوعًا. والثاني: عن محمد بن طلحة عن رجل مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعقبهما بقوله: «ليس هذا بالقوي وكذلك ما قبله» اهـ. كما ورد هذا الاسم من طريق الوليد بن مسلم عند أبي نعيم في تعداد الأسماء في جزئه في الأسماء الحسنى، وانظر الفتح (11/ 216). (¬2) نفس تخريج المرجع (1).

وذكر بعضهم في السنن وغيره زيادات على هذا ونقصًا (¬1). وبعض المحققين يقولون: إن هدا مدرج في الحديث الصحيح جمعه العلماء من القرآن (¬2). وكان ابن العربي يقول: إنه جمع حوالي ألف اسم من القرآن العظيم والأحاديث الصحيحة (¬3). وقوله تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [الأعراف: آية 180] (ذرواْ) معناه اتركوا: وصيغة الأمر هنا للتهديد على التحقيق، وقد تقرر في فن الأصول في مباحث الأمر، وفي فن المعاني: أنَّ من الصيغ التي تأتي لها (افْعَل) أنها تأتي للتهديد (¬4). والتحقيق أن الصورة هنا للتهديد، وهو قوله: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} بدليل قوله: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬5). ¬

(¬1) تقدم ضمن تخريج الحديث المتقدم قريبًا. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (22/ 482)، فتح الباري (11/ 214 - 219). (¬3) قال في أحكام القرآن (2/ 808). «وعددناها على ما ورد في الكتاب والسنة وذكره الأئمة فانتهت إلى ستة وأربعين ومائة» اهـ. ثم سردها وعقب ذلك بقوله ص815: «هذا منتهى ما حضر من ذكر الأسماء للتضرع والابتهال، وقد بقي نحوٌ من ثلاثين اسمًا ضمنّاها كتاب الأمد، هذه أصولها» اهـ. قال الحافظ في الفتح (11/ 220): «وحكى القاضي أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن لله ألف اسم. قال ابن العربي: وهذا قليل فيها» اهـ ونقله أيضًا الأبي في شرحه لمسلم (7/ 116). وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 88): «وأما إن جُعل له - أي: النبى صلى الله عليه وسلم - من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين ... وفي هذا قال من قال من الناس: إن لله ألف اسم وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم. قاله أبو الخطاب بن دحية، ومقصوده الأوصاف» اهـ. (¬4) مضى عد تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬5) انظر: الأضواء (2/ 339).

والعرب تقول: أَلْحَد يُلحِدُ، ولَحَدَ يَلْحَدُ. إذا مال عن الحق، أصل (اللَّحد) في لغة العرب والإلحاد: الميل عن القصد والجور عنه، ومنه اللحد في القبر؛ لأنه حفر أُميل به عن وضعه الأول إلى جهة القبلة ولم يكن على سمت الحفر الأول. وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} وقرأه حمزة من السبعة: {وذروا الذين يَلْحَدُون في أسمائه} بفتح الياء والحاء. وهما قراءتان صحيحتان (¬1)، ولغتان عربيتان فصيحتان. ومعنى إلحادهم بالأسماء (¬2): قال بعض العلماء: يلحدون فيها: يميلون فيها عن الحق، كاشتقاقهم اللات من اسم الله، واشتقاقهم العُزى من اسم العزيز، واشتقاقهم مناة من اسم المنان. وقال بعض العلماء: إلحادهم في أسماء الله: إنكارها، ومن أمثلة ذلك أن الله يقول: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} [الصافات: آية 4] وهم يلحدون في اسمه الواحد، ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: آية 5] وهذا من أعظم الإلحاد وأكبره. وقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} سيجزيهم الله يوم القيامة جزاء ما كانوا يعملونه في الدنيا، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًّا إلحادهم في أسمائه (جل وعلا). وهذا معنى قوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. وقوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص216. (¬2) في هذه المسألة انظر: بدائع الفوائد (1/ 161 - 170)، القواعد المثلى ص16، المنهاج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 55)، النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 36).

جاء في بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها وقال: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُوتِيَ القَوْمُ بَيْنَ أيدِيكُمْ مِثْلَهَا» (¬1) يعني قوم موسى. ثم قال: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: آية 159] وهذه الأمة لا شك أنها أمَّة {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا}، وأنها تهدي بالحق وبه تعدل، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه (صلوات الله وسلامه عليه) قال: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ أَوْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ» (¬2) ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (159) من هذه السورة. (¬2) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم: 1 - المغيرة بن شعبة عند البخاري في المناقب، باب سؤال المشركين أن يُرِيَهُم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر، حديث رقم (3640)، (6/ 632)، وأطرافه في: (7311، 7459)، ومسلم في الإمارة، باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، حديث رقم (1921)، (3/ 1523). 2 - معاوية بن أبي سفيان عند البخاري في المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر. حديث رقم (3641)، (6/ 632)، وأخرجه في موضع آخر برقم (7460)، ومسلم في الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة ... » إلخ. حديث رقم (1037)، (3/ 1524). 3 - ثوبان عند مسلم في الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تزالُ طَائِفَة ... » إلخ. حديث رقم (1920)، (3/ 1523). 4 - جابر بن عبد الله. عند مسلم في الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تزال طائفة ... » إلخ. حديث رقم (1923)، (3/ 1524). 5 - عقبة بن عامر. عند مسلم في الأمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة ... » إلخ. حديث رقم (1924)، (3/ 1524 - 1525). 6 - معاوية بن قرة عن أبيه. عند أحمد (3/ 436)، (5/ 34)، والترمذي في الفتن، باب ما جاء في الشام، حديث رقم: (2192)، (4/ 485). وقال الترمذي: «وفي الباب عن عبد الله بن حوالة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو. وهذا حديث حسن صحيح» اهـ. وأخرجه ابن ماجه في المقدمة. باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث رقم (6)، (1/ 4 - 5)، والروياني (2/ 129 - 130). 7 - عمر بن الخطاب عند الدارمي (2/ 133)، والطيالسي ص9، والحاكم (4/ 449). 8 - أبو هريرة عند ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة رسول صلى الله عليه وسلم. حديث رقم: (7)، (1/ 5)، وابن عدي في الكامل (7/ 2545). وانظر في تخريجه: السلسلة الصحيحة (270).

أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ}. {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} لا معناها: يهدون الناس بالحق، وهو اتباعه صلى الله عليه وسلم والعمل بهذا القرآن {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} يعملون هم في أنفسهم؛ لأن من عمل به عدل وأصاب العدالة وتنحى عن طرف الإفراط والتفريط؛ لأن العدالة هي التوسط بين الأمرين، والتجافي عن طرف الإفراط وطرف التفريط. وهذا معنى قوله: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. [25/أ] / {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ

إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف: الآيات 182 - 187]. يقول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: الآيتان 182، 183]. بيّن الله (جل وعلا) في هذه الآية أنّه يستدرج الكافرين فيغدق عليهم نعمه وهم يصرون على الكفر به، حتى تبطرهم النعم وتتزايد غفلتهم، فيستمروا على ذلك حتى تنتهي آجالهم فيأخذهم الله (جل وعلا) في غفلتهم بعذابه وإهلاكه ثم يصيرون إلى النار. {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}: في محل مبتدأ والخبر جملة {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} والتكذيب: الجحود والإنكار. والآيات: جمع آية وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬1): أن للآية في لغة العرب إطلاقين عربيّين مشهورين، وأنّ لها في القرآن إطلاقين أيضًا. قال علماء التصريف (¬2): التحقيق في الآية أن أصلها: (أَيَيَة)، ووزنها: (فَعَلَة) فهمزها: فاء، وعينها: ياء، ولامها: ياء، والياءان المفتوحتان بعد الهمزة قد اجتمع فيهما موجبا إعلالٍ، والمقرر في فنِّ التصريف: أنّه إنْ اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير، إلا أنّه ربما وقع الإعلال في الأول كما هنا، فأعلوا الياء الأولى وأبدلوها ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ولو جرى على الأغلب في اللغة، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

لكان الإعلال في الياء الأخيرة وقيل فيها: (أَيَاه)، وهنا أُعلّت الياء الأولى فأبدلت ألفًا فقيل: آية. والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين، أشهر إطلاقيها: أنْ تُطلق الآية على العلامة، تقول العرب: آية كذا؛ أي: علامته، {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} أي: علامة ملكه {أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: آية 248] فالآية: العلامة؛ وقد جاء في شعر نابغة ذبيان -وهو جاهلي- تفسير الآية بالعلامة حيث قال (¬1): تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فََعَرَفْتُها ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وذَا العَامُ سَابِعُ ثم بيّن أن مقصوده بالآيات: علامات الدار وآثارها حيث قال (¬2): رَمَادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيًا أُبِيْنُه ... ونُؤيٌ كجذمِ الحوضِ أَثْلَمُ خاشعُ هذا الإطلاق في الآية المشهور. الإطلاق الثاني: وهو أنّ العرب تطلق الآية وتريد بها الجماعة، يقولون: «جاء بنو فلان بآيتهم» أي: بجماعتهم جميعًا وهو إطلاق معروف في كلام العرب، ومنه قول برج بن مسهر (¬3): خَرَجْنَا من النَّقْبَيْن لاَ حَيَّ مِثلنا ... بآيَتِنَا نُزْجِيْ اللقَاحَ المَطَافِلاَ أي: بجماعتنا. فهذان إطلاقا الآية في اللغة. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

والآية في القرآن تطلق إطلاقين: تطلق الآية على الآية الكونية القدريّة، وهي من الآية بمعنى: العلامة، وهي ما نصبه الله (جل وعلا) من آياته جاعلاً لها علامات على كمال قدرته، وأنّه الربُّ وحده، المعبود وحده، كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ ... } [آل عمران: آية 190] أي: لعلامات ودلالات واضحات على أنه الرب المستحق أنْ يُعبد وحده. الإطلاق الثاني: تطلق الآية في القرآن على الآية الشرعية الدينيّة، كآيات هذا القرآن العظيم، وهو المراد هنا. والآية الشرعية الدينية قال بعض العلماء: هي من العلامة أيضًا؛ لأنها علامة على صدق من جاء بها، لما تضمّنته من الإعجاز، أو لأن فيها علامات تعرف بها مبادئها ومقاطعها. وقال بعض أهل العلم: الآية الشرعية من الآية بمعنى الجماعة؛ لأنها جماعة من كلمات القرآن مشتملة على بعض ما اشتمل عليه القرآن من الإعجاز والحلال والحرام والعقائد، وهذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ككفار مكة وكلّ مَنْ كَذب بآيات الله {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} هذا وعيد الله. والسين حرف تنفيس، وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أصله: (نَسْتَفْعِلُهم) ومنه: الاستدراج، والاستدراج: استفعال من الدَّرَجَة، والدرجة: واحدة طبقات السلَّم على أصح الأقوال. والمعنى: أنّه يستنزلهم درجة درجة ومرتبة مرتبة، حتى يدنيهم إلى ما يشاء من إهلاكهم. فالعرب تقول: اسْتَدْرَجَهُ: إذا أَنْزَلَهُ دَرَجَةً درجة إلى أنْ وَصَلَ إِلَى ما يقصده منه، أو استعلاه درجة درجة؛ وهذا معروف في كلام العرب أن

الاستدراج هو الاستِنْزَال درجة بعد درجة حتى يَصِلَ الإنسان إلى السوء الذي يراد منه؛ لأن الكفار أراد الله (جَل وعلا) أنْ يهلكهم بعذابه المُسْتَأصل ويدخلهم النار لما كذبوا بآياته. فمعنى استدراجه لهم: أنَّهُ يُرْسِلُ عليهم هذه النعمة فيكثر خصب بلادهم وأرزاقهم وعافيتهم، وتلد نساؤهم ذكورًا، وتتزايد عليهم النعم وتتواتر، فعند ذلك يزدادون بطرًا وكفرًا فيقربون من الهلاك درجة، ثم إن الله (جل وعلا) يغدق عليهم نعمًا أخرى فتزيدهم بطرًا إلى بطرهم، وكفرًا إلى كفرهم، وغفلة إلى غفلتهم، فيقربون درجة أخرى إلى هلاكهم، حتى إذا انتهت تلك الدرجات التي يستدنيهم الله فيها لما يريد منهم: جاءهم عذاب الله فأهلكهم وصاروا منه إلى الخلود في النار، كما قال (جل وعلا): {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: آية 44] والعرب تعرف الاستدراج في لغتها وأنه تقريب الشَّيْءِ دَرَجَة درجة إلى ما يراد منه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس (¬1): لئنْ كُنتَ في جُبٍّ ثمانينَ قَامةً ... ورُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ ... ليسْتَدْرِجَنْكَ القولُ حتى تَهرَّهُ ... وتَعْلمَ أني عنكُم غير مُفْحَم ... وتَشْرق بالأمرِ الذي قد أَذَعْتَه ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ ومحل الشاهد منه قوله: «ليستدرجنك القول» أي: لينزلنك درجة درجة حتى ترى ما تكرهه، وهذا معنى قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي: سنستدنيهم إلى إهلاكهم بتوافر النعم وتزايدها عليهم ليزدادوا ¬

(¬1) ديوان الأعشى ص183.

بطرًا وغفلة حتى يهلكهم الله وهم في أشدّ الغفلة. {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} وقد قدمنا (¬1) أنّ (حيث) كلمة تدل على المكان كما تدل (حين) على الزمان، وربما ضُمِّنت معنى الشرط، يجوز في اللغة لا في القراءة تثليث فائها وإبدال (يائها) واوًا كما هو معروف في محلِّه. {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: من المكان الذي لا يعلمون أنّا سنستدرجهم، بل هم يظنون أن تلك النعم مسابقة لهم في الخيرات، وأنهم ينالون بعد ذلك أحسن منه، كما قال جل وعلا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: الآيتان 55، 56]. ثم قال جل وعلا: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: آية 183] عبّر في الفعل الأول بصيغة الجمع للتعظيم قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} وعبّر في الثاني بهمزة المتكلم {وَأُمْلِي لَهُمْ} ومعنى قوله جل وعلا: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: سأملي لهم، وأصل مادة (أملى): وأملى يملي أصلها من (المَلاَوَة) بالواو، فلام المادة: واو. والمَلاَوَة: الزمن. ومعنى {وَأُمْلِي لَهُمْ}: أُؤَخِّرهم وأمهلهم مَلاَوَة، أي: زمنًا غير قليل كما هو معروف، فالعرب تقول: «أمليت له» و «أملى له»: إذا أخَّره مَلاَوَة من الزمن، فأصل الياء مبدلة من واو، والمَلاَوَة: هي الزمن، ومنه قوله تعالى عن أبي إبراهيم: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: آية 46] أصل إحدى الياءين واو. أي: زمنًا غير قصير. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول المهلهل يرثي ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

أخاه كليبًا (¬1): فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجَبَالِ لِفَقْدِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ المُرْمِلاتُ مَلِيَّا أي: مَلاَوَة من الزمن غير قليلة. ومن هنا كانت العرب تقول لليل والنهار: المَلَوَانِ، ومنه قول تميم بن مقبل (¬2): أَلاَ يا ديَارَ الحيِّ بالسَّبُعَان ... أملَّ عليها بالبِلَى المَلَوَان وتقول العرب: «مَلَوُ الليل والنهار» معناه: زمن الليل والنهار، ومنه قوله (¬3): نَهارٌ ولَيْلٌ دائِمٌ مَلَواهُما ... على كُلِّ حالِ المَرءِ يَختَلِفَانِ وتقول العرب: «تمليت العيش» و «تملى فلان العيش» أي: عاش في حياته مَلاَوَة من الزمن، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الأعلم بن جرادة السعدي -أو شاعر آخر من شعراء تيم، أعني تيم الرباب- قوله (¬4): ألمْ ترَ ما لاقيتُ والدَّهر أعصرٌ ... ومن يَتَمَلَّ العيش يَرْأَى ويسمعُ فقوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: أُمهلهم وأُؤخرهم ملاوة من الزمن -والملاوة مثلثة الميم- أي: زمنًا غير قصير، وأُنعم عليهم حتى يغتروا بتلك النعم فأُهلكهم وهم في أشد غفلة، هذا معنى: ¬

(¬1) البيت في القرطبي (11/ 111)، البحر المحيط (6/ 195)، الدر المصون (7/ 606). وشطره الأول: «فتصدعت صم الجبال لموته». (¬2) البيت في الطبري (7/ 421)، اللسان (مادة: ملا) (3/ 532). (¬3) البيت في اللسان (الموضع السابق). (¬4) البيت في المحتسب (1/ 129).

{وَأُمْلِي لَهُمْ}، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليملي للظالم» يعني: يمهله ويؤخره ملاوة من الزمن «حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} (¬1) [هود: آية 102]. قوله: {إِنَّ كَيْدِي} الكيد: في لغة العرب معناه: المكر، وهو أن يكون الفاعل يبطن غير ما يظهر، وسمى الله هذا الاستدراج كيدًا لأن ظاهره إنعام وإغداق نعم وباطنه استدراج يستدنيهم به ويستدرجهم إلى الموت والعذاب الدائم الذي يخلدون فيه، ولذا قال: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: استدراجي لهم بالنعم التي تبطرهم وتزيدهم غفلة وبطرًا وتكبرًا عن قبول آيات الله، حتى يهلكوا وهم في أشد حالة من الحالات كفرًا؛ هذا الكيد كيد الله (جل وعلا) ووصفه بأنه متين، والمتين من كل شيء: القوي الشديد القوة، وكيد الله (جل وعلا): متين، وكيد الله (جل وعلا) من أحسن ما يكون، واقع موقعه، تصرف حكيم خبير، حيث أغدق النعم على هذا الكافر فغفل فأخذه في غرّة وغفلة، وعامله بما يستحقه من كفره، وهذا معنى قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف: آية 184] قد تكلمنا مرارًا على الواو والفاء وثم إذا جاءت بعد همزة الاستفهام (¬2) {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} يعني: يُعملوا أفكارهم، التفكر: هو أنْ يُعمل الإنسان فكره حتى يدرك حقيقة الشيء. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

{مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} المراد بـ (صاحبهم) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم و (الجِنَّة) معناه: إصابة الجنون، معناه: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون، فإنهم لو تفكروا وأعملوا أفكارهم وعقولهم علموا أنَّه (صلوات الله وسلامه عليه) بعيد غاية البعد من الجنون، وأنه تام العقل، رصين العقل، يدعو إلى أحسن الطرق وأعظمها وأبينها، فليس به جنة، وهذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} أولم يتفكر هؤلاء الكفار المكذبون الزاعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنون. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} ويُعملوا أفكارهم ويرجعوا إلى عقولهم فيتحققوا أن صاحبهم ما به من جنة، ليس به جنون، بل هو (صلوات الله وسلامه عليه) بعيد من الجنون تام العقل، رؤوف رحيم بهم، يدعوهم إلى السعادة الأبدية، وصلاح الدنيا والآخرة. قال بعض العلماء: صعد صلى الله عليه وسلم على الصفا ودعا قبائل قريش، فدعاهم فخذًا فخذًا، وحذرهم عذاب الله ونقم الله، وقال واحد منهم: إن هذا لمجنون. فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} (¬1). وهذا الجنون الذي رَمَوْهُ بِهِ نفاه الله عنه في آيات كثيرة كقوله تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: آية 2] {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} [الطور: آية 29] {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: آية 46] فهذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184)} ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (13/ 289)، وابن أبي حاتم (5/ 1624) عن قتادة مرسلاً. وأورده السيوطي في الدر (3/ 149)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[الأعراف: آية 184] ليس بمجنون صلوات الله وسلامه عليه {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ما هو صلى الله عليه وسلم إلا نذير مبين. النذير: فعيل بمعنى (مُفعِل) من الإنذار، والإنذار هو: الإعلام المقترن بتهديد خاصة، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا، والنذير بمعنى المُنْذِر، اسم فاعل: أنذره ينذره إذا أعلمه إعلامًا مقترنًا بتهديد وتخويف من الله (¬1) إذا لم يطع أوامره (جل وعلا). والتحقيق: أن (الفعيل) في لغة العرب يأتي بمعنى (المُفْعِل) وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، فما يحكيه بعض علماء العربية عن الأصمعي من أن (الفعيل) لا يأتي في اللغة بمعنى (المُفْعِل) إن كان ثابتًا عنه فهو غير صحيح (¬2). و (الفَعِيل) في اللغة والقرآن يأتي بمعنى (المُفْعِل) منه: النذير بمعنى المنذر، والأليم بمعنى المؤلم {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم يؤلم وقعه صاحبه -والعياذ بالله- ومنه قول ذي الرمَّة (¬3): ويَرْفَعُ من صُدور شَمَرْدَلاَتٍ ... يَصُكُّ وجُوهَهَا وهَجٌ أَلِيْم أي: وهج مؤلم. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي في مطلع عينيته المشهورة (¬4): أَمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّميع ... يُؤَرِّقُنِي وأَصْحَابي هُجُوعُ وقوله: «السميع» معناه: المُسمع، ومنه قوله أيضًا فيها (¬5): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) مضى عند تفسير الآية (73) من هذه السورة.

وخيلٍ قَدْ دَلَفْتُ لها بخيلٍ ... تحيَّةُ بينهم ضربٌ وَجِيع أي: ضرب موجع. وهو معروف. وقوله: {مُّبِينٌ} المبين: اسم فاعل أبان يُبين، قال بعض العلماء: هو من (أبان) المتعدية. وعليه فالمفعول محذوف لعمومه، والمعنى: مُبِين نذارته، مصرح لكم في غاية البيان بما ينذركم الله به ويحذركم منه. وأكثر العلماء على أنّ قوله: {مُّبِينٌ} صفة مشبهة هي الوصف من: (أبان) اللازمة، والعرب تقول: أبان الأمر يبين فهو مبين، لازمة بمعنى: وضح واتضح، وقد قدمنا هذا مرارًا أنّ (أبان) بصيغة (أَفْعَل)، و (بيَّن) بصيغة (فعَّل) كلتاهما تأتي متعدية للمفعول وتأتي لازمة (¬1)، فإتيان (أبان) متعدية معروف مشهور كقوله: أبان له هذا الأمر، وأبان له حقيقة أمره، كما هو معروف، والعرب تقول: أبان الشيء يبين: إذا ظهر واتضح، غير متعد للمفعول، وهو معنى معروف في كلامها، والصفة المشبهة منه (مبين)، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي (¬2): لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فوقَ ظاهرِ جِلْدِهَا ... لأَبَانَ من آثارِهِنَّ حُدورُ يعني: لظهر واتضح وبان من آثار النمل ورم. ومنه قول جرير (¬3): إذا آباؤُنَا وأبوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ المُقْرِفَات من العِرَابِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

أي: ظهرت واتضحت، والمُبين من هذا بمعنى: البين الواضح، ومنه قول كعب بن زهير في (بانت سعاد) (¬1): قَنْواءُ في حُرَّتَيْها للبصيرِ بها ... عِتْقٌ مُبينٌ وفي الخَدَّيْنِ تَسْهيلُ فقوله: «عتقٌ مبينٌ» أي: كرم بيّن ظاهر. وقد قدّمنا هذا مرارًا. فعلى القول الأول (مبين): أي: مُبَيِّنٌ ما ينذركم ويحذركم به، موضح له بالتفصيل. وعلى الثاني أنه الصفة المشبهة من: (أبان) اللازمة، فمعنى (مبين): نذير بيّن الإنذار واضحه، لا إشكال في إنذاره، وهذا معنى قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: آية 184]. ثم قال جل وعلا: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... } [الأعراف: آية 185] النظر هنا هو النظر بالقلوب والتفكر والتدبر بها؛ لأن الله يقول: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46]. والملكوت: مصدر مَلَك يَمْلِك مُلْكًا ومَلَكُوتًا، والواو والتاء زيدتا للمبالغة، فالملكوت: الملك العظيم الهائل، كما دل على عظمه: زيادة الواو والتاء. ومعروف أن (الفَعَلُوت) بزيادة الواو والتاء في المصادر معروف في كلام العرب، كالرَّحَمُوت، والرَّغَبُوت، والرَّهَبُوت، والمَلَكُوت. فالملكوت معناه: المُلْك العظيم {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: في ملك الله العظيم في السماوات والأرض؛ حيث رفع السماء بغير عمد ترونها وجَعَلَها لا تَتَشَقَّق ولا تَتَفَطَّر ولا تحتاج إلى ترميم. والكفرة الفجرة أبناء ¬

(¬1) السابق.

الكلاب والخنازير الذين يدَّعون أنه ليس فوقنا سماء، وإنما هو فضاء ولا سماء فيه يُكذبون خالق السماوات والأرض لجهلهم وظلام قلوبهم بالكفر، فهي سبع سماوات مبنية وصفها الله بالشدة في قوله: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)} [النبأ: آية 12] وبيّن أنه بناها بقوّة هائلة {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} [الذاريات: آية 47] وأبعد سمكها {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} [النازعات: آية 28]، {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8)} [ق: الآيات 6 - 8] وهذا معنى قوله: {فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء} لفظة (ما) في محل خفض معطوف على المجرور {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وينظروا في {مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء} في السماوات من النجوم والشمس والقمر، وفي الأرض من البحار والجبال والثمار والمعادن والدواب ونحو ذلك مما يدل على كمال قدرة خالقه (جل وعلا). وأنه الرب المعبود وحده. ثم قال: وينظروا أيضًا في {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} (أنْ) هذه هي المخففة من الثقيلة، وإذا كان الفعل بعدها غير متصرف لا تحتاج إلى فصل بينها وبينه. إلى أنه -أي: الأمر والشأن- {عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} وربما استُغني بالمصدر في (أن) وصلتها وصار فاعل (عسى) واستغني به عن غيره. قوله: {قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} أي: قد دَنَا وقت موتهمْ فيبادرون إلى تدارك ما يرضي الله لئلا يهلكوا.

وهذه الآية قد استدل بها علماء الأصول على أن صيغة الأمر تدل على الفور لا على التراخي (¬1)، كما رُوي عن الشافعي (رحمه الله)؛ لأن الله أمرهم بالنظر في ملكوته ليستدلوا على أن صانع هذا الكون واحد (جل وعلا)، وأنه المعبود وحده، وأنه يجب أن يُطاع وتُصدق رسله وتُمتثل أوامره. قال: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: آية 101] ثم قال: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: آية 185] وهددهم باحتمال اقتراب آجالهم خوف أن يفاجئهم الموت قبل أن ينظروا فيصيروا إلى النار. ولا شك أن هذه الآية تدل على أن أوامر الله ينبغي أن تكون على الفور وتُمتثل بسرعة؛ لأن الإنسان عسى أن يكون قد اقترب أجله فيخترمه الموت قبل أن يمتثل، فاستدلال علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على اقتضاء الأمر الفور استدلال صحيح وواقع موقعه، وقد دلت على ذلك اللغة أيضًا قال علماء العربية: لو قال السيد لعبده: (اسقني ماء). ثم إن العبد توانى وأبطأ فأدبه سيده فليس للعبد أن يقول: صيغة الأمر في قولك: (اسقني ماء) لا تقتضي الفور، وإنما هي على التراخي، وكنت متراخيًا في الامتثال؛ لأن الصيغة كذلك أفادت!! بل اللغة العربية تقتضي الفور كما دلت عليه هذه الآية. وهذا معنى قوله: {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}. ثم قال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن العظيم مع وضوح أدلته، واتضاح معجزته، وكرامة ما يدعو إليه من توحيد الله ومكارم الأخلاق والأفعال الحسنة، إذا كانوا لمْ يؤمنوا بهذا {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} أي: بأي حديث غيره {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا ¬

(¬1) انظر: مذكرة أصول الفقه ص196.

بأحق الأحاديث بأن يُؤْمَنَ به، وأن يُصدق، وأن يُعظم، وأن يُعمل به، إذا لم يؤمنوا به فبأي حديث آخر يؤمنون؟! والمعنى: أنَّ مَنْ تَرَكَ الإيمان بما هو أحق شيء بأن يُؤْمَن به لا يؤمن بشيء أبدًا؛ إذ لو كانوا يؤمنون بشيء لآمنوا بهذا القرآن. فهو أسلوب عربي معروف، إذا كان الشيء أولى من غيره بالمسألة يُقال: فبأي شيء بعد هذا تفعل؟ إذا لمْ تفعله بأحق شيء فبأي شيء غيره تفعل؟! كما هو معروف في كلام العرب، ومن هذا المعنى قول الأعشى (¬1): صَدَّتْ هُريرةُ عنَّا ما تُكلمُنا ... جَهْلاً بأُمّ خُليدٍ حَبْلَ مَنْ تَصِلُ يعني: إذا لم تصل حبالنا ونحن أكرم الناس وأحقها بوصل الحبال فمن تصل حبله بعدنا؟! وهذا أسلوب عربي معروف. والله (جل وعلا) قد سمى كتابه حديثًا؛ لأنه كلام رب العالمين {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: آية 23] ولذا قال هنا: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: آية 185]. ثم قال: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} (مَنْ) شرطية، ويضلله الله: يصرف إرادته وقدرته بإرادته وقدرته إلى طريق النار عن طريق الجنة والعياذ بالله. {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: آية 186] ليس أحد يهديه بعد الله {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شيئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: آية 41] {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: آية 37] {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: آية 56] فَمَنْ هداه الله لا مضل له، ومن أضله الله ¬

(¬1) ديوان الأعشى ص131.

لا هادي له. وهذا معنى قوله: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}. في هذا الحرف ثلاث قراءات سَبْعِيَّة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها صحيح لا نزاع فيها (¬1): قرأه نافع وابن كثير وابن عامر: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (بالنون) وصيغة الجمع يُراد بها التعظيم، عظَّم الله نفسه. وقرأه من السبعة: أبو عمرو، وعاصم في رواية حفص وشعبة: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} بياء الغيبة وضمّ الراء. وقرأه حمزة، والكسائي من الكوفيين: {ويَذَرْهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وهذ الفعل المضارع معطوف على جزاء الشرط الذي هو قوله: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} والمقرَّر في علم العربيَّة -كما هو مشهور في العربية- أنّ كل فعل عُطف على جزاء الشرط بفاء أو واو ففيه ثلاث لغات (¬2): يجوز فيه: الرفع، ويجوز فيه: الجزم، ويجوز فيه: النصب. فكلّه جائز، ولغات عربيّة معروفة، وقراءات صحيحة معروفة؛ لأنّ {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} جزاء الشرط، وجزاء الشرط في محل جزم، فقراءة حمزة والكسائي جزموا {ويذرْهم} لأنه معطوف على جزاء الشرط وأصله مجزوم؛ والذين رفعوه لغة فصيحة وقراءة صحيحة (¬3). وأما النصب: فهو لغة فصيحة، ولكنّه لم يقرأ به أحد من السبعة مع أنه لغة. و (الطغيان) في لغة العرب (¬4): مجاوزة الحدّ؛ وهو مصدر: ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص217. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 318). (¬3) انظر: الدر المصون (5/ 527). (¬4) مضى عند تفسير الآية (110) من سورة الأنعام.

طَغَى يَطْغَى: إذا جَاوَزَ حَدَّهُ، زيدت في مَصْدَرِهِ الألف والنون كما زيدتا في: (الكفران) و (الرّجْحَان) وطغَى الشَّيْء: إذا جَاوَزَ حَدَّهُ، ومنه قوله: {إِِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} [الحاقة: آية 11] أي: جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة. وقوله: {يَعْمَهُونَ} قال بعض علماء العربية: (العَمَى) بالألف يُطلق على عمى العين وعمى القلب، أما (العَمَه) بالهاء فلا يُطلق إلاّ على عمى القلب خاصة (¬1). فمعنى {يَعْمَهُونَ}: يَتَرَدَّدُونَ حائِرِين لا يعرفون حقًّا من باطل، ولا حسنًا من قبيح، ولا ضلالاً من هدى لعمي قلوبهم -والعياذ بالله- ومن تركه الله يَتَرَدَّدُ في ضَلالته ولم يهده فهو الضال -والعياذ بالله- وهذا معنى قوله: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: آية 186]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف: آية 187]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} الساعة: القيامة، غلب عليها ذكر هذا اللفظ مع أن الساعة أصلها تطلق على كل وقت من الزمن. والتغليب -بأن يغلب الشيء العام على بعض ما يُراد به- أسلوب عربي معروف، كإطلاق العرب النجم على الثريا، مع أنه لكل نَجْم ونحو ذلك. والذين سألوه: قال بعض العلماء (¬2): هم كفار مكة. وقال ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (110) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 291).

بعض العلماء: نفر من اليهود، ولا مَانِعَ مِنْ أن يكون كلٌّ منهم سألوه عنها. ولا شك أن كفار مكة كانوا يسألونه عن الساعة وينكرون مجيئها ويزعمون أنها لا تأتي، كما في قوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: آية 63] وبيّن أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ يستعجلون بها إنكارًا منهم لها، كما في قوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (18)} [الشورى: آية 18] سواء قلنا: إن السائلين عنها كفار مكة أو اليهود. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (أيان): ظرف زمان بمعنى (متى) (¬1). قال ابن جني: وزنه (فَعلان) أصله من «أيَّ» أي وقت يكون فيه هذا؟ فزيد فيه الألف والنون وبُني على الفتح لشبهه بالحرف الشبه المعنوي، كما هو معروف في محلِّه. وعلى كل حال فـ (أيان) سؤال عن زمن، فهي من ظروف الزمان بمعنى (متى) وربما ضُمِّنت معنى الشرط فجزمت فعلين. وقوله: {مُرْسَاهَا} المُرْسَى: اسم زمان، والمعنى: في أي وقت يكون زمان رُسُوِّها، أي: وجودها وثبوتها. وقد تَقَرَّر في علم التصريف: أن كل فِعْل زاد ماضيه على ثلاثة حروف من الرباعي فصاعدًا أنه يستوي وزن مصدره الميمي، واسم مكانه، واسم زمانه، وكلها بصيغة اسم المفعول، كما هو مقرر في محله مشهور (¬2). ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 529)، اللسان (مادة: أين) (1/ 148). (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 83).

فالمُرْسى هنا وزنه: (مُفْعَل) بصيغة المفعول، والألف في آخره أصلها مبدلة من واو، والمقرَّر في علم التصريف: أن كل ألف مبدلة من واو إذا كانت متطرِّفة رابعة فصاعدًا أنها تُقلب ياءً بقياس مُطَّرِد في جميع اللغة العربية (¬1). فالمُرْسى وزنه: (مُفْعَل) (¬2) بصيغة اسم المفعول، وهو اسم زمان، والفعل إذا زاد ماضيه على ثلاثة كان اسم زمانه واسم مكانه ومصدره الميمي كلها بوزن اسم المفعول كما هو معروف مُقَرَّرٌ في محلّه (¬3). ومعنى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في أي وقت يكون رُسُوّها؟ أي: ثبوتها ووجودها بالفعل قائمة. وهذا سؤال منهم عن الوقت الذي يَتَحَقَّق فيه وجود الساعة. {قُلْ} لهم يا نبي الله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} قد تَقَرَّرَ في فن الأصول في مباحث دليل الخطاب (¬4) -أعني مفهوم المخالفة- وفي فن المعاني -في مبحث القصر- أن (إنّما) من صيغ [الحصر، فهي كالنفي] (¬5) والإثبات. وهو الصحيح -إن شاء الله- من كلام العلماء، والدليل عليه: أن (إنّما) توضع مكان النفي والإثبات، فدل ذلك على أنها صيغة حصر؛ لأن أعظم صيغ الحصر: النفي والإثبات، كقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} [الصافات: آية 39] ووضع موضعه في محل آخر: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: آية 16] {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق (2/ 494). (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص125. (¬3) مضى عند تفسير الآية (98) من سورة الأنعام. (¬4) مضى عند تفسير الآية (65) من سورة الأعراف. (¬5) في الأصل: «العموم فهي كالحصر» وهو سبق لسان.

[المائدة: آية 73] {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: آية 171] وهذا يدل على أن (إنما) أداة حصر، وهو التحقيق إن شاء الله. {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} يُحصر علمها في خالق السَّمَاوات والأرض، لا يعلم وقت مجيئها لا رسول مرسل ولا ملك مقرب، ولا يعلمه إلاَّ الله. وهذا معنى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} أي: خالقي ومدبر شؤوني استأثر به عن خلقه. وقد قدمنا أنه ثبت في صحيح البخاري وغيره تفسير النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: آية 59] بأنها الخمس المذكورة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} الآية (¬1) [لقمان: آية 34]. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} أي: علم وقت رسوها ومجيئها وثبوتها عند ربي وحده لا يعلمه أحد من خلقه؛ لأنه لم يطلع عليه أحدًا من خلقه. {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} يجليها مضارع جلاَّها. والعرب تقول: جَلَّى الأمر يُجَلِّيه: إذا أظْهَرَهُ وأبْرَزَهُ وبَيَّنَهُ. {لاَ يُجَلِّيهَا} أي: لا يظهرها ويبرزها ويُوجِدُها بالفعل في وقتها إلا هو (¬2). قال بعض العلماء: اللام للتوقيت، فهي بمعنى الفاء. أي: لا يظهرها في وقتها المقدر لها إلا هو وحده، فلا يعلم غيره وقتها. والعرب ربما جاءت باللام بمعنى في. يقولون: وقع هذا الأمر لثلاث من الشهر الفلاني: أي: في تاريخ ثلاث. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 294).

وقال بعض العلماء: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا} أي: لا يُظهر حقيقة خبرها ويكشف عن مكان وقتها بالتحقيق إلا هو وحده جل وعلا. ثم قال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اختلف العلماء في معنى ثقلها في السماوات والأرض على قولين (¬1): قال بعض العلماء: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خفيت عليهم فثقل عليهم خفاؤها؛ لأن كل شيء خفي على الإنسان ولمْ يعلمه ثقُل عليه. وهذا الوجه وإن كان ليس قريبًا من الظاهر هو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري (رحمه الله)، واستدل على اخْتِيَارِهِ له بأن ما بَعْدَهُ مِنَ الْكَلامِ وما قبله كله في معرض علم الساعة؛ لأن قَبْلَهُ: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} وبعده: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} فاختار أن المراد بقوله: {ثَقُلَتْ} أي: خفي علمها وثقل على الناس جَهْلُهَا. وقال بعض العلماء: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: كبرت الساعة وعظمت على أهل السماوات والأرض؛ لأنَّ ما فيها من الأهوال والأوجال يصعب على جميع الخلائق. وهذا أقرب. وقال بعض العلماء: لا تطيقها السماوات والأرض؛ لأن السماوات تعجز عن حملها فتتشقق، وتتناثر النجوم، وتُلَفُّ الشمس، ويُخسف القمر، وأن الأرض تُرفع جبالها، وتُبدل الأرض غير الأرض فلا تطيقها السماوات والأرض وأنها تعظم وتثقل وتكبر على أهلها لشدة ما فيها من عظم الأهوال والأوجال. ولا شك أن الشيء الذي يدك الجبال؛ تُنزع الجبال من أماكنها، وتُسَيَّر بين السَّمَاءِ والأرْضِ، ثم تُفَتَّت وتطحن؛ لأن الله (جل وعلا) ذكر تغيير نظام هذا ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 295)، القرطبي (7/ 335).

العالم، فبين في ذلك اليوم أَنَّ الجِبَال تُنزع من الأرض وتُطَيَّر بين السماء والأرض، وهو قوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ: آية 20] وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: آية 47] وقوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي: في ذلك اليوم بعد أن تُنزع من الأرض وتُسير بين السماء والأرض. وما يزعمه بعض من لا علم له بأن ذلك في دار الدنيا، وأن الجبال سائرة في دورة الأرض، فهو تحريف لكتاب الله وتفسير له بغير معناه، وصاحبه سلخ آخر الآية من أولها؛ لأن أول الآية: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ} ثم قال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: الآيتان 87، 88] أي: ويوم ينفخ في الصور فيفزع من في السماوات والأرض {وَتَرَى الْجِبَالَ} في ذلك اليوم {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ} [النمل: آية 88] ومرورها ذلك اليوم هو سيرها المعبَّر عنه بقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} [النبأ: آية 20] وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: آية 47] ثم إنّ رب السماوات والأرض يطحن تلك الجبال بقوته، فقساوة الجبال وشدتها عنده لا شيء لعظمته وكمال قدرته فيطحنها (جل وعلا) ويفتتها؛ وبعد تفتيتها مرّة شُبهت بالبسيسة - والبسيسة: دقيق ملتوت بسمن - وهو قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} [الواقعة: آية 5] أي: فُتت حتى صارت كالبسيسة. وتارة شبهها في لينها وانتزاع القسوة منها بالعهن المنفوش، كقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [القارعة: آية 5]. وتارة شبّهها بالرمل الليّن المتهايل في قوله: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً} [المزمل: آية 14]. ثم إن الله (جل وعلا) يصيرها في آخر أمرها سرابًا كما قال: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ

سَرَابًا (20)} والسراب يقرب معناه من الهباء المنبث، فهذا معنى قوله: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما كان هكذا: يفتت الجبال، ويزعزع الأرض لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وتتشقق فيه السماء، وتتناثر النجوم، ويسقط الشمس والقمر، وتفجّر البحار بعضها مع بعض فلا يخفى ثقل هذا اليوم على أهل السماوات والأرض لشدّة أهواله وأوجاله. وقوله: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} حكم الله (جل وعلا) أنّ القيامة لا تقوم على الناس إلا بغتة، أي: في حال كونها باغتة لهم، أي: مفاجئة لهم، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الساعة تقوم على الناس وهم في أشغالهم، الرجل منصرف بلبن لقحته فتقوم الساعة قبل أن يشربه، والرجلان يتبايعان ثوبهما فتقوم الساعة قبل أن يتبايعا، والرجل يصلح حوضه ليسقي فيه فتقوم الساعة قبل أن يصلحه، وهكذا. وقد يذهب الرجل ليأتي أهله بحاجة من السوق فتقوم الساعة ولا يقدر على أن يوادعهم ولا أن يوادعوه، كما قال جل وعلا: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} [يس: آية 50] فهي تفاجئ الناس وهم في أشدِّ غفلة، فتأتيهم فتهلكهم جميعًا، وهذا معنى قوله: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}. {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} في قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} وجهان من التفسير (¬1): أحدهما: أن الحفيَّ هو من الحفاوة، والحفاوة: الكرامة، تقول: فلان حفيٌّ بي. أي: أنا كريم عليه، ولقيت منه حفاوة. أي: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 297)، القرطبي (7/ 336).

كرامة ولطفًا. ومنه قول إبراهيم: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: آية 47] والذين ذكروا هذا القول زعموا أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا فخذ إلا بينك وبينها قرابة؛ فلأجل القرابة التي بيننا وبينك أَسِرّ لنا الوقت الذي تقوم فيه القيامة، أَسِرَّهُ إلينا عن الناس. فأنزل الله الآية (¬1). وعلى هذا القول ففي الآية تقديم وتأخير {يَسْأَلُونَكَ} عنها، عن وقت رُسُوِّها {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} وكأنك صديق لهم وقريب لهم لتخبرهم بما لم تخبر به الناس. هذا القول قاله جماعة من العلماء. وأظهر القولين: أن المراد بالحفيّ هنا: الذي يستحفي السؤال ويتقصيه (¬2)، العرب تقول: فلان يستحفي السؤال، معناها: يبالغ في السؤال عن الأمر ويتقصاه حتى يعلم حقيقته. يعني: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: مبالِغ في تقصّي أخبارها ممن عنده خبرها حتى تحققت جميع أخبارها والأمر بخلاف ذلك. والعرب تقول: فلان حفيّ: أي: كثير السؤال عن هذا الشيء، يتقصَّى السؤال عنه حتى يعرفه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى (¬3): فإنْ تسْأَلي عَنِّي فيا رُبَّ سَائِلٍ ... حَفيٍّ عن الأَعشَى به حيثُ أَصْعَدَا والوجهان متقاربان، والأخير أقرب. وهذا معنى قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}. {قُلْ} لهم يا نبي الله {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} كَرَّرَ ردَّ علمها إلى الله ليُعْلِم الخلق أنها لا يعلمها إلا الله. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (13/ 298)، عن قتادة مرسلاً. (¬2) هكذا في الأصل، وهو من سبق اللسان، وصوابه: ويتقصَّاه. (¬3) ديوان الأعشى ص50.

وقال بعض العلماء: العِلْمَان ليسا شيئًا واحدًا - أعني قوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} وقوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} - قال بعض العلماء (¬1): أحد العلمين: عِلْم عِظمها وفظاعتها، فلا يُعلمُ قدرها إلاَّ من يجليها لوقتها. [العلم] (¬2) الثاني: علم وقت مجيئها بالتعيين. والظاهر أنه توكيد، والتوكيد أسلوب عربيٌّ معروف {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)} [النبأ: الآيتان 4، 5] وما جرى مجرى ذلك. وهذا معنى قوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله (جل وعلا) استأثر بعلمها فهو (تعالى) مستأثر بعلمها كما صرح به في آيات متعددة كقوله هنا: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} وقوله في سورة الأحزاب: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: آية 63] وقوله في النازعات: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44)} [النازعات: الآيات 42 - 44] وقد ثبت في الصحيح في حديث جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، قال له: أخبرني عن الساعة. قال صلى الله عليه وسلم: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» (¬3). يعني لا نعلمها أنا ولا أنت؛ لأن الله استأثر بعلمها، والله (جل وعلا) استأثر بعلمها لمْ يُطلع عليه نبيًّا مرسلاً ولا مَلَكًا مُقَرَّبًا. [25/ب] / {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشير لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 336). (¬2) في الاصل: «الوقت»، وهو سبق لسان. (¬3) مضى تخريجه عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} [الأعراف: الآيات 188 - 190]. يقول الله جل وعلا: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشير لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: آية 188]. أمر الله (جل وعلا) نبيه في هذه الآية الكريمة أن يقول معلنًا لجميع الناس إنه (صلوات الله وسلامه عليه) وهو أفضل خلق الله وأكْرَمهم على الله أنه لا يملك لنفسه نفعًا يَجْلِبُهُ إِلَيْهَا، ولا ضرًّا يدفعه عنها. فالكلام على حذف مُضَافٍ دَلَّ المُقام عليْهِ {نَفْعًا} أي: جلب نفع لنفسي أَنْتَفِعُ بِهِ. وقوله: {وَلاَ ضَرًّا} أي: دَفْع ضرٍّ عن نفسي. {إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ} خالقي (جل وعلا) أن يملكني إيَّاه ويعينني عليه ويقوِّيني عليه فإني أملكه بمعونة الله وقدرته ومشيئته، وهذه عادة الرُّسُلِ الكِرَامِ (صلوات الله عليهم)، يُبَيِّنُونَ لِلْخَلْقِ أَنَّ النَّافِعَ والضَّارَّ هو خالق السماوات والأرض (جل وعلا) ليُوَجه الخلقُ إليه جميع رغباتهم ورهَباتهم، وأولى الناس بهذا الرسل (صلوات الله وسلامه عليهم) وأتباعهم فإنهم يوجهون جميع رغباتهم ورهباتهم إلى مَنْ بِيَدِهِ النَّفْع والضّر لينفعهم ويدفع عنهم الضّر، وهذا معنى قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ} أي: ولا أعلم الغيب أيضًا. كما أمره أن يعلن ذلك ويقوله في سورة الأنعام في قوله مخاطبًا لنبينا صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ... } الآية [الأنعام: آية 50]. فأول رسول بعثه الله لأهل الأرض بعد أن كفروا هو نوح (عليه وعلى نبينا الصلاة

والسلام)، أمره الله أن يقول هذا: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: آية 31] وآخِرُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ وَخَتَم به الأنبياء: نبيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أمره أيضًا بذلك حيث قال له في الأنعام: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: آية 50] وقوله هنا، كأنه قال: ولا أعلم الغيب {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} اعلموا أولاً أن قول جماعة من المفسرين أن معنى: {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي: من العمل الصالح قول لا شك في أنه ليس بصحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مُسْتَكْثِرٌ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ على كل حال، وعمله ديمة (صلوات الله عليه وسلامه). وفي الآية للمفسرين أقوال معروفة (¬1)، التحقيق إن شاء الله فيها أن معنى قوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: آية 188]، من المال ومن غير المال؛ لأنَّ مَنْ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ يعلم الأسباب التي تستوجب الأمراض فيتقيها فيبقى صحيحًا، ويعلم أوقات الغيب التي يأتي الله فيها بالربح والغلاء والرخص فيدخر للغلاء عدته وللرخص عدته، ويعلم الغيب فيما إذا باع هذا أنه يربح وإذا اشترى هذا أنه يخسر، إلى غير ذلك، فهو دائمًا يستكثر من الخير؛ لأن الناس إنما يُغبنون فيشترون شيئًا يخسرون فيه، أو يفعلون فعلاً يضرهم، أو يكون سببًا لمرضهم إنما ذلك من عدم علمهم بالغيب. أمَّا من يعلم الغيب ويعلم ما يكون فإنه إذا اشترى هذه السلعة هو عالم هل يربح منها أو يخسر فيها، فلا يخسر أبدًا، وكذلك يعلم إذا اشترى المواشي والرقيق أن هذا يموت بسرعة وهذا يعيش كثيرًا، وأنه إن ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 302)، القرطبي (7/ 336).

فعل كذا أصابه المرض، فتجنب أسباب الغبن، وأسباب الأمراض، وصار لا يعمل إلاَّ ما فيه خير له لاطلاعه على عواقب الأمور، وهذا معنى قوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}. وقوله: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} معطوف على جواب (لو) فهو في معنى جواب (لو) أي: ولو كنت أعلم الغيب ما مسني السوء؛ لأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ الغَيْبَ ويعلم متى يأتيه السوء وما سببه يتجنب أسباب السوء من أوَّل، فلا يصل إليه السوء، وهذا معنى قوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} فهو أعم من المال كما بيّنا. {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشير} يعني: ما أنا مالك لنفسي النفع ولا الضر، ولا أنا عالم بالغيب، كل ذلك إلى ربي، ولكني رسول من رب العالمين أُنذر من عصى الله بعقابه، وأُبشر من أطاع الله برضوانه وجنته، كما قال هنا: {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشير لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: آية 188] (إن) هنا هي النافية، والمعنى: ما أنا. وهذا القصر قصر إضافي {إِلاَّ نَذِيرٌ} قد قَدَّمْنَا (¬1) أن النذير بمعنى المنذر، وأن الإِنْذَار هو الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذارًا. ومعنى: (نذير) أي: منذر لمن عصى ربي وكفر به بالنار {وَبَشير} أي: مبشر للمؤمنين بالجنة، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97)} [مريم: آية 97] ونحو ذلك من الآيات. والبشارة في لغة العرب أكثر ما تطلق على الإخبار بما يسرّ، فَبَشَّرَه وبَشَرَه معناه: أخْبَرَهُ بما يسره. قال بعض العلماء: قيل لها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

بشارة؛ لأن السرور تظهر به حركة الدم فيظهر على بشرة الوجه آثار السرور، وربما أطلقت العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، والظاهر أن إطلاق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء أسلوب عربي معروف، فما هو مقرر في علم البلاغة (¬1): أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء أنَّه مِنْ نَوْعِ الاسْتِعَارَة التي يُسمونها بالعنادية (¬2) -ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية- الظاهر أن كل ذلك لا حاجة إليه وإن أطبق عليه المتأخرون؛ لأنها أساليب عربية نَطَقَتْ بِهَا العَرَبُ ونَزَلَ بِهَا القُرْآنُ. والعَرَبُ تطلق البشارة على الإخبار بما يسوء، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} [الجاثية: الآيتان 7، 8] وإطلاق البشارة على ما يسوء إطلاق معروف، وأسلوب عربي معروفٌ تَكَلَّمَتْ بِهِ العَرَبُ في لُغَتِهَا، ونزل به القُرْآن، ومنه في كلام العرب قوله (¬3): يُبَشِّرُني الغُرابُ بِبَيْنِ أَهْلِي ... فقُلت لهُ ثكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ وقول الآخر (¬4): وبَشَّرْتني يا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتي ... جَفَوْنِي وقالوا: الودُّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ هذا إخبار بما يسوء، وهذا معنى قوله: {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشير لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: آية 188]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

الظاهر أنه (جل وعلا) في هذه الآية خص النذارة والبشارة بخصوص المؤْمِنِينَ؛ لأنهم هم المنتفعون بها، [لأن غير المنتفع بها هي في شأنه كلا شيء. ونظير الآية من القرآن: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] مع أنه تذكير للأسود والأحمر، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: آية 11] وهو منذر للأسود والأحمر، {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ} [فاطر: آية 118] وهو منذر للأسود والأحمر. أي: بأنهم هم المنتفعون. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فالنفس الواحدة هي آدم عليه السلام، وزوجها حواء. و (جعل) تأتي في كلام العرب على أربعة أنحاء، ثلاثة منها في القرآن، والرابع موجود في لغة العرب وليس في القرآن، وهذه المعاني هي: الأول: (جعل) بمعنى اعْتَقَدَ. وهي تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: آية 19] أي: اعتقدوا الملائكة إناثًا. الثاني: (جعل) بمعنى (صَيَّرَ) ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} ... أي: صيرنا شياطين الإنس والجن عدوًّا لكل نبي. وهي أيضًا ... ] (¬1) تنصب المبتدأ والخبر أيضًا. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد تَمَّ اسْتِدْرَاك النقص المتعلق بتفسير الآية (188) من كلام الشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. كما تم استدراك النقص الواقع في تفسير الآية (189) من كلام للشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. وجعلت ذلك كله بين معقوفين.

الثالث: جعل بمعنى (خَلَقَ) (¬1) ومنه قوله: {الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: آية 1] أي: خلق الظلمات والنور، بدليل قوله: {خَلَقَ} قبله. والظاهر أن هذا المعنى هو الذي منه قوله: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: آية 189] أي: وخلق منها زوجها. وخير ما يُفسر به القرآن القرآن، وقد بينت آية النساء أن (جَعَل) هنا في سورة الأعراف وفي سورة الزمر معناها (خلق) لأن الله قال في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} [النساء: آية 1] فقوله في النساء: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} دليل قرآنِي على أن قَوْلَهُ في الأعراف: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وقوله في الزمر: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: آية 6] أن (جعل) فيهما بمعنى (خلق) وهذا هو الأظهر لدلالة القرآن عليه (¬2). وقوله: {زَوْجَهَا} يعني: حواء، وقد قدمنا (¬3) أن امرأة الرجل يُقال لها: (زوجُه) بلا تاء، وهذه هي اللغة الفصحى، وهي لغة القرآن، وشذ قَوْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ العَرَبِيَّة فزعموا أن الزوجة بالتاء لحْن، وأنها من كلام الفقهاء المَلْحُون، والتحقيق أن (الزوجة) بالتاء -لامرأة الرجل- أنها لغة لا لحن، إلاَّ أن اللغة المشهورة الفُصْحى أن تقول لامرأة الرجل: هذه زَوجُه. ولو قلت: هذه زوجته. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬2) وبقي المعنى الرابع من معاني (جعل) لم يذكر هنا وقد ذكره عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام، وهو بمعنى (شرع) وذكر هناك أنه ورد في اللغة ولم يرد في القرآن. فراجعه إن شئت. (¬3) انظر: القرطبي (1/ 240)، اللسان (مادة: زوج).

لكانت لغة، ولم يكن لحنًا، خلافًا لما ذكره بعض علماء العربية. ومن إطلاق الزوجة بالتاء على امرأة الرجل في كلام العرب. قول الفرزدق، وهو عربيٌ فصيح (¬1): وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى ليُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إلى أُسْد الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا وقول الحماسي (¬2): فَبَكَى بَنَاتِي شَجْوَهُنَّ وزَوجَتي ... والظَّاعنُونَ إليَّ ثم تَصَدَّعُواْ وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صَفِيَّة: «إنها زوجَتِي» (¬3) على القول بأن الحديث يُستدل بألفاظه في العَرَبِيَّة. فقوله: {جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: خلق من هذه النفس الواحدة التي هي آدم زوجها، أي: امرأة آدم، التي هي الأم حواء. وقد بيّن (جل وعلا) أنه خلق حواء مِنْ آدَمَ في ثلاث آيات من كتابه: الأولى قد قَدَّمْنَاهَا في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} [النساء: آية 1] وقال هنا في الأعراف: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء. وقال في الزمر: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: آية 6] فهذه الآيات الثلاث لها شأن عظيم، وخطب ¬

(¬1) البيت في المصدرين السابقين. و (الشرى) مأسدة بجانب الفرات يُضرب بها المثل. ومعنى (يستبيلها) أي: يأخذ بولها في يده. (¬2) البيت لعبدة بن الطبيب، وهو في الخصائص (3/ 295)، المفضليات ص148، أوضح المسالك (1/ 359). (¬3) مسلم في السلام، باب بيان أنه يُستحب لمن رُؤي خاليًا بامرأة وكانت زوجة أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به. حديث رقم (2174)، (4/ 1712).

جليل، وإشارات إلى أمور عظيمة، سنُلِمُّ بأطْرَافِهَا بعض الإلمام، فاعلموا أيها الإخوان أن هذا القرآن العظيم هو كَلاَم رَبِّ العَالمين ونوره المبين الذي أنْزَلَهُ على خَلْقِهِ ليستضيئوا بنوره، وقد يشير إلى جميع الأشياء ولا تكون في الدنيا مشكلة إلا أشار لها، وهذه الآيات الثلاث تضمنت حِكَمًا لا بد من الإلمام بها والتنبه لها، كما على المسلمين أن يَتَفَهَّمُوا ذلك. اعلموا أن الله في هذه الآيات الثلاث من كتابه في سورة النساء، وفي سورة الأعراف، وفي سورة الزمر بيَّن أنَّهُ خَلق المرأة الأولى -التي هي مبدأ نشأة إيجاد النساء خلقها- مِنْ ضلع الرجل الأول؛ لتعلموا بذلك أن ابتداء نشأة الأنثى ومبدأ خلقها أنها لم تُخلق مستقلة في الوجود عن الرجل، بل خُلقت في أصل نشأتها الأولى التي أنشأها الله عليها وجودها تابع لوجود الرجل، ومستندة في وجودها على وجوده. وهذا الأمر أمر كوني قدري جبل الله عليه إيجاد الأنثى حيث أوجدها، وهذا الأمر الكوني القدري تحته لوازم عظيمة من عدم مساواة الرجل والأنثى في عشرات الميادين لعدم مساواتهما في النشأة الأولى والإيجاد الأول، فالرجل وُجد ونشأ أولاً مستقِلاً بوجوده عنها، لمْ يتوقف وجوده على وجودها، وهي في نشأتها الأولى وإيجادها الأول أُنشئت جزءًا منه، وجودها تابع لوجوده مستند إليه. ولوازم هذه المسألة الكونية القدرية لمْ يهملها رب السماوات والأرض لأنه الحكيم الخبير، فَتَحْتَ هذا الإيجاد الأول لوازم تابعة له كثيرة قد جاءت مبينة في الحس والعقل والشرع الكريم، نُلم بشيء منها، وبهذا تعلمون أن ملاحدة الإفرنج الكفرة وأتباعهم من

الخفافيش الذين يزعمون أنهم مسلمون، الذين يقولون: (إن الأُنثى كالرجل في جميع الميادين) يكذبون أولاً في النشأة الأولى والإيجاد الأول، فإنهما عندما أراد الله إيجادهما لمْ يبدأ إيجادهما بالتسوية، بل جعله إيجادًا متفاوتًا متباينًا، فجعل إيجاد هذا مستقلاًّ عن هذا، وجعل إيجاد هذا تابعًا لإيجاد هذا ومستندًا إليه، وهذا التبع الذي هو منشأ الأمر وأصله له لوازم رعاها الشرع (جل وعلا) ورعاها الحسّ والعادة، وهي أمور سنبيّن أطرافًا منها ليعلم الناس أن ما قدَّره الله في كونه وأزله أنه قد يُراعه في شرعه، وأَنَّ مَنْ يُريدُ أنْ يُغالب قدر الله هو المغْلُوب؛ فَالله (جل وعلا) هو خالق هذا الكون، وهو المتصرِّف فيه بما شاء، وهو المميز بين أجْزَائِهِ، والمخالف بين أنْوَاعِه، وما خالف الله بينه منها لا يمكن أحدًا أن يماثله، ومن أراد أن يماثله فإنه مغلوب عاجز لا محالة، كما قال كعب بن مالك في قريش (¬1): زعمتْ سَخِينَةُ أن ستغلب ربها ... فليُغلبنَّ مُغالب الغَلاَّبِ فمن لوازم كون المرأة تابعٌ وجودها لوجود الرجل، ومستند عليه، ليس مستقلاً له: أنه كان الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، ونسبة الأولاد إلى الرَّجُل لا إلى المرأة، والرجل يُفضل في الميراث على المرأة، والرجل يجمع بين امرأتين وثلاث وأربع، والمرأة لا تجمع بين رجلين ولا ثلاثة، إلى غير ذلك من الفوارق الشرعية، وهي حسية عقلية مستندة إلى فوارق كَوْنِيَّة قدرية جبل الله عليها ¬

(¬1) البيت في تاريخ دمشق (12/ 405)، (50/ 191)، الاقتضاب شرح أدب الكُتَّاب للبطليوسي (1/ 76)، اللسان (مادة: سخن) (2/ 116)، أساس البلاغة (س، خ، ن)، تهذيب اللغة (7/ 177)، (8/ 138)، جمهرة اللغة (583، 600، 816)، تاج العروس (1/ 415)، (6/ 248)، (9/ 232).

الجميع عندما أراد إيجادَهُ، وَسَنُلِمّ ببعض الأطراف من هذا ليظهر للناس خِزْيُ فَلْسَفَة هؤلاء المتفلْسِفين الكفرة الفجرة ومن قَلَّدَهُم من الخفافيش التي أعمت أنوار القرآن أبصارها. خَفَافيشُ أعماها النهارُ بضَوئِهِ ... ووافَقَهَا قِطْعٌ من الليلِ مُظْلمُ (¬1) يقولون مثلاً: لِمَ كان الطلاق بيد الرجل؟ ولِمَ لمْ يؤخذ رأي المرأة فيه؟ وهذا ظلم من شرع الإسلام للمرأة؛ لأن ابتداء العقد أولاً لمْ يقع حتى أُخذ رأيها فيه وأُخذ رأيهما معًا، فمن أين أعطى الاستقالة للرجل وحده دون إذنها؟ ويُفلسفون هذه الفلسفات. ونحن نقول: إنَّ كون الطلاق بيد الرجل هو الأمر المعقول الذي يشهد له الحس والفطرة والشرع، والنَّشْأَةُ الأولى؛ لأنَّ من خلق الرجل وخلق المرأة -هو خالق هذا الكون، وهو أعلم بحقائقه وما يُصْلِحُ كُلاً منه- صرح في محكم كتابه- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أن النساء حروث ومزارع، قال تعالى في محكم كتابه: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: آية 223] ولو حاول الإفرنج ما حاولوا أن يكذبوا قوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} لمْ يقدروا على كل حال؛ لأنه قول من خلق الجميع وفعلُه وكونُه وقدرُه لا يمكن أحد أن ينفيه؛ لأن الرجل لمْ يكن في بطنه رحم يتربى فيها الولد، والنطفة المشاهدة أن تبذر في بطن المرأة، وأن تتربى فيها كما يتربى البذر في الأرض حتى يحصد تامًّا، هذا أمر مشاهد يشهده الحس والعقل، لا يمكن المكابر أن ينكره: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ومعلوم أن الحارث المزدرع فاعل، وأن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

الحقل المزروع مفعول به بطبيعة الحال وحقيقة الأمر الواقع المحسوس الذي لا يمكن أن ينكره المكابر. ومما يوضح هذا: أن آلة الازدراع -آلة التناسل- هي مع الرجل، فلو قلنا كما يقوله الإفرنج: إنه لا يتركها إلاَّ برضاها، وأن ترضى مفارقته إيَّاها، وصار مكرهًا عليها لا يريدها، فهو زارع مُرْغَم على حقل لا يريد الزراعة فيه، فإنها لو أرادت أن تجامعه لتحصل منه على ولد فأنا أؤكد لكم أنها لا تقدر، ولا ينتشر ذكره، ولا يقوم إليها، ولا تقدر أن تأخذ البذر منه بحال من الأحوال، بخلاف الرجل الذي هو بطبيعة الحال فاعل، والذي هو زارع {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: آية 223] فإنه قد يُحبلها وهي كارهة، فتكون في أشدّ التمنع والكراهة ويُرغمها ويقهرها فتحمل. وقد كان العرب يقولون: إن المرأة التي حملت وهي مكرهة على الغَشيان أن ولدها لا يطاق أبدًا، وهو أمر معروف عندهم مشاهد، ومنه قول أبي كبير الهذلي يصف رجلاً لا يطاق؛ لأن أُمَّه حملته شادَّة حزامها ونطاقها غير راضية بالمسيس (¬1): ممنْ حَمَلْنَ به وهُنَّ عواقدٌ ... حُبكَ النِّطاقِ فَشَبَّ غير مُهبَّل حملتْ به في ليلةٍ مَزْؤودَةٍ ... كَرْهًا وعَقْدُ نطاقها لم يُحْللِ فهذا يُحبلها راغمة كارهة، وهي لا تقدر، فدل على أنه فاعل، وعلى أنها مفعول، والمباينة بين الفاعل والمفعول معروفة، ومن أراد أن يسوي بين الفاعل والمفعول فهو مطموس البصيرة يُنكر القَدَر والأمور الحقيقية المحسوسة كما هو معروف. وكذلك زعمهم أن تفضيل الرجل على الأنثى في الميراث أنه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأعراف.

ظلم من الشرع؛ لأنَّ الرجل والمرأة يُدْلِيَان للميت بقرابة واحدة، فكيف تكون المرأة والرجل يمتان للموروث بقرابة واحدة ونصيب الرجل أكثر من نصيب الأُنثى؟! وهذا قولهم وفلسفتهم الشيطانية، والله (جل وعلا) في آية الصيف -أعني الآية الأخيرة النازلة في المواريث من آخر سورة النساء- بيّن (جل وعلا) فيها أَنَّ مَنْ سَوَّى بين الذكر والأنثى في الميراث أنه ضال ولا شك في ذلك الضلال؛ لأن الله يقول: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: آية 176] {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث {أَن تَضِلُّواْ} كراهة أن تضلوا عن الطريق المستقيم، أو لأجل أن لا تضلوا. فالمسوِّي بينهما ضال بنص المحكم المنزل لا شك في ذلك، وإيضاح هذا بالمحسوس المعقول الذي لا يماري فيه إلاَّ مكابر: أن الله (تبارك وتعالى) جعل الذكورة بطبيعتها جمالاً وكمالاً وقوة خلقية، فنفس الذكورة جمال طبيعي، وكمال خلقي، وقوة طبيعية، كما أن الله (جلَّ وعلا) أوجد الرجل - إيجاده الأول- إيجادًا مستقلاً، والأنُوثة هي بحقيقة ذاتها وطبيعتها نقص جِبِلّي خلقي، وضعف خلقي لا ينكره إلا مكابر، والله (جل وعلا) بين في كتابه أن الأنوثة أنها بطبيعة حالها ضعف جِبِلّي ونقص خِلْقي منحط عن درجة الذكورة حيث قال: {أَوَمَن يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} [الزخرف: آية 18] وفي القراءة الأخرى (¬1): {أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي أتجعلون لله ولدًا وبعد ذلك تجعلون له أضعف الولدين وأنقصهما وأحوجهما إلى التكميل الذي يُنَشَّأُ في الحلية من مدته وهو صغير. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص397.

وتنشئة الأنثى في الحلية: تُثقب آذانها، وبعضهم يثقب أنفها، ويحطون لها الخلاخيل والأسورة والدماليج والثياب الجميلة، وسائر الحلي والحلل، ولا يفعلون شيئًا من هذا للذكر. وهذا يدل على أنها جِبَلَّة طبيعية بشرية عامة أن جمال الذكورة وكمالها أغنى عن الحلي والحلل، وأن الضعف الملموس في الأُنثى يحاول جبره بهذه الزينات ليجبر ذلك النقص، وقد صدق من قال (¬1): ومَا الحَلْيُ إلا زِينَة من نَقِيصةٍ ... يُتَمِّمُ من حُسْنٍ إذا الحُسْنُ قَصّرا وأَمَا إذَا كانَ الجمالُ مُوَفَّرًا ... كحُسْنكِ لمْ يَحتَجْ إلى أن يُزَوَّرا كذلك قال في المرأة: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} لأنَّ أغلب طبيعة النساء أن المرأة لا تُجابه ولا تقدر على مخاصمة فحول الرجال في الميادين التي تزدحم فيها الناس؛ لضعفها الخلقي، ونقصها الجبِلِّي، ومما يدل على أن هذا أمر جِبِلِّي مركوز في طبائع العقلاء: أن ضعفَ أركان المرأة وضعف عظامها ولينها وخنوثتها جمال فيها يستوجب محبتها ويزيد الميل إليها، وكذلك عدم إبانتها في الخصام من جميع محاسنها ولين أُنوثتها الذي يجلب القلوب إليها بخلاف الرجال، وهذا كلام جاء في جِبِلاَّت العقلاء فإنهم يُشَبِّبُون ويذكرون من محاسن النساء لينها وضعف أركانها، وعدم إبانتها في الكلام، ألا ترون إلى قول جرير وهو عربي فصيح (¬2): إن العُيونَ التي في طَرْفِهَا حَوَرٌ ... قَتَّلْنَنَا ثُم لم يُحْيِيْنَ قَتْلاَنَا يَصْرَعْنَ ذَا اللّبِّ حتى لا حِرَاكَ به ... وهُنَّ أَضْعَف خَلْقِ الله أَرْكَانَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من هذه السورة. (¬2) البيتان في ديوانه ص452.

فقوله: «وهن أضعف خلق الله أركانا» مما يجر القلوب إليهن ويزيدهن محبة، وذلك يدل على أن الطبيعة كما ذكرنا، كذلك قال ابن الدمينة فى امرأة لا تقدر أن ترد عن نفسها ما رُميت به من ريبة (¬1): بَنَفْسِي وأَهْلي مَنْ إذا عَرَضُوا لَهُ ... لبعضِ الأَذَى لم يَدْرِ كيفَ يُجيبُ ... وَلمْ يَعْتَذِرْ عُذْْرَ البَريءِ ولم يزلْ ... به سَكْتَةٌ حتى يُقال مُريبُ فشبب بها بهذا، وهذا الضعف الخلقي الجِبلّي أمر مشاهد لا ينكره العقلاء، فالإفرنج الذين يقولون: إن المرأة كالرجل في جميع الميادين الكذبة الفجرة الخاسئون يجعلون صبغ الحمرة على فم الأنثى ولا يجعلونه على فم الرجل، ألا ترون أنهم يضعون الحمرة على فم الأُنثى ولا يضعونها على فم الرجل!! ما هذا الفرق إلاَّ لفوارق طبيعة جُبل عليها عامة العقلاء حتى الإفرنج الذين عقولهم كعقول البهائم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: آية 179]. فلما كانت الأُنوثة ضعفًا خلقيًّا وعدم كمال جِبلِّي، والذكورة كمال جِبِلِّي وقوة طبيعة خلقية؛ ولذا لا ترى ذكرًا في الدنيا تُثقب آذانه ليُجعل فيها الحلي، ولا يُثقب أنفه، ولا تُجعل له الأساور والحلي ليكمل به؛ لأن شرف ذكورته وكمالها يكفيه عن التزين بالحلي. لما كان هذا النوع من أنواع الإنسان الذي خُلق في مبدأ خلقه مستقلاًّ أقوى وأكمل من هذا النوع الآخر الذي خُلق في مبدأ خلقه وجوده تابعًا لوجود هذا ومستندًا إليه كما أجرى الله عادته وقدره بذلك كان ¬

(¬1) البيتان في ديوان مجنون ليلى ص29، وفي عيون الأخبار (3/ 103)، الشعر والشعراء ص492، ونسبه لابن الدمينة.

اللازم أن يكون هذا القوي في خلقته الكامل في طبيعته، قائمًا على ذلك الضعيف بجبِلَّته ليوصل له ما يعجز عن إيصاله من النفع لنفسه، ويدفع عنه ما يعجز عن دفعه من الضرّ عن نفسه، وهذا هو الأمر الكوني القدري المُعَضَّد بنور السماء {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} إنما جعل الرجال قوَّامين على النساء؛ لأن كمال الرجال بذكورتهم وقوتهم الطبيعية جعلتهم يقومون على النساء لضعفهن الخلقي الجِبِلِّي كما قال: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: آية 34] فلما اقتضت طبيعة قوة الرجل وكمال ذكورته أن يكون قائمًا على الأُنثى، واقتضى ضعف الأُنثى الخلقي، وعدم استقلالها في نشأتها، وتبعية وجودها في نشأتها لوجود الرجل، وعدم استغنائها عنه اقتضى ذلك أن يكون هذا الكامل القوي قائمًا على هذا الضعيف في خلقته ليدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من أنواع الضر، ويجلب له ما لا يقدر على جلبه من أنواع النفع وصار الرجال قوَّامين على النساء، ومن هنا صار الرجل يترقب النقص دائمًا؛ لأنه ينفق على نسائه، ويدفع لهن المهور، فهو يترقب النقصان دائمًا، والمرأة بحال طبيعتها ونقصها الجِبِلِّي تترقب الزيادة دائمًا، فإن المرأة تترقب رجلاً يدفع لها مهرًا ضخمًا ويقوم بلوازمها في الحياة من مطعم ومشرب ومأكل وملبس إلى غير ذلك، فالمرأة تَتَرَقَّبُ الزيادة والأخذ دائمًا، والرجل يَتَرَقَّبُ النقصان والغرم دائمًا، والميراث ما تَعِبَا فيه، ولا مسحا فيه عرقًا، مَلَّكَهُمَا اللهُ إيَّاه ملكًا جبريًّا بحكمته وفضله، فاقتضت حكمة الخبير الحكيم العليم أن يُؤثر مترقب النقص دائمًا ويكثر نصيبه على مترقب الزيادة دائمًا؛ ليكون في ذلك جبرًا لبعض نقصه المترقب. ولو رأيت أحدًا قد يعطي اثنين شيئًا وأحد

هذين الاثنين يترقب النقص دائمًا، وأحدهما يترقب الزيادة دائمًا، وآثر في عطائه مترقب النقص ليجبر من نقصه لقلت: أن تأثيره له حكمة واقعة موقعها على أحسن ما يكون. واعلموا أن الله تبارك وتعالى خلق المرأة -لما جبلها عليه من الطبيعة- مستعدة للمشاركة في بناء المجتمع الإنساني على أكمل الوجوه وأبدعها وأحسنها، ولا تَقِلُّ خدمتها عن خدمة الرجل، إلاَّ أن الله جعل تلك الخدمة التي تقوم بها المرأة لمجتمعها جعلها في داخل بيتها في عفاف وصيانة وستر، ومحافظة على الشرف ومكارم الأخلاق، فيذهب الرجل يكدح في الحياة يبيع ويشتري، أو يناجز الأقران في ميدان القتال، والمرأة في بيتها عاطفة على الصغير من أولادها، عاطفة على المريض، عينها من وراء جميع ما في البيت، ترضع الرضيع، وتعالج المريض، وتفعل كل شيء، فإذا جاء قرينها الآخر من عمله وكدِّه في الحياة وجد كل شيء حاضرًا، وجد أولاده الصغار مرضعين، والمرضى ممرضين، وكل شيء جاهز، فهذه الخدمة التي قامت بها في داخل بيتها لا تقل عن خدمته هو في الخارج في ميدان الحياة، ومع هذا هي في صيانة وستر، ومحافظة على الشرف والفضيلة، ومرضاة لخالق السماوات والأرض (جل وعلا) ولا شك أن هذا التعاون بين الرجل والمرأة أنه تعاون كريم نزيه بمقتضى جبلتهما وما طبعهما الله عليه، وأنه يغيظ الشيطان ولا يرضي إبليس، فإبليس يحب أن يكون الأمر لا ينبغي، وأنه على حالة خبيثة، فيقرأ فلسفته في آذان أوليائه فيفلسفون في أذن المسكينة فيضللونها بالشعارات الزائفة والكلمات الكاذبة السخيفة من اسم الحضرية، والتمدن، والحضارة، والتقدم، ويقولون للمرأة التي

كانت في بيتها تخدم زوجها وأولادها ومجتمعها على أكمل الوجوه وأتمها، في صيانة وستر، ومحافظة على الشرف والفضائل، ومرضاة لخالق هذا الكون، يحسدهم الشيطان على هذا، ويغضبه هذا التعاون الكريم النزيه، فيقول لأوليائه أن يقولوا للمرأة: أنت محبوسة في البيت، أنت مجرمة، أنت دجاجة، فلك أن تخرجي وتشمِّي الهواء، وتفعلي كما يفعل الرجل!! وهذا خديعة لها وغرور للمسكينة الجاهلة؛ لأنها تخرج من حيائها وسترها وخدمة بيتها، فإذا خرجت تكدح في الحياة مع الرجل عَرَّضت جمالها لأعين الخائنين؛ لأن المرأة هي أعظم شيء يَتَعَرَّضُ لخيانة الخائنين؛ لأن العين الفاجرة الخائنة إذا نظرت في جمالها استغلَّتْ ذَلِكَ الجَمَالَ والنِّعْمَة الإلهية مَكْرًا وغَدْرًا وجناية على الشرف والفضيلة وعلى الإنسانية، وإذا مَسَّهَا وَاحِد -مس بدنها في الزحام- بدعوى أنها تخرج باسم التقدم والحضارة والمدنية. وما هذه إلا ألفاظ جوفاء خبيثة كلبة خنزيرة يراد بها ضياع الشرف والفضيلة -والعياذ بالله- فإذا خرجت بَقِيَتْ جميع خدمات البيت ضائعة، بقي الرضيع من الأولاد ليس عنده من يرضعه، والمريض ليس عنده من يمرِّضُه، وليس هناك مَنْ يُهَيِّئ طعامًا لهم إذا جاءوا، فلو قدرنا أنهم أجَّرُوا إنسانًا ليجلس مكان المرأة كان هذا الإنسان الأجير هو الذي يأكل عَلْقَة الدجاج والحبس، صار هو المحبوس في البيت ولا ذنب له، وإنما حُبس هذا لتخرج المرأة وتضيع شرفها وفضيلتها وكرامتها، والمرأة إذا ضَاعَ شَرَفُهَا وفضيلتها وكرامتها وصارت مائدة لعيون الخونة فإنها لا خَيْرَ لها في الحياة، فبطن الأرض خير لها من ظهرها ولا شك في ذلك.

فهذه الفلسفات الكاذبة تُضَلّلُ بها المسكينة باسم الحضارة، واسم التقدم، واسم التمدن، وأنها ليست بدجاجة ولا مجرمة محبوسة بالبيت؛ لتُخرج من حيائها وتُجعل مائدة لخونة الأعين الخائنة (والعياذ بالله) ويضيع شرفها، وتضيع دنياها وآخرتها، والعياذ بالله. فعلينا -معاشر المؤمنين- أن نعلم أن بَيْنَ الأنثى والذكر فوارق طبيعية جَبَلَهُمَا الله عليها لا يمكن لأحد أن يَجْهَلَها ولا يتجاهلها، ومن أراد أن يكسر هذه الحواجز التي بين الذكر والأنثى لبعدها وقوتها فهو ملعون في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» (¬1) فالتي تترجَّل تحاول التشبُّه بالرجل في جميع الميادين هي ملعونة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أرادت أن تحطم فوارق وحواجز وَضَعَها خالق السماوات والأرض كونًا وقدرًا وشرعًا لا يمكن لأحد أن يحطمها بوجه من الوجوه. والعجب كل العجب أن المرأة إذا ضُلِّلت وسُفِّه عقلها بالشعارات الزائفة، والفلسفات المضلة باسم التقدم، والحضارة، والتمدن، وأنها ليست بدجاجة، ولا مجرمة محبوسة في البيت؛ ليُضَيَّع شرفها وتُعَرض للرذائل وضياع الشرف وسخط رب العالمين، فهي مع هذا تحاول أن تترجل، وأن تكون كالرجل في كل شيء، ولو ¬

(¬1) أخرجه البخاري في اللباس، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، حديث رقم (5885)، (10/ 332). وأطرافه في (5886، 6834) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

كشفت ثيابها وكشف الرجل ثيابه لعُلم أن هنالك مغايرة محسوسة طبيعية لا يمكن الإفرنج ولا أذناب الإفرنج أن يكسروها ولا يحطموها؛ لأنه قَدَرُ خَالِقِ السَّمَاوات والأرْضِ وأفعال رب العالمين لا يمكن أن تُكْسَر، ومع هذا فالمؤسف كل المؤسف أن الرجال يَتَأَنَّثُون وينماعون، ويترك الواحد حرمه -امرأته وبناته- ذاهبة في هذه التيارات المخزية الكافرة الفاجرة الملحدة!! ووالله لقد صدق المتأخر في قوله (¬1): وَمَا عَجَبٌ أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجّلَتْ ... وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ فالعجب كل العجب أين ضاعت رجولة الرجال، وغيرة الرجال، وضمائر الرجال، أين ضاع هذا وتلاشى وانماع؟! فالرجل إذا كانت حرمه تخرج مائدة لأعين الفجرة، متجرِّدة من الدين والشرف وأخلاق الإسلام على فلسفات كاذبة خسيسة ملعونة جاء بها الإفرنج، كلها شعارات زائفة كاذبة: تمدن، حضارة، تقدم؛ ليضيع الشرف. ومعلوم عند الناس أن كل البلاد الإسلامية التي كانت متمسكة غاية التمسك، ورجالها فيهم غيرة على بناتهم، لما دخل عليها هذا التيار، وجاءتها هذه الشعارات: تمدن، حضارة، تقدم، أن نساءهم - والعياذ بالله - صاروا فيما لا يُعَبَّر عنه، ولا يحتاج أحد أن يُنَوِّه عنه لشهرته مِنَ المجُون والفِسْق، وضياع الشرف والفضيلة، وانعدام الحياء رأسًا، والمرْأة إذا ضاع شرفها وفضيلتها فبطن الأرض خيرٌ لها مِنْ ظَهْرِهَا. ¬

(¬1) البيت في الأضواء (3/ 422)، الدرر السنية (6/ 62)، فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (10/ 243).

ومعلوم أن الله تبارك وتعالى فَرَّقَ بَيْنَ الذَّكَرِ والأنْثَى جِبلَّةً وكونًا وقدرًا وشرعًا، فمن يقول: إن المرأة كالرجل في جميع الميادين، وأنها تزايل ما يزايله الرجل فهو مجنون كاذب مغلوب؛ لأنه يعاند القدر، ومن أراد أن يعاند قدر الله فهو المغلوب، مع أن المرأة التي يقولون: إنها كالرجل في جميع الميادين بطبيعة حالها تمر عليها أوقات وهي لا تقدر على عمل، فهي في أوقات الحمل إذا صارت لها ستة أشهر ونحوها فإنها يُثْقِلها الحمل، ولا تقدر على فعل شيء وفي بطنها إنسان، فأين هذه من الذكر؟! الذكر لا يمكن أن يكون في بطنه إنسان، ولا يعجزه هذا الإنسان الذي في جوفه عن العمل، فأين الاتحاد، وأين المماثلة؟! وكذلك إذا نُفِسَت فإن النفاس يمرضها ويضعفها، والرجل لا يُنفس، فأين هذه المساواة، وأين هذا من هذا؟! فهذه فوارق قدرية كونية، تترتب عليها فوارق شرعية وحسِّية، وهذا من المعلوم. فقد بيّنا في هذه الآية أن الحواجز والفوارق بين الرجل والمرأة أنها موجودة عند نشأة الرجل الأول، وعند نشأة المرأة الأنثى؛ لأن المرأة الأنثى الأولى ما نشأت ولا وُجدت وجودًا مستقلاً عن الرجل، بل خُلِقَتْ من ضلع الرجل، فهي جزء منه، وجودها تابع لوجوده، مستندة في وجودها إليه، وهذا الأمر الكوني القدري الطبيعي الذي فعله خالق السماوات والأرض الحكيم الخبير لوازمه سارية في جميع ميادين الحياة، والإفرنج يحاولون أن يحطموا هذه الفوارق كلها وأتباعهم من الخفافيش!! والغريب كل الغريب أنوثة الرجال وميوعة ضمائرهم!! فإنا لله وإنّا إليه راجعون. وَمَا عَجَبٌ أنَّ النِّسَاءَ تَرَجّلَتْ ... وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ (¬1) أين غَيْرَةُ الرِّجَالِ، وأيْنَ شَهَامة الذّكور؟! ¬

(¬1) مضى قريباً.

[26/أ] / {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)} [الأعراف: الآيات 189 - 194]. يقول الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} [الأعراف: الآيتان 189، 190]. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} قد ذكرنا أن التحقيق أن المراد بهذه النفس الواحدة آدم، وأن زوجها التي خلق منها أنها حواء، وتكلمنا بهذه المناسبة على أن الرجل الأول والمرأة الأولى اللذان هما سبب إيجاد الرجال والنساء جميعًا كما تقدم في قوله في صدر سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} [النساء: آية 1] أن نشأة -بدء- هذا الرجل وهذه المرأة كانت المرأة وجودها تابع وجود الرجل، ومستندة في وجودها إليه، وأن هذا الأمر اختلاف أساسي من أصل الوجود والمبدأ، وأن ذلك الاختلاف قد ترتب عليه لوازم من المخالفة الضرورية بين الرجل والمرأة، وذكرنا بعض الأشياء التي

يشنع الملحدون فيها على دين الإسلام، ويزعمون أنه لم ينصف المرأة فيها، كجعل الطلاق بيد الرجل، وتفضيله على المرأة في الميراث، وجواز تعدد الزوجات. وقد بيّنا حكمة كون الطلاق بيد الرجل، وحكمة تفضيل الرجل في الميراث، وبيّنا أن الرجل يترقب النقص دائمًا؛ لأنه ينفق الأموال في مهور النساء ونفقاتهن ونوائب الدهر، والمرأة تتَرَقَّبُ الزِّيَادَة دائمًا، تترقب رجلاً يدفع لها مهرًا ويقوم بإِنْفَاقِهَا ولوازِمها في الحياة، فمن أعطى اثنين وآثر مترقب النقص منهما على مترقب الزيادة كان إيثاره واقعًا موقعه، مطابقًا للحكمة، ولا سيما إن كان ذلك من العظيم الخبير العالم بخبايا الأمور، الذي بيّن في كتابه أَنَّ مَنْ زَعَمَ اسْتِوَاءَ الرَّجُل والأنثى في الميراث أنه ضال؛ لأن الله لما قال: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أتبع قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} بقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ} [النساء: آية 176] يعني: هذا الذي فضل الذكر على الأنثى في الميراث عليم بكل شيء، فهو أعلم بخفايا الأمور وخباياها، وبدقائق المصالح وجلائلها، بيّن لكم هذا البيان {أَن تَضِلُّواْ} كراهة أن تضلوا، أي: لأجل أن لا تضلوا فتسوّوا بينهما في الميراث. وأردنا الآن أن نتكلم على بقية قليلة من ذلك، فنبين حكمة تعدد الزوجات، وأن الذين أنكروا ذلك وعابوه على دين الإسلام كفرة ملاحدة طمس الله بصائرهم بظلام الكفر -والعياذ بالله- فالله (جل وعلا) أباح للرجل أن يجمع أربع زوجات بشرط أن يقدر على العدل بينهن، وقد بيّن القرآن أن العدل بينهن قسمان: عدل ممكن، وعدل غير ممكن. أما العدل الممكن بين الزوجات: فهو تَسْوِيَتُهُنَّ

في الحقوق، وإنصاف بعضهن من بعض في اللوازم اللازمة، فهذا ممكن يَقْدِرُ كلّ أحَدٍ عَلَيْهِ، وهذا الذي نهى الله عن الميل فيه، قال: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: آية 129]. وعدلٌ بينهن ليس تحت طاقة البشر ولا يُقدر عليه، وهو المساواة بينهن في المحبَّةِ الطبيعية والميل النفساني؛ لأن المحبة ليست من الأفعال الاختيارية، وإنما هي من الانفعالات والتأثرات النفسانية التي لا تدخل تحت قدرة العبد. وهذا العدل في المحبة والميل الطبيعي النفساني لا يُقدر عليه، وهو الذي قال الله فيه: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: آية 129] وكان صلى الله عليه وسلم يقسم بين أزواجه فيعدل، ثم يقول مبيّنًا هذين القسمين: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ» (¬1). يعني الميل الطبيعي والمحبة؛ لأن هذا ليس تحت قدرة البشر، فالله (جل وعلا) أباح للرجل أربع زوجات بشرط قدرته على العدل بينهن في الحقوق الشرعية، وإن كان الميل الطبيعي والمحبة النفسانية ليس بيده، إلا أن المساواة بالحقوق الشرعية هي في مقدوره، فإن كانت هذه أحب إليه طبيعة، وهو أميل إليها بالمحبة؛ فإنه يمكنه أن يسوّي بينها وبين الأخرى، وينصف بينهما في الحقوق الشرعية كمال الإنصاف كما ¬

(¬1) أحمد (6/ 144)، والدارمي (2/ 67)، وأبو داود في النكاح، باب في القسم بين النساء، حديث رقم (2120)، (6/ 171 - 172)، والترمذي في النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، حديث رقم (1140)، (3/ 437)، والنسائي في عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض. حديث رقم (3943)، (7/ 63 - 64)، وابن ماجه في النكاح، باب القسمة بين النساء، حديث رقم (1971)، (1/ 634)، والحاكم (2/ 187)، وابن حبان (الإحسان) (6/ 203).

لا يخفى. فإذا كان الإنسان لا يقدر على العدل بينهن يلزمه الاقتصار على واحدة؛ لأن غير العدل جور والجور لا يُؤذن فيه في الشرع الكريم، أو ما ملكت يمينه من الإماء، وقد نص الله على هذا بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (3)} [النساء: آية 3] أي: لا تجوروا في الحقوق. وكونه (جل وعلا) أباح للرجل جمع أربعة وحرم عليه الخامسة فما فوقها، وجعل ذلك بشرط العدل، هذا تشريع الحكيم الخبير، تشريع خالق السماوات والأرض، الذي هو أعلم بالمصالح، وأعلم من خلقه؛ لأن الأربع وسط بين القلة والكثرة، فهي دون الكثرة التي هي مَظِنَّة عدم القدرة على القيام بلوازم الجميع، وهي فوق القلة التي هي مَظِنَّة تعطل بعض حقوق الرجل كما سيأتي إيضاحه. والله (جل وعلا) أباح تعدد الزوجات لمصلحة نفس المرأة، ومصلحة نفس الرجل، ومصلحة نفس أمتهما، فتحت ذلك مصالح عظيمة لا ينكرها إلا من طمس الله بصيرته. ففيه مصلحة المرأة من جهات عديدة منها: أن الله (جل وعلا) أجرى عادته أن عدد النساء في أقطار الدنيا على مر العصور أكثر من الرجال؛ لأن الرجال أقل من النساء، وأكثر تعرضًا لأسباب الموت، فلا تجد محلاً إلا ونساؤه أكثر من رجاله، كما أجرى الله العادة بذلك، وقد جاءت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أن النساء سيكثرن جدًّا، وأن الرجال سيقلون جدًّا (¬1)، ولما كانت عادة الله أن جعل عَدَد الرِّجَالَ في أقطار الدنيا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الحدود، باب: إثم الزناة، حديث رقم (6808)، (12/ 113)، ومسلم في العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، حديث رقم (2671)، (4/ 2056).

على مر العصور أقل من عدد النساء -لأن الرجال أكثر تعرُّضًا لأسباب الموت وخروجًا في الأسفار والمقاتلة والحروب من النساء- وكان عدد النساء أكثر، فلو قُصِرَ الواحِدُ على الواحدة لَبَقِيَ من النساء عدد ضخم هائل لا أزواج له، فيضطررن بذلك إلى ارتكاب فاحشة الزنا ورذائل الأخلاق، وبقين لا عائل لهن، فتشريع الحكيم الخبير يجمع الرَّجُل فيه بين النساء فيحسن إليهن وينفق عليهن ويُعف الجميع؛ لأن الرجل الواحد قد يُعف أربع نساء ويُخْدِمهن ويطعمهن ويكسوهن، بحيث لا يَكُنَّ فيهن حاجة إلى شيء. وكذلك أجرى الله العادة أن المستعدات من النساء للتزويج أكثر من المستعدين من الرجال؛ لأن عامة النساء مستعدات للزواج، وكثير من الرجال غير مستعدين للزواج لفقرهم وعجزهم عن لوازم الزوجية من صداق ونفقات وما يتبع ذلك من مُؤَن، فلو قصرنا الواحد على الواحدة لبقي أيضًا ذلك العدد الضخم بلا أزواج فألجأهن ذلك إلى ارتكاب الفاحشة والعمل بما لا يليق. ومن ذلك أن المرأة الواحدة لو قُصر الرجل عليها فإنها تعتريها أعذار طبيعية تمنعها من القيام بأخص لوازم الزوجية؛ لأنها تمرض وتحيض وتُنفس، وهي في زمن حيضها تتعطل منافع زوجها، وكذلك في زمن نفاسها، فلو قُصر على الواحدة لكان كلما تعطلت تعطلها الطبيعي تعطل معها، فيكون الرجل كأنه يُنفس كما تنفس، ويحيض كما تحيض، وهذا ليس بإنصاف!! والأمة محتاجة إلى الكثرة، وقد حضها صلى الله عليه وسلم على التزوج وكثرة الولادة ليكاثر بها الأمم. ومن الغريب كل الغريب، والمؤسف كل المؤسف

أنك ترى كثيرًا من الأمم المتسمية باسم الإسلام تحضر المؤتمرات التي أصل عقدها من الكفرة الفجرة فيما يسمونه (تحديد النسل) (¬1) وهذا أعظم شيء مخزٍ يخجل منه الإنسان الذي في باطنه شيء من نور القرآن؛ لأن منشأ ذلك أن الكفرة -عليهم لعائن الله- لا يؤمنون بالله، ولا يحسنون به ظنًّا، ولا يتوكلون عليه، ويظنون أنهم إذا نظروا دخل البلاد القومي وقدر ما يتزايد من النسل أن الناس يكثرون على قدر الدخل، وتعتريهم الفاقة والجوع، فيعقدون المؤتمرات لتحديد هذا النسل خوفًا من الفاقة والفقر والجوع!! وهذه أفكار الخنازير والقردة الذين لا يُقرّون بخالق السماوات والأرض، ولا يعلمون فضله ورحمته وكثرة خزائنه، ولا يتوكلون عليه. والكثرة هي نعمة من نعم الله (جل وعلا)، والله يقول ممتنًّا على أمة شعيب: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: آية 86] الكثرة نعمة وقوة، وهؤلاء يأتيهم الشيطان ليتخلصوا من نعمة الله والقوة!! والله (جل وعلا) قد بيّن أن قومًا فيما مضى قد أرادوا قتل أولادهم من أجل الجوع الواقع، وأن بعضهم أراد قتل الأولاد من خوف الجوع المتوقع، فبيّن لهم خالق السماوات والأرض أن ذلك الجوع المتوقع لا يكون، وأن خالق السماوات والأرض الذي بيده خزائن السماوات والأرض عليه رزق الجميع، قال في الذين يقتلون أولادهم من الفقر الواقع حالاً: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: آية 151] وهذا وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد. وقال في الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر المترقب: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشيةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: آية 31] ونحن نؤكد لكم كل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

التوكيد أن الأمة لو كثرت كل الكثرة وبلغت الملايين والآلاف المؤلفة أن كل نفس منفوسة يُقدر الله لها رزقها على أحسن ما يكون، وأن الله يفتح من أبواب الرزق وخزائنه ما لم يكن في حسبان الملاحدة الإفرنج الكفرة وأذنابهم من الخنازير الذين طُمست بصائرهم، ولا سيما إن كانت تلك الأمة على طاعة الله - جل وعلا - وتقواه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: الآيتان 2، 3] فبيّن أن هذا الرزق ليس من قبيل الدخل القومي المحدود الذي يحسبه الإفرنج ويُحدونه، لا، بل يأتي به الله من أمور لا يعلمها إلا هو - جل وعلا - ولما أراد المنافقون أن يضربوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حصارًا اقتصاديًّا وقالوا في ذلك: {لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} قال تعالى: {وَللَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: آية 7] ومن كان عنده خزائن السماوات والأرض كيف يُحدد رزقه، وتقتل الأولاد وتقلل خوفًا ألا يرزقها؟! فهذا من أُضحوكات الشيطان وأعمال الصبيان الذي لا يصدق عاقل أن رجلاً عاقلاً يشتغل بهذا، عياذًا بالله. ثم إِنَّ مِنْ مَصَالِحِ تَعَدُّدِ الزَّوْجات أن فيه مصالح عظمى شرعه الله لها، منها: أن فيه مندوحة عن الطلاق؛ لأن الرجل إذا تزوج المرأة حتى كبرت معه ومضى جمالها وصارت لا رغبة فيها للرجال إذا قُصِر عليها ولم تكن عنده مندوحة لزوجة أخرى يتسلى بها ويأت بها فإنه يضطر لفراقها ولو بالمحاكمة حتى يتخلص منها!! أما تعدد الزوجات ففيه مندوحة وفرج من هذا الأمر المحرج؛ لأنه يتزوج أخرى ويبقى مع الأولى ملاطفًا لها، محسنًا إليها، منفقًا إليها، ويجد

غيرها ممن يسليه ويوسع صدره. وهذا أمر لا يخفى، فالله (جل وعلا) أباح تعدد الزوجات لمصلحة النساء لئلا يتعطلن عن الزواج؛ لأنهن أكثر من الرجال؛ ولئلا يُضطر أزواجهن إلى طلاقهن، ولمصلحة الرجال لئلا تُعطل منافعهم عند حيض المرأة الواحدة ونفاسها ومرضها، ولمصلحة الأمة ليتكاثروا، وليكونوا جمعًا ضخمًا يقف في وجه العدو، ويرد الحقوق المسلوبة، ويوقف الكافر عند حده، ويعلي كلمة الله (جل وعلا) فهذه مصالح معروفة موجودة عامة لا ينكرها إلا مطموس البصيرة. وما يزعمه ملاحدة الإفرنج من أن تعدد الزوجات تلزمه المشاغبة الدائمة، وأن الإنسان لا ينبغي أن يعمل بتشريع يجر له المشاغبة الدائمة والقال والقيل والخصام الذي لا ينقضي. قالوا: إذا تزوج ضرتين فَإِنْ أرْضَى هذه سخطت هذه، فهو دائمًا بين سخطتين، وفي شغب وفي خصام وجدال، فلا تكون له حياة هنية، وأن هذا التشويش لا ينبغي. وهذا من جهالتهم وطمس بصائرهم؛ لأن المشاغبة والمشاحة التي تقع بين العائلة أمر طبيعي لا مفر منه، وهي لا خطب لها ولا شأن لها؛ لأنها تقع بين الرجل وأولاده، وبينه وبين أمه وأبيه، وبينه وبين أخواته، وتقع بينه وبين زوجته الواحدة. ولو فرضنا أن فيها بعض الشيء فإنه يُغتفر لأجل المصالح العظمى التي بيّنا من المصالح العامة من صيانة جميع النساء، وعدم تعطل منافع الرجال، ومصلحة الأمة. والمقرر في الأصول: أن الشيء ولو كان مفسدة -على زعمهم- إلا أنها مفسدة صغيرة مرجوحة فإنها تُلغى لأجل المصلحة الكبرى، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء أن المصالح العامة الكبرى لا يُنظر معها لأجل المفاسد الجزئية المرجوحة كما

لا يخفى، وهذا معروف في الأصول (¬1)، ومن ذلك أن الكفار إن أسروا بعض أسارى المسلمين ففداهم المسلمون فإن فداء الأسارى من الكفار وإعطائهم المال هو مفسدة في الجملة، إلا أن مصلحة إنقاذ المسلمين منهم أرجح من هذه المفسدة؛ ولأجل ذلك أطبق جميع العلماء على جواز غرس شجر العنب. وانْظُرْ تَدَلِّي دَوَالي العِنَبِ ... في كُلِّ مَشْرقٍ وكلِّ مَغْربِ (¬2) مع أنها تعصر منها الخمر التي هي أم الخبائث، ولكن لما كانت مصلحة وجود العنب والزبيب في جميع أقطار الدنيا مصلحة عامة راجحة، وكون العنب قد يعصر منه بعض السفلة خمرًا، فهذه مفسدة مرجوحة ألغاها الشرع في جنب تلك المصلحة الكبرى العظمى. وكذلك مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد؛ لأن مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد يرمقون هذا في بيته معه زوجاته وبناته وأخواته، وهذا لصيق له، وعنده أيضًا بيته فيه بناته وزوجاته وأخواته، هذا -وهو وجود الجنسين الرجال والنساء في البلد الواحد - قد يكون سببًا للزنا، فإن الناس المختلطة في المحل الواحد قد يكون اختلاطها في البلد الواحد ذريعة إلى الزنا فينظر الرجل فترمي إليه المرأة من الغرفة ورقة فيها وعد، أو يكلمها من فوق السطح كما كان نصر بن حجاج السلمي يقول (¬3): ليْتَني في المُؤَذنينَ نَهَارا ... إنَّهم يَنْظُرونَ مَنْ في السطوحِ فيُشيرونَ أوْ يُشارُ إليهم ... حَبَّذا كُلُّ ذَاتِ دلٍّ مَليحِ ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

إلا أن هذا وإن كان قد يكون سببًا لتمكن بعض السفلة من الفاحشة، فمصلحة اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد متعاونين على دينهم ودنياهم أرجح فأُلغيت من أجلها هذه المفسدة، فلم يقل أحد من العلماء أبدًا: إنه يجب أن يُعزل جميع مَنْ فِي البلد من النساء ويُجعلن وحدهن ليس معهن رجل وتجعل عليهن حصون من حديد قوية، وأبواب من حديد، ومفاتح من حديد، عند رجل ذي شيبة مأمون معروف بالتقى!! لم يقل أحد هذا!! والحاصل أن المفاسد الصغيرة المرجوحة مُلغاة لدى المصالح العامة الكبرى كما هو معروف في محله. وهذه نتف قليلة أشرنا بها إلى أن تشريع خالق هذا الكون، ونور هذا القرآن العظيم هو العدل الكامل، والإنصاف التام، والحكمة البالغة {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: آية 9] فما يقوله الكفرة والملاحدة ومن قلدهم من الخفافيش لا ينبغي لأحد أن يصغي إليه، ولا أن يبالي به. ومعنى قوله جل وعلا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: جعل من تلك النفس الواحدة التي هي آدم. وقوله: {مِنْهَا} إنما أنث الضمير نظرًا إلى تأنيث النفس، والتأنيث اللفظي قد تجري به أحكام التأنيث ومنه قول الشاعر (¬1): أبوكَ خَليفةٌ ولدتْه أُخرى ... وأنتَ خليفةٌ ذاكَ الكمالُ وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} جاء بالضمير مذكرًا {لِيَسْكُنَ} هو، أي: آدم المُعبر عنه بالنفس الواحدة {إِلَيْهَا} أي: إلى تلك ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

الزوج التي خُلقت منه وهي حواء؛ لأن الرجل يسكن إلى امرأته ويطمئن إليها، وهذا السكون والطمأنينة والألفة التي كانت من الرجل الأول للمرأة الأولى جعله الله سُنة كونية قدرية في ذريتهما كما يأتي في سورة الروم في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} الآية [فاطر: آية 11]. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} تغشاها معناه: جامعها، والعرب تقول: غشي الرجل امرأته وتغشاها: إذا جامعها، والتغشي: أصله لبس الغشاء، وهو الغطاء ونحوه. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: جامعها {حَمَلَتْ} من ذلك الجماع {حَمْلاً خَفِيفًا} إنما وصف الحمل بأنه خفيف لأن المرأة في أول حَبَلها ما دام حَبَلها نطفة فَعَلَقَة فمضغة يكون خفيفًا كأنها ليس في بطنها شيء، تذهب وتجيء ولا تجد ثقلاً له إلى حوالي خمسة أشهر، فبعد ستة أشهر يعظم الجنين في بطنها وتُثقل، وتكون الحركة ثقيلة عليها لعظم الجنين في بطنها؛ ولذا قال: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا} في أول أشهرها فاستمرت به وذهبت به مقبلة ومدبرة لا يثقلها؛ لأن ذلك هو العادة في أول حملها. {فَلَمَّا أَثْقَلَت} يعني تطاولت الأشهر وعظم الجنين في بطنها، وأثقلت؛ أي: صارت ثقيلة من عظم الجنين في بطنها، خافت هي وزوجها، والظاهر أن هذا في الحمل الأول الذي حملته حواء خافت أن يكون هذا الذي في بطنها بهيمة، أو أنه لا يخرج منها، أو يَشُق بطنها فتموت؛ ولذا {دَّعَوَا} أي: الرجل والمرأة، آدم وحواء {دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} دعاءً أخلصا له فيه قائلين: والله {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} لئن أعطيتنا من هذا الحمل ولدًا صالحًا، أي: ذكرًا، وقال بعض العلماء: بشرًا سويًّا يخرج بسلام،

ليس ببهيمة، ولا مشوّه الخلقة {لَّنَكُونَنَّ} لك يا ربنا على ذلك {مِنَ الشَّاكِرِينَ}. الشاكرون: جمع شاكر، والشاكر: اسم فاعل الشكر، وأصل الشكر في لغة العرب (¬1): الظهور، تقول العرب: «ناقة شكور» إذا كان يظهر عليها السِّمَن، والشكير: هو العُسْلُوج الذي ينبت في الجذع الذي كان مقطوعًا؛ لأنه يظهر فيه بعد أن لم يكن ظاهرًا. وهو في الاصطلاح: ظهور نعم المُنْعِم على من أنعم عليه، والشكر: هو فعل يُنبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا. وقد جاء في القرآن إطلاق الشكر من الله لعبده، وإطلاق الشكر من العبد لربه كما هنا. ومن إطلاق الشكر على العبد لربه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] {لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: آية 189] {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: آية 13]. ومن إطلاق الشكر من الله لعبده: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: آية 34] {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 158] فمعنى شكر الرب لعبده: قال بعض العلماء: شكر الرب لعبده: هو أن يثيبه ثوابه الجزيل من عمله القليل، وحقيقة شكر العبد لِرَبِّهِ المنطبق على جزئياته: هو أن يستعمل العبد جميع نعم ربه فيما يُرْضِي رَبَّهُ، إن فعل هذا فإنه يكون إن شاء الله مِنَ الشَّاكِرِين. فهذه العيون (¬2) التي فتحها الله في وجوهكم هي نعمة من ربكم عليكم تبصرون بها، فَشُكْرُ هَذِهِ النِّعْمَة أن لا تنظروا بها في شيء إلا في شيء يُرضي من خلقها وأكرمكم ومَنَّ عليكم بها، وهذه الأيدي التي جعل لكم تبطشون بها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

نعم من الله عليكم، فشكرها أن لا تبطشوا بها إلا في شيء يرضي مَنْ خَلَقَها وأكرمكم ومنَّ عليكم بها، وكذا الرِّجل إلى غير ذلك، وكذا جميع النعم. أما الذي يستعمل نعم الله فيما يسخط الله ويغضبه فهذا ليس من الشاكرين، وهذا مِنْ أَوْقَحِ مَا يتصوره العقل أن يكون هذا العبد المسكين الذليل الضعيف ينعم عليه ربه العلي الأعلى الأعظم بهذا الإنعام ثم يبلغ من الوقاحة والسفاهة والجهل وعدم الحياء أن يصرف نِعَم خَالِقِه (جل وعلا) فيما يسخط رَبّه، هذا أمر عظيم يعرق له الجبين، ويخجل منه العاقل، فلا ينبغي للإنسان أن يصرف نعم الخالق العظيم (جل وعلا) إلا فيما يُرْضِي مَنْ خَلقه ومَنَّ عَلَيْهِ بها. ومادة (شكر) هي في لغة العرب تتعدى للنعمة وتتعدى للمنعم، فإن تَعَدَّتْ للنعمة تعدّت إليها بلا حرف بلا نزاع بين علماء العربية (¬1). تقول: (شكر نعمته، وأشكر نعمة الله). وتَعَدِّي الشكر للنعمة بلا حرف أسلوبٌ عَرَبِيٌّ لا نِزَاعَ فِيهِ، وهو في القرآن وفي غيره، أما إذا تعدَّى الشّكْر إلى المنعم كأن تقول: (نحمد الله ونشكر له) فاللغة الفصحى أن تقول: (نحمد الله ونشكر له) ولا تقول: (ونشكره). وقال بعض العلماء: لا يتعدى الشكر للمنعم إلا باللام فتقول: (أحمد الله وأشكر له) ولا تقول: (وأشكره). وشذَّ قوم فزعموا أنك لو قلت: (وأشكره) كان لحنًا، وأنه يجب أن تقول: (وأشكر له). والتحقيق: أن (وأشكر له) -مُعدى باللام - هي اللغة الفصحى، وهي لغة القرآن العظيم، ولم يأت في القرآن العظيم لفظ الشكر مُعدّى إلى المنعم إلا باللام نحو: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

[لقمان: آية 14] ولم يقل: أن اشكرني واشكر والِدَيْكَ. ونحو ذلك من الآيات، إلا أن (شَكَرَه) - متعديًا للمنعم بلا حرف - لغة مسموعة في كلام العرب وليست لحنًا، إلا أن التعدية باللام أفصح منها، أما (أحمده) و (أشكره) فالتحقيق أنه لَيْسَ بِلَحْنٍ، وأنها لغة عربية مسموعة، ومن شواهدها قول أبي نخيلة (¬1): شَكَرتُكَ إن الشُكْر حبْلٌ من التُّقَى ... وما كُل من أَوْلَيْتَه نَعْمةً يَقْضِي قال: (شكرتك) ولم يقل: (شكرت لك) ومنه بهذا المعنى قول جميل بن معمر (¬2): خَليلَيَّ عُوجَا اليومَ حتى تُسَلِّما ... على عَذْبةِ الأَنيابِ طيبة النَّشرِ ... فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُما لِي سَاعَةً ... شَكَرْتُكُمَا حتَّى أُغَيَّبَ في قَبْرِي قال: شكرتكما، ولم يقل: شكرت لكما. هذا هو التحقيق. قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} يعني فلما أعطى الله آدم وحواء صالحًا، أي: أعطاهما ولدًا بشرًا سويًّا ليس ببهيمة، وخرج منها بسلام. {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} قرأ هذا الحرف جميع القراء منهم ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص خاصة: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} جمع شريك. وقرأه نافع وأبو بكر شعبة وحده عن عاصم: {جعلا له شِرْكًا فيما آتاهما} (¬3) وكلاهما لغة فصيحة وقراءة سبعية صحيحة لا كلام فيها. ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص217.

الضمير في قوله: {جَعَلاَ} لآدم وحواء. وفي هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف وجهان معروفان من التفسير للعلماء (¬1)، أحدهما جاءت به أحاديث وآثار، والتحقيق أنها لا يثبت شيء من تلك الأحاديث والآثار، وإن صحح بعض العلماء بعضها. والثاني دلّ عليه القرآن، وما دلّ عليه القرآن أرجح من غيره. أحد الوجهين في هذا: أن إبليس -لعنه الله- لما عظُم الجنين في بطن حواء جاءها وقال لها: إنه إذا خرج قد يشق بطنك، وقد يكون بهيمة، فهل أدلك على شيء إن فعلته خرج منك بسلام، وخرج بشرًا سويًّا؟ وهو أن تسميه عبد الحارث. ويزعمون أن الحارث من أسماء الشيطان، وأنها سمته عبد الحارث، وأنها جعلت لله شركًا حيث نسبت ذلك الولد الصالح الذي أعطاها الله نسبت عبوديته للشيطان، هذا المعنى جاء عن بعض الصحابة (¬2)، وجاء في بعض الأحاديث المرفوعة، وصحح الحاكم بعضها وغيره (¬3). ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 308)، القرطبي (338)، ابن كثير (2/ 274)، الأضواء (2/ 240). (¬2) ساق ابن جرير (13/ 309 - 315)، وابن أبي حاتم (5/ 1631 - 1634)، وابن كثير (275)، والسيوطي في الدر (3/ 151 - 152)، جملة من الروايات في هذه الآية. (¬3) من ذلك ما أخرجه أحمد (5/ 11)، والترمذي في التفسير، باب (ومن سورة الأعراف). حديث رقم (3077)، (5/ 267 - 268)، وقال: «حسن غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة. ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه. عمر بن إبراهيم شيخ بصري» اهـ. والحاكم (2/ 545)، وابن جرير (13/ 309)، وابن أبي حاتم (5/ 1631) وذكره ابن كثير في التفسير (2/ 274)، وأعله من ثلاثة أوجه. وعزاه لابن مردويه وابن أبي حاتم. كما ذكره السيوطي في الدر (3/ 151)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في التفسير، باب: (ومن سورة الأعراف) حديث رقم (3078)، (5/ 268)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والتحقيق أنها لم يثبت في الحقيقة شيء منها والأغلب أن من رويت عنه من الصحابة أخذوها عن بعض الإسرائيليين. الوجه الثاني: أن الآية الكريمة على أسلوب عربي معروف، وهو أنه جرت العادة في القرآن أن يسند فعل الآباء إلى الأولاد، وربما أسند فعل الأولاد إلى الآباء، وأن الفعل هنا أُسند لآدم وحواء (جعلا) بألف التثنية الواقعة على آدم وحواء، والمراد ذريتهما التي أعطاها الله التناسل يخرج هذا بشرًا سويًّا، ويخرج بسلام، ومع ذلك يكفرون بالله (جل وعلا) ويعبدون غيره، والدليل على أنه أطلق آدم وحواء وأراد ذريتهما من القرآن أنه قال بعده: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: آية 190] ثم قال: {أَيُشْرِكُونَ} بصيغة الجمع {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: آية 191] ثم ذكر علامات الأصنام التي يُشرك بها أولادهم كما هو واضح. وهذا القول أرْجَح، واختاره غير واحد من المحقِّقِين لدلالة القرآن عليه، ونظيره من القرآن: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: آية 11]؛ لأن معنى {صَوَّرْنَاكُمْ} هنا: صورنا أباكم آدم. فنسب التصوير إليهم والمُصوَّر أبوهم آدم، بدليل أنه قال: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ} وأمر الملائكة بالسجود قبل تصوير بني آدم الآخرين كما لا يخفى.

وهذا معنى قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} القول الأول: سمّيا الولد عبد الحارث، وعلى الثاني: المُراد: ذريتهما جعلت لله شركاء، فأشركت بالله (جل وعلا) الأصنام، وشاركوه في جميع ما أعطاهم من النعم والأولاد حتى قال الله للشيطان: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: آية 64] وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: آية 136] وكونه أسند الفعل لآدم وحواء وأراد ذرّيّتهما وهو الذي دَلَّ عَلَيْهِ القرآن؛ ومثل هذا كثير في القرآن؛ لأنه يقول لبني إسرائيل في زمن النبي: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: آية 57] {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة: آية 63] والمفعول بهم هذا أسلاف أسلاف أسلافهم لا هؤلاء الموجودين كما هو معروف. وهذا معنى قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ} أي: تَقَدَّس وتَعَاظَم وتنَزَّهَ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به، وهو (جل وعلا) مُنَزَّه عن الشريك، وهو الواحد الأحد في عبادته وأسمائه وصفاته وأفعاله لا شريك له في شيء من ذلك. [26/ب] /ثم قال منكرًا عليهم: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا} {أَيُشْرِكُونَ} بالله وهو خالق كل شيء {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا} [الأعراف: آية 191] هذا ليس بإنصاف، وقد جرت العادة في القرآن في آيات كثيرة أنه يجعل سبب العبادة التي تُستحق به هو الخلق والإبراز مِنَ العَدَمِ إلى الوجود، فمن يبرزكم من العدم إلى الوجود، ويوجدكم بعد أن كنتم عدمًا هذا هو ربكم الذي يستحق أن تعبدوه وحده، أما الذي يحتاج إلى من يخلقه فهو عبد مربوب فقير مثلكم، عليه أن يَعْبُدَ مَنْ خَلَقَه؛

ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: آية 21] وقال: {أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: آية 16] أي: وخالق كل شيء هو المعبود وحده جل وعلا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا} [الحج: آية 73] ومن لم يخلق شيئًا لا يمكن أن يكون معبودًا؛ ولذا قال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} [الأعراف: الآيتان 191، 192] لا يقدرون أن ينصروهم إذا دعوهم وعبدوهم {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} النصر في اللغة: هو إعانة المظلوم. يعني: إن ظُلموا لا يَدفع عنهم الظلم، ولو ظُلم نفس الأصنام لا يقدرون أن ينتصروا لأنفسهم لأنهم جماد، وهذا معنى قوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192)} كما قال تعالى: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: آية 73]. {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)} [الأعراف: الآيتان 193، 194]. {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} قرأ هذا الحرف جماهير القراء، منهم عامة السبعة غير نافع: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} مضارع اتبعه يتَّبعه، وقرأه نافع وحده من السبعة: {وإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتْبَعُوكُم} وتبعه واتّبعه بمعنى واحد، فكلتاهما قراءتان صحيحتان، ولغتان فصيحتان معناهما

واحد (¬1). عبَّر عن الأصنام هنا بضمائر أصحاب العقول وهي لا تعقل؛ لأن الكفار نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ العقلاء أو أعظم مِنَ العقلاء. {وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي: تدعوا هؤلاء المعبودين الأوثان التي تعبدونها من دون الله التي لا تخلق شيئًا وهي تُخلق {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} معناها: تدعوهم إلى طريق الهدى {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} لأنهم جماد. ومن إذا دُعي إلى الهدى لا يتبع كيف يُطلب منه الهدى؟ {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: آية 35] وهؤلاء إن هُدوا لا يهتدون!! وهذا معنى قوله: {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ}. {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} هذه الهمزة التي هي قوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} هي التي تسميها علماء العربية: همزة التسوية، وهي وما بعدها ينسبك منهما مصدر من غير حرف سابك. وأجود الإعرابين في ذلك: أن المعنى: دعاؤكم لهم وصمتُكم عنهم سواء، أي: مستويان. فـ (سواء) خبر مقدم، وهو اسم مصدر بمعنى الوصف. وقوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} في محل مبتدأ مصدر مسبوك بلا سابك، وما بعده معطوف عليه. والمعنى: دعاؤكم إياهم إلى الهدى، وصُماتكم إياهم عن ذلك سواء. أي: مستويان، لا يتبعوكم في حالة من الحالتين، لا في حالة دعائكم لهم، ولا في حالة صمتكم عنهم، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ونظيره في القرآن: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة: آية 6] أي: إنذارك لهم وعدمه سواء. أي: مستويان، وهذا المعنى معروف في ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص217.

كلام العرب، والأجود فيه أن (سواء) خبر مقدم، ونظيره من كلام العرب قول ابن قيس الرّقَيَّات (¬1): تَخَطَّتْ بِيَ الشَّهْبَاءُ نَحْوَ ابْنِ جَعْفَرٍ ... سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا ونَهَارُهَا يعني: ليلها ونهارها سواء، أي: مستويان. وقول الآخر (¬2): وَلَيْلٍ يَقُولُ المَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ ... سَواءٌ صَحِيحَاتُ العيونِ وعُورُها أي: صحيحات العيون وعُورها سواء، أي: مستويات لشدة ظلامه لا يبصر فيه البصير كما لا يبصر الأعمى. وهذا معنى قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إلى الهدى أم صَمَتُّم عنهم. وعبَّر بالجملة الاسمية، يعني: إذا صَمَتُّم عنهم دائمًا فلم يهتدوا، وإذا دعوتهم فلن يهتدوا، فلا يهتدون إلى الهدى في حالة من الأحوال!! ومن كانت هذه حاله فكيف يتخذه العاقل ربًّا يعبده من دون الله؟! فهذا يدل على أنهم أقوام لا عقول لهم. وكان ابن عباس (رضي الله عنهما) يقول: إذا أردت أن تعرف عدم عقول العرب فاقرأ الآية الفلانية من سورة الأنعام قدر كذا، يعني: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140)} [الأنعام: آية 140] (¬3) رزقهم الله الأولاد والمال فقتلوا الأولاد ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص163، ابن جرير (1/ 256)، الكامل للمبرد (2/ 828)، تاريخ دمشق (27/ 272)، (33/ 285)، (38/ 91) وصدره في بعض هذه المصادر: «تغذُّ»، وفي بعضها «تَقَدَّتْ». (¬2) البيت لمضرس بن ربعي. وهو في ابن جرير (1/ 256)، القرطبي (1/ 184)، الدر المصون (1/ 107). (¬3) أخرجه البخاري في المناقب، باب قصة زمزم وجهل العرب، حديث رقم (3524)، (6/ 551).

وحرموا المال على أنفسهم. فهؤلاء قوم لا يعقلون؛ لأن الكفر يطمس البصائر، ويترك الإنسان أعمى لا يعرف حقًّا من باطل. {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] وهذا معنى قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: آية 193]. [27/أ] / {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [الأعراف: الآيات 194 - 203]. يقول الله (جل وعلا): {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)} [الأعراف: آية 194]. في هذه الآيات الكريمة من سورة الأعراف بيّن الله (جل وعلا) سخافة عقول المشركين حيث عبدوا من هو دونهم وهم أكمل منه، قال أولاً: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي: هذه الأصنام والأوثان

التي تعبدونها من دون الله، سوَّاها أولاً بهم في هذه الآية، قال: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} إنما أطلق على الأصنام اسم العباد وعبّر عنها بضمائر العقلاء؛ لأن الكفار يصفونها بصفات من هو خير من مطلق العقلاء، أنها معبودات، وأنها تشفع وتقرِّبُ إلى اللهِ زُلْفَى، فبهذا الاعتبار أجرى عليها ضمائر العقلاء، وعبّر عنها بالعباد. ووجه مماثلتهم هنا: أن الكفار العابدين، والأصنام المعبودات كلهم مخلوقات لله لا تقدر أن تجلب لنفسها نفعًا ولا أن تدفع عنها ضرًّا. فهم من قبيل تَسْخِيرِ الله لهم، وخلقه للجميع، وقدرته على الجميع، بهذا الاعتبار هم سواء؛ ولذا قال: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} بهذا الاعتبار، وفي الآية التي بعدها سيبيّن انحطاط درجة المعبودين عن العابدين، كما سيأتي إيضاحه قريبًا إن شاء الله. وقوله: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} يعني: ادعوا هذه الأصنام واطلبوا منها النفع، أو ادعوها إلى الهدى {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنها معبودات من دون الله، وأنها تنفع وتقرب إلى الله زُلفى وتشفع {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} إذا دعوتموهم إلى الهدى تبعوكم أو نفعوكم بشيء {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} جمهور علماء العربية على أن جزاء الشرط لا يتقدم عليه، إلا أن ما تقدم دليل الجزاء، أي: إن كنتم صادقين في أنها تعبد وتنفع فادعوها فلتستجب لكم، ولا تستجيب لكم أبدًا، كما صرح الله بذلك وأوضحه في آيات من كتابه كقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر: الآيتان 13، 14] وكقوله تعالى:

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: الآيتان 5، 6] وقال: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةً بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفي القراءة الأخرى (¬1): {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت: آية 25] وقال جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: الآيتان 81، 82] ولذا قال هنا: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ولن يستجيبوا لكم أبدًا، ومن يدع من دون الله من لا يستجيب له لا أضل منه، كما صرح الله به في قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: آية 5] وهذا معنى قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: آية 194]. ثم بيّن انحطاط درجة المعبودات عن درجة العابدين، وكأنه يقول لهم: بلغت عقولكم من السخافة حتى عبدتم من أنتم خير منه وأكمل!! ومعبود يكون عابده أكمل منه فهذا لا ينبغي لأحد أن يعبده، كما قال تعالى في الأصنام المعبودات وهي جمادات معبّرًا بهمزة الاستفهام -استفهام الإنكار- المضمنة معنى النفي: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} أنتم أيها العابدون كل واحد منكم ذو رجلين يمشي عليهما ويتصرف، والذي يعبده جماد لا يقدر أن يتحرك ولا يمشي، فكيف تعبدون مَنْ أَنْتم أكْمَل منه وأقْدَر؟! هذا عمى وسخافة؛ ولذا ¬

(¬1) وفيه قراءات غير ما ذكر، انظر: المبسوط لابن مهران ص344، السبعة ص498 ..

قال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} [الأعراف: آية 195]. الأيدي جمع يد، ووزنه (أفْعُل) لأن الرِّجْلَ هنا واليد والعين كلها مجموعة على (أفعُل) أرجل، أعين، أيدي، أصله: (أيديٌ) على وزن (أَفْعُل) إلا أن الضمة قُلبت كسرة للياء المتطرفة بعدها؛ لأن الأيدي منقوص، والمنقوص إذا نُكِّر نوِّن على العين كما هو معروف في محله، وُيرفع بِضَمٍّ مُقَدَّر، ويُخفض بكسر مقدر، ويظهر نصبه كما هو معروف في محله، والأيدي جمع تكسير لليد، واحده يد. وأصل اليد (يَدَيٌ) ففاؤها ياء، وعينها دال، ولامها ياء، فحرفها الأول: ياء، وحرفها الأخير: ياء، وبين الياءين دال، إلا أن العرب حذفت الياء الأخيرة التي في محل اللام ولم تُعوض منها شيئًا، وأعربت (اليد) على العين ولم تُعوض من اللام المحذوفة شيئًا (¬1). وهذا فعلته في كلمات معدودة، كـ (يد) و (دم)، و (هَنٍ) و (غد) و (دَب) ونحو ذلك، إلا أن اليد أصلها تعرب على العين، تقول: «قطع يده، وأعطاه هذا بيده، ومدته له يده» بحذف الياء، إلا أن العرب إذا صغَّرت اليد أو جمعتها جمع تكسير رجعت الياء المحذوفة؛ لأن المقرر في فن التصريف: أن جمع التكسير والتصغير كلاهما يَردّ الأمر إلى أصله، فصغرت العرب اليد على يُديَّة، وجمعت اليد على أيدي. يظهر نصبه كقوله: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: آية 38] فرجعت في جمع التكسير الياء المحذوفة، وسُمع عن العرب نادرًا ذكر الياء في المفرد، وهو نادر، وإذا ذُكرت فيها الياء كانت من المقصور على الألف، فتقول العرب: (اليدى) كالفتى؛ لأن أصل الفتى (فَتَيٌ) ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 451)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص294.

وأصل اليد: (يَدَيٌ) وهذا سُمع قليلاً في كلام العرب - وجود الياء من أصلها، وإبدالها ألفًا، وجعل اليد من المقصور- ومنه بهذا المعنى قول الراجز (¬1): يا رُبَّ سارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدا ... إلا ذِرَاعَ العَنْسِ أو كفَّ اليَدَا فـ (اليدَا) هنا مردود إلى الأصل فيه (الياء) وأُبدل منها الألف كما هو معروف. وقوله: {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ} قرأه بعض السبعة: {قُلِ ادْعُواْ} بكسر اللام على الأصل في التخلص من الساكنين بكسر أولهما، وقرأه بعض السبعة: {قُلُ ادعوا} بضم اللام إتباعًا للضمة كما لا يخفى (¬2). وهذا معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: آية 195] أجرى الله العادة أنه إذا أرسل الأنبياء وعابوا الأصنام وقالوا: إنها لا تنفع ولا تضر، وأن عبادتها كفر بالله مُخلّد في النار، أن أصحاب الأصنام الذين يعبدونها يقولون للرسل: ستضركم هذه الآلهة، ستخبلكم وتخرب عقولكم، ويأتيكم منها الضر؛ لأنكم عبتموها!! والرسل (صلوات الله وسلامه عليهم) لا يخافون هذا؛ لأن الخوف من الأصنام كفر بالله وعدم توكل عليه، فقد خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأن أصنامهم تضره؛ لأنه عابها، كما سيأتي إيضاحه في الزمر في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر: آية 36] وقد خوفوا بها نبي الله إبراهيم كما قال الله عنه أنه ¬

(¬1) البيت في الدر المصون (1/ 452). (¬2) انظر: الإتحاف (2/ 72).

قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: آية 81] وقد قالوا لنبي الله هود: إن آلهتهم اعترته بسوء فَخَبَّلَتْه وجننته، فزعموا أنه مجنون، وأن الذي أضر عقله آلهتهم، كما في قولهم لهود: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55)} [هود: الآيتان 54، 55] هذا الذي قال لهم نبي الله هود هو الذي قال لهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ} وتعاونوا معهم وكل من قدرتم عليه {ثُمَّ كِيدُونِ} يعني: امكروا بي وافعلوا بي ما تستطيعون من الكيد والمكر ثم لا تُنْظِرُون: لا تمهلون؛ إلا أن نبي الله هودًا قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)} [هود: آية 56] ونبينا (صلوات الله وسلامه عليه) قال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: آية 196] وقد أجرى الله عادة الشياطين أنهم يخوفون الناس من أولياء الشياطين كما تقدم إيضاحه في تفسير قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} الأصل: يخوفكم أولياءَه {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: آية 175] وأنواع تخويف الشيطان الناس من أوليائه مختلفة كما هو معروف؛ ولذا قال هنا: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: آية 195]. ثم قال (صلوات الله وسلامه عليه): {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} الولي في لغة العرب: وهو المولى، وهو الذي انعقد بينك وبينه سبب ولاية يجعلك تواليه ويواليك (¬1). والله (جل وعلا) انعقد بينه وبين رسوله ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

موجب الولاية، الرسول يوالي ربه بالطاعات، والله يوالي نبيه بالإعانة والنصر والثواب الجزيل، والرسول ولي المؤمنين، والمؤمنون أولياؤه {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: آية 6] والله ولي المؤمنين، والرسول ولي المؤمنين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: آية 55] والمؤمنون المتقون أولياء الله {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)} [يونس: الآيتان 62، 63]. قوله: {نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: آية 196] هو هذا القرآن العظيم. وقال بعض العلماء: المراد جنس الكتاب. فالمعنى: أنه نزل جميع الكتب المنزلة، فيها هذا الكتاب الذي هو الأخير منها، الذي جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وهذا القرآن سُمي كتابًا، وهو (فِعَال) بمعنى (مَفْعُول) أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)} [البروج: الآيتان 21، 22] ومكتوب في صحف عند الملائكة، كما قال تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: الآيات 13 - 16] وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬1) أن مادة الكاف، والتاء، والباء. (كَتَبَ) معناها في لغة العرب: الضم والجمع، فكل شيء ضممت بعضه إلى بعض وجمعته فقد كتبته. ومنه سُميت الكتيبة كتيبة، وهي القطعة العظيمة من الجيش؛ لأنها انضم بعضها إلى بعض واجتمع بعضها مع بعض، ومنه قول نابغة ذبيان (¬2): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم ... بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ ولذلك أُطلقت الكتابة على الخياطة؛ لأن الخياطة يُضم فيها طرف الثوب أو طرف الأديم بعضها إلى بعض ويُجمعان بالخيط الذي يخيط به الخائط كما هو معروف، وفي ألغاز الحريري (¬1): وكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهمْ ... حَرْفًا ولا قَرَءُوا مَا خُطَّ في الكُتُبِ يعني الخياطين؛ ولذلك سمّت الْعَرَبُ الرّقْعَة التي تكون في السقاء، والسير التي تُخاط به سَمَّتْهُمَا (كُتبة) لأنه شيء يُلصق بشيء ويُضم إليه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول غيلان ذي الرمة (¬2): ما بَالُ عَيْنَيْك منها الماءُ يَنْسَكِبُ ... كأنهُ من كُلًى مَفْريةٍ سَرَبُ ... وفْراء غَرْفِيَّة أَثْأَى خَوَارِزها ... مشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ ومن هذا قيل للخياط: كاتب، ومنه قول الشاعر يهجو بني فزارة ويعيرهم بأنهم يفعلون الفاحشة مع إناث الإبل (¬3): لا تَأْمَنَنَّ فَزَاريًّا خَلَوْتَ بِهِ ... عَلَى قلُوصِكَ واكْتُبْهَا بأَسْيَارِ فقوله: «واكتبها بأسيار» يعني: خِط ثفرها بأسيار لئلا يفعل بها الفزاري الفاحشة. هذا أصل هده المادة في لغة العرب. والكتابة مصدر سيَّال معناه أنك تجمع نقوشًا وتضم بعضها إلى بعض، وتجمع بعضها مع بعض، هي هذه الحروف حتى تصير دالة على المعاني. هذا معنى الكتاب، وهو (فِعال) بمعنى (مفعول) مكتوب. وهذا معنى ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

قوله: {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ}. {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وهو (جل وعلا) يتولى الصالحين، وسيدهم وخيرهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تولاه، ولا يضره شيء مع كلاءة الله وحفظه له {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: آية 67] ومعنى كونه يتولاهم أي: يتولاهم بالنصر والحفظ والكلاءة والجزاء ونحو ذلك. والصالحون جمع صالح، وهو ضد الطالح، وهو الذي يطيع الله (جل وعلا) فيما أمره به ونهاه عنه. وهذا معنى قوله: {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}. ثم قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} أي: إعانتكم من ظالم ظلمكم، لا يقدرون أن يدفعوا عنكم شيئًا {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف: آية 197]. {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ} كما تقدم بيانه. {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: آية 198] في هذه الآية الكريمة أوجه معروفة من التفسير (¬1): قال بعض العلماء: الضمير في {وَتَرَاهُمْ} عائد إلى الكفار الذين يعبدون الأصنام. يعني: تراهم ينظرون إليك وتظن أن عيونهم مبصرة وهم لا يبصرون شيئًا؛ لأنهم عمي؛ إذ لو كانوا يبصرون شيئًا لما عبدوا حجارة لا تنفع ولا تضر!! وقال بعض العلماء: الضمير في قوله: {وَتَرَاهُمْ} عائد إلى الأصنام. والذين قالوا هذا اختلفوا إلى قولين: ¬

(¬1) انظر: ابن حرير (13/ 324)، القرطبي (7/ 344).

أحد القولين: أنهم كانوا يمثلون تماثيل ويجعلون لها أعينًا تشبه عيون الناس، حتى إنه إذا قابلك الصنم كأنه إنسان ينظر إليك. قالوا: وعلى هذا تراهم فيما يتراءى للناظر ينظرون إليك وهم لا يبصرون؛ لأنهم في الحقيقة جمادات. وذكر ابن جرير (¬1) وغير واحد أن العرب تقول لكل مقابل شيء إنه ناظر إليه، تقول: دار فلان تنظر إلى داري. معناه: أنها مقابلة لها. وقالوا: إن هذا أسلوب عربي معروف، نزل به القرآن. وعلى هذا القول: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} مقابلين لك ليس بينك وبينهما حاجز {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} لأنها جمادات لا تنفع ولا تضر. هذه الأقوال الثلاثة هي حاصل كلام أهل العلم في الآية. وهذا معنى قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: آية 198]. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: الآيتان 199، 200]. هذه الآية الكريمة من أخريات سورة الأعراف إحدى ثلاث آيات (¬2) في كتاب الله بيّن الله (جل وعلا) فيها آدابًا اجتماعية يجب على كل مسلم أن يتفهمها ويتدبرها ويعمل بها؛ لأنه ينتفع بها في طول حياته انتفاعًا تامًّا، وهي من تعاليم خالق السماوات والأرض، وسنلم بهذه الآيات ونذكر هذه الآداب الاجتماعية التي دَلَّتْ عَلَيْهَا التي يحتاج إلى تعليمها كل إنسان، ثم نرجع إلى الآية فنفَسِّر مُفْرَدَاتها. ¬

(¬1) تفسير ابن جرير (13/ 325). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 341).

اعلموا أولاً أن الله أجرى العادة بأنه لا يخلو أحد كائنًا مَنْ كَان مِنْ عَدُو مُنَاوِئ له من بني آدم ومن الشياطين، لا بد للإنسان مِنْ عَدُوٍّ يُنَاوِئهُ من بني جنسه ومن الشياطين. وهذا أمر غالبًا، وخير الناس الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- والله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا} [الأنعام: آية 112] فلا يخلو إنسان من عدو من بني جنسه وعدو من الشياطين. ليسَ يَخْلُو المَرْءُ مِنْ ضِدٍّ ولَوْ ... حَاوَلَ العُزلَةَ في رَأْسِ جَبَلْ (¬1) وفي هذه الآية والآيتان الأخريان بيان ما يتلقى الإنسان به العدو من جنسه والعدو من الشياطين؛ ليكتفي شرهما ويكسر أصل هذه العداوة المضرة الشنيعة التي لا يسلم منها أحد (¬2)، وذلك أن عدوك من بني جنسك أنك تقابل إساءته بالإحسان، ومنكره بالمعروف، وإساءته بالحلم والصفح، فإن ذلك الإحسان وذلك الحلم والصفح يقضي على إساءته ويذهبها حتى يُضطر إلى أن يصير في آخر الأمر من أصدق الأصدقاء. وأما إذا كان العدو من الشياطين فإن الملاينة لا تفيد فيه، وأنت لا تراه ولا لك فيه حيلة إلا الاستغاثة بخالق السماوات والأرض والاستعاذة به منه. قال هنا فيمن يتسلط عليك من الإنس: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: آية 199] وقال في صاحبه الآخر من شياطين الجن: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ¬

(¬1) هذا البيت من لامية ابن الوردي. وهي ضمن مجموع (كفاية الإنسان من القصائد الغر الحسان) ص 168. (¬2) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} لا دواء له إلا ذلك {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: آية 200]. الموضع الثاني: في سورة (قد أفلح المؤمنون) قال تعالى في عدوك من بني جنسك: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني: ادفع سيئات المسيئين بمقابلتها بالتي هي أحسن {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} ثم قال في العدو الثاني من شياطين الجن: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون: الآيات 96 - 98]. الموضع الثالث: في (حم السجدة) زاد فيه تعالى أن هذا الدواء السماوي والعلاج القرآني الذي يَكْسِر عداوَةَ هَذَيْنِ العَدُوَّيْنِ لا يُعْطِيهِ الله لكلِّ أحد، وإنما يخص به مَنْ شَاءَ مِمَّنْ لَهُ عِنْدَهُ الحَظّ الأعْظَم، وزاد أن هذا دواء نافع وعلاج عظيم حيث قال في العدو من الإنس: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: آية 34] في غاية الصداقة؛ لأن مقابلة إساءته بالإحسان تخجله وتقضي على عداوته حتى يُضطر إلى أن يرجع صديقًا. وقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} [فصلت: آية 35] هذه الخصلة وهذا التعليم القرآني لا يُعطاه كل الناس، لا يعطيه الله إلا لصاحب الحظ والبخت العظيم عنده من الصابرين؛ ولذا قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} ثم قال في رفيقه الآخر: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: الآيتان 35، 36] فهذا علاج قُرْآنِي ودوَاء سَمَاوِيّ نافع يحتاج إليه كل مسلم، ومحل هذا في غير الكفار المناصبين الناس بالعداوة، فالملاينة لهم لا تجوز؛ لأن الكفار يجب

عليهم الغلظة والقوة والعزة، ولا يُلاينون، ولا تُقابل سيئاتهم بالحسنات، كما وصف الله بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: آية 29] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 73] مع أنه يقول: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: آية 88] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: آية 215] ويقول في غيرهم: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 73] وقد مدح الله قومًا بلين جانبهم لإخوانهم المسلمين وقوتهم على الكفرة {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: آية 54] وقد قال الشاعر في نبينا صلى الله عليه وسلم: وما حَمَلَتْ من نَاقَةٍ فَوقَ رَحْلِهَا ... أَشَدَّ على أَعدائِهِ من محمدِ (¬1) صلوات الله وسلامه عليه. ومن شعر مالك بن نمط الهمداني لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد همدان: ¬

(¬1) هذا البيت وما ذكره الشيخ بعده لمالك بن نمط. وقوله: «أبر وأوفى ذمة من محمد» ليس في أبياته التي أوردها ابن هشام في السيرة (4/ 1455)، وإنما هو باللفظ الأول الذي ذكره الشيخ (أشد على أعدائه من محمد). والبيت المذكور (أبر وأوفى ذمة من محمد) ذكره الصالحي في (سبيل الهدى والرشاد) (1/ 419) منسوبًا لأُسيد بن أبي إياس الدؤلي. ونقل عن أبي علي الحاتمي قوله: «اتفق أهل الأدب على أن أصدق بيت قالته العرب هو قول أبي إياس الدؤلي ... » وذكره. كما أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/ 132) في ترجمة أنس بن أُسيد بن أبي إياس بن زنيم الكناني. وقال الحافظ بعد أن أورده: «هذا البيت من قصيدة أنس بن زنيم» اهـ. وأورده في ترجمته (1/ 69)، وانظر ما قاله الحافظ (رحمه الله) في ترجمة أسيد بن أبي إياس بن زنيم الكناني الدؤلي (1/ 47).

وما حَمَلَتْ من نَاقةٍ فوقَ رَحْلِهَا ... أَبَرَّ وأوَفى ذمةً مِنْ مُحَمَّدِ ... وأَعْطَى إذا ما طالِبُ العُرْفِ جَاءَهُ ... وأَمْضَى بحدِّ المَشْرَقِيِّ المُهَنَّدِ والحاصل أن الشدة في محل اللين حمق وخرق، واللين في محل الشدة ضعف وخور، وكل مقال له مقام. وقد صدق أبو الطيب المتنبي في قوله (¬1): إذا قِيلَ حِلْمٌ فَقُلْ لِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ ... وَحِلْمُ الْفَتَى في غَيْرِ مَوْضَعِهِ جَهْلُ وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} قال بعض العلماء: لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها جبريل فقال له: حتى أسأل ربي، ثم رجع له وقال: ربك يقول: {خُذِ الْعَفْوَ} أي: صِل من قطعك، وأعطِ من حرمك. ونحو ذلك (¬2) ... فإن هذا هو العفو، بأن تصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، قال له: صِلْ من قطعك، واعف عمن ظلمك. هذا هو الأخذ بالعفو، وقد ثبت في صحيح البخاري في تفسير هذه الآية الكريمة أن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري المعروف من رؤساء فزارة وهو الذي يُقال: إنه مطاع أحمق، وكان ابن أخيه ¬

(¬1) البيت في ديوانه بشرح العكبري (3/ 187)، وشطره الأول: «إذا قيل رفقًا قال ... ». (¬2) أخرجه ابن جرير (13/ 330)، وابن أبي حاتم (5/ 1638)، عن سفيان بن عيينة عن أُمَيّ مرسلاً. وأخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1638) وأورده السيوطي في الدر (3/ 153)، عن الشعبي مرسلاً، وعزاه لابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن جرير. والذي عند ابن جرير عن أمَيّ كما تقدم. كما أورده في الدر عن جابر (رضي الله عنه) وقيس بن سعد بن عبادة وعزاه لابن مردويه.

الحر بن قيس من خيار المسلمين ومن القُراء، وكان له مكانة عند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؛ لأن عمر (رضي الله عنه) كان جلساؤه القراء صغارًا كانوا أو كبارًا، فقال عيينة لابن أخيه الحر بن قيس: لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لنا عليه. فاستأذن له عليه، فلما دخل عيينة على عمر (رضي الله عنه) -وكان عيينة بدويًّا جافيًا- فقال: إِيهٍ يا ابن الخطاب!! ما تعطينا الجزل، ولا تقسم بيننا بالعدل!! فغضب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حتى همّ به، فقال له الحرّ بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله يقول لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} وإن هذا من الجاهلين. فما جاوزها عمر، وكان عمر (رضي الله عنه) وقّافًا عند كتاب الله (¬1). قال بعض العلماء (¬2): (العفو) هو ما تسهّل لك من أخلاق الناس، خذ ما وجدته سهلاً من أخلاق الناس، ما وجدت منهم من طيب خذه، وما جاءك منهم من غير ذلك تجاوز عنه واصفح عنه. والعفو في لغة العرب يطلق على ضد الجهد، فكل شيء متيسر لا مجهود فيه تسمية العرب عفوًا (¬3). وقد قدمنا إيضاحه في تفسير قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: آية 219] أي: الشيء الزائد الذي لا يُجهد الزائد على قدر الخَلَّة الضرورية على أصح التفسيرين. وهو معنى معروف في كلام العرب، تقول لك: «خذ العفو مني» خذ ما تسهّل لك مني، وما تعصَّى عليك لا تكلِّمني ¬

(¬1) البخاري في التفسير، باب (خذ العفو ... ) حديث رقم (4642)، (8/ 304). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 326). (¬3) انظر: المفردات (مادة: عفا) (574).

فيه. ومنه قول أسماء بن خارجة وقيل حاتم الطائي (¬1): خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... ولاَ تَنْطِقِي فِي سَوْرَتي حِينَ أغضبُ ومنه قول حسان (رضي الله عنه) يمدح المهاجرين في شعره المشهور الذي فاخر به وفد تميم (¬2): خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَوْا عَفْوًا إذا غَضِبُوا ... ولا يكُنْ همُّكَ الأَمْرَ الَّذِي مَنَعُوا وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الآخر (¬3): إِذَا مَا بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا ... فَخُذْهَا فالغِنَى مَرْعًى وَشرْبُ فعلى هذا {خُذِ الْعَفْوَ} ما تسهَّل لك من أخلاق الناس ووجدت منهم طيبًا بلا كلفة فخذه، وما جاءك من غير ذلك فاصفح عنه وتجاوَزْهُ، كما قال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} العرب تطلق لفظة العُرف والمعروف والعارفة على كل خصلة جميلة تستحسنها العقول وتطمئن إليها النفوس (¬4). معناه: وأمر بكل معروف جميل تطمئن إليه النفوس. وهذا معنى قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الحطيئة (¬5): ¬

(¬1) البيت في تاريخ دمشق (9/ 57، 58)، شواهد الكشاف ص9، مع عزوه لأسماء بن خارجة. وذكره ابن قتيبة في عيون الأخبار (3/ 11)، (4/ 77)، وعزاه لأبي الأسود الدؤلي، وذكره ابن القيم في روضة المحبين ص71، والشيخ (رحمه الله) في الأضواء (1/ 46). (¬2) ديوان حسان ص153. (¬3) البيت لأبي الحسن البصروي، وهو في تاريخ بغداد (3/ 236)، البحر المحيط لأبي حيان (4/ 448). (¬4) انظر: القرطبي (7/ 346). (¬5) البيت في قواعد الشعر لثعلب ص70، عيار الشعر ص182، القرطبي (7/ 346).

مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لاَ يَعْدَم جَوَازِيْهِ ... لاَ يَذْهَبُ العُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ يعني: أُؤْمُر بالعرف؛ أي: بكل جميل حسن تطمئن إليه النفوس وتستحسنه العقول؛ كالإعراض عن الجاهل، والعفو عن المسيء، وكان بعض علماء الأصول يقول: إن هذه الآية يدخل فيها ما يتعارف عليه الناس في معاملتهم وبيوعاتهم ونحو ذلك (¬1)، أن الناس إذا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بعرف بينهم في جميع معاملاتهم يجب على الحاكم أن يأخذه؛ ولذا قال العلماء: إذا جاء قَاضٍ إلى بلد وهو غريب عنها ليس من أهلها لا يجوز له أن يحكم ولا أن يفتي حتى يسأل عَنْ عُرْفِهِمْ وعَادَاتهم في ماذا يريدون بالصيغ وألفاظ المعاملات؛ لأن الأحكام تختلف باختلاف الأعراف، قد يكون الناس يطلقون هذه الكلمة على معنًى مُعَيَّن لا يريدون غيره فيحملها القاضي على لفظها اللغوي فيظلمهم، ويُحَمِّلهُم ما لا يقصدون. ومن هذا كان بعض علماء الأصول يقول: هذه المسألة التي دخلت في عموم هذه الآية إحدى القواعد الخمس التي أُسس عليها الفقه الإسلامي (¬2). وبعضهم يقول: أصلها أربعة، زاد بعض الأصوليين فيها خامسة (¬3)، وهي قواعد خمس: أولها: (الضرر يُزال) هذه قاعدة عظيمة من قواعد التشريع الإسلامي (إزالة الضرر)، ويشهد لها حديث: «لاَ ضَرَرَ ¬

(¬1) انظر: نشر البنود (2/ 272)، العرف وأثره في التشريع الإسلامي ص122. (¬2) للوقوف على هذه القواعد انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص7، فما بعدها، نشر البنود (2/ 270)، نثر الورود (2/ 579). (¬3) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص7 - 8.

وَلاَ ضِرَارَ» (¬1). الثانية: (المشقة تجلب التيسير) هذه من قواعد الفقه الإسلامي التي أُسس عليها، ومن فروع هذه القاعدة: التسهيلات والرخص، كقصر المسافر للصلاة، وفطره في رمضان، وغير ذلك من الرخص والتسهيلات المنتشرة في الشرع. الثالثة: (لا يرتفع يقين بشك) وهذه من أمثلتها: أن الذمة ¬

(¬1) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) منهم: 1 - أبو سعيد الخدري. عند الحاكم (2/ 57 - 58)، وقال: «صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني (3/ 77)، (4/ 228)، والبيهقي (6/ 69). 2 - عبادة بن الصامت. عند أحمد (5/ 326 - 327)، وابن ماجه في الأحكام، باب مَنْ بَنَى في حَقِّه مَا يَضُرّ بجاره. حديث رقم (2340)، (2/ 784)، والبيهقي (6/ 157)، (10/ 133). 3 - ابن عباس. عند أحمد (1/ 313)، وابن ماجه في الأحكام، باب من بَنَى في حقه ما يضر بجاره. حديث رقم (2341)، (2/ 784)، الدارقطني (4/ 228)، والطبراني في الكبير (11/ 302)، والأوسط (4/ 125)، وعزاه في نصب الراية (4/ 384) لعبد الرزاق وابن أبي شيبة. 4 - عائشة. عند الدارقطني (4/ 227)، والطبراني في الأوسط (1/ 90). 5 - أبو هريرة. عند الدارقطني (4/ 228). 6 - عمرو بن يحيى المازني عن أبيه. عند مالك في الموطأ (مرسلاً)، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق. حديث رقم (1426)، ص 529. 7 - ثعلبة بن أبي مالك. عند الطبراني في الكبير (2/ 86). 8 - جابر بن عبد الله. عند الطبراني في الأوسط (5/ 238). وانظر: إرواء الغليل (896)، السلسلة الصحيحة (250)، صحيح الجامع (7517).

تُحمل على براءتها حتى يُتحقق بالبينة شغلها. وكذلك إذا ثبت أن الذمة شُغِلَتْ بدَيْنٍ وجب استصحاب ذلك الشغل حتى تقوم البيّنة على أنه قضاه. وهكذا في مسائل كثيرة. الرابعة: قولهم (العُرفُ مُحَكَّم) وهو أن الناس في معاملاتها وما يجري بينها في بيوعها ونكاحها وإجاراتها وطلاقها وغير ذلك من العقود أنها يُرجع بها إلى عرفها وما تعتاده في مخاطبتها وتقصده، ولا تُحمَّل بمطلق ألفاظ اللغة التي يخالفها عرفها. القاعدة الخامسة: (الأمور تبع المقاصد) وهذه قاعدة عظيمة يشير إليها قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (¬1). وهذا معنى قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الإعراض عن الجاهلين خُلُق سماوي أمر الله به نبيّه لِيُعَلِّم خَلْقَه هذا الخُلق الكريم، والأدب السماوي العظيم، أنه إذا جهل عليك جاهل فأساء إليك أن تعرض عنه ولا تأخذه بزلته، كما قال جل وعلا: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: آية 72] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: آية 55] ونحو ذلك. وهذا معنى قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. ¬

(¬1) البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي ... ، حديث رقم (1)، (1/ 9)، وأطرافه في: (54)، (2529)، (3898)، (5070)، (6689)، (6953). ومسلم في الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية». حديث رقم (1907)، (3/ 1515).

{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: آية 200] (إما) هذه أصلها (إن) الشرطية زيدت بعدها (ما) المزيدة لتوكيد الشرط (¬1) والكثير في كلام العرب: أن (إن) الشرطية إذا أُكِّدت شرطيتها بـ (ما) المزيدة بعدها كان الفعل المضارع لا بد أن تكون فيه نون التوكيد المُثَقَّلة، حتى قال بعض العلماء: كل مضارع قبله (إما) لا بد أن يتصل بنون التوكيد الثَّقيلة (¬2). والتحقيق أن هذا وإن كان هو لغة القرآن لم يوجد في القرآن فعل مضارع قبله (إما) إلا وهو مقترن بنون التوكيد المُثَقَّلة {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: آية 200] {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: آية 41] {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: آية 26] إلى غير ذلك؛ إلا أن التحقيق أن إتيان نون التوكيد بعده هو اللغة الفصيحة ولو لم تأت بعده لكان جائزًا، وسُمع في أشعار العرب بكثرة عدم توكيد الفعل بعد (إما)، ومنه قول الأعشى (¬3): فَإِمَّا تَريْني ولي لِمَّةٌ ... فإنَّ الحَوَادثَ أَودَى بها قال: «تريني» ولم يأت بنون التوكيد. ومنه قول الحماسي (¬4): زَعَمتْ تُمَاضِرُ أَنَّني إِمَّا أَمُت ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خُلَّتي ومنه قول الشنفرى (¬5): فإما تريني كابنةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا ... على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أتَنَعَّل ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 298). (¬2) انظر: المصدر السابق (1/ 299). (¬3) مضى عند تفسير الآية (35) من هذه السورة. (¬4) السابق. (¬5) السابق.

وقول لبيد بن رييعة (¬1): فَإِمَّا تريني اليومَ أصبحتُ سَالمًا ... فلَسْتُ بِأَحْيَا من كلابٍ وجعفرِ وهو كثير في كلام العرب. وزعم قوم أن حذف نون التوكيد لضرورة الشعر. وقال جماعة من علماء العربية: إنه لغة صحيحة لا ضرورة، كما هو معروف في محله. وهذا معنى قوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: آية 200] أسند الفعل هنا إلى مصدره، كقول العرب إذا جدَّ الأمر: «جدَّ جِدُّ هذا الأمر». والأصل يعنون: جدَّ الناس في ذلك الأمر. وإسناد الفعل إلى مصدره أسلوب عربي معروف، منه قول أبي فراس الحمداني وإن كان شعره لا يصلح إلا مثالاً لا شاهدًا (¬2): سَيَذْكُرني قَومي إذا جَدَّ جِدُّهُم ... وفي الليلةِ الظَّلماء يُفْتَقَدُ البدرُ قال بعض العلماء (¬3): النزغ والنغز معناه: النخس. وإما ينخسنك الشيطان. ونخس الشيطان كأنه يأتي بشيء محدد ينخس في الإنسان ويغرزه فيه ليثيره إلى ما لا يرضي الله من المعاصي. وهذا النزغ هو فساد الشيطان على الإنسان إما بالوساوس، وإما بشدة الغضب، ونحو ذلك مما يحمله عليه الشيطان من انتهاك حرمات الله وتضييعها. إذا نزغك هذا النزغ من الشيطان بأن وسوس لك حتى زين لك أن تعصيه، أو أغضبك حتى خرجت عن حدود الطاعة، وكان هذا النزغ سيؤديك إلى أن تفعل ما لا ينبغي {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من الشيطان. (استعذ) معناه: اطلبه أن يعيذك منه. والإعاذة: هي الحفظ ¬

(¬1) السابق. (¬2) البيت في ديوانه ص161. (¬3) انظر: القرطبي (7/ 347).

والتمنع والتوقي، عكس اللياذ؛ لأن اللياذ بالإنسان لاذ به يلوذ: إذا كان يريد أن يجلب له مصالحه. واستعاذ به يستعيذ ليمنعه ويقيه مما يخاف، كما قال (¬1): يَا مَنْ أَعُوذُ به فيما أُحَاذِرُه ... ومن أَلُوذُ به فيما أُحاوله {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي: اطلب أن يعيذك، أي: يمنعك ويقيك من هذا الشيطان الرجيم {إِنَّهُ} جل وعلا {سَمِيعٌ} لدعائك، سميع لما يوسوس لك من الشيطان {عَلِيمٌ} بوسوسة الشيطان لك، وبالتجائك إليه، وبكل ما يقوله ويفعله خلقه، فهو الذي بيده إنجاؤك منه، وهذا معنى قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: آية 200]. [27/ب] / [{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: الآية 201] قوله: {طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} قرأه ابن كثير وأبو عمرو: {طَيْفٌ من الشَّيْطَانِ}. وقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: {طَيْفٌ}. فعلى القراءة الأولى {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} أي: لَمَّةٌ وخَطْرَة، فإذا وقع لهم شيء من ذلك أعرضوا عنه] (¬2) إلى ما يرضي الله ويسخط الشيطان. وعلى قراءة الآخرين: ¬

(¬1) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (شرح البرقوقي) (2/ 225)، وقد وقع فيه هنا تقديم وتأخير، ولفظه في الديوان: يا من ألوذ به فيما أُؤمله ... ومن أعوذ به مما أُحاذره (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وتم استدراك النقص بالرجوع إلى كتب القراءات والتوجيه. وقد جعلت ذلك بين معقوفين. انظر: المبسوط لابن مهران ص218، حجة القراءات ص305، القرطبي (7/ 349)، الدر المصون (5/ 545 - 547).

{طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: آية 201] فالطائف: اسم فاعل طاف يطوف فهو طائف. {طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} الشيء الذي يطوف بهم من قِبَل الشيطان من وساوسه وإغضابه لهم. ومعنى القراءتين متلازم، إلا أن الأول يقول: {طيف من الشيطان} أي: لَمَّة منه. والثاني يقول: {طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} كما قال: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)} [القلم: آية 19] ومعنى القراءتين راجع إلى شيء واحد. وقوله: {تَذَكَّرُواْ} أي: تذكروا عقاب الله وثوابه ففاجأهم الإبصار. والإبصار هنا معناه: الإبصار بالقلب الذي يحمل الإنسان على الرجوع إلى ما يرضي الله {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46]. وقد قدمنا أن (إذا) الفجائية فيها ثلاثة أقوال (¬1): أحدها: أنها حرف. والثاني: أنها ظرف زمان. الثالث: أنها ظرف مكان. كما هو معروف في محله. وهذا معنى قوله: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} وهذا معنى قوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: آية 201]. {وَإِخْوَانُهُمْ} الآخرين، إخوانهم في النسب لا في الدين، الذين ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (1/ 133)، (4/ 40)، مغني اللبيب (1/ 79)، معجم الإعراب والإملاء ص50.

لا يبصرون {يَمُدُّونَهُمْ} يمدهم الشياطين. فالإخوان الأولون من الإنس. وقوله: {يَمُدُّونَهُمْ} يعني: تمدهم الشياطين. {وَإِخْوَانُهُمْ} الآخرين من عتاة الإنس {يَمُدُّونَهُمْ} أي: تمدهم الشياطين. هذا الذي ذكره غير واحد، أن المراد بالإخوان: العتاة من الآدميين، والذين يمدونهم: هم إخوانهم من الشياطين. وقال بعض العلماء: إن الإخوان الأولين: الشياطين يمدون إخوانهم من عتاة الإنس. وعلى كل الأحوال فالمعنى: أن المتمردين من بني آدم، العصاة والكفرة لهم إخوان من الشياطين يمدونهم في الغي. {يَمُدُّونَهُمْ} معناه يكونون لهم مددًا في الغي، ويزيدونهم فيه، فيزيدونهم طغيانًا إلى طغيانهم، وكفرًا إلى كفرهم بما يزينون لهم من الكفر والمعاصي ويعينونهم عليه. {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف: آية 202]، أي: لا يقصر الشياطين الذين يمدون عتاة الإنس لا يقصرون في ذلك أبدًا؛ لأن الشيطان لا يحصل منه تقصير البتة في فعل السوء، فهو طبيعته مُتَمَادٍ فيه أبدًا. والعرب تقول: أقْصَرَ عَنِ الأمْرِ يُقْصِرُ: إذا كَفَّ ونَزَع عنه وقلَّلَ منه، وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس (¬1): سَمَا بك شوقٌ بَعْدَ ما كَانَ أَقْصَرَا ... وَحَلَّتْ سُليمَى بَطْنَ قَوٍّ فعَرْعَرَا ومعنى الآية بالإجمال: أن المؤمنين المتقين إذا أصابتهم لَمَّة من الشيطان ونزغ منه فوسوس لهم ليحملهم على المعاصي، أو ¬

(¬1) ديوان امرئ القيس ص59، و (قَوّ)، اسم واد في جزيرة العرب. و (عرعر) اسم موضع آخر.

أغضبهم ليوقعهم بالغضب في المعاصي، تذكروا الله فأبصرت قلوبهم عقاب الله وثوابه، فرجعوا إلى ما يرضي الله، وأن غيرهم من الكفرة و [أصحاب] (¬1) المعاصي إذا جاءتهم لَمَّاتُ الشياطين وطائف الشياطين مدوا لهم وزادوهم ضلالاً إلى ضلال، فلا يبصر هؤلاء ولا يبصر هؤلاء. وهذا معنى قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف: آية 202]. يقول الله جل وعلا: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [الأعراف: آية 203] {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم} (إذا) أصلها ظرف مضمن معنى الشرط، ومن أحكامه عند علماء العربية: أنه يدل على تحقق وجود المشروط. فلو قلت لعبدك وهو يعرف معنى اللغة العربية: «إن جاءك زيد فأعطه درهمًا»،. فهو يعلم أن معنى الكلام: أن زيدًا محتمل أن يجيء ومحتمل أن لا يجيء؛ لأن (إنْ) حرف شرط لا يقتضي وجود الشرط. أما إذا قلت له: «إذا جاءك زيد فأعطه درهمًا» وهو يعرف معنى اللغة فإنه يعلم أن زيدًا آتٍ لا محالة؛ لأن (إذا) تدل على تحقق وقوع الشرط، وهي لا تقتضي التكرار على التحقيق إلا إذا اقترنت بقرينة تدل على ذلك (¬2). فمن قال لزوجته: «إذا دخلت الدار فأنت طالق» ثم دخلتها فإنها تطلق، ولو دخلتها مرة أخرى لا يكون عليه طلاق جديد؛ لأن (إذا) ليس أداة تكرار. قال بعض علماء العربية: وربما دلت على التكرار إن احْتَفَتْ بقرينة يُفهم منها ذلك. والتحقيق ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: البرهان للزركشي (4/ 190، 203)، شرح الكوكب المنير (1/ 272)، الفروق للقرافي (2/ 97).

أن (إذا) قَدْ تَأْتِي أداة تكرار إذا دَلَّتْ قرينة على ذلك، ومنه بذلك المعنى قوله (¬1): إِذَا وَجَدْتُ أُوارَ النَّارِ فِي كَبِدِي ... ذَهَبْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ المَاءِ ظَاهِرَهُ ... فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأَحْشَاءِ تَتَّقِدُ فإن معنى «إذا وجدت أُوار النار في كبدي»: كلما وجدت الحرارة الشديدة في كبدي بردتها بالماء. وقوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ} كانت عادة الكفار اقتراح الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2)، تارة يقترحون عليه آيات قرآنية تُتلى غير هذا القرآن، كما سيأتي في سورة يونس، وفي تفسير قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: آية 15] وتارة تكون الآيات المقترحات آيات كونية قدرية كما في قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90)} وفي القراءة الأخرى (¬3): {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} [الإسراء: الآيتان 90، 91] إلى آخر الآيات المقترحات، وهي كثيرة في كلام العرب. ومن العلماء ما ظاهر كلامه أن الآية المقترحة هنا آيات أُخر من ¬

(¬1) البيتان لعروة بن أُذينة. وهما في الشعر والشعراء ص580، تاريخ ابن عساكر (40/ 205، 206، 207)، زاد المعاد (4/ 29)، روضة المحبين ص46، زهر الآداب (1/ 167)، وفيات الأعيان (2/ 394)، مع شيء من الاختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: المبسوط لابن مهران ص271.

جنس القرآن غير ما أنزل، وعلى هذا القول فلا إشكال في الكلام؛ لأن المعنى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ} تقرأ عليهم آيات أُخر غير ما أنزل عليك {قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} (لولا) هنا حرف تحضيض، والتحضيض: الطلب بِحَثٍّ. معناه: أطلب منك طلبًا حثيثًا شديدًا أن تجتبيها. و {اجْتَبَيْتَهَا} أصل الاجتباء معناه المشهور في لغة العرب: الاختيار والاصطفاء. هذا أشهر معانيه المعروفة، ومنه قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: آية 122] قال بعض العلماء: لولا اخترتها واصطفيتها وجئت بها. وقالت جماعة من المفسرين: العرب تقول: اجتبيت الكلام. إذا اختلقته واخترعته من وقته، ولم يكن عندك فيما سبق، بل جئت به اختلاقًا واختراعًا في وقته. {قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} هلاَّ جئت بها مخترعة مختلقة في عجلة؛ لأنهم يزعمون أن كل القرآن اختلاق {إِنْ هَذَا إِلاِّ اخْتِلاقٌ} [ص: آية 7] {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: آية 25] كما أن هذا الذي تقرأُ مختلق في زعمهم فاقرأ الآية المطلوبة منك مختلقة أيضًا كهذا الذي تقرأ. وهذا تكذيب منهم -قبّحهم الله- بالقرآن. وعلى هذا القول فلا إشكال في قوله: {لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} أي: هلاّ اخترعتها واختلقتها وقرأتها علينا كما طلبناك، كما اختلقت هذا القرآن كله ونسبته إلى الله بغير حق. هذا قولهم لعنهم الله. وذهبت جماعة أخرى من أهل التأويل إلى أن الآية المطلوبة هنا آية كونية قدرية، كما قال: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا} [الإسراء: آية 90] وقد قالوا له صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا الصفا ذهبًا، وباعد عنا بين جبال مكة لنزدرعها، وهاتنا بالرياح لنركبها إلى

الشام كما كان يفعل سليمان، وأحي لنا قصيًا نسأله عنك هل أنت رسول أو لا؟ إلى غير ذلك من الآيات المقترحات. وعلى أن الآية المطلوبة هنا كونية قدرية قال بعض العلماء: معنى {لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} هلا اقترحتها وتَلَقَّيْتَهَا من تلقاء ربك؛ لأنك تزعم أن كل ما سألت منه يعطيك إياه. يعني فتقلب لنا الصفا ذهبًا، وتحيي لنا قصيًا نسأله عنك، إلى غير ذلك من الآيات المقترحات. وعلى هذا القول فالاجتباء هنا بمعنى تلقيها من الله مقترحة، وإجابة الله إلى ذلك. وهذا معنى قوله: {لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} قل لهم يا نبي الله: ليس من شأني اختلاق الآيات التي تُقرأ وتتلى، وليس من شأني اقتراح الآيات الكونية القدرية، إنما أنا عبد مأمور أفعل كما أمرني ربي ولا أتجاوزه إلى شيء آخر. {إِنَّمَا أَتَّبِعُ} ما أتبع إلا {مَا يُوحَى إِلَيَّ} فهذا الذي أتلوه عليكم أوحاه ربي إلي، وهو الذي أقرأه عليكم، أما شيء آخر لم يُوح إليَّ فلا أقوله لكم ولا أقترح على ربي شيئًا. والله (جل وعلا) قد بيّن في سورة بني إسرائيل أنه إنما لم يرسله بخارق مثل خارق الرسل المتقدمة كناقة صالح ونحو ذلك أنه إن فعل ذلك كذبوا فأهلكهم، كما قال: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: آية 59] لأن الله تبارك وتعالى لما اقترحوا هذه الآيات بيّن لهم هنا وفي سورة العنكبوت أنه أنزل لهم آية هي أعظم من جميع الآيات وأكبر، وهي هذا القرآن العظيم، فهذا القرآن العظيم أعظم آية من ناقة صالح، ويد موسى البيضاء، وعصاه التي تكون ثعبانًا. ومما يدل على أنها أعظم الآيات: أنها تتردد في أسماع الخلائق إلى يوم القيامة، وأنها كلام رب العالمين الذي يعجز

عن الإتيان بمثله جميع الخلائق، وقد تحدى الله العرب بسورة من هذا القرآن العظيم في سورة البقرة قال: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: آية 23] وتحداهم بسورة منه في سورة يونس قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: آية 38] وتحداهم بعشر سور في سورة هود {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: آية 13] وتحداهم به كله في سورة الطور: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34)} [الطور: آية 34] ثم بيّن في سورة بني إسرائيل أن عامة الخلائق لو تعاونوا واجتمعوا لا يقدرون على الإتيان بمثل هذا القرآن: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: آية 88] فلما كان معجزة يعجز عن مضاهاتها جميع الإنس والجن، وهي معجزة باقية تتردد في آذان الخلائق إلى يوم القيامة، محفوظة، تَوَلَّى رَبُّ العَالمين حِفْظَهَا، لو أراد أحد أن يزيد في هذا القرآن العظيم نقطة واحدة، أو يغير شكلة حرف لرد عليه الآلاف من صغار أطفال المسلمين في أقطار الدنيا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: آية 9] ولأجل عظم هذه الآية وكبرها وأنها أعظم الآيات وأكبرها أنكر (جلّ وعلا) على مَنْ طَلَب آية غيرها إنكارًا شديدًا في سورة العنكبوت حيث قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)} ثم أنكر عليهم طلب آية غيره قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} الآية [العنكبوت: الآيتان 50 - 51]. فمن لم

يكتف بهذه الآية العظمى عن جميع الآيات فهو جدير بأن ينكر عليه؛ ولذلك قال هنا في أخريات الأعراف لما قال عنهم إنهم قالوا: {لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} بيّن لهم أن هذا القرآن العظيم أعظم آية، لا ينبغي للإنسان أن يطلب آية غيره حيث قال: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: آية 203] فمن لم تهده هذه البصائر والأدلة القاطعة والبراهين الساطعة والمعجزة العظمى، والهدى والرحمة فلا آية تهديه ألبتة. وهذا معنى قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} لا أختلق آية ولا أقترح أخرى. ثم قال: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} الإشارة في (هذا) إلى هذا القرآن العظيم. أي: هذا القرآن الذي هو أعظم آية وأنتم تقترحون آيات غيره {بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} البصائر جمع البصيرة، والبصيرة المراد بها: البرهان القاطع والدليل الساطع الذي يُبْصَر في ضوئه الحق واضحًا لا لبس فيه. فالبصائر: الحُجج القاطعات، والبينات الواضحات التي لا تترك في الحق لبسًا، وواحدها (بصيرة)، ومنه قوله تعالى في أخريات يوسف: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: آية 108] وإنما كان المبتدأ الذي هو (هذا) إشارة إلى مذكر، والخبر جمع تكثير جمع تكسير (بصائر)؛ لأن (هذا) وهو إشارة إلى القرآن، والقرآن يتضمن حُجَجًا كثيرة، وبراهين قاطعة بكثرة؛ ولذا عبر عنه بـ (هذا) وأخبر عنه بقوله: {بَصَآئِرُ} و {وَهُدًى} أي: بيان ودلالة؛ لأن القرآن العظيم يُطلق هداه الهدى العام، ويُطلق هداه الهدى الخاص، والقرآن العظيم قد بيّن تعالى أن له هدى عامًّا للأسود والأحمر، وهدى خاصًّا لمن وفّقَهُ الله.

أما الهدى العام: فمعناه بيان الطريق، وإيضاح المحَجَّة البيضاء، وبيان الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن والقبيح. تقول العرب: «هديته» إذا أرشدته إلى الخير، سواء تبعه أم لا. ومنه بمعناه العام: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي: بينا لهم الحق على لسان نبينا صالح، وهو هداية إرشاد وبيان لا هداية توفيق؛ لأن الله قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت: آية 17]. ومن إطلاق الهدى بمعناه العام الذي هو البيان والإيضاح والإرشاد قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: بينا له طريق الحق وطريق الباطل، بدليل قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: الآيتان 2، 3] لأن الهداية في قوله: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} لو كانت هداية توفيق لما قسم من هداه الله بها إلى شاكر وإلى كفور. المعنى الثاني: هو إطلاق الهدى بمعناه الخاص، والهدى بمعناه الخاص: معناه توفيق الله (جل وعلا) لعبده حتى يهتدي إلى ما يرضي ربه، ويكون سبب دخوله الجنة. ومنه بهذا المعنى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: آية 178] وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]. وكون الهدى يُطلق إطلاقًا عامًّا وإطلاقًا خاصًّا إذا فهم الإنسان ذلك زالت عنه إشكالات في كتاب الله، ومناقضات يظنها الجاهل ببعض آيات الله، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] مع قوله فيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: آية 52] فنفى عنه الهدى في آية وأثبته له في آية، فالهدى

المُثبت له في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} هو الهدى بمعناه العام، وهو البيان والإيضاح. وقد بين صلى الله عليه وسلم هذه المحَجَّة البيضاء حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وسلامه عليه. أما الهدى المنفي عنه في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] فهو التفضل بالتوفيق وسعادة المرء؛ لأن هذا بيد الله وحده {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شيئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} الآية [المائدة: آية 41] .. {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: آية 37] في القراءة الأُخرى (¬1): {لا يُهْدَى من يُضِل} أي: لا يُهْدى أحد أضله الله. إلى غير ذلك من الآيات؛ ولذا قال في آية في هدى القرآن العام: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: آية 185] وقال في هداه الخاص: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: آية 2] وبهذا تعلم أن هداه المخصوص بالمتقين في قوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} والمخصوص بالمؤمنين كقوله هنا في آية الأعراف هذه: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: آية 203]، أن المخصوص بالمؤمنين هو الهدى الخاص، وهو توفيق الله (جل وعلا) لهم وتيسيره لهم إلى الأعمال التي ترضيه؛ ولذا كان القرآن العظيم لمن وفقه الله هدى بهذا المعنى، وكان حجة على غيره -والعياذ بالله- يدخله الله بها النار، كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام.

يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: آية 44] وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (82)} [الإسراء: آية 82] وقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: الآيتان 124، 125]، وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: آية 64، 68] في الموضعين في سورة المائدة كما تقدم، وهذا معنى قوله: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} لأن القرآن بصائر، أي: حجج واضحات، وبينات قاطعات، وبراهين ساطعة لا تترك في الحق لبسًا. {وَهُدًى} أي: إرشادًا ودلالة للمسلمين يبين لهم بيانًا لا خفاء معه {وَرَحْمَةٌ} لمن وفقه الله للعمل به يرحمه الله به {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أما القوم الذين سبق لهم الشقاء فهو حجة عليهم يدخلون به النار، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] لأن الله (تبارك وتعالى) منذ أنزل هذا الكتاب المنزل كان واجبًا شرعًا ألا يدخل أحد الجنة كائنًا من كان إلا عن طريق العمل به، وألا يدخل أحد النار إلا عن طريق الإعراض عنه {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} الآية [هود: آية 17]. فالعمل به مفتاح الجنة، والإعراض عنه سبب دخول النار. وهذا معنى قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: آية 204] قال بعض العلماء: كان كفار مكة لا ينصتون للقرآن ولا يستمعون له، ولا يرضون أحدًا أن يسمعه، بل

يُخَلِّطُون فيه بالأصوات والتصدية والمكاء من تصفيق وتصفير، ويأتون باللغط واللغو ليمنعوا الناس من سماعه وتدبره كما نص الله على ذلك عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: آية 26] فأمر الله المؤمنين أن ينصتوا له ويستمعوا. قال بعض العلماء: هو أمر للكافرين أن يكفوا عما يفعلون في قولهم: {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وقد أجرى الله العادة أن الكفرة يكرهون كل الكراهة سماع كلام رب العالمين -والعياذ بالله- هذا أول الأنبياء الذين أُرسلوا لأهل الأرض بعد أن كفروا، نوح (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) فانظروا كيف يكره قومه سماع كلامه؛ لأنه يقول عنهم: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)} [نوح: آية 7] كراهة أن يسمعوا الحق الذي يقوله لهم ذلك النبي الكريم. وهؤلاء الذين بُعث فيهم خاتم الرسل (صلوات الله وسلامه عليه) يقولون: {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: آية 26] فقد بين -جل وعلا- في أُخريات سورة الحج شدة كراهتهم لتلاوة القرآن عليهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: آية 72] أي: لشدة كراهتهم وبغضهم لتلاوتها؛ ولذا قال هنا: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ}. وكثير من علماء السلف يقولون: هذه في الصلاة خاصة إذا كان الإمام يقرأ صلاة جهرية، فإذا قرأ الإمام قراءة جهرية فعلى المأمومين أن يستمعوا وينصتوا. وكان بعض العلماء من هذا المعنى يقول: ليس

على المأموم قراءة؛ لأن قراءة الإمام تكفيه في الجهرية. وبعضهم يقول: تكفيه مطلقًا، وفي الحديث الصحيح: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» (¬1) فجماعات كثيرة من علماء السلف يقولون: هي في الصلاة إذا كان الإمام يقرأ جهرًا. إذا قرأ الإمام القرآن في الصلاة {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} الاستماع: هو أن تتفهم هذا الذي يقال حتى تَفْهَمَ مَعَانِيه، والإنصات: هو السكوت وترك الكلام لأجل استماع الكلام. هذا معنى: {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ}. وكان بعض العلماء يقول: هي في خطبة الجمعة. وبعضهم يقول: هي في الفطر، والأضحى، وخطبة الجمعة، وكل ما يجهر فيه الإمام (¬2). وكونها في خطبة الجمعة وإن قال به جماعة كثيرة من السلف فإنه لا يخلو من بُعد لمسائل، منها: أن القرآن غير كثير فيها. ومنها: أن الجمعة ما شُرعت إلا بالمدينة، وهذه الآيات من سورة الأعراف مَكِّيَّة؛ لأن سورة الأعراف من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة كما هو معلوم. ¬

(¬1) البخاري في الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. حديث رقم (378)، (1/ 487)، وأطرافه في (689، 732، 733، 805، 1114، 1911، 2469، 5201، 5289، 6684)، ومسلم في الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، حديث رقم (411)، (1/ 308)، من حديث أنس رضي الله عنه، وقد أخرجه من حديث عائشة برقم (412)، وبمعناه من حديث جابر برقم (413)، وأبي هريرة برقم (414، 415، 416، 417). (¬2) للوقوف على أقوال السلف في هذه الآية انظر: ابن جرير (13/ 345)، القرطبي (7/ 353)، ابن كثير (2/ 280).

وهنا كان خلاف بين العلماء: هل إذا قرأ الإمام يسكت المأموم ويكتفي بقراءة الإمام، أو لا بد أن يقرأ الفاتحة؟ في هذا خلاف مشهور بين العلماء (¬1)، فبعض العلماء يقول: أما في الجهرية فإن المأموم يسكت؛ لأن الله أمره في قوله: {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} والله يقول {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: آية 63]. ومن العلماء من لا يرى الفاتحة واجبة على المأموم؛ لأن الإمام يحملها عنه. وهذا مذهب مالك، وروي عن أبي حنيفة مثله، وقال به بعض العلماء. قالوا: دل القرآن على أن الذي يسمع ويُؤَمِّن أنه كالذي كان يتكلم. قالوا: والدليل على ذلك أن الله قال في محكم كتابه: {وَقَالَ مُوسَى} موسى وحده لم يكن معه هارون {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} وفي القراءة الأخرى (¬2): {لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} ثم قال: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: الآيتان 88، 89] قالوا: كيف يكون الداعي واحدًا -وهو موسى- وتكون الدعوة المجابة من اثنين؟! قالوا: لأن هارون كان ينصت لدعاء موسى ويُؤَمِّن عليه، فصار أحد الداعيين لإنصاته وتأمينه، فدل ذلك على أن المنصت المُؤَمِّن كالذي ¬

(¬1) انظر: الاستذكار لابن عبد البر (4/ 223 - 248)، المجموع (3/ 365)، تفسير القرطبي (1/ 117 - 124)، المغني (2/ 146 - 156) وقد أفرد هذه المسألة في التأليف الإمامان: البخاري والبيهقي رحمهما الله، وكتاباهما مطبوعان. (¬2) مضت عند تفسير الآية (55) من سورة الأعراف.

كان يقرأ. هذا قال به جماعة من العلماء. وقالت طائفة أخرى: ينبغي للمأموم أن لا يترك قراءة الفاتحة، فلو سكت الإمام وأعطاه الفرصة بالسكوت لبادر أن يقرأ الفاتحة في سكتة الإمام، وإن لم يعطه فترة في ذلك قرأها. قالوا: نعم {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} هذا نص عام في قراءة القرآن، إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتَابِ» (¬1) أخص منه، فهو تخصيص عموم القرآن بحديث نبوي، فتخصيصات عمومات القرآن بالأحاديث كثيرة جدًّا. وقد روي حديث في خصوصه أنه يقرأ وراء الإمام في الجهرية، فإن كان ثابتًا محفوظًا فلا كلام. وعلى كل حال فقوم من العلماء منعوا القراءة في حال جهر الإمام، وقوم أوجبوا قراءة الفاتحة خصوصًا. والأحوط في هذا ألا يترك الفاتحة؛ لأن الصلاة دعيمة عظيمة من دعائم الإسلام، وهي أعظمها بعد الشهادتين، فلا ينبغي للإنسان أن يفعل صلاة يقول بعض الناس: إنها غير مجزئة، فينبغي أن يعمل عملاً يتفق الناس فيه على أن صلاته مجزئة، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ}. الاستماع: هو التدبر في الشيء والإصغاء إليه، الإصغاء إلى الشيء بتدبر. ¬

(¬1) البخاري في الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلاة كلها ... ، حديث رقم (756)، (2/ 236 - 237)، ومسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... ، حديث رقم (394)، (1/ 295)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

والإنصات: هو السكوت وترك الكلام؛ لأجل سماع ما يقال. هذا معنى قوله: {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: آية 204]. ثم إن الله علم نبيه صلى الله عليه وسلم آداب الذكر، وجعل له الذكر على نوعين على التحقيق: ذكر نفساني، وذكر لساني، أما الذكر النفساني فهو هذا الذي يذكره العبد في نفسه بالتدبر والتفكر والاعتبار ولا ينطق به. وما قاله ابن عطية (¬1) (رحمه الله) من أنه لا ذكر إلا بحركة اللسان خلاف ظاهر هذه الآية الكريمة؛ لأن الله قال لنبيه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: آية 205] أي: فيما بينك وبين ربك في نفسك من غير كلام، فتذكر عظمته وكماله وجلاله وصفاته، وما عنده من الثواب لمن أطاعه، ومن العقاب لمن عصاه، ويكون هذا التذكر والتفكر في عظمة الله (جل وعلا) وفي صفاته العظمى، وفي ثوابه وعقابه يكون في نفسك لأجل التضرُّع والخوف. وقوله: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} قيل هما مفعولان لأجلهما؛ أي: لأجل التضرع. والتضرع معناه: التذلل والتخشع والتواضع؛ أي: لأجل التذلل والتخشع والتواضع لرب العالمين. وقال بعض العلماء: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} مصدران مُنكَّران بمعنى الحال؛ أي: في حال كونك متضرعًا خائفًا. والكل محتمل. وقوله: {خِيفَةً} ياؤه مبدلة من واو، أصله: (خِوْفَة) لأنها ¬

(¬1) عبارة ابن عطية: «والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس، ولا يراعى إلا بحركة اللسان» اهـ. المحرر الوجيز (7/ 239).

(فِعْلَةٌ) من الخوف (¬1)؛ لأن المادة من الأجوف الذي هو واوي العين، والقاعدة المقررة في التصريف: أن الواو إذا سكنت بعد الكسر أُبدلت ياء بقياس مطرد (¬2). فـ (الخيفة) هي (فِعْلَة) من الخوف، فالياء مبدلة من واو، وتُجمع على (خِيَف)؛ لأن الإعلال الذي في المفرد هو موجود أيضًا في الجمع، وشذ بعض العلماء فقال: تُجمع على (خِوَفْ). والفرق في لغة العرب بين الخوف والحزن (¬3): أن الخوف هو غم من أمر مستقبل، والحزن غم من أمر فائت. هذا أكثر ما يستعمل فيه الخوف والحزن، إلا أنهما ربما استعمل أحدهما في موضع الآخر. فقوله: {خِيفَةً} أي: غمًّا مِنْ أَمْرٍ مستقبل، وهو سخط رب العالمين وعقابه؛ لأن الخائف من سخطه وعقابه المغموم مما يقع من ذلك في المستقبل يُطيع الله (جل وعلا) في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، وربما أطلقت العرب اسم الخوف على العلم، تقول العرب: «خفت كذا». أي: علمته. وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عَرَبِي معروف، قال بعض العلماء: منه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: آية 229] أي: علمتم ألا يقيما حدود الله {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: آية 229] إلا أن يعلما ألا يقيما حدود الله، على القول بذلك، ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم قول أبي محجن الثقفي في أبياته المشهورة (¬4): ¬

(¬1) انظر: اللسان (مادة: خوف) (1/ 921)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص103. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 491 - 492). (¬3) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬4) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

إذا مِتُّ فادفنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامي بالمَمَاتِ عُروقُها ... ولا تَدْفننّي بالفَلاةِ فإنَّني ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ ألاَّ أَذُوقُها فإنه يعلم أنه إذا مات ليس شاربًا الخمر بعد موته، فمعنى (أخاف) أي: أعلم. كما هو ظاهر. وهذا معنى قوله: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}. {وَاذْكُر رَّبَّكَ} ذِكْرَيْن، أمَّا الذكر النفساني فهذا الذي يكون في نفسك لا يعلمه منك إلا ربك، من أن تتفكر في عَظَمِتِه وسلطانه وجبروته وصفاته وعقابه وثوابه متضرِّعًا خائفًا منه (جلّ وعلا). وهذا النوع من الذكر القلبي عظيم جدًّا. الثاني: ذكر لساني، وقد علمهم (جلّ وعلا) آداب الذكر اللساني، وأنهم لا يرفعوا صوته جدًّا ولا يُخافتوا به جدًّا، كما قال: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: آية 110] والمخافتة: الإسرار الشديد. وقال هنا: {وَدُونَ الْجَهْرِ} أي: واذكر ربك بالقول دون الجهر، لا تجهر به وترفع صوتك جدًّا؛ لأن رفع الصوت الكثير بالدعاء وبالأذكار لا ينبغي. والله (جلّ وعلا) يُعَلِّمُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يرفع صوته به جدًّا {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يعني: دون الجهر وفوق الإسرار: المخافتة، لا تجعله سرًّا جدًّا كالمخافتة، ولا تجعله جهرًا جدًّا بل سبيلاً بين ذلك كما قال: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: آية 110]. وقوله: {بِالْغُدُوِّ} الغدو: قال بعض العلماء: هو مفرد مصدر غدا غدوًا. وقال بعض العلماء: هو جمع (غُدوة) (¬1). ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 552).

والآصال: جمع (أصيل). وقيل جمع (أُصُل). وبعضهم يقول: (الأُصُل) جمع (أصيل)، و (الآصال) جمع الجمع، ولا داعي إليه؛ لأن (الأصيل) يُجمع على (آصال)، كما تُجمع اليمين على الأيمان، والأُصُل أيضًا يُجمع على الآصال. والأُصُل يطلق مفردًا وجمعًا (¬1). والغدو: أوائل النهار، والآصال: أواخره. فالآصال: من العصر فما وراءه إلى الليل. والغدو: من أول النهار. قال بعض العلماء: كان قبل فرض الصلاة ليلة المعراج يصلون صلاتين: آخر النهار، وأوله، وأنه هو المُراد هنا. وقال بعضهم: خص هذين الوقتين من النهار - أول النهار وآخره- لفضلهما. قال بعض العلماء: الذِّكْر بالغدو: صلاة الصبح، وبالآصال: صلاة العصر. والله تعالى أعلم، وهذا معنى قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}. {وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يغفل عن ذكر ربه ولكنه يُؤمر ويُنهى ليُشرَّع لأُمته على لسانه. وفي هذه الآية الكريمة نهي للمسلمين عن الغفلة عن ذكر الله (جل وعلا)، فعلينا معاشر المسلمين ألا نغفل عن ذكر الله، وأن نذكر الله في أنفسنا تضرعًا وخيفة، وأن نذكره بقولنا دون الجهر مِنَ القَوْل، أول النهار وآخره، وفي كل وقت؛ لأن الله أثنى على عباده بالذكر عليه في كل حال، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق، القرطبي (7/ 355).

وَالأَرْضِ} [آل عمران: آية 191] هذا التفكر في خلق السماوات والأرض من ذكرك ربك في نفسك تضرعًا وخيفةً كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: {وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: آية 205]. ثم إن الله لما أمر عباده المؤمنين بهذه الآداب السماوية وهذه الأوامر الكريمة بَيَّنَ لهم أن ملائكته المقربين يطيعونه ويعبدونه ولا يستكبرون عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف: آية 206] وهم ملائكته (جل وعلا) صلوات الله وسلامه عليهم: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} لا يتكبرون عنها أبدًا، بل هم خاضعون مُتَذَلِّلُون عابدون لربهم (جل وعلا). وأصل العبادة في لغة العرب (¬1): معناها الذل والخضوع. فالعبادة: الذل والخضوع على وجه المحبة خاصة. وكل مُذلّل مُخضِّع تسميه العرب (مُعَبَّدًا) وقيل للعبد (عبد) لذله وخضوعه لسيده، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته (¬2): تُباري عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وأَتْبَعَتْ ... وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مور مُعَبَّدِ أي: طريقًا مذللاً لدوس الأقدام. وإنما قلنا: إن العبادة هي الذل والخضوع لله على وجه المحبة خاصة فلا تكفي المحبة دون الذل والخضوع، ولا يكفي الذل والخضوع دون المحبة؛ لأن الإنسان إذا كان ذله متجردًا عن محبة كان يُبغض الذي هو يذل له، ومن أبغض ربه هلك، وإذا كانت محبةً خالصة لا خوف معها فإن المُحب الذي لا يُداخله خوف يحمله الدلال على أن يسيء الأدب، ويرتكب أمورًا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة. (¬2) السابق.

لا تنبغي، والله (جل وعلا) لا يليق به شيء من ذلك، وهذا معنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}. {وَيُسَبِّحُونَهُ} جلّ وعلا. التسبيح في لغة العرب: معناه الإبعاد عن السوء، فسبحتُ الشيء معناه: أبعدته عن السوء. وهو في اصطلاح الشرع: تنزيه رب العالمين (جل وعلا) عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} سجود تواضع وتذلل وخضوع سبحانه وتعالى. فإذا كان ملائكته المقربون مع عظمهم ومكانتهم عنده لا يستكبرون عن عبادته وينزهونه ويخضعون ويتذللون له فكيف بنا معاشر بني آدم؟!

تفسير سورة الأنفال

تفسير سورة الأنفال [1/أ] / ... {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)} [الأنفال: الآيات 1 - 6]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: الآية 1]. الجماهير من العلماء (¬1) على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أنها نزلت في غنائم بدر، لما اصطف المسلمون لقتال المشركين ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 327)، القرطبي (7/ 360)، ابن كثير (2/ 283)، الأضواء (2/ 342).

كانت المشيخة رِدْءًا لهم، وكان الشباب تلقّى العدو، وكان قوم يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُني له العريش يوم بدر. فلما هزم الله المشركين، وأخذ المسلمون غنائمهم، وقع خلاف ومشاجرة بين الصحابة، قال الذين أخذوا الغنيمة: نحن الذين احتويناها وحُزناها فليس لغيرنا نصيب فيها! وقال المشيخة: نحن كنا رِدْءًا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منا! وقال الآخرون: نحن ليس بنا جبن ولا بخل، وإنما خفنا أن ينال العدو غِرَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نُحدِق بنبي الله نحرسه من العدو، فلستم بأحق منا! فوقع هذا الخلاف والتنازع، وهذا سبب نزول هذه الآية الكريمة كما عليه جماهير العلماء، وحديث عبادة بن الصامت فيه (رضي الله عنه) عند أحمد وأصحاب السنن مشهور (¬1)، قال: فينا معاشر المسلمين نزلت، لما أخذنا غنائم بدر ساءت أخلاقنا وتنازعنا فأنزل الله الآية، وبيّن أن الأمر فيها إلى الله وإلى رسوله، ففعل فيها رسول الله ما أرضى الله، وما أصلح به ذات البين بين الجميع، وما حصل به تقوى الله، كما يأتي إيضاحه، وهذا القول -أنها نزلت في غنائم بدر جميعها- هو المعروف عند جماهير العلماء. ¬

(¬1) أحمد (5/ 324)، والحاكم (2/ 135، 136، 326). وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، والبيهقي (6/ 292)، والواحدي في أسباب النزول ص232، وابن جرير (13/ 370، 371). وقال الهيثمي في المجمع (6/ 92): «ورجال أحمد ثقات» اهـ وانظر أيضًا: (7/ 26) منه.

وفي سبب نزولها أربعة أقوال أُخر معروفة عند العلماء. قال بعض العلماء: ( ... ) (¬1) خاصة دون بعض، والذين قالوا هذا القول استدلوا بحديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد وغيره قال سعد: لما قُتِلَ أخي عمير يوم بدر -لأن عمير بن أبي وقاص من شهداء بدر كانوا يقولون: إنه قتله عمرو بن عبد ود (¬2) فكان أخوه سعد (رضي الله عنه) أصابه من قتل أخيه أمر عظيم، وحمل على الكفار وقتل سعيد بن العاص، وأخذ سيفه، وكان يسمى (ذو الكتيفة) قال: فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعطنيه يا رسول الله، فقال: «لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ فَاطْرَحْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ، وَاجْعَلْهُ فِي القَبَضِ» - يعني محل غنائم المسلمين- قال: فخرجت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سَلَبي. قال: ثم رجعت إليه فقلت: أعطنيه؟ فرفع لي صوته: «اطْرَحْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ»، إلى الثالثة، قال: فذهبت به فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ} قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ لِي، وَالآنَ صَارَ لِي فَخُذْهُ» (¬3). فأعطاه إياه. فاستدلوا بهذا ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. والمراد: أنها نزلت في الشيء الخاص يُسأل من الغنيمة قبل أن تُقسم. انظر ابن جرير (13/ 371). (¬2) في البداية والنهاية (3/ 327) أن الذي قتله: العاص بن سعيد. وقال الحافظ في الإصابة (3/ 35): «يقال: وقتله عمرو بن عبد ود العامري الذي قتله علي يوم الخندق» اهـ وقال في آخر الترجمة (3/ 36): «وأخرج البغوي من طريق محمد بن عبد الله الثقفي عن سعد قال: لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير، وقتلت أنا سعيد بن العاص، كذا فيه، والصواب: العاص بن سعيد بن العاص» اهـ. (¬3) الحديث أصله في مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حديث رقم: (1748) (4/ 1877)، وفي الجهاد والسير، باب الأنفال، حديث رقم: (1748)، (3/ 1367). وهو في مسند الإمام أحمد (1/ 178، 181، 186). وللتوسع في تخريجه راجع الطبعة المحققة من المسند (1534، 1567، 1614).

على أن الأنفال المسئول عنها: الشيء الخاص، كهذا السيف ينفله النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام لبعض الناس. وقال بعض العلماء: هي نزلت في خُمس الغنيمة (¬1). وقال بعض العلماء: نزلت في خُمس الخمس خاصة. كل هذا قال به جماعة من العلماء. وقال عطاء وغيره (¬2): نزلت فيما يشذُّ إلى المسلمين من الكافرين من غير قتال، كالفرس يأتي المسلمين من الكفار بلا قتال. هذه الأقوال جاءت في سبب نزول هذه الآية الكريمة، والذي عليه جماهير المفسرين: أن نزولها في غنائم بدر كما بينّا، لما اختلف الصحابة فيهم، وقال قوم: لا نصيب فيها لغيرنا؛ لأنا نحن الذين احتويناها. وقال الآخرون: كنا رِدْءًا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منّا، وقال الآخرون: نحن كنا نشتغل بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلستم أحق منا. ولذا لما اختصموا هذا الخصام كأن الله لامهم وقال لهم: لا تصرف لكم فيها، فالأمر فيها إلى الله وإلى رسوله. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، وكان بعض العلماء يقول: إنه لما التقى الجيشان رغّب وقال: مَنْ أَسرَ أسيرًا فله ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 365). (¬2) المصدر السابق (13/ 363).

كذا، ومن قتل قتيلاً فله كذا. فقال له بعض أصحابه: لو وفيت لهم بهذا لم يَبْقَ للآخرين شيء!! ووقع بعض الخصام (¬1). وقال بعض العلماء: كان الخصام بسبب النفر الثمانية الذين قسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنائم بدر ولم يشهدوا بدرًا. والحق أن هذا -وإن ذَكَرَهُ الأخباريون وأصحاب المغازي- أنه لم يُنْزل الخلاف، ومعروف عند أصحاب المغازي أن ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بسهامهم في مغانم بدر ولم يشهدوها (¬2)، أما ثلاثة المهاجرين فهم: عثمان بن عفان (رضي الله عنه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر الكبرى كانت ابنته رقية (رضي الله عنها) مريضة، وكانت إذ ذاك زوجة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فأمره أن يبقى يمرضها، وتوفيت يوم مجيء زيد بن حارثة بالبشارة بما فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، فقسم له في المغنم. قال بعضهم: والأجر، والآخران من المهاجرين: طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، أرسلهما النبي صلى الله عليه وسلم يتجسسان على عير أبي سفيان قبل وصولها لبدر إلى جهة الشام، ففاتت بدرٌ ولم يحضرا، فقسم لهما، وأما خمسة [الأنصار] (¬3): فمنهم: أبو لبابة بن عبد المنذر كان النبي صلى الله عليه وسلم خلّفه على المدينة، ومنهم ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. رقم: (9483) (5/ 239). وهذا الإسناد لا يصح. وقد عزاه في الدر (3/ 160) لعبد بن حميد وابن مردويه. وهو عند ابن أبي شيبة في كتاب المغازي المفرد (128) ص178 مختصرًا دون ذكر قول بعض الصحابة هذا. ورجال إسناده ثقات. (¬2) انظر: البداية والنهاية (3/ 327). (¬3) في الأصل: «المهاجرين» وهو سبق لسان.

الحارث بن الصمة، وخوَّات بن جبير (رضي الله عن الجميع) أصابهما مرض فردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم الحارث بن حاطب رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء ليكون على بَنِي عمرو بن عوف حتى يرجع صلى الله عليه وسلم، وعاصم بن عدي العجْلاني خلّفه النبيّ صلى الله عليه وسلم على العوالي. والتحقيق الذي عليه الجمهور: أنها نزلت في اختلاف الصحابة في غنائم بدر؛ ولذا قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال: الآية 1] الأنفال: جمع نَفَل -بفتحتين- وأصل النفل الزيادة، فكل زائد يُسمى نَفَلاً، ومنه قيل للزائد على الواجبات: نفل. وإنما سُميت المغانم أنفالاً؛ لأن الله زادها من الحلال لهذه الأمة، لم تكن تحل لمن قبلها. والنَّفَل: المغنم، والأنفال: المغانم. وهذا معروف في كلام العرب (¬1)، وقد نزل به القرآن، ومن إطلاق النَفَل على المغنم قول لبيد بن ربيعة (¬2): إِنَّ تَقْوى ربِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وعَجَلْ يعني: تقوى الله خير غنيمة يغتنمها الإنسان في حياته، ومن إطلاق الأنفال على المغانم قول عنترة (¬3): إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الوَغَى نُروي القَنا ... ونَعفّ عند تَقَاسُمِ الأنْفَالِ أي: قسم المغانم كما هو معروف. قل لهم يا نبي الله مجيبًا عن سؤالهم: الأنفال -الغنائم- أي: وعلى الأخص غنائم بدر هذه {لِلَّهِ}؛ لأنه هو مالكها الذي أقْدَرَكُمْ على أخْذِهَا، المتصرف فيها ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 361)، القرطبي (7/ 361). (¬2) البيت في ابن جرير (13/ 366)، الكامل للمبرد (3/ 1351). (¬3) ديوانه ص107.

كيف يشاء {وَالرَّسُولِ} ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعل أمْرَهَا إليه وفَوَّضَه إليه، ليس لأحد فيها كلام؛ لينقطع خصامهم، ويضْمَحِلّ نِزَاعُهُمْ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السوية قسمة عدل على أحسن ما يكون، والتحقيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم خَمَّسَ غنائم بدر -أخرج منها الخُمس- كما يدل عليه الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في قصة الشارفين من الإبل اللتين ذبحهما حمزة بن عبد المطلب لما كان به سُكْر قبل تحريم الخمر. قال: إن أحدهما مِنْ سَهْمِه يوم بدر، وإن الشارف الثانية أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم من خُمْس الغنيمة يوم بدر (¬1). فدلّ ذلك على أنه خَمَّسَها. وفي هذه الآية الكريمة سؤال مَعْرُوف، وهو أن يقول طالب العلم: إذا قَرَّرْتُمْ أن سَبَبَ نزول الآية في المغانم جميعها لا في خصوص الذي يشذ من الكفار إلى المسلمين، ولا في خصوص الذي يُنفّله الإمام لبعض الجيش، ولا في تنفيل الإمام لبعض السرايا التي يرسلها، ولا في خصوص الخُمس، ولا في خصوص خُمس الخُمس، فكيف تكون لا حق فيها للغانمين؟ والله يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ} [الأنفال: الآية 41]. وهذه الآية من هذه السورة الكريمة نص في أن أرباع الغنيمة أنها ملك للغانمين استحقوها، وأن الخارج عنهم منها هو الخمس؟ هذا سؤال ¬

(¬1) أخرجه البخاري في البيوع، باب ما يُكره من الحلف في البيع، حديث رقم: (2089)، (4/ 316) وأطرافه في (2375، 3091، 4003، 5793)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، حديث رقم: (1979) (3/ 1568).

معروف وقد أجاب العلماء عنه بجوابين (¬1): أحدهما: ما ذكره أبو عبيدة وعزاه القرطبي لجمهور العلماء أن آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ} [الأنفال: الآية 1] منسوخة بآية {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: الآية 41]. القول الثاني -وليس ببعيد-: أن معنى أنها لله: أنه هو المتصرف فيها، وأن نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث أنه القاسم، الذي يقسمها على ما يرضي الله (جل وعلا)، فلا ينافي أن لهم حقوقًا فيها، كما قسمها صلى الله عليه وسلم عليهمِ بالسواء، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح كثيرة في تفسير قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: الآية 41] إن شاء الله، وهذا معنى قوله: {قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ}. {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي: اتقوا الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا تتخاصموا هذا الخصام بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرض من الدنيا. {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} معنى: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي: الأحوال الكائنة فيما بينكم مما يستوجب المحبة والوئام، وما يستوجب النُفرة والوحشة والفراق، هذه الأحوال التي تكون فيما بينكم أصلحوها لتكون جارية على ما ينبغي وعلى ما يرضي الله، وقد اشتهر في كلام العرب إطلاق (إصلاح ذات البين) على أن يصلح ما بين هذا وهذا من الأحوال حتى يكون الشيء الذي بينهما على الحالة التي تنبغي، خاليًا من النزاع والخصام والنفرة وغير ذلك. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 380)، القرطبي (8/ 2)، الأضواء (2/ 345).

{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ} طاعة الله (جل وعلا) هي: امتثال أمره واجتناب نهيه، ومن ذلك أن لا تختصموا في عَرَضٍ من الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم واقبلوا وارضوا بما يفعله بينكم من قَسْم هذه الغنائم. قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} هذه أصلها تُشكل على بعض أهل العلم؛ لأن المعروف في كلام العرب أنَّ (إنْ) الشرطية تدل على الشك في الشرط، وهم مؤمنون لا شك في إيمانهم، فكيف يتقيّد إيمانهم بالشرط مع أنهم مؤمنون؟! (إنْ) هذه أصلها من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين (¬1)، فعلماء الكوفيين يقولون: إنَّ (إنْ) هنا بمعنى (إذ) التعليلية {واتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مؤْمِنينَ} قالوا: واتقوا الله إذ كنتم مؤمنين، أي: لأجل كونكم مؤمنين فاتقوا الله؛ لأن إيمانكم سبب يحملكم على تقوى الله، قالوا: وإتيان (إنْ) بمعنى (إذ) أسلوب عربي معروف، قالوا: ومنه قول الفرزدق وهو عربي فصيح (¬2): أَتَغْضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيبةَ حُزَّتَا ... جِهَارًا ولم تَغضَبْ لقَتْل ابنِ خَازِمِ معناها: أتغضب لأجل حزّ أذني قتيبة. والبصريون يقولون: إنَّ (إنْ) هذه تستعمل استعمالين: أحدهما: يراد به التهييج والحض على الفعل، وأن ذلك أسلوب عربي معروف، كما تقول للرجل الكريم: (إن كنت ¬

(¬1) انظر: الحروف العاملة في القرآن الكريم 639، 647، 704 - 711، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

ابن الكرام فاقض حاجتي) وأنت تعلم أنه ابن الكرام، إلا أنك تهيجه بهذا الكلام وتستثيره وتحمله على الامتثال، والاستثارة بأداة الشرط في هذا المعنى أسلوب عربي معروف، العرب تقول: (إن لم أفعل كذا فلست ابن فلان)، و (إن كنت ابن فلان فافعل كذا) تهيجه على الفعل وتحضه عليه. فعلى هذا فالمراد بقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تهييجهم وتحريضهم إلى امتثال أمر الله جل وعلا. الثاني: في بعض الأشياء التي لا يُحتمل فيها هذا كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: الآية 27] وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيارة القبور: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ» (¬1). فإنهم لاحقون قطعًا، وداخلون المسجد قطعًا، قال بعض العلماء: جيء بـ (إنْ) في مثل هذا ليُعلِّم الناس أنهم لا يتحدثون عن المستقبل إلا معلقين بمشيئة الله، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشيء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: الآية 24] فلما كانت المشيئة يُعلق بها في الشيء الواقع لا محالة فما بالك بغيره؟! هكذا قالوا، وهذا معنى قوله: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: الآية 1]. ثم بيّنَ صِفَات المؤمنين الذين هم مؤمنون حقًّا بمعنى الكلمة قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: الآية 2] (إنما) أداة حصر كما بينَّا؛ أي: إنما المؤمنون الكامِلُون في إيمانهم كمالاً كما ينبغي {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} أي: إذا سَمِعُوا ذِكْرَ الله {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الوجل في لغة العرب معناه: الخوف؛ أي: خافت قلوبهم عند ذكر الله ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

إعظامًا لله (جل وعلا) وإجلالاً له، وخوفًا من بأسه وبَطْشِهِ، فالمُؤْمِنُ الحَقِيقِيُّ إذا سَمِعَ ذكر الله وجل قَلْبُهُ، أي: خَافَ قَلْبُهُ استعظامًا لرب العالمين، وإجلالاً له، وخوفًا من عقابه، وهذا معنى قوله: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} والعرب تقول: وَجِلَ من الأمر، يَوجَل، وجلاً: إذا خاف منه، ومنه قول إبراهيم للملائكة لما لم يرَ أيديهم تصل إلى العجل الذي قربه إليهم: {قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)} [الحجر: الآيتان 52، 53] فالوجل الخوف. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} (¬1) أي: قُرئت عليهم آياته، والياء في {تُلِيَتْ} أصلها مُبدلة من واو؛ لأن مادة التلاوة من الناقص الذي لامه واو (¬2)، وأصل التلاوة مصدر سيال، والعرب تقول: تلاه يتلوه: إذا تبعه، تقول العرب: هذا يتلو هذا؛ أي: يتبعه، ومنه قيل للجمل الذي يتبع النوق لضرابها: (التالي)؛ لأنه يتبع إناث الإبل كما هو معروف، ومنه قول غيلان ذي الرمة (¬3): إذا الجَافِر التالي تَنَاسَيْنَ عهده ... وعارضْنَ أنفاسَ الرياحِ الجَنَائِبِ وإنما قيل للقراءة (تلاوة) لأن القراءة مصدر سيال لا بد من حرف يتلوه حرف، يتلوه حرف، يتلوه حرف، حتى يتجمع من هذا المتلو: المقروء {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} أي: قُرئت عليهم آياته {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أي: تصديقًا بالله إلى تصديقهم، وإيمانًا إلى إيمانهم. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص339. (¬3) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

وهذه الآية وأمثالها في القرآن نصوص صريحة على أن الإيمان يزيد كما أنه ينقص (¬1)؛ لأن الآيات الدالة على أن الإيمان يزيد متعددة في كتاب الله، كقوله هنا: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقوله: {فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: الآية 124] {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: الآية 4] {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: الآية 31] ونحو ذلك من الآيات، وهذه الآيات المصرحة بزيادة الإيمان تدل بدلالة الالتزام على أن الإيمان ينقص بنقص الأعمال، وقد جاء مصرحًا بذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث الشفاعة المتواترة: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» (¬2) ونحو ذلك من الآيات، فالذي ليس في قلبه إلا وزن حبة أو شعيرة من إيمان فلا شك أن إيمانه ناقص، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال الصالحة، وينقص بنقصانها، كما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقول المتكلمين: ¬

(¬1) انظر: الإيمان لأبي عبيد ص24، الإيمان للعدني ص94، الإيمان لابن منده (1/ 345)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (5/ 890)، الشريعة للآجري ص111، أصول السنة لابن أبي زمنين (رياض الجنة ص211)، تعظيم قدر الصلاة (1/ 356) الإيمان لابن تيمية ص211، تفسير ابن كثير (2/ 285، 402)، (3/ 74)، شرح الطحاوية ص466، زيادة الإيمان ونقصانه لعبد الرزاق البدر، الأضواء (2/ 346). (¬2) البخاري في الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه. حديث رقم: (44) (1/ 103) وأطرافه: (4476، 6565، 7410، 7440، 7509، 7510، 7516). ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم: (193) (1/ 182) ..

«إنه لا يزيد ولا ينقص، وإنما ذلك بحسب التعلقات» قول لا يخفى بطلانه على متأمل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} التوكل على الله هو: الثقة به (جل وعلا) وتفويض جميع الأمور إليه، فهنا ذكر من صفات المؤمنين أولاً: الخوف من الله (جل وعلا)، والثانية: زيادة الإيمان، والثالثة: تفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه في كل شيء. وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم: إن الله (جل وعلا) ذكر في هذه الآية الكريمة من صفات المؤمنين أنهم إذا سمعوا ذكر الله {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خافت قلوبهم، مع أنه ذكر في موضع آخر أن ذكر الله يكون سببًا لطمأنينة القلوب، كما قال تعالى: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: الآية 28] قالوا كيف جمع بين الوجل والطمأنينة عند ذكر الله؟! والجواب عن هذا (¬1) مشهور عند العلماء لا إشكال فيه، وهو أن الطمأنينة إنما تعتري قلوبهم إذا سمعوا ذكر الله لما انشرحت له صدورهم من معرفة الحق وتيقُّنه، فقلوبهم مطمئنة غاية الطمأنينة إلى معرفة الحق، عالمون أنه حق لا يخالجهم شك، ومع هذا يخافون من الله أن لا يتقبل منهم أعمالهم ونحو ذلك، وهذه صفة المؤمنين يطمئنون باليقين ويخافون ربهم (جل وعلا). وهذا معنى قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: الآية 2]. ¬

(¬1) انظر: تفسير القاسمي (8/ 9).

ثم قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال: الآية 3] إقامة الصلاة: وهو الإتيان بها على الوجه الأكمل المطلوب، كالمحافظة على شروطها، وأوقاتها، وصلاتها في الجماعات، وإعطائها حقها في السجود والركوع ونحو ذلك من الأركان. وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} قال بعض العلماء: يعني الزكاة؛ لأنها رديفة للصلاة في القرآن، والأظهر أنه أعم من الزكاة، أنهم ينفقون مما رزقهم الله النفقة الواجبة وغيرها من النفقات المستحبات المرغب فيها من مواساة الفقراء، وصِلاَت الأرحام، ونحو ذلك (¬1)، وهذا معنى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}. {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: الآية 4] أولئك الذين هذه صفاتهم هم المؤمنون حقًّا، قال بعض العلماء: قوله: {حَقًّا} نعت لمصدر محذوف، أي: المؤمنون إيمانًا حقًّا، والتحقيق المعروف عند علماء العربية: أن (حقًّا) هنا من نوع المصدر المُؤَكِّد لعامله، وهو الجملة قبله؛ لأن قوله: {حَقًّا} مُؤكِّد للإسناد الخبريّ في قوله: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} أُحِقُّ ذلك حقًّا، وأُؤكِّد ذلك الإيمان توكيدًا (¬2). {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} الدرجات: جمع درجة. قال بعض العلماء (¬3): هي درجات الجنات يوم القيامة؛ لأن الناس لهم درجات ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 388). (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 558 - 559). (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 389).

يوم القيامة في الجنة بحسب أعمالهم {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: الآية 19] وقد يكون بعض الناس يتراءى أصحاب الغُرف كالكوكب الدُّري ينظره أهل الأرض لمباعدة ما بينهم، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: الآية 21]. وقال بعض العلماء: الدرجات: المقامات، والأول أظْهَرُ، {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ} (مَفْعِلَة) من غفران الذنوب. وأصله ستر الذنوب وتغطيتها بحلم الله حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها (¬1). {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو رزق الجنة؛ من مآكلها ومشاربها، كما جاء مبينًا في مواضع من كتاب الله، وهذا معنى قوله لهم: {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)} [الأنفال: الآيتان 5، 6]. الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} اختلفت فيها عبارات المفسرين إلى خمسة عشر قولاً (¬2)، كثير منها لا يظهر، بل يظهر سقوطه لعدم الدليل عليه، وعدم تمشّيه مع لغة العرب، فهي من الآيات التي كثر فيها غلط المفسرين حتى اختلفوا فيها إلى خمسة عشر طريقًا معروفة في كتب التفسير، والآية في الجملة دلت على تشبيه شيء بشيء بناء على الصحيح من أن الكاف للتشبيه. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف. (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 391)، القرطبي (7/ 367)، الدر المصون (5/ 559).

وأظهر الأقوال وأقربها: أن الله شبه فيها قصة بقصة؛ لأنه وقع في أول غزوة بدر قصتان: إحداهما: أن الله تبارك وتعالى لما هَزَمَ المُشْرِكِينَ ونَفَّلَ المُسْلِمِينَ غَنَائِمَهُمْ، وحصلت عند المسلمين غنائم اختلفوا فيها، فجعل الله الأمر فيها إلى رسوله فقسمها رسوله صلى الله عليه وسلم وبعضهم في نفسه غير راغب في تلك القسمة؛ لأنه كان يرى أنه أولى من غيره، فقد قضى الله عليهم شيئًا ليس هو رغبتهم لكنه هو المصلحة لهم في دينهم ودنياهم، هذه المسألة المشبّهة. والمسألة المشبه بها: أن الله أخرج نبيه من بيته في المدينة -هنا (¬1) - أخرجه إلى غزوة بدر الكبرى، فقد كان صلى الله عليه وسلم خرج لحكمة الله (جل وعلا)، خرج وكأنه يقصد عير أبي سفيان ليأخذ المال ليس دونه قتال، فلما خرج صلى الله عليه وسلم يريد أخذ مال لا قتال دونه في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه، وشاء الله أن أبا سفيان سَاحَلَ بِعِيْرِه إلى جهة ساحل البحر، وأرسل إلى قريش ضمضم بن عمرو الغفَاري ليبادروا عِيرهم، قال: لا يأخذها محمد صلى الله عليه وسلم كما فعل بعِير ابن الحضرمي بنخلة، وجاء النفير، وأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نفير قريش جاءهم جيش عرمرم في عَدده وعُدده، والله (تبارك وتعالى) أراد أن يُخرجهم إلى عِير ليسهل عليهم الخروج ويجعلهم ليسوا مستعدين للقتال ليُجَرِّئ عليهم نفير قريش. ليقضي الله أمره -كما سيأتي تفاصيله- وسنذكر في هذه السورة الكريمة -إن شاء الله- حاصل غزوة بدر وما فيها من المهمات؛ لأنها مذكورة في هذه السورة ¬

(¬1) معلوم أن الشيخ (رحمه الله) كان يلقي هذه الدروس في المسجد النبوي.

الكريمة -أعني غزوة بدر- والحاصل أنهما قصتان كان إحداهما شُبّهت بالأخرى، كما أن الله وكل قسم الغنائم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبعضهم لا يرغب في هذا؛ لأنه يرى أنه أحق من غيره، كذلك أخرج رسوله إلى أخذ مال من عِير فجاءها نفير، فصار بعض الصحابة يكره ملاقاة النفير ويقول: ما خرجنا مستعدِّين لقتال الرجال الذين هم في عَددهم وعُددهم، إنما خرجنا لأخذ عِير لا قتال دونها ولا سلاح، فهم كرهوا ملاقاة النفير -جيش قريش- مع أن ملاقاته فيها لهم المصلحة، فالذي كرهوه من قَسْم غنائم بدر هو الذي لهم فيه مصلحة الدنيا والآخرة، والذي كرهوه من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم الذي آل إلى قتال جيش قريش كرهوه وهو أيضًا خير لهم في دينهم ودنياهم، فالله (تبارك وتعالى) كأنه أشار بالتشبيه على هذا القول إلى أنه أعلم بمصالحهم من خلقه، وأن خلقه يكرهون شيئًا والمصلحة لهم فيما يختاره لهم ربهم كما قال جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: آية 216] هذا أقرب الأقوال، وكثير من الأقوال ساقط سقوطًا بيّنًا، وهذا أقربها، واختاره غير واحد. وقال بعض العلماء: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} كما أن إخراج ربك إياك حق لا شك فيه. وقال بعض العلماء: هي التي تدل على المجازاة والتعليل، كما تقول لِعَبْدِكَ: (كما أحسنتُ إليك فأطعني). وتقول لمن ترسله إلى مهمة: (كما قطعت عِللك ووفرت لك جميع الأسباب فافعل ما ينبغي). وأنه على هذا كأنه يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وغشاكم النعاس، وثبتكم بالملائكة، وأنزل عليكم ماء

السماء ليطهركم به، وليربط على قلوبكم {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12] ولا يخلو هذا من بُعد، وأقربها هو ما ذكرنا من أنهما مسألتان كلاهما أراد الصحابة فيها غير الأصلح، وكره بعضهم ما هو الأصلح لهم فيها، فبيّن الله لهم أنهم في المسألتين كرهوا ما هو الأصلح لهم، وأن الله (جل وعلا) فعل بهم ما هو الأصلح {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: الآية 216]. قوله: {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} التحقيق أن المراد به خروجه من بيته في المدينة إلى عِير أبي سفيان، وقد تَمَخَّضَ هذا الخروج عن قتال جيش قريش في بدر الكبرى. هذا هو التحقيق، خلافًا لقوم زعموا أن معنى: {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} أي: مِنْ مَسْقَطِ رأسك مكة أخرجك ربك بسبب معاداة قومك لك {بِالْحَقِّ} وهذا خلاف التحقيق، والأول هو الصحيح (¬1). {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} لكارهون للخروج لما علموا أن القتال قتال النفير، وأن الأمر ليس أمر العير، وذلك كما سيأتي شرحه وإيضاحه أن عير أبي سفيان وفيها أموال قريش، فيها أموال كثيرة، وقد ذهبت إلى الشام في رحلة الصيف، كما في قوله: {رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} [قريش: الآية 2] وقد سمع بها صلى الله عليه وسلم أنها ذهبت إلى الشام، فتلقّاها وهي واردة إلى الشام حتى بلغ العُشيرة -وهي غزوة العُشيرة- ففاته أبو سفيان ولم يدركه، ثم كان يترقب قفول العير ليعترض لها فيستعين بما فيها من الأموال، فلما حان قُفول ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 394).

العير استنهض صلى الله عليه وسلم مَنْ خَفَّ من أصحابه، وكانوا لا يرون أنه قتال؛ ولذا راحوا في قلة من العَدد والعُدد، خرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً يريدون عير أبي سفيان [1/ب] وسيأتي /شرح هذه القصة، وغزوة بدر (¬1)، وعلى كل حال أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم وقرُب من بدر أرسل بسبس (¬2) بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء ينتظرون خبر القوم (¬3)، ثم راح هو وأبو بكر وجاءوا إلى شيخ من بني غفار (¬4)؛ لأن بدرًا أصله ماء لبني غفار سُمِّي برجل من غفار يُسمى (بدرًا) هو الذي حفر بئر بدر، فقال له صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرْنِي عَنْ أَبِي سُفْيَانَ؟» قال له: لا أخبرك حتى تخبرني، قال له صلى الله عليه وسلم: «إن أخبرتنا أخبرناك»، فقال له الشيخ: ذاك بذاك؟! قال: «نعم»، قال: أُخبرت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خرج في تاريخ كذا وإن كان المخبر صادقًا فهو الآن في محل كذا -وهو نفس المحل الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- وأن أبا سفيان خرج بعِيْرِه بتاريخ كذا، وإن كان المخبر صادقًا فإنه يكون في محل كذا -للمحل الذي فيه أبو سفيان، فلما أعطاهم الخبر قال: أنجزوا لي الوعد، فأخبروني؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: «نحْنُ مِنْ مَاءٍ». وصار الشيخ يقول: من ماء؟ من ماء العراق؟ لا يدري ما يقصده ¬

(¬1) انظر تفاصيل الغزوة في السيرة لابن هشام (2/ 643) فما بعدها. (¬2) في صحيح مسلم (1901): «بُسَيْسَة». قال النووي في شرح مسلم (13/ 47): «هكذا هو في جميع النسخ» اهـ ونقل عن القاضي قوله: «والمعروف في كتب السيرة: بسبس ... وهو بسبس بن عمرو» وعقبه النووي بقوله: «يجوز أن يكون أحد اللفظين اسمًا له والآخر لقبًا» اهـ. وانظر: إكمال المُعلم (6/ 322). (¬3) انظر: السيرة ص653. (¬4) وهو سفيان الضمري كما في ابن هشام ..

رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). فبعد أن ذهب رسول الله وأبو بكر جاء أبو سفيان أمام عِيره يتجسّس الخبر، فقصّ عليه الغفاري قصة ما جرى له مع النبي صلى الله عليه وسلم (¬2)، فقال: هل أناخ بعيره؟ قال: نعم، فأراه الموضع الذي أناخ فيه رسول الله، فجاء فوجد بعر البعير ففتته فإذا فيه النوى، قال: هذه والله علائف يثرب؛ لأنهم يعلفون مواشيهم النوى، وآجر في ذلك الوقت ضمضم بن عمرو الغفاري يقرن بين مشي الليل والنهار لينذر قريشًا أن عِيرَهُم تعرضها محمد صلى الله عليه وسلم، وذهب هو بالعِير وسَاحَل بها إلى جهة ساحل البحر، وأبعد بها عن بدر، ولم يلبث الغفاري أن جاء قريشًا فاستنفروا بسرعة وجاءوا، فلما جاءوا علم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجيش أتى، وأن العِير سلمت، وكان الصحابة يكرهون هذا، وكان الله -جل وعلا- وعد نبيه بأنه يعطيه إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، وكان أصحابه (رضي الله عنهم) يرغبون في أن يكون الوعد بالعِير لا بالنفير كما سيأتي في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7] فلما علموا أنه النفير وعلم صلى الله عليه وسلم بجيش قريش أنه أقبل يريده، وقص خبره على أصحابه، كره جماعة منهم ملاقاته غاية الكراهة، حتى قال تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ ¬

(¬1) ابن هشام ص654، والبداية والنهاية (3/ 264). (¬2) المعروف أن بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء أتيا بدرًا فأناخا إلى تل قريب من الماء، وكان مجدي بن عمرو الجهني على الماء ... ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وأقبل أبو سفيان حتى ورد الماء، فقال لمجدي: هل أحسست أحدًا؟ فقال: ما رأيت أحدًا أُنكره إلا أنني قد رأيت راكبَيْنِ قد أناخَا إلى هذا التل ... إلخ. كما في سيرة ابن هشام ص655 ..

وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: الآية 6] من شدة خوفهم وكراهتهم؛ ولذا قال لنبيه: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: الآية 6] الحق تبين أن الله أمرك بالخروج ووعدك إحدى الطائفتين: إما أن يمكنك من العير، وإما أن ينصرك ويظفرك بالنفير. وهذا حق ووعد من الله لا شك فيه، وهم يجادلون في هذا الحق بعد ما أوضحه الله لرسوله فيقولوا: نحن ما استعددنا أولاً لقتال النفير، إنما خرجنا لنأخذ عيرًا ولم نستعد للقتال فدعْنا نرجع حتى نستعد للقتال. وهذا إخراجه من بيته الذي كرهوه وكان خيرًا لهم؛ ولذا قال: {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: الآية 5] وهذا الحق الذي أخرجه من بيته متلبسًا به هو نصرة دينه، وإعزاز كلمته، وإعلاء كلمة الله (جل وعلا) لأن أول وقعة عظُمت فيها قوة الإسلام، وارتفعت فيها كلمة الله وعلت، وعزّ بها المسلمون وانتصروا هي غزوة بدر الكبرى هذه، وسنُلم بتفاصيلها -إن شاء الله- في هذه الآيات المقبلة؛ لأن الله ذكر في هذه الآيات الآتية من سورة الأنفال غزوة بدر الكبرى؛ ولذا قال هنا: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين هم معك {لَكَارِهُونَ} لذلك الخروج لما علموا أنه آيل إلى قتال الجيش لا إلى العير {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} [الأنفال: الآية 6] وهو أن الله (جل وعلا) أمرك أن تخرج خروجًا متلبسًا بالحق، ووعدك إحدى الطائفتين: إما العير وإما النفير، فأنت ظافر لا محالة، فخروجك خروج حق مصحوب بالوعد من الله بالنصر والظفر إما بالعِير وإما بالنفير، ومع هذا يخاصمون ويجادلون في الحق بعد ظهوره فيقولون: نحن ما كنا مستعدين للقتال، فما خرجنا إلا لنأخذ عيرًا لا حرب دونها.

وهذا معنى قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} من شدة كراهتهم لقتال العدو {وَهُمْ يَنظُرُونَ} لأن من يساق إلى الموت وهو يرى وينظر هذا أعظم شيء عليه، وهذا في بعضهم لا في كلهم، كما قد أشرنا إليه سابقًا من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما سمع بأنهم استنفروا النفير وأنه آتيهم، قال بعض العلماء: كان الذي أرسله له سرًّا بذلك عمه العباس بن عبد المطلب -والله تعالى أعلم- فلما أخبر قومه به جادل قوم في الحق، وقالوا: ما خرجنا للقتال، وإنما خرجنا للعير، فدعنا نرجع فنستعد للقتال، وتكلم أبو بكر وعمر فأحسنا، وتكلم المقداد بن عمرو -وهو المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو (رضي الله عنه) - وقال كلامه المشهور: والله لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا من دونه معك، لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: الآية 24] إلى آخر كلامه (¬1). وأنه لما أعاد الكلام مرارًا، قال له سعد بن معاذ: كأنك تريدنا معشر الأنصار؟ قال: نعم، وقال له كلامه العظيم الذي يقول في جملته: لقد بايعناك على الحق، وعلمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لقوم صُبُرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء (¬2). [وهذا يدل على أن الصحابة تباينت مواقفهم فما] (¬3) كرهوا كلهم هذا الخروج بل بعضهم رغب فيه وحبَّذه وصرح بالإعانة عليه، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

خلافًا للبعض الآخر. وهذا معنى قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: الآية 6] لشدة كراهتهم لقتال ذلك الجيش. قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: الآيات 7 - 11]. يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآيات 7، 8]. المراد بالطائفتين هنا كما أطبق عليه عامة المفسرين: هما العِير والنفير. العِير: الإبل تحمل المتاع، والنفير: الجيش في سلاحه وعدده وعُدده. وقد ذكرنا فيما مضى أن بدرًا (الكبرى) هذه؛ لأن بدرًا ثلاث غزوات كلها تسمى بدرًا، وهي: بدر الأولى، وبدر الكبرى -هي هذه التي يُقال لها بدر العظمى- وبدر الأخيرة بعد أُحد في العام القادم كما تقدم إيضاحه في تفسير سورة آل عمران، وقد ذكرنا فيما تقدم أن أبا سفيان خرج إلى الشام في الرحلة إلى الشام معه عير فيها كثير من أموال قريش، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بذهابها إلى الشام فتلقّاها

وهي ذاهبة إلى الشام ليأخذ المال الذي يشترون به مِنَ الشام ففاتته العير، وبلغ (العُشيرة) ورجع منها إلى المدينة، وهي غزوة العُشيرة، ثم بعد ذلك صار يترقب رجوع عِير أبي سفيان، فلما حان وقت قفولها وعلم أنها راجعة استنفر من خفَّ من أصحابه وتلقاها وقال لهم: «اخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ يُنَفِّلكُمُوهَا»؛ ليستعينوا بها على أمور دينهم ودنياهم؛ لأنهم في ذلك الوقت ينقص عليهم المال، فاستنفر صلى الله عليه وسلم من كان ظهره حاضرًا من القوم ولم يخرجوا معدّين للقتال، لكن خرجوا يتلقّون عِيْرًا، والمؤرخون يقولون: إن العِير فيها أربعون رجلاً أو ثلاثون رجلاً من قريش، فيهم رئيسهم أبو سفيان بن حرب، وفيهم عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل، وغيرهم من قريش (¬1). فسار إلى العِير في ثلاثماثة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه ليس عندهم من السيوف إلا ثمانية سيوف، ولا من الخيل إلا فرسان. يقولون: إن إحداهما تحت المقداد بن عمرو، والثانية تحت الزبير بن العوام، وذكر بعض أصحاب المغازي أن إحداهما عند مصعب بن عمير (رضي الله عنهم أجمعين)، والأول هو المشهور عند أصحاب المغازي. عندهم ثمانية سيوف -فيما يقولون- وفرسان، ونحو من سبعين بعيرًا يعتقبون عليها، كل ثلاثة يعتقبون على بعير، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون على بعير (¬2)، وكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: «اركب حتى نمشي عنك» فلم يرض إلا أن يمشي كما يمشون، ويقول لهم: ¬

(¬1) انظر: السيرة لابن هشام ص643. (¬2) المصدر السابق ص651 ..

«لَسْتُمْ بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَسْتُ بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا» (¬1). وما ذكره بعض المؤرخين وأصحاب المغازي من أن اللَّذَين كانا يعتقبان مع النبي صلى الله عليه وسلم هما: علي وأبو لبابة بن عبد المنذر لا ينافي ما عليه الأكثرون من أن الثالث هو مرثد بن أبي مرثد الغنوي؛ لأنّا قدمنا أن أبا لبابة بن عبد المنذر ردّه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الروحاء وخلفه على المدينة، ردّه إليها من الروحاء، فلعل مُعاقبة أبي لبابة كانت قبل رجوعه، وبعد أن ردّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صار مكانه مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه (¬2). ثم إنهم ذهبوا في طريقهم ذلك حتى قربوا من بدر، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد يتجسسان أخبار عِير أبي سفيان إلى جهة الشام، وقد انتهت الوقعة قبل رجوعهما، وأرسل أيضًا بسبس بن عمرو الجهني -حليف بني ساعدة- وعدي بن أبي الزغباء (رضي الله عنهما) يتجسسان الخبر، وقد جاءاه ببعض الخبر لأنهم لما جاءا بئر بدر وأناخا بعيريهما سمعا -عدي بن أبي الزغباء هذا، وبسبس بن عمرو (رضي الله عنهما) - سمعا جاريتين تُداين إحداهما الأخرى، والتي تُطالَبُ تقول لها: إن عِير أبي سفيان ستنزل هنا غدًا فأشتغل عندهم وأقضيك من ذلك، ¬

(¬1) أحمد (1/ 418، 422)، والنسائي (في الكبرى) في السير، باب الاعتقاب في الدابة، حديث رقم: (8807) (5/ 250)، والحاكم (3/ 20)، والبيهقي في الدلائل (3/ 39)، والبزار (كشف الأستار) (2/ 310)، وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 69) وعقبه بقوله: «وفيه عاصم بن بهدلة وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح» اهـ. (¬2) انظر: البداية والنهاية (3/ 261).

وعلى الماء رجل من بني غفار (¬1)، فقال للجارية الطالبة: صدقت فسترد العير وستقضيك إذا اشتغلت عندها، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك (¬2). وقد جاء رسول الله ومعه أبو بكر وسأل الشيخ الغفاري الذي كان على الماء واسمه سفيان (¬3) كما ذكرنا. وأخبرهما عن موقع النبي صلى الله عليه وسلم وعن موضع أبي سفيان، وقد قال له النبي: «نحن من ماء» كما ذكرنا. وذكر الأخباريون (¬4) أن أبا سفيان جاء وفَتَّت بعض أبعار النواضح، بعضهم يقول: فتت بعر بعير بسبس وعدي بن أبي الزغباء فوجد في بعر البعير النوى فقال: هذه علائف يثرب. ولم يشك في أنها من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فرجع مسرعًا وردّ العِير عن بدر أصلاً وسَاحَل بها إلى جهة البحر، وأسرع بها هناك، وآجر ضمضم بن عمرو الغفاري على أن يسير سيرًا مسرعًا إلى قريش ويخبرهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تعرض لعِيرِهم فيها أموالهم، والمؤرخون يقولون: إن هذه العير فيها ألف بعير كلها تحمل الأموال، وفيها أربعون أو ثلاثون رجلاً من قريش، وهي تحمل مالاً كثيرًا، فأسرع ضمضم بن عمرو الغفاري إلى قريش بمشي سريع وجاءهم بسرعة، ولما قرُب منهم جدع أُذني البعير الذي هو عليه. وحوَّل الرحل، وشق القميص، وصاح بصوت مزعج: يا معشر قريش اللطيمة ¬

(¬1) الذي على الماء: مجدي بن عمرو الجهني، كما في ابن هشام ص656. (¬2) المصدر السابق. (¬3) اسمه: سفيان الضمري. (ابن هشام ص654) والبداية والنهاية (3/ 264). وهو آخر غير الجهني الذي جاءه بسبس وصاحبه. (¬4) ابن هشام ص656، والبداية والنهاية (3/ 265).

اللطيمة. واللطيمة: الإبل تحمل المتاع، كما قال نابغة ذبيان (¬1): .......................... ... يَطُوفُ بها وَسْطَ اللَّطِيمَةِ بَائِعُ إن محمدًا تعرض لعِيرِكم يريد أن يأخذها كما أخذ عِير ابن الحضرمي. وبعضهم يقول: إن بين وقعة بدر وبين قضية عِير ابن الحضرمي شهرين فقط، والله تعالى أعلم. وقبل مجيء ضمضم بن عمرو الغفاري بثلاث ليالٍ رأت عاتكة بنت عبد المطلب (رضي الله عنها) رؤيا هائلة عجيبة أَسَرَّت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، قالت له: إني رأيت في منامي رؤيا عجيبة أخاف أن يصل إلى قومك منها شر. قال: وما هي؟ قالت: رأيت راكبًا على بعير له، لما جاء بالأبطح رفع صوته ونادى: ألا انفروا إلى مصارعكم في ثلاث. قالت: وأناخ بعيره على ظهر الكعبة فيما ترى في نومها وصرخ بهم مرات: ألا انفروا إلى مصارعكم في ثلاث، وفعل كذلك على جبل أبي قبيس، وأرسل صخرة عظيمة من أبي قبيس فلما جاءت إلى أسفل الجبل ارفَضَّت - أي انكسرت وتفرقت شظاياها - فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا دخله منها شيء. كانت أسرّت هذه الرؤيا إلى العباس أخيها واستكتمته عليها، فأَسَرَّها العباس إلى بعض أصدقائه من بني ربيعة، فأَسَرَّها ذلك إلى غيره حتى فشى الخبر وتناقلها الناس، فأتى العباس البيت ليطوف وإذا أبو جهل في نفر من قريش، فقال له أبو جهل: إذا ¬

(¬1) هذا الشطر الأخير من بيت أوله: «على ظهر مبناه جديد سيورُها» وهو في ديوانه ص53.

انتهيت من طوافك فأتنا. فلما أتاهم قال له أبو جهل: يا أبا الفضل متى حَدَثَتْ فيكم هذه النبية الجديدة؟! أما كفاكم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! هي قالت: إنّا ننفر إلى مصارعنا في ثلاث، فسننتظر هذه الثلاث، وإن انقضت ولم يكن فيها شيء كتبنا عليكم أنكم أكذب بيت من العرب، فالعباس في ذلك الوقت لم يغضب ولم يقل شيئًا إلا أنه أنكر وجحد أن أخته رأت شيئًا، فلما كان بالليل ورجع إلى أهله وجد نساء بني عبد المطلب كلهن في شدة الغضب، وقلن له: هذا الفاسق يسب رجالنا ثم شرع يسب نساءنا وأنت لا تغيّر شيئًا؟! فأوغرن صدره عليه، وغضب العباس وندم على ما فات منه، وأصبح ينوي التعرض لأبي جهل لإن عاد إلى ذلك لينتقمن منه، وكان ذلك هو اليوم الثالث من أيام الرؤيا، فجاءه في المسجد يتعرض إليه وأبو جهل مشغول؛ لأنه يسمع صوت ضمضم بن عمرو والعباس لا يسمعه، كان أبو جهل حديد السمع، فرآه مشغولاً حتى وثب إلى باب المسجد فإذا ضمضم على بعيره يقول: «اللطيمة، اللطيمة». إلى آخر ما ذكرنا (¬1)، فاشتغلوا وتجهزوا سراعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يظن محمد أنها كعِير ابن الحضرمي!! لا والله ليكونن غير ذلك، ثم إنهم تجهزوا مسرعين ولم يبق من أشراف قريش أحد. وتخلف من أشرافهم: أبو لهب بن عبد المطلب -قبحه الله- واستأجر العاص بن هشام بن المغيرة لِدَيْنٍ كان له عليه، أنه يذهب مكانه وبدله إلى بدر-قبحه الله- ثم إنهم لما تهيؤوا للسفر قالوا: إن بينكم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة حربًا، إن خرجتم عن ¬

(¬1) ابن هشام 644 - 647 ..

دياركم لعل بني بكر أن تأتي بلدكم بعدكم وتأخذ نساءكم وصبيانكم وأموالكم ليس دونهم رجال، وكان بين قريش وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة حرب (¬1) سببها أن رجلاً من بني عامر بن لؤي وهو ابن لحفص - رجلٌ من بني عامر بن لؤي، أخو مكرز بن حفص (رضي الله عنه) الصحابي المشهور- كان قتله رجل من بني بكر بن كنانة، فأخذ مكرز بن حفص بثأره فقتل الكناني، فصارت بين قريش وبين كنانة قاتل ومقتول، وصارت بينهم حرب، فلما خافوا كنانة جاءهم إبليس اللعين علنًا متمثلاً لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم (رضي الله عنه)، وهو الذي ساخت به قوائم فرسه لما تبع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة، وهو سراقة بن مالك بن جعشم (رضي الله عنه) صار من أصحاب رسول الله - أسلم - وهو سيد بني مدلج من بني بكر بن كنانة، جاء الشيطان في صورته، وهم يعرفون سراقة، كأنه سراقة لا ينكرون منه شيئًا، وهو الشيطان متمثل في صورة ذلك الرجل، وقال لهم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، إني جار لكم من كنانة، لا يمكن أن يصلوا إليكم بسوء. كما سيأتي تفاصيل هذا في هذه السورة الكريمة؛ لأنه قال: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: الآية 48] هو الشيطان لما تمثل لهم بصورة سراقة بن مالك (رضي الله عنه)، ولم يزل معهم يَقِيلُ معهم حيث قالوا، ويبيت معهم حيث باتوا، حتى تراءى الجمعان يوم بدر، ورأى الشيطَان الملائكة ينزلون من السماء -لنصر دين الله- لما رأى الملائكة خاف القبيح وقال لهم: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} نكص على ¬

(¬1) المصدر السابق ص648.

عقبيه وقال: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1) [الأنفال: الآية 48]، وبعد ذلك تقول قريش: خذلنا سراقة وهرب عنا. ولم يعلموا أنه الشيطان حتى أسلموا وسمعوا قصته تُتلى في سورة الأنفال هذه (¬2)، فلما قال لهم الشيطان: إني جار لكم من بني بكر، وخرجوا، وكان أمية بن خلف -من سادات قريش - هَمَّ أن لا يخرج؛ لأنه كان صديقًا لسعد بن معاذ (رضي الله عنه) في الجاهلية، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل عند سعد، وكان سعد إذا مر ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (3/ 259، 283). (¬2) خبر مجيء الشيطان يوم بدر على صورة سراقة بن مالك (رضي الله عنه) جاء في روايات عدة عن جماعة، منهم: 1 - ابن عباس. عند ابن جرير (14/ 7) (من طريق ابن أبي طلحة)، وابن أبي حاتم (5/ 1715)، والبيهقي في الدلائل (3/ 79). وعزاه في الدر (3/ 190) لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والواقدي. 2 - رفاعة بن رافع الأنصاري. وقد ذكره الهيثمي في المجمع (6/ 77) وعزاه للطبراني، وقال: «وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف» اهـ وعزاه في الدر (3/ 190) للطبراني وأبي نعيم في الدلائل. 3 - السدي. عند ابن جرير (14/ 8). 4 - عروة بن الزبير. عند ابن جرير (14/ 8). 5 - ابن إسحاق عند ابن جرير (14/ 8). 6 - محمد بن كعب عند ابن جرير (14/ 11). 7 - يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد. عند ابن أبي حاتم (5/ 1715). وقد ذكر ابن كثير (2/ 317) بعض هذه الروايات، وأورد غيرها من طريق الواقدي وابن إسحاق.

بمكة أو جاء معتمرًا نزل عند أمية، وكان سعد (رضي الله عنه) بعد أن وصل إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في هجرته ذهب معتمرًا إلى مكة ونزل عند أمية بن خلف، فقال له: انظر لي وقتًا يكون البيت ليس عنده أحد لأطوف. فراح به منتصف النهار ليطوف ببيت الله الحرام، فرآه أبو جهل يطوف فقال: من هذا؟ قال: أنا سعد بن معاذ. قال: تطوف بالبيت آمنًا وأنتم آويتم محمدًا وأصحابه؟! فقال له سعد: والله إن منعتني من مكة لأمنعنك مُتَّجرك إلى الشام!! ورفع صوته، وقال له أُمية بن خلف: يا سعد لا ترفع عليه صوتك!! هذا سيد أهل الوادي، فغضب سعد وقال لأمية: لقد سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنهُمْ قَاتِلُوكَ»، فجزع أمية جزعًا شديدًا لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًّا، ورجع إلى امرأته فقال: يا أم صفوان أما سمعتِ ما قال أخي اليثربي؟! قالت: ماذا قال؟ قال: إنه سمع محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: إنه قاتلي، فقالت: والله ما يكذب محمد صلى الله عليه وسلم. هم مع كفرهم وعنادهم يعلمون أنه لا يكذب!! فلما تهيؤوا للنفير أراد أمية أن يتخلَّف، فجاءه أبو جهل وقال: يا أبا صفوان أنت من سادة أهل الوادي إذا تخلفت تخلف الناس، فلا بد أن تذهب، فلم يزل به حتى ذهب (¬1). وقال بعضهم (¬2): جاءه عقبة بن أبي معيط بطيب ومجمر فقال له: تَبَخَّرْ بهذا فإنما أنت من النساء! فلم يزالوا به حتى خرج، وخرجوا مُوعِدِين للحرب، لم يبق من سادات قريش وقادتها أحد إلا ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يُقتل ببدر. حديث رقم: (3950) (7/ 282). وطرفه في (3632). (¬2) البداية والنهاية (3/ 258).

ما ذكرنا عن أبي لهب - قبحه الله - وذكر أصحاب المغازي المطعمين منهم (¬1) فقالوا: عندما خرجوا من مكة نحر لهم أبو جهل عمرو بن هشام -قبحه الله- عشرًا من الإبل، ثم من الغد نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعًا من الإبل؛ لأنهم يومًا ينحرون عشرًا ويومًا تسعًا، ثم نحر لهم بقديد سهيل بن عمرو عشرًا من الإبل، ثم من قُديد ذهبوا إلى المياه إلى جهة ساحل البحر فأقاموا هناك يومًا، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعًا من الإبل، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشرًا من الإبل، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان عشرًا من الإبل، ثم نحر لهم العباس عشرًا من الإبل، ونحر لهم أبو البختري بن هشام على ماء بدر عشرًا من الأبل، وأرسل لهم إيماء بن رحفة الغفاري عشرًا من الإبل. وغير ذلك كانوا يأكلون من أزوادهم، فلما نجى أبو سفيان أرسل إلى قريش: أن ارجعوا فإنكم كنتم تريدون أن تمنعوا أموالكم وعيركم وقد نجاها الله فارجعوا فلا حاجة لكم بقتال محمد وأصحابه. فقال اللعين أبو جهل: والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، وتعزف علينا القيان، ونشرب الخمور، وتسمع العرب بنا فتهابنا. وكانت بدر موسمًا من مواسم العرب في الزمن القديم، وكان الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، فلما سلمت العير ونجت وكان فيها رجل واحد من بني زهرة، بعضهم يقول: هو مخرمة بن نوفل، فقال الأخنس بن شريق: والله لترجعن يا بني زهرة، وهذا ابن بنتكم إن غلب الناس كُلاً فَعِزُّهُ وشرفه لكم، وإن غلبته العرب كفتكم إياه. فرجع ببني زهرة ولم يشهدها زهري أبدًا، ولم يخرج من مكة فيها عدوي أبدًا، فبنو عديّ وبنو زهرة ¬

(¬1) ابن هشام ص707.

لم يشهد بدرًا أحد منهم مع الكفار (¬1). بعد ذلك كان للأخنس بن شريق شرف في بني زهرة، وهو حليف لهم، أصله من بني ثقيف، وابنه أبو الحكم بن الأخنس هو الذي قتل عبد الله بن جحش المُجَدَّع يوم أُحد كما تقدم في تفسير سورة آل عمران، وعندما جاءوا ونزلوا وراء الكثيب وراء العقنقل بالعدوة القصوى من بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم نزل بواد فيه دهس ورمل تسوخ فيه الأقدام من وراء عدوة بدر الدنيا التي تلي المدينة، وكان أولئك نزلوا وراء العقنقل -الكثيب الكبير- فأرسل الله مطرًا تلك الليلة التي وقعة بدر من صبيحتها، وكانت ليلة الجمعة، وهي الليلة السابعة عشرة من رمضان عام اثنين من الهجرة، فكان المطر الذي نزل على رسول الله وأصحابه واقعًا موقعه؛ لأن المحل الذي كانوا فيه كان الوادي فيه دهس؛ يعني: رمل تسوخ فيه الأقدام، وكانوا في عطش، وناموا تلك الليلة؛ لأن الله سلط عليهم النعاس كما هو أحد التفسيرين على ما سيأتي في قوله: {إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: الآية 11] فجاءهم الشيطان ووسوس لهم وسوسة ثقلت على بعض الصحابة ثِقلاً شديدًا، فقال لهم: أنتم تقولون إنكم على الحق -هذه وسوسة إبليس التي أثر عليهم بها- أنتم تقولون إنكم على الحق، وفيكم نبيُّ الله، وأنتم في عطَش، وعليكم الجنابة لا تجدون ماء تغتسلون به، فسيجهدكم العطش حتى إذا علم القوم أن العطش قطع أعناقكم جاءوكم فقتلوا من شاءوا، وأخذوا مَنْ شاءوا، فأرسل الله المطر حتى سال الوادي فاغتسلوا من الجنابة، وتطهروا وشربوا وسقوا دوابهم، وثَبَّتَ لهم المطر الأرض الدهسة، حتى صار المشي عليها ¬

(¬1) المصدر السابق ص657.

ليس فيه كلفة عليهم، وكانت العدوة القصوى التي بها الكفار لما جاءها المطر كان بها وحل -أي طين- تسوخ به الأقدام، فلم يقدروا على الرحيل منها في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك لما خرجوا وجاءوهم متصوبين من الكثيب الكبير العقنقل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول الليلة التي من صبيحتها بدر أرسل طائفة من أصحابه فيهم علي، والزبير بن العوام (رضي الله عنهم) فوجدوا واردة لقريش، منهم غلام لمنبه ونبيه ابني الحجاج من بني سهم وغيرهم فأخذوهم فجاءوا بهم والنبي يصلي صلى الله عليه وسلم والصحابة (رضي الله عنهم) كانوا يحبون أن تكون الراوية الواردة لأبي سفيان؛ لأنهم يحبون العير ويكرهون النفير، كما قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7] فإذا قالوا لهم: أين أبو سفيان؟ قالوا: لا علم لنا بأبي سفيان، ولكنا مع قريش: فلان بن فلان .. ، ويعدّون لهم سادات قريش: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، وغير ذلك من صناديد قريش، فإذا قالوا لهم هذا ضربوهم، فإذا ضربوهم تخلصوا منهم وقالوا: نحن واردة أبي سفيان. فإذا قالوا ذلك تركوهم! حتى انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وقال: «إذَا صَدَقُوكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمْ، وإذا كَذَبُوكُمْ تَرَكْتُمُوهُمْ؟! واللهِ إنَّهُمْ لَوَارِدَةُ الجَيْشِ»، وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: «كم عددهُم»؟! فقالوا: كثير ولا ندري عددهم. فقال: «كم يَنْحَرُون؟» قالوا: يومًا عشرًا من الإبل، ويومًا تسعًا، قال: «القَوْمُ ما بين التِّسْعِمِائَةِ والأَلْفِ» وهو كما قال صلى الله عليه وسلم. قال: «مَنْ فِيهم؟» فعدّوا صناديد قريش وأشرافها فذكروا أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وحكيم بن

حزام، وزمعة بن الأسود، وأبا البختري، وعمرو بن عبد وُدٍّ، وذكروا جميع سادة قريش وقادتها، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: «هَذِهِ مَكَّةُ رَمَتْكُمْ بِأَفْلاَذِ كَبِدِهَا» (¬1). وقد أرسل القوم عمير بن وهب الجمحي (رضي الله عنه) وهو في ذلك الوقت كافر مع الكفار، وقالوا له: اذهب فاحزر لنا القوم، فجاءهم عمير وقال لهم: حزرت القوم فوجدتهم ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ولكن أنظروني أنظر هل للقوم كمين؟ فركب فرسه وجال في الوادي حتى أبعد ورجع إلى قومه فقال: والله ما لهم كمين، وقال لهم: والله لا يُقتل رجل منهم حتى يَقْتُل رجلاً منكم، والله لقد رأيت نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، رأيت البلايا تحمل المنايا، فالرأي عندي أن ترجعوا عن هؤلاء. فسمع كلامه حكيم بن حزام بن خويلد (رضي الله عنه) فجاء إلى عتبة وقال له: قريش لا تطلب عند محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا ثأر عمرو بن الحضرمي -الذي قُتل في سرية نخلة- وهو حليفك، فتول أمره وارجع بقريش، فقال عتبة بن ربيعة: هو حليفي، وعليَّ جبنها وعَقْلُ حليفي عليَّ، وارجعوا من هنا، ولا حاجة لكم بقتال محمد وأصحابه، فاتفق رأي حكيم، وعمير بن وهب، وعتبة بن ربيعة على رجوع القوم. فقال عتبة بن ربيعة لحكيم: الصواب أنه نرجع ولكن انظر إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- فلما جاءه من عند عتبة وقال له: إن عتبة يقول لك إنه حمل عقل صاحبه، وحمل جبنها، فارجع بالناس فقال أبو جهل: انتفخ سَحَرُ عتبة من الجبن -والسَّحَر: الرئة، هم يقولون: إن الإنسان إذا اشتد خوفه انتفخت رئته في صدره فملأت ¬

(¬1) المصدر السابق ص654 - 655.

صدره، كذا قال- فغضب عند ذلك عتبة وقال: سيعلم مصفر استك غدًا من الجبان! وأمر أبو جهل -قبحه الله- عامر بن الحضرمي أخا عمرو بن الحضرمي أن ينشد ثأره، فقام عامر بن الحضرمي وقال: واثأراه، واعَمْرَاه، فاحتدم الناس للقتال، وأفسد أبو جهل كل ما أراد عتبة وحكيم وعمير أن يصلحوه (¬1)، فلما وقع ذلك قال بعض المؤرخين (¬2): أول قتيل قُتل من الكفار قبل المبارزة: الأسود بن عبد الأسد، جاء وأراد أن يقتحم الحوض الذي بناه صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سبقوا إلى بدر، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أول قليب فجاءه الحُباب بن المنذر بن الجموح (رضي الله عنه) وقال له: يا نبي الله إن كان هذا وحيًا من الله فلا ينبغي لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، وإن كان الرأي والحرب والمكيدة فلنا منه حول. فقال: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ والحَرْبُ والمَكِيدَةُ». قال: الأصلح في ذلك أن نذهب إلى أقرب قليب من القوم ونُغَوِّر جميع القُلُب، ونترك ذلك القليب ونبني عليه حوضًا، ونلقي فيه الأواني، فإن غلبنا القوم: شربنا ومنعناهم من الماء، وإن غلبونا قدرنا على أن نشرب (¬3). فذلك الحوض لم يشرب منه أحد إلا مات، إلا حكيم بن حزام جاء الأسود هذا ليشرب منه فقتله حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) ثم إنه لما احتدم القتال جاء صلى الله عليه وسلم وصف أصحابه للقتال، وبُني له ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي (3/ 64)، وانظر المصدر السابق ص661 - 663. (¬2) انظر: السيرة لابن هشام ص663 .. (¬3) رواه الحاكم (3/ 126، 127)، وأورده ابن هشام في السيرة. وكذا الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 267). وضعفه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص240.

عريش (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان في العريش هو وأبو بكر، وسعد بن معاذ متوشحًا سيفه في قوم من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصفوف ورجع للعريش يهتف بربه ويناديه: «رَبِّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي، رَبِّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي»، فلما نظر إلى قريش مُتَصَوِّبَة من كثيب بدر من العقنقل الكبير فإذا هم ألف مقاتل، وإلى أصحابه فإذا هم نيف وثلاثمائة رجل هتف [صلى الله عليه وسلم] (¬1) بربه، وألح في مسألة رَبِّهِ والاستغاثة به كما يأتي في تفسير قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: آية 9] فصف صلى الله عليه وسلم الصفوف فلما جاء القوم برز عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وولده الوليد بن عتبة بن ربيعة -وربيعة: ابن عبد شمس بن عبد مناف- برزوا للقتال، فبرز لهم نفر من الأنصار، وقالوا إنهم: معاذ ومعوذ ابنا الحارث، وهما المعروفان بـ (ابني عفراء)، أمهما (عفراء) اشتهرا بها؛ لأن أولاد الحارث الثلاثة -وهم: عوف، ومعوذ، ومعاذ- اشتهروا بالنسبة إلى أمهم عفراء (رضي الله عن الجميع) قال بعض المؤرخين: قال العبشميون للأنصار: لا حاجة لنا بقتالكم إنما نريد بَنِي عَمِّنَا مِنْ قريش. وقال بعض المؤرخين: قالوا: أكفاء كرام، ولكنا نريد بني عمنا. فطلبوا مبارزين من بني عمهم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف -وهو أسن أهل بدر جميعًا، وقد شهد بدرًا أخواه، وهما: الحصين والطفيل، شهدها من بني الحارث بن المطلب ثلاثة: عبيدة بن الحارث أحد المبارزين، وأخواه: الطفيل والحصين- قال: قم يا عبيدة بن ¬

(¬1) في الأصل: (جل وعلا). وهو سبق لسان.

الحارث، ويا حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب. فجاءوهم فقالوا: مَنْ أَنْتُم؟ لأنهم لا يعرفونهم؛ لأن القوم مقنعون في الحديد، فانتسب كل واحد منهم. فقال عبيدة: أنا عبيدة بن الحارث بن المطلب. وقال حمزة: أنا حمزة ابن عبد المطلب. فلما انتسبوا لهم قالوا: أكفاء كرام. فكانت المبارزة بين عبيدة وعتبة، وبين حمزة وشيبة، وبين الوليد وعلي، أما علي (رضي الله عنه) فلم يلبث أن قتل الوليد، وأما حمزة (رضي الله عنه) فلم يلبث أن قتل شيبة، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا ضربتين فأثبت كل واحد منهما صاحبه، وكان عتبة قطع قدم عبيدة بنصف ساقه، فَذَفَّفَ عليه عليّ وحمزة فقتلا عتبة، وحملا صاحبهما عبيدة حتى وضعاه عند النبي صلى الله عليه وسلم ورجله تشخب دَمًا، سقطت قدمه بنصف ساقه، وعند ذلك قال: يا رسول الله لو كان أبو طالب حيًّا لعلم أنا أحق منه بقوله (¬1): وَنَمْنَعُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا والحَلاَئِلِ وحملوه ومات بالصفراء، وهم قافلون من بدر. فلما وقع هذا الْتَحَمَ القِتَالُ، واخْتَلط الحابل بالنابل، واشتدت مناجاته صلى الله عليه وسلم واستغاثته بربه، فأنزل الله الملائكة مددًا، فقال هنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ} [الأنفال: آية 9] وقد قدمنا في سورة آل عمران أن مددهم إلى خمسة آلاف كما تقدم في قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ ¬

(¬1) البيت في البداية والنهاية (3/ 274).

رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: الآيتان 124 - 125] وبعض العلماء يقول: هذه الخمسة الآلاف التي ذُكرت في آل عمران دلت عليها آية الأنفال هذه؛ [2/أ] لأنه في قراءة الجمهور ( ... ) (¬1) / نافع من السبعة: {بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9] بصيغة المفعول (¬2). واختلف العلماء: هل باشرت الملائكة القتال أو لم تباشره؟ فكثير من المؤرخين -وقد جاء في بعض الآثار وبعض الأحاديث- أن الملائكة باشرت القتال يوم بدر، وأن بعض الصحابة يتبع رجلاً حتى يسقط أمامه لا يدري مَنْ قَتَلَهُ؟ قال بعضهم: كنت أتبع رجلاً من الكفار فسمعت صوت سوط ضربه، فإذا وجهه منشق، وجميع وجهه قد اخضرّ ومات (¬3)، وبعضهم قال: أردت أن أمدّ سيفي إلى رجل فسقط رأسه قبل أن يصل إليه سيفي (¬4). لأن الملائكة تقتلهم، وأظهر القولين: أن الملائكة في ذلك اليوم قاتلت، خلافًا لمن قال: إنها للتثبيت والعدد والمدد، وأنها لم تباشر القتال. والذين قالوا: لم ¬

(¬1) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل. (¬2) ستأتي القراءات عند تفسير الآية. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث رقم: (1763) (3/ 1383). (¬4) أورد السيوطي نحوه في الدر (3/ 173) عن أبي داود المازني رضي الله عنه، وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه. وقد أخرجه ابن جرير (7/ 175 - 176)، وذكره ابن هشام في السيرة ص672. وأخرج البيهقي في الدلائل (3/ 56) بهذا المعنى عن سهل بن حنيف (رضي الله عنه). وعند البيهقي في الدلائل (3/ 56)، وابن إسحاق عن أبي واقد الليثي، كما نقل ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 281).

تباشر القتال قالوا: لأن مَلَكًا واحدًا لو شاء أن يفني ما على وجه الأرض لما أتعبه ذلك، فإن جبريل لما صاح بثمود أهلكهم مرة واحدة، ولما رفع قرى قوم لوط أهلكهم مرة واحدة، لو أراد أن يمسحهم بريشة من جناحة لما ترك لهم أثرًا. وقال بعض العلماء: لا مانع من قتال الملائكة، ولم يُنسب الأمر إلى الملائكة ليجعلهم عددًا ومددًا، فيكون الفتح والظفر والنصر كأنه على أيدي الصحابة؛ إذ لو كان المَلَك أهلكهم لما كان للصحابة في هذه الوقعة العظيمة مزية، فلما اختلطوا يعني صاروا يقتلونهم فأنزل الله المدد من السماء، وثبَّت قلوب المؤمنين، وألقى الرعب في قلوب الكافرين، كما سيأتي في قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: الآية 12]. وقد نهى صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عن قتل بعض الناس (¬1)، نهى عن قتل العباس بن عبد المطلب عمه (رضي الله عنه). وقد بدرت من أبي حذيفة بن عتبة (رضي الله عنه) تلك البادرة التي ندم عليها، وصار في خوف دائمًا، حتى استشهد فيمن استشهد من الصحابة في اليمامة أيام قتال مسيلمة؛ لأن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة (رضي الله عنه) - أعني أبا حذيفة - لما نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل العباس قال: أنقتل أبناءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله إن لقيته لألجمنه السيف (¬2). ولما قالها ندم وجزع منها وصار خائفًا منها دائمًا حتى ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ص668، البداية والنهاية (3/ 284). (¬2) البيهقي في الدلائل (3/ 140)، السيرة لابن هاشم ص668، البداية والنهاية (3/ 284).

استشهد، وكذلك لما جُرّ قتلى قريش إلى القليب، وكان أبوه عتبة يُجرّ إلى القليب، رُؤيت الكراهة في وجهه فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الكراهية التي ظهرت في وجهي ليست انتصارًا لكافر، ولكن عتبة هذا كنت أعهد فيه عقلاً وحزمًا وحلمًا، كنت أظن أن عقله وحِجَاه يمنعه من ميتة السوء هذه، وأنه يؤمن بالله!! فاعتذر بهذا (¬1). وممن نهى عنه صلى الله علي وسلم ذلك اليوم: أبو البختري بن هشام الذي كان من أحسن الناس معاملة لرسول الله وبني هاشم، لم يؤذهم قط، وأيام حصار قريش لهم في الشِّعب كان معهم، وهو من النفر الذين سعوا في نقض الصحيفة التي كتبوا فيها مقاطعتهم، فلم يؤذهم قط، فلم يجدوا منه إلا الإحسان، فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتله، فالتقى به الْمجذَّر بن زياد البلوي (رضي الله عنه) حليف الأنصار، فقال له: يا أبا البختري: إن نبينا صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتلك فلا نتعرض لك. وكان مع أبي البختري زميل يُسمى جنادة بن مليحة، فقال له أبو البختري: والزميل؟ قال: لم ينهنا صلى الله عليه وسلم عن قتل الزميل. قال: أما أنا فلا يُقتل زميلي حتى أُقتل دونه، وذكر رجزه المشهور: لا يُسْلِمُ ابنُ حُرةٍ زَميلَه ... حَتى يَمُوتَ أو يَرَى سَبيلَه ... ولا يفارق جزعًا أكِيلَهُ (¬2) ولذا صار يقاتل المُجَذَّرَ دون ذلك الزميل فقتله المُجَذَّر (رضي الله عنه) وكان المُجَذَّر بن زياد البلوي (رضي الله عنه) يرتجز ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 680، البداية والنهاية (3/ 294). (¬2) السيرة لابن هشام ص669.

في ذلك رواجز، ومن جملة ما يقول فيها (¬1): أَنَا الذي أزعمُ أَصْلي من بَلِي ... أَضْرِبُ بالحَرْبَةِ حَتَّى تَنْثَني ويروى عنه: «بالصَّعْدَةِ حتى تنثني» فجاء واعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قَتْلِهِ بأنه ما تعرض له حتى قاتله دون زميله (¬2). فمنح الله المسلمين أكتاف الكافرين، فقتلوا سبعين من خيارهم، وأسروا سبعين، وكان ممن قُتل في ذلك اليوم: أبو جهل بن هشام -لعنه الله- وقد صح عن عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) أنه لما صف النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف كان بجنب عبد الرحمن -وكان رجلاً له قامة- كان بجنبه رجلان صغيران في القدر، وهما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن الحارث المشهور: بمعاذ بن عفراء، فكأن عبد الرحمن بن عوف استنقصهما وظن أن اللَّذَيْن بجانبيه ليسا رجالاً يمنعانه؛ لأن الرجل إذا كان في صف القتال بجنبه الرجال كانوا يمنعونه ويشدون أزره، فهو استنقص هذين واستحقرهما لصغر قدرهما، فإذا أحدهما يكلمه خفية من صاحبه ويقول: يا عم أرني أبا جهل. قال: ما حاجتك به؟! قال: سمعت عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. ولم يلبث إذ الآخر يُسائله سرًّا من صاحبه ويقول له مثل ما قال صاحبه. قال: فعلمت أن اللذَيْن بجنبي أنهما رجال، ورأيت أبا جهل يدور في قريش كالحَرَجَة -والحرجة: الشجرة الكبيرة في الغابة يحتف بها الشجر من جميع جوانبها- ¬

(¬1) السابق، ولفظ البيت هناك: أنا الذي يُقال أصْلِي مِنْ بَلِي ... أطْعَنُ بالصّعْدَةِ حتَّى تَنْثَنِي (¬2) السابق ص669.

وقريش يحتفون به ويقولون: أبو الحكم لا يُخلص إليه، وهو -قبحه الله - يرتجز ويقول (¬1): ما تَنْقِمُ الحربُ العَوَانُ مني ... بَازِلُ عَامينِ حديثٌ سِنِّي ... لمثلِ هذا ولَدَتْني أُمّي فقلت لهما: هذا صاحبكما. فابتدراه بِسَيْفَيْهِمَا فأطارا رِجْلَهُ بنصف ساقه، كأنها نواة طائرة من تحت مرضخة من شدة الضربة، فسقط صريعًا وبقي -قبحه الله- في المعركة حتى انهزم عنه قومه، فجاءه عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) ووجده في آخر رَمَقٍ فاحْتَزَّ رَأْسَهُ. قالوا: لما أخذ لحْيَتَهُ وأراد أن يقطع رأسه قال له: ارتقيت صعبًا يا رويعي الغنم!! وقال له: أخبرني لمن الدائرة؟ قال: لله ولرسوله (¬2). فجيء صلى الله عليه وسلم برأس أبي جهل وهو في العريش (صلوات الله وسلامه عليه) (¬3)، وهزم الله الكفار، وقُتل من أشرافهم سبعون، وقتلاهم مشهورون (¬4)، ممن قُتل منهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وزمعة بن الحارث بن الأسود، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، ¬

(¬1) هذا الرجز ذكره ابن هشام في السيرة ص673. (¬2) السابق ص 673 - 675. وأما خبر قتل أبي جهل فهو ثابت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف وأنس بن مالك، وعند البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) خبر قطع ابن مسعود رأس أبي جهل أخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 86، 88)، والبزار (كشف الأستار) (2/ 317) وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 79) وعزاه للطبراني والبزار، وقال: «وفيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف» اهـ. وذكره ابن كثير في تاريخه (3/ 288) وعزاه لابن إسحاق. كما ذكره الحافظ في الفتح (7/ 295) وعزاه لابن إسحاق والحاكم. (¬4) السيرة لابن هشام ص 747.

وممن قُتل في ذلك اليوم: النفر الذين قالوا: إنا كنا مستضعفين في الأرض، وهم علي بن أمية، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ابن عمه، والعاص (¬1). هؤلاء النفر كانوا أسلموا وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وادعوا أنهم عجزوا عن الهجرة، وخرجوا يوم بدر مع قريش فقُتلوا جميعهم -والعياذ بالله- وأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} (¬2) [النساء: الآية 97]- والعياذ بالله - فقُتل هذا من أشراف قريش، وأُسر من أشرافهم سبعون. وممن أُسر منهم: العباس بن عبد المطلب، وابنا أخيه وهما: عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه) ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، وممن أُسر: سهيل بن عمرو (رضي الله عنه) كان أسره مالك بن الدخشم، وكان يقول (¬3): أسرتُ سُهيلاً فلا أبتغي ... أسيرًا به من جميع الأُمم وخِنْدفُ تعلمُ أن الفتى ... سهيلاً فتاها إذ يُظَّلَمْ فمنح الله المسلمين أكتاف الكفار يقتلون ويأسرون، وكسر الله شوكة الكفر، وأعلى كلمته، وأيَّد دينه. ¬

(¬1) هو العاص بن منبه بن الحجاج. (¬2) السيرة لابن هشام ص 681، البداية والنهاية (3/ 296). وأصل الحديث في الصحيح من غير تسميتهم، كتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ}. حديث رقم: (4596) (8/ 262). (¬3) السيرة لابن هشام ص690.

ولما جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأسارى مكث في عرصة بدر ثلاثة أيام، ثم في اليوم الثالث أمر بناقته فرُحِّلت، فتبعه أصحابه وقالوا: ما ذهب إلا لشأن!! فأمر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، ثم ناداهم بأسمائهم: «يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، إِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟!» ولما قال له عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): ماذا تخاطب من أجساد لا أرواح لها؟ قال له: «مَا أنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ لِمَا أَقُولُ، وَلَكِنْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُجِيبُوا» (¬1). أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ولما اجتمعت عنده الأُسارى، وهزم الله الكافرين، وقتل سبعين من خيارهم، وأُسر من أشرافهم سبعون، استشار أصحابه فيما يفعل بالأُسارى؟ مع أن سعد بن معاذ (رضي الله عنه) كان متوشحًا بسيفه على عريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي في وجهه الكراهة، فقال: «ما بالُك؟» قال: رأيت شيئًا أكرهه، رأيت الناس يأسرون الرجال، وهذا أول مشهد في الإسلام، وكان الإثخان في القتل أحب إليَّ مِنْ أسر الرجال واستبقائهم (¬2). فلما استشارهم اختلفوا له، فكان أبو بكر (رضي الله عنه) يقول: هم بنو عمك فاستبق منهم؛ لعل الله أن يهديهم أو يهدي من أصلابهم، وتستعينوا بفدائهم على أمر الحرب. وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: اقتلهم جميعًا، أعط العباس لعلي فليقتله، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأعراف، وانظر السيرة لابن هشام ص 678. (¬2) السيرة لابن هشام ص667، البداية والنهاية (3/ 284).

وأعط كل رجل لقريبه فليقتله؛ ليعلم الله أن لا هوادة بيننا وبين الكفار. قال بعضهم: وقال عبد الله بن رواحة: إنك في واد كثير الحطب فأضرم عليهم نارًا. قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره المؤرخون قال: «إن أبَا بَكْرٍ قالَ كَمَا قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: الآية 118]، وإنَّ عُمَرَ قَالَ كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: الآية 88] وَإِنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ قالَ كَمَا قَالَ نُوحٌ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ (26) إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح: الآيتان 26، 27]» فاستقر أمره على أنهم يأخذونهم ليستعينوا بفدائهم على الحرب؛ لأنهم كانوا يحتاجون إلى المال (¬1). وقال بعض المؤرخين: إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: خَيِّر أصحابك أن يقتلوهم أو يفدوهم ويستعينوا بالمال على أن يُقتل منهم قدر الأُسارى في العام القادم. وأنهم قالوا: نستعين بالمال الآن وينال الشهادة منا هذا العدد في العام القادم (¬2). فكر بعضهم هذا، وأنه قُتل ¬

(¬1) أحمد (1/ 383) وابن أبي شيبة (5/ 417)، وعبد الرزاق (5/ 208)، والترمذي في الجهاد، باب ما جاء في المشورة، حديث رقم: (1714) (4/ 213)، وأخرجه في موضع آخر، انظر الحديث رقم: (3084)، والحاكم (3/ 21)، وابن أبي حاتم (5/ 1731)، والبيهقي في الدلائل (3/ 139) .. وذكره السيوطي في الدر (3/ 201) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه. (¬2) أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في قتل الأُسارى والفداء. حديث رقم: (1567) (4/ 135)، والنسائي في الكبرى، كتاب السير، باب قتل الأسرى. حديث رقم: (8662) (5/ 200)، والبيهقي في السنن (9/ 68)، وفي الدلائل (3/ 139)، والحاكم (2/ 140) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي. وابن حبان (الإحسان 7/ 143) عن علي (رضي الله عنه). وقال ابن كثير (3/ 298) «غريب جدًّا» اهـ. وأخرجه عبد الرزاق (5/ 210)، وابن سعد (2/ 14) عن عبيدة مرسلاً.

منهم سبعون يوم أحد لما أسروا السبعين هذه. هكذا قاله بعض المؤرخين، والذي جاء به القرآن أن الذين رأوا أن يقتلهم ويضعفوا شوكة الكفر بقتلهم أن رأيهم كان هو الصواب، وأن الله تعالى تجاوز لأهل بدر ولو ارتكبوا غير ذلك، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: الآية 67] ومعنى: {يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أي: يوجع فيها قتلاً ليضعف شوكة الكفر بقتل الرجال وقتل الصناديد والرؤوس، ثم قال: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: الآية 68] ثم بعد ذلك قال: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال: الآية 69]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ: عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفلَ بْنَ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ». فقال: لا مال عندي. قال له صلى الله عليه وسلم: «عِنْدَما أَرَدْت الخُروج أَخَذْتَ المَالَ الفُلاَنِيَّ ودَفَنْتَهُ فِي محلِّ كَذا وقُلْتَ لأُمِّ الفَضْلِ: إِنْ لَمْ أَرْجِعْ فَاسْتَعِينُوا بِهَذا». فقال: والله لا يعلم هذا غيري وغير أم الفضل، وأشهد أنك رسول الله. وفدى نفسه وابني أخويه وحليفًا له (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (3/ 81) وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» اهـ ووافقه الذهبي. والبيهقي في الدلائل (3/ 143)، وفي السنن (6/ 322)، وأبو نعيم في الدلائل (2/ 271)، والواحدي في أسباب النزول ص 241. وذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 299) وعزاه لابن إسحاق. وذكره السيوطي في الدر (3/ 204).

وأنزل الله فيه -مع أنها في الأُسارى كلهم، إلا أن المفسرين يجعلونها في العباس؛ لأنه من أشهر من نزلت فيه-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 70] (¬1) فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم مال البحرين وجاء العباس وقال: يا نبي الله فاديت نفسي وعقيلاً. فقال له: «خُذْ مِنْ هَذَا الذَّهَبِ». فهال منه العباس في ثوبه حتى أراد أن يقوم فَنَاءَ به ولم يقدر أن يقوم، فطلب أحدًا يساعده، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُسَاعِدُكَ أَحَدٌ، وَلاَ تَحْمِلْ مِنْهُ إِلاَّ قَدْرَ مَا تَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ». فهال منه عن ثوبه حتى قدر على حمله (¬2) ثم قال: «أما أحد الأمرين فقد عايناه، وهو: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} فقد آتانا خيرًا مما أُخذ منا، وأما الثانية وهي قوله: {يَغْفِرْ لَكُم} فإنا نرجوها من الله جل وعلا» (¬3). وفي ذلك اليوم استُشهد وقُتل من أصحاب رسول الله شهيدًا يوم بدر أربعة عشر رجلاً (¬4)، ستة من المهاجرين، والبقية من الأنصار، ستة منها من الخزرج، واثنان من الأوس. فشهداء بدر: ¬

(¬1) جاء ذلك صريحًا في سياق الرواية المخرجة في الهامش السابق. وقد أورد ابن جرير (14/ 72 - 75) جملة من الروايات في هذا المعنى، وكذا ابن كثير (2/ 327)، والسيوطي في الدر (3/ 204 - 205). (¬2) خبر مجيء المال من البحرين وأخذ العباس منه أخرجه البخاري في الصلاة، باب القسمة وتعليق القنو في المسجد. حديث رقم: (421) (1/ 516) .. وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الأحاديث رقم: (3049، 3165). (¬3) مضى تخريجه قريبًا. (¬4) السيرة لابن هشام ص 746.

ستة منهم من المهاجرين، وستة منهم من الخزرج، واثنان منهم من الأوس؛ لأن الأوس في ذلك اليوم أقل من الخزرج؛ لأن ديار الخزرج في داخل المدينة قرب رسول الله، وديار الأوس في العوالي وقباء، كديار بني عمرو بن عوف، فالذين في داخل المدينة أكثرهم من الخزرج؛ ولذا كانوا هم الحاضرين فتمكنوا من الخروج، والنبي لم ينتظر الغائبين (¬1). والستة الذين استُشهدوا من المهاجرين هم: عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي ذكرنا أن قدمه بنصف ساقه قطعها عتبة بن ربيعة في المبارزة، ومنهم: عمير بن أبي وقاص (رضي الله عنه) أخو سعد بن أبي وقاص، قتله عمرو بن عبد ود، وقد كان أخوه سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) قتل ذلك اليوم العاص بن هشام، ومن الذين استُشهدوا - أول من قُتل من المسلمين في ذلك اليوم - مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب (¬2)، ومِهْجَع هذا أصله رجل من بني عك، أصابه سباء فأعتقه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فكان مولاه، ويقال له مهجع عمر، وهو أول قتيل من المسلمين استشهد يوم بدر، ومات بعده من المسلمين رجل من الخزرج يُسَمَّى حارثة بن سراقة (رضي الله عنه) (¬3)، وهو الذي سألت أمّه النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) قال ابن هشام في السيرة (ص732): «فجميع من شهد بدرًا من الأوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ضرب له بسهمه وأجره: واحد وستون رجلاً» اهـ. ونقل عن ابن إسحاق (ص745): «فجميع من شهد بدرًا من الخزرج مائة وسبعون رجلاً» اهـ. (¬2) السابق ص666. (¬3) انظر: البداية والنهاية (3/ 274).

عنه فقال لها: «إِنَّهُ أَصَابَ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ» (¬1). والحاصل أن الستة الذين ماتوا شهداء من المهاجرين يوم بدر هم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، وعاقل بن البُكَير، وصفوان بن وهب المعروف بصفوان بن بيضاء، وذو الشمالين، واسمه: عمير بن عَبْد (¬2). هؤلاء الستة هم الذين استشهدوا من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، ومهجع مولى عمر، وذو الشمالين، وصفوان بن وهب، وعاقل بن البُكَير. هؤلاء ستة من المهاجرين (¬3). والاثنان اللذان ماتا في سبيل الله يوم بدر من الأوس هم (¬4) مبشر بن عبد المنذر -أخو أبي لبابة بن عبد المنذر- وسعد بن خيثمة (رضي الله عنه)، فإن سعدًا هذا قُتل شهيدًا يوم بدر، وأبوه خيثمة قُتل شهيدًا يوم أحد. والستة الذين استشهدوا من الخزرج -ماتوا شهداء- منهم (¬5): يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر الخزرجي ¬

(¬1) البخاري في الجهاد، باب من أتاه سهم غرب، حديث رقم: (3982) (6/ 25)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (3982، 6550، 6567). (¬2) المثبت في ابن هشام ص746، والتمهيد (1/ 363 - 364)، والاستذكار (2/ 233)، ونظم الفرائد للعلائي ص61 - 70، والبداية والنهاية (3/ 327): ذو الشمالين بن عبد عمرو. (¬3) السيرة لابن هشام ص746. (¬4) السابق ص747. (¬5) السابق.

(رضي الله عنه)، وعوف ومُعَوِّذ ابنا عفراء، أولاد الحارث بن عفراء، وهما أخوان ماتا ذلك اليوم، ورافع بن المعلى، وعمير بن الحمام (رضي الله عنه)، عمير بن الحمام بن الجموح، كان يأكل تمرات فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها المسلمون قُومُوا إلى جنَّة عَرْضُهَا السماواتُ والأرْضُ، واللهِ لَنْ يَقْتُلَ هؤلاء رجلاً مِنْكُمْ مُقْبلاً غيرَ مُدْبِرٍ إلا أدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ». فقال له عمير بن الحمام (رضي الله عنه): أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال: «نعَم»، فلفظ التمرات من فِيه وقال: إني إن أكلت هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ثم أخذ سيفه (رضي الله عنه) فقاتل القوم حتى قتلوه (¬1). هذه أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وستة من الخزرج، واثنان من الأوس قُتلوا شهداء يوم بدر (رضي الله عنهم وأرضاهم). وكانت في بدر أشعار كثيرة ومداولات بين المشركين وغيرهم، تكلم فيها كثير من شعراء المسلمين والكفار، فيها من شعر حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، وحسان بن ثابت، وغيرهما، وفيها من شعر الكفار: شعر ضرار بن الخطاب الفهري وغيره من شعراء قريش، وذلك باب إذا ذكرناه يطول بنا المقام، فنذكر منه قليلاً: فحسان (رضي الله عنه) شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر ما كان من ¬

(¬1) مسلم في الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، حديث رقم: (1901) (3/ 1509) وفيه التصريح أن ذلك يوم بدر، وأخرج البخاري نحوه في المغازي، باب غزوة أُحد، حديث رقم: (4046) (7/ 354) وليس فيه تسمية صاحب القصة، وفيه التصريح أن ذلك يوم أحد، وقد ذهب الحافظ إلى أنهما قصتان. الفتح (7/ 354).

المداولات في بدر ما كان بين حسان وبين الحارث بن هشام (رضي الله عنه) أخي أبي جهل بن هشام؛ لأن حسان دائمًا يُعيِّر الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقتل إخوانه، وبقاء أخيه طريحًا في الملحمة -أعني أبا جهل قبحه الله- وكان حسان (رضي الله عنه) ذكر تَمَثُّل إبليس لهم في أبيات قال -يعني تمثل إبليس في صورة سراقة بن مالك- قال في ذلك (¬1): سِرْنَا وسَارُوا إلى بدر لِحينِهمُ ... لو يَعْلَمُونَ يَقينَ الأَمْرِ ما سَارُوا دَلاَّهُمُ بغرورٍ ثم أَسْلَمَهُم ... إن الخَبِيثَ لمن والاهُ غَرَّارُ وقال إني لكم جَارٌ فَأَوْرَدَهُم ... شَرَّ المَوَاردِ فيه الخِزْيُ والعَارُ وكان حسان (رضي الله عنه) يذكر في أشعاره بدرًا، له فيها قصائد، وفيها لحمزة بن عبد المطلب وغيرهم من الصحابة، وفيها لجماعة من قريش، منهم ابن الزبعرى، ومنهم ضرار بن الخطاب الفهري وغير ذلك، وكان حسان (رضي الله عنه) قال (¬2): لَقَدْ عَلِمَتْ قُريشٌ يومَ بدرٍ ... غَداةَ الأَسْرِ والقَتْلِ الشَّدِيدِ بأنَّا حينَ تشْتَجِرُ العَوَالي ... حُمَاةُ الحرب يومَ أبي الوليدِ قَتَلنا ابني ربيعةَ يومَ سارُوا ... إلينا في مضاعَفَةِ الحديدِ ومرَّ بها حكيمٌ يومَ جَالَتْ ... بنُو النجارِ تخطرُ كالأُسودِ وَوَلَّتْ عند ذاكَ جموعُ فِهْرٍ ... وأَسْلَمَها الحويرثُ من بعيدِ الحويرث: يعني الحارث بن هشام؛ لأنه ينكد عليه في شعره دائمًا، كقوله هنا: وأَسْلَمَهَا الحويرثُ من بعيد ¬

(¬1) الأبيات في السيرة لابن هشام ص706. (¬2) ديوانه ص87 - 88.

وكتعييره له في ميميته المشهورة التي هي من أشهر ما قيل في بدر (¬1): تَبَلَتْ فُؤادَكَ في المَنَامِ خريدةٌ ... تَسْقِي الضَّجيعَ بِبَارِدِ بَسَّامِ كالمِسْكِ تَخْلِطُهُ بماءِ سَحَابَةٍ ... أو عَاتِقٍ كَدَمِ الذَّبيحِ مُدَامِ نُفُجُ الحَقِيبَةِ بَوْصُهَا مُتَنَصِّدٌ ... بَلْهَاءُ غَيْرُ وشِيكةِ الأَقْسَامِ (¬2) أما النهارُ فلا أُفَتِّرُ ذِكْرَهَا ... والليلُ تُوزِعُني بها أَحْلاَمي (¬3) يا مَن لِعَاذِلَةٍ تلوم سفاهة ... ولقد عصيتُ على الهوى لُوَّامي (¬4) إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتِني ... فَنَجوتِ مَنْجى الحارِثِ بن هشَامِ تَرَكَ الأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُم ... ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ ولِجَامِ وأجابه الحارث بن هشام (رضي الله عنه)، وكان المؤرخون يقولون: أحسن اعتذار اعتذر به معتذر عن جواب: اعتذار المَخْزُومِيَّيْن، أعني: اعتذار الحارث بن هشام يخاطب حسان لما قال له: إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتِني ... فنجوتِ مَنْجَى الحارِثِ بن هشامِ تَرَكَ الأحَبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُم ... ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ ولِجَامِ أجابه الحارث يعتذر عن فراره قال (¬5): ¬

(¬1) ديوانه ص213 - 214. (¬2) بعد هذا البيت بيتان أسقطهما الشيخ رحمه الله. (¬3) بعد هذا البيت بيت أسقطه الشيخ رحمه الله. (¬4) بعد هذا البيت بيتان أسقطهما الشيخ رحمه الله. (¬5) الأبيات في ديوان حسان (رضي الله عنه) ص216 وهي أربعة أبيات أسقط الشيخ (رحمه الله) البيت الثاني منها. وفي السيرة ص773 ثلاثة أبيات.

اللهُ يعلمُ ما تركتُ قتالَهُم ... حتى رموا فَرسي بأَشْقَرَ مُزْبد ... وعَلمتُ أني إنْ أُقَاتِلْ واحدًا ... أُقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوي مَشْهدي ... فَصَدَدْتُ عنهم والأَحِبَّةُ فيهم ... طمعًا لهم بقتال يوم مُرْصِدِ هذا هو المخزومي الأول، والمخزومي الثاني: هبيرة بن أبي وهب، زوج أم هانئ بنت أبي طالب (رضي الله عنها)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة عام ثمان هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى نجران ومات بها كافرًا - والعياذ بالله - وكان يعتذر عن فراره من رسول الله وأصحابه يوم الفتح، ويخاطب زوجه أم هانئ بنت أبي طالب (رضي الله عنها): لَعَمْرُكِ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّدًا ... وَأَصْحَابَهُ جُبْنًا وَلاَ خِيفَةَ القَتْلِ ... وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي غَنَاءً إِنْ ضَرَبْتُ وَلاَ نَبْلِي ... وَقَفْتُ فَلَمَّا خِفْتُ ضَيْعَةَ مَوْقِفِي ... رَجَعْتُ لِعَوْد كالهِزَبْرِ أَبِي الشِّبْلِ (¬1) فهذا اعتذاره كاعتذار الحارث بن هشام. ولما أخذ صلى الله عليه وسلم الغنائم، ومكث في عرصة بدر ثلاثة أيام، ورجع قافلاً إلى المدينة، وأرسل ابن رواحة إلى العوالي يبشرهم، وزيد بن حارثة إلى أهل المدينة يبشرهم بما فتح الله على نبيه (¬2)، لما نزل وادي الصفراء راجعًا قدَّم النضر بن الحارث للقتل (¬3) -النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، وكان من بني عبد الدار، وكان شديد ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأعراف، ولفظ البيت الثالث عند ابن هشام: وقفتُ فلما لم أجد لي مُقدَّمًا ... صدرتُ كضرغَامِ هِزَبرٍ أبي شِبلِ (¬2) السيرة لابن هشام ص682. (¬3) السابق ص684.

العداوة لرسول الله، له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله- قدمه للقتل فقُتِلَ صَبْرًا، ولم يُقتل من الكفار في وقعة بدر صبرًا إلا رجلان: النضر بن الحارث هذا، وعقبة بن أبي معيط، قتل أولاً النضر بن الحارث في قُفوله في وادي الصفراء؛ فلما بلغ موضعًا آخر بعده يقولون: إن اسمه عرق الظبية قدم عقبة بن أبي معيط فقتله أيضًا (¬1)، ولما قَتَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّضْرَ بن الحارث بن كلدة العبدري -قبحه الله- الذي سيأتي خبره في قوله في هذه السورة الكريمة: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} [الانفال: آية 32] يأتي خبره في هذه السورة، وفي سورة الروم، وفي سورة المعارج -سورة (سأل سائل) - لما قتله صلى الله عليه وسلم صبرًا وبلغ مقتله إياه بلغ أخته قتيلة بنت الحارث العَبْدَرِيَّة وقد أسلمت بعد ذلك وصارت صحابية (رضي الله عنها) أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شعرها المشهور، الذي لما قُرئ عليه صلى الله عليه وسلم بكى حتى أَخْضَلَ الدمع لحيته لشدة رحمته وشفقته، وذكروا أنه قال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه (¬2). لأنه رؤوف رحيم (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان شعرها الذي أرسلت إليه به الذي أبكاه صلى الله عليه وسلم وقال: لو بلغه قبل أن يقتله لعفى عنه. هو قولها (¬3): يا راكبًا إن الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ ... من صُبحِ خامسةٍ وأَنْتَ موفَّقُ أبلغْ بها مَيْتًا بأن تحيةً ... ما إن تزالُ بها النجائبُ تَخْفِقُ مني إليكَ وعبرةً مسفُوحةً ... جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وأُخْرى تخنُقُ ¬

(¬1) السابق. (¬2) ذكره ابن هشام في السيرة ص803. (¬3) السابق ص 802 - 803.

هل يسمعنَّ النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ ... أمحمدٌ يا خيرَ ضَيْءِ كريمة ... في قومِهَا والفَحْلُ فحلٌ مُعْرِقُ ... ما كان ضَرَّكَ لو مَنَنْتَ ورُبَّما ... مَنَّ الفَتى وهو المغيظُ المُحْنَقُ (¬1) ... فالنَّضْرُ أقربُ مَنْ أَسَرْتَ قرابةً ... وأحقُّهم إن كانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ ... ظَلَّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُه ... للهِ أرحامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ ... صَبْرًا يُقادُ إلى المنيةِ مُتْعَبًا ... رَسْفُ المُقَيَّدِ وهو عان مُوثَقُ ولما أراد قتل عقبة بن أبي معيط قال: أَأُقتل بين قريش صبرًا؟ من للصبية؟ قال له صلى الله عليه وسلم: «لهُمُ النَّارُ» (¬2). وذكر بعض المؤرخين أنه قال: أَأُقتل بين قريش صبرًا؟ قال: «إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ يَهُودِ صفوريّة» (¬3). كما ذكره بعضهم (¬4). وعقبة هذا كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروه أنه مرّ عليه يومًا ساجدًا فوضع رجله على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى آذاه -قبحه الله- فقتله الله وأراح المسلمين منه. وهذا طرف من هذا المشهد العظيم والغزوة الكبيرة سنُلمّ في بعض أطرافه بعد هذا، وهذه السورة الكريمة كلها نازلة في هذه الغزوة، وسيُكرر بعض هذا ويأتي ما لم يذكر فيه في مناسبة قرآنية من ¬

(¬1) أسقط الشيخ (رحمه الله) بيتًا بعد هذا البيت. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (5/ 205، 206)، وأبو داود في المراسيل ص231، والبيهقي (9/ 64 - 65) والحاكم (2/ 124). وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ ووافقه الذهبي. (¬3) لم أقف على هذه الجملة الأخيرة إلا في «معجم ما استعجم» (3/ 837). (¬4) السيرة لابن هشام ص684. وفي البزار (كشف الأستار) (2/ 320): «بكفرك بالله وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم».

هذه السورة الكريمة. قال الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: الآيات 7 - 11]. يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآيتان 7، 8]. قد ذكرنا فيما سبق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من مدينته هذه -حرسها الله- يتلقى عِير أبي سفيان، وأن أبا سفيان سَاحَل بالعِير، أي: تيامن بها إلى جهة الساحل، وأرسل ابن عمرو الغفاري يستنفر جيش قريش، فاستنفر الجيش، وصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا بذلك يُحتمل عندهم أن يلتقوا بالجيش، وأن يلتقوا بالعِير، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده إحدى الطائفتين: إِما أن يعطيه العِير فيغتنمها، أو يسلطه على النفير فيهزمه. وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} حين يعدكم الله وعده الصادق {إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ} (وَعَدَ) من الأفعال التي تطلب مفعولين، فقوله {إِحْدَى} هو مفعولها الثاني.

وقوله: {أَنَّهَا لَكُمْ} بدل من (إحدى) أي: وعدكم الله إحدى الطائفتين أن الله جعلها لكم، إما أن يكون لكم العِير فتغتنموها، أو يكون لكم النفير فتهزموه وتنتصروا عليه. هذا معنى قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7]. ولما بشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنصر الله، وأنه وعده إحدى الطائفتين، كان أصحاب رسول الله يتمنَّوْنَ أن تكون الطائفة التي هي لهم عير أبي سفيان؛ لأنه مالٌ كَثِيرٌ ليس دونه قتال، وهذا معنى قوله: {وَتَوَدُّونَ} خطاب للنبي وأصحابه {وَتَوَدُّونَ} والذي ودّها في الحقيقة إنما هو بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والودادة معناه: التمني {وَتَوَدُّونَ}: تتمنون وتحبون أن تكون الطائفة التي سيحقق الله لكم إنجاز الوعد بها أن تكون الطائفة التي هي {غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ}، يعني: العِير، أصل الشوكة: واحدة الشوك؛ لأن رأسها فيه حِدَّة، والعرب تطلقها على كل سلاح حديد تسميه (شوكة)، فتقول للرجل الحديدِ السلاح: «فلان شائك السلاح، وشاكي السلاح». على القلب؛ لأن قولهم: «فلان شاكي السلاح». أصله: شائك السلاح. قلبوه وأخَّروا الهمزة فابدلوها ياءً، همزة مبدلة من الواو، وهو معنى معروف في كلامهم، ومنه قوله (¬1): لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلاَحِ مُقَذَّفٍ ... له لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لم تُقَلَّمِ تتمنون أن الطائفة الضعيفة التي لا حِدَّة عندها ولا سلاح -وهي العير- أنها هي التي يتحقق لكم فيها الوعد، وأن لا تجتمعوا بالنَّفِيرِ؛ لأنه جيش له شوكة وسلاح وَحِدَّة. وهذا معنى قوله: ¬

(¬1) البيت لزهير بن أبي سُلمى، وهو في ديوانه ص84.

{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7] كأن الله يقول: الله يريد هنا غير ما تريدون، ويحب لكم غير ما تحبون لأنفسكم؛ لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: الآية 216] ويريد الله (جل وعلا) أن يجعل الطائفة الموعود بها -التي سينجز فيها وعده، ويحقق بها نصر نبيه- يريد أن يجعلها الطائفة ذات الشوكة، وهي: النفير، الجيش في عَدَدِه وَعُددِه؛ لأن الله يريد، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الحق هو في نفسه حق، الحق حق مهما كان، ومعنى {أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أي: يظهره على الدين كله، ويجعله عاليًا غير سافل، ويجعل الكلمة والسلطة والقوة له. هذا معنى إحقاق الحق، أي: إِظهاره وإِعلاؤه، أما الحق فهو حق في نفسه مهما كان، هذا معنى قوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ} أن يحقق لكم الوعد في الطائفة ذات الشوكة؛ لأن الله يريد بذلك {أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أي: يظهر دين الإسلام ويعليه، ويعلي كلمته، ويضعف الكفرة ويهزمهم، ويهزم دينهم. وهذا معنى قوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} معنى إحقاقه الحق بكلماته فيه أوجه متقاربة من التفسير لا يكذب بعضها بعضًا (¬1). قال بعض العلماء: المراد بكلماته التي يريد أن يحق بها حقه هي: كلمته التي أمر نبيه بها صلى الله عليه وسلم أن ينهض وأن يقاتل النفير إذا لم يكن إلا هو، فَأَمْرُهُ (جل وعلا) بقتالهم وإلزامهم ذلك بعد أن نجت العير وصار النفير، أمره بهذا القتال هي كلمته التي أراد أن يحق الحق بها، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 407).

أن يذل دين الكفر، ويقتل صناديده، ويعز دين الإسلام، ويعلي كلمته. وقال بعض العلماء: كلماته التي يريد أن يحق بها حقه هي الكلمات التي وعد فيها بالنصر يوم بدر، والله (جل وعلا) وعد بالنصر يوم بدر في آيات من كتابه على ما قاله جماعة من المفسرين، منها في الدخان، ومنها في السجدة، ومنها في غير ذلك؛ لأن جماعة من أهل العلم قالوا: إن الله في سورة الدخان بشر بقصة بدر مع أن سورة الدخان مكية نازلة قبل الهجرة. قال غير واحد من كبار العلماء: قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} هو بطشه بنفير قريش يوم بدر على أيدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: الآية 16] أي: من سادة الكفرة يوم بدر بما فعلنا بهم (¬1). وقالت هؤلاء الجماعة: هو العذاب الأدنى في السجدة في قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [السجدة: الآية 21] قالوا: هو عذاب النفير يوم بدر كما سلط الله عليهم رسوله وأصحابه فقتلوا منهم وأسروا (¬2). وقال بعض العلماء هو: اللزام؛ لأنه عذاب دنيوي يلازمه عذاب الآخرة في كونه لزامًا (¬3). ولا شك أن سورة القمر من القرآن النازل في مكة قبل وقعة بدر، وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه ما كان يعلم شيئًا عن معنى قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} ويقول: من هذا الجمع ¬

(¬1) انظر: ابن كثير (4/ 140). (¬2) المصدر السابق (3/ 462). (¬3) المصدر السابق (3/ 330).

المهزوم الذين يولون الدبر؟! ولم يفهم معنى الآية إلا يوم بدر لما كشف الله المشركين ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} (¬1) [القمر: الآية 45] وعند ذلك عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن آية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} وإن كانت من سورة القمر وهي من القرآن المكي النازل بمكة قبل الهجرة بلا خلاف أن الله وعد فيها في مكة نصر المؤمنين على الكفار يوم بدر، قالوا: فهذه كلمات الله التي وعد بها نبيه أن ينصره فحق الحق وأنجز وعده، كما قال هنا: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}. وقوله تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} الدابر: الآخِر. وإذا كان جماعة يمشون فالذي يمشي وهو الآخر منهم تسميه العرب: دابرًا؛ لأنه يمشي عند دبر مَنْ قُدَّامه، والعرب تعبر به عن الآخر، ويقولون: «قطع الله دابرهم». معناه: أهلكهم واسْتَأْصَلَهُم ولم يُبْقِ مِنْهُمْ أحَدًا، هذا معنى قطع الدابر وأصله لغة {وَيَقْطَعَ دَابِرَ ¬

(¬1) خبر وثوبه صلى الله عليه وسلم في الدرع وقراءته الآية ثابت في الصحيح، كتاب التفسير، باب: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} حديث رقم: (4875) (8/ 619). وأخرجه في مواضع أخرى، حديث رقم: (2915، 2953، 4877)، وأما أثر عمر فقد أخرجه ابن جرير (27/ 108) عن عكرمة، كما أخرجه ابن أبي شيبة (14/ 357)، وابن أبي حاتم (10/ 3321) عن عكرمة مرسلاً. وعزاه في الدر (6/ 137) لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. كما أخرجه الطبراني في الأوسط (9/ 58) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، وأورده السيوطي في الدر (6/ 136) وعزاه لابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه. كما أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 145) من حديث أنس رضي الله عنه.

الْكَافِرِينَ} أي: يهلكهم ويستأصلهم إما بالموت، وإما بانقضاء دينهم وقهره حتى لا يبقى كافر، وكانت وقعة بدر هي أول عز الإسلام وظهوره، وهي أول وقعة ذل فيها الكفر وأهله؛ ولذا قال: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآية 8] واختلف العلماء في متعلق اللام في قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} اختلفوا في متعلقها (¬1)، قال بعض العلماء: تتعلق بما قبلها؛ ولذا قال تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} قطع دابر الكافرين لأجل أن يحق الحق، بأن يظهر الحق بإضعاف الكافرين وقطع دابرهم، وذهب جماعة من العلماء إلى أن متعلق اللام محذوف، قالوا: ويقدر مؤخرًا ليدل على الحصر، قالوا: وإيضاح تقديره: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} فعل ذلك الذي فعل بالكفار، أي: ما فعل بهم ذلك إِلا لأجل أن يحق الحق ويبطل الباطل. والمراد بالحق هنا: دين الإِسلام. وأصل الحق في لغة العرب: الشيء الثابت الذي لا يزول ولا يضمحل، وكذلك دين الإسلام فهو ثابت، وأعماله ثابتة في الدنيا والآخرة، يجدها صاحبها ثابتة في الآخرة، جزاؤها عظيم، كما صرح الله بضرب المثل لذلك بالنخلة {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: الآية 24] أما الباطل فهو زائل مضمحل لا ثبوت له، كما ضرب له المثل بالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فلا ثبوت لها، بل هي تضمحل وتزول، وكل زائل مضمحل تسميه العرب باطلاً، ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 564).

ويجمعونه على أباطيل على غير قياس، ومنه قوله (¬1): كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مَثَلاً ... وما مَوَاعيدُهَا إلا الأَباطِيلُ هذا كعب بن زهير جمع الباطل على (أباطيل) على غير قياس، ويجوز جمعه على القياس، وجمع الباطل على القياس أن يقال في جمعه: (بواطل) كما هو معروف؛ لأن (الفاعل) إذا كان اسمًا أو وصفًا لغير عاقل اطَّرد جمعه على (فواعل) كما هو معروف في محله. قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: الآية 8] يعني يفعل ذلك والحال لو كره المجرمون ذلك، والمجرمون (¬2): جمع تصحيح للمجرم، والمجرم اسم فاعل الإجرام وهو مرتكب الجريمة، والجريمة: الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال. وهذا معنى قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآية 8]. قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: الآيتان 9، 10]. {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9] قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير نافع وحده: {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال، بصيغة اسم الفاعل. وقرأه نافع من السبعة وحده: ¬

(¬1) شرح قصيدة بانت سعاد للتبريزي ص17. (¬2) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

{مردَفين} بفتح الدال بصغية اسم المفعول (¬1). وقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} قال بعض العلماء (إذ) منصوب بـ (اذكر) مقدرًا، وقد ذكرنا أنه يكثر في القرآن نصب الظرف الذي هو (إذ) بلفظة (اذكر) كقوله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ} [الأحقاف: الآية 21] {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: الآية 86] {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: الآية 26] ونحو ذلك. قال بعض العلماء: (إذ) في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} بدل من (إِذ) في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: الآية 7] و {تَسْتَغِيثُونَ} معناه: تطلبون الإغاثة من ربكم (جل وعلا). تقول العرب: استغاث يستغيث إذا طلب الغوث. وهذه الاستغاثة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وعليه جمهور العلماء. خلافًا لمن قال: كانت من جميع الأفراد الذين شهدوا بدرًا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بُني له العريش يوم بدر وجلس فيه ورأى جيش قريش متصوبين من العقنقل -كثيب بدر- فإذا عددهم كبير، وهم حول ألف مقاتل، فنظر إلى أصحابه فإذا هم قليل -ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً- قام في ذلك الوقت وتوجه إلى القبلة وهتف بربه (جل وعلا) واستغاث بخالقه يسأله ويدعوه، وأَلَحَّ في المسألة أشد إلحاح، ورداؤه على منكبيه يناشد ربه؛ ربي أنجز ما وعدتني، اللهم عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه الطائفة لن تُعبد في الأرض. ويناجي ربه ويهتف به، ويلح عليه في المسألة، ويستغيث به (جل وعلا) حتى سقط رداؤه عن منكبيه (صلوات الله وسلامه عليه)، ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص220. انظر: الدر المصون (5/ 565).

فجاءه أبو بكر من خلفه وجعل رداءه على منكبيه وقال: «يَكْفِيكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّ رَبَّكَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ» (¬1). هذا معنى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 9]. وهذه الآية وأمثالها في القرآن تُؤخذ منها أسرار ينبغي لنا معاشر المسلمين أن نسير عليها، هذا سيد الخلق محمد (صلوات الله وسلامه عليه) لما جاءه أعظم كرب يكون كربًا للأنبياء؛ لأن الكروب إنما تعظم على الأنبياء من جهة ضياع الدين؛ لأن الدنيا لا أهمية لهم فيها، وهذه الطائفة جزم صلى الله عليه وسلم أنها لو هلكت وقُتلت لانكسرت شوكة الإسلام، ولضاع الإسلام، ولم يُعبد الله في أرضه، وانتشر الكفر، وظهرت قوته، وطائفة الإسلام قليلة ضعيفة ليست بذات عددٍ ولا عُدد، وطائفة الكفر كثيرة قوية؛ هذا أعظم كرب دهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دهمته هذه الكروب جعل التجاءه الصادق إلى خالق السماوات والأرض. ومن ذلك يُعلم أن من دهمته الكروب وجاءته البلايا والزلازل أنه في ذلك الوقت إنما يكون الْتِجاؤه كما كان الْتِجَاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالق السماوات والأرض (جل وعلا)، فعلى كل مسلم أن يفهم هذا ويعقله، ويفهم أن العبد إذا دهمته الكروب، وجاءته البلايا والمحن والزلازل، أن التجاءه في ذلك الوقت يجب انصرافه إلى ما صرف إليه النبي صلى الله عليه وسلم التجاءه في ذلك الوقت، وهو الاستغاثة بخالق السماوات والأرض جل وعلا. والله قد بين لنا معاشر المسلمين أن الإنسان إذا اضطر بأن دهمته الكروب، وأحدقت به النوائب والحوادث، أن الالتجاء في ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث رقم: (1763) (3/ 1383).

ذلك الوقت من خصائص خالق السماوات والأرض (جل وعلا)، فلا يجوز صرفه لغيره كائنًا من كان، وأوضح الله لنا هذا إيضاحًا شافيًا في آيات كثيرة من كتابه، من أوضح تلك الآيات: آيات سورة النمل، لأنه إيضاح لا لَبْسَ فيه كهذا النهار؛ لأن الله يقول: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ} [النمل: الآية 59] وفي القراءة الأخرى: {أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). ثم شرع تعالى يُعدد خصائص ربوبيته التي لا حق فيها لغيره ألبتة فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} الجواب: لا {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ثم ذكر خاصية أخرى من خصوص الربوبية فقال: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)} الجواب: لا إله مع الله. ثم قال: وهو محل الشاهد: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل: الآيات 60 - 62] الجواب: لا والله، فهذه توضح ما وضَّحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله أن مَنْ ألجأته الكروب واضطرته النوائب والزلازل أنه لا إله مع الله في ذلك الوقت يرفع إليه ذلك إلا خالق السماوات والأرض؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت الضنك، والموقف الحرج، رفع ذلك الالتجاء إلى خالقه (جل [2/ب] وعلا)، وأثنى الله عليه في ذلك، وأجابه بمدد السماء ملائكة منزلين [وهكذا شأن] (¬2) / الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص234. (¬2) في هذا الموضع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام.

يلتجئون إليه في تلك الظروف الحرجة والأوقات الضنكة. وكان الكفار -لأَن عندهم عقلاً معيشيًّا دنيويًّا- إذا نزلت بهم البلايا ودهمتهم الكروب أخلصوا في ذلك الوقت الدعاء لله، وأعطوا الحق لمن له الحق، حتى إذا أنقذهم الله من ذلك رجعوا إلى كفرهم. والآيات الدالة على هذا لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي: وخافوا من الموت من هيجان تلك الأمواج {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: الآية 32] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} أي: ودهمتهم الأمواج، وعاينوا الهلاك {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: الآية 65] {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: الآيتان 22، 23] {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} [الإسراء: الآية 67 - 69] والآيات بهذا المعنى لا تكاد تحصيها في المصحف، والمعروف في التاريخ أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل (رضي الله عنه) أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) لما فتح مكة -وكان عكرمة شديد العداوة له صلى الله عليه وسلم- هرب من مكة ذاهبًا إلى الحبشة، فركب في البحر الأحمر ذاهبًا إلى الحبشة، فلما لَجَّجُوا في البحر هاجت عليهم عواصف الريح، واضطربت عليهم الأمواج، فخافوا الهلاك وعاينوا الموت، فإذا كل

من في السفينة يتناذرون ويقول بعضهم لبعض: لا تدعوا في هذا الوقت غير الله؛ لئلا تغرقونا؛ لأن هذه الكروب لا ينجي منها إلا الله (جل وعلا) وحده. ففهمها عكرمة وقال: والله إن كان لا ينجي في ظلمات البحر إلا هو فلا ينجي من كربات البر إلا هو. ثم قال: اللهم لك علي عهد إن أنْجَيْتَنِي من هذه لأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفًا رحيمًا (¬1). وأمثال هذا في القرآن لا تحصى، فعلينا معاشر المسلمين أن نضع كل شيء في موضعه، ونمشي في نور القرآن العظيم، ونعلم أن الواحد منا إذا نزلت به البلايا ودهمته الكروب أن الالتجاء في ذلك الوقت من خصائص خالقه (جل وعلا)، فخصوص ذلك لخالقه (جل وعلا) مما يرضي الله، ويرضي رسوله، ويكفل له النجاح. وهذا سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) صرحت هذه الآية من سورة الأنفال أنه لما دهمه هذا الكرب العظيم صدق في ذلك الالتجاء، وصرفه إلى من له الحق في ذلك، وهو خالقه (جل وعلا). ومن حِكَم ذلك أن يعلم أمته الاقتداء به في ذلك، فعلينا معاشر المسلمين محبة لنبينا وتعظيمًا له ورغبة في اتباع ديننا أن نفعل كما كان يفعل نبيّنا صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: الآية 31] {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: الآية 80] ونصرف الحقوق لمستحقها، ولا نصرف حق خالقنا إلى بشر، ولا إلى ملك مقرب، ولا إِلى مخلوق كائنًا من كان؛ لأن إعطاء حقوق الله لله مما يرضي الله ويرضي رسول الله، وهو الذي يتَّبع صاحبه المرسلين (صلوات الله وسلامه عليهم). وهذا معنى قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الفاء سببية والإجابة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (40) من سورة الأنعام.

مسببة عن الاستغاثة بالله. وهذا يدل على أنَّ مَنِ اسْتَغَاثَ بالله كانت استغاثته بالله سببًا للإجابة وإزالة المكروه عنه؛ ولأجل هذا الذي كنا نقرر لما أنزل الله مدد السماء من الملائكة علَّم أصحاب نبيه أن لا يعتمدوا عليهم فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 10] لا تظنوا أن النصر من الملائكة وإن نزلت عليكم الآلاف المؤلفة منهم، الذي بيده النصر وبيده كل شيء ويُفْزَعُ إِلَيْهِ في كل شيء، ويُطلب منه كل شيء، هو خالق الملائكة وخالق الرسل (جل وعلا) صلوات الله وسلامه عليهم. {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم} استجاب لهم بأنه ممدهم. وقوله: {مُمِدُّكُم} أي: جاعلها لكم مددًا يمدكم الله ويعينكم بها. وقد أوضح وجه هذا الإمداد وبينه في هذه الآيات في قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: الآية 12] وهذا معنى قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ} العرب تقول: أَمَدَّنَا الإمام بكذا، معناه: جاءنا بزيادة من الجيش مددًا؛ أي: زائدة على الأول، فقوله: {بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9] قراءة الجمهور: {بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} قال بعض العلماء: كان الإمداد يوم بدر بألف واحدة بدليل آية الأنفال هذه. وقوله: {مُرْدِفِينَ} معناه: متتابعين يتبع بعضهم بعضًا، ذكروا في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خفق في العريش خفقة -أصابته نعسة وغفوة خفيفة- فاستيقظ يتبسم وقال لأبي بكر: أبشر جاء نصر الله. فذكر له أنه رأى جبريل نازلاً وعلى ثناياه

النقع (¬1)، والنقع: الغبار الذي يكون على الثَّنِيَّتَيْن من أسنان الرجل فيكون عليها. قال بعض العلماء: نزل جبريل في خمسمائة من الملائكة على الميمنة وفيهم أبو بكر، ونزل ميكائيل في خمسمائة من الملائكة على الميسرة وفيهم علي (¬2). والأظهر أن المدد يوم بدر كان أكثر من ألف كما قدمناه في سورة آل عمران؛ لأن أصح القولين أن المدد من الملائكة المذكور إلى خمسة في آل عمران أنه في بدر، وأن قول من قال: إنه وُعد به في أُحد والصحابة لم يفوا بالشرط. أن ذلك خلاف الظاهر وخلاف التحقيق؛ لأن الله قال في سورة آل عمران مشيرًا إلى وقعة بدر هذه التي بَسَطَهَا وشرحها في الأنفال مشيرًا إلى النصر بالملائكة والإمداد بهم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: الآيتان 123، 124] والتحقيق: إذ تقول لهم يوم بدر لما أمدكم الله بالملائكة: {أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: الآيتان 124، 125] والقصة هذه المذكورة في آل عمران هي قصة بدر هذه المذكورة في الأنفال والسياق واحد كما ترى؛ لأنه قال في الأنفال: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ ¬

(¬1) هذا الحديث أورده ابن هشام في السيرة ص666، وابن كثير في البداية والنهاية (3/ 276)، وقد أورده السيوطي في الدر (3/ 188) وعزاه لابن إسحاق وابن المنذر. (¬2) أورد ابن كثير في تفسيره (2/ 290) والبداية والنهاية (3/ 275) في هذا المعنى أثرًا عن ابن عباس (رضي الله عنهما) من طريق علي بن أبي طلحة.

بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: الآية 10] وقال في آل عمران: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: الآية 126] وقال هنا: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: الآية 7] وقال في آل عمران: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران: الآية 127] فالسياق هو السياق. ولكن هنا سؤال، وهو أن يُقال: المدد الذي ذكرتم أنهم إلى خمسة آلاف، وأن ذلك في يوم بدر، فكيف يجمع به مع الاقتصار على ألفٍ واحدة هنا في الأنفال في قوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9]. أُجيب عن هذا: بأنه لا تعارض؛ لأن آية الأنفال هذه أشارت إلى أن المدد من الملائكة لا يقتصر على الألف؛ لأن قوله: {مُرْدِفِينَ} على قراءة الجمهور معناه: يتبع بعضهم بعضًا، من أردف الرجل الرجل إذا كان وراءه رِدْفًا له، فدل على أنهم وراءهم شيء أُردفوا به، ويوضح هذا المعنى قراءة نافع: {مُرْدَفين} بصيغة اسم المفعول، معناه: مردَفين بغيرهم، أنهم متبوعون بغيرهم. وقال بعض العلماء: الوعد بخمسة آلاف كان يوم أُحد، ولكن الله شرط عليهم شرطًا وقال: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} [آل عمران: الآية 125] قالوا: ولم يصبروا ولم يتقوا ذلك اليوم؛ لأنهم زلت بهم أقدامهم كما نص الله عليه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: الآية 155] قال: ولما لم يثبتوا لم ينزل عليهم ملك واحد؛ لأنهم لم يفوا بالشرط. هذا قاله جماعة من أهل العلم.

والأول أظهر، والسياق واحد. وهذا مبنيٌّ على قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} فصرح تعالى أن ذلك ببدر والكلام متصل آخره بأوله {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: الآية 123] إلى أن قال: {إِذْ تَقُولُ} في ذلك اليوم الذي نصركم الله فيه وأنتم أذلة {أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ} [آل عمران: الآية 124]. والحاصل أنه مختلف في المَدَدِ هَلْ هو ألف واحدة أو إلى خمسة آلاف؟ وأظهر القولين: أن المدد المذكور في آل عمران هو المذكور في الأنفال هذه، وأنه خمسة آلاف، ومما يؤيده: أنه لم يعلم أن الملائكة نزلت للقتال ظاهرًا إلا يوم بدر، وغير ذلك تنزل جنودًا لم يرها الناس كما جاء في حنين وغيرها والأحزاب؛ لأن الله بين أن الملائكة نزلت في الأحزاب وفي حنين حيث قال في الأحزاب: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: الآية 9] وقال في قصة حنين: {ثُمَّ أَنَزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: الآية 26] ولم يقل أحد من العلماء: إن جنود الملائكة التي نزلت في غزوة الأحزاب وفي غزوة حنين أنهم قاتلوا، وإنما اختلفوا في ذلك في [بدر] (¬1)، فذهب جماعة من أهل العلم وجاءت به آثار: أن الملائكة قاتلوا. وظاهر سياق آية الأنفال هذه تدل على أن الملائكة هم الذين أُمروا بالضرب فوق الأعناق وضرب البنان؛ لأنه قال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ} فهذا السياق للملائكة {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12] فهذا السياق ظاهر في الملائكة، ¬

(¬1) في الأصل: «أُحد» وهو سبق لسان.

وقد ذكرنا روايات عن بعض الصحابة أن بعضهم قال: بينما أنا أتبع رجلاً إذ سقط ميتًا أمامي، وسمعت ضربة سوط فوجدت وجهه مشقوقًا مخطومًا واخْضَرَّ محل الضربة كله (¬1). وأن رجلاً قال: أردت أن أقتل رجلاً فَسَقَطَ رَأْسُهُ قبل أن أضربه (¬2). وأنهم أَعْلَموا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: «ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ». والذين قالوا: إن الملائكة لم تقاتل يوم بدر لا حجة قوية معهم؛ لأنهم إنما استدلوا على ذلك بأن ملكًا واحدًا يقدر على إبادة جميع الناس، وأن جبريل رفع مدائن قوم لوط على ريشة من جناحه، ولا مانع من أن الله يجعل الملائكة مددًا وعونًا يَقْتُلُون معهم ليكون شرف الهزيمة لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الملك لو أهلكهم ما كان للصحابة في ذلك من فضل ولا من شرف، ولكن الله أعانهم ليكون النصر بأيديهم، وإهانة الكفار بأيديهم، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} الآية [التوبة: الآية 14]، وهذا معنى قوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى} [الأنفال: الآيتان 9، 10] هذه الآية مما استدل بها من قال: إن الملائكة لم تقاتل؛ لأن الضمير في قوله: {وَمَا جَعَلَهُ} راجع إلى الإمداد بالملائكة الذين يتبع بعضهم بعضًا {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: إمدادكم بالملائكة يقاتلون معكم {إِلاَّ بُشْرَى} أي: إلا بشارة لكم بالنصر، قالوا: فالله (جل وعلا) قصره على البشرى، ولم يقل: إن فيه قتالاً. وبعضهم يقول: لما قيل لهم: إنهم معكم، يقاتلون ¬

(¬1) تقدم تخريجه في بداية تفسير الآية. (¬2) تقدم تخريجه في بداية تفسير الآية.

معكم، كانت البشرى أعظم؛ لأنهم يعاونونهم في قتل عدوهم، وهذا معنى قوله: {إِلاَّ بُشْرَى} فالبشرى (فُعْلى) مؤنث بِأَلِف التأنيث اللفظية. والبشرى: هي الإخبار بما يسر، وقد قَدَّمْنَا مرارًا أن العرب تسمِّي الإخْبَار بما يسر (بشرى) و (بشارة)، وتقول: «بَشَّرَه وبَشَرَه». إذا أخبره بما يسره، كما هو معروف. وقد قدمنا: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن: إطلاق البشرى أيضًا على الإخبار بما يسوء، كأن تقول له: بشِّره بما يسوءُه، بشره بويل وعذاب. كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} [الجاثية: الآيتان 7، 8] ومعلوم أَنَّ العرب تطلق البشارة في لغتها على الإخبار بما يَسُرُّ أكْثَر، وربما أطلقتها على الإخبار بما يَسُوءُ. ومن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء قول الشاعر (¬1): وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتي ... جَفَونِي وقَالُوا: الودُّ مَوْعِدُهُ الحشْرُ وقول الآخر (¬2): يُبشرنُي الغرابُ ببينِ أَهْلي ... فقلتُ لهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ وعلماء البلاغة يقولون: إن البشارة بما يسوء من نوع ما يسمونه (الاستعارة العنادية) ويقسمون الاستعارة العنادية إلى (تهكُّمِيَّة، وتلميحية) كما هو معروف في فن البيان عندهم (¬3). ونحن نقول: إن الذي يظهر أن هذه أساليب عربية، نطقت بها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

العرب، ونزل بها القرآن. وهذا معنى قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} [آل عمران: الآية 126] أي: فعل الله ذلك لكم لأجل أن يبشركم؛ ولأجل أن تطمئن قلوبكم به. الطمأنينة معناها: السكون وعدم القلق والانزعاج. ومحل الطمأنينة والانزعاج: القلب؛ لأنه محل الإدراك؛ ولذا قال: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم قليلاً، فلما نزل المدد من السماء وثقوا من النصر، وسكنت قلوبهم، واطمأنت، وزال عنها الخوف والقلق والانزعاج، وهذا معنى قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} ثم إن الله بيّن أن الخير كله من قِبَله فكأنه يقول للمسلمين: لا تظنوا -وإن أنزلت عليكم ألفًا من ملائكة السماء- أن النصر بيد الملائكة! لا، النصر بيدي وحدي؛ ولذا قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 10] هذا حصر بالنفي والإثبات، وهو أبلغ غايات الحصر. معناها: لا نصر يوجد ألبتة كائنًا من كان إِلا من عند الله (جل وعلا). وأصل النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم {إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} العزيز في لغة العرب: هو الغالب. والعزة في لغة العرب: الغلبة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: الآية 8] أي: ولله الغلبة ولرسوله {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: الآية 23] غلبني في الخصام. والعرب تقول: (مَنْ عَزَّ بَزَّ) (¬1) يعنون: من غلب استلب. وقد قالت الخنساء في شعرها (¬2): كَأَنْ لم يكونُوا حِمىً يُخْتَشَى ... إذِ النَّاسُ إذْ ذاكَ مَنْ عزَّ بَزّا تعني: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أي: غالب لا يغلبه شيء؛ ولذا قهر جند أبي جهل ورؤساء الكفر وقمعهم وقتلهم بعزته حيث كانت العزة له، وأعز عباده المؤمنين، كما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: الآية 8]. وقوله: {حَكِيمٌ} الحكيم في الاصطلاح: هو مَنْ يَضَعُ الأمُورَ في مواضعها ويوقعها في مواقعها، ولا تتم الحكمة إلا بتمام العلم، فكل نقص في الحكمة إنما يتسبب عن نقص في العلم، فترى الرجل القُلَّب البصير الحاذق يفعل الأمر يظنه في غاية السداد ثم ينكشف الغيب عن أن فيه هلاكه ومضرة عظيمة عليه، فيندم وقد فات الأوان، ويقول: ليتني لم أفعل، لو فعلت لكان كذا!! لَيْتَ شِعْري وَأَيْنَ مِنِّي لَيْت ... إِنَّ ليتًا وإنَّ لوًّا عَنَاءُ (¬1) لأن: (ليتني فعلت)، و (لو فعلت كذا لكان أصوب!!) كل هذا في اختلال الحكمة من عدم العلم بعواقب الأمور. أُلامُ عَلَى لوٍّ ولَوْ كُنْتُ عَالمًا ... بِأَذْنَابِ لَوٍّ لم تَفُتْنِي أَوَائِلُه (¬2) الله (جل وعلا) وحده هو الذي لا يجري عليه: (لو فعلت كذا لكان أصوب)، أو: (ليتني لم أفعل)؛ لأنه عالم بعواقب الأمور وما تؤول إليه، فلا يضع أمرًا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه؛ لإحاطة علمه (جل وعلا) بالخبايا والخفايا، وبما يكون وبما ينكشف عنه الغيب؛ ولذا قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية 10]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: الآية 11]. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات (¬1): قرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} مضارع غشَّاه يُغَشِّيه. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} [النجم: الآية 54]. وقرأه نافع وحده من السبعة: {إذ يُغْشِيكُم النعاس} مضارع أغشى يُغشي، من قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: الآية 9]. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: {إذ يَغْشَاكم النعاسُ أمنة منه}. فعلى قراءة نافع: (النعاس) منصوب مفعول: {يُغْشِيْكُم} وكذلك هو على قراءة ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} هو مفعول {يُغَشِّيكُمُ} ولا فرق بين قراءتهم وبين قراءة نافع، إلا أن الفعل على قراءتهم مُعدّى بالتضعيف، وعلى قراءة نافع مُعدّى بالهمزة، والتعدية بالهمز والتضعيف معروفان متساويان، أما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: {إذ يَغْشَاكم النعاسُ أَمَنَةً مِنْهُ} (النعاسُ) مرفوع، فاعل {يغشاكم} (¬2) وقد جاء النعاس فاعلاً -كقراءة أبي عمرو، وابن كثير هنا جاء ذلك- في سورة آل عمران في قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى} [آل عمران: الآية 154] أي: النعاس {طَآئِفَةً مِّنكُمْ} كما قال هنا: {إذ يَغْشَاكم النعاسُ أمنة منه} النعاس: معروف، وهو أوائل النوم. ¬

(¬1) انظر المبسوط لابن مهران ص220. (¬2) انظر حجة القراءات ص308.

وأجرى الله العادة أن النعاس لا يكون للخائف -أن الخائف يطير منه النعاس ويطير منه النوم فلا ينعس ولا ينام- وأن الذي يصيبه النعاس فينام هو الآمن؛ ولذا كانوا يقولون: (الأمن مُنيم، والخوف مُسهر)؛ لأن صاحب الأمن ينعس فينام، فترى الآمن ناعسًا ونائمًا، والخائف قلقًا لا يأتيه النعاس ولا النوم. وأجرى الله العادة أنه إذا أراد نصر حزبه ألقى عليهم النعاس؛ لأن النعاس لا يغشاهم إلا وقد زال من صدورهم الخوف وقلق الجزع والحزن، وهذا تأمين منه لهم، وتثبيت لهم، كما تقدم في قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ} [آل عمران: الآية 154] وقد قدمنا في تفسيرها في آل عمران عن أبي طلحة أنه ذكر أنه سقط منه سيفه ثلاث مرات وهو قائم في الصّف من شدة النعاس (¬1)، وأنهم يميدون تحت السلاح لشدة نعاسهم. وقد ذكر هنا أنه غشاهم النعاس في وقعة بدر. وقوله: {أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: الآية 11] مفعول من أجله. إذ يغشيكم (جل وعلا) النعاس لأجل الأَمَنَة منه. والأَمَنَة: مصدر أمِن يأمن أَمَنَةً وأمنًا وأمانًا. والأَمَنَة والأمان ضد الخوف؛ أي: لأجل أن تكونوا آمنين ليس في قلوبكم خوف ولا جزع ولا قلق، وهذا من تثبيت الله لعباده المؤمنين. وقد اختلف العلماء في وقت هذا النعاس الذي صرّح الله أنه غشَّاه أهل بدر، فقال بعض العلماء: كان هذا النعاس غشاهم الله إياه ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} حديث رقم: (4068) (7/ 365)، وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم: (4562).

في الليلة التي في صبيحتها وقعة بدر، وكانت ليلة الجمعة، وهي السابعة عشرة من شهر رمضان، في عام اثنين من الهجرة. المفروض أنهم كانوا يكونون في خوف وقلق؛ لأنهم غدًا يتلاقون مع عدوهم، وهو جيش عرمرم قوي، فالعادة أن من هو إذا أصبح يلاقي جيشًا عرمرمًا، وينتظر الموت أنه يبيت والنعاس طائر عنه، والنوم طائر من عينيه لما يصيبه من خوف الموت والفزع والقلق، إلا أن الله خرق العادة لحزبه هنا، وغشاهم النعاس. قالوا: ففي تلك الليلة ناموا ملء عيونهم نومًا مستغرقًا كنوم الآمنين في غاية الأمن حتى احتلموا وأصبح كثير منهم جُنبًا من الاحتلام!! والغالب أن الرجل لا يحتلم إلا إذا كان نومه مستغرقًا، والنوم لا يكون ثقيلاً مستغرقًا إلا للآمن الذي لا يخالجه خوف؛ لأن الخائف والقلق ولو قدرنا أنه أصابته غفوة فعن قليل يستقظ فزِعًا مرعوبًا، فهم في تلك الليلة غشاهم الله النعاس فباتوا في أمن ونوم عميق نائمين، وأجنبوا تلك الليلة. قالوا: ومن حكمة ذلك أن النوم الثقيل العميق تستريح منه الأعضاء من التعب، فأصبحوا مستريحين قادرين على كفاح العدو، قال المفسرون: أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن نفير قريش سبقهم إلى الماء، وكانوا في العدوة الدنيا من بدر، وكان الوادي الذي هم فيه فيه رمال دهسة، يصعب المشي فيها؛ لأن الأقدام تسوخ فيها، وأجنبوا وعطشوا، فجاءهم إبليس برِجْزِه فوسوس لهم وسوسة عظيمة ثقلت على بعض الصحابة، وقال: تزعمون أنكم على الحق وأنتم في عطش، والقوم قد سبقوكم إلى الماء وغلبوكم عليه، فإذا أجهدكم العطش جاءوكم فقتلوا من شاءوا، وأسروا من شاءوا، وأنتم تُصلّون بالجنابة في عطش، وأرجلكم تسوخ في الرمل، والعدو بخلاف

هذا (¬1)!! فأنزل الله مطرًا من السماء، وسلط عليهم النوم، فسال الوادي، فاغتسلوا من الجنابة، وشربوا، وسقوا دوابهم، ولبَّد لهم الأرض حتى صارت الخُطا تثبت عليها، والأقدام تثبت عليها ولا تسيخ فيها؛ لأن الرمل المتهائل إذا ضربه المطر اشتد وصار الإنسان يمشي عليه ولا تسوخ قدمه فيه، وإن كان يابسًا صعُب المشي فيه؛ لأن الرِّجْل تسوخ فيه. وقال بعض العلماء: النعاس الذي غشاهم إياه: بعد أن التحم القتال أصاب المسلمين نعاس يوم بدر كما أصابهم يوم أحد. والله تعالى أعلم (¬2). {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: الآية 11] لأجل الأمن، سواء قلنا: إنه في الليل، أو إنه في النهار وقت التحام الصفين، هذا معنى قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً} هو هذا المطر الذي كنا نذكر خبره الآن. وقرأه السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو: {وَيُنَزِّلُ} بتشديد الزاي وفتح النون. مضارع نَزَّله يُنَزِّله. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: {ويُنْزِلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} (¬3) أي: من الجنابة كما طهر باطنكم طَهّر لكم ظاهركم من الجنابة. {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي: وسوسة الشيطان الذي أثقل عليكم بها: أنكم تصلون بالجنابة، وأنكم عطاش يهلككم العطش فيأخذكم العدو. أذهب عنكم بنزول ذلك الماء. أنزل ذلك المطر ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (3/ 282) .. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 346). (¬3) انظر: الإتحاف (2/ 77).

ليطهركم من الجنابة، وكل حدث أصغر وأكبر. {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي: وسوسته التي كان يوسوس لكم بها. {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} حيث أزال عنكم وسوسة الشيطان: أن العطش يُضعفكم، وأن القوم يأخذونكم حيث شربتم من ذلك المطر وتقويتم {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} معناه: يشدها ويقويها حيث أزال وساوس الشيطان التي أثقل عليكم بها. {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} يعني: يثبت بالمطر أقدامكم على دهس الرملة؛ لأنها قبل المطر كانت تسوخ فيها الأقدام. وعلى هذا القول أكثر المفسرين. وقال بعض العلماء (¬1): الربط على القلوب وتثبيت الأقدام هنا: الربط على القلوب: هو تثبيت الجأش والشجاعة. وتثبيت الأقدام: هو تثبيتها في الميدان، وأن السبب المُسَبِّب لهذا هو الإمداد بالملائكة. وهذا يبعد من ظاهر القرآن، والذي عليه الجمهور: هو ما ذكرنا أن تثبيت الأقدام هنا تثبيت حسي؛ لأن المطر لبَّد الأرض الدهسة فصارت الأقدام تثبت عليها ولا تسوخ فيها. وهذا معنى قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}. قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [الأنفال: الآيات 12 - 17]. ¬

(¬1) انظر هذا القول والرد عليه في ابن جرير (13/ 427 - 428).

يقول الله جل وعلا: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: الآية 12]. قال بعض العلماء: قوله: (إذ) بدل من (إذ) قبله. قالوا: قوله: {إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ} [الأنفال: الآية 11] بدل من قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: الآية 7] وقوله: {إِذْ يُوحِي} بدل من قوله: {يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ}. وقال بعض العلماء: العامل في (إذ) {إِذْ يُوحِي} هو العامل في (إذ) المتكررة قبلها. وقال بعض العلماء: العامل فيه: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: الآية 11] حين يوحي إلى الملائكة. وقال بعضهم: منصوب بقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ} [الأنفال: الآية 11] أي: يثبتهم حين أوحى إلى الملائكة أن ثبتوا الذين آمنوا (¬1). {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ} [الأنفال: الآية 12] يمكن أن يكون وحي إلهام، وأن يكون وحي إعلام، كل ذلك جائز للملائكة (صلوات الله وسلامه عليهم). يوحي إليهم الله: {أَنِّي مَعَكُمْ} معيّة نصر وإعانة {فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر. وتثبيت الملائكة لهم كان من جهات متعددة (¬2): منها: أن الملائكة يلقون في قلوبهم الأمن والطمأنينة، كما يلقي الله الرعب في قلوب الكفرة. ومنها: أنهم يثبتونهم بالقتال معهم وإعانتهم؛ لأنهم بذلك يوقنون بالنصر فتقوى قلوبهم وتثبت أقدامهم. وقال بعض العلماء: كانوا يثبتونهم بغير ذلك، كان الملك يتمثل للناس بصفة رجل يعرفونه ويمشي بين الصفوف ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم عليهم ومظهركم عليهم، وكان الملك ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 577). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 428)، القرطبي (7/ 378)، ابن كثير (2/ 292).

يتمثل في صورة الرجل يعرفونه - كما قال به بعض العلماء - ثم يقول للمسلمين: أبشروا فإِني سمعتهم يخافون منكم ويقولون: إنكم إن حملتم عليهم انكشفوا هاربين عنكم؛ لتقوى قلوب المؤمنين وتثبت، ويستحقرون الكفرة. هذا معنى قوله: {فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} كان بعض من شهد بدرًا كافرًا أسلم بعد ذلك، وكان الناس يسألونه ويقولون له: صِفْ لنا الرعب الذي ألقى الله في قلوبكم يوم بدر، فيأخذ حصاة ويضربها على طشت من الحديد فيُسمع لها دويّ عظيم، فيقول: كنا نسمع مثل هذا في أجوافنا من شدة الخوف (¬1)، وهذا معنى قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ}. قرأ هذا الحرف من السبعة: نافع، وابن كثير، وعاصم، وحمزة - كل هؤلاء الأربعة - من السبعة قرؤوا: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} بإسكان العين من قوله: {الرُّعْبَ} وقرأه ابن عامر، وحمزة (¬2)، والكسائي: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعُبَ} بضمتين. فالذي قرأ: (الرُّعُب) بضم العين: هو ابن عامر، وحمزة (¬3)، والكسائي. والذي قرأ (الرُّعْب) بسكون العين: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم (¬4)، هؤلاء الأربعة قرؤوا: (الرعْب) بسكون العين، وأولئك الثلاثة قرءوا: (الرُّعُب) بضمتين (¬5). وهما لغتان فصيحتان وقراءتان صحيحتان. والرعب شدة الخوف في قلوب الذين كفروا؛ لأن القلب هو محل الإدراك، وهو الذي يكون فيه الأمن ويكون فيه الخوف، وهذا معنى قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ}. ¬

(¬1) ابن جرير (14/ 88)، البيهقي في الدلائل (3/ 80)، (5/ 145)، البداية والنهاية (4/ 333). (¬2) ذِكْر حمزة هنا وهم، وإنما قراءته بإسكان العين كما ذكر الشيخ قبل ذلك. (¬3) ذِكْر حمزة هنا وهم، وإنما قراءته بإسكان العين كما ذكر الشيخ قبل ذلك. (¬4) ومعهم حمزة. (¬5) انظر: السبعة ص217، المبسوط لابن مهران ص170.

وقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ} المأمور بالضرب في قوله: {فَاضْرِبُواْ} أصله فيه وجهان معروفان (¬1): أحدهما: أن المأمور به الملائكة، قال بعض العلماء: ما كان الملائكة يعرفون مَقَاتِلَ الضرب حتى علمهم الله ذلك يوم بدر فقال: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} وكون هذا الخطاب للملائكة (صلوات الله وسلامه عليهم) هو أظهر القولين؛ لأن ظاهر السياق يقتضيه؛ لأن هذا في الظاهر من جملة ما أوحي إلى الملائكة. والقول الثاني: أن المأمور بقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ} المسلمون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: {فَوْقَ الأَعْنَاقِ} المراد بالفوقية هنا فيه أوجه معروفة للعلماء لا يكذب بعضها بعضًا (¬2): أما الذين قالوا: إن لفظة (فوق) زائدة، وأن المراد: فاضربوا الأعناق، واستدلوا بقوله: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: الآية 4] فهذا القول لا يجوز أن يقال به في القرآن؛ لأن لفظًا جاء في القرآن لا ينبغي لأحد أن يحكم عليه بأنه زائد لا معنى له. وقال بعض العلماء: (فوق) هنا بمعنى (على) العرب تقول: ضربته على عنقه، وضربته فوق عنقه، وعلى هذا القول فمفعول الضرب محذوف، أي: فاضربوهم فوق الأعناق، أي: فاضربوهم على الرقاب، وهذا قول ليس ببعيد. وقال بعض العلماء: المراد بما فوق الأعناق: الرؤوس؛ لأن ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 378). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 429)، القرطبي (7/ 378).

الرأس فوق العنق، قال: ومعناه فاضربوا رؤوسهم، والعرب معلوم أنها في الحرب تبادر لضرب الرؤوس، ويمدحون الرجال بضرب الرؤوس وفلق الهام، وهو معنى مشهور، كثير في كلام العرب وفي أشعارها، قال الشاعر (¬1): غَشَّيْتُه وهو في جَأْوَاءَ باسلةٍ ... عَضْبًا أَصَابَ سَواءَ الرأسِ فانْفلقا يفتخر بضرب الهام. ومنه قول عمرو بن الإطنابة (¬2): أَبَتْ لي هِمَّتي وأَبَى إِبَائي ... وأَخْذِيْ المَجْدَ بالثمنِ الرَّبيحِ ... وإقداميِ على المَكْروهِ نفْسي ... وضَربي هَامةَ البطلِ المُشيحِ والآخر قال (¬3): نُفَلِّقُ هَامًا من رجالٍ أَعِزَّةٍ ... علينا وهُم كانُوا أَعَقّ وأَظْلَمَا وضرب الهام مشهور في كلام العرب وفخرها وأشعارها، ومن مدح الرجل للفارس: هذا يضرب القوانس، وهذا يضرب القونس. والقوانس: جمع القونس، والقونس: هو مقدم البيضة من الحديد على رأس الفارس. وقال بعض العلماء: القونس على البيضة، وضرب القوانس: كناية عن ضرب الهام، وهي فوق الرقاب. ومن هذا المعنى قول امرئ القيس بن عابس الكندي (¬4): ¬

(¬1) البيت لبلعاء بن قيس، وهو في البحر (4/ 470)، الدر المصون (5/ 579). (¬2) البيتان في وفيات الأعيان (5/ 241)، سير أعلام النبلاء (3/ 142) مع اختلاف في بعض الألفاظ والبيت الثاني في اللسان (2/ 390)، الدر المصون (5/ 579). (¬3) البيت في ابن كثير (2/ 293). (¬4) مضى عند تفسير الآية (165) من سورة الأعراف.

كلاَهُما كان رَئِيسًا بَيْئَسَا ... يضربَ في يوم الهياج القَونسَا ومنه شعر العباس بن مرداس -المشهور- السلمي (¬1): فَلَمْ أَرَ مثل الحي حيًّا مُصَبَّحًا ... ولا مثلنا يوم التقَيْنَا فوارسَا أكرّ وأَحْمَى للحقيقةِ مِنْهُمُ ... وأضْرَب مِنَّا بالسُّيُوفِ القوانسَا هذا قال به بعض العلماء، أن المراد بما فوق الأعناق: الرؤوس؛ لأن الرأس فوق العنق، أي: فاضربوا رؤوسهم وفَلِّقُوا هامهم. وأظهر الأقوال وأقربها للصواب ما قاله بعض العلماء: أن الله علّم الملائكة أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حز الرؤوس، وبين لهم مفصل الرأس الذي يُطير الرأس عن الجثة، وأنه فوق الأعناق؛ لأن الرقبة المحل الذي تركب منه في الرأس هو مفصل للحز إذا ضَرَبَه الإنسان طار الرأس بسرعة، وكان ذلك أهْوَن لإِبَانَةِ الرأس؛ ولذا كانت العرب تَفْتَخِرُ بِضَرْبِ القَمَاحِدِ، والقَمَاحِدُ جمع قُمْحُدَة وهو العَظْم الذي خلف الأذن؛ لأنه تحت عظم الرأس وفوق عظم الرقبة، وذلك وهو مفصل الرقبة وموضع حزها الذي يسهل به إطارة الرأس وإبانته عن الجثة كما هو معروف وَمِنْ هذا المعنى قَوْلُ الشاعر يمدح خالد بن الوليد رضي الله عنه (¬2): رَأَيْتُ رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ كَثِيرَةً ... وَلَمْ أرَ في القوم القيام كَخَالِدِ كَسَاكَ الوَلِيدُ بن المغيرة مَجْدَهُ ... وعلَّمَكَ الشَّيْخَانِ ضَرْبَ القَمَاحِدِ والقَماحِد جمع القُمْحُدَة، وهي العظم الذي خلف الأذن؛ لأنه ¬

(¬1) مضى هذان البيتان عند تفسير الآية (117) من سورة الأنعام. (¬2) البيت لحزن بن أبي وهب المخزومي. وهو في الإصابة (1/ 325) مع اختلاف يسير في لفظ صدر البيت الأول، وبين البيتين بيت آخر.

نازل عن عظم الرأس، مرتفع عن عظم الرقبة، محلّه من جوانب الرقبة محل المذبح، تسهل منه إبانة الرأس وإطارته عن الجثة، وهذا معنى قوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12]. قال بعض العلماء: واحد البنان بنانة. والتحقيق أن البنان أطراف الأصابع، كما هو معناه المشهور في كلام العرب، والعرب يعرفون ضرب البنان؛ لأن الرجل إذا ضرِبَ أطراف يده -أصابعِهِ- بالسيف لا يقدر أن يحمل سيفًا ولا رُمْحًا، فبَقِيَ لا بأْسَ فيه ولا نكاية عنده، من جاءه قدر على قتله، فالضرب الذي عُلِّمُوه على نوعين: إصابة المقاتل، وإصابة الشَّوَى، وهي الأطراف التي تمنع صاحبها من أن يفعل شيئًا، وكانت العرب تعرف هذا، ومنه قول عنترة بن شداد (¬1): وكانَ فتى الهيجاءِ يَحْمي ذِمَارَهَا ... ويضربُ عند الكربِ كلَّ بَنَانِ والعرب تسمي أطراف الأصابع: بنانًا، ومنه قول عنترة أيضًا (¬2): وإِنَّ الموتَ طوعُ يدي إذا ما ... وصَلْتُ بنانها بالهندُواني وما زعمه بعض علماء العربية من أن المراد بالبنان هنا يصدق بجميع المفاصل وبالوجه والعينين، هو خلاف التحقيق المعروف من اللغة؛ لأن المعروف في اللغة: أن البنان أطراف الأصابع، بعضهم يقول: أطراف أصابع اليد. وبعضهم يقول: تدخل فيه ¬

(¬1) البيت في القرطبي (7/ 379)، الدر المصون (5/ 580). (¬2) ديوانه ص148.

أطراف أصابع الرِّجْل، والإطلاق المشهور: إطلاق البنان على أطراف أصابع اليد. والعرب تقول: بنانٌ مُطَرَّف، ومُطَرَّفَة: إذا خضبت المرأة أطراف أصابعها بالحناء، وهذا هو المعنى المشهور المتعارف في كلام العرب، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي (¬1): بَدَا ليَ منها مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ... وكَفٌّ خَضيبٌ زُيِّنَت بِبَنَانِ ... فوالله ما أدري وإني لحاسبٌ ... بسبع رميتُ الجَمْرَ أمْ بثَمَانِ فقوله: «كف خضيب زُيِّنَتْ ببنان» أي: بأصابع. والبنان مؤنثة، وربما ذكَّرتها العرب نادرًا، ومن تذكيرها النادر قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي أيضًا (¬2): وأَرْسَلَت فَجَاءني ... بنانُها المُطرَّف ولم يقل: المُطَرَّفَة، والمُطَرَّفُ: هو الذي خُضب أعاليه بالحناء، وهذا معنى قوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12]. {ذَلِكَ} العذاب الذي ذاقوه من ضرب الأعناق، وضرب البنان، وتسليط الله عليهم أصحاب رسوله وملائكته، ذلك كله واقع بسبب أنهم {شَآقُّواْ اللَّهَ}. شاقوه: معناه خالفوه ولم يتبعوا أمره، بل كذبوا رسوله وتمردوا على أوامره، وعبدوا معه الأصنام، وجعلوا له الأولاد والأنداد، فالمشاقة في لغة العرب: المخالفة. وفلان وفلان في شقاق، أي: في خلاف. وقد تقدم إيضاحه في تفسير قوله: ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام. (¬2) البيت في ديوانه ص252.

{فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: آية 137] أي: في خلاف، ومن المعنى قوله الشاعر (¬1): وإلاَّ فاعلْموا أَنَّا وأنتُم ... بغاةٌ ما بقينا في شِقَاقِ قال بعض العلماء: أصل اشتقاق الشقاق من الشِّق؛ لأن المُتَخَالِفَين المُتَعَادِيَيْن كل منهما يكون في الشق الذي ليس فيه الآخر. فقيل: هو من شقِّ العصا بمعنى الاختلاف، وقيل: هو من المشقة؛ لأن كلاً من المُتَخَالِفَين المُتَعَانِدَين يطلب لصاحبه الإيقاع في المشقات. فمعنى مشاققتهم لله: مخالفتهم لأوامره ونهيه وتكذيبهم رسله، وجعلهم له الأنداد والشركاء. وهذا معنى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ} [الأنفال: الآية 13] وشاقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ} الظاهر أن جواب الشرط في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ} محذوف، دل عليه قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والتقدير: من يشاقق الله يعاقبه، فإن الله شديد العقاب لمن عاقب، والشدة: ضد اللين. والعقاب: هو التنكيل على الجريمة. قال بعض العلماء: سُمِّيَ عقابًا؛ لأنه يأتي عقب الذنب من أجله. وهو معروف في كلام العرب، يقولون: عَاقِب هذا عقابًا ومعاقبة؛ أي: نَكِّل به؛ لأنه عصاك أو أَجْرَمَ إليك. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان يخاطب النعمان بن المنذر (¬2): ومن عصاكَ فعاقِبْهُ مُعَاقَبَةً ... تَنْهى الظلومَ ولا تَقعُد على ضَمِدِ ¬

(¬1) البيت لبشر بن أبي خازم، وهو في الدر المصون (4/ 276). (¬2) مضى هذا الشاهد عند تفسير الآية (167) من سورة الأعراف.

والله (جل وعلا) هو شديد العقاب وحده، ولا عقاب هو العقاب الشديد إِلا عقاب الله (جل وعلا)، فعلى المسلمين أن يحذروا عقاب الله، ولا يتعرَّضوا لسخط الله الموجب لعقابه؛ لأن الله لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد؛ لأن أعظم جبار من ملوك الدنيا ليس في وسعه من التعذيب والتنكيل إلا قدر ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإن شدد التعذيب على المُعَذَّب إلى قدر يقتل صاحبه عادةً مات وانتهى ذلك العقاب، أما خالق السماوات والأرض شديد العقاب فإنه ينكل المذنب بآلاف التنكيل المستوجبة للموت وصاحبه لا يموت. فهذا هو العقاب الذي لا ينقطع ولا ينجي منه موت، فهو الذي يجب أن يُحذر ويُخاف منه، وتتجنب أسبابه في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، والله (جل وعلا) يقول: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: الآية 17] ويقول تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} [النساء: الآية 56] هذا هو العذاب الذي يُخشى، والعقاب الذي يجب على ( ... ) (¬1). [3/أ] ( ... ) / لأن الأمر كله بيد الله؛ ولأجل فهم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا كان يكثر في دعائه: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (¬2). اعلموا كُلاّ أيها الناس أن قلوبكم بيد خالقكم (جل وعلا) يُصرفها كيف شاء، يوفق من شاء، ويضل من شاء {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: الآية 88] وعلينا معاشر المسلمين أن نتفهم في هذه الآية، وأن نبتهل ونتضرع إلى ربنا أن يُثبتنا، وأن ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بعده متعلق بتفسير الآية (24). (¬2) مضى عند تفسير الآية (110) من سورة الأنعام.

لا يزيغنا، وأن لا يُحوِّل قلوبنا إلا لما يرضيه (جل وعلا)؛ لأن هذه الآية يخافها العاقل جدًّا، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن (جل وعلا) يصرفه كيف يشاء (¬1). فيا مقلب القلوب، مثبت من شاء، ومضل من شاء، وهادي من شاء، ومضل من شاء؛ [ثبت قلوبنا على دينك] (¬2) ولذا أثنى (جل وعلا) على عباده الراسخين في العلم بأنهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ} [آل عمران: الآية 7] إلى أن قال عنهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} [آل عمران: الآية 8]. ومعنى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: الآية 24] إنما عبر بالقلب؛ لأن القلب محل العقل الذي به الإدراك، لا كما يقوله الملاحدة: إن محله الدماغ (¬3). يحول بينه وبين قلبه فيصرف قلبه حيث شاء، وكيف شاء، يصرفه من هُدى إلى ضلالة، ومن ضلالة إلى هدى، قال بعض العلماء (¬4): وكذلك يصرفه من أمنٍ إلى خوف، ومن خوف إلى أمن، كما نقل قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخوف إلى الأمن، وقلوب الكفرة من الأمن إلى الرعب والخوف الذي ألقاه في قلوبهم، والأول هو الصحيح في معنى الآية؛ لأن هذه الآية تدل على أن الأمور كلها بيد الله، وأنه يصرف القلوب كيف يشاء، فيهدي من يشاء هداه، ويضل من يريد إضلاله. وما يزعمه المعتزلة من أن الله لا يريد الشر، وأن العبد يخلق ¬

(¬1) السابق. (¬2) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة. (¬4) انظر: القرطبي (7/ 391).

معاصيه باستقلال مشيئة العبد وقدرته مذهب لا يخفى سقوطه على عاقل، فإن خالق السماوات والأرض لا يمكن أن يكون في ملكه شيء إلا بمشيئته وقدرته جل وعلا. {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: الآية 24] {وَأَنَّهُ} أي: الله {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وحده. الحشر في لغة العرب معناه: الجمع. تقول: حشر الإمامُ العلماءَ أي: جمعهم، وحشر الناس أي: جمعهم. ومنه قوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: الآية 111] أي: جامعين يجمعون لك السحرة. فالحشر في لغة العرب: الجمع. والناس كلهم يُجمعون يوم القيامة إلى رب السماوات والأرض كما قال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: الآية 47] وقد بين في سورة الأنعام أنه يحشر جميع الدواب والطير وجميع ذلك كله، يحشرهم ويجمعهم يوم القيامة، كما تقدم في قوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: الآية 38] فكما أنه يحشر الناس كذلك يحشر الدواب والطير وغير ذلك. وهذا معنى قوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ( ... ) (¬1). وهذه الآية جاءت ناهية عن ذلك، مبينة أن الناس إذا رأوا المنكر يُرتكب علنًا ولم يغيروه وهم قادرون على أن يغيروه أن الله يعم الجميع بعذاب من عنده، ولا يصيب ذلك خصوص الذين ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل والكلام الآتي يتعلق بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}.

ظلموا وارتكبوا المعاصي، بل يصيب الجميع، هؤلاء بمعصيتهم، وهؤلاء بسكوتهم على المعصية وعدم نهيهم عنها. هذا الذي عليه جمهور المفسرين. {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً} [الأنفال: الآية 25] قد قدمنا في هذه الدروس مرارًا أن الفتنة أُطلقت في القرآن إطلاقات متعددة (¬1): أطلقت الفتنة بمعنى الابتلاء. وهذا أكثر إطلاقها، ومنه قوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: الآية 35] أي: ابتلاء، {لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} [الجن: الآية 16] أي: لنختبرهم، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: الآية 15] أي: امتحان وابتلاء واختبار. وأصل الفتنة في لغة العرب (¬2): هي الوضع في النار، تقول العرب: فتنت الذهب: إذا وضعته في النار وأذبته فيها ليظهر أخالص هو أم زائف. ولذا كان أحد إطلاقات الفتنة: هي الإحراق بالنار، ومنه بهذا المعنى قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} [الذاريات: الآية 13] أي: يُجعلون فيها ويحرقون فيها، ومنه على أصح التفسيرين: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: الآية 10] أي: أحرقوهم بنار الأُخدود. وتُطلق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة، ومن هنا أُطلقت الفتنة على الكفر وعلى المعاصي، كما قال: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: الآية 13] أي: لا يبقى شرك على وجه الأرض، كما يدل له قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» (¬1). وجاء في سورة الأنعام إطلاق الفتنة على الحجة في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتَهُمْ} [الأنعام: الآية 23] وفي القراءة الأخرى: {فِتْنَتُهُمْ} (¬2) ( ... ) (¬3) وهذا معنى قوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}. ودخول نون التوكيد على {لاَّ تُصِيبَنَّ} [مع أنه في غير قسم، ولا طلب، ولا شرط، فيه سؤال معروف،] (¬4) واختلف علماء العربية في توجيهه (¬5)، والذي يظهر أنه يُفهم من هذا أن نون التوكيد تدخل في مثل هذا الأُسلوب؛ إذ لا حاجة إلى التعسفات التي يرتكبها من يريد الجواب عن هذا، مع أن القرآن في أعلى درجات الإعجاز. و {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} معناه: ارتكبوا المعاصي فظلموا أنفسهم. {خَآصَّةً} أي: في حال كونها خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم؛ بل هي تتعداهم إلى غيرهم، أي: لا تصيب خصوصهم بلِ تعمّ وتصيب الجميع. وهذا معنى قوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}. ¬

(¬1) مضى تخريجه في الموضع السابق. (¬2) مضت عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف. (¬3) في هذا الموضع انقطع التسجيل. (¬4) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬5) انظر: الدر المصون (5/ 589 - 593).

{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} العقاب: هو النكال على الذنب، قيل: سُمي عقابًا لأنه يأتي عَقِبَه من أجله. فعلينا معاشر المسلمين أن نتفهم هذه الآية، وأنّا إذا رأينا السفهاء ومن لا يطيعون الله يتعالنون بمعاصي الله أن نغيرها بحسب استطاعتنا؛ لئلا يعُمنا الله بعذاب من عنده، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) مراتب تغيير المنكر فقال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَهُوَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬1). فمن قدر منا أن يُغير بيده فليغير بيده، ومن لم يقدر على التغيير باليد فباللسان، ومن عجز عن ذلك كله فبالقلب، وهو أضعف الإيمان. ويوشك أن المعاصي إذا لم تزل تُرتكب ولا ينهى عنها أحد أن ينزل عذاب من الله عَامّ يعم الصالح والطالح، والعاجز حقيقة يبعثه الله على نيته، ولا يناله شيء من إثم أولئك الآثمين، إلا أن العذاب وقت نزوله يعم الجميع كما جاءت الأحاديث بذلك. وهذا معنى قوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: الآية 25] كونه شديد العقاب فيه تحذير شديد وتخويف لمن يُقصر في امتثال أمره واجتناب نهيه، فليس للمسلم أن يُقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وجد إلى ذلك سبيلاً. {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ¬

(¬1) مسلم في الإيمان، باب (بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص .. ) حديث رقم: (49) (1/ 69).

النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: الآية 26]. [أي: واذكروا حين كان] (¬1) عددكم قليل جدًّا مستضعفون في الأرض، أي: يستضعفكم أعداؤكم، يرونكم ضعفاء، ويعاملونكم معاملة القوي للضعيف، وهذا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا في [مكة] (¬2) قبل الهجرة عددهم قليل، والكفار يستضعفونهم، ويضربونهم، ويعذبون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مختفين في دار الأرقم بن أبي الأرقم قبل إسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكان لهم بعض عزة نسبيًّا بإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما). واذكروا نعمة الله وتذكروا ما نقلكم به من حال الضعف إلى حال القوة، ومن حال القلة إلى حالة الكثرة، وتذكروا هذا الإنعام لتشكروا لمن أنعم عليكم به، وهذا معنى قوله: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} القليل: ضد الكثير، والمستضعف: الذي يراه غيره ضعيفًا ويعامله معاملة القوي للضعيف. {فِي الأَرْضِ} هي: أرض مكة التي كانوا فيها قبل الهجرة. {تَخَافُونَ} الخوف في لغة العرب: هو الغم من أمر مستقبل. والحزن في لغة العرب: الغم من أمر فائت (¬3) -أعاذنا الله منهما- وربما وضعت العرب الخوف في معنى الحزن، والحزن في معنى الخوف. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) في الأصل: «المدينة» وهو سبق لسان. (¬3) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

{تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: الآية 26] التخطف: هو أن يَقَعَ منهم الخطف مرة بعد مرة. والخطف في لغة العرب معناه: الأخذ بسرعة، فكل ما أخَذْتَهُ بِسُرْعَة شديدة فقد خَطَفْتَهُ {أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} لقلتكم وضعفكم ليست لكم مناعة بكثرة ولا بقوة، فالناس قادرون على أن يتخطفوكم ويأخذوكم بسرعة واحدًا واحدًا فيقتلوكم. {فَآوَاكُمْ} جل وعلا، أي: ضَمَّكُمْ إِلَى عِزَّةٍ ومَنَعَةٍ بأن ضمكم إلى هذه المدينة -حرسها الله- وقَوَّاكُمْ بالأنصار، هداهم فأسْلَمُوا، وكان لكم محل مأوى وقوة. {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} العرب تقول: «أَيَّدَهُ» إذا قَوَّاه. و «رجل أيِّدٌ». معناه: قوي، و (الأَيْد) في اللغة و (الآد) معناه: القوة (¬1)، ومنه: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: الآية 47] أي: بقوة، فليست من آيات الصفات. ووزن (أَيْد): (فَعْل) (¬2)، أما (الأيدي) التي هي جمع (يَد) فوزنها بالميزان الصرفي (أفْعُل) (¬3)، فوزن قوله: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أَيْد معناه: (فَعْل) من (أَيَدَ) بمعنى: القوة، والعرب تقول: «فلان أيِّد» أي: قوي، و «رجل ذو أيْد وآد» أي: ذو قوة {وَأَيَّدَكُم} قواكم بنصره. والنصر في لغة العرب: إعانة المظلوم. نصرهم الله بالأنصار، وقواهم بكثرة المؤمنين وقوة شوكتهم، وبما أوقع بالكفار يوم بدر، ¬

(¬1) انظر: القاموس (مادة آد) ص41. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص41. (¬3) السابق ص294.

وبإنزال الملائكة تثبتهم، وتلقي الرعب في قلوب عدوهم. وهذا معنى قوله: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} كأن في الكلام محذوفًا دل المقام عليه {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} فقراء لا أموال لكم {فَآوَاكُمْ} الله وقواكم بنصره وجعل لكم الأموال {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} كما رزقكم بغنائم يوم بدر، وهو مال طيب أطابه الله لهم بعد أن لامهم عليه لومًا شديدًا، وقال: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: الآية 68]، ثم قال بعد ذلك: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال: الآية 69] وهي الطيبات التي رزقهم {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: الآية 26] لله نعمه. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬1) أن الشكر في القرآن يُطلق من الرب لعبده، ويُطلق من العبد لربه. فإطلاق الشكر من الرب لعبده كقوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: الآية 34] {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: الآية 158]. وإطلاقه من العبد لربه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: الآية 13] {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: الآية 185]. فشكر الرب لعبده معناه: أن يُثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل. وشكر العبد لربه قال بعض العلماء: ضابطه المنطبق على جزئياته: هو أن يستعمل جميع نعم الله فيما يرضي الله، فهذه العيون ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (53) من سورة البقرة.

التي فتحها في أوجهكم تبصرون بها، نعم عظمى منه إليكم، فشكرها: أن لا تستعملوها إلا في طاعة الله، ولا تنظروا بها إلا فيما يرضي من خلقها ومنّ عليكم بها، وهكذا الأيدي والأرجل وسائر النعم. أما العبد المسكين الضعيف الذي يُنعم عليه خالق السماوات والأرض بنعمه ثم يصرف نعمه فيما يسخطه ويغضبه فهذا مجنون. وهذا معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لأجل أن تشكروا على ذلك الإنعام. ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: آية 27] قال جماعة من المفسرين (¬1): نزلت هذه الآية الكريمة في أبي لبابة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري (رضي الله عنه)، كان بنو قريظة حلفاء الأوس من الأنصار، وكان أبو لبابة صديقًا لهم، وكان في بني قريظة أمواله وأهله، فلما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة وأرادوا أن يُحكّموا فيهم سعد بن معاذ (رضي الله عنه) قال بنو قريظة -أرسلوا- للنبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر (رضي الله عنه)، وكان مناصحًا لقريظة يثقون فيه أشد الثقة، فلما جاءهم استشاروه: هل ينزلون على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار بيده إلى حلقه، يعني: أنه الذبح إذا نزلتم على حكمه. قال أبو لبابة (رضي الله عنه): والله ما برحت قدماي مكانهما حتى علمت أني خنت الله ورسوله وخنت أمانته. فندم أبو لبابة (رضي الله عنه) ندمًا شديدًا، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع من قريظة إلى هذا المسجد الشريف -مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فربط نفسه في سارية من سواري هذا المسجد، وحلف بالله أن لا يأكل ولا يشرب حتى يموت ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 394)، ابن كثير (2/ 300).

أو يتوب الله عليه، فمكث سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب حتى خرّ مغشيًا عليه، فأنزل الله التوبة عليه، وقيل له: «تِيبَ علَيْكَ فحُل عنك الرّباط» فقال: «واللهِ لاَ أحِلّه ولا يُحله عني غَيْرُ رسُول الله صَلى الله عليه وسلم» فجاء فحله عنه (¬1). وكان بعض العلماء يقول: إن الآية التي تاب الله عليه فيها هي التي بعد هذه وهي قوله: {إن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: الآية 29] فهو قد اتقى الله بالندم على ما فات منه، ونية أن لا يعود، وتأنيبه نفسه على الزلة التي صدرت منه بالعطش والجوع حتى خَرَّ مغْشِيًّا عليه، واعترافه بما وقع منه، وجعل الله له فرقانًا أي: مخْرَجًا من ذلك بأن تاب عليه كما يأتي في شرحها. وهذا معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ} [الأنفال: الآية 27] خيانة الله: هي تقصيرهم في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وخيانة الرسول: هي التقصير في طاعته كهذا الصحابي الذي أفشى سِرَّهُ إلى يهود بني قريظة، فقد خان الله ورسوله ثم تاب الله عليه. {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} لأن جميع التكاليف كلها أمانات عند ¬

(¬1) روى هذا الحديث جماعة منهم: 1 - الزهري. عند ابن جرير (13/ 481)، وعزاه في الدر (3/ 178) لسنيد. 2 - عبد الله بن أبي قتادة مرسلاً (مختصرًا). عند ابن جرير (13/ 482)، وابن أبي حاتم (5/ 1684)، وعزاه في الدر (3/ 178) لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. 3 - الكلبي. وعزاه في الدر (3/ 178) لعبد بن حميد. 4 - السدي. وعزاه في الدر (3/ 178) لأبي الشيخ. وذكره الواحدي في أسباب النزول ص235 من غير تعيين راويهِ.

المكلفين كما سيأتي إيضاحه في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: الآية 72]. وكان بعض العلماء يقول (¬1): الأمانات: أوامر الله ونواهيه التي لا يطّلع عليها أحد ولا يعلمها إلا هو؛ لأن الإنسان في بيته قد تكون عليه الجنابة لا يعلم بها الناس، وقد يكون عليه الحدث، وقد يجيء المسجد ولم يغتسل ولم يصل، وقد يغتسل وقد يصلي. هذه أمانات أمَّنَها الله عند هذا لا يعلمها إلا هو، فليس عليه أن يخونها. والتحقيق: أن الأمانة تشمل جميع التكاليف. [3/ب] / [وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: الآية 28]. نزلت هذه الآية في أبي لبابة (رضي الله عنه) حين قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار] (¬2) بيده إلى حلقه أنه الذبح إن نزلتم على حكم سعد بن معاذ (رضي الله عنه). كان سبب ذلك أن أولاده وماله في بني قريظة فأشفق على أولاده وماله، فأنزل الله: {وَاعْلَمُواْ} أيها الناس {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} (¬3) أي: ابتلاء واختبار كما أوقع الأموالُ والأولادُ - الإشفاقُ عليهم - أوقع أبا لبابة في الزلة {وَأَنَّ اللَّهَ} جل وعلا {عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أجر الله أعظم من ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 485). (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬3) في الروايات التي وقفت عليها أن الآية النازلة فيه هي الآية قبلها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ} وذلك أنه كان حليفًا لهم، فلما قدم إليهم قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرقَّ لهم ... إلخ.

الأموال والأولاد، فما عند الله خير من غيره، وهذا معنى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: الآية 28]. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآيات 29 - 33]. يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الأنفال: الآية 29] نادى الله المؤمنين في هذه الآية الكريمة باسم الإيمان، وبين لهم أنهم إن اتقوا الله فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه أنه يجعل لهم بسبب ذلك فرقانًا فيغفر لهم الذنوب ويكفر عنهم السيئات {إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ} أيها المؤمنون بامتثال أمره واجتناب نهيه {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة (رحمه الله) أنه سُئل عن قوله: {إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} قال: معناه يجعل لكم مخرجًا. وتلا قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (¬1) [الطلاق: الآية 2] والعرب تسمي المخرج من الشيء: فرقانًا. كأنه مصدر زيدت فيه الألف والنون؛ لأن من كان في ¬

(¬1) انظر: القرطبي (7/ 396).

كرب من كروب الدنيا أو الآخرة وقد فارقه ووجد منه مخرجًا كأنه وجد فارقًا يفرق بينه وبينه ويفصل بينه وبينه. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومن إطلاق الفرقان بمعنى المخرج قول الراجز (¬1): ما لَكَ مِنْ طُولِ الأَسَى فُرْقَانُ ... بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وَبَانُوا أي: ما لك من طول الأسى مخرج، ومنه قول الآخر (¬2): وكيف أُرَجِّي الخُلد والموتُ طالبي ... وَمَا لِيَ مِنْ كَأْسِ المَنِيَّةِ فُرْقَانُ أي: ما لي من الموت مخرج ولا بد. وقال بعض العلماء: {فُرْقَانًا}: نصرًا وتأييدًا؛ لأن الله سمى يوم بدر: (يوم الفرقان) في قوله: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: الآية 41] لأنه يوم نصر فَرَقَ الله به بين الحق والباطل بأن نصر الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة. قال بعض العلماء: فرقانًا: فَتْحًا. وقال بعض العلماء: يجعل الله لكم بسبب تقوى الله فُرْقَانًا، أي: علمًا تُفَرِّقُون به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح. والأقوال متقاربة (¬3). وتقوى الله (جل وعلا) كفيلة بكل خير من خيري الدنيا والآخرة {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: الآية 29] مادة الكاف والفاء والراء في لغة العرب أصل معناها: الستر والتغطية (¬4). فمعنى: ¬

(¬1) البيت في السابق. (¬2) المصدر السابق. (¬3) انظر: الأضواء (2/ 349). (¬4) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي: يسترها ويغطيها بحلمه وعفوه حتى لا يظهر لها أثر تتضررون به {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} كذلك الغفران معناه أيضًا: الستر والتغطية؛ لأنه (جل وعلا) يغفر الذنوب، أي: يَسْتُرها ويغطيها (¬1). فالتعبير بالتكفير والغفران كلاهما معناه ستر الذنوب وتغطيتها حتى لا يظهر لها أثر. وفي ذلك التوكيد من الترغيب في التقوى ما لا يخفى، {وَاللَّهُ} جل وعلا {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ففضله عظيم، ومن فضله ما تَفَضَّلَ عليكم به، وما نصركم به يوم بدر، وغير ذلك من فضله وإنعامه العظيم. قال بعض علماء التفسير: هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال هي التي نزلت فيها توبة الله على أبي لبابة لما قال ما قال لِبَنِي قُرَيْظَةَ، وجاء تائبًا إلى الله نادمًا، وربط نفسه في سارية من سواري هذا المسجد الكريم، وحلف أن لا يأكل ولا يشرب حتى يموت أو يتوب الله عليه، وأُغشي عليه بعد سبع فتاب الله عليه، قالوا: هذه فيها توبته؛ لأنه اتقَى الله بالندم على ما فات، والإقلاع، وربطه نفسه، واعترافه بالزلة، فجعل الله له من زلته في بني قريظة فرقانًا، أي: مخرجًا أخرجه به من مَأْزق الذَّنْب، وتاب عليه (جل وعلا)، هكذا قاله بعض العلماء، والله تعالى أعلم، وهذا معنى قوله: {إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: الآية 29] فضله عظيم على خلقه إذ يتفضل عليهم بخيرات الدنيا والآخرة. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: الآية 30]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف.

قال بعض العلماء: هذه الآية من سورة الأنفال مكية (¬1)، مع أن الأنفال مدنية. والأظهر أن هذه الآية كغيرها من سورة الأنفال مدنية؛ وذلك أن الله لما فتح على نبيه، ونصره يوم بدر، وأنزل سورة الأنفال في وقعة بدر، ذكَّر نبيه بنعمه الماضية عليه في مكة قبل هجرته منها، وعرَّفه إنعامه عليه حيث أنجاه من مكر أعدائه {وإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [الأنفال: الآية 30]. واذكر يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- أيام كنت في مكة بعد أن مات عمك الذي كان ينصرك ويحوطك، وهو أبو طالب، وتمكنت قريش من أن يؤذوك ويخرجوك، ودبروا لك ذلك المكر العظيم، اذكر إنعامي حيث مكرتُ بهم وجعتلها عليهم لا لهم. واذكر إذ {يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} المكر: المكيدة، وهو إخفاء الكيد ليوصل الشر إلى الممكور به في خفاء. {الَّذِينَ كَفَرُواْ} كفار مكة؛ وذلك أن أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءهم شيخ في صفة شيخ جليل، فقالوا له: ممن أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد، وهو الشيطان، تمثل لهم في صورة ذلك الشيخ، قال لهم: لست من أهل تهامة وإنما أنا من أهل نجد -وكان أهل نجد في ذلك الوقت كفارًا، وقريش يثقون فيهم لكفرهم، وأن الجميع على ملة واحدة- قال لهم إبليس في صفة ذلك الشيخ اللعين: سمعت أنكم تجتمعون لتتشاوروا في رأي هذا الرجل فجئتكم، ولا تعدمون مني رأيًا حسنًا في هذا الأمر. فقال بعض قريش - فقالوا: ممن قاله: أبو البختري -: خلونا ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 502).

نكبله بالحديد، ونسجنه في دار، ونقفل بابها، ولا تترك إلاّ كوة ندخل إليه منها الطعام والشراب ونتربص به الدوائر حتى يموت كما مات من قبله من الشعراء، زهير والنابغة وأمثالهم من الشعراء، وفي ذلك يقول الله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)} [الطور: الآية 30] وهذا الرأي هو المراد بقوله: {لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: الآية 30] أي: يكبلوك بالحديد ويسجنوك ويتربصوا بك الدوائر حتى تموت. وقال بعضهم: ويروى أن ممن قاله هشام بن عمرو: اطردوه عنا، نجعله على بعير ونبعده من أرضنا وما علينا ما فعل. فلما قال أبو البختري الرأي الأول قال له ذلك الشيخ الذي في صورته الشيطان: بئس الرأي رأيك، هذا ليس برأي؛ لأنكم إن أثبتموه بقيود الحديد وأغلقتم عليه الأبواب جاء قومه فأخرجوه وقاتلوكم عليه حتى يخرجوه، وهذا ليس برأي. فلما قال الثاني: نبعده ونطرده من بلادنا وما علينا فيما فعله هو وسائر العرب. فقال ذلك اللعين: بئس الرأي الذي رأيت، أنتم تعلمون حلاوة لسانه، واستجلابه لقلوب الناس، فإذا خرج عنكم فلا يأمن أن يأخذ بقلوب الناس حتى يكونوا تبعًا له، ثم يغزوكم في بلادكم. فقال اللعين عمرو بن هشام بن المغيرة المعروف بأبي جهل: الرأي عندي الذي لا رأي غيره: أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش شابًّا، وتعطوه سيفًا صارمًا، فيأتيه ذلك الشباب من جميع قبائل قريش فيبتدرونه فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في قبائل

قريش، ولا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدرون على محاربة جميع قريش، فعند ذلك سيرضون بالدِّية، فإذا رضوا بديته دفعنا لهم عقله واسترحنا منه. فقال ذلك اللعين: هذا هو الرأي الذي لا رأي غيره، أما هذا الفتى فهو أجودكم رأيًا. وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} أي: بالسجن وقفل الأبواب عليك {أَوْ يُخْرِجُوكَ} إلى غير مكة من البلاد {أَوْ يَقْتُلُوكَ} قتلة رجل واحد حتى يتفرق دمك في قبائل قريش. {وَيَمْكُرُونَ} هذا المكر ليوصلوا إليك الشر في خفية. {وَاللَّهُ} جل وعلا {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: الآية 30]- مكر لك بهم، وأخرجك، ونجاك، وأظفرك بهم يوم بدر حتى قتلتهم وأسرتهم، هذا مكرهم وهذا مكر الله. ولما أجمعوا على هذا الرأي، واتفقت عليه كلمة الجميع، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بجميع ما قالوا، وقال له: «لا تَبِت الليلة في موضع مبيتك» فنادى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأمره أن ينام في المحل الذي كان ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج رسول الله، وقريش محدقون بمنزله، ينتظرون أن يخرج فيقتلوه القتلة التي أشار عليهم بها أبو جهل وإبليس، فأعمى الله عيونهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ أوائل سورة (يس) وفي يده تراب، فَذَرَّ التراب على رؤوسهم ويقرأ إلى قوله: {فَأَغْشينَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (¬1) [يس: الآية 9] وأذن له في ذلك الوقت في الهجرة ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (5/ 389)، الطبقات لابن سعد (1/ 153)، تاريخ الطبري (2/ 242)، تفسير الطبري (13/ 294، 498)، السيرة لابن هشام ص502.

فخرج هو وصاحبه إلى الغار، فانتظرت قريش حتى الصبح، فوثبوا عليه ليقتلوه، فوجدوا المكان فيه علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! فاقتصوا أثره حتى جاءوا الجبل الذي فيه الغار فخفي عليهم أثره، وجاءوا الغار، قال بعض علماء السير: فوجدوا على الغار نسج العنكبوت (¬1)، فقالوا: لو دخل هنا لما كان على الغار نسج العنكبوت، ومكث هو وصاحبه في الغار ثلاث ليال -كما قاله بعضهم- واتفقوا مع عبد الله بن الأريقط من بني دئل من كنانة، وأعطوه مراكبهم، وجاءهم في الوعد؛ لأنهم في ذلك الوقت محتاجون إلى دليل خبير بالأرض فيما بين مكة والمدينة؛ لأن الطرق السابلة المعروفة عليها العيون والرصد؛ لأن قريشًا جعلت الجعائل والأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، فصار يحتاج إلى أن يمشي في طرق غير معهودة، وسبل غير معروفة، فآجر لذلك عبد الله بن الأريقط الدئلي، فلما كان بالموعد وأيس قريش من أن يجدوه ورجعوا جاءه فركبوا، وأخذ بهم طرقًا غير الطرق المعهودة فلم يطلع عليهم أحدٌ من العرب، حتى مروا ببلاد بني مدلج بن بكر بن كنانة، ذكرهم أحد فقال: أخاف أن يكون هو الرجل الذي يطلبه قريش. فقال له سراقة بن مالك بن جعشم (رضي الله عنه): ¬

(¬1) قصة نسج العنكبوت هذه أخرجها أحمد (1/ 348)، وعبد الرزاق (5/ 389)، وابن سعد (1/ 154)، وابن جرير في التفسير (13/ 497). وقد حسنها الحافظان: ابن كثير وابن حجر. انظر: البداية والنهاية (3/ 181) وقال: «هذا إسناد حسن، وهو من أجود ما رُوي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار» اهـ. يعني إسناد الإمام أحمد. وانظر الفتح (7/ 236)، أحاديث الهجرة ص138 - 140 ..

ليس هو. يريد أن يستأثر بأخذه؛ ليأخذ المال من قريش، فركب على فرسه في أثرهم، وقصته مشهورة، وعلماء التاريخ يقولون: إن فرسه ساخت به في الأرض، وكاد أن تبتلعه الأرض مرات، وأنه طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له أمانًا (¬1) ورجع خائبًا لم ينل النبيَ صلى الله عليه وسلم بسوء. وسافر في الهجرة، ومر في سفره هذا بالجحفة، ونزلت عليه في الطريق في الجحفة آية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬2) [القصص: الآية 85] حتى جاء الأنصار (رضي الله عنهم). وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: الآية 30]. وفي قصة الهجرة هذا دليل يبين للناس ويوضح لهم حقيقة أمر ضل فيه الآن أكثر الناس؛ لأن غالب الناس الآن -وإنا لله وإنا إليه راجعون- اجترفتهم التيارات، فذهبوا يقلدون كل ناعق من كفرة الإفرنج وملاحدتهم؛ لأنهم رأوا عندهم بعض القوة المادية وبعض الصنائع، ولو كانوا يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون كيف كان يفعل لعرفوا ما يأخذون من ذلك وما يتركون؛ لأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا من الكفار ما ينفعهم من علوم الكفار الدنيوية، وألاّ يتبعوهم في شيء مما يمس دينهم وطاعة ربهم -جل وعلا- وهذا ¬

(¬1) البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، حديث رقم: (3652) (7/ 8)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديثين رقم: (3906، 3908)، ومسلم في الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة، حديث رقم: (2009) (4/ 2309)، كما أخرجه في موضع آخر قبله (3/ 1592). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك مرسلاً (9/ 3026)، وانظر ابن كثير (3/ 402 - 403).

النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تكالبت عليه قوى الشر، واتفق الكفار وشيخهم إبليس على أن يمكروا به، واضطر إلى خبير له خبرة بالأرض، ووجد رجلاً كافرًا هو عبد الله بن الأُريقط لم يمنعه كفره من أن يستفيد من خبرته الدنيوية، فاستفاد من خبرته حتى أوصله المدينة بسلام، ومع ذلك لم يأخذ عنه من الكفر شيئًا، بل هو مرضٍ ربه. فعلى المسلمين أن يعتبروا بأمثال هذا، وينتفعوا من الكفار بخبرتهم الدنيوية، ولا يتبعوهم فيما يضر دينهم ويسخط ربهم. وأمثال هذا كثيرة، وسنضرب لكم بعض الأمثلة منها: من ذلك ما يأتي في تفسير سورة الأحزاب من تفاصيل وقعة الخندق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يذكره الأخباريون لما سمع بمقدم أهل الأحزاب قال له سلمان الفارسي: كنّا إذا خفنا خَنْدَقْنَا (¬1). والخندق هذا هو خطة عسكرية ابتدعتها أفكار الفرس، وهم قوم يعبدون النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعلمه ومعرفته بالخير والشر لم يمنعه من هذه الخطة العسكرية أن الذين اخترعوها كفرة، بل انتفع بعلم الكفرة الدنيوي وخَنْدَق، مع أنه لا يقلدهم في شيء يضر بدينه صلوات الله وسلامه عليه. ومن أمثلة ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هَمَّ أن يمنع وطء النساء المراضع؛ لأن العرب كانوا يزعمون أن الرجل إذا أتى امرأته في رضاعها أن ذلك يُضعف ولدها، ويضعف عظمه، وكانوا إذا ضرب الرجل ونبا سيفه عن الضريبة ولم يقطع قالوا: هذا وُطئت أمه وهو يرضع؛ لأن الغيلة تضعف الرجال، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

وكان شاعرهم يقول (¬1): فَوارسُ لم يُغالُوا في رَضَاعٍ ... فَتَنْبُو في أكُفِّهم السُّيُوفُ فأخبرته فارس والروم أنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم (¬2). فأخذ هذه الخطة الطبية من فارس والروم وهم كفرة، وأخذ تلك الخطة العسكرية من الفرس وهم كفرة، وانتفع بخبرة ذلك الخبير الكافر وهو كافر. وهذا يعلمنا أن نفرق بين حضارة الإفرنج -عليهم لعائن الله- ونفصل بين ضارها ونافعها، فننتفع بنافعها وهو منافعها الدنيوية، ونجتنب سمومها الفتاكة القاتلة، وهي ما تدعو إليه من سوء الأخلاق وضياع كل قيمة، والتمرد على خالق السماوات والأرض (جل وعلا). ففيها ماء زلال وسُمٌّ قاتل، فعلينا أن نجتنب السم، ونأخذ الماء الزلال كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل كما مثلنا له (¬3). ومن المؤسف كل المؤسف أن الذين صار عندهم شيء من هذه القشور التي يعبرون عنها بالتقدم والحضارة وأمثال ذلك لا يأخذون عن الكفار إلا السم القاتل الفتاك، من الانحلال الخلقي، وضياع الأخلاق، والتمرد على نظام السماء، ومجاهرة رب العالمين بالمعاصي، والتزهيد في القرآن وفي الرسل، في الوقت الذي لا ينتفعون من مائها الزلال وقوتها المادية شيئًا!! فإنا لله وإنا إليه راجعون من عاقل يأخذ السم ويترك الماء، فهذا من طمس البصائر ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم تخريجه في الموضع السابق. (¬3) السابق.

لا يعلمه إلا من رآه؛ ولذا قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: الآية 30] مكرهم: هو ما أرادوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أجمعوا عليه، وتفرّق دمه في قبائل قريش. ومكر الله: هو أن نَجَّاهُ مِنْهُمْ، وأنْقَذَهُ منهم، وأدْخَله في الغار لحكمة يعلمها (جل وعلا) مع أنه قادر على أن يهلكهم بالجنود، ومع أنه مختفٍ منهم في الغار، فجنود السماء حوله تحوطه لا يقدر أحدٌ أن يأتيه، كما سيأتي في براءة في قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: الآية 40] تلك الجنود يعلمها الله ويراها، والناس لا يرونها، فالكفار لا يقدرون على شيء معها، ولكن الله أمره بهذه الأسباب، مع أن جنود الملائكة تحوطه لحكمة يعلمها هو (جل وعلا)، وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ} جل وعلا {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} لأن مكره بالغ من الجمال ما لا يخفى؛ لأنه لا يوصل الشر فيه إلا لمن يستحق الشر، ولا يدفع الشر فيه إلا عمن هو أهل أن يدفع عنه الشر كما لا يخفى. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)} [الأنفال: الآية 31]. قال بعض العلماء (¬1): نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، كان ذهب في تجارته إلى بلاد فارس، وجاء الحيرة ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 503)، تفسير ابن أبي حاتم (5/ 1689). ابن كثير (2/ 304).

وغيرها، واشترى كتبًا وفيها تاريخ رستم وإسفنديار، وكان إذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويقص فيه أخبار الأمم الماضية. جلس هو يقرأ عليهم من تلك الأساطير من أخبار رستم وإسفنديار ويقول لهم: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد. وقال بعض العلماء: إن قريشًا كذبوا فقالوا: نحن نقدر على أن نتكلم بمثل هذا القرآن، وهذا معنى قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} [الأنفال: الآية 31] سمعنا هذا الذي يتلوه لو نشاء معارضته بمثله لقلنا مثله، وقدرنا على الإتيان بمثله، وهذا كذب محض منهم، سواء قلنا: إن قائله النضر بن الحارث، وأنه يعارضه بأساطير الأولين مما أتى به من تاريخ فارس، أو قلنا: إنه قاله غيره من قريش، ومعلوم أن القرآن العظيم لا يقدر أحدٌ أن يأتي بمثله، وأن هذه الدعوى كاذبة، وأن صاحبها من أظلم الظالمين كما قدمنا إيضاحه في سورة الأنعام في تفسير قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} [الأنعام: الآية 93] أي: لا أحد أظلم من هذا ولا هذا. فقد ذكرنا مرارًا أن الله تبارك وتعالى تحدى الكفار بسورة من هذا القرآن العظيم، في سورة واحدة، في سورة البقرة وسورة يونس، قال في سورة البقرة: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: الآية 23] ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} [البقرة: الآية 24] فصرّح بأنهم لن يفعلوا أبدًا ولا يقدرون أبدًا، وتحداهم بسورة واحدة أيضًا في سورة يونس في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: الآية 38] وتحداهم في سورة هود

بعشر سور، قال في هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: الآية 13] ثم أوضح عجزهم وأنه منزل من رب العالمين حيث قال: {فَإلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [هود: الآية 14] ثم تحداهم في سورة الطور بالقرآن كله، وذلك في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34)} [بالطور: الآية 34]. ثم صرّح في سورة بني إسرائيل وهي سورة (سبحان الذي أسرى) أن جميع البشر من الإنس والجن لا يقدرون على معارضة هذا القرآن، ولا الإتيان بمثله حيث قال: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: الآية 88] وبذلك يُعلم كذب النضر بن الحارث وغيره من قريش في قوله: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا} [الأنفال: الآية 31] مفعول (نشاء) محذوف- لو شئنا قولاً مثل هذا لقلناه. وقد قدمنا مرارًا (¬1) أن فعل المشيئة إذا عُلق بأداة الشرط يُحذف مفعوله؛ لأن جزاء الشرط يكفي عنه، وهو الغالب في القرآن وفي لغة العرب، وربما ذكر المفعول في القرآن، ولم أجده مذكورًا في كتاب الله إلا إن كان مصدرًا منسبكًا من (أن) وصلتها، كقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَتَّخَذْنَاهُ} [الأنبياء: الآية 17] {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: الآية 4] وربما ذُكر مثل هذا في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ ... عَلَيْك وَلَكِنْ سَاحة الصَّبرِ أوسَعُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام .. (¬2) السابق.

وهذا معنى قوله: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} (إن) هذه هي النافية، والإشارة في (هذا) إلى القرآن المعبَّر عنه بالآيات التي تتلى في قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي: تُلي عليهم هذا القرآن قالوا: كذا وكذا، وقالوا: {إِنْ هَذَا} ما هذا القرآن المعبَّر عنه بالآيات التي تتلى {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} الأساطير: جمع أسطورة أو إسطارة، وهي ما كتبته الأمم الماضية من تاريخ ونحوه (¬1)، كما كان النضر بن الحارث يأتي بالأساطير التي كانت مكتوبة عن فارس، وهذا معنى قولهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال: الآية 31] يزعمون أن النبي استملاها من غيره، فأملاها عليه غيره فكتبها، كما قال في سورة الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)} [الفرقان: الآية 5] قبحهم الله، ما أوضح كذبهم! وهذا معنى قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال: الآية 31]. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآيتان 32، 33] ثبت في صحيح مسلم والبخاري من حديث أنس بن مالك أن قائل هذه المقالة: أبو جهل -لعنه الله- عمرو بن هشام بن المغيرة (¬2). والأكثرون من المفسرين ¬

(¬1) انظر: المفردات للراغب (مادة: سطر) ص409، المعجم الوسيط (مادة: سطر) (1/ 429). (¬2) البخاري في التفسير، باب: {وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} حديث رقم: (4648) (8/ 308). ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. حديث رقم: (2796) (4/ 2154).

يقولون (¬1): إن قائل هذه المقالة: النضر بن الحارث، وهذا الدعاء هو العذاب الأليم المذكور في أول سورة المعارج سورة سأل سائل (¬2) {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} أي: دعا داع {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ} [المعارج: الآيتان 1، 2] قالوا: هو قوله: {اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: الآية 32]. ولن يُعْقَل أحمق من قريش حيث قالوا: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً}. ولو كانوا في مرتبة أدنى العقلاء لقالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه!! زعم بعضهم (¬3): أن يهوديًّا مر بابن عباس وقال له: أنت من قريش؟! قال: نعم. قال: إن قومك من أجهل خلق الله حيث قالوا: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} ولم يقولوا: فاهدنا إليه!! فقال له ابن عباس: وكذلك قومك أنت من أجهل خلق الله فإنهم وأرجلهم بها بلل البحر الذي أنقذهم الله منه وأهلك به عدوهم، قالوا في ذلك الوقت لنبيهم {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فقال نبيهم: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: الآية 138] فسكت ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 505)، ابن كثير (2/ 304). (¬2) النسائي في التفسير (2/ 463)، والحاكم (2/ 502)، وابن أبي حاتم (5/ 1690)، والواحدي في أسباب النزول ص445، وعزاه في الدر (6/ 263) للفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (¬3) نقله القرطبي (7/ 398) مُصَدِّرًا له بقوله: «حُكي عن ابن عباس ... ». ولم يعزه.

اليهودي مفحمًا. وعلى كل حال من يقول مقالة قريش هذا فهو من أجهل خلق الله، وأشدهم تمردًا وعتوًّا على الله. وقوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} ذكروا عن سفيان بن عيينة أنه ما جاء في القرآن العظيم المطر إلا بمعنى العذاب، أما الماء النازل قال: فإن العرب تقول له الغيث (¬1). كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: الآية 28] واستدرك عليه بعض العلماء (¬2)، قال: في سورة النساء كلمة أطلق فيها المطر على النازل من السماء وهي قوله: {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى} [النساء: الآية 102]. ومعنى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً}. معناه: أنزلها من السماء متتابعة كما ينزل المطر، وهي حجارة السجيل التي تنزل من السماء محماة بالنار في غاية الحرارة. والحجارة: جمع حجر، وجمع (فَعَل) على (فِعَالَة) موجود في أوزان قليلة، كحجر وحِجارة، وجَمَل وجِمَالة، وذَكَر وذِكَارَة. وهذا الجمع وجوده قليل، وهو من جموع الكثرة. {مِّنَ السَّمَاءِ} تكون هذه الحجارة نازلة من السماء، وذلك مفهوم من قوله: {فَأَمْطِرْ} إلا أن هذا النوع من التوكيد أسلوب عربي معروف كثير في القرآن وفي كلام ¬

(¬1) أورده البخاري في التفسير، في ترجمة باب {وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ ... } الفتح (8/ 308). (¬2) انظر: فتح الباري (8/ 308)، فقه اللغة للثعالبي ص353، المفردات للراغب ص770، تفسير ابن عاشور (1/ 124).

العرب (¬1)، كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: الآية 38] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه وقوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: الآية 79] ومعلوم أنه لا يكتبونه إلا بأيديهم. {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} [النساء: الآية 10] وهم لا يأكلون إلا في بطونهم. وكذلك قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} قوله: {مِّنَ السَّمَاءِ} مع أنه لا مطر إلا من السماء. وهذا معنى قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قرأه بعضهم بتسهيل الهمزة الثانية، وبعضهم بتحقيقها، وبعضهم بإبدالها ياءً. وكلها قراءات معروفة (¬2). وهذا معنى قوله: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: الآية 32] أي: مؤلم شديد الألم. ثم إن الله قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآية 33] هذه الآية الكريمة تُشكل كثيرًا على العلماء وعلى من يتعاطون التفسير (¬3)، ونحن -إن شاء الله- سنوضح ما فيها من الإشكال حتى يفهمها طالب العلم فهمًا واضحًا، حاصل هذا أنه أولاً جعل لهم أمانين من العذاب: أحد الأمانين: وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهو قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} لأن الله (جل وعلا) لم ينزل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة، والآية (48) من سورة الأنعام، وانظر: الدر المصون (5/ 597). (¬2) مضت عند تفسير الآية (77) من سورة الأعراف. (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 509)، ابن كثير (2/ 305).

العذاب بأمة ونبيها موجود فيها، بل إذا أراد إنزال العذاب بهم أمر نبيهم أن يخرج عنهم فينزل عليهم العذاب بعد أن فارقهم. الأمان الثاني هو المذكور في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. ومع ذكر الأمانين قال بعده: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: آية 34] أيُّ شيء ثبت لهم يمنعهم من التعذيب {وَهُمْ يَصُدُّونَ} الناس {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، ويفعلون ويفعلون؟ فيقول طالب العلم: كيف يقول: إن لهم أمانين ويصرح بأنه لا شيء يمنعهم من العذاب؟ هذا محل الإشكال الذي أشكل على كثير من المنتسبين للعلم. والجواب عن هذا من أربعة أوجه: أحدها: أن المعنى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي المستغفرون. واعلموا أن هذا الاستغفار فيه أقوال معروفة عند العلماء متقاربة لا يكذب بعضها بعضًا، كل واحد منها مروي عن جماعة من السلف من علماء التفسير (¬1)، قال بعض العلماء: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} هذا من إطلاق المجموع مُرادًا به بعضه، وأن المراد بالمستغفرين خصوص المؤمنين المستضعفين. الكائنين بين أظهرهم، ومن أساليب اللغة العربية: إطلاق المجموع مرادًا بعضه (¬2). كما قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: الآية 14] والعاقر واحد، ¬

(¬1) المصدران السابقان. (¬2) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.

كما قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)} [القمر: الآية 29] ومما يوضح هذا قراءة حمزة والكسائي (¬1): {فإن قتلوك فاقتلوهم} [البقرة: الآية 191] بالفعلين من القتل بالفعل المجرد؛ لأن المقتول لا يقتل قاتله، والمعنى: فإن قتلوكم، أُسند الفعل إلى مجموعهم الصادق ببعضهم وهو المقتولين، والمراد بالقتال: الذين بقوا ولم يُقتلوا منهم. وهذا أسلوب عربي معروف، ونظيره في القرآن بأن الله بين في سورة الحديبية أن وجود أولئك المستضعفين كان سببًا مانعًا من نزول العذاب الدنيوي بالكفار، كما سيأتي إيضاحه في تفسير قوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ} إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: الآية 25] {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو يتميز بعضهم عن بعض، فتميز المشركون عن ضعفاء المسلمين الكائنين فيهم لعذبناهم عذابًا شديدًا، فرفع الله عنهم العذاب لوجود ضعفاء المسلمين الكائنين بين أظهرهم. والذين قالوا هذا القول قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي لهم أمان، وهو استغفار المؤمنين الكائنين فيهم، منع الله به أن ينزل العذاب؛ لأنه إذا نزل عَمَّ الصالح والطالح. فبعد ذلك خرج المؤمنون الذين كانوا يستغفرون فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: الآية 34] وقد زال عنهم الأمانان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج المستضعفين الذين كانوا يستغفرون. واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير (رحمه الله) (¬2) أنه جعل لهم أمانين: أحدهما على التعليق، والمعنى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ ¬

(¬1) السابق. (¬2) جامع البيان (13/ 517).

لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآية 33] لو استغفروا. إلا أنك أنت خرجت وهم لم يستغفروا فانتفى الأمانان فحق عليهم العذاب؛ ولذا قال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: الآية 34]. وهذا معنى معروف في كلام العرب؛ لأن المعنى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا، إلا أنهم لم يستغفروا فصار لا مانع من العذاب، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: الآية 117] أي: لو كانوا مصلحين لما نزل بهم العذاب، لكنهم لم يصلحوا فنزل بهم العذاب. وقال بعض العلماء: المستغفرون هم المشركون، وذلك أنهم كانوا إذا لبوا تلبيتهم المعروفة وقالوا: «لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك» ابتهلوا بعد ذلك يستغفرون وقالوا: «غفرانك ربنا، غفرانك ربنا، غفرانك ربنا» قال بعض العلماء: هذا الاستغفار الدنيوي دفع لله عنهم به العذاب. وهذا أضعفها وأبعدها. القول الثاني: أن معنى {يَسْتَغْفِرُونَ}: يتوبون إلى الله من كفرهم ويُسلمون؛ لأن الله علم بأن في أهل مكة وقت قولهم: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: الآية 32] علم بعلمه الأزلي أن فيهم ناسًا وطائفة سينيبون إلى الله ويستغفرونه ويؤمنون بالله كما آمنت خلائق منهم يوم الفتح وناس قبل ذلك. وعلى هذا القول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ} في علمه {يَسْتَغْفِرُونَ} ويتوبون من الكفر إلى الإيمان، فلذلك أخَّر عنهم العذاب.

وعلى هذا القول: فقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} في الذين علم في سابق علمه أنهم لا يسلمون ولا يتوبون، وهم الذين عذبهم الله وقتلهم يوم بدر، وجعل لهم عذاب الآخرة متصلاً بعذاب الدنيا والعياذ بالله. وهذه هي الأوجه في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: الآية 33] {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أيُّ شيء ثبت لهم يمنعهم من تعذيب الله لهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: الآية 34] (يصدون) تستعمل استعمالين (¬1): تستعمل متعدية ولازمة، فإذا استعملت متعدية فمصدرها (الصَّد) على القياس، ومضارعها (يصُد) بضم الصاد لا غير، وإذا استُعملت لازمة فمصدرها (الصدود) على الأغلب، وفعلها المضارع يجوز في عينه الكسر والضم، تقول: صَدَّ زيدٌ عَمْرًا يَصُدُّه صَدًّا، وَيصُد بالضم لا غير، وتقول: صَدَّ زيدٌ عن هذا الأمر إلى غيره، يَصِدُّ ويَصُدُّ صدودًا، وعلى ذلك القراءتان (¬2) في قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: الآية 57] {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ} [الزخرف: الآية 57] والفعل هنا متعدٍّ، والمفعول محذوف، أي: يصدون الناس عن بيت الله الحرام، عن المسجد الحرام، كما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة الحديبية، كما سيأتي في قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: الآية 25] وكما قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة: الآية 2] وإخراجهم ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: صدد) ص477. (¬2) مضت عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة من صدهم عن المسجد الحرام. وهذا معنى قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: الآية 34] وكانت قريش إذا صدوا بعض الناس عن المسجد الحرام قالوا: هذا البيت بيتنا، ونحن أولياؤه، فولايته لنا، فنترك من نشاء، ونصد من نشاء!! فبيّن الله كذبهم فقال: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: الآية 34] ما أولياء هذا البيت ولاية حقيقية إلا الذين يؤمنون بالله ويتقون الله، أما الكفرة الفجرة فليسوا بأوليائه، وإن زعموا أنهم أولياؤه. فهذا معنى قوله: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قال بعض العلماء (¬1): عبر هنا بالأكثر عن الجميع، والعرب تعبر بالأكثر عن الجميع، وبالقلة عن لا شيء، وهو أسلوب معروف. وقال بعض العلماء: الأكثر على ظاهره؛ لأن بعضهم يعلم أن ولاية بيت الله لمن هو مطيع لله لا من هو عاصٍ له. وهذا معنى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأنفال: الآية 34]. [4/أ] / {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} [الأنفال: الآيات 35 - 37]. ¬

(¬1) انظر: المحرر الوجيز (8/ 55)، البحر المحيط (4/ 491)، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام.

يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} [الأنفال: الآية 35]. بَيَّنَ اللهُ (جَلَّ وعلا) في هذه الآية أن كُفَّارَ مَكَّةَ الذين يزعمون أنهم أولياء البيت، ما كانوا يصلون عنده، ولا يعبدون الله عنده، يعني: ليس لهم من الصلاة فيه إلا شيء هو بعيد كل البعد عن الصلاة، يعني: ما كان صلاتهم عند البيت الذي هو أول بيت وضعه الله للناس ما كانت صلاتهم عنده إلا مكاء وتصدية والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في معنى المكاء والتصدية (¬1): أن المكاء هو: الصفير، والتصدية هي: التصفيق. كانت قريش يجتمعون ويطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون، يزعمون أن هذا التصفير والتصفيق والعري عند بيت الله أنه عبادة، ومن أغراضهم بالتصفير والتصفيق: ألاّ يسمع الناس ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التصفيق والتصفير أصله من إلغائهم ليمنعوا من سمع القرآن، الآتي في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: الآية 26]. العرب تقول: مَكَا، يَمْكُو، مَكْوًا، ومُكًا، ومُكَاءً، إذا: صفر. والصفير: هو الصوت الذي يخرجه الإنسان من فيه، المعروف، وهذا معنى معروف في كلام العرب، يُسمون التصفير: المكاء. وقد أطلقه عنترة في معلقته على صوت الطعنة العظيمة يشخب منها الدم ويُسمع لها صوت كالصفير في قوله (¬2): وَحَلِيل غَانيةٍ تركت مُجَدِّلاً ... تَمكُو فريصتُه كَشِدْق الأعْلَمِ قال بعض العلماء: أصله كصوت المُكَّاء. والمُكَّاء: طائر ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 521)، ابن كثير (2/ 306)، الأضواء (2/ 351). (¬2) ديوانه ص123.

أبيض معروف يصوّت تصويتًا كالصفير، وهذا الطائر معروف في كلام العرب، وفيه يقول الشنفرى (¬1): ولا خَرِقٍ هَيْقٍ كَأَنَّ فُؤَادَهُ ... يَظَلُّ بِهِ المُكَّاءُ يَعْفُو وَيَسْفُلُ وقال بعضهم (¬2): إذا غَرَّدَ المُكَّاء في غَيْرِ رَوْضَةٍ ... فَوَيلٌ لأهْلِ الشَّاءِ والحُمُراتِ وقوله: {وَتَصْدِيَةً} التحقيق أنه مصدر (صدَّى، يُصدِّي، تصدية) إذا صفَّق. لأن التصفيق يرتفع به صدى الصوت، هذا هو الصحيح في المعنى خلافًا لمن قال: إن أصله: تَصْدِيدَة أُبْدلت الدال الأخيرة ياء، وأنها (تَفْعِلَة) من الصَّد؛ لأنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام (¬3). والأول هو الصحيح. والمعنى: أن هؤلاء الكفار الذين يزعمون أنهم أولياء البيت الحرام كيف يكونون أولياءه، وكيف يمتنعون من نزول العذاب ولا صلاة لهم عند البيت إلا الصفير والتصفيق؟ هذه صلاتهم عند البيت!! وإذا كانوا لا صلاة لهم عند البيت إلا الصفير والتصفيق فمعنى ذلك أنهم لا صلاة لهم أصلاً عنده ألبتة. وهذا أسلوب عربي معروف، تقول العرب: «لا له كذا إلا كذا» ويكون ذلك بعيدًا منه، فيدل على الانتفاء المطلق، وهذا ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص57. (¬2) البيت في القرطبي (7/ 400)، الدر المصون (5/ 600). (¬3) قال في الدر المصون (5/ 601) ما ملخصه: والتصدية فيها قولان: أحدهما: أنها من الصَّدى، وهو ما يُسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة. يُقال منه: صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة. وقيل: هي مأخوذة من التَّصْدِدَة وهي الضجيج والصياح والصفيق، فأُبدلت إحدى الدالين ياءً تخفيفًا. والثاني: أنه من الصَّد، وهو المنع، والأصل: (تَصْدِدَة).

أسلوب عربي معروف يكثر في القرآن وفي كلام العرب، قال تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: الآية 29] إن كانوا لا يُغاثون إلا بهذا الماء الذي يشوي الوجوه فلا إغاثة لهم أبدًا، وهذا كثير في كلام العرب، ومنه قول بشر بن أبي حازم (¬1): غَضِبَتْ تَميمٌ أن تُقتَّل عامرٌ ... يَوْمَ النسار فأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ معناه: أُرضوا بالسيف، فإن كانوا لا عُتْبَى لهم ولا رضا إلا السيف معناه: لا عُتْبى ولا رضًا لهم أصلاً، ومنه قول الآخر يصف ناقته (¬2): شَجْعَاءَ جرتها الذميل تلوكُه ... أصلاً إذا راح المطي غراثا يقول: إن ناقته ليس لها من الجِرَّة إلا الذميل. والذميل: ضرب من السَّيْر. والجِرَّة: هي أن الناقة -مثلاً- في النهار تأكل المرعى، فإذا كان الليل أخرجت ما في بطنها فمضغته لترققه، يعني: إن كانت لا جرة لها إلا جرر المشي فلا مأكل لها ولا جرة. وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب، وهذا معنى قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} أيها الكفرة الزاعمون كذبًا أنكم أولياء البيت وأنكم قُطَّان بيت الله الحرام، وأنكم أهدى من محمد صلى الله عليه وسلم {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الباء سببية، و (ما) مصدرية، أي: بسبب كفركم. وهذه الآية الكريمة تدل على أن التصفيق والتصفير ليسا من العبادة في شيء، وبه يُعلم أن ما يفعله كثير من الجهلة المدعين ¬

(¬1) البيت في الدر المصون (9/ 56). (¬2) البيت لأبي تمام، وهو في ديوانه ص66.

للتصوف كذبًا من الرقص والتصفيق والصراخ، زاعمين أنه عبادة أن ذلك من الخذلان وتلبيس الشيطان، وأن ذلك لا يكون عبادة أبدًا، بل أول من رقص وصفق في شيء يظنه عبادة هم عبدة العجل، وكان ذلك من أفعال الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في مجالسهم كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا رأيتم الذين يصفقون ويضربون بالمعازف، ويزعمون أن هذا دين وأحوال ووجدان، فهو غرور من الشيطان، فلا ينبغي أن يُغترَّ بهم، كما ظن قريش أن مكاءهم وتصديتهم عند بيت الله الحرام عبادة، فقد وبخهم الله على ذلك في قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} [الأنفال: الآية 35]. ثم قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: الآية 36] قال بعض العلماء (¬1): نزلت هذه الآية في المطعمين في بدر الذين ينحرون عشرًا أو تسعًا، وقد ذكرناهم في ذكرنا لهذه الغزوة (¬2)، وبينّا أن المؤرخين يقولون: إن أول من نحر لهم: أبو جهل عشرًا من الإبل، ثم نحر لهم أمية بن خلف تسعًا بعسفان، ثم نحر لهم سهيل بن عمرو عشرًا بقديد، ثم ذهبوا إلى المياه من ناحية الساحل، وأقاموا هناك يومًا، فنحر لهم شيبة بن أبي ربيعة (¬3) ذلك القدر من الإبل، ثم أصبحوا بالجحفة، فنحر لهم أخوه عتبة، ثم ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 492). (¬2) مضى عند تفسير الآية (5) من سورة الأنفال. (¬3) هكذا في الأصل، والصواب: ابن ربيعة.

أصبحوا بالأبواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان المشهوران الذين هم ممن قُتلوا يوم بدر، ثم نحر لهم العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، ونحر لهم أبو البختري بن هشام عشرًا على ماء بدر، فهذه الإبل التي ينحرون ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله. وقال بعض العلماء (¬1): نزلت في أبي سفيان بن حرب، أنفق أربعين أوقية على جماعة من الأحابيش -والأحابيش: جمع أُحبوش، وهم جماعة متجمعون ساكنون في ظواهر مكة، أنفق عليهم- أربعين أُوقية ليذهب معه جماعة منهم إلى أُحُد. والذي عليه جمهور العلماء من المفسرين وأصحاب المغازي والتاريخ: أن هذه الآية من سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 36] نزلت في قضية قريش مع عير أبي سفيان؛ لأن عير أبي سفيان لما نجت وقُتل من قُتل من أشرافهم يوم بدر اجتمع أشراف قريش وطلبوا كل من كانت له تجارة في تلك العير أن يمنحهم ذلك المال ليستعينوا به ويستعدوا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم طالبين منهم إدراك الثأر، فكانت إمكانيات أُحد هي من أموال تجارات تلك العير، وأن ذلك هو معنى إنفاقهم ليصدوا عن سبيل الله. هذا هو الأصوب إن شاء الله، وعليه جماهير العلماء. {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} كإنفاقهم أرباح تجارة عير أبي سفيان ليحاربوا بها النبي صلى الله عليه وسلم، ليصدوا الناس عن سبيل الله، في زعمهم أنهم يأخذون ثأرهم من محمد صلى الله عليه وسلم فَيُضْعِفُون الإسلام ويُقَوُّون الكفر. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 529)، ابن كثير (2/ 307).

هذا معنى صدهم عن سبيل الله. وقد قدمنا مرارًا (¬1) أن لفظة (صد) تستعملها العرب استعمالين، تستعملها (صد) متعدية إلى المفعول ومضارع هذه (يصُد) بالضم على القياس لا غير، ويستعملون (صد) لازمة لا متعدية، ومضارع هذه فيه الضم والكسر، ومصدرها (الصدود)، تقول: «صد زيدٌ عَمْرًا، يصُده صَدًّا، وصد عمرو عن هذا الأمر، يَصِد ويصُد صدودًا». هذا معروف في كلام العرب، ومن اللازمة ولُغَتَيْها: القراءتان (¬2) في قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ} [الزخرف: الآية 57] وهذه متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه، وحذف الفضلة إذا دل الدليل عليها مطرد شائع في القرآن وفي كلام العرب، أي: ليصدوا الناس عن سبيل الله، لإضعاف الإسلام في زعمهم وقوة شوكة الكفر، حتى يسيطر على الناس فلا يتركهم يسلمون. هذا معنى قوله: {لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}. {فَسَيُنفِقُونَهَا} كأنه قال: إن الذين أرادوا ذلك سيفعلونه وينفذونه، ثم تكون العاقبة وخيمة {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} الحسرة: أشد الندامة، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} [البقرة: الآية 167] أي: ندامات شديدة {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: الآية 30] أي: يا ندامتهم احضري فهذا وقتك، وهذا معنى قوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي: ندامة شديدة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف. (¬2) مضت عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

حيث أضاعوها ولم تُجْدِ عنهم شيئًا، بل كانت الدائرة منتهاها عليهم، والغلبة عليهم، وهذا معنى قوله: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: الآية 36] ثم يكون المآل أن يُغلبوا ويُقهروا كما كان المآل أن قُتل هؤلاء وفُتحت مكة يوم فتح مكة، وصاروا الطلقاء، وضاعت تلك الأموال، ولم تُجْدِ عنهم شيئًا، ولم تغن لهم شيئًا. وهذه الآية الكريمة أشارت إلى ركنٍ من ركني ما يسمى (الاقتصاد)؛ لأن القرآن العظيم تنزيل رب العالمين، يوضح الله به أصول جميع الأشياء التي يحتاج لها البشر، والنبي صلى الله عليه وسلم يبسط ذلك ويبينه، وهذا الذي يعبر الناس عنه اليوم في عرفهم بـ (الاقتصاد)، أشارت هذه الآية الكريمة إلى أحد ركنيه، وإيضاح ذلك أن ما يسمى بـ (الاقتصاد) أن جميع مسائله المتشعبة راجعة في الحقيقة إلى أصلين لا ثالث لهما: أحد هذين الأصلين: هو حسن النظر في اكتساب المال، ومعرفة الوجوه التي يحصل بها ذلك. والثاني منهما: حسن النظر في صرف المال في مصارفه، ولا بد لأحدهما من الآخر، فالاقتصاد إذن عمل مزدوج لا يصح أحد ركنيه دون الآخر؛ لأن الذي لا يقدر على اكتساب المال، ولا يعرف الطرق التي يكتسبه بها لا يكون صاحب اقتصاد، وكذلك الذي يعرف طرقه وهو ماهر في تحصيله، إذا كان لا يعرف صرفه بالحكمة فإنه لا يجديه شيئًا؛ لأن الإناء المخروق لو جعلت فيه البحر لما ملأه، فلا بد من حسن النظر في الاكتساب أولاً، ثم حسن النظر في الصرف ثانيًا. وهذه الآية الكريمة من سورة الأنفال أشارت إلى أحد الركنين،

وهو حسن النظر في الصرف في المصرف؛ لأن الصنيعة إذا لم تطابق مصرفها فلا فائدة فيها: إن الصَّنيعة لا تُعَدّ صنيعةً ... حتى يُصَاب بها طريق المَصْنَعِ (¬1) والبذل فيما لا يجدي ليس من الاقتصاد في شيء، وإنما هو تبذير، وقد ذم بعض الأدباء من يعطي ويمنع غير مركز ذلك على الحكمة فقال (¬2): لا تَمْدَحَنَّ ابنَ عباد وإن هَطَلتْ ... يداهُ كالمُزنِ حتى تُخْجِل الدِّيَما ... فإنها فلتات من وسَاوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما فقوله في هذه الآية: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [لأنفال: الآية 36] بينت أن الصرف فيما لا يرضي الله أنه ندامة وحسرة، وأنه إخلال بأحد ركني الاقتصاد، فلا بد أن يكون الصرف واقعًا موقعه فيما يرضي من خلق هذا الكون. وهذا الأمر - الذي هو الاقتصاد - أمر عظيم؛ لأن المال شريان الحياة، ولا سيما في هذا الزمن التي كانت طرق الاقتصاد إنما مهّدها ومهد جميع الطرق إلى اكتساب الأموال كائنة ما كانت، مهدها كفرة فجرة لا يدينون لله، ولا يأتمرون بأمره، فجعلوا أسسها مبنية على الربا وعلى الحرام، وعلى الغرر وعلى جميع المعاملات التي لا ترضي الله، ومع الأسف كان المتسمون باسم الإسلام ذَنَبًا ¬

(¬1) البيت في تاريخ دمشق (27/ 294)، الكامل ص179 وذكره الشيخ (رحمه الله) في الأصول (1/ 47) وهو لعيسى بن يزيد البجلي، أو للهذيل الأشجعي. (¬2) البيتان لدعبل بن علي الخزاعي، وهما في ديوانه ص170.

لهم يرتكبون المحرمات في تلك المعاملات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونحن نلم بشيء قد دلت عليه هذه الآية كأصول لهذا الأمر المهم؛ لأن هذه الآية والآيات غيرها من كتاب الله دلت على أن له أربعة أمور، إذا نظر الناس فيها وأتقنوها كان اقتصادهم على الوجه المطلوب؛ لأنا ذكرنا الآن أن جميع مسائل الاقتصاد وإن تشتتت وتشعبت راجعة في الحقيقة إلى أصلين لا ثالث لهما، هما: حسن النظر في اكتساب المال، وحسن النظر بعد أن يحصل المال في صرفه في مصارفه. وهذان الركنان لا بد لكل منهما من نظرتين مختلفتين، فتكون أربعًا من ضرب اثنين في اثنين، والنظرتان المختلفتان لا بد منهما لكل من الركنين. أما أحدهما: فهو معرفة حكم الله (جل وعلا) في نوع ذلك الاكتساب، وفي نوع ذلك الصرف؛ لأن الله (جل وعلا) خلق الإنسان محتاجًا للنساء، ومفتقرًا للغذاء، وخلق له ما في الأرض جميعًا، ولم يتركه سدىً يتصرف فيه باختياره، بل التصرف لا بد أن يكون بإذن مالك الملك، خالق هذا الكون (جل وعلا)، فالنظرة الأولى إذا أردت أن تكتسب مالاً بوجه من أوجه الاكتساب، أو تصرف مالاً في وجه من أوجه الصرف أن تعرض هذا الاكتساب أو هذا الصرف على ضوء هذا المحكم المنزل، ونور هذا الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فتنظر أيجيزه أو يمنعه؟ فإن عرفت أنه يمنعه تركته؛ لأن خالق هذا الكون المشرع لهم ما جعل عليهم تضييقًا في التشريع، وما شرع لهم إلا ما فيه السعة الكاملة لهم تكفيهم كل مهماتهم، وإذا نظرت في حكم الله، في طرق الاكتساب، وفي حكم الله في صرف المال؛ لأن

بعض المصارف التي يصرف فيها المال قد تكون على صاحبها حسرة ثم يغلب، كما قال هنا: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: الآية 36] وبهذه النظرة أن تنظر في وجه اكتساب المال وفي وجه صرفه في مصرفه إذا عرضتها على ضوء القرآن، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كفاك هذا من الفِكَر الهدامة، والمذاهب المفقرة الخسيسة -عليها وعلى من جاء بها لعائن الله- كنظرة الماركسيين، واللينيّين، وأتباعهم -دمرهم الله جميعًا- فإن هذا إذا عرضته على كتاب الله وجدت ذلك الذي يدعون إليه ويبنون عليه نحلتهم لا يجيزه الله ولا يرضاه، فاكتفيت شره بالكلية. ثم بعد ذلك إذا عرضت وجه الاكتساب ووجه الصرف على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه جائز؛ فالنظرة الثانية: هي تحقيق المناط وتطبيق هذا، فقد يكون هذا الوجه الاكتساب به حلالاً إلا أنه ما كل الناس يقدر على تحصيل هذا الوجه والاكتساب بهذه الطريق، فيُنظر له من يعرف ذلك بالخبرة الدنيوية ليقدر على تحصيل المال به في ضوء الشرع الكريم، وكذلك الصرف في المصارف يحتاج إلى من يقدر عليه؛ لأن بعض المصارف لا يقدر كل الناس أن يقوم به، ولا سيما ما يسمونه (المشاريع العامة) فإنه ما كل الناس يقدر على تنفيذها، فإن المشروع العام الذي عُرف أن الشرع يجيزه، وأن فيه مصلحة لجميع المسلمين، وأن ولي أمر المسلمين إذا بذل فيه من مال المسلمين كان ذلك البذل جائزًا، لعظم المصلحة العائدة لعامة المسلمين منه، فإنه يحتاج إلى خبراء دنيويين يعرفون كيف ينفذون ذلك الصرف على الوجه المطلوب.

فهذه الأركان الأربعة أشارت إليها هذه الآية، وهي أصول الاقتصاد، ولو وفق الله المسلمين ونظروا في أصول الاقتصاد، وما جاء به من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأمكنهم استغلال ثرواتهم، والانتفاع بها في ضوء كتاب الله على طريق يغمرهم فيها المال، ولا يزاولون ما يسخط ربهم (جل وعلا)؛ لذا قال تعالى: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}. ثم قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: الآية 36]، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ} [الأنفال: الآية 36] ومن جملتهم: الذين ينفقون المال ليصدوا بإنفاقه عن سبيل الله {إِلَى جَهَنَّمَ} أي: إلى النار، كما قال (جل وعلا)، في أصحاب جهنم: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44)} [الحجر: الآية 44] والعياذ بالله {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يُجمعون يوم القيامة، وقد بين الله كيفية جمعهم إليها في آيات كثيرة من كتابه، كما قال: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم: الآية 86] وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} الآية [الزمر: الآية 71] وهذا معنى قوله: {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} وتقديم المعمول الذي هو الجار والمجرور يؤذن بالحصر؛ أي: لا يحشرون إلى شيء غير النار والعياذ بالله جل وعلا. وقوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: الآية 37] قال بعض العلماء (¬1): اللام في قوله {لِيَمِيزَ} تتعلق بقوله: ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 493).

{إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: الآية 36]. قرأه حمزة والكسائي: {ليُمَيِّزَ الله الخبيث من الطيب} وقرأ باقي السبعة: {لِيَمِيزَ} بفتح الياء وكسر الميم (¬1). كما أن حمزة والكسائي قرءا: {وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: الآية 35] بإشمام الصاد الزاي (¬2). وقرأ غيرهم من السبعة: {وَتَصْدِيَةً} بالصاد الخالصة غير المشمة بالزاي. وهذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} حشرهم الله إلى جهنم ليميز بذلك - يزيِّل ويفرق - بين الخبيث والطيب، فالخبيث أهل النار، والطيب أهل الجنة، فالله حشر هؤلاء إلى شر دار، وحشر هؤلاء إلى خير دار ليميز ويفرق ويُزيّل بين الخبيث والطيب، وعلى هذا القول فالمَيْزُ بينهم في الآخرة، وقال بعض العلماء (¬3): هي تتعلق بقوله: {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 36] يعني: أقدر الله الكفار على عداوة الإسلام والصد عنه ومحاربته ليُميز للناس ويبين لهم الخبيث من الطيب. وهذا التفسير مثله قد جاء موضحًا في سورة آل عمران، حيث قال الله جل وعلا: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: الآية 179] إلى آخر القصة. وهذا معنى قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي: يجعل كل واحد منهما متميزًا عن الآخر، منفصلاً عنه لا لبس بينهما، ¬

(¬1) انظر: الإتحاف ص (2/ 79). (¬2) السابق. (¬3) انظر: ابن كثير (2/ 307).

{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ} وهو الكفار، الكفر وأهله. قال بعضهم: ويدخل فيه المال المنفق ليصد به عن سبيل الله. وعلى هذا القول فالمال الذي ينفقه الإنسان ليصد به عن سبيل الله، يركم معه في النار، كما قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: الآيتان 34 - 35] فصرح في هذه الآية من براءة أن ذلك الذهب والفضة الذي كانوا يكتنِزونه يدخل معهم في النار ويكوون به فيها، فهذا يشابه هذا التفسير الذي قال: إن المال الخبيث الذي صرفه صاحبه في الدنيا للصد عن سبيل الله أنه يركم معه في جهنم، فيعذب به، وقد ثبتت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أن الذي كانت عنده ماشية ولا يزكيها تُجعل لها في ضحضاح من جهنم، فتدوسه بأرجلها (¬1) (والعياذ بالله)، هذا معنى قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ} من أهل الكفر وما كانوا ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله {بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا}، العرب تقول: ركمه يركمه، إذا جعله ركامًا متراكمًا، أي: يركب بعضه بعضًا، ويعلو بعضه بعضًا، كما في قوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: الآية 43] فيجعله كله في النار {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} هؤلاء الذين يُجمعون كلهم فيركمون في جهنم موصوفون بصفة الخبث هم الخاسرون الذين غُبنوا في حظوظهم من ربهم (جل وعلا)، وخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين. ¬

(¬1) مسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة. حديث رقم: (987) (2/ 680).

{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: الآيات 38 - 40]. {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ (38)} [الأنفال: الآية 38]. لمّا بين الله (جل وعلا) أن الكفار يُحشرون إلى جهنم، وأنهم يضم بعضهم إلى بعض فيُركم بعضهم فوق بعض فيجعلون في نار جهنم، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إنهم إن انتهوا عما هم عليه من الكفر، ورجعوا إلى ما يرضي ربهم فآمنوا به وصَدَّقُوا رَسُولَهُ، يُغْفَرْ لهُمْ جَمِيع ما سلف منهم من الكفر، ولا يكون عليهم ذَنْب من جميع ما مضى. {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يا نبي الله قل لهم {إِن يَنتَهُواْ} لم يقل له: خاطبهم، حتى يقول: إن تنتهوا يُغْفَر لكم ما قد سلف. كأنه أمره بتبليغهم: إن ينتهوا عما هم عليه من الكفر يُغفر لهم، وحذف الفاعل؛ لأن من المعلوم أنه لا يَغْفِرُ ما سَلَفَ إلا اللهُ وَحْدَهُ، ليس هو ذلك غيره، يحتمل أن يكون هو الفاعل؛ ولذا حَذَفَ الفَاعِلَ لِلْعِلْمِ به وعَدَمِ الحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِهِ؛ لأنه معروف {يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} وقوله: {مَّا قَدْ سَلَفَ} أي: ما مَضَى قبل انتهائهم من جميع ما ارتكبوه من أنواع الكفر والمعاصي، وهذا معنى قوله: {إِن يَنتَهُواْ

يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} {وَإِن يَعُودُوا}: اختلف العلماء في المراد بالعَود هنا (¬1)، فقال بعض العلماء، هذه الآيات من سورة الأنفال نزلت بعد وَقْعَةِ بدر، والمعنى {وَإِن يَعُودُوا} للقتال كما فعلوا يوم بدر {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} أي: طَرِيقَة الله فيما مضى بين رسله وأتباعهم وبين الكفرة (¬2). قال بعض العلماء: {الأَوَّلِينَ} يعني الذين هلكوا منكم فقتلوا وأُسروا يوم بدر، مضت سنة الله فيهم، فأَظْهَرَ علَيْهِمْ نَبِيَّهُ، ونصره عليهم، فإن عدتم إلى القتال أجرى عليكم تلك السنة؛ لأنه لا تجد لسنة الله تبديلاً. وقال بعض العلماء: المراد بالأولين الأمم الماضية ممن قبلنا؛ لأَنَّ كُلَّ أمَّةٍ كَذَّبَتْ رسولَها وتمرَّدَتْ عَلَى رَبِّهَا أهلكها الله (جل وعلا)، يعني: وإن تعودوا إلى ذلك الكفر والطغيان أهلككم كما فعل بجميع الأمم قبلكم {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: الآية 44]، وهذان الوجهان في قوله {سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} أي: سنة الله فيهم، وأصل السنة: الطريقة والشريعة، والشريعة في اللغة: الطريق، والشرائع: الطرق، وكون السنة هي الطريق الذي يمشي عليه أمر معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته (¬3): مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمَامُهَا أي: طريقة متبعة، وطريقة الله مع الكفرة أنهم إن كذبوا رسله ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 536)، القرطبي (7/ 403). (¬2) المصدران السابقان. (¬3) شرح القصائد المشهورات (1/ 174).

وتمردوا عليه أهلكهم، كما نطقت به الآيات القرآنية بكثرة، وهذا معنى قوله: {وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ}. وقال بعض العلماء: المراد بالعَوْد هنا: الاستمرار، أي: وإن يستمروا على ما هم عليه من الكفر فقد مضت سنة الأولين. وربما أطلقت العرب ابتداء الفعل على دوامه، مثل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: الآية 1]، أي: اسْتَمِرّ ودُم على تقواه. هذان الوجهان في قوله: {وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: الآية 38]. وأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: الآية 39] (لا تكون) مضارع منصوب بـ (أن) مضمرة بعد (حتى)، و (لا) النافية لا تمنع من ذلك النصب {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال أكثر العلماء (¬1): المراد بالفتنة هنا: الشرك؛ أي: حتى لا يَبْقَى شِرْكٌ على وَجْهِ الأرض، ويدل لهذا المعنى قوله بعده -يليه-: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} لأن الدين لا يكون كله لله إلا إذا لم يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ شِرْكٌ، فعندئذٍ يكون الدين كله لله. ويؤيد هذا المعنى وهذا التفسير الذي دلت عليه القرينة القرآنية قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا منعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (¬2) هذا هو الأظهر. وجاء في صحيح البخاري في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) ما يدل على أن المراد بالفتنة: فتنة الرجل عن دينه، كالمستضعف الذي إذا آمن حَبَسُوه وأوثقوه، أو قتلوه حتى يترك ¬

(¬1) انظر ابن جرير (13/ 538). (¬2) مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

دينه (¬1)، يعني: قاتلوهم حتى ينتشر الإسلام، وتنكسر شوكة الكفر، بحيث لا يقدرون على رد إنسان عن دينه، ولا قتل إنسان ولا ضربه ولا إيثاقه بسبب الإسلام؛ لأنهم كانوا في أول الإسلام يفتنون الضعفاء عن دينهم، فكان أمية بن خلف -قبحه الله- يعذب بلالاً فيُضْجعه في نهار الصيف في رمضاء مكة، فيضع الحجارة على صدره ويعذبه ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: أحد أحد. وكذلك أوذوا كثيراً، فقُتل في ذلك أبو عمار بن ياسر وأمه، وأما هو فلما أرادوا أن يفعلوا به ذلك وخاف القتل قال كل ما يريدون منه، فَسَبَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي -إن شاء الله- إيضاح قصته في الآية النازلة به في سورة النحل في قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} الآية [النحل: الآية 106]. وهذا معنى قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: الآية 39] والقول الأول يدخل فيه هذا؛ لأنه إذا انتفى الشرك لا يكون هناك كافر يَفْتِنُ المسْلِمِينَ عَنْ دينهم، وهذا معنى قوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}. {فَإِنِ انتَهَوْا} عن كُفْرِهِم وأسْلَمُوا: {فَإِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو بصير بعملهم يجازيهم عليه، {وَإِن تَوَلَّوْا} [الأنفال: الآية 40] أعرضوا ولم يرجعوا عن كفرهم {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ} جل وعلا {مَوْلاَكُمْ} ناصركم عليهم، لا يحزنكم توليهم وإعراضهم وإصرارهم على الكفر، فالله مولاكم ناصركم ¬

(¬1) البخاري في التفسير، باب: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ}، حديث رقم: (4650) (8/ 309)، وانظر الحديث بعده رقم: (4651).

عليهم، و (المولى) وزنه في الميزان الصرفي (مَفْعَل) من الولاية، والمولى في لغة العرب (¬1): هو كُلّ مَنْ يَنْعَقِدُ بينك وبينه سبب يجعلك تُوَاليه ويُوَالِيكَ؛ ولذا كثر إطلاق الموْلَى على ابن العم؛ لأن عصبية العُمُومة تجعله ينتصر لك وتنتصر له. وقد أطلق الموالي على العصبة في قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: الآية 33] العصبة الوارثون. ومنه قول الفضل بن العباس من ذرية أبي لهب (¬2): مَهْلاً بني عَمِّنَا مَهْلاً مَوَالينا ... لاَ تُظْهِرُوا لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا ومن هذا المعنى قول طرفة بن العبد (¬3): وأَعْلمُ عِلْماً لَيْسَ بالظنِّ أَنَّهُ ... إِذَا ذَلَّ مَوْلَى المَرءِ فَهْوَ ذَلِيلُ ولكون المولى في لغة العرب يطلق على كل مَنْ بَيْنَكَ وبينه سبب موالاة يُوَالِيكَ بِهَا وتوالِيهِ بها، وكثرت معانيه فأُطلق على بني العم، وعلى العصبة، وعلى المعتَقِين، والمُعْتِقِين بالفتح والكسر، وعلى الناصر، وعلى الصاحب. لأن كلاًّ ينعقد بينك وبينه سبب، فلما انعقد بين الكفار وبين النار سبب تجعلهم يدخلونها، ويخلدون فيها، وهي تؤذيهم بِحَرِّهَا قال تعالى: {هِيَ مَوْلاَكُمْ} [الحديد: الآية 15] فجعل النار مولاهم لانعقاد السبب بَيْنَهُمْ وبينها بكفرهم، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) البيت في الكامل للمبرد (3/ 1410)، القرطبي (11/ 78)، الدر المصون (7/ 567). وقائله هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، من شعراء بني أمية. وصدر الشطر الثاني: «لا تنبشوا بيننا». (¬3) مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام.

وكونها دار الله التي يُعذب بها أعداءه، فهذا معنى قوله: {أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ} [الأنفال: الآية 40] وهذه ولاية نصر. وقد أُطلقت الولاية في القرآن بالنسبة إلى الله (جل وعلا) إطلاقين: أطلق المولى بمعنى الولاية الخاصة، وهي: النصر والتمكين والتوفيق، كقوله هنا: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ} وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} [التحريم: الآية 4] وهذا كثير في القرآن؛ ولذا قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ (11)} [محمد: الآية 11] أي: لا مولى لهم ولاية نصر وتمكين. وأطلق المولى صادقاً بالكفار؛ لأنها ولاية خلق وقدرة وربوبية وملك، وهو في قوله: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ} [الأنعام: الآية 62] وهي في الكفار؛ لأنه مولى الكفار ولاية ملك وتصرّف ونفوذ وقدرة، ومولى المؤمنين ولاية نصر وتمكين وثواب. فهذا معنى قوله: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ}. {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (نعم) فعل جامد لإنشاء [المدح] (¬1). والتحقيق أنه فعل ماض جامد (¬2)؛ لأن تاء التأنيث تدخل عليه: نِعْمتْ جَزَاءُ المتقين الجنَّهْ ... دارُ الأمَانِي والمُنَى والمنّهْ (¬3) خلافًا لمن زعم أن (نِعْم) اسم. قالوا: لأن أعرابيّاً قيل له: ولدت امرأتك بنتاً. فقال: ما هي بنعم الولد (¬4)، فأدخل عليها حرف ¬

(¬1) في الأصل: «الذم». وهو سبق لسان. (¬2) انظر: شرح شذور الذهب ص21، ضياء السالك (1/ 40)، (3/ 91). (¬3) البيت في شرح شذور الذهب ص21. (¬4) انظر: ضياء السالك (1/ ص 40)، (3/ 91).

الجر الذي هو الباء، ودخول حرف الجر من علامات الاسم. والمحققون من علماء العربية: أن (نِعْم وبئس) فعلان ماضيان جامدان لإنشاء [المدح أو] (¬1) الذم. قالوا: وقول الأعرابي: ما هي بِنِعْم الولد. وقول الآخر: نِعْمَ السَّير على بِئس العَير (¬2) محكي قول محذوف، أي: ما هي بولد مقول في جنسه نِعْمَ الولد. وقوله: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (المولى) فسرناه الآن، و (النصير): (فَعِيلٌ) بمعنى (فَاعِل)، بمعنى الناصر، وأصل النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم، وتخليصه بالإعانة من الظلم، فإنه (جل وعلا)، كأنه في هذه الآية بيَّن الثناء على نفسه، الثناء الكامل الذي يستحقه في ولايته لأوليائه، ونصره لهم. قال بعض العلماء: بين (المولى) و (النصير) عموم وخصوص من وجه، يجتمع (المولى) و (النصير) في بني عمك وعصبتك إذا كانت لهم قدرة على نصرك، وإعانتك على عدوك، فإذا جاء دونك بنو عمك وعصبتك ومنعوك من أعدائك، اجتمع فيهم أن كل واحد منهم مولى، وأنه نصير، وينفرد (المولى) عن (النصير) في قرابتك وعصبتك إذا كانوا ضعفاء، لا يقدرون على نصرتك، فالواحد منهم مولى وليس بنصير؛ إذ لا طاقة له على النصر، وينفرد (النصير) عن (المولى) بالأجنبي الذي ليس بينك وبينه سبب ولاية إذا نصرك وأعانك ومنعك من عدوك، فهو نصير وليس بمولى. وهذا واضح. قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ¬

(¬1) بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) المصدر السابق.

وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: الآيتان 41، 42]. يقول الله جل وعلا: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} [الأنفال: الآية 41]. (واعلموا) معناه: تيقنوا؛ لأن العلم إذا أُطلق في القرآن معناه اليقين في جميع القرآن، وقد جاء في حرف في سورة الممتحنة إطلاق العلم مراداً به الظن الغالب، وهو قوله تعالى: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: الآية 10] {عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: الآية 10] أي غلب على ظنكم، ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، ولا يكاد العلم في غير هذا الموضع يُطلق في القرآن إلا مراداً به اليقين الجازم، الذي لا يخالجه ظن ولا وَهْمٌ ولا شك. {أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} (ما) موصولة، و (أن) مصدرية، أن الذي غنمتم من شيء، وصيغ الموصول قد تقرر في علم الأصول أنها من صيغ العموم (¬1)؛ لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام.

و {مِّن شَيْءٍ} بيان للموصول، من شيء كائناً ما كان، إلا ما سنذكره مما أخرجه دليل مُخصِّص. {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قراءة جماهير القراء، منهم السبعة: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وفي بعض الروايات الضعيفة عن بعض السبعة: {فإن لله خمسه} وقد رواه الجعفي عن أبي عمرو (¬1)، أما الرواية التي عليها جمهور القراء، وهي رواية السبعة الصحيحة عنهم: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وهنا محذوف دل عليه المقام: فحقه أن لله خمسه، أو: فواجب حتم أن لله خمسه. والخُمس معروف، {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهذه الآية الكريمة من سورة الأنفال قد تضمنت أحكاماً كثيرة من أحكام الجهاد، ومن أحكام الغنائم (¬2)، وقد يحتاج لها المسلمون؛ لأنا نرجو الله (جل وعلا) أن يرفع علم الجهاد، ويقوي كلمة لا إله إلا الله، وأن تخفق رايات المسلمين في أقطار الدنيا، فيحتاجون إلى تعلم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أحكام الجهاد، ولما كان القرآن العظيم هو مصدر جميع العلوم؛ لأنه الكتاب الذي حوى جميع العلوم، وكانت أصول جميع الأشياء كلها فيه، أردنا هنا أن نبين جُملاً من الأحكام التي أشارت إليها هذه الآية الكريمة، {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم} معناه: الذي غنمتم، وهي الغنائم التي يحُوزها المسلمون من أموال الكفار إذا انتصروا عليهم فقهروهم، وأموال الكفار على قسمين (¬3): قسم: ينتزعه المسلمون منهم بالقوة والغلبة. ¬

(¬1) انظر: البحر (4/ 499). (¬2) انظر: هذه التفاصيل في الأضواء (2/ 351). (¬3) السابق (2/ 352).

وقسم: يصل إلى المسلمين من غير انتزاع بالقوة من أهله الكفار. والاصطلاح المشهور عند الفقهاء أن بينهما فرقاً، أن الغنيمة هي ما ينتزعه المسلمون بالقوة من الكفار، أما ما ييسرُهُ الله للمسلمين بلا قتال فهو المُسَمَّى بـ (الفيء) وحكمهما مختلف على التحقيق الذي عليه جماهير العلماء ودل عليه القرآن؛ لأن الفيء هو المال الذي ينالُهُ المسلمون من الكفرة من غير أن ينتزعوه بالقوة، ولا أن يوجِفوا عليه بخيل ولا ركاب، كأموال بني النضير، فإنهم نَزَلُوا على حُكْمِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومَكَّنَهُ اللهُ مِنْ أموالهم مِنْ غَيْرِ أن تُنْتَزَعَ منهم بالقوة، وقد سَمَحَ لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَحْمِلُوا على الإبل ما قدروا أن يحملوه، واستثنى السلاح كما ستأتي تفاصيله في سورة الحشر؛ لأنها كلها نزلت في قصة بني النضير، هذا هو الفيء، وهو المذكور في سورة الحشر، وقد نص الله في سورة الحشر على أن مَصَارِفَهُ هِيَ مَصَارِف خُمس الغَنِيمَة؛ لأنه قال هنا: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: الآية 41] وقال هناك: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} فبيّن بقوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: الآية 6] الفرق بين الفيء والغنيمة؛ لأنه مال لم تنتزعوه بالقوة والسلاح من أهله، ولم تسرعوا في انتزاعه على الخيل والركاب التي هي الإبل، ثم قال مبيناً مصارفه وأنها هي مصارف الخُمس: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: الآية 7] مثل ما ذكر هنا في مصارف الخُمس سواء بسواء، وشذّ بعض العلماء فقال: إن الفيء والغنيمة سواء. وهذا القول

مشهور عن قتادة وطائفة من العلماء، وهو قول وإن كانت تساعده اللغة فالشَّرع والحقيقة الشرعية لا تساعده؛ لأن العَرَبَ تطلِقُ في لُغَتِهَا الفيء على جميع ما يُغنم، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التَّغْلِبي أخي كليب (¬1): فَلاَ وَأَبِي جليلَةَ مَا أَفَأْنَا ... مِنَ النعم المؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْباً ... عَلَى الأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنّحُورِ يعني: لم نشتغل بالغنائم، وإنما اشتغلنا بقتل الرجال. وربما أُطلق الفيء في القرآن مراداً به كل غنيمة، كقول قتادة، وذلك في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: الآية 50] لأن المسبيات حكمها في هذا سواء، سواء كانت فيئاً أو غنيمة، إلا أن الاصطلاح المعروف هو التَّفْرِقَة بين ما أوجف عَلَيْهِ بالخَيْلِ والرِّكَابِ، وبَيْنَ مَا أُخِذَ عَفْواً من غير انتزاع بالقوة، كما قال هنا: {أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} فبيّن أنهم غَنِمُوهُ وانْتَزَعُوهُ مِنْهُمْ قَهْراً، وقال في الآخر الذي هو الفيء: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: الآية 6] فكيف تستحقونه ولم تنتزعوه بالقوة، ولم تُوجِفُوا عليه بالخيل ولا الإبل؟! والإيجاف: الإسراع كما هو معروف. ¬

(¬1) البيتان من قصيدة يرثي فيها أخاه كليباً، ونص البيتين كما في ديوانه ص41، وفي «شعراء النصرانية قبل الإسلام» ص170 هكذا: فَلاَ وَأَبِي أُمَيْمَةَ مَا أبُوها ... مِنَ النعم المؤَثَّلِ والجَزُورِ وَلَكِنَّا طَعَنَّا الْقَوْمَ طَعْنًا ... عَلَى الأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ والبيتان ذكرهما الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (2/ 353) كما هنا.

وهذه الآيَةُ الكَرِيمَةُ دَلَّت على أن أربعة أخماس الغنيمة [أنه] (¬1) للمجاهدين الغانمين الذين غنموها؛ لأن قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ... } الآية، يدل على أن المعنى: وأما الأخْمَاس الأربعة فَهِيَ لِلْغَانِمِينَ المجاهدين، ويدل على ذلك إِسْنَادُهُ غَنِيمَتَه إليهم في قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} وهذا هو التحقيق وعليه جماهير العلماء أن أربع أخماس الغنيمة للمسلمين المجاهدين الذين غنموها، تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بالسَّوَاءِ، وأن خمُس الغنيمة هو يُصرف في هذه المصارف المذكورة وسَنُوَضِّحُها -إن شاء الله- واحداً واحداً. هذا هو المذهب الحق وعليه جماهير العلماء، وخالف في هذا قوم من العلماء -منهم طائفة من علماء المالكية وغيرهم (¬2) - قالوا: إن الغَنَائِمَ كلها والفيء شيء واحد، وأن التصرف فيه كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الغانمين ما شاء ويمنعهم ما شاء. وهذا القول وإن قال به جماعة من المالكية وغيرهم من العلماء فهو خلاف التحقيق. والذين قالوا هذا القول استدلوا بأدلة كلها مردودة مجاب عنها، قالوا: مِنْ أَدِلَّتِهِ أن الغَنَائِمَ هِيَ الأَنْفَالُ، وقد تَقَدَّمَ في أول السورة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: الآية 1] فَصَرَّحَ بِأَنَّهَا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل للغانمين فيها حقّاً مستقلاًّ إذا لَمْ يَشَأ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم. قالوا: ويَتَأَيَّدُ هَذَا بأمور، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم مكة حين افْتَتَحَها عنوة، وأنه (صلوات الله وسلامه عليه) في غزوة حنين لما أخذ غنائم هوازن أعطى صفوان بن أمية ما ملأ بين جبلين من الغنم، وأعطى عيينة بن حصن مائة من ¬

(¬1) في الأصل: «أنهم». (¬2) انظر: المغني (9/ 304) القرطبي (8/ 2)، الأضواء (2/ 354).

الإبل، والأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عطايا كثيرة، ولم يعط الأنصار منها شيئاً، حتى غضب الأنصار وقالوا: يعطي الغنائم عنا لقريش وسيوفنا تقطر من دمائهم!! فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا فَأَرْسَلَ مَنْ جَمَعَهُمْ وقال: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ مُتَعَادِينَ فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي؟!» قالوا: بلى. قال: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ اللهُ مِنْهَا بِي؟» قالوا: بلى يا رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما عدَّد عليهم بعض النِّعَمِ التي أنْعَمَ الله عليهم بسبب رَسُول صلى الله عليه وسلم اعْتَرَفُوا بذلك كله وسكتوا، قال لهم: «أَلاَ تُجِيبونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟!» قالوا: وكيف نجيب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: «قُولُوا: ألمْ يُكَذِّبْكَ النَّاسُ فَصَدَّقْنَاكَ؟ أَلمْ يُعادِكَ الناسُ فآوَيْنَاكَ ونَصَرْنَاك؟!» ثم قال: «يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أَلاَ تَرْضَوْنَ بأَنْ يَرْجِعَ النّاسُ إِلَى بُيُوتِهِمْ بِالشَّاةِ والبَعِيرِ، وتَرْجِعُونَ إِلَى بُيُوتِكُمْ بِرَسُولِ صَلَّى الله عليه وسَلَّم؟» قالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة. وطابت نفُوسهم (¬1). قال قائل هذا القول من المالكية وغيرهم من العلماء كقتادة: لو كانت الغنيمة مُسْتَحَقَّة لِلْغَانِمين ولم يكن للإمام أن يفعل فيها كيف يشاء، كيف يُفَضِّل النبي صلى الله عليه وسلم المؤلَّفَةِ قلوبهم كالأَقْرَعِ بن حابس، وعُيَيْنَةَ بن حِصْن، وصَفْوان بن أمية ويمنع الأنصار، والأنصار أحَقّ؟! وكيف يفضل الأقرع بن حابس التميمي، ¬

(¬1) أصل هذا الخبر في البخاري (من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه) كتاب المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، حديث رقم: (4330) (8/ 47)، وأخْرَجَ بَعْضَهُ بِرَقَم (7245). ومُسْلِم في الزَّكَاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ... ، حديث رقم: (1061) (2/ 738)، ومِنْ حديث أنَس عند مسلم في نفس الكتاب والباب، حديث رقم: (1059) (2/ 733 - 737). وأخرجه أحمد (3/ 76) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

وعيينة بن حصن الفزارِي على العباس بن مرداس السلمي وهو حسن الإسلام جدّاً؟! وقد غار منهم العباس بن مرْدَاس حتى قال شِعْرَهُ المشهور، قاله أمام النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى عُيينة مئة، والأقرع مئة، وأعطى العباس بن مرداس قليلاً، قال مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1): أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ ... ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ ... وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ ... وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعِ ... وَقَدْ كُنْتُ فِي الحَرْبِ ذَا تُدْرأ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئاً وَلَمْ أُمْنَعِ ... وَإِلاَّ أَبَاعِيرَ أُعْطِيتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهِ الأَرْبَعِ ... وَكَانَتْ نِهَاباً تَلاَفَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى المُهْرِ في الأَجْرَعِ ... وَإِيقَاظِيَ القَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ إلى آخر شعره. قالوا: لو كانت الغنيمة للغانمين لما فضل الأقرع وعيينة على العباس بن مرداس وهو أحسن منهما إسلاماً، ولما ¬

(¬1) جاءت هذه الأبيات في روايات متعددة على تفاوت بينها في بعض الألفاظ مع زيادة في بعض الأبيات، ففي صحيح مسلم (1060) وغيره الاقتصار على الأبيات الثلاثة الأولى، وبعضهم يزيد رابعاً، وأكثر ما وقفت عليه سبعة أبيات وهي عند ابن هشام في السيرة، وفي سُبل الهدى والرشاد (5/ 399) هكذا: كانَتْ نِهاباً تلاَفَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلى المُهْرِ في الأَجْرَعِ ... وَإيْقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذا أهجَعَ النّاسُ لَم أَهجَعِ ... فَأصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ العُبَيْـ ... دِ بيْنَ عُيَيْنَة وَالأَقْرَعِ ... وَقَدْ كُنْتُ فِي الحَرْبِ ذَا تُدْرَأ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئاً وَلَمْ أُمْنَعِ ... وإلاَّ أَفَائِلَ أعْطيتهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمها الأَرْبَعِ ... وَما كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْداسَ فِي المَجْمَعِ ... وَمَا كنْتُ دونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ اليوْمَ لاَ يُرْفَعِ

فضل المؤلفة قلوبهم على الأنصار وهم أحسن منهم إسلاماً. قالوا: فعطايا النبي هذه -صلى الله عليه وسلم- كما أعطى من مئات الإبل، وأعطى من الورق والرقيق، وأعطى صفوان بن أمية ما ملأ بين جبلين من الغنم، قالوا: هذا يدل على أن الغنيمة ليست استحقاقاً محضاً للغانمين، وإنما يفعل الإمام فيها ما يشاء، قالوا: وكذلك لما فتح مكة لم يغنم أموال أهل مكة، ولم يقسم دورها ولا أرضها [فلو كان قَسْمُ الأخماس الأربعة على الجيش واجباً لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة. قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جدّاً للمؤلفة قلوبهم. وأجاب [4/ب] الجمهور عن كونه صلى الله عليه وسلم] (¬1) / أعطى المؤلفة قلوبهم، وأعطى عيينة مئة، والأقرع مئة، وصفوان ما ملأ بين جبلين غنمًا ونحو ذلك من العطايا، أنه فعل ذلك بعدما استطاب نفوس الغانمين عنه، وأن الغانمين طابت له نفوسهم بذلك للمصلحة العامة، وهي تأليف قلوب الرجال الذين لهم شوكة عظيمة وأتباع كثيرون ليقوى بهم الإسلام، وقد فعل ذلك برضا الغانمين وطيب أنفسهم عن ذلك له صلى الله عليه وسلم، أما عدا كونه لم يقسم دور مكة ورباعها فقد أجاب عنه الشافعي (رحمه الله) جواباً لكنه غير ناهض بالحقيقة والإنصاف (¬2)؛ لأن الشافعي (رحمه الله) مع جلالته وعلمه يرى أن مكة المكرمة -حرسها الله- أنها فتحت صلحاً لا عنوة، ويظن أن قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتم استيفاء النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (2/ 355) وجعلت ذلك بين معقوفين. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 356).

آمِنٌ» (¬1). يظن أنها نوع صلح أو شبه صلح، والتحقيق الذي لا شك فيه: أن مكة -حرسها الله- إنما فُتِحَتْ عنوة وقهراً بالسيف لا صلحاً، وتأمين النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الناس لا يقتضي الصلح؛ لأن الصلح أمر عام. والدليل على أنها فتحت عنوة أمور كثيرة وأدِلَّة واضحة لا لبس فيها (¬2)، منها: ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من وقوع القتال فيها يوم فتح مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خالد بن الوليد يوم فتح مكة على المُجَنِّبَة اليمنى، وجعل الزُّبَيْر بن العوام على المُجَنِّبَة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحُسَّر (¬3) وأخذوا بطن الوادي، ولم يتلقهم أحد إلا أناموه، فقتلوا من قريش قوماً كما هو معروف. وهذا ثابت في الصحيح وغيره، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على ذلك؛ لأن حِمَاس بن قيس هذا رجل حليف لقريش، وكان يقول لزوجته: إنه يجعل لها أزواج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خدماً، وكان يقول لها: إذا جئتك فارّاً فأغلقي الباب دوني، وكان يرتجز ويقول (¬4): إنْ يُقْبِلُوا اليَومَ فما لي عِلّهْ ... هَذَا سِلاَحٌ كَامِلٌ وأَلَّهْ وذُو غِرارَينِ سريعُ السَّلَّهْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب فتح مكة، حديث رقم: (1780) (3/ 1405) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وأخرجه أبو داود في الخراج والإمارة، باب ما جاء في خبر مكة، حديث رقم: (3005، 3006) (8/ 256، 259) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) انظر: صحيح مسلم (3/ 1405)، زاد المعاد (3/ 429)، الأضواء (2/ 356، 373) .. (¬3) وهم الذين لا دروع لهم. (¬4) الأبيات في ابن هشام ص1249، الأضواء (2/ 375).

وكان يوم فتح مكة اجتمع مع الجماعة الذين جاءهم خالد بن الوليد، فرأى القتل وجاءها منهزماً، فقالت له: أين الذي كنت تقوله أنك تُخدمني نساءهم، وأني أغلق الباب دونك؟! فقال لها رجزه المشهور، وهو معروف عند علماء التاريخ وأصحاب المغازي (¬1): إنَّكِ لو شَهِدتِ يومَ الخَنْدَمَهْ ... إذ فرَّ صفوانُ وفرَّ عِكْرِمَهْ ... واسْتَقبَلَتْنَا بالسّيوفِ المُسْلِمَهْ ... لهم نَهِيتٌ خَلفنَا وهَمْهَمَهْ ... يَقْطَعْنَ كلَّ سَاعِدٍ وجُمجُمَهْ ... ضرباً فلا تَسْمَعُ إلا غَمْغَمَهْ ... لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّومِ أَدْنَى كَلِمَهْ وهذه الأدلة وغيرها تدل على أن مَكَّةَ فُتِحَتْ عنوة لا صُلْحاً. ومن الأدلة على ذلك: ما ثبت في الصحيح أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خَطَل، وجاريتين معهما، ولو وُجدوا متعلقين بأستار الكعبة. ولو كانت مكة صلحاً لما أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خَطَل، والجاريتين المذكورتين معهما (¬2)، كما هو ثابت معروف، ومما يدل على أنها فتحت عنوة ما ¬

(¬1) تقدمت هذه الأبيات، ونصها في ابن هشام (ص1250): إِنَّكَ لو شَهِدت يوم الخَندمه ... إذ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ ... وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كالمُؤْتَمَهْ ... واسْتَقْبَلَتْهُمْ بالسّيوفِ المُسْلِمَهْ ... يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمَهْ ... ضَرْباً فَلاَ يُسْمَعُ إلا غَمْغَمَهْ ... لهم نَهِيتٌ خلفنا وهَمْهَمَهْ ... لم تنطقي في اللوم أدْنَى كَلِمَهْ (¬2) البيهقي في الدلائل (5/ 59)، وابن سعد في الطبقات (2/ 1/98). وذكره ابن هشام في السيرة ص1251، وابن القيم في بالزاد (3/ 411)، وابن كثير في تاريخه (4/ 297 - 299) وأخرج الشيخان من حديث أنس (رضي الله عنه): «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة. فقال: «اقتلوه». البخاري في جزاء الصيد، باب دخول مكة بغير إحرام. حديث رقم: (1846)، (4/ 59) وأطرافه: (3044، 4286، 5808). ومسلم في الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام. حديث رقم: (1357) (2/ 989).

ثبت في الصحيح عن أم هانئ أنها أجارت رجلاً من أحمائها بني مخزوم؛ لأن زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي أجارته، وجعلت له الأمان، فجاءه عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) ليقتله، فَشَكَتْهُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» (¬1) فلو كانت مكة مفتوحة صلحاً لما أخذ عليٌّ السَّيْفَ ليقتل المخزوميين اللَّذَيْنِ أجَارَتْهُمَا أختُهُ أمّ هَانِئ (رضي الله عنها)، إلى غير ذلك من الأدلة. ولَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الأَرْضَ المغْنُومَةَ لَهَا حُكْمٌ خاص سَنُبَيِّنُهُ الآنَ؛ لأن الغنيمة أقسام (¬2)، منها: ما هو كالذَّهَبِ والفِضَّة والحيوان، وهذا لا خلاف عند من يُعْتَدُّ به من العلماء أنه يُقسم ويُخمَّس، أما أرْض العَدُو التي فَتَحَها المسلمون فَلِلْعُلَمَاءِ فيها أقوال (¬3): فبعض العلماء يقول: عندما يستولي عليها المؤمنون تصير وقفاً عامّاً للمُسْلِمِينَ. وهذا مذهب مالك (رحمه الله) وجماعة من العلماء. ¬

(¬1) البخاري في الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به، حديث رقم: (357) (1/ 469)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى ... حديث رقم: (336) (1/ 498). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 4)، الأضواء (2/ 367). (¬3) القرطبي (18/ 22 - 23)، الأضواء (2/ 367).

وبعض العلماء يقول: يجب قسم الأرض المغنومة كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم أرْضَ خَيْبَرَ وأرض بني قريظة. وجماعة من العلماء قالوا: الإمام مُخَيَّرٌ في ذلك، إنْ رَأَى المصلحة في قَسْمِها قَسَمَها، وإن رأى المصلحة في إِبْقَائِهَا وَقْفاً للمسلمين تَرَكَهَا وَقْفاً للمسلمين، فإذا اقْتَضَى نَظَر الإمام أن يقسمها قَسَمَهَا وكانت مملوكة لِلْغَانِمِينَ، وكانت أرض عشورٍ لا أرض خراج، وإن رأى الإمام أن يتركها لِعَامَّةِ المسْلِمين خزانة لهم -كما هو رَأْيُ عُمَرَ بن الخطاب (رضي الله عنه) - تركها وقفاً للمسلمين، وكانت أرض خراج لا أرْضَ عُشُورٍ، يؤخذ الخراج ممن هو يستغلها ويكون لِعُمُومِ المسلمين. وهذا المذهب بالتخيير هو الحق -إن شاء الله- والنبي صلى الله عليه وسلم اخْتَارَ أنْ يقسم أرض قريظة وأرض خيبر، واختار أن يترك قسمة دور مكة. وقد فهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض التي غَنَمَهَا المسْلِمُونَ واحتلوا بلادها بالقوة أن الإمام مُخَيَّر فيها، فَهِمَ ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولِذَا ثَبَتَ عنه في الصحيح أنه قال: «لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ» (¬1). وعمر لم يفعل هذا الصنيع متهجِّماً على كتاب الله في قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم ... } الآية [الأنفال: الآية 41]. وإنما فهم من فعل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم التخيير في ذلك، وكلامه صريح في أنه يعتقد أنّّهُ مخَيَّرٌ؛ لأنه قال: «لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ» وهذا فيه مصلحة عظمى؛ ¬

(¬1) البخاري في فرض الخمس، باب الغنيمة لمن شهد الوقعة، حديث رقم: (3125) (6/ 224).

لأن الغانمين لو قسموا الأرض عندما غنموها فإن آخر المسلمين يكونون لا غلة لهم، ويكون الإسلام وجيوش الإسلام والأموال التي يحتاج إليها لحماية بيضة الإسلام وقمع الكفار وإقامة الجهاد يكون ذلك لا يوجد له شيء، فوجود تلك الأرضين الكثيرة لها خراج كثير عظيم يستعين به المسلمون على شراء السلاح، وتهيئة الجيوش، وتعبئة الرجال للقتال في سبيل الله (جل وعلا)، أن هذا هو المصلحة؛ ولأجل تخيير الإمام لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم بعض خيبر ولم يقسم بعضها، قال بعض العلماء: البعض من خيبر الذي لم يقسمه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إنما ترك قسمه لهذا الاختيار؛ لأنه مخير في القسم والإبقاء. والصحيح أن الذي لم يقسمه من أرض خيبر كان فيئاً؛ لأن بعض البساتين وبعض الأطراف من خيبر كانوا لم يُفتحوا ولم يؤخذوا عنوة ولم يُوجف عليهم بالخيل والركاب، فلما أُخذت قريظة نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يُؤخذوا بالقهر فكان فيئاً، وسمع بهم أهل فدك ففعلوا كذلك، فكانت فدك فيئاً للنبي صلى الله عليه وسلم، هي وذلك البعض من قريظة. ومعلوم أن فدك وبعض قريظة كانا من الفيء الخالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد طلبته فاطمة (رضي الله عنها) أن يقطعها فدك فأبى، وأقطعها أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) لمروان بن الحكم ظنّاً منه (رضي الله عنه وأرضاه) أن مَا كَانَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ينتقل الحق فيه لولي أمر المسلمين بعده، وأن ذلك انتقل إليه، وأنه غَنِيٌّ عَنْهُ بأمْوَالِهِ فَوصل به بعض قُرَبَائه، وهو ابن عمه مروان بن الحكم رضي الله عن عثمان وأرضاه وعن جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 412).

وحاصل هذا أن التحقيق الذي لا شك فيه -إن شاء الله- أن الأموال المغنومة التي انْتَزَعَها المسلمون من الكُفَّارِ أنّهَا نوعان: الأرض، وغير الأرض. أما الأرض فلا يَتَعَيَّنُ قَسْمها بينهم، والإمام مُخَيَّرٌ فيها، فإن رأى مَصْلَحَة المسلمين في قَسْمِها قَسَمَها، وإن رأى مصلحة المسلمين في إبقائها وقْفاً علَيْهِمْ أبْقَاهَا وَقْفاً ينتفع بها آخر المسلمين. قال بعض العلماء: والقرآن يشير لهذا؛ لأنه لو لم يكن يقول يبقى لآخر المسلمين شيئاً لما قال الله في المستحقين: {وَالَّذِينَ جَاءُُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [الحشر: الآية 10] لأنه قال أولاً: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} [الحشر: الآيات 8 - 10] وقال بعض العلماء: لا دَلِيلَ لِلْغَنِيمَةِ فِي آية الحشر هذه؛ لأنها في الفَيْء، قد أفتى مالك بن أنس (رحمه الله) أن الذين يسبون أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا حق لهم في فَيْءِ المسلمين، ولما نُوقِشَ في ذلك قال: هؤلاء الذين سَبُّوا أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لا حَقَّ لهُمْ فِي فَيْءِ المسلمين؛ لأن الله لما ذكر الذين يُعْطَوْن فيء المسلمين من الأصناف قال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ} أهَؤُلاَءِ من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ قالوا: لا. قال: أهم من الذين قيل فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} قالوا: لا. قال: وأنا أشهد أنهم ليسوا من الصنف الثالث الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا} بل هؤلاء جاءوا يسبونهم ويعيبونهم فليسوا منهم قطعاً فتبين

أنهم لا حق لهم (¬1). وعلى كل حال فجميع المال المغنوم يقسم بين الغانمين، والأرض فيها للعلماء ثلاثة مذاهب معروفة كل واحد منها لصاحبه عليه أدلة (¬2): أحدها: أنها تكون غنيمة وتقسم، وهو مذهب الإمام الشافعي، واستدل بعموم قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: الآية 41] وكان مالك بن أنس (رحمه الله) يرى أن أرض الكفار عندما يفتتحها المسلمون تصير بمجرد استيلاء المسلمين عليها وقفاً للمسلمين آخرهم يستوون فيها جميعاً لمصلحة الإسلام العامة، وللإعانة على تعبئة الجيوش، والرد عن بيضة الإسلام، والدفاع عن المؤمنين في المستقبل. وقوم قالوا: يخير الإمام إن رأى قَسْمها مصلحة قَسمها. وهذا مذهب الإمام أحمد، ويُروى عن أبي حنيفة نحوه والله تعالى أعلم. وهذا القول بالتخيير هو أقواها دليلاً؛ لأنه تنتظم به الأقوال، وتجتمع به النصوص، والجمع واجب إذا أَمْكَنَ. أما الأخْمَاسُ الأرْبَعَةُ مِنَ ¬

(¬1) استنباط مالك (رحمه الله) ذكره القرطبي في التفسير (18/ 32) ونصه: «من كان يُبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ... }». وهو في ابن كثير (4/ 339). أما المحاورة التي أوردها الشيخ (رحمه الله) فقد أوْرَدَ نَحْوَهَا السيوطي في الدر (6/ 198) عن ابن عمر (وليس في موضوع الفيء). وأورد القرطبي (18/ 32) نحوها عن عَلِيّ بن الحسين كذلك (وليس في موضوع الفيء). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 367).

الأرْضِ المقْسُومَةِ إذا اقتضى نظر الإمام أن يقسمها أو مِنْ غَيْرِ الأرض كالذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ والإِبِل ونحو ذلك، أما هذه الأخماس الأربعة فهي للغانمين تقسم بينهم. واختلف العلماء: هل يجوز للإمام أن ينفل من هذه الأخماس الأربعة شيئًا؟ (¬1) فكان مالك بن أنس رحمه الله -إمام دار الهجرة- يرى أن الإمام لا يجوز له أن يُنَفِّلَ شَيْئاً مِنْ هذه الأخماس الأرْبَعة، وإنما ينفل من الخمس الذي قال الله فيه أنه لله وللرسول ولذي القُرْبَى إلى آخر مصارفه. وذهبت جماعة من العلماء إلى أن للإمام التَّنْفِيلَ مِنْهُ. وكون الإمام له التنفيل منه هو الحق -إن شاء الله- الذي قامت عليه النصوص التي لا تَكَادُ تُدْفَع. وتنفيل الإمام من الأخْمَاسِ الأرْبَعَةِ الَّتِي هي للمجاهدين يكون على أنواع، منها: أن ينفل السرايا ويقول للسَّرِيَّةِ: اخْرجي إلى أرْضِ الكُفَّارِ، فَمَا غَنِمْتِ فَقَدْ نَفَّلْتُكِ مِنْهُ كَذا، وقد جاء حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفل السرايا في البدء الرُّبْع، وفي العودة الثلث. هذا حديث ثابت رواه مكحول (¬2) عن حبيب بن مسلمة (¬3)، وهو صحابي، ¬

(¬1) السابق (2/ 357). (¬2) الحديث من رواية مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 159، 160)، والدارمي (مع شيء من المغايرة في اللفظ والمعنى) (2/ 147)، وأبو عبيد في الأموال ص289، والحميدي (2/ 384)، وأبو داود في الجهاد، باب فيمن قال: الخمس قبل النفل. حديث رقم (2733) (2/ 424)، وابن ماجه في الجهاد، باب: النفل. حديث رقم (2852) (2/ 951)، وابن حبان الإحسان (7/ 161)، والحاكم (2/ 133)، (3/ 347، 432)، وابن الجارود (3/ 334). وانظر: صحيح أبي داود (2/ 525)، صحيح ابن ماجه (2/ 139).

لا تابعي صغير (¬1)، ورواه بعضهم عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه (¬2) - وهو ثابت، ومعنى تنفيل الربع في البدء، وتنفيل الثلث في العودة أن للإمام إذا كان المسلمون متوجهين إلى أرض الكفار أن يقول للسرية: اذهبوا إلى الكفار فما غَنِمْتُمْ مِنْهُمْ فقد نفلتكم ربُعَه. ولا ينفلهم أكثر من الرّبْع، فيكون الربع خالصاً لهم، والباقي هم والمسلمون فيه سواء. وأما تَنْفِيل الثلث في العودة: أن المسلمين إذا رجعوا من أرض الكفار -رجعوا من الغزو إلى بلادهم- فيجوز للإمام أن ينفل بعض السرايا في ذلك الوقت الثلث. والفرق بين البدء والعودة: أن البدءة الكفار في غفلة، والمسلمون مُتَوَجِّهُون لبلادهم فخبرهم أهون، وأما في الرّجعة فالكفار في حذر ويقظة والمسلمون مُنْصَرِفُونَ عن بلادهم، فقضيتهم أصعب؛ ولذا نفل أكثر في الحالة الصعبة من الحالة التي هي أقل صعوبة (¬3). هذا ثَابِتٌ ولا ينبغي أن يُخْتَلَفَ فِيهِ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (¬4). ¬

(¬1) انظر: الإصابة (1/ 309) الأضواء (2/ 385). (¬2) أخرجه الدارمي (2/ 147)، وأبو عبيد في الأموال ص290، والترمذي في السير، باب ما جاه في النفل. حديث رقم: (1561) (4/ 130). وقال: «وفي الباب عن ابن عباس، وحبيب بن مسلمة، ومعن بن يزيد، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع. وحديث عبادة حديث حسن» اهـ وانظر: ضعيف الترمذي ص184. (¬3) انظر: الأضواء (2/ 386). (¬4) انظر: الأوسط لابن المنذر (11/ 111)، مسائل ابن هانئ (2/ 105)، المغني (13/ 53).

وهذا الذي ذكرنا يدل على أن الجُيُوشَ إذا خرجت للقتال في بلاد الكفر، وذهبت سرية وغنمت شيئاً، أن الجيش كله شركاء لهم في ذلك الذي غَنِمُوهُ، ولا يختص به دونهم، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء؛ لأن العلماء مجْمِعُونَ عَلَى أن جميع الجيش معهم فيما غنموا إلا ما نفلهم الإمام من ربع في البدءة أو ثلث في العودة. ومن أنواع التَّنْفِيلِ الجَائِزَة للإمام الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن يُرْسِلَ الإمام سرية ثم -مثلاً- يعطيهم أنْصِبَاءهم من الغنيمة وينفلهم ما شاء، فقد ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عن ابن عمر (رضي الله عنه) أنه أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فغنموا، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً، اثني عشر بعيراً، ونُفِّلوا بعيراً بعيراً (¬1)، فنفلهم نصف السدس؛ لأن الواحد من الاثْنَيْ عَشَر نصف سدسها. وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أنواع التَّنْفِيل التي تجوز للإمام: أن ينفل بعض الجيش المقاتلين، ويعطيه شيئاً خاصّاً لقوته وشدته على المشركين (¬2)، وقد قدمنا حديث سعد بن أبي وقاص الدال على هذا في أول سورة الأنفال؛ لأن سعد بن أبي وقاص قُتل أخوه عمير بن أبي وقاص يوم بدر، قتله عمرو بن عبد ود العامري، ثم إن سعداً (رضي الله عنه) ¬

(¬1) البخاري في فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، حديث رقم: (3134) (6/ 237)، وأخرجه في موضع آخر برقم: (4338). ومسلم في الجهاد والسير، باب الأنفال، حديث رقم: (1749) (3/ 1368). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 386).

حمل [على] (¬1) المشركين، وقتل العاص بن هشام (¬2)، وأخذ سيفه، وكان مِنْ أجْوَدِ السُّيُوفِ، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفله إياه. وفي بعض روايات حديثه الثابتة أنه قال: ربما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لرجل لم يُبل بلائي. والنبي صلى الله عليه وسلم منعه أولاً ثم أعطاه إياه آخراً، وقد ثبت في صحيح مسلم والبخاري أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأكلون جالسين في بعض مغازيهم، حتى جاءهم أعرابي على بعير، فقيد بعيره وجلس يأكل معهم، ونظر إليهم حتى اطلع على علاتهم وعوراتهم، وهو جاسوس للعدو من المشركين، ثم ذهب يشتد، فجلس على بعيره وأثاره، فسار بعيره سيراً حثيثاً، فكاد أن يفوت الصحابة، فجرى عليه رجل بناقة فلم تدركه، فجرى عليه سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) وكان من السابقين على أرجلهم، وقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم سهمين في غزوة (ذي قرد) كما هو معروف، فذهب سلمة يشتد في أثره حتى جاوز الناقة، ثم كان عند ورك البعير، ثم تقدم فأخذ بخطامه وأناخه، واخترط سيفه وضرب الأعرابي على الرأس فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟» قالوا: سلمة بن الأكوع. قال: «لَهُ سَلَبُهُ أجْمَعُ» (¬3) فنفله إياه لأنه أدركه وهو في غاية الخفّة والسرعة، أدركه على رجليه فنفله سلبه. ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) مضى عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة، وراجع التعليق عليه في الحاشية هناك. (¬3) مسلم في الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. حديث رقم: (1754) (3/ 1374).

ومن أنواع التنفيل الجائزة (¬1): قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» (¬2). وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم فثبت عنه في الصحيح يوم حنين. وذكر بعض العلماء أنه قاله يوم بدر أيضاً. وكان مالك بن أنس (رحمه الله) يقول: ليس للإمام أن يقول هذا إلا بعد أن تنتهي المعركة، أما قبل انتهاء المعركة فلا يجوز للإمام أن يقول هذا؛ لأنه إن قال هذا قبل انتهاء المعركة أفسد نيات المجاهدين؛ لأن المجاهد يكون يقاتل الرجل ليأخذ سلبه فيكون يقاتل للدنيا لا لإعلاء كلمة الله، أما بعد أن تنتهي المعركة ويزول هذا المحذور فلا بأس أن يقول الإمام: مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ؛ لأنه في ذلك الوقت لا محذور فيه من إفساد النية (¬3). وجماهير العلماء على أنّه لا مانع من أن يقول ذلك ابتداءً؛ لأن المسلمين وإن كان لهم رغبة في الغنيمة فكل مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة الله هي العليا فهو في سبيل الله كما قاله صلى الله عليه وسلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» (¬4). والذي قتل هذا القتيل يكون له سلبه. واختلف العلماء: هل يكون له سلبه دون تنفيذ الإمام، أو لا يملك السلب إلا إذا نفذه له الإمام (¬5)؟ قولان معروفان بين ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 387). (¬2) البخاري في فرض الخمس، باب «من لم يخمس الأسلاب ... » حديث رقم: (3142) (6/ 247). ومسلم في الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، حديث رقم: (1751) (3/ 1370). (¬3) انظر: المدونة (2/ 31)، الكافي لابن عبد البر ص215. (¬4) تقدم تخريجه قريباً. (¬5) انظر: القرطبي (8/ 5)، المغني (13/ 70)، الأضواء (2/ 390).

العلماء، يستدل قائل كل من القولين عليه بأدلة كثيرة، وقد كان أبو قتادة (رضي الله عنه) يوم حنين رأى رجلاً من المشركين يُرِيدُ أَنْ يقتل رجلاً من المسلمين، فجاءه من خلفه فضربه على حبل عاتقه بالسيف، قال: فرجع إليَّ فَضَمَّنِي ضَمَّة شممت منها رِيح الموت، ثم أدْرَكَهُ المَوْتُ فأرسلني. ثم لما جلس النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء المعركة وقال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ». قلت: من يشهد لي -بعد مرات- فقال رجل: صدق يا رَسُول الله سلبه عندي، أرضه منه. وقال له أبو بكر (رضي الله عنه): لا ها الله لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله ويعطيك سَلَبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ، أَعْطِهِ سَلَبَهُ» قال أبو قتادة (رضي الله عنه): فاشتريت به مخرفاً -يعني حائطاً يُخْرف منه الثمار- وكان أول مال تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَم (¬1). هكذا قال أبو قتادة رضي الله عنه. واعلموا أن بعض العلماء قال: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ». هل يملك القاتل سلب القتيل بمجرَّدِ قَتْلِهِ، أو لا بد أن ينفذه له الإمام؟ فقال بعض العلماء: يملكه؛ لأن ذلك هو مقتضى كلامه صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: لا يملكه إلا بتنفيذ الإمام. واستدلوا لهذا بأدلة منها: ما ثبت أن أبا جهل -لعنه الله- يوم بدر ابْتَدَرَهُ مُعَاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء (رضي الله عنهما) فأطارا قدمه بنصف ساقه، ثم جاءا النبي صلى الله عليه وسلم فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. ¬

(¬1) البخاري في فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب. حديث رقم: (3142) (6/ 247)، ومسلم في الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. حديث رقم: (1751) (3/ 1370).

فقال: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قالا: لا. فنظر في السيفين وقال: «كِلاَكُمَا قَتَلَهُ» (¬1). وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. قالوا: لو لم يتوقف هذا على تَنْفِيذ الإمام لكان معاذ بن عفراء شريكاً لمعاذ بن الجموح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرّح بأنهما قتلاه، في أدلة أُخرى غير هذا. قال علماء الأصول: منشأ هذا الخلاف: خلاف العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» هل يملكه دون تنفيل الإمام أو لا بد من تنفيل الإمام؟ منشأ الخلاف: هل قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» حكماً منه، أو فتوى (¬2)؟ فعلى أنه حكم يختص بمن قيل له ولا يعم، وعلى أنه فتوى يعم. وذكروا عن أبي طلحة (رضي الله عنه) أنه في يوم حنين قتل عشرين رجلاً. وفي بعض الروايات: واحداً وعشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم كلهم (¬3). وكان يقول في يوم حنين (¬4): أَنَا أَبُو طَلْحَةَ وَاسْمِي زَيْد ... وكل يوم في سِلاَحِي صَيْدُ ¬

(¬1) البخاري في فرض الخُمس، باب «من لم يخمس الأسلاب ... ». حديث رقم: (1341) (6/ 246). وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديثين (3988،3964). ومسلم في الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. حديث رقم: (1752) (3/ 1370 - 1372). (¬2) انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص116 - 119، الأضواء (2/ 393). (¬3) أحمد (3/ 114، 123، 190، 279)، الدارمي (2/ 147)، أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السلب يُعطى القاتل، حديث رقم: (2701) (7/ 388). (¬4) البيت في الاستيعاب لابن عبد البر (4/ 113)، تاريخ دمشق (19/ 397)، الإصابة (4/ 113).

رضي الله عنه وأرضاه. قال بعض العلماء: من قتل قتيلاً له سلبه مطلقاً. وقال بعضهم: لا يكون له سلبه إلا بتنفيذ الإمام. وتوسط قوم فقالوا مذهباً ثالثاً، قالوا: إن كان السلب قليلاً استحقه دون تنفيذ الإمام، وإن كان كثيراً توقف على تنفيذ الإمام، واستدلوا لهذا بما جاء في رواية صحيحة في السنن وغيرها أن مددياً من حمير كان مع خالد بن الوليد يقاتل يوم مؤتة، وإذا رجل عظيم من الروم يقتل المسلمين، فجلس له المددي الحميري وراء صخرة حتى مضى عليه فعقر به فرسه وعلاه بالسيف فقتله وأخذ سلاحه. وكان سلاحه كله مذهّباً، وكان ثميناً جدّاً، فلما جاء خالد بن الوليد (رضي الله عنه) أرسل إليه وأخذه منه، وسمعها عوف بن مالك (رضي الله عنه) فقال لخالد: لأعرفنكها عند رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثم لما جاء قصّ الخبر على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مَا لَكَ لاَ تُعْطِيهِ سَلَبَهُ؟ أَعْطِهِ سَلَبَهُ». ثم لما قال ذلك قال له عوف بن مالك: يا خالد، أما قلت لك: إني مُعَرِّفكَها عند رَسُول الله؟ فسمعها صلى الله عليه وسلم فأغضبته وقال: «أَلاَ تَتْرُكُونَ لِي أَصْحَابِي؟ لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لاَ تُعْطِهِ يَا خَالِد» (¬1). قالوا: هذا يدل على أنه إن كان كثيراً لا يعطي؛ لأنه لما سأل خالداً قال: «لِمَ لا تعطيه؟» قال: استكثرته يا رَسُول الله؛ لأنه مالٌ كثيرٌ جدّاً؛ لأن سلاح الرجل فيه ذَهَبٌ كَثِيرٌ وسِلاَحُهُ كله مذهّب. ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، حديث رقم: (1753) (3/ 1373).

واختلف العلماء في حقيقة السَّلَب (¬1)، قال بعض العلماء: هو يقتصر على ما يأخذه لِلأْمَةِ الحرب، كالسيف والدرع والرُّمْح ونحو ذلك، والثياب تدخل فيه إجماعاً. أما إذا وُجد في هميانه أي: في مِنْطَقَتِه التي يُشدّ بها وسطه إذا وجدت فيها دنانير، أو دراهم، أو جواهر، فإنها ليست مِنْ سَلَبِهِ إِجْمَاعاً. واختلفوا في فرسه الذي يقاتل عليه هل هو مِنْ سَلَبِهِ أَوْ لا؟ فقال جماعة: هو مِنْ سَلَبِهِ يَسْتَحِقّهُ القَاتِل. وقال قوم: لا. كما هو خلاف معروف بينهم. واعلموا أن التحقيق أن الرجل الذي يقاتل على فرس أن له في الغنيمة ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه وسهم للرجل، هذا هو التحقيق الذي لا شك فيه -إن شاء الله- وعليه جماهير العلماء، منهم الأئمة الثلاثة (¬2)، وهو ثابت في الصحيح ثبوتاً لا مطعن فيه. وخالف في هذا الجمهور الإمامُ أبو حنيفة (رحمه الله) وقال: إن له سهمين فقط: سهم للفرس، وسهم لصاحبه. والتحقيق أن له ثلاثة أسهم: سهمين للفرس، وسهم للراكب. وقد استدلّ الإمام أبو حنيفة (رحمه الله) بظاهر حديث جاء في ذلك، إلا أن غيره أصح منه وأصرح دلالة في محل النِّزَاعِ. واختلف العلماء في البراذين والهجن هل يقسم لها كما يقسم للخيل العرَاب، أو لا يقسم ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 9)، المغني (13/ 72)، الأضواء (2/ 397). وفي الأصل هنا: «السلاح» , وهو سبق لسان. (¬2) انظر: القرطبي (8/ 14 - 15)، المغني (13/ 85)، الأضواء (2/ 399).

لها (¬1)؟ فسئل عن هذا مالك بن أنس (رحمه الله) فقال: ما أرى أن الهجن والبراذين إلا هي من الخيل؛ لأن الله قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: الآية 8] أترون أن الهجن من البغال؟ قالوا: لا. أترون أنها من الحمير؟ قالوا: لا. قال: هي من الخيل، فتتناولها النصوص الواردة في الخيل (¬2). وقال بعض العلماء في الهجين: والهجين: هو ما أحد أبويه من الخيل رديء من البراذين أبوه أو أمه، فإذا كانت أمّه من العِرَاب الحرائر وأبوه ليس كذلك فهو المعروف بالمُقْرِف (¬3)، ومنه قول هند بنت النعمان بن بشير (¬4): وَمَا هِنْدُ إِلاَّ مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَجَلَّلَها بَغْلُ فَإِنْ وَلَدتْ مُهْراً كَرِيمًا فَبِالحَرَى ... وَإِنْ يَكُ إِقْرَافٌ فما أنجَب َالفَحْلُ فالمقرف: هو الذي أمه من الخيل العِرَاب الجياد وأبوه ليس كذلك، ومن هذا المعنى قول جرير (¬5): ¬

(¬1) انظر: الأوسط لابن المنذر (11/ 160 - 163)، القرطبي (8/ 16)، المغني (13/ 86)، الأضواء (2/ 401). (¬2) المدونة (2/ 32)، الكافي لابن عبد البر ص214. (¬3) انظر: المغني (31/ 87)، الهُجْنَة تكون من قِبَل الأم، والإقراف من قِبَل الأب. كما في أدب الكاتب ص41، المصباح المنير (مادة: هجن) ص243، فتح الباري (6/ 67). (¬4) البيتان في المغني (13/ 87)، أدب الكاتب لابن قتيبة ص41، الاقتضاب شرح أدب الكتاب للبطليوسي (1/ 165)، (2/ 439)، الأضواء (2/ 403). ولفظ البيت الثاني: فَإن نُتِجَت مُهْرًا كريمًا فَبِالحَرى ... وإنْ يكُ إقرافٌ فَمِنْ قِبَلِ الفحلِ (¬5) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

إِذَا آباؤُنا وأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ المُقْرِفَات من العِرَابِ فالحاصل أن الهجن والبراذين قال بعض العلماء: يقسم لها كما يقسم لِلْخَيْلِ الجِيَادِ العِرَاب. وقال بعض العلماء: يقسم لها سهم واحد، نصف ما يقسم للخيل العِرَاب الجِيَاد. وقال بعض العلماء: إن كان لها غَنَاء يقرب من غَنَاء الخيل الجياد قُسِمَ لها مثل قَسْمِها وإلا فنصف قَسْمِها، وشذّ بعض العلماء فقال: لا يُقسَم لها شيء؛ لأنه حيوان لا يقوم مقام الخيل فأشبه الحمير والبغال. وقد كان رجل من حمير من بني وادعة من بطون حِمْيَر أميراً على جيش فسبق الخيل الجياد وتأخر البراذين والهجن فقيل له: اقسم للبراذين والهجن، فلم يعطها إلا نصف ما أعطى لِلْخَيْلِ الجِيَادِ، وقال: لا يمكنني أبداً أن نَجْعَلَ مَا لم يُدْرَكْ كَالَّذِي يُدْرَكُ. فسمعها عمر بن الخطاب فاستحسنها جدّاً، وقال: هبلت الوادعي أمه، لقد ذكَّرنيها (¬1). وكان الشاعر الحميري يفتخر بمقالة الوادعي الحميري هذه فيقول (¬2): وَمِنَّا الَّذِي قَدْ سَنَّ فِي الخَيْلِ سُنَّةً ... وَكَانَتْ سَوَاءً قَبْلَ ذَاكَ سِهَامُهَا أما إذا كانت عنده خيول كثيرة (¬3) فبعض العلماء يقول: لا يأخذ إلا نصيب فرس واحد. وهذا قال به جماعة من العلماء؛ لأنه لا يركب إلا على واحد. وقال جماعة من العلماء: يعطى خمسة أسهم، نصيب فرسين فقط، أما الفرسان فلهما أربعة أسهم، والسهم ¬

(¬1) سنن سعيد بن منصور (2/ 280)، والشافعي في الأم (7/ 337)، والبيهقي (6/ 328)، وذكره الحافظ في الفتح (6/ 67). (¬2) البيت في فتح الباري (6/ 67)، الأضواء (2/ 402). (¬3) انظر: الأوسط لابن المنذر (11/ 157 - 159)، الأضواء (2/ 400).

الخامس له، ولا يُزَادُ على ذلك (¬1). ولا خلاف بَيْنَ العُلَمَاءِ أنه لا يُعْطَى أكْثَر مِنْ نَصِيبِ فَرَسَيْنِ ألْبَتَّةَ، ولو كان عنده خيل كثيرة. ومن قال: يعطى نصيب فرسين قال: لأنه قد يحتاج إلى فرسين ولا يحتاج إلى الثالث غالباً؛ لأن الفرس إذا طال ركوبه قد يضعفه ذلك عن الْكَرِّ والفَرِّ، فيكون عنده فرس آخر جَنيب فيه قوة ونشاط يُزَاوِلُ به في الميدان؛ ولِذَا قال بعض العلماء: يعطى نصيب فَرَسَيْن ولا يزاد عليهما، ولم يقل أحد: إنه يعطى أكثر من نصيب فرسين. فإن كان مقاتلاً على بعير (¬2) فقال بعض العلماء: لَيْسَ لِلإِبِلِ نصيب ألبتّة (¬3)، وعليه جماهير العلماء، وذهب بعض العلماء إلى أن البعير إذا لم يجد غَيْرَهُ كان له نصيب نصف نصيب سَهْمِ الفَرَسِ، وهذا رواية عن الإمام أحمد (¬4)، ومن قال به قليل، واستدل قائل هذا القول بأن الله لما ذكر الموجب الذي استحقوا به الغنيمة ذكر منه الرِّكاب مع الخيل، والرِّكاب: هي الإبل، قال: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: الآية 6] وله وجه من النظر، إلا أن جماهير العلماء أن الإبل لا يقسم لها، وقد كان عندهم يوم بدر سبعون بعيراً فلم يقسموا لها، ولم تخل غَزَوَاته من الإبل، ولم يقل أحد إنه صلى الله عليه وسلم قسم لبعير شيئاً. ¬

(¬1) انظر: الأوسط لابن المنذر (11/ 157 - 159)، القرطبي (8/ 15 - 16)، المغني (13/ 89). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 403). (¬3) وحكى عليه ابن المنذر الإجماع، كما في الأوسط (11/ 162). (¬4) انظر: المغني (13/ 89).

أما إذا كان يقاتل على الفيلة (¬1) كما كانت الأعاجم تقاتل فلم يختلف اثنان من العلماء أن الفِيلَ لا يقسم له شيء إذا قاتل عليه صاحبه. قالوا: ليس كالبعير؛ لأن البعير حيوان يُسَابَقُ عليه ويجوز المسابقة عليه بالسبق، وهو إعطاء العِوَضِ لمَنْ غَلَبَ، كمَا في حديث: «لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» (¬2).أما الفيل فلم يقل أحد من العلماء: إنه يستحق نصيباً إذا قوتل عليه، أما كونه يسابق عليه فقد قاله بعض العلماء، وهو مَبْنِيٌّ عَلَى الخِلاف في قاعدة أصولية معروفة، وهي: هل إذا جاءت عن الله (جل وعلا) أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم نصوص عامة هل تدخل فيها الصور النادرة أو لا تدخل (¬3)؟ قال بعض العلماء: تدخل الصور النادرة. وقال بعض العلماء: لا تدخل الصور النادرة. وهذه القاعدة الأصولية تحتها فروع اختلف فيها العلماء، من هذه الفروع: مَنْ خَرَجَ منه المَنِيُّ بغير لذة، كالذي ينزل في ماء حار فينزل منه المَنِي، أو تلدغه عقرب في ذكره فينزل منه المَنِي، أو تهزّه دابَّة فينزل منه المني، فنزول المني من غير لذة كبرى صورة نادرة، فعلى أن الصور النادرة تدخل في عمومات النصوص يدخل في عموم قوله: «إنَّمَا المَاءُ مِنَ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 404). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 256، 358، 385، 425، 474). وأبو داود في الجهاد، باب في السبق، حديث رقم: (2557) (7/ 241). والترمذي في الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق، حديث رقم (1700) (4/ 205). والنسائي في الكبرى، كتاب الخيل، باب السبق، حديث رقم: (4426) (3/ 41). وابن ماجه في الجهاد، باب السبق والرهان، حديث رقم: (2878) (2/ 960). (¬3) انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 55)، نثر الورود (1/ 245).

المَاءِ» (¬1) فيجب عليه الغُسل، وعلى أنها لا تدخل في النصوص فلا يجب عليه الغسل. قالوا: ومن فروع هذه القاعدة المسابقة بِسَبَقٍ على الفيل؛ لأن الفيل ذو خفٍّ، فَرِجْلُ الفِيلِ كَرِجْلِ البَعِيرِ، فهو مِنْ ذَوَاتِ الخِفَافِ. والفيل صورة نَادِرَة قد لا تَخْطُرُ في ذِهْنِ المُتَكَلِّم، فعلى أن الصور النادرة تدخل في عمومات النصوص تجوز المسابقة على الفيل، وعلى هذا القول لا يبعد أن يكون فيه مثل القول الذي في الإبل، وعلى أن الصور النادرة لا تدخل في النصوص لا تجوز المسابقة على الفيل. هذا من حكم الغنائم. وقد ذكرنا الآن أن الغَنِيمَةَ إن كانت أرضاً فللإمام فيها ثلاثة أقوال (¬2)، وإن كانت غير أرض فإنها تقسم على التحقيق بين المجاهدين، وأن التحقيق أن للإمام أن ينفّل منها في الصور التي ذكرنا (¬3) كتنفيله الربع في البدء، والثلث في العودة، وتنفيل بعض الرجال لشدة شكيمته وغَنَائه، وتنفيله من أَخَذَ السَّلْبَ كما قال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» (¬4). واختلاف العلماء فيه هل هو فتوى فيعم، أو حكم فيخص؟ ولأجل هذا اختلفوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بِنْت عُتْبَةَ بن رَبِيعَة لما قالت له: أبو سفيان رجل يمسك ولا يعطيني ما يكفيني وولدي. فقال: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ» (¬5). ¬

(¬1) مسلم في الحيض، باب إنما الماء من الماء. حديث رقم: (343) (1/ 269). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 367). (¬3) انظر: الأضواء (2/ 385). (¬4) تقدم تخريجه قريباً. (¬5) البخاري في البيوع، باب «من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع .. » حديث رقم: (2211) (4/ 405). وأخرجه في مواضع أخرى، أُنظر الأحاديث: (2460، 3825، 5359، 5364، 5370، 6641، 7161، 7180). ومسلم في الأقضية، باب قضية هند. حديث رقم: (1714) (3/ 1338).

فعلى أنه فتوى فهو يعم جميع النساء (¬1)، فتكون كل امرأة بَخِلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا بالإنْفَاقِ اللازم جاز لها أخذه بغير إذنه. أو هو حكم فيكون خاصّاً كقضيَّةِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ». واعلم أن من أحكام الغنيمة: حرمة الغلول (¬2)، والغلول في الشرع (¬3): هو أن يسرق الإنسان من الغنيمة، فإذا سرق الإنسان من الغنيمة قبل أن تقسم، أو زنا ببعض المسبيات في الغنيمة قبل أن تقسم، فجماهير العلماء -منهم الأئمة الثلاثة- أنه لا يجلد حد الزنا، وأنه لا يُقطع يده في السرقة (¬4)؛ لأن له شبهة في الغنيمة؛ لأنه من المستحقين لها وهو مشارك فيها. ومذهب مالك بن أنس رحمه الله في هذه المسألة مشكل غاية الإشكال؛ لأن مالكاً (رحمه الله) يرى أنه إن سرق من الغنيمة قبل القسم، أو وطئ جارية من المغنم قبل القسم أنه يُحدُّ حدّ السرقة وحد الزنا (¬5)، مع أنه يرى أنه لو مات في ذلك الوقت لورث عنه وارثه نصيبه من الغنيمة! كيف يكون فيه نصيب يُورث عنه ولا يكون شبهة تدرأ عنه الحد؟ ففي هذا المذهب إشكال، وإن قال به هذا الإمام العظيم الجليل المعروف. ¬

(¬1) انظر في هذه المسألة: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص112 - 114. (¬2) انظر: القرطبي (4/ 258)، الأضواء (2/ 407). (¬3) انظر: القرطبي (8/ 256)، القاموس الفقهي ص277، الأضواء (2/ 404). (¬4) انظر: القرطبي (4/ 261)، المغني (13/ 195، 196)، الأضواء (2/ 407). (¬5) انظر: الكافي لابن عبد البر ص212، الأضواء (2/ 407).

واعلموا أن الوقت الذي يستحق فيه الغانم نصيبه من المغنم اختلف فيه العلماء (¬1): فقال بعض العلماء: إذا أخذوا في الدرب، والدروب هي: الطرق الموصلة إلى بلاد الكفار من العَجَمِ ونحْوِهِمْ إذا أخذوا فيها فَكُلّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَهُ نَصِيبُهُ من الغنيمة، ولو مات قبل أن تُحاز الغنيمة. وهذا قائله قليل وليس بوجيه. وقال بعض العلماء: لا يُورَثُ عَنْهُ نَصيبُهُ ويَسْتَحِقُّهُ حتى يحوز المسلمون الغنيمة، ويخرجون بها من ديار الحرب إلى بلاد الإسلام، فعند ذلك الوقت يَسْتَقِرُّ مُلْكهم لها، ويورث عنه نصيبه، وُيرْوَى نَحو هذا عن أبي حنيفة رحمه الله. وأظهر الأقوال: أنه إِنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ حَازَ المُسْلِمُونَ الغَنِيمَةَ وأخَذُوهَا مِنَ الكُفَّارِ يورث نصيبه عنه، وإن مات قَبْلَ أَنْ تُحَازَ لم يُورَثْ عَنْهُ شَيْء (¬2)؛ لأنه مات قبل أن يحصل شيء يكون ملكاً له حتى يورث عنه، هذا هو الأظهر. هذه أحكام من أحكام الغنيمة. واعلموا أن العلماء اختلفوا في الغال هل يُحرق رحله أو لا (¬3)؟ فقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على أن الغَالَّ -السارق من الغنيمة- يُحْرَقُ رَحْلُهُ ومَتَاعُهُ، وهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والخُلَفَاءِ وغَيْرِهِمْ ربما حرقوا متاع الغالِّ وربما تركوا حَرْقَهُ. وأظْهَر الأقوال في هذه المسالة أنها من التَّعْزِيرَاتِ المالية الموكُولة إلى نظر الإمام إن رأى المصلحة في حَرْقِ مَتَاعِهِ حَرَقَهَ وَلَهُ ذَلك، وإن رأى إِبْقَاءَهُ أَبْقَاهُ، ¬

(¬1) انظر: المغني (13/ 91)، الأضواء (2/ 408). (¬2) انظر: المغني (13/ 91). (¬3) انظر: القرطبي (4/ 259 - 260)، المغني (13/ 168 - 172) الأضواء (2/ 404).

وإن كان فيه مصحف فإنَّهُ لاَ يَحْرِقُهُ، وقد غلّ رجل في بعض الغزوات فيها بعض المسلمين فحرقوا متاعه ووجدوا فيه مصحفاً فباعوا المصحف وتصدقوا بِثَمَنِهِ (¬1) كذا قال بعضهم، والله أعلم. وقوله تعالى في هذه الآية: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: الآية 41] قال بعض العلماء (¬2): الخمس ستة أنصباء: نصيب لله، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القرابة، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل. ومن قال: إنها ستة أنصباء، لم أعلم أحداً اشتهر عنه هذا القول إلا أبا العالية (رحمه الله) فإنه قال: الخمس يُجعل ستة أنصباء، قال: ونَصِيبُ اللهِ هُوَ أنَّهُ إِذا جاء المال يأخذ الإمام ويملأ يده منه ويجعلها في رِتَاج (¬3) الكعبة. فعنده: نصيب الله يُصرف في مصالح الكعبة. وهذا القول لا يَخْفَى ضَعْفُهُ؛ لأنه لا دليل عليه. والتحقيق -إن شاء الله- الذي عليه جماهير العلماء: أن نصيب الله ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، وأن اسم الله ذُكر للاستفتاح والتعظيم لشأنه (جل وعلا) (¬4)؛ لأن كل شيء له جل وعلا {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: الآية 91] فنصيب الله هو نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور (2/ 269)، والدارمي (2/ 149)، وأبو داود في الجهاد، باب في توبة الغال، حديث رقم: (2696) (7/ 381)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به، حديث رقم: (1461) (4/ 61). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 550)، القرطبي (8/ 10)، الأضواء (2/ 357). (¬3) قال في المصباح المنير: «والرِّتاج -بالكسر-: الباب العظيم، والباب المغلق أيضاً. وجعل فلان ماله في رتاج الكعبة، أي: نَذَرَهُ هَدْياً. وليس المراد نفس الباب» اهـ (المصباح المنير: مادة: رَتَجَ) ص83. (¬4) انظر: ابن جرير (13/ 548)، الأضواء (2/ 358).

والتحقيق: أن نصيب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الخُمُس كان يردُّه على مصالح المسلمين لا يأخذ منه شيئاً؛ لأنه كان يأخذ خلته الضرورية مِنْ فَيْء بني النضير، وربما أخذ منه بعضاً من فَيْءِ قُرَيْظَةَ، وأن نصيبه إنما يجعله في مصالح المسلمين، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حديث ثابت رواه بعض أصحاب السنن والإمام أحمد وغيرهم أنه (صلوات الله وسلامه عليه) قال: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلاَّ الخُمُس، والخُمُس مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» (¬1)، فصرّح بهذا الحديث بأن الخمس مردود عليهم. واختلف العلماء في نصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته (¬2): فجماهير العلماء على أن نصيبه ثابت بعد مَوْتِهِ ولا يسقط بموته، وكذلك نصيب قرابته، وأن الإمام بعده يصرفه في مصالح المسلمين كما كان يصرفه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر يصرفان نصيبه صلى الله عليه وسلم في مصالح المسلمين العامة من الكراع والسلاح وغيره كما كان صلى الله عليه وسلم يفعله. وخالف في هذا الإمام أبو حنيفة (رحمه الله) فقال: بعد موته صلى الله عليه وسلم يسقط نصيبه ونصيب قرابته، فما يبقى إلا ثلاثة أنصباء، ¬

(¬1) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم: 1 - عبد الله بن عمرو. عند أبي داود في الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، حديث رقم: (2677) (7/ 359)، والنسائي في قسم الفيء، حديث رقم: (4139) (7/ 131). 2 - عمرو بن عبسة. عند أبي داود في الجهاد، باب في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه، حديث رقم: (2738) (7/ 434). 3 - عبادة بن الصامت. عند مالك في الموطأ، حديث رقم: (985) ص304، والنسائي في قسم الفيء حديث رقم: (4138) (7/ 131). (¬2) انظر: ابن جرير (13/ 556) القرطبي (8/ 11)، الأضواء (2/ 360).

وهي نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل. وجماهير العلماء على خلاف هذا. وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: الآية 41] اختلف العلماء في المراد بـ (ذي القربى) (¬1) فقال بعضهم: بنو هاشم. وقال بعضهم: قريش. والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه: أن المراد بـ (ذي القربى) بنو هاشم وبنو المطلب خاصة، وقد ثبت هذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي العدول عنه. هذا هو المذهب الحق الذي لا شك فيه، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحمد (رحمهما الله)، وُيروى عن أبي حنيفة. أما ما ذهب إليه مالك من أنهم خصوص بني هاشم. وما قاله بعض القرشيين من أنهم قريش كلهم فهو خلاف التحقيق. والدليل على هذا القول: هو ما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم أموال خيبر وأخرج خُمُسَهَا أعْطَى نَصِيبَ القَرَابَةِ مِنْ خُمس خيبر لخصوص بني هاشم وبني المطلب، ولم يُعْطِ لإخوانهم الآخرين -أعني بني عبد شمس وبني نوفل- فجاء عُثْمَان بن عَفَّان وهو مِنْ بَنِي عبد شمس، وجبير بن مطعم وهو مِنْ بَنِي نوفل، فقالوا: يا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت إخواننا مِنْ بَنِي المُطَّلِبِ ونحن وهم بالنسبة إليك سواء، فلِمَ تُعْطِهِمْ وتَمْنَعنا؟ فأعْطِنَا كما أعطيتهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّا وَبَنو المُطَّلِب شَيْءٌ وَاحِدٌ»، وفي بعض رواياته: «لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ» (¬2)؛ لأن هؤلاء الأربعة إخوة؛ لأن عبد مناف ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 553) القرطبي (8/ 12)، الأضواء (2/ 361). (¬2) البخاري في فرض الخمس، باب من الدليل على أن الخمس للإمام، حديث رقم: (3140) (6/ 244). وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديثين: (3502، 4229).

أولاده أربعة: وهم هاشم جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والمطلّب، وعبد شمس، ونوفل (¬1). أما الثلاثة الأوّلون منهم أشقَّاء، وأمهم عاتكة بنت مرة، إحدى عواتك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض أصحاب المغازي والأخباريين ذكروا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض مغازيه: «أَنَا ابْنُ العَوَاتِكِ مِنْ سُلَيْمٍ» (¬2). وعواتك سليم هذه التي انتسب إليها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عواتك معروفة (¬3): الكبرى منها عمّة الوسطى، والوسطى عمّة الصغرى كما هو معروف. وسُليم بن منصور من قبائل قيس عيلان بن مضر، وسليم أخو هوازن. والعواتك هذه: صغراهن: عاتكة بنت الأوقص بن مرّة بن هلال، وعمتها: عاتكة بنت مرة، وعمّة هذه: عاتكة بنت هلال. أما الصغرى منهما -وهي عاتكة بنت الأوقص- فَهِيَ والِدَةُ وَهْبٍ والدة آمِنَة بِنْت وهب أُمّ النبي صلى الله عليه وسلم، فهي جَدَّتُه من قبيل والد أُمّه، وأما عمتها وهي: عاتِكَة بِنْت مُرَّةَ: فهي أم هاشم جده صلى الله عليه وسلم وأخويه الشقيقين: المطلب وعبد شمس، أما أخوهما نوفل فهو ليس بشقيقهما، وأمه تُسمى واقدة بنت أبي عدي، واسم أبي عدي: نوفل. سمّت عليه ولدها نوفل هذا، والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاداه المشركون، وقاطعوا بني هاشم، واضطروهم إلى ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 12)، الأضواء (2/ 362). (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2840، 2841)، والطبراني في الكبير (7/ 168 - 169)، والبيهقي في الدلائل (5/ 135، 136)، وابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق) (1/ 289)، والعلائي في جامع التحصيل ص234، وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 219) وقال: «رجاله رجال الصحيح» اهـ، وابن كثير في تاريخه (4/ 328). وهو في الكنز (31874، 35504) والسلسلة الصحيحة (1569). (¬3) انظر: تهذيب تاريخ دمشق (1/ 289) الأضواء (2/ 362).

أن يرحلوا إلى الشِّعْب كان بنو المطلب معهم في كل بلية، ولم يفارقوهم في شيء، وكان إخوانهم الآخرون بنو عبد شمس وبنو نوفل كانوا مُعَادِينَ لهُمْ قريش ولم ينصروهم عليهم، وكان أبو طالب يقول لهم في لامِيَّتِهِ المشهورة (¬1): جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً ... عُقُوبةَ شَرٍّ عَاجلاً غير آجلِ ... بِمِيزَانِ قِسْطٍ لاَ يَخِيسُ شَعِيرَةً ... له شاهدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ ... لَقَدْ سفهتْ أَحْلاَمُ قَوْمٍ تَبَدَّلوا ... بني خَلَفٍ قيضاً بنا والغَيَاطِلِ ... ونحن الصَّميمُ مِنْ ذُؤَابةِ هَاشِمٍ ... وآلِ قصيّ في الخُطُوبِ الأوَائِلِ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب انسجامهم معهم في كل البلايا وصبرهم عليهم في الشدائد فجعلهم من القرابة، وأعطاهم من خُمس خيبر سهم ذي القرابة، ولم يعط إخوانهم الآخرين -أعني بني عبد شمس وبني نوفل- شيئاً. وهذا هو التحقيق في ذي القرابة. واختلف العلماء في القرابة هل يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُم (¬2)؟ فذهب الشَّافِعِيّ وأحْمَدُ أنهم يُعطون للذكر مثل حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، قالوا: نالوه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم عصبته، والمعروف أن المال المستحق لِلْعَصَبة يكون فيه الذَّكَرُ له حَظّ الأنثيين. وقال بعض العلماء: ذكرهم وأنثاهم سواء. وهذا أقربها؛ لأن تفضيل الذكر على الأنثى يحتاج إلى دليل، ولم يرو أحد أنه فضّل ذكرهم على أنثاهم. ولا يُشترط فيهم على التحقيق الفقر (¬3)، فيعطى بنو هاشم والمطلب غنيّهم وفقيرهم. ¬

(¬1) القصيدة في البداية والنهابة (3/ 53 - 57)، الأضواء (2/ 363). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 12). (¬3) انظر: السابق.

أما نصيب اليتامى والمساكين فلا يعطى إلا لفقرائهم، فلا يُعْطَى يَتِيمٌ غنيٌّ ولا مسكين غني. واليتيم من بني آدم: هو من مات أبوه (¬1). وغلط قوم فقالوا: اليتيم من الآدميين: من مات أبوه وأمه، قالوا: قال مجنون ليلى (¬2): إِلى اللهِ أشْكو فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا ... إِلى اللهِ فَقْدَ الْوَالِدَيْنِ يَتِيمُ فسمّاه يتيماً بفقد الوالدين. والصواب: فقد الأب وَحْدَهُ يَكْفِي في يُتْمِهِ. وابن السبيل: هو المنقطع عن بلاده. والسبيل: الطريق. وإنما قال له: ابن السبيل كأنه يقول: ولد الطريق. وتسميته ولد الطريق فيه للعلماء وجهان: أحدهما: أنه كثر سلوكه لها، والعرب إذا كثرت ملازمة الشيء للشيء قالوا ابنه، ومنه قول غيلان ذي الرمة (¬3): وردتُ اعتِسَافاً والثُّريا كأنَّها ... على قمةِ الرأسِ ابن ماء مُحَلَّقِ فسمى طير الماء الملازم له: ابن الماء، فلما كان المسافر ملازماً للطريق قيل له: ابن الطريق. وقال بعض العلماء: كأن الفلاة تمخّضت عنه كما تتمخّض النتوج عن ولدها فرمتنا به كما ترمي الحامل بما في بطنها. وهذا ¬

(¬1) تقدم عند تفسير الآية (152) من سورة الأنعام. (¬2) البيت في ديوانه ص188. (¬3) البيت في تاريخ دمشق (24/ 252).

المعنى أوضحه مسلم بن الوليد الأنصاري صريع الغواني إيضاحًا كاملاً -وإن كان الشعر هنا لا يصلح شاهداً لتأخُّرِ زَمَنِهِ ولَكِنْ يَصْلح مثالاً للإيضاح- فإنه قال في رجل يزعم أن بيداء -وهو الفلاة الواسعة- ولدته وتمخّضت عنه وصار ابنها كما تتمخّض النتوج عن ولدها قال (¬1): تمخَّضتْ عنه تِمّاً بعد مَحْمله ... شهرينِ بَيْداءُ لم تُضرب ولم تَلدِ ... ألقتْه كالنَّصْلِ معطوفاً على هِمَم ... يعمدن منتجعَاتٍ خيرَ مُعتمِدِ وابن السبيل: هو المحتاج الآن، وهو منقطع عن بلده، ولو كان غنيّاً في بَلَدِهِ، فيعطى من الخُمُسِ ما يُوَصِّلُهُ إلى بَلَدِهِ حتى يرجع إلى محله. هذا معنى: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: الآية 41]. [5/أ] / {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44)} [الأنفال: 41 - 44]. ¬

(¬1) البيت في ديوانه ص71، وفي شرحه للدهان ص84.

يقول الله جل وعلا: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} [الأنفال: الآية 41] تَكَلَّمْنَا على جُمَلٍ مِنَ الأحْكَامِ الدَّاخِلَة تحت هذه الآية من أحكام المغانم، ومن جملة ما ذكَرْنَا: أن العلماء اختلفوا في خُمس الغنيمة، فقال بعضهم: يُجعل ستة أقْسَام، قسم لله، وقسم للرسول صلى الله عليه وسلم، وقسم لِذِي القُرْبَى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وكان أبو العالية (رحمه الله) يقول: إن قسم الله (جل وعلا) يُجعل للكعبة. وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب بيده في الخمس فيأخذ منه ويجعله للكعبة، وأن هذا هو نصيب الله (¬1). وأكثر العلماء على أن نصيب الله والرسول صلى الله عليه وسلم واحد، وأن اسم الله إنما ذكر تعظيماً وإجلالاً واستفتاحاً للكلام بذكر اسمه؛ لأن كل شيء كائناً ما كان فهو له -جل وعلا- ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصرفه في مصالح المسلمين كما دل عليه حديث: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلاَّ الخُمس، والخُمس مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» (¬2). وقد قدّمنا أن أصح الأقوال: في (ذي القربى) أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنهم هم المرادون بآية الأنفال هذه؛ لأنه لما خَمَّس خيبر أَعطى خُمس الخمس لبني هاشم وبني المطلب باسم أنه سهم ذي القربى. وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره؛ لأن البخاري (رحمه الله) أخرج الحديث هذا في صحيحه في مواضع متعددة: جاء عثمان بن عفان وجبير بن مطعم ¬

(¬1) مضى قريباً. (¬2) مضى قريباً.

إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى بني هاشم وبني المطلّب خمس ذي القربى من غنائم خيبر، قال العبشميون والنوفليون: نحن من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قرابتنا مثل قرابة بني المطلب، فجاء عثمان وهو من بني عبد شمس؛ لأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) هو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وعبد شمس أخو المطلب، وهاشم وجبير بن مطعم هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، ونوفل هذا أخو هاشم والمطلب، فجاء جبير وعثمان يطلبون النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم أن يُسَوِّيَ بَنِي نوفل وبني عبد شمس ببني المطلب، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم وبَيَّنَ أَنَّ بَنِي المطلب وبني هاشم هم المرادون بالقرابة، وأنهم هم المستحقون خُمس خمس الغنيمة. وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) فلا ينبغي الخلاف فيه. وإن كانت جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه قالوا: أن ذي القربى أنهم الهاشميون. وجماعة قالوا: إنهم قريش كلهم. فأصح الأقوال وأثبتها دليلاً أن المراد بذي القربى: بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف دون إخوتهم الآخرين من بني عبد شمس وبني نوفل، فهذا هو الصواب -إن شاء الله-؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله مبيّناً به معنى هذه الآية الكريمة. وقد ذكرنا أن العلماء اختلفوا في ذي القُرْبَى، فجمهور العلماء على أن نصيبهم باق، وأنه لم يسقط بموته صلى الله عليه وسلم خِلاَفاً لأبي حنيفة، وقد قدّمنا أن أكثر العلماء على أنه يعطى منه غنيهم وفقيرهم ولا يختص بفقرائهم، وأن بعض العلماء قال: يُفضّلُ ذَكَرهُمْ على أُنْثَاهُمْ كالمِيرَاثِ. وبعضهم قال: يُسوّى فيه الذكر والأنثى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريباً.

وأن المراد بنصيب اليتامى: قال بعض العلماء: يجعل خُمُس الخمس لسد خلاّت اليتامى الفقراء الذين لم يترك لهم آباؤهم مالاً. والمساكين: جمع مسكين، والمسكين إذا أُطْلِقَ وَحْدَهُ -لم يذكر معه الفقير- تناول الفقير، وعلماء التفسير يقولون: المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. يعني: إن ذُكرا معاً مجتمعين افترق حكمهما فكان أحدهما أشَدّ فقراً من الآخر، وإن افترقا -بأن ذكر المساكين دون الفقراء -أو الفقراء دون المساكين- اجتمعا. أي: شَمِلَ المسْكِينَ حكمُ الفقير، والفقيرَ حكمُ المسكين (¬1). ومعلوم اختلاف العلماء في الفقير والمسكين أيهما أحوج (¬2)، فذهب بعض العلماء، وهو رأي مالك بن أنس وطائفة من العلماء إلى أن المسكين أشد حاجة. واستدلوا بأن الله قال: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: الآيات 14 - 16] فوصف المسكين بأنه (ذو متربة) ومعنى (ذو متربة): لاصق بالتراب ليس له شيء غير التراب، وأنه (مِفْعِيل) من السكنى؛ لأن يده سكنت عن التصرف، وجوارحه عن النشاط من الجوع والفاقة. وهو عربي فصيح (¬3): ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 305)، الفروق اللغوية ص145، القرطبي (8/ 167)، ابن كثير (2/ 364). (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 305)، الفروق اللغوية ص145، القرطبي (8/ 167)، ابن كثير (2/ 364). (¬3) البيت للراعي النميري، وهو في ديوانه ص90، القرطبي (8/ 169). وقوله: «سبد»، أي: وبر، وقيل شعر. وذلك كناية عن الإبل أو الغنم.

أَمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبتُهُ ... وَفْقَ العِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فسمّاه فقيراً وعنده حلوبة قدر عياله. وقال جماعة آخرون من العلماء: إن الفقير أشد حاجة، واستدلوا بأن الفقير كأن الفاقة قصمت فقارته لشدتها. قالوا: وقد سمى الله قوماً مساكين وعندهم سفينة عاملة في البحر في قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: الآية 79] فسماهم مساكين مع أن عندهم سفينة عاملة بالإيجار، هكذا قال بعض العلماء. وابن السبيل معناه: ولد الطريق. يُعطى من خمُس الخُمس ما يبلغه أهله. وابن السبيل مصرف محتاج، ولو كان غنيّاً في محله؛ لأن ماله في محله الذي هو متغرِّب عنه لا يدفع فقره في حالته الراهنة في حال كونه متقطعاً في سبيله. وهذا معنى قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: الآية 41] هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال يعظّم الله فيها شأن الخُمس، كأنه جعل أداء الخمس من الإيمان. يعني: إن كنتم آمنتم بربكم (جل وعلا) وما أنزل على نبيه فاعلموا وتيقّنوا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، ونفِّذوا ذلك. ولذا ذكر البخاري (رحمه الله) في كتاب الإيمان أن أداء الخُمس من الإيمان (¬1)؛ لأن الله لمَّا ذَكَرَ أداء الخمس قال: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: الآية 41] وفي حديث وفد عبد القيس الثابت في الصحيح المشهور ¬

(¬1) البخاري (مع الفتح) (1/ 129).

أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عدّ خصال الإيمان عدّ منها أداء الخُمس (¬1)؛ وذلك لأن الله قال بعد ذكره أداء الخُمس: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ} واعلموا أن جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه (¬2) قالوا: إن هذه المصارف الخمسة (¬3) لا تعيّن كلها، بل الأمر موكول إلى اجتهاد الإمام يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، إلا أن الله أرشد إلى أن هذه الخمسة هي المصارف التي لا ينبغي أن يتجاوزها به. وهذا رأي مالك، ونصره غير واحد، والظاهر الذي هو الاحتياط: أن يجعله خمسة أنْصِبَاء (¬4)، كما قال الله (جل وعلا)؛ لأن الله شدّد في ذلك في قوله: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} {عَبْدِنَا}: هو محمَّد صلى الله عليه وسلم وصيغة الجمع في قوله: {وَمَا أَنزَلْنَا} للتعظيم. وقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا} معطوف على اسم الجلالة، أي: إن كنتم آمنتم بالله وآمنتم بالذي أنزلنا على عبدنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات القرآنية؛ لأن الله أنزلها عليكم، وَنَصَرَكُمْ عِنْدَ نزولها، وأمركم فيها بأداء الخُمس إن كنتم مؤمنين، فإن كنتم مؤمنين بما أنزل الله على نبيه ¬

(¬1) البخاري في الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان، حديث رقم: (53). وأخرجه في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث: (87، 523، 1398، 3095، 3510، 4368، 4269، 6176، 7266، 7556). ومسلم في الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين، حديث رقم: (17، 18) (1/ 46). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 11)، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص169 - 170. (¬3) أي: للخُمُس. (¬4) انظر: الأضواء (2/ 365).

فاعلموا أنما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فأن لله خُمُسَهُ؛ لأن ذلك من جملة ما أنزل الله في هذه الآيات النازلة يوم بدر. وقال بعض العلماء: المراد بقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي: إن كنتم آمنتم بالذي أنزلنا على عبدنا قالوا هو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: الآية 1] وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج خمُسها ويصرفه في هذه المصارف المذكورة {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ} [الأنفال: الآية 41] بذلك المنزّل فاعْلَموا أنما غنمتم من شيء فخمسه لله. وهذا معنى قوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} لأن العبد من أشْرَف الصفات؛ لأن أَشرف الصفات: العبودية له (جل وعلا)؛ ولذا إذا أراد الله أن يرفع من شأن نبيّه ويعظّم الموقف الذي هو فيه عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ العَبْدِ؛ لأنها أعْظَم صفة وأكرمها كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: الآية 1] وقال هنا: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله {عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يوم الفرقان هو يوم بَدْر، لم يكد يُختلف في ذلك، وإنما قيل لبدر يوم الفرقان؛ لأنه يوم فَرَّقَ اللهُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، أوْضَحَ حجَّة الإسلام أنه الحَق، وأن الكفر باطل إيضاحاً يشاهده الجاهل والعالم والغَبِيّ؛ لأنه الْتَقَتْ فِئَتَانِ: فئة كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، وهي فئة قويَّة في عَدَدِهَا وعُدَدِهَا، وفئة مؤْمِنَة تقاتل في سبيل الله، هي ضعيفة في عَدَدِهَا وعُدَدِهَا، فنصر الله [الضعيفة على القوية] (¬1) وغَلَبَتْهَا وقَتَلَتْ صَنَادِيدَهَا وأشرافها وأسَرَتْهم، فتبيَّن بهذا بياناً واضحاً شافياً يَرَاهُ الناس بحواسهم أن ¬

(¬1) في الأصل: «القوية على الضعيفة» وهو سبق لسان.

الإسلام دين الحق، وأن الله فرَّقَ بين الحق والباطل بوقعة بدر؛ إذ ليس من المعقول أن تكون الفئة الضعيفة القليلة في عددها وعُددها هي الغالبة القاهرة إلا بتأييد من خالق السماوات والأرض (جل وعلا)، وهذا التأييد لا يكون منه إلا لأنها هي المحقّة؛ ولذا سمّى الله بدراً (فرقاناً) وسماه (بيّنة) وسمّاه (آية). سمّاه (فرقاناً) في قوله هنا: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: الآية 41] وسماه (بيّنة) في قوله في هذه الآية {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: الآية 42]؛ لأنه سيأتي تفسيره، أي: ليبقى على كُفْرِه مَنْ كَفَرَ عَلَى وضوح مِنْ أمْرِهِ أنَّ الكُفْرَ بَاطِل، {وَيَحْيَى} بالإيمان {مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} وضوح ظاهر لا شك فيه أن الإسلام حق لنصر الفئة القَلِيلَةِ الضَّعِيفَة على الفئة الكافرة القويَّة. وسمّاه (آية) في سورة آل عمران في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: الآية 13] آية؛ أي: علامة على أن دين الإسلام هو الحق الذي لا شك فيه. وهذه الآية القرآنية تدل على أنَّ مِنْ عَلامات دين الإسلام وأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله غَيْرَهُ كما قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: الآية 85] وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: الآية 19] وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: الآية 3] تبيّن أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ هذا الدين ومن علاماته: أن الفئة القليلة المتمَسِّكَة به تغلب الفئة القوية الكافرة التي لم تتمسك به، وقد جاءت لهذا أمثلة عديدة في القرآن سنذكر لكم بعضها ليتضّح معنى الآية (¬1)؛ من ذلك ما قصّه الله (جل وعلا) علينا في سورة ¬

(¬1) انظر: الأضواء (3/ 453) ..

الأحزاب في غزوة الخندق لما جاء الكفار في عَددهم وعُددهم وحاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة -هذه حرسها الله- وحاصروهم ذلك الحصار العَسْكَرِي التاريخي العَظِيم الذي نَوَّه اللهُ بِشَأْنِهِ، وبَيَّنَ شِدَّتَهُ وعظمه في سورة الأحزاب في قوله: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)} [الأحزاب: الآيتان 10 - 11] هذا الحصار العظيم جاء وعدد الكفار ضخم، وعُددهم قوة، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ضعف وقلة من المال والسلاح، وفي جوع، حتى إن في غزوة الخندق وسيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) كما يذكره المؤرخون والأخباريون وغيرهم يشد حزامه على الحجارة مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ، وهم في ذلك الوقت الناس جميعاً مقاطعوهم سياسيّاً واقتصاديّاً، ليس بينهم وبين أحد من أهل الأرض علاقات اقتصادية، ولا علاقات سياسية، آخر قوم كانت بينهم وبينهم عهود: يهود بني قريظة، فلما نزل الأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم وحاصَرُوهم هذا الحصار العسكري التاريخي العظيم المنوَّه عنه في القرآن، في ذلك الوقت غدر بنو قريظة ونبذوا العهود وصاروا مع الكفار، فلم يَبْقَ لهم تحت أديم السماء صديق ولا مُعِين إلا الله (جل وعلا) وحده، ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ (رضي الله عنهما) إلى بني قريظة يعرف خبرهما هل هما على عهودهما أو نقضوا العهود وصاروا مع المشركين؟ قال لهم (صلوات الله وسلامه عليه): «إِنْ وَجَدْتُمُ الْقَوْمَ نَقَضُوا العُهُودَ فَكُنُّوا لِي وَلاَ تُصَرِّحُوا بِإِشَارَةٍ نَفْهَمُهَا وَلاَ يَفْهَمُهَا غَيْرِي»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاف أن يداخل الناس شدة الجبن والجزع؛

لأنهم ما كان لهم من الأصدقاء إلا القرظيون من اليهود، فإذا غدروا وصاروا مع الكفار في هذا الوقت الضنك وهذا الموقف الحرج كان الأمر أعظم واشتد على غير أقوياء القلوب من المسلمين، فجاء سعد وسعد إلى بني قريظة فوجدوا سيّدهم كعب بن أسد -قاتله الله- فَتَنَه اللعين حيي بن أخطب سيد بني النضير، ونقضوا العهود، وغدروا، وصاروا مع المشركين على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: هم عضل. ليفهمها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفهمها غيره. وعضل: يعني هم وبنو القارة من الذين غدروا ببعث الرجيع. فأشاروا له بأنهم في الغدر كبني عضل وبني القارة، ففهمها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (¬1)، ففي هذا الموقف الضنك الحرج كان الذي واجه المسلمون به هذا الموقف الضنك العظيم والحصار العسكري العظيم [هو الإيمان والتسليم كما أخبر الله -تعالى- عنهم بقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}] (¬2) {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: الآية 22] وكان من نتائج هذا الإيمان العظيم والتسليم الكبير ما قصّه الله علينا في مُحْكَمِ كِتَابِهِ في سورة الأحزاب في قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: الآية 25] يقول: إن كنتم أذلاء -لستم بأعزاء ولا أقوياء- فهو (جل وعلا) قويٌّ عزيز لا يُغْلب من استند إليه، فالفئة القليلة المستندة إليه يقويها بقوته ويعزّها بعزّته، فلن تُغْلب، إلى أن قال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ¬

(¬1) سيأتي تخريجه عند تفسير الآية (57) من هذه السورة. (¬2) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام ..

وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)} [الأحزاب: الآية 27] يعني: إن كانت قدرتكم ناقصة وأنتم عاجزون فهو (جل وعلا) على كل شيء قدير، فالفئة المستندة عليه يجعل لها القدرة والتمكين بقدرته، ومن أمثلة هذا أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) لما صدَّه المشركون مع أصحابه في غزوة الحديبية وهم محرمون كما سيأتي في قوله: {همُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: الآية 25] وأرسل عُثمان بن عفان (رضي الله عنه) بالهدايا لينحرها في الحرم، وتلقّاه بنو عمه؛ لأنه أراد أولاً أن يرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: إن بني عدي لا يقدرون أن يحموني من قريش، ولكن أدلك على رجل أعزّ مني في قريش هو عثمان بن عفان رضي الله عنه: فأرسل عثمان رضي الله عنه بالهدايا وتلقّاه بنو عمه يقولون (¬1): أَقبِلْ وأَدْبِِرْ لا تَخَفْ أَحَدَا ... بنُو سعيدٍ أَعزَّة الحرمِ فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبر كاذب أن الكفار قتلوه، فبايعه أصحابه تحت سمرة من شجر الحديبية بيعة الرضوان، وعندما بايعوه علم الله في ذلك الوقت من قلوبهم الإخلاص الكامل والإيمان كما ينبغي بالله (جل وعلا)، فكان من نتائج ذلك الإيمان الكامل والإخلاص الذي اطّلع الله عليه في قلوبهم أنه بيّن لهم أنه يجعلهم قادرين على من هم عاجزون عنه كما أوضح هذا في سورة الفتح في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (159) من سورة الأنعام.

[الفتح: الآية 18] أي: علم الله ما في قلوبهم من قوة الإيمان والإخلاص لله، فنوّه عنه بالاسم المبهم الذي هو الموصول، فكان من نتائج هذا الإيمان والإخلاص كما ينبغي ما قصّ الله علينا في سورة الفتح حيث قال: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: الآية 21] فصرّح بأن إمكانياتهم العددية والعُددية لا تُقدرُهم عليها، ثم قال: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أي: فأقدركم عليها {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الفتح: الآية 21] إن كانت قدرتكم ناقصة فقدرته (جل وعلا) كاملة، والطائفة الضعيفة القليلة المستندة إليه يقويها بقوته، ويعزّها بعزّته، ويُقدرها بقدرته. وهذه أمثلة تدل المسلم على أن دين الإسلام حق، وأنه هو هو، وأن صلته بالله هي هي، وأن المتمسّك به لا يُغلب ولا يُقهر (¬1)، ولكن المسلمين تنكروا لدينهم فتركوه ولم يعملوا به، فتركوا الآلة القاهرة التي يُقهر بها العدو، فبقوا لقمة سائغة يضطهدهم الكفرة في أقطار الدنيا، ويبتزون ثروات بلادهم؛ لأنهم تركوا السلاح الأعظم لقهر العدو وهو دين الإسلام كما بينّا؛ ولذا قال هنا: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: الآية 41] يعني: جمع المسلمين وجمع المشركين يوم بدر. وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: الآية 41]. جرت العادة بذكره قدرته عند نصره الضعاف من عباده المتمسّكين بدينه كما قال هنا: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال في الأحزاب: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب: الآية 27]. وقال في الحديبية: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الفتح: الآية 21] كل هذه الآيات على وتيرةٍ واحدة، معناها: إن كنتم ضعافاً ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (156) من سورة الأنعام.

عاجزين فهو (جل وعلا) قادر قوي لا يعجز عن شيء، فإنه ينصر أولياءه ويقوّيهم ويقدرهم على مَنْ هُوَ أقْوَى مِنْهُمْ. وهذا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فالله (جل وعلا) قادر على كل شيء، فهو قادر على ما شاءه، وقادر على ما لم يشأه، فهو قادر على هداية أبي بكر، وقد شاء هذا المقدور، وقادر على هداية أبي جهل كما قال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: الآية 13] ولكنه لم يشأ هذا المقدور، فتبيّن أنه قادر على ما شاء، وقادر على ما لم يَشَأْ. وقوله: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال: الآية 42] قال بعض العلماء (¬1): هو بدل من {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: الآية 41] لأن يوم الفرقان يوم التقاء الجمعان هو الظرف المُعبَّر عنه بكينونتهم في العدوة الدنيا وأعداؤهم في العدوة القصوى، وهذا ظاهر. وقرأ هذا الحرف من السبعة: ابن كثير وأبو عمرو: {إذ أنتم بالعِدوةِ الدنيا وهم بالعِدْوَةِ القصوى} بكسر العين في الموضعين. وقرأه باقي السبعة: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} بضم العين في الموضعين (¬2). والعِدوة والعُدوة معناهما واحد. وأصل العِدوة والعُدوة: شاطئ الوادي وجانبه، فكل ما صاحب شاطئ الوادي وجانبه من الفضاء تسميه العرب: عُدوة وعِدوة، وهو عدوة الوادي (¬3). ¬

(¬1) انظر: الدر المصون ص (5/ 609). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص221. (¬3) انظر: ابن جرير (13/ 563).

وقوله {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي: عدوة وادي بدر {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}. و (الدنيا) تأنيث الأدنى، أي: العدوة الدنيا التي هي أدنى للآتي من المدينة {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} و (القصوى) تأنيث الأقصى، و (الدنيا) تأنيث الأدنى. أي: لأن العدوة التي فيها الكفار هي التي هي أشد قُصُوّاً وبعداً من الآتي من المدينة، والتي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي الأقرب للآتي من المدينة. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} المراد بالركب: الجماعة الذين هم في عِير أبي سفيان بإجماع المفسّرين. والمؤرخون يذكرون أنهم أربعون رجلاً في تلك العِير، سمّاهم ركباً. وأكثر علماء العربية يزعمون أن الركب اسم جمع، وأنه ليس بجمع؛ ولذا لم يجعل علماء العربية من جموع التكسير صيغة (فعْل) فأهملوها بالكلية. والذي يظهر من استقراء القرآن العظيم واللغة العربية أن (فَعْل) بفتح فسكون من صيغ جموع التكسير للكثرة في (فَاعِل) إذا كان وصفاً، وإنما قلنا: إن هذا هو الأظهر لكثرة وروده باستقراء اللغة العربية -في العربية وفي القرآن- فالركبُ هنا على أظهر القولين -وإن لم تكد ترى أحداً يقول به من علماء الصرف- أن الركب جمع راكب، والعرب تطلق الرَّكْب تريد به جمع راكب، فقولهم: إنه اسم جمع لا دليل عليه، والأظهر أنه جمع؛ ولذا فإنَّ العَرَبَ يكثر في كلامها إطلاق اسم الركب مراداً به الركبان، جمع راكب، كما قال (¬1): بزينبَ أَلْمِم قبل أنْ يَظْعَنَ الرَّكْبُ ... وقُلْ إن تَمَلِّينَا فما مَلَّكِ القَلبُ ويُرجعون إليه ضمائر الجموع كما قال غيلان ذو الرمة (¬2): ¬

(¬1) البيت لنصيب بن رباح، وهو في تاريخ دمشق (62/ 60، 61، 62). (¬2) البيت في ديوانه ص59.

اسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أشْيَاعِهِمْ خَبَرا ... أَمْ رَاجِعُ القلب من أَطرابِهِ طَرَبُ ومن إتيان (فَعْل) جمعاً لـ (فَاعِل) قولهم: «صَاحِبٌ وصَحْب». ومنه: «آلُه وصَحْبُه» ومنه قول امرئ القيس (¬1): وقُوفاً بها صَحْبي عَليَّ مَطِيّهم ... يقُولون: لا تَهْلِك أسًى وتَجَمَّلِ فالصحب جمع صاحب، ومن هذا المعنى: جمع (شَارِب) على (شَرْب) بفتح فسكون، ومنه قول نابغة ذبيان (¬2): كأَنَّهُ خارجاً من جنبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّودُ شَرْبٍ نسوهُ عند مُفتَأَدِ فرد عليهم ضمير الجماعة في قوله: «سفُّودُ شَرْبٍ نَسوهُ عند مُفْتَأَدٍ» ومنه السّفْر جمع السافر، وفي الحديث: «أتمّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْر» (¬3)، ومنه قول الشنفرى (¬4): ¬

(¬1) ديوانه ص111. (¬2) ديوانه ص12. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 430، 431، 432، 440) وابن أبي شيبة (2/ 450، 453)، وأبو داود في الصلاة، باب متى يتم المسافر، حديث رقم: (1217) (4/ 96)، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في التقصير في السفر، حديث رقم: (545) (2/ 430)، والبيهقي (3/ 135، 153)، والطيالسي ص115، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 417) من حديث عمران بن حصين (رضي الله عنه) مرفوعاً. وقد جاء نحوه موقوفاً على عمر (رضي الله عنه) عند مالك في الموطأ، ص105، وعبد الرزاق (2/ 540)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 419)، وراجع الكلام على هذا الحديث في نصب الراية (2/ 187)، التلخيص (2/ 252) إتحاف السادة المتقين (4/ 368). (¬4) البيت في ديوانه ص61.

كَأَنَّ وغَاهَا حُجْرَتَيْهِ وجَالَهُ ... أضَاميم مِنْ سَفْرِ القَبَائل نُزَّلِ ومنه: طائر وطير {إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} [النحل: الآية 79] فجعل (مسخّرات) جمعاً نظراً إلى الطير. وهذا يكثر في كلام العرب، والأظهر أن (الفَعْل) هنا جمع (الفَاعِلْ) وصفاً. وعامة علماء العربية ممن تكلموا في جموع التكسير لم يجعلوا (فَعْلا) من صيغ الجموع، ويزعمون أن هذه الذي ذكرنا أن الأظهر جموع أنها أسماء جموع. هكذا يقولون. والمراد بالركب هنا: الجماعة الذين هم في عِير أبي سفيان. وقوله: {أَسْفَلَ مِنكُمْ} ظرف والخبر واقع في هذا الظرف. وقراءة: {أسفلُ منكم} (¬1) شاذة وقراءة الجمهور: {أَسْفَلَ مِنكُمْ} هو في مكان، وهذا المكان أسفل، ومعنى كونه أسفل: أن وادي بدر ذاهب إلى جهة البحر، فكل ما قَرُب من البحر منه فهو أسفل، وما بَعُد منه فهو أعلى. قال بعض العلماء: في هذه الآية الكريمة سؤال، وهو أن يُقال: ما الفائدة في تعيين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عُدوة وادي بدر الدنيا، وأن المشركين في عُدوة وادي بدر القصوى، وأن الركب أسفل من الجميع، ما الحكمة في هذا؟ وأي فائدة في معرفة مواضع القوم كلهم (¬2)؟ أجاب بعض العلماء عن هذا بأن فيه سرّاً لطيفاً، قالوا: المعنى نَصركم الله وفَرَّقَ بَيْن الحق والباطل بأن نصركم عليهم وظروفكم ¬

(¬1) انظر: البحر (4/ 500). (¬2) السابق.

الرَّاهِنَة تساعدهم على أن يغلبوكم؛ لأن العُدوة الدنيا كانت أرضها خباراً (¬1)، أرضاً رخوة تسوخ فيها الأقدام، ولا يَتَيَسَّر فيها المشي، ولا ماء فيها، فمن فيها عطاش. والعُدوة القصوى كانت بخلاف ذلك يسهل المشي عليها، فهم في هذا كانوا أوْلَى بأَنْ يسبقوكم على الماء ويمنعوكم منه فيقتلوكم، وأنه في ذلك الوقت عيرهم نَجَتْ، وتمَّت نعمتهم، وأموالهم متكاثرة، وهم في الموضع الذي هو أحسن من موضعكم، ومع هذا كله فقد نصركم الله عليهم؛ لأن الله لما أرسل المطر المتقدّم في قوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال: الآية 11] كانت العدوة القصوى طيناً ووحلاً، وكانت العدوة الدنيا رَمْلها متلبِّد تمشي عليه الأقدام بخفة، فكان هذا أنسب، ولذا قال: {أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأنفال: الآية 42] ثم قال في حكمته وقع هذا ونزل هذا الفرقان وأنتم على هذه الحالة تكادون أن تجتمعوا على غير ميعاد؛ لأنه لو تواعدتم وضرب بعضكم لبعض أجلاً وميعاداً لاختلفتم في الميعاد لو كنتم في هذا العدد من الضعف وكان بينكم وبينهم موعد سابق لجبنتم ولفشلتم عنهم، ولما تجرأتم على الإقدام عليهم، ولو كنتم مستعدّين وعندكم جَمْعٌ قَوِيّ لفشلوا وجبنوا ولم يَتَجَرَّءُوا عليكم، فجمعكم الله بغير ميعاد لحكمته (جل وعلا)؛ لأن غزوة بدر شيء جعله الله (جل وعلا) بقدرته لم تَتَسَنَّ أسبابه، إلا أن الله (جل وعلا) سبّبها، ولذا قال: {وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ} أي: واعد بعضكم بعضاً في الموضع الذي تلتقون فيه والمكان الذي تلتقون فيه، {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ¬

(¬1) قال في القاموس: «والخَبَار كسحاب: ما لاَنَ مِنَ الأرْضِ واسْتَرْخَى» اهـ (مادة: الخبر) ص489.

الْمِيعَادِ} أي: لخاف بعضكم من بعض، وجَبُن بعضكم عن بعض، ولما اتفقتم ليحصل ما حصل، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بحكمته (جل وعلا)؛ ولذا قال: {وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} ولكن الله جمعكم على غير ميعاد فخرجتم أيها المسلمون إلى عِير أبي سفيان، وخرج الكفار إلى إنقاذ عِيرهم، وشاء الله أن تجتمعوا ويوقع الله ما أوقع. وهذا معنى قوله: {وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً} هو إعزاز دين الإسلام، وبيان برهانه ودليله، وفرق الحق من الباطل بإعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله، وإذلال الكفر، وقتل رؤسائه وصناديده، كان هذا أمراً مفعولاً لا محالة، شاءه الله وقدَّره وهو واقع لا محالة إذا جاء وقته المحدّد له في مكانه المحدّد له في علمه جل وعلا. وهذا معنى قوله: {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}. قوله: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)} [الأنفال: الآيتان 42، 43]. {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: الآية 42] قرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير في رواية البزي، وعاصم في رواية شعبة أبي بكر: {ويحيى من حيي عن بينةٍ} بفك الإدغام في (حَييَ) وقرأه بقية السبعة: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} بإدغام الياء في الياء (¬1). وهذه الكلمة إنما كتبت في المصاحف العثمانية بحاء ¬

(¬1) انظر: السبعة ص306 الإتحاف (2/ 80).

وياء واحدة، ولكنه عند الضبط الذين يقرؤون (حيي) بياءين بفك الإدغام يكتبون ياءً حمراء يبيّنون بها أنها لم تكن في رسم المصحف العثماني. فهما قراءتان سبعيتان، ولغتان فصيحتان {ويحيى من حيِيَ عن بينة}، {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}. وقوله: {لِّيَهْلِكَ} إنما أوقع الله ما أوقع في بدر من الفرق بين الحق والباطل المبيّن في قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} هذه (لام كي) المضارع بعدها منصوب بـ (أن) مضمرة. والمعنى: فرق بين الحق والباطل بإيضاح أن دين الإسلام حق، وأن عبادة الأوثان باطل؛ لأجل أن يهلك من هلك؛ لأجل أن يهلك بكفره المتمادي على الكفر بعد وضوح بطلانه عن بينة، أي: عن دليل واضح وبرهان قاطع لا يُشك في الحق معه؛ لأن البراهين المحسوسة يدركها الغبي ولا تختص بالعالِم. {وَيَحْيَى} بدين الإسلام {ومَنْ حَيَّ} به {عَن بَيِّنَةٍ} أي: عن دليل واضح؛ لأن ذلك الفرقان جعله الله بوقعة بدر ليؤمن المؤمنون على برهان وبصيرة وبيان قاطع، ويكفر الكافرون على وضوح أيضاً وبيان وبرهان قاطع. والبينة (¬1): كل دليل لا يترك في الحق لبساً تُسَمِّيهِ العرب (بيّنَة) ومنه قيل للشهود الشَّاهِدِين على الحق: (بيّنة)؛ لأنهم يبيّنون ويوضّحون من له الحق ومن عليه الحق. وهذا هو التحقيق في معنى قوله: {لِِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}. {وَإِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع كل ما يقوله خلقه، ويعلم كل ما يفعله خلقه. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

وكونه (جل وعلا) سميعاً عليماً هذا هو البرهان الأكبر والزَّاجِر الأعْظَم الذي لا تكاد تقلب ورقة واحدة من المصحف الكريم إلا وجدته فيه؛ لأن المصحف الكريم لا تكاد تنظر في موضع منه إلا وتجد فيه: {إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: الآية 231] {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: الآية 153] {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: الآية 154] {لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ} [آل عمران: الآية 5] لا تكاد تحصي هذا؛ لأن هذا أكبر واعظ وأعظم زاجر أنْزَلَهُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأرض، وأنه هو الذي يحصل به النَّجَاح في محكّ الاختبار الإنساني بِأَسْرِهِ. وإيضاح هذا الكلام: أن الله (جل وعلا) بَيَّنَ في آياتٍ مِنْ كِتَابِهِ أن الحكمة التي خلق السماوات والأرض والخلائق من أَجْلِهَا هي أن يبتلي خَلْقَهُ فِي نقطة واحدة هي: إحسان العمل (¬1)، وليست بكثرة العمل، قال في أول سورة هود: {خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ثم بَيَّنَ الحِكْمَةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: الآية 7] ولم يقل: أكثر عملاً، وقال في أوَّلِ سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بيّن الحكمة فقال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: الآية 7] ولم يقل: أكثر عملاً. وقال في أول سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بيّن الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: الآية 2] ولم يقل: أكثر عملاً. فدلّت هذه الآيات على أن محكّ الاختبار هو إحسان العمل؛ ولذا كل الناس يقول: «ليتني أدركت ما أنجح به في هذا الاختبار، وعرفت الطريق الذي يُتوصّل بها إلى أن أكون أحسن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

عملاً». وكان جبريل (عليه الصلاة والسلام) لاحَظَ شِدَّة الحاجة إلى هذه النقطة الحسّاسَة فأراد أن يبينها لأصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليعلِّمَهُمْ هذا العلم العظيم، فجاء في صورة أعرابي في حديثه الصحيح المشهور، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة ما سأله عنه: يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- أخبرني عن الإحسان. يعني: وهو الذي خلق الخلق للإخبار فيه، فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن طريق الإحسان ووسيلته الوحيدة هي هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعْظَم الذي هو مُرَاقَبَةُ خالق هذا الكون (جل وعلا). فقال له: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1). ولأجل تأكد هذا العلم وإحضاره في ذهن كل مسلم كنت لا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا ووجدت فيها هذا الزاجر الأكبر والواعظ الأعظم: أن ربّك مطّلعٌ على كل ما تقول وكل ما تفعل. ولو علم أهل بلد أن أمير ذلك البلد يعلم كل ما يفعلونه بالليل من الخَسَائِسِ لَبَاتُوا متأدّبِين لا يفعلون إلا ما لا يجر لهم ضرّاً، وهذا خالق السماوات والأرض (جل وعلا) يعلم خَطَرَات القلوب، ومع هذا لا يبالون بهذه الزَّوَاجِر العِظَام والمواعظ الكبار. وقد ضرب العلماء لهذا مثلاً (¬2) قالوا: ولو فرضنا -ولله المثل الأعلى- أن في هذا البراح من الأرض ملكاً عظيماً شديد البأس والبطش إذا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُه، وحوله نساؤه وجواريه وبناته، وحوله جلوس، هل يخطر في ذهن أحد أن أحداً من أولئك الجلوس يهتم بريبة، أو غمزة عين، أو إشارة؟ لا وكلا، كلهم خاضع خاشع ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

الجوارح، أمنيته السلامة. والله (جل وعلا) -وله المثل الأعلى في السماوات والأرض- أعظم بطشاً وأشَدّ نكالاً، وأعظم اطلاعاً، وحِمَاه في أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، فالمسلمون إذا ذكروا هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم حاسبوا، ولم يفعلوا ما يخجلهم أمام رَبِّهِمْ (جل وعلا)؛ ولذا كثر في القرآن هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم بعد كل أوامر وكل نواهٍ، ومنه قوله هنا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: الآية 42]. {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [الأنفال: الآية 43] قال بعض العلماء: (إذ) بدل من الظروف قَبْلَهُ. وقال بعضهم: منصوب بـ (اذكر) مقدراً (¬1). ومعنى الآية الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَأَى على التحقيق فيما يرى النائم -ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ لا شك فيها- أراه الله في نومه أن المشركين قليل جدّاً. وبعض العلماء أنكر معناها الواضح المتبادر للذّهن؛ لأنه لم يفهم الحقيقة. قالوا: كيف يُريهم قليلاً في مَنَامِهِ ورؤيا الأنبياء حَقّ، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم حوالي ألف، كيف يعلم أنهم قريبون من الألف ويَرَى في المنام خلاف ما هو يعلم مع أن رؤيا الأنبياء حق (¬2)؟ وغفل مَنْ قال هذا القول وإن قال به جماعة من أجِلاّء العلماء؛ لأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، وتأويلها حق، كما قال يوسف: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف: الآية 100] لأن معنى رؤياه هو ما سيأتي في قوله: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: الآية 44]. لأن الله قلّل كلاًّ من الطائفتين في عين الأخرى في اليقظة ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 615). (¬2) انظر: البحر (4/ 501).

حتى إنهم لما تصوبوا من عقنقل بدر قال ابن مسعود (رضي الله عنه): قلت لصاحبي: أتراهم يبلغون السبعين؟ قال: أظنّهم يبلغون المائة (¬1). مِنْ شِدَّةِ تقليل الله لهم في عيون الصحابة، والله قَلَّلَ الصحابة في عيون المشركين حتى قال أبو جهل: إنهم أَكَلَةُ جَزُور. يعني: الجزور قد يأكلها ناس قليلون. فقلّل الله هؤلاء في أعْيُنِ هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، فَبَعْدَ أَنِ الْتَحَمَ القِتَالُ والْتَقَى الصفّان أكثر الله المؤمنين في أعين الكافرين حتى صاروا يظنونهم ضعْفَيْهِمْ، كما تقدّم في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} إلى قوله: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: الآية 13]؛ لأن الكفار بعيونهم يَرَوْنَ أن المسلمين أكثر منهم بالضِّعْف؛ لأن الله فعل كل ذلك لحكمة قبل أن يتلاقى هؤلاء وهؤلاء، جعل هؤلاء قليلاً في أعين هؤلاء، وهؤلاء قليلاً في أعين هؤلاء، ثم لما الْتَحَمَ القتال والتقى الصفان أَكْثَر المسلمين في أعين الكافرين فظنوا أنهم أكثر منهم مرتين؛ ولذا قال هنا: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [الأنفال: الآية 43] لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله الكفار في النوم قليلاً وأخْبَرَ بها أصحابه ففَرِحُوا بذلك وقويت قلوبهم وتهيئوا للقتال، والله (جل وعلا) صدّق تلك الرؤيا بأن قلَّلَهُم في أعينهم يوم بدر، كما يأتي الآن، ثم قال: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} لو أراك في النوم أنهم عدد ضخم كثير كالألف وأخبرتهم بذلك لخافوا وقالوا: لم نستعد لهؤلاء، وإنما خرجنا للعير!! كما تقدم في قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: الآيتان 5، 6] وهذا معنى ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (13/ 572). وعزاه في الدر (3/ 189) لابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه.

قوله: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} الفشل ضد النجاح، وهو الجبن والخور؛ أي: لأصابكم الخور والجبن وتنازعتم في هذا الأمر، هذا معنى قوله: {لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} بأن قال قوم: نذهب إليهم وإن كانوا كثيراً. وقال آخرون: ما ذهبنا إلا للعير، وما ذهبنا مستعدِّين لنفير كثير. وحصل فيكم الفشل والتنازع في الأمر {وَلَكِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {سَلَّمَ} من هذا الفشل ومن هذا التَّنَازُع بأن أرى رسوله صلى الله عليه وسلم في المنام أنهم قليلون لتتجرءوا عليهم، وقَلَّلكم في أعينهم فعلاً يقظة رأْيَ العين، وقللهم في أعينكم تصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا معنى قوله: {وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ}. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} المراد بذات الصدور: ما يُصَاحِبُ الصدور ويَكْمُنُ فيها من الخواطر والهواجس، وقد علم أنه لو أراه إياهم كثيراً لتنازعتم في ذلك الأمر ولفشلتم، فهو يعلم بما يهجس في الصدور، وما يخطر فيها، وما توسوس به النفوس، وهذا معنى قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: الآية 43]. ثم قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال: الآية 44] فهذا رأي في العين تصديقاً لرؤياه صلى الله عليه وسلم واذكر حين يريكموهم الله في منامك قليلاً. الصحيح أن (قليلاً) هنا و (كثيراً) أنهما حالان، وأنها (رأى) البصرية عُدِّيَتْ بالهمزة فَتَعَدَّتْ إلى مفعول آخر، وأن (قليلاً) ليس مفعولاً ثالثاً، خلافاً لمن قال من بعض العلماء: إنها عُدِّيَتْ هُنَا إلى المفعول الثالث. والأصوب: أن (قليلاً) هنا حال، وأنها ليست بمفعول ثالث؛

لأن (رأى) هذه بصرية لا علمية على التحقيق (¬1). وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} يعني ترونهم كأنهم شيء قليل لتتجرءوا عليهم وتشجعوا وتقوى نفوسكم عليهم، وقد جاء عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنهم لما تصوبوا من كثيب بدر قال لرجل معه: أتظنّهم يبلغون سبعين - وهم ألف - فقال الرجل: أرى أنهم يبلغون المئة (¬2). هذا من شدة تقليلهم في أعينهم ليتجرءوا عليهم، كذلك {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} لما رأوهم قالوا: هؤلاء أكَلَةُ جزور ليسوا بشيء. وقال أبو جهل: لا تقتلوهم بل خذوهم واربطوهم لِنَذْهَب بهم حيث نشاء. من شدة استقلاله لهم، وظنه أنهم لا شيء!! وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} ليتجرأ هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء؛ لأجل أن يقضي الله أمره، وينفذ إرادته ومشيئته بتهيئته أسباب ذلك. وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ} بذلك {أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} في علمه، وأزله، منفذاً في وقته لا محالة؛ لأن الله (جل وعلا) يقضي ويقدّر، فيقدر كل ما شاء ثم يقضيه مُنْجَزاً في أوْقَاتِهِ في أماكنه على هيئته وصوره التي سبق بها علمه (جل وعلا) ولذا قال: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}. {وَإِلَى اللَّهِ} جل وعلا وحده {تُرْجَعُ الأمُورُ} قرأ هذا ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 615). (¬2) مضى قريباً.

الحرف ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو (¬1): {وَإِلَى اللهِ تَرْجِعُ الأمُورُ} ببناء الفعل للفاعل. وقرأه بقية السبعة: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} ببناء الفعل للمفعول. فـ (الأمور) على الأول فاعل (ترجع) وعلى القراءة الثانية: نائب فاعل (تُرجع) (¬2). و (الأمور) جمع أمر، ويعم كل الشئون. والمعنى: مدار الأمور ومصيرها إليه (جل وعلا) كما قال تعالى: {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى: الآية 53] وقد صار إليه هذا الأمر وآل إليه فنفذ فيه مشيئته وقدرته، وهيأ الأسباب حتى هزم الكفرة وقتل صناديدهم ورؤساءهم وكسر شوكتهم على أيدي أوليائه المسلمين، ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأيّدهم بنصره، وهذا قضاؤه وقدره (جل وعلا)، والله يهيئ الأسباب، ولو شاء فعل بلا سبب، إلا أنه اقتضت حكمته أن يرتب المسبّبات على أسباب، ويسبب للأشياء (جل وعلا) سبحانه وتعالى. [5/ب] / {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ¬

(¬1) قرأه بالبناء للفاعل: ابن عامر وحمزة والكسائي. وبالبناء للمفعول: ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم. انظر: السبعة ص181، المبسوط لابن مهران ص145، إتحاف فضلاء البشر (2/ 80). (¬2) انظر: حجة القراءات ص130 - 131.

فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} [الأنفال: الآيات 45 - 48]. يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45)} [الأنفال: الآية 45]. هذه الآية الكريمة تضمنت تعليم الله لنبيِّه وأصحابه بعض الخطط العسكرية، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} ناداهم باسم الإيمان ليكون ذلك مدعاة للقبول: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي: طائفة. أي: جيشاً من جيوش الكفار يقاتلونكم إذا لقيتموهم في ميدان القتال والتحمتم أنتم وهم {فَاثْبُتُواْ} يعني: لا تنهزموا، ولا تولوهم الأدبار، فاصمدوا أمامهم واثبتوا، ولا تتزعزعوا، ولا تنهزموا، ولا ترجعوا القهقرى. وهذا تعليم من خالق السماوات والأرض للمسلمين إذا الْتَحَم القتال أن يثبتوا ويصمدوا صمود الرجال، ولا ينهزموا ولا يرجعوا القهقرى. ثم إنه عَلَّمَهُم التعليم الأكبر الذي هو سبب للنصر والظفر في جميع الميادين، قال: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} (كثيراً): نعت لمصدر محذوف؛ أي: ذكراً كثيراً {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} أي: لأجل أن تفلحوا (¬1). وهذا هو التعليم السماوي للخطط الميدانية التي يحصل بها انهزام الكفر وانكسار شوكته، كأنه يقول لهم: في هذا الوقت الضنك الحرج الذي الْتَحَمْتُمْ فيه مع جيوش الكفار في هذا الوقت قووا صلتكم بمن خلقكم -جل وعلا- واذكروه ذكراً كثيراً. والمعنى: أنكم عند هذه الشدائد، وعند التحام القتال والمفروض أن ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 413).

الرِّجَالَ تنْزِل رؤوسهم عن أعناقهم، في هذا الوقت الضنك الحرج وثّقوا صلتكم بالله، واذكروا ربكم ذكراً كثيراً، فبذلك ينزل عليكم المَدَدُ مِنَ السَّمَاءِ، ويَتَسَنَّى لكم النصر، وتقهرُونَ الكُفَّار، وتَنْكَسِرُ شوكة الكفر. هذه عادة التعاليم السماوية، تجمع للناس بين ما تنتعش به أرواحهم، وبين ما تتقوى به أجسامهم (¬1)، فالتعاليم السماوية تُعْطِي الإنسان نصيب جُزْئَيْهِ، أعني: نصيب جسمه ونصيب روحه، وإذا أهمل أحد النصيبين تحقَّقَ الفَشَلُ والخور والهزيمة؛ لأن هذا الإنسان هو حيوان مركب من عنصرين مختلفين اختلافاً أساسياً جوهريّاً؛ أحدهما: يُسَمَّى الجِسْم، والثاني: يُسمى الروح، فالإنسان جسم وروح، فأحد عنصريه اللذين هما أساساه: الروح، والثاني: الجسم. والروح والجسم مختلفان اختلافاً أساسيًّا جوهريّاً، وبحسب اختلافهما الأساسي تختلف متطلباتهما في هذه الحياة، فللجسم متطلبات لا بد له منها، وللروح متطلبات لا بد له منها، ولا تغني متطلبات هذا عن متطلبات هذا. والقرآن العظيم يعطي كلاًّ من العنصرين حقه كما ينبغي. يقول: أعطوا الأجسام حقها بالثبوت والصمود، وأعطوا الأرواح حقها بتغذيتها بصلتها بخالقها وتقويتها، وانتظار المدد من السماء. ونظير هذه الآيات: إذا قرأتم آيتين من سورة النساء فَهِمْتُمْ هذا المعنى كما ينبغي، وهما الآيتان اللتان أنزلهما الله في صلاة الخوف، فإنه يقول لنبيه: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} [النساء: الآية 102] هذا وقت الْتِحَام ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

الكفاح المُسَلَّح، فالمفروض أن الرجال تَنْزِل رؤوسهم عن أعناقهم في هذا الوقت الضنك الحرج، فالقرآن الذي هو تنزيل رَبّ العالمين يوضح الخطة العسكرية كما ينبغي (¬1)، على الوجه الذي يردون فيه العدو، وليتسنى لهم في ذلك الوقت الاتصال بخالق السماوات والأرض وأداءُ أدَبٍ من الآداب الروحية الذي هو الصلاة في الجماعة في ذلك الوقت، فالصلاة في الجماعة وقت الْتِحَام ذلك الكِفَاح المُسَلَّح هي من ذكر الله المأمور به هنا في سورة الأنفال في قوله: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ} فالمؤمنون إن ساروا في ضوء هذه التعاليم السماوية، وكانوا في طاعة الله، وفي ذكر الله، وتقدموا صابرين في الميدان فإنهم لا يقوم أمامهم شيء، كما هو مشاهد في التاريخ لأن هؤلاء الرجال الذين عُلِّموا هذا التعليم في آية الأنفال هذه {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ} وفي سورة النساء: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} [النساء: الآية 102] ليصلّوا الجماعة في ذلك الوقت الحرج، ويقوّون صلتهم بالله، هؤلاء الذين أخذوا بهذه التعاليم هم الذين أخذوا كنوز قيصر وكسرى، وحملوا نور الإسلام في مشارق الدنيا، ودان لهم جميع الأمم، ورفعوا رايات الإسلام في جميع أقطار الدنيا. أما هؤلاء الذين يَبِيتُون يَشْرَبُون الخمور، وتعزف عليهم القيان، وهم في المجالس الماجنة الخليعة، ثم بعد ذلك يصبحون في الميدان فهؤلاء ليسوا برجال ميدان، ولا يُرجى منهم تحقق شيء، ولا رد مسلوب من بلاد، ولا مِنْ مَجْد، ولا من شيء!! فما دام الذين يتقدمون في خطوط النار الأمامية فجرة، شَرَبَة للخمور، أصحاب معازف وغوانٍ وملاهٍ، فهؤلاء من يريد النصر ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (156) من سورة الأنعام.

ويُؤمّله من ورائهم فهو مُغفَّل؛ لأن هؤلاء ليسوا برجال ميدان، فلا يمكن أن يَرُدُّوا مسلوباً مِنْ مَجْدٍ وَلاَ مِنْ بِلاد، ولا أن ينتصفوا من أحد كائناً ما كان؛ لأنهم تركوا التعاليم السماوية والخُطَط العسكرية التي هي كَفِيلَة بقمع الكفار، وإيقافهم عند حَدِّهِمْ، وكسر شوكة الكفر، وإعلاء كلمة الله جل وعلا. فالحاصل أن السلاح الأكبر في ميادين القتال هو ذكر الله -جل وعلا- وطاعته وامتثال أمره؛ لأنه هو الذي منه النَّصْر والمَدَد. والله كذلك يأمر خلقه {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ} أما الذين إذا لقوا فِئَة فلا يذكرون الله، وليس في قلوبهم خشية من الله، ولا عمل بدينه، فهؤلاء لا يُؤمّل من ورائهم فائدة إلا مغفل مثلهم لا يفهم شيئاً. وهذا معنى قوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً} ذكرًا كثيرًا؛ لأن ذكركم لله كثيرًا تتقوى به أرواحكم، وتتصلون به بربكم، وينزل لكم بسببه المدد من خالق السماوات والأرض. والصحابة (رضي الله عنهم) كذلك كانوا يفعلون، يذكرون الله ويخافونه في الميدان فيأتيهم النصر؛ ولذا قهروا الدنيا بأسرها، وأخذوا كنوز قَيْصَرَ وكِسْرَى كما هو معلوم. وهذا معنى قوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً}. {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} قال بعض العلماء (¬1): (لعل) في القرآن كلها مشمة معنى التعليل، فهي تفيد معنى التعليل، إلا التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: الآية 129] ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

قالوا: فهي بمعنى: كأنكم. والتحقيق أن لفظة (لعَلَّ) تأتي في اللغة العربية مُرادًا بها التعليل، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬1): فقُلتمُ لنا كُفُّوا الحُروبَ لعَلنَّا ... نكُفُّ ووثَّقْتمُ لنا كُلَّ مَوْثقِ ... فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهودُكمُ ... كشِبْهِ سَرَابٍ بالفَلا مُتألِّقِ فقوله: «كفوا الحروب لَعَلَّنَا نَكُف» أي: لأجل أن نكفّ عنكم. وقوله: {تُفْلَحُونَ} هو مضارع (أفلح الرجل، يفلح، فهو مُفلح): إذا نال الفَلاَح. والفلاح يُطلق في لغة العرب إطلاقين معروفين مشهورين (¬2): أحدهما: تطلق العرب الفلاح بمعنى الفوز بالمطلوب الأكبر، فَكُلُّ مَنْ فَازَ بالمطلوب الذي كان يهتم به جدّاً، وهو مِنْ أَكْبَرِ مَطَالِبِه، تقول العرب: أفلح هذا. أي: فاز بما كان يطلب، وهذا معْنًى معروف في كلامها، ومنه قول لبيد بن ربيعة (¬3): فَاعْقِلي إِنْ كُنْتِ لمَّا تَعْقِلي ... ولَقَد أَفْلَحَ مَنْ كانَ عَقَلْ أي: مَنْ رَزَقَهُ الله العقل ففاز بالمطلوب الأكبر في الدنيا. الإطلاق الثاني: هو إطلاق العرب الفلاح على البقَاء السرمدي في النعيم، فالعرب تقول: أفلح هذا: إذا كان باقياً خالداً في نعيم سَرْمَدِيّ، وهذا المعنى معروف مشهور في كلام العرب أيضاً، ومنه ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (8) من سورة الأعراف.

قول لبيد بن ربيعة أيضاً (¬1): لو أنَّ حيّاً مُدْرِكَ الفَلاَحِ ... لنَالَهُ مُلاعِبُ الرِّمَاحِ يعني بقوله: «مدرك الفلاح»، أي: مدرك البقاء بلا موت، ونظيره من كلام العرب: قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع، كما قيل بكل منهما (¬2): لكلِّ هَمٍّ من الهُمُوم سَعَهْ ... والمُُسْيُ والصُّبحُ لا فَلاحَ مَعَهْ أي: لا بقاء في الدنيا مع تكرر اللَّيْلِ والنهار. إذا عرفتم معنيي الفلاح فمن أطاع الله (جل وعلا) وذكره كثيراً نال الفلاح بمعنييه، ففاز بمطلوبه الأكبر وهو الجنة ورضا الله، ونال البقاء السرمدي الأبدي في نعيم الجنات. وهذه الآية الكريمة تدل على أن الذين إذا لقوا فئة من فئات الكفار في ميدان القتال ولم يثبتوا أو لم يذكروا الله كثيراً، أنهم لا يفلحون. وهو كذلك؛ لأن النصر من الله. كما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 10] قال في بدر: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} مع أنه أنزل ملائكة السماء ناصرين، يعني: لا تظنوا أن الملائكة ينصرونكم، الناصر هو الله وحده (جل وعلا)؛ ولذا قال: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: الآية 45]. {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: الآية 46] هذه التعاليم السماوية الكفيلة بالنصر والظفر وقمع القردة الكفرة وإيقافهم عند ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (111) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.

حدهم {أَطِيعُواْ اللَّهَ} فيما يأمركم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلّغكم عن ربكم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3 - 4]. والياء في قوله: {أَطِيعُواْ} الياء التي بين الطاء والعين أصلها (واو) لأن المادة من (الطَّوع) فهو أجوف واوي العين، أصلها: «أَطْوِعُوا» من «الطَّوع» لا يائي من (الطَّيْع) (¬1). ومعنى إطاعة الله: هي الانقياد لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، في النيات والأفعال وكل شيء، وهذا معنى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. {وَلاَ تَنَازَعُواْ} أصله: لا تتنازعوا، لا ينازع بعضكم بعضاً وتختلفوا؛ لأن الناس غالباً تختلف نحلُهُم ووجهات نظرهم. يعني: إذا اختلفت وجهات نظركم لا تتنازعوا وكل منكم ينصر ما رآه فيخالف أخاه، بل كونوا متفقين دائمًا؛ لأن الله (جل وعلا) شرع لكم طريقة تتفقون عليها وهي اقتفاء نبيكم صلى الله عليه وسلم والسير في ضوء الكتاب الذي أنزله عليه والسنة التي تركها صلى الله عليه وسلم. وما دام هو صلى الله عليه وسلم موجوداً بين أظهرهم فمعلوم أن المصير إلى ما يقوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ} فإنه نهاهم عن النزاع؛ لأن التنازع أكبر أسباب الفشل. والتنازع غالبا يكون بسبب الأغراض الشخصية، وتقديم الأغراض الشخصية الدنيوية على المصالح العامة، فهذه البلية سوسة في الدنيا، وهي أضَرّ أدْوَاء هذا العالم، وهي تقديم المصالح ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص421، 422.

الشخصية على المصالح العامة، وقد نزلت بسببها بليّة يتضمنها إشكال أزاله الله بفتوى سماوية من عنده؛ لأن الله (جل وعلا) ربما سَلَّطَ بعض الكفار على بعض المسلمين، وهي مشكلة واقعة الآن، يقول هؤلاء الشباب -الذين هم خفافيش أعماهم نور الإسلام، فصاروا يتطلبون النور في ظلام آراء الكفرة الفجرة- يقولون: كيف نكون على الحق وديننا دين حق ونحن مستضعفون مضطهدون في أقطار الدنيا، والكفار الذين تقولون: إنهم على باطل وليسوا على حق هم الذين معهم القوة والسيطرة، يبتزّون ثَرَوَاتِنا، ويضطهدوننا في أقطار الدنيا؟! وهذه المشكلة إنما يسببها التنازع والفَشَل، والأغراض الشخصية، وتقديمها على المصالح العامة. وهذا الإشكال بعينه قد اسْتَشْكَلَهُ أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بين أظْهُرِهِمْ، والمَلَك يروح ويغدو بالوحي، فأفتى الله فيه فتوى سماوية هي قرآن يُتْلَى في سورة آل عمران، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أحُد لما صفَّ الصفوف، والتحم القتال بين المسلمين والمشركين، وكان المسلمون سبعمائة مقاتل، والمشركون ثلاثة آلاف مقاتل، أخذ عبد الله بن جبير -أخا خوّات بن جبير- (رضي الله عنهم) وأمّره على طائفة الرماة، وقال له: «كُونُوا عِنْدَ سَفْحِ هَذَا الجَبَلِ -يعني جبل أُحد- وَلاَ تَأْتُونَا أَبَداً، إِنْ غَلَبَنَا الْقَوْمُ فَلاَ تَأْتُونَا، وَإِنْ غَلَبْنَاهُمْ فَلاَ تَأْتُونَا» (¬1)، وأمرهم بأن يثبتوا عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلِ لِئَلاّ يأتيهم القوم من الوراء من بينهم وبين ¬

(¬1) البخاري في الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، حديث رقم: (3039) (6/ 162)، وأطرافه في (3043، 3986، 4067، 4561) ..

الجبل، فلما الْتَحَمَ القِتَالُ في المرة الأولى، وهلك حملة اللواء مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وانهزم المشركون هزيمة منكرة، ترك الرماة أمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لمصالحهم الشخصية، وهي الانتفاع بمال الغنيمة، فقال لهم رئيسهم عبد الله بن جبير (رضي الله عنه): أما أنا فلا أخالف قول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وبقي معه نَفَرٌ قَلِيل. والآخرون راحوا يطلبون الأغراض الشخصية الدنيوية، وتَرَكُوا أمْرَ الرَّسُول. فنَظَرَ المُشْرِكُونَ فَإِذا الجَبَلُ ليس دونه رجال، فجاءوا مِنْ سَفْحِ الجَبَلِ وأتوهم مِنْ وَرَاءِ ظهورهم، ودارت عليهم رَحَى الحرب، وأوقع الله ما أوقع بالمسلمين، كما قَصَّهُ في سورة آل عمران في يوم أحد، قُتل مِنْ خِيَارِ الأنْصَار سبعون رجلاً، وقُتل عَمّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أسَد الله حمزة بن عبد المطلب، وقُطِعَ أنْفُهُ وأذُناه، وأُخذ بعض كبده لهِنْد بِنْت عُتْبة، وقُتِلَ ابْنُ عمته عبد الله بن جحش، وقتل حامل رايته مُصْعَب بن عمير العَبْدَرِي (رضي الله عنه). وشَمَّاس بن عثمان المخْزُومِيّ، وأوقع الله ما أوْقَع بسبب تلك الأغراض الشخْصيَّة وتقديمها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجُرح صلى الله عليه وسلم وشُقَّت شَفَتُهُ السُّفْلَى اليُمْنَى، وكُسِرَتْ رَبَاعيَّته، وشُجَّ حتى غَاص في جَبْهَتِهِ بعض حِلَق المغفر الذي هو على رأسه، وانْتَزَعَهُ أبو عبيدة بن الجراح (رضي الله عنه) فسقطت معه ثنيتاه العلييان لقوته، فكان أثرم (رضي الله عنه)، أي: ساقط الثنيتين. لما وقع هذا استشكله أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاستشكال، وقالوا: كيف يُدال منا المُشْرِكُون، وتكون لهم دولة عَلَيْنَا، ويقتلوننا ويجْرَحُونَنا وفِينَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا الحَق؟ فهذا هو وجه الإشكال. فأفْتَى اللهُ بِإِزَالة هذا الإشكال فتوى سماويَّة، قرآناً يُتْلَى في آل عمران، قال:

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} [آل عمران: الآية 165] يعني بقتل السَّبْعِين الذين قُتلوا منكم يوم أُحُد {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} سابقاً يوم بدر بأن قتلتم سبعين وأسَرْتُمْ سَبْعِين على أصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ وأكثرهما قائلاً، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} وهو محل الشاهد، هذا استشكال الصحابة {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} مِنْ أَيْنَ جَاءَنَا هَذا، وكيف يُدالون مِنَّا، ونحن على حق، وهم على باطل، وفينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وعلينا ينزل القرآن؟ كيف يُدالون منا؟ هذا الاستشكال نص عليه الله في قوله: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} فأجاب الله بفتواه الإلهية السماوية قال لرسوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} من قِبَلكم جاءت البَلِيَّة، وأنْتُم الَّذِين جنيتموها على أنفسكم، وقوله: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} فيه إجمال أوْضَحَهُ الله في آية سورة آل عمران هذه، أوْضَحه بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ} [آل عمران: الآية 152] يعني: بالنصر على الأعداء {إِذْ تَحُسُّونَهُم} يعني تقتلونهم قتلاً ذَرِيعاً يُطفأ معه الحس، ويزول الحس بعده {إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} من هذه البلايا جاءت البلية ووقع ما وقع؛ ولذا نهى الله عن هذا قال: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} [الأنفال: الآية 46] وأكبر أسباب النِّزَاع: تقديم المصالح الشخصية والأغراض الدنيوية على المصالح العامة. وهذه أكبر البلايا التي يَأْتِي من قِبَلِها الشر للمسلمين؛ لأنه قد يخالف بعض المسلمين فتكون العقوبة عامة للجَمِيع. وهذا معنى قوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} [الأنفال: الآية 46]. الفشل: ضد النجاح. قال بعض العلماء: معناه تضعفوا

ويستولي عليكم الخور (¬1) {فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} الإنسان إذا كان في عمل يديره ليُحَصِّلَ ورَاءَهُ نتيجة فإن تم له عمله ووقع ما أراد قالت العرب: نجح في أمره. وإن كان عكس ذلك قالوا: فشل في أمره، لم ينجح. وقال بعض العلماء: {فَتَفْشَلُواْ} يستولي عليكم الضعف والخور؛ لأن النزاع من أكبر أسباب الضعف والخور وعدم انتظام الكَلِمَة، وهذا النِّزَاع والاختلاف هو مشكلة عُظْمَى في أقطار الأرض؛ لأن من يَتَسَمَّوْن باسم المسلمين ينازع بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، وقد بَيَّنَ تَعَالَى في سورة الحشر أن اختلاف القلوب، والمنازعات الشديدة، وتشتُّت الآراء والأفكار، وعدم الاتحاد، أن سبب هذا الذي يجتلبه به إنما هو ذهاب العقل وعدم العقل؛ لأن العاقل لا يتسبب في المخالفة؛ لأنك إذا اختلفت أنت وأخوك كان تدبيره وكُلّ ما عنده من قوة يعمل ضدك، فإذا كنت عاقلاً -ولو عقلاً دنيويّاً- كان تسببك في أن يكون معك؛ لأن كون قوته وما أعطاه الله في صالحك خير لك من أن يكون في غير ذلك؛ ولذا بيّن تعالى أن سبب اختلاف القلوب هو ضعف العقول وعدمها، قال في قوم -وهم اليهود لعنهم الله- {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: الآية 14] أي: مختلفة مفترقة، فرق متعادية مختلفة. ثم بَيَّنَ العِلَّةَ التي أوجبت تشتت تلك القلوب قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} وقد تَقَرَّرَ في علم الأصول أن العلل تعمّم معلولاتها وتخصصها كما هو معلوم في محله (¬2). وهذا معنى قوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: الآية 46] الفاء ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 575). (¬2) انظر: نثر الورود (2/ 473).

سببية. والمعنى: أن التنازع سبب للفشل، والفشل: عدم النجاح والضعف والخور وعدم التمكن. والفاء سببية، والمضارع منصوب بعدها بـ (أن) المضمرة كما هو معلوم في محله. وقوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} معطوف على المنصوب بـ (أن) المضمرة قبله. وقوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} للعلماء في المراد بالريح هنا أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً (¬1): قال بعضهم: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} معناه: تذهب قوتكم. وهذا كالتوكيد لقوله: {فَتَفْشَلُواْ}؛ لأن من فشلوا فقد ذهبت قوتهم، وحاصل الريح هذه في كلام العرب أنهم يريدون بها الدولة أعْنِي: وتذهب دولتكم ويكون الأمر إلى غيركم؛ لأن العرب تقول: «هَبَّتْ رِيحُ فُلاَنٍ». أي: دالت دولته وجاء وقته الذي يتمكن به. وهذا معنى معروف في كلام العرب وفي لُغَتِهَا التي نزل بها القرآن، وهو معْنًى مشهور معروف. «هبت ريحك فاغتنم» أي: دالت دولتك وجاء الوقت الذي أنت تتمكن فيه. هذا معناه معروف في كلام العرب، وعلى هذا المعنى {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تَنْعَدِمُ دَوْلَتُكُمْ وتضيع، ويصير الأمر إلى غيركم، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): يَا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَ حَيَّ بِالوَادِي ... إِلاَّ عَبِيداً قُعُوداً بَيْنَ أذْوَادِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (13/ 575)، القرطبي (8/ 24)، البحر (4/ 503)، الأضواء (2/ 414). (¬2) البيتان في الأغاني (20/ 391)، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (1/ 340)، والبيت الثاني في البحر (4/ 503)، الدر المصون (5/ 617)، وقد ذكرهما الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (2/ 415).

أتَنْظُرانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أمْ تَعْدُوانِ فإنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي فقوله: «إن الريح للعادي» أن الدولة والظفر للذي يعدو فينهب فيأخذ، هذا معنى قوله. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الآخر (¬1): إذا هبَّتْ رِيَاحُكَ فاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ عَاصِفةٍ سُكُون قال بعضهم: (إن) هنا اسمها ضمير الشأن، والمبتدأ وخبره خبرها، ومعنى: (هبت رياحك) أي. دالت دولتك فاغتنم الفرصة (فإن لكل عاصفة سكون) أي: لكل دولة تولٍّ ودبور، هكذا قاله بعض العلماء. وهذا معنى قوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}. {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} هذه وصايا سماوية، وتعاليم من رب العالمين عظيمة، من أخذ بها ظفر، ومَنْ تَرَكَها فشل وذهبت ريحه لا شك. وقوله: {وَاصْبِرُواْ} الصبر في لغة العرب معناه: حبس النفس (¬2). تقول العرب: فلان صبر نفسه. أي: حبسها على المكروه، وشجعها على الشيء الصعب، هذا معنى الصبر في لغة العرب، ومادته تتعدى وتلزم، تقول العرب: صبر فلان فهو صابر أي: كان متصفاً بالصبر، وصبر نفسه؛ أي: حبسها على المكروه. متعدياً للمفعول. ومن أمثلة تعديه للمفعول قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ... } الآية [الكهف: الآية 28]. وقول ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 24)، البحر (4/ 503)، الدر المصون (5/ 617). (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.

عنترة، أو غيره (¬1): فصَبَرْتِ عارفةً بذلكَ حُرَّةً ... ترسُو إذا نفسُ الجَبَانِ تطَلَّعُ يعني: حبست نفساً عارفةً بذلك على القتال. هذا أصل معنى الصبر. والصبر في الشرع يتناول أموراً كثيرة منها (¬2): الصبر تحت ظلال السيوف؛ لأن الجنة تحت ظلال السيوف. {وَاصْبِرُواْ} أي: ويتناول ذلك الصبر صبركم تحت ظلال السيوف في الميدان، ويتناول الصبر أيضاً: الصبر عن معصية الله وإن اشتعلت نار الشهوات، والصبر على طاعة الله وإن كنت كالقابض على الجمر. يتناول الصبر الصبرَ على هذا كله، والصبر على المصائب عند الصدمة الأولى. وهذا معنى قوله: {وَاصْبِرُواْ}. {إِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {مَعَ الصَّابِرِينَ} ومعيته للصابرين معية نصر وتأييد وتوفيق؛ لأن الله (تبارك وتعالى) ذكر في كتابه معية خاصة للمتقين والصابرين والمحسنين: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)} [النحل: الآية 128] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: الآية 40] فهذه المعية الخاصة هي بالنصر والتوفيق ونحو ذلك. والمعية العامة هي بالإحاطة الكاملة، ونفوذ العلم، وإحاطته -جل وعلا- بكل شيء معلومة، وهي المذكورة في قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: الآية 7] ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: الآية 4] لأن جميع الكائنات بسماواتها وأرضها في يد خالق السماوات والأرض أصغر من حبة خردل، فهو مع جميعها بالإحاطة الكاملة العظيمة وبالإحاطة العلمية ونفوذ التصرف كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: الآية 46]. لما أمرهم جل وعلا بالأوامر النافعة الكفيلة بالنجاة والسلامة مِنَ الفَشَلِ وذَهاب الريح نهاهم عن أضدادها المستوجبة للفشل وذهاب الريح والانهزام قال: {وَلاَ تَكُونُواْ} [الأنفال: الآية 47] النهي معطوف على الأمر، لأن قوله: {فَاثْبُتُواْ} [الأنفال: الآية 45] أمر. وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ} نهْي. والأمر والنهي كلاهما إِنْشَاء، يُعطف كل منهما على الآخر بلا نزاع. وإنما الخلاف بين العلماء في عطف الإنشاء على الخَبَرِ، أو الخبر على الإنشاء، فمنعه جماعة من العلماء. والتحقِيقُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ القرآن العظيم واستقراء اللغة العربية: هو جَوَازُ عَطْفِ الخَبَرِ عَلَى الإنشاء، والإنشاء على الخبر (¬1)، وإن ظن مَنْعه جماعة من علماء البلاغة (¬2) ومن النحويين. ومن عطف الإنشاء على الخبر في القرآن العظيم قوله تعالى عن أبي إبراهيم: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم: الآية 46] فقوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} الآية، خبر، وقوله: {وَاهْجُرْنِي} إنشاء؛ لأنه أمر، فهو إنشاء معطوف على خبر، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس (¬3): ¬

(¬1) انظر: ضياء السالك (3/ 214، 220)، التوضيح والتكميل (2/ 189). (¬2) انظر: المقتصد (2/ 958). (¬3) ديوانه ص111.

وإن شِفائي عَبْرةٌ إن سَفَحْتُها ... وهلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ لأن الشطر الأول خبر، والشطر الثاني إنشاء، وهو معطوف عليه. ونظيره قول الآخر (¬1): تُنَاغي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ ... وكَحِّلْ مَآقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ وهو عطف إنشاء على خبر، وهذا هو الصواب. {وَلاَ تَكُونُواْ} [الأنفال: الآية 47] أيها المؤمنون كالكفرة الفجرة أصحاب الفخر والخيلاء والرياء، فإن الفَخْرَ والخيلاء والرياء أوْصَاف ليست بأوصاف المسلمين، وليست بأوصاف المُقَاتِلِينَ النَّاجِحِينَ الظَّافِرِينَ في الميدان {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم} هم كفار مكة، وهم نفير الجيش الذي الْتَقوا مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِإِجْمَاعِ المُفَسِّرِينَ خرجوا من ديارهم في مكة المكرمة -حرسها الله- {بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ} أي: لأجل البطر ومراءاة الناس، وقال بعضهم: هو مصدر مُنكّر بمعنى الحال. خرجوا في حال كونهم متصفين بالبطر والرياء. وكونه مفعولاً لأجله أظهر (¬2). البطر في لغة العرب: هو التكبر عن قبول الحق مع غَمْطِ الحقوق. وتكبرهم هذا المشار إليه هنا هو الذي بَيَّنَّا في قصة أبي جهل (¬3)؛ لأن الكفار لما كانوا بالعدوة القصوى من بدر، وأرسلوا عمير بن وهب الجمحي (رضي الله عنه) -وكان إذ ذاك كافرًا- وقالوا له: احزر لنا القوم. فجاء فحزرهم، فقال: القوم ¬

(¬1) البيت لحسان (رضي الله عنه)، وهو في ديوانه ص83، وله روايات متعددة. (¬2) انظر الدر المصون (5/ 616) (¬3) مضى عند تفسير الآية (5) من سورة الأنفال.

ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ولكن دعوني أنظر هل لهم كمين؟ فجال في فرسه في وادي بدر حتى أبعد، قال: ليس للقوم كمين، ولكني يا قوم رأيت البلايا تحمل المنايا، رأيت نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، والله لا يُقتل رجل منهم حتى يَقتل رجلاً منكم، وإن مات منكم أعدادهم فلا خير في الحياة بعد ذلك، فرأيي أن تنصرفوا. فأيَّدَهُ حكيم بن حزام (رضي الله عنه)، وذهب إلى عتبة بن ربيعة وقال له: يا أبا الوليد إن عِير قريش نجت من محمد صلى الله عليه وسلم وليس لهم لديه مطلب إلا دية ابن الحضرمي -عمرو بن الحضرمي- الذي قُتل في سرية نخلة، وهو حليفك فتحمَّل ديته وخلّ الناس يرجعون فإنه لا خير لهم في لقاء محمد صلى الله عليه وسلم، فاجتمع عتبة وحكيم وعمير بن وهب على هذا الرأي، ولكن قال له عتبة: يا بن حزام اذهب إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل عمرو بن هشام قبحه الله- فقل له هذا، فلما جاءه قال له: انتفخ سحر عتبة -يعني انتفخت رئته من الخوف- فغضب عندها عتبة وقال: سيعلم مصفر استه غداً من الجبان!! ثم إن أبا جهل -لعنه الله- قال لابن الحضرمي: أنت ترى ثأرك فلا يردّنك هؤلاء عن ثأرك فتقدم واطلب ثأر أخيك، فتقدم عامر بن الحضرمي وقال: واعَمْرَاه، واعَمْرَاه. ينشد ثأره من أخيه عمرو الذي قتلته سرية عبد الله بن جحش (رضي الله عنه) في نخلة كما هو مشهور، فلما قالوا له: ارجع بنا. قال -وهو محل الشاهد- قال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر -وكان بدر موسماً من مواسم العرب، وسوقاً يبيعون فيه في السنة- ونشرب الخمور، وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا!! فهذا هو فخره وخيلاؤه وبطره ورئاؤه الذي بينه بقوله:

تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا {وَرِئَاء النَّاسِ} [الأنفال: الآية 47] هو الذي يفعل الفعل لأجل أن يراه الناس فيحمدونه عليه، ويعظمونه عليه لا لوجه الله. وهذا معنى قوله: {كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً} أي: لأجل البطر. أو: بطرين متكبرين عن الحق، متصفين بالفخر والخيلاء. وقال بعض العلماء: البطر: التكبر عن الحق مع غمط الناس حقوقهم. قال بعضهم: البطر: سوء احتمال النعمة، فمَنْ أنْعَمَ الله عليه نعمة وصار يعمل فيها عمل الإسراف فيما لا يرضي فهو مِن البَطِرِينَ. وعلى كل حال فهم بطرون؛ لأنهم تكبروا عن قبول الحق، وغمطوا الناس حقوقهم، وجاءوا في فخر وخيلاء. وفي قصة بدر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم متصوِّبِينَ مِنْ كَثِيب بدر قال: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ أَقْبَلَتْ تَحَادُّكَ وتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، هَذِهِ قُرَيْشٌ أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلائِهَا - وهو محل الشاهد - تحادّك وتكذب رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ أحْنِهِمُ الغَدَاةَ» (¬1) كما هو معروف في محله. وهذا معنى قوله: {كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ} هم أبو جهل وأصحابه من النفير الذين قُتل أشرافهم، وأسروا على شفير بدر كما هو معروف. وكان بعض العلماء يقول (¬2): أفخر بيت قالته العرب بيت حسان بن ثابت (رضي الله عنه) في بدر حيث يقول (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (9) من هذه السورة. (¬2) انظر: البدابة والنهاية (3/ 279). (¬3) لفظ الشطر الأول في المصدر السابق: «وببئر بدر إذ يكف ... »

وَفِي بِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَصُدُّ وجُوهَهُم ... جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: {كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} هذه (صدَّ) المتعدية (¬1)، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه، أي: يصدون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} والسبيل في لغة العرب (¬2): الطريق، وهي تُذكّر وتُؤنَّث. وجاء في القرآن تذكير السبيل في قوله: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: الآية 146] ولم يقل: يتخذوها. ومن تأنيثها في القرآن قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف: الآية 108] ولم يقل: هذا سبيلي، وقوله: {تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، {تَبْغُونَهَا} [آل عمران: الآية 99] يعني السبيل كما هو معروف. وسبيل الله: دين الإسلام، وإنما قيل له: سبيل الله لأنه الطريق التي شرعها الله، وأصّل أصولها، وأمر بالسير عليها، ووعد من سار عليها الجنة، ومن تَجَنَّبَهَا النار. فلذلك كانت سبيله؛ لأنه الذي شَرَعَها، وأمر بسلوكها، ووعد من سلكها الخير، ومن لم يسلكها الشر؛ ولذا أضيفت إليه فقيل لها: سبيل الله، ولذا قال: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ}، {وَاللَّهُ} جل وعلا بكل ما {يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} لأنه (جل وعلا) محيط بكل شيء. وفيه تهديد ووعيد لهم، فقد أحاط بهم وبأعمالهم، ومكّن منهم نبيه صلى الله عليه وسلم فقتل رؤساءهم وأَسَرَهُمْ كَمَا قَدّمْنَا إيضاحه. وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: الآية 47]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف. (¬2) مضى عند تفسير الآيتان (55، 116) من سورة الأنعام.

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} [الأنفال: الآية 48]. {وَإِذْ زَيَّنَ} حين زين {لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: الآية 48] وهؤلاء الذين زين لهم الشيطان أعمالهم هم الذين خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، هؤلاء زين لهم الشيطان أعمالهم. زَيَّنَهَا لهم معناها: صَيَّرَهَا في أعينهم متصفة بالزين، والزين: ضد القبح، أي: زَيَّنَها لهُمْ، حَسَّنَهَا لهم حتى صارت حسنة عندهم بِتَزْيِينِه ووَسْوَسَتِهِ وإن كانت أقَبْحَ شَيْءٍ. والأعمال جمع عمل، وهو ما يصدر عن الإنسان. وقد عُلِمَ بِاسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ أن العمل الذي يزينه الشيطان ويُعاقب عليه ويُثاب عليه أنه أربعة أقسام، دل على هذا استقراء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واللغة العربية، أن ما يصدق عليه اسم العمل الذي يزينه الشيطان وُيثاب الإنسان عليه ويُعاقب عليه أربعة أنواع لا خامس لها (¬1): الأول منها: فعل الجوارح كالسرقة والزنا. والثاني منها: القول؛ لأن القول فعل اللسان، وقد سَمَّى الله في سورة الأنعام القول فعلاً حيث قال جل وعلا: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: الآية 112] فسَمَّاهُ فِعْلاً. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

الثالث: العزم المصمم؛ لأن عزم الإنسان وتصميمه على الفعل بحيث لا يمنعه منه إلا العَجْز عنه هذا الفعل الذي صَمَّمَ عليه وعزم عليه فكأنه عمله بعزمه وتصميمه، فهو عمل يزينه الشيطان ويُؤْخَذ به فيثاب ويعاقب عليه، والدليل على أن هذا العزم المصمم أنه من جملة العمل الذي يدخل صاحبه النار مثلاً: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما -أعني البخاري ومسلماً رحمهما الله- من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: «إذا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قالوا: يا رَسُول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟! فهؤلاء الناس سألوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبرز لهم ويبين العمل الذي دخل بسببه المقتول النار؛ لأنه لم يَقتل!! فأجابهم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ» (¬1). والجواب على طبق السؤال، فبيّن أن عمله الذي أدخله النار حرصه على قتل أخيه، وهو عزمه المصمم وإن لم يتمكن منه. أما العزم الغير المصمم بأن يخطر في ذهنه أنه يفعل كذا ثم يراقب الله فيتركه، فتلك السيئة التي همّ بها تكتب له حسنة؛ لأنه تركها خوفاً من الله. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» (¬2) لأنه تَرَكَهَا خَوْفاً مِنْ رَبِّهِ فَكَانَ ذَلِكَ حَسَنَةً؛ ولذلك كان جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) وهو مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ وبنو حارثة -من الأنصار- هم الذين أنزل الله فيهم يوم أحد: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} [آل عمران: الآية 122] قال: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

{هَمَّت طَّآئِفَتَانِ} هذا الهمّ ليس بعزم مصمم؛ لأن الله قال بعده: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} فكان جابر يقول: مع أن الله ذكر أنّا هَمَمْنَا أن نفشل وهذه وصْمَةٌ فِينَا، ولكن والله ما نحب أن الله لم ينزلها لأنه قال بعدها: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} فالتي بعدها تداويها وتزيد، هذا معنى كلامه (رضي الله عنه) (¬1). فالعزم المصمم من العمل الذي يزينه الشَّيْطَان ويدخل صاحبه بسببه النار. الرابع: التَّرْك، والتحقيق أن التروك أفعال يزينها الشيطان، ويدخل صاحبها بها النار، ويُثاب بها فيدخل بسببها الجنة. هذا هو التحقيق إن شاء الله. وقد كان ابن السبكي -تاج الدين- في بعض كتبه في علم الأصول في بحث أهل الأصول في الترك هل هو فعل أو ليس بفعل؟ قال: طالعت كتاب الله فوَجَدْتُ من كتاب الله آية في سورة الفرقان يفهم منها أن الترك فِعْلٌ (¬2). ونحن نقول: إن هذه الآية التي أوردها ابن السبكي لا يظهر لنا وجه الدلالة منها كل الظهور، إِلاَّ أَنَّا اطَّلَعْنَا على آيَتَيْنِ من سورة المائدة كلهما صريحة في أن الترك من الأفعال، وأنه مِنَ الأعْمَال التي يؤاخذ بها الإنسان. وإيضاح ذلك: أنك لو تركت الصلاة حتى خرج وقتها، أنت ما فعلت شيئاً إلا أنك تركت الصلاة، فهذا الترك فعل يُقتل صاحبه بسببه، ويدخل به النار، ويكفر به عِنْدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. فَلَوْلاَ أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ لَمَا كان تارك الصلاة كافراً عند من يقول بذلك، ولما وجب قتله كفراً عند أحمد في مشهور مذهبه، وحَدّاً عند مالك والشافعي في مشهوري مَذْهَبِهِمَا، وإيضاح هذا أن ابن السبكي قال: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)} [الفرقان: الآية 30] قد فهمت من هذه الآية في سورة الفرقان أن التَّرْكَ فِعْلٌ؛ لأن الأخذ: هو التناول، والمهجور: المتروك، أي: تناولوه متروكاً. فدل على أن الترك فعل يُؤتى بالتناول، وهذا لا يظهر لي كل الظهور. أما الآيتان اللتان عثرنا عليهما في سورة المائدة، الدالتان على أن الترك فعل من الأفعال: فإحداهما قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} ثم قال: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [المائدة: الآية 63] إنشاء الذم بقوله {بِئْسَ} هنا متوجه على ترك الربانيين والأحبار النهي، وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي: بئس ما يصنعه الربانيُّونَ والأحْبَار وهو تركهم. فسمّى تركهم الأمر بالمعروف صنعاً، والصُّنع أخَصّ من مُطْلَقِ الفِعْلِ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية، وهو نص صريح في أن الترك من الأفعال. والآية الأخرى: قوله في المائدة أيضاً: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: الآية 79] وهو عدم تناهيهم عن المنكر، فسمّى تركهم التناهي عن المنكر (فعلاً) وذمه أيضاً بالفعل الجامد الذي هو لإنشاء الذَّمِّ أعني: (بئس) لأن (نِعْمَ) لإنشاء المدح، و (بئس) لإنشاء الذم، كما هو معروف في محله (¬1). ¬

(¬1) مضى عد تفسير الآية (40) من سورة الأنفال.

وقد أجرى العلماء على هذا الاختلاف فروعاً كثيرة في المذاهب (¬1)، هل الترك فعل أو لا؟ قالوا: فبناء على أن الترك فعل: إذا كان الإنسان عنده خيوط مِنْ حَرِير مثلاً، وشق بطن واحد من رفقته، وأمسك عنه خيوط الحرير تخاط بها بطنه حتى هلك. فعلى أن الترك فعل فقد أهلكه بتركه، فتلزمه ديته، وعلى أن الترك [ليس] (¬2) بفعل لا غرامة عليه. وكذلك من كان عِنْدَه ماء يفضل عن سقي زرعه، وجف زَرْع جَارِهِ إذا أمسك عنه الماء الفاضل عنه، فعلى أن الترك فعل يضمنه؛ لأنه أفسده بفعله، وعلى أنه ليس بفعل فلا. ومن هذا: ناظرو الأوقاف والأوصياء على اليتامى إذا تركوا إيجار دورهم وقت الإيجار حتى فاتت الفرصة، فعلى أن الترك فعل يضمنون، وعلى أنه ليس بفعل لا يضمنون، وهي قاعدة كثيرة الفروع في مذاهب الأئِمَّةِ (رَحِمَهُم الله) بسطها وبسط فروعها مقرّر في مذاهبهم. وأصح القولين: أن الترك فعل، وأنه عمل من الأعمال التي يزينها الشيطان، وكان صلى الله عليه وسلم أيام بنائه لهذا المسجد الشريف -يسر الله له العمارة بطاعة الله وعبادته- كان النبي صلى الله عليه وسلم ممن يعمل فيه وبعض الصحابة جلوس، فقال بعضهم (¬3): لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬2) ما ببن المعقوفين [] زيادة يقتضيها الكلام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

فسمى قعودهم وتركه العمل سماه «عملاً مضللاً» وهذا معروف، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (¬1) فسمى ترك الأذى إسلاماً، ومعلوم أن الإسلام لا يكون بالعدم إلا بأفعال، وهذا يبين أن الأعمال التي يُزَيِّنُهَا الشيطان فيؤاخذ الإنسان بها أربعة: أعمال الجوارح (وهي الأفعال)، وأعمال اللسان (وهي الأقوال)، والعزم المُصَمِّم، والترك، كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}. {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: الآية 48] الله هنا في هذه الآية من سورة الأنفال صرح بأن الشيطان (قال) ولم يقل: (وسوس) فصرح بالقول ولم يذكر الوسوسة؛ لأن الشيطان تَمَثَّلَ لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي البَكْرِي (رضي الله عنه)؛ لأن قريشاً لما جاءهم ضَمْضَم بن عمرو الغفاري -أرسله لهم أبو سفيان- وتأَهَّبُوا للخُرُوجِ وأجمعوا عليه، وبينهم وبين بني بكر بن كنانة عداوة، فخافوا أن يأتوهم من ورائهم فيأخذوا نساءهم وذراريهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك، وكان سيد بني مدلج، وهو من سادات بَنِي بَكْر بن كنانة، وقال لهم: إني جار لكم، أجيركم من كنانة فلا يصل إليكم منهم سوء، وَزَيَّنَ لهُمْ هذه الأعمال، وقال: أنتم على حق، هذا الرجل الذي سفه أحلامكم، وفَرَّقَ كَلِمَتَكُمْ، وعَابَ آلهتكم، وسفَّهَ آباءكم، فاذهبوا إليه ولا تتركوه يأخذ عِيرَكم، ونحو هذا من التَّزْيين، ولا غالب لكم ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام.

لشرفكم وقوتكم، وأنكم قطّان بيت الله الحرام، زين لهم هذا التزيين، وقال لهم: إنه جار لهم يجيرهم من بكر بن كنانة، وذَهَب معهم وهم يعتقدونه سراقة بن مالك (¬1)، فلما فَرَّ عَنْهُمْ صَارُوا يعيبون سراقة ولم يعلموا أنه الشيطان [6/أ] حتى أسلموا وسمعوا القرآن يُتلى أنه الشيطان تمثل لهم في صورة سراقة،/ وفيه يقول حسان: سِرْنَا وَسَارُوا (¬2) [إِلَى بَدْرٍ لحينِهِمُ ... لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الأَمْرِ مَا سَارُوا ... دَلاَّهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ ... إِنَّ الخَبِيثَ لمَنْ وَالاَهُ غَرَّارُ ... وَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ ... شَرَّ المَوَارِدِ فِيهِ] الخِزْيُ والْعَارُ هذا معنى قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: الآية 48] فلما صف معهم للقتال -وكان حاضراً إذ ذاك- رأى الملائكة تنزل، وكان إبليس اللعين لما رأى الملائكة عرفها، ولما عرف الملائكة خاف خوفاً شديداً؛ لأن الشياطين أخوف ما تخافه الملائكة (صلوات الله وسلامه عليهم)، فعند ذلك {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: رجع القهقرى. والعقب: مؤخر الرجل؛ لأن الراجع القهقرى يمشي على عقبيه، أي: منعكساً متقهقراً. {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ} تبرأت منكم، كما هي عادة الشَّيْطَان، يورد الإنسان الهلاك حتى إذا أوْقَعَهُ فِيهِ تَبَرَّأَ منه؛ لأنه غرَّار خداع كما قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} [الحشر: الآية 16] ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (30) من هذه السورة. (¬2) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، والأبيات ذكرها الشيخ (رحمه الله) فيما مضى عند تفسير الآية (7) من هذه السورة، فنقلتها هنا وجعلت ذلك بين معقوفين.

وقد يتبرأ منهم -لعنهم الله- كما سيأتي في خطبة الشيطان خطبته الفصيحة العظيمة الصادقة التي يخطبها في أوليائه يوم القيامة، التي نص الله عليها في سورة إبراهيم الخليل؛ لأنه إذا اجتمعت الخلائق ورأى الكفار {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف: الآية 53] جاءوا لإبْلِيس اللعين وقالوا: أنت كنت سيدنا وكنا نطيعك، فإن كان عندك شيء اليوم فأت به. قال بعض العلماء: ينصب له منبر من نار (¬1) -والله أعلم- بمثل هذا. ونصب المنبر له من النار شبه إسرائيليات، والخطبة صحيحة ذكرها الله في سورة إبراهيم الخليل، وهو قوله لهم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: الآية 22] وهو صادق في كلامه هذا، وقد يصدق الكذوب، فعند ذلك يمقتون أنفسهم حيث اتبعوا هذا الخائن الغدار الغَرَّار، وعندما يمقتون أنفسهم في ذلك الوقت قال بعض العلماء: ينادون: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: الآية 10] ولذا قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ} [الأنفال: الآية 48] تراءت: (تَفَاعَلَتْ) من (رأى) البصرية. أي: كان كل من الفئتين يرى الأخرى ببصره رأي العين كما تقدم في قوله: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: الآية 33] {تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ} أي: فئة المسلمين وفئة الكفار، صار هؤلاء يرون هؤلاء عياناً بأعينهم، وهؤلاء كذلك. قال بعض العلماء: ونزل ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (16/ 563).

الملائكة لنصر المسلمين، ورأى إبليس الملائكة، ويدل على هذا قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} يشير إلى الملائكة؛ لأن الكفار لم يروها وهو قد رآها، وهذا معنى قوله: {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} قال بعض العلماء: هو الملائكة. وعَبَّرَ عَنْه بـ (ما) لأنه أبهمه عليهم ولم يبين لهم أنه من العالِم ولا العاقل. وهذا معنى قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ}. {إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ} أن ينزل بي عقابه ونكاله، فالله (جل وعلا) شديد العقاب. وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروس مِراراً (¬1) أن الخوف في لغة العرب: هو الغَمّ مِنْ أمْرٍ مستقبل. والحزن في لغة العرب: الغم بسبب أمر فائت -أعاذنا الله منهما- ورُبَّمَا وضعت العرب الخوف مكان [الحزن، والحزن] (¬2) مكان الخوف. وقوله: {أَخَافُ} الألف بعد الخاء مبدلة من واو، وأصل مادته (فَعِل) بالكسر، أصل ماضيه: (خَوِفَ) بكسر الواو (يَخْوَفُ) بفتحها، فوقع فيه الإعلال المعروف المشهور في التصريف (¬3). {أَخَافُ اللَّهَ} يعني: أتَرَقَّبُ الغَمَّ من سبب ما يصلني منه في المستقبل. {وَاللَّهُ} جل وعلا {شَدِيدُ الْعِقَابِ} إذا عاقب فعقابه شديد. والعقاب: هو التنكيل بسبب الذَّنْبِ. قال بعض العلماء: سُمِّيَ عِقَاباً؛ لأنه يأتي عقبه من أجله. وقد قدمنا أنه (جل وعلا) هو وَحْدَهُ شَدِيدُ العِقَابِ؛ لأنه لا شدة عقاب يملكها غير الله (جل وعلا)؛ لأن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬2) في الأصل: «الغم، والغم»، وهو سبق لسان. (¬3) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص366.

أكبر طاغية من جبابرة أهل الأرض لا يقدر على شيء من العذاب إلا قَدْرَ ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإذا عذب المجرم بقدر ما يستوجب الموت مات. والله وحده يعذب المجرمين بالآلاف والملايين مما يستوجب الموت ومع ذلك لا يموتون {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: الآية 17] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} [النساء: الآية 56] فهذا هو العذاب الشديد والنكال العظيم الذي يجب الحذر منه والخوف منه {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: الآيتان 25، 26]. {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54)} [الأنفال: الآيات 49 - 54]. يقول الله جل وعلا: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)} [الأنفال: الآية 49]. قوله: «إذا» ظرف بدل من «إذ» قبله، أو منصوب بـ (اذكر) مقدراً. اذكر إذ يقول المنافقون.

المنافقون: جمع التصحيح للمنافق، وهو المتصف بالنفاق، والنفاق: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. والمنافق هو المعروف في اصطلاح الفقهاء بالزنديق، فالمنافقون الذين يلقون المسلمين ويقولون: إنهم مؤمنون. وهم في باطن الأمر بخلاف ذلك. وقوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} اختلف العلماء في المراد بالذين في قلوبهم مرض على أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً (¬1). قال بعض العلماء: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هم نفس المنافقين، وإنما كان العطف نظراً إلى مغايرة الصفات، كأنه يقول: الجامعون بين النفاق ومرض القلوب قالوا كذا وكذا، ومعلوم في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن عطف الشيء على نفسه مذكوراً بصفات مختلفة نظراً إلى أن تغاير الصفات كتغاير الذوات أسلوب عربي معروف في كلام العرب، وهو موجود بكثرة فِي القرآن (¬2)، كقوِله في أول سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين (3) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ثم قال: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: الآيات 2 - 4] والمعطوفون هم الأولون، إلا أن الصفات اختلفت فجاء العطف نظراً لتغاير الصفات. ونظيره في القرآن أيضاً قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: الآيات 1 - 4] فالمتعاطفات شيء واحد عُطف بعضها على بعض نظراً لتغاير ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 12) القرطبي (8/ 27) ابن كثير (2/ 318). (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

الصفات، وهذا الأسلوب معروف في كلام العرب، ومن شواهده العربية قول الشاعر (¬1): إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَام ... ولَيثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَم فهو إنسان واحد، وذُكرت العطوف نظراً لتغاير الصفات. ومما يؤيد هذا القول: أن الله وصف المنافقين بأن في قلوبهم مرضاً في قوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة: الآية 10] وهي في المنافقين بلا نزاع. ومرض القلوب جاء في القرآن على معنيين: أحدهما: مرض القلوب بمعنى ما يداخلها من الشرك والشك والنفاق، كقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: الآية 10]. المعنى الثاني: إطلاق مرض القلب على القلب الذي يهوى الفجور والزنا ونحو ذلك، ومنه بهذا المعنى قوله في سورة الأحزاب مخاطباً أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: الآية 32] أي: يطمع في نيل الريبة منكن الذي في قلبه مرض، مَيْل إلى الفجور وما لا ينبغي، والعرب تَعْرِفُ هذا، الذي ينطوي قَلْبُهُ عَلى أمور خَسِيسة، تقول العرب: في قلبه مرض، ومن هذا المعنى قول الأعشى - ميمون بن قيس- وهو عربي فصيح يمدح رجلاً (¬2): حَافِظ للْفَرْج راضٍ بالتُّقَى ... لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضْ ¬

(¬1) السابق. (¬2) البيت للأعشى، وهو في الدر المنثور (5/ 196)، الإتقان (2/ 62) في مسائل نافع بن الأزرق.

وقال بعض العلماء: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} المشركون؛ إذ لا مرض في القلوب أكبر من انطوائها على الشرك بالله. وذهبت جماعة من العلماء إلى أن {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} في هذه الآية من سورة الأنفال خُصَّ بها أناس معروفون هم الذين بسط الله قصتهم في سورة النساء، وهم قوم تكلموا بكلمة الإسلام فقالوا: لا إله إلا الله محمد رَسُول الله في مكة، ثم إنهم أبوا أن يهاجروا، وفي قلوبهم إسلام وإيمان ضعيف في قلوبهم على حرف هكذا وهكذا. وإذا قيل لهم: لِمَ لا تهاجرون وأنتم مسلمون؟ قالوا: نحن مستضعفون في الأرض. وهم الذين أنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الآية [النساء: الآية 97]. قالوا: جاءوا مع كفار قريش فلما رأوا قلة المسلمين -وكان الله قلل المسلمين في أعين الكفار، والكفار في أعين المسلمين كما أوضحناه قريبًا في قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: الآية 45] لما رأوا قِلَّتَهُمْ وقَلَّلَهُم الله في أعينهم جِدّاً - قالوا: هؤلاء قوم مغرورون، غرهم دينهم!! وزعموا أنهم على دين يُؤَيّد القليل المتمسك به على الكثير فاغتروا من هنا، وهؤلاء سيُغلبون ويقتلون قطعًا!! وهؤلاء المستضعفون الذين نزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ} [النساء: الآية 97] نَفَر من قريش معروفون، آمنوا بالله إيماناً ضعيفاً ولم يهاجروا، وجاءوا مع الكفار يوم بدر، قال بعض العلماء: وهم الذين قالوا مع المنافقين: {غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} [الأنفال: الآية 49] وهم معروفون، وهم: العاص بن منبه بن الحجاج السهمي، وعلي بن

أمية بن خلف الجمحي، وأبو قيس بن الفاكه ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وابن عمه أبو قيس بن الوليد ابن المغيرة، والحارث بن زَمْعَة بن الأسود بن المطلب، هؤلاء هم النفر المعرفون الذين قالوا: إنا {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: الآية 97] وعلى كل حال فلما التقى المسلمون والمشركون يوم بدر كان الذين في قلوبهم مرض من المنافقين، أو المشركين، أو هؤلاء النفر القليلين الذين آمنوا إيماناً ضعيفاً في مكة وخرجوا مع الكفار يوم بدر وقتلوا كفاراً - والعياذ بالله - قالوا: {غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} الإشارة في قوله: {هَؤُلاء} إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه و {دِينُهُمْ} فاعل {غَرَّ} يعني: غَرَّهُمْ دِينُهُمْ حيث اغتروا به وظنوا أن المتمسك بهذا الدين ولو كان قليلاً ضعيفاً يغلب القوي العظيم فاغتروا، وسيكون هذا الغرور سببا لهلاكهم!! والعرب تقول: غَرَّه يغره غروراً، على غير قياس. فالفاعل: غارّ، والمفعول: مغرور، إذا خَدَعَهُ. وهم نسبوا هنا الغرور إلى الدين زاعمين أنهم انخدعوا في دينهم حيث يظنون أن القليل المتمَسِّك به يغلب القوي غير المتمسك به، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، تقول: غرّه يغره. إذا خَدَعَهُ، ومنه سُمِّيَ الشيطان غروراً لكثرة غروره للآدميين بتزيينه ووساوسه، كما قال تعالى: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: الآية 5] ومن هذا المعنى قول ابن أبي ربيعة أو غيره (¬1): إِنَّ امْرأً غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وَبَعْدَكِ في الدُّنْيَا لمَغْرُورُ ¬

(¬1) البيت في الخصائص (2/ 414)، المحكم لابن سيده (5/ 360).

ثم إن الله أجاب عما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض قال لهم الله: لا. كأن المعنى: لا، لم يغر هؤلاء دينهم، وهم على بصيرة من أمرهم وعلى حق، ولكنهم توكلوا على الله، ومَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الله توكل على قَوِيِّ الجَنَابِ عَزِيز منيع لا يُضام مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ؛ ولذا قال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل معناه: الثقة الكاملة، وتفويض الأمور إليه (جل وعلا). {يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يثق بالله ثقة كاملة ويُسلم إليه أموره، ويفوض له تفويضاً تامّاً توكلاً عليه. {فَإِنَّ اللهَ} جل وعلا {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الضمير الرابط محذوف دلّ المقام عليه. ومن يتوكل على الله فإنه يعزه بعزته وينصره؛ لأن الله عزيز حكيم. والعزيز: هو الغالب الذي يقهر غيره ويغلبه فالله (جل وعلا) عزيز غالب على أمره. والعزة في لغة العرب: الغَلَبة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: الآية 8] أي: ولله الغلبة ولرسوله. {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: الآية 23] يعني: غَلَبَنِي في المخاصمة. والعرب تقول: من عَزّ بَزّ (¬1) يعنون: من غلب اسْتَلَب؛ لأنه كان الغالب ينهب مال المغلوب، ويقولون: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وقد قالت الخنساء بنت عمرو الشريد السلمية الشاعرة (¬2): كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزّا تعني: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. والحكيم (¬3): هو ذو الحكمة البالغة، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه. فاقتضت عزته وقهره وسلطانه ألاّ يُضام وليه المتوكل عليه المستند إليه، وألا يُقهر. واقتضت حكمته البالغة ألاّ يجعل وليه كعدوه، وألا يسوي بينهما بل ينصر وليه على عدوه. والحكمة لا تتم إلا بالعلم؛ لأن تمام الحكمة بتمام العلم؛ ولذا لا تتم الحكمة تماماً كليّاً إلا لله وحده (جل وعلا)؛ لأنه هو العالم بخفايا الأُمور وخباياها وما تؤول إليه، فالله وحده هو الذي لا يجري عليه: لو فعلت كذا لكان خيراً. أما غيره فإنه قد يفعل الأمر يظنه صواباً، وأنه في غاية الحكمة، ثم يتبين له بعد ذلك أن غيره أصوب منه، فيقول: لو فعلت كذا لكان كذا!! وليتني لم أفعل!! وفي الحديث النهي عن (لو) لأنها تفتح باب الشيطان. لو فعلت كذا لكان كذا (¬1). ليت شِعْرِي وأينَ مني (ليتُ) ... إن (ليتاً) وإن (لوّاً) عناءُ (¬2) العناء: التعب وكثرة: ليتني فعلت، وليتني لم أفعل، ولو فعلت كذا لكان كذا. كل هذا يقع من عدم العلم بعواقب الأمور، والله (جل وعلا) وحده لا يجري عليه: لو فعلت كذا لكان أصوب. لعلمه بما تنكشف عنه الغيوب، وما تؤول إليه الأمور، فالحكمة الكاملة له، أما غيره (جل وعلا) فقد يفعل الأمر يظنّه حكمة وصواباً ثم يَنْكَشِفُ الغَيْبُ عَنْ خلاف ذلك كما قال (¬3): أُلامُ على (لوٍ) ولو كنتُ عالماً ... بأذناب (لوٍ) لم تفُتني أوائله ¬

(¬1) مسلم في القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز ... ، حديث رقم: (2664) (4/ 2052). (¬2) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

وهذا سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم علمه الله العلوم العظيمة كان يقول في آخر عمره في حجة الوداع: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْيَ ولجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» (¬1) فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟! وهذا معنى قوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللهَ} - جل وعلا - {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية 49]. {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51)} [الأنفال: الآيتان 50، 51]. {وَلَوْ تَرَى} يا نبي الله. (لو) حرف شرط تقلب المضارع ماضياً غالباً. {وَلَوْ تَرَى} هنا بمعنى: لو رأيت؛ لأن (لو) من حروف الشروط التي تختص بالمعنى الماضي غالباً، وفي أغلب أحوالها إذا جاء بعدها مضارع تقلبه إلى معنى المُضِي، وقد لا تقلبه إلى معنى المُضِي فيأتي بعدها مضارع، وهو ليس بكثير، ولكنه موجود في كلامِ العرب، ومن إتيان المعنى بعدها مضارعاً ولو كان ماضياً: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} [النساء: الآية 9] لأن تركهم للذرية مستقبل؛ لأنهم في ذلك الوقت أحياء. ومن إتيانه مستقبلاً غير مصروف إلى الماضي قول المجنون (¬2): فَلَوْ تَلْتَقِي أَصْدَاؤُنا بَعْدَ مَوْتِنَا ... وَمِنْ دُونِ رمسينا مِنَ الأَرْضِ مَنْكبُ لظَلَّ صَدَى صوتي وإن كنتُ رمَّةً ... لصوت صَدَى ليلى يهشّ ويطْرَبُ ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬2) البيتان في ديوانه ص24

{وَلَوْ تَرَى} يا محمد صلوات الله وسلامه عليه {تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى} ترى حين يتوفى الملائكة. قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن عامر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ} بالياء. وقرأه ابن عامر وحده: {وَلَوْ تَرَى إِذْ تتوفى الذين كفروا الملائكة} (¬1). وتتوفاهم: أصل التوفِّي في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه (¬2): أخذ الشَّيْءِ وَافِياً، تقول العرب: «توفيت دَيْنِي»؛ أي: أخذته وافياً. وكان حقيقة عرفية في أخذ الروح من البدن، فَصَارَ التَّوَفِّي حقيقة عُرْفِيَّةً في أخذ الروح وافية كاملة من البدن بحيث لم يبق فيه روح ألبتة. والملائكة: جمع ملك، والتَّحْقِيقُ عند جماعة من العلماء: أن اشتقاق الملك من الألوكة، والألوكة: الرسالة (¬3)؛ لأن لطالب العلم أن يقول: مفرد الملائكة ملك، وجمعه: الملائكة -بالهمزة- فَمِنْ أَيْنَ جاءت هذه الهمزة؟ وما الجالب لها؟ والجواب عن هذا: ما قاله بعض العلماء: أَنَّ أَصْلَ المَلَك: (مَأْلَك) (مَفْعَل) من الأَلُوكَة. والأَلُوكَةُ في لغة العرب: الرسالة. وألكني إليه: احمل إليه مألكتي؛ أي: رِسَالَتِي، ومنه قول أبي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِي (¬4): ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص221 (¬2) مضى عند تفسير الآية (146) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام. (¬4) السابق.

ألِكْني إليها وخَيْرُ الرَّسُولِ ... أَعْلَمُهم بِنَواحِي الخَبَرْ فأصله: (مألك) لأنهم يحملون مآلك الله، أي: رسالات الله، منهم من يُرسل لتسخير المطر، ومنهم من يُرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يُرسل لضبط الأعمال، ومنهم من يُرسل لحفظ بني آدم أن تخطفهم الشياطين، كما قال تعالى عنهم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: الآية 5] فلما كانوا يحملون المآلك، أي: الرسائل من الله في الشئون الشتى قيل فيه: (مألك). ثم وقع فيه قلب فجُعل الفاء مكان العين، والعين مكان الفاء، وهذا القلب معروف في الصرف، فقيل فيه: (ملك) ووزنه: (مألك) (مَفعَل) فقلب فصار (ملك) على وزن (مَعْفَل) ثم نُقلب حركة الهمزة للام فقيل فيه: (ملك). فكان عند جمع التكسير تظهر الهمزة التي هي في أصله في محلها الذي قُلبت فيه، قال بعض العلماء: هذا أصله (¬1). و {الْمَلآئِكَةُ} فاعل {تَتَوَفَّى} أي: تقبض أرواحهم من أجسادهم كاملة. والفعل المضارع في قوله: {يَضْرِبُونَ} جملته حالية. وأصل الفعل المضارع المثبت إذا كانت جملته حالية لا تربط بالواو بل بالضمير كما هنا {يَضْرِبُونَ} أي: الملائكة. يعني: يتوفونهم يأخذون أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم. الوجوه: جمع الوَجْه. والأدْبَار: جمع الدبر، وقال جماعة من السلف (¬2): المراد بالأدبار: الأستاه -أكرمكم الله جل وعلا- قالوا: ولكن الله (جل وعلا) حييّ كريم يكني، فكنى عن الاست بالدبر؛ ولذا قال: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}. ¬

(¬1) السابق. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 15).

وقوله: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} مقول قول محذوف، أي: ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق. اختلف العلماء في وقت ذوقهم عذاب الحريق (¬1)، قال بعض العلماء: هو عند وفاتهم عندما يأخذون أرواحهم يضربونهم بسياط من نار فتشتعل ناراً فيقولون لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}. وقال بعض العلماء: هي للملائكة الذين قاتلوا في بدر يضربون الكفار، ويأخذون أرواحهم، ويضربونهم بسياط النار فتشتعل في جروحهم فيقولون لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}. وقالت جماعة من العلماء: هذا يوم القيامة، وممن قال به: الحسن البصري، أي: يضربون وجوههم وأدبارهم الآن عند الاحتضار، ويبشرونهم يوم القيامة بما هو أدهى وأمر من ذلك، وهو عذاب الحريق. وهذا معنى قوله: توفاهم {الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: الآية 50]. والتحقيق أن هذا ليس خاصّاً بالذين قتلوا من الكفار يوم بدر، بل هو عام، وأن الملائكة تضرب الكفار عند احتضارهم على الوجوه والأدبار، كما جاء مصرحاً به في سورة القتال، وجاء مُشَاراً إِلَيْهِ في الأنْعَام؛ لأن الله قال في الأنعام: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} [الأنعام: الآية 93] باسطوها إليهم بالضرب -والعياذ بالله- وقال (جل وعلا) في سورة القتال: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)} وفي ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 28).

القراءة الأخرى (¬1): {أَسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: الآيات 25 - 28] فَدَلَّتْ آيَةُ القِتَالِ هذه على أنها عامة في كل مَنْ كَرِهَ رضْوَان الله وأحَبَّ سخط الله، فَكُلّ مَنِ اتَّبَعَ ما يسخط الله يأتيه هذا الوعيد الشديد، ومن أعظم الناس نصيباً فيه هؤلاء الذين يأتون الكفرة الفجرة الذين يكرهون القرآن وما أنزل الله، ويقولون لهم: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد: الآية 26] وأحرى إن أطاعوهم في كل الأمر، هؤلاء أكثر الناس نصيباً في ضرب الملائكة عند الاحتضار على الوجوه والأدبار -والعياذ بالله- وهذا معنى قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: الآية 50] قال بعض العلماء: الضرب على الوجوه والأدبار أشد وقعاً. وقال بعض العلماء: على القول بأنها في أهل بدر أنهم يضربون وجه المشرك مُقْبِلاً، فإِذَا فَرَّ مُدْبِراً ضَرَبُوا دبره. وقد قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ العموم، وأنها لا تختص بمن قتل في بدر. وهذا معنى قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}. قال بعض العلماء: ذوق عذاب الحريق عند الاحتضار؛ لأن المقامِعَ التي يضربونهم بها تلتهب عليهم ناراً. وقال بعض العلماء: يبشرونهم بالحريق يوم القيامة. ولا مانع من وقوع الكل. هذا معنى قوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}. وجواب (لو) في هذه الآية محذوف، وتقديره: لو ترى يا محمد حين يتوفى الملائكةُ الكَفَرَةَ في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدْبَارَهم ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص409.

مُبَشِّرِينَ لهُمْ بالحريق، لو ترى ذلك الوقت لرأيت أمراً فظيعًا شنيعاً يَجِبُ الحذرُ منه، وجواب (لو) حَذْفُهُ إذا دَلَّ المَقَامُ عليه أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْروفٌ يكثر في القرآن العظيم وفي لسان العرب (¬1)، ومنه في القرآن العظيم: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر: الآية 5] أي: لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التَّكَاثُر حتى زُرْتم المقابر، ونظيره من كَلاَمِ العَرَبِ في حذف جواب (لو) قول الشاعر (¬2): فَأُقْسِمُ لَوْ شَيءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِواكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا أي: لو شيء سواك لرددناه. وقال جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: الآية 31] ولم يذكر جواب (لو) وقال بعض العلماء: جوابه: لو أن قرآناً سُيرت به الجبال لكان هذا القرآن على حد قوله (¬3): وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ وقال بعض العلماء: جواب (لو) المحذوف في آية الرعد {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} لو سيرنا الجبال بالقرآن وقطعنا به الأرض لكفرتم بالرحمن. ويدل على هذا التقدير الأخير قوله قبله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} [الرعد: الآية 30]. وهذا معنى قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام، وما سيأتي عند تفسير الآية (59) من سورة التوبة. (¬2) البيت لامرئ القيس وهو في ديوانه ص100. (¬3) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام.

يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: الآيتان 50، 51]. قال بعض العلماء: هذا مما يقول لهم الملائكة عند توفيهم إياهم وضربهم وجوههم وأدبارهم، يقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق. ويقولون لهم: ذلك العذاب الفظيع الشديد بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ. وقال بعض العلماء: هو كلام مُؤْتَنَف، أي: ذلك العذاب الكائن الواقع لكم بسبب ما قدمت أيديكم. جرت العادة في لسان العرب الذي نزل به القرآن أن يُضاف جميع الأعمال إلى الأيدي وإن كان بعضها ليس بأيدي، فإن الشرك الذي يُعذبون عليه محله القلب واللسان واليد، والزنا محله الفرج، وأكل الربا محله البطن، ولكن كل هذا يُنسب إلى الأيدي على الأسلوب العربي المعْرُوف؛ لأنَّ أكْثَرَ ما يزاول الإنسان أعماله بيده فنسب إليه على التغليب ومراعاة الأغلب (¬1). والمراد {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ما كسبتم من المعاصي والكفر، سواء كان الذي اجترمته القلوب، أو الألسنة، أو الأيدي، أو غير ذلك. وهذا معنى قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51)} [الأنفال: الآية 51]. قال بعض العلماء: المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} في محل خفض معطوف على الموصول المجرور (بما) أي: ذلك بسبب الذي قدمته أيديكم، ¬

(¬1) انظر: ابن عطية (3/ 308)، القاسمي (4/ 308).

وبسبب أن الله لا يَظْلِم، فبِكُفْرِكُمْ وبِعَدَالَةِ رَبِّكُمْ وكَمَالِ إِنْصَافِهِ جاءكم العذاب؛ لأن بهذين السببين يتوجه إليكم العذاب، كونكم اقترفتموه واكْتَسَبْتُمُوهُ بأيديكم، وكون ربكم (جل وعلا) حكماً عدلاً منصفاً، فتعذيبه ومؤاخذته للعاصي، كما أنه يثيب المطيع، فظلمكم وعداوة ربكم كل ذلك اقتضى لكم ما وقع لكم من العذاب والعياذ بالله جل وعلا {وَأَنَّ اللَّهَ} جل وعلا {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فيه في هذه الآية الكريمة والآيات المماثلة لها من القرآن إشكال عربي معروف يدور فيه سؤال مشهور على ألسنة العلماء وطلبة العلم، وهو أن يُقال: الله (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة نفى المبالغة؛ لأنه قال: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ} و (ظلاّم) (فَعَّال) و (الفعَّال) صيغة مبالغة، والمقرر في اللغة العربية التي بها نزل القرآن أن نفي المبالغة لا يقتضي نفي أَصْلِ الفِعْلِ من حيث هو (¬1)، فلو قلت: زيد ليس بقَتَّال للرجال، نفيت عنه المبالغة في القتل، ولا ينافي أنه ربما قتل رجلاً أو رجلين، ولو قلت: زيد -مثلاً- ليس بضرّاب لنسائه. يدل على انتفاء كثرة الضرب عنه، ولا ينافي أنه ربما وقع منه ضرب قليل كما هو معروف، فنفي المبالغة هنا لا يقتضي نفي أصل الفعل من حيث هو، والمقام مقام تنْزِيه، ونفي الأدنى أبلغ مِنْ نَفْيِ الأَعْلَى، فلِمَ عُبّر هنا بصيغة المبالغة ولَم يقل: ليس بظالم. أَو ليس بذي ظلم للعبيد؟! أجاب العلماء على ذا بأجوبة (¬2): قالوا: جرت العادة في القرآن ¬

(¬1) انظر: الإتقان (3/ 233)، الكليات 889. (¬2) انظر: البحر المحيط (3/ 131)، الدر المصون (3/ 515)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن 101، الإتقان (3/ 233)، الكليات 889، القاسمي (4/ 309).

أن بعض الآيات قد يكون فيها شبه إجمال وتبينه آيات أُخر، وقد أوضحت آيات أخر أن الله لا يظلم شيئاً، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: الآية 40] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: الآية 44] فالآيات الواضحات بينت هذا وأوضحته غاية الإيضاح. وقال بعض العلماء: المبالغة هنا لا يقصد بها أصل المبالغة؛ لأن التكثير نظراً إلى كثرة العبيد؛ لأن الظّلم لمّا تَعَلَّقَ بالعبيد وكان العبيد في كثرة هائلة كان الظلم كثيراً جدّاً لكثرة من هو منفي عنهم؛ ولذا كان نفيه نفيه من أصله؛ لأن الكثرة فيه والمبالغة بحسب العبيد الذين يقع عليهم الظلم. وقال بعض العلماء: - وهي نكتة حسنة - أن هذا العذاب الذي يعذبهم الله به هو عذاب فظيع هائل لا يُقَادر قدره ولا يُماثل مثله، فلو وقع منه ظلماً لكان مبالغاً في غاية الظلم مبالغة عظيمة، فنفى المبالغة بهذا الاعتبار، ومعناها نفي الفعل من أصله. وهذا الوجه حسن جدّاً، إلا أن فيه دقة. وهذا معنى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الأنفال: الآية 51]. وقوله (جل وعلا) في هذه الآيات الكريمة: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)} [الأنفال: الآية 52] الكاف في قوله: {كَدَأْبِِ} في محل رفع خبر مبتدأ محذوف. أي: دأبهم دأب كفار مكة، أبي جهل وأصحابه. دأبهم؛ أي: عادَتهم، ودينهم، وديْدَنهُم كدأب آل فرعون؛ لأن فر عون وقومه كان دأبهم الكفر، وتكذيب الرسل، والتمرد على الله، والكفر بالآيات، وجحودها بعد الاستيقان؛ لأن

فرعون -لعنه الله- متيقن كل اليقين أن نبي الله موسى صادق، وقد أوضح الله يقينه بذلك في موضعين: أحدهما قوله فيه [في سورة النمل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً} الثاني: قوله تعالى إخباراً عن قول موسى لفرعون في سورة الإسراء: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} وهذا كان دأب المكذِّبِين مِنَ الأقْوَام الذين بُعث فيهم الرسل كقوم نوح] (¬1). [6/ب] / وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط، كل هؤلاء كانوا في غاية التمرّد والعتو وتكذيب الرسل بعد قيام المعجزات ووضوح الحق. بين الله (جل وعلا) أن كفار قريش دأبهم كدأب أولئك. والدأب في لغة العرب: العادة. فكل من يجري على سنَن مطرد وعادة ووتيرة تقول العرب: هذا دأبه. أي: عادته وديْدَنُهُ الذي يسير عليه دائماً. ومنه قول امْرِئ القيس في إحدى روايتي بيته (¬2): كدَأبكَ من أمَّ الحُويرث قَبْلَها ... وَجَارَتَها أمَّ الرَّبابِ بمأْسلِ وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو في رواية السوسي: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} بتحقيق الهمزة، وقرأه أبو عمرو في رواية السوسي عنه خاصة: {كَدَابِ ءالِ فِرْعَوْنَ} بإبدال الهمزة ألفاً في الموضعين. والمعنى: دأب هؤلاء الكفرة دأبهم وديدنهم ودينهم مثل دأب آل فرعون في تكذيب الرسل؛ لأن فرعون كلما جاءته آية يقول: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة تم بها الكلام. (¬2) ديوانه ص111.

كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)} [الأعراف: الآيتان 134، 135] حتى صارحوه في آخر الأمر وقالوا له: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: الآية 132] يعني: دأب هؤلاء الكفرة من قريش ومن سار سيرهم كدأب الكفرة العتاة المتمرِّدين من الأمم الماضية آل فرعون والذين من قبلهم، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقد قدمنا قصصهم مفصلة في سورة الأعراف وغيرها، وهذا معنى قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [الأنفال: الآية 52]. ثم فسر دأب آل فرعون ومن قبلهم وبيّن عادتهم، قال: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} كفروا بها: جحدوا بها. وآيات الله: ما تتلوه عليهم الرسل من آياته الشرعية الدينية، وما يعاينونه من المعجزات من آياته الكونية القدرية، وهذا معنى قوله: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: الآية 52] العرب تقول: أخذه الله: إذا عَاقَبَهُ عقاباً شديداً أليماً. وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما (رحمهما الله) من حديث أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) قال: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: الآية 102] (¬1) {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي: أهلكهم وعَاقَبَهُم العِقَابَ الشَّدِيد بسبب ذنوبهم. والذنب: هو الجريمة التي يستحق صاحبها النكال. وهذا معنى قوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام.

{إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ} القوة: ضد الضعف، وقد بين (جل وعلا) أن القوة ضد الضعف في قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ... } الآية [الروم: الآية 54]. وهذا معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} لأن الله (جل وعلا) قوي، هو أقوى من كل شيء، حتى لما قال عاد ما قالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} قال لهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: الآية 15]. {شَدِيدُ الْعِقَابِ} العقاب: النكال الشديد لأجل الذنب. قال بعض العلماء: سُمِّيَ عقابًا؛ لأنه يأتي عَقِبَ الذَّنْبِ مِنْ أجْلِهِ. وقد بيَّنَّا مراراً أن الله (جل وعلا) في كتابه يُنَوِّهُ بشدة عقابه {شَدِيدُ الْعِقَابِ} {شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: الآية 165] {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: الآية 174] {عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: الآية 2] ونحو ذلك من تشنيع عذابه وفظاعته، وإن الأمر كذلك؛ لأنه ليس يوجد عذاب هو في غايته شديد فظيع إلا عذاب الله (جل وعلا) {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: الآيتان 25، 26] لأن الناس إذا عذبوا المجرمين، والملوك الطغاة البغاة إذا أرادوا أن يعذبوا لا يستطيعون من العذاب إلا قدر ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإذا شددوا العذاب على المعذب بقدر ما يميته مات وانتهى الأمر، أما خالق السماوات والأرض (جل وعلا) فإنه يعذبه بالآلاف مما يستوجب الموت وهو لا يموت. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: الآية 17] وقال جل وعلا: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} [النساء: الآية 56] {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: الآية 36] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77)}

[الزخرف: الآية 77] فهذا العذاب الذي لا يقطعه الموت ولا غيره هو الذي يُخاف منه وُيحذر منه، وهو الشديد بمعنى الكلمة، فعلى كل عاقل أن يَتَحَفَّظ منه ويتحرز منه في دار الدنيا مع إمكان الفرصة قبل أن يفوت الأوان ويندم حيث لا ينفع الندم، وهذا معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: الآية 52]. ثم قال جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: الآية 53] الفعل المضارع منصوب بـ (أن) بعد (حتى)، و (حتى) حرف جر بمعنى الغاية. والأصل: إلى أن يغيروا؛ أي: إلى تغييرهم ما بأنفسهم، فهو غاية ذلك المذكور مما أنزل الله بهذه الأمم من المثلات، وما أنزل بكفار مَكَّةَ من العذاب يوم بَدْر والقتل والأسر متصلاً بِعَذَابِ الآخِرَةِ الَّذِي لاَ ينقطع بسبب أن الله جل وعلا {لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً} (يكن) مضارع كان يكون، وحذف النون في الفِعْل المضارع معروف بقياس مطَّرِدٌ نطقت به العرب كذلك، سواء كان بعده (أل) أو لم تكن بعده (أل) كما هو معروف {لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} نعمة: مفعول به لاسم الفاعل. والنعمة: مصدر بمعنى الإنعام، وهو ما ينعم الله ويتفضل به على خلقه. أنعم بها {عَلَى قَوْمٍ} أي: جماعة من الناس كقريش وغيرهم من الأمم {حَتَّى يُغَيِّرُواْ} والمعنى: أن عدم تغييره للنعمة مُغَيّا بغاية، تلك الغاية هي أن يغيروا ما بأنفسهم، فإذا غَيَّرُوا ما بأنفسهم بأن ارتكبوا سوءاً يَسْتَوْجِبُ العَذَاب والغضب غيرنا النعم بسبب تغييرهم إياهم. وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن يجب الاعتبار بها، وأن الإنسان لا يتسبب في تغيير نعمة الله عنه بتغييره ما في نفسه، بل يدوم

على طاعة الله وتقواه؛ لأنه إذا تنكر لربه قد يغير نعمته عنه وينقله من النعمة إلى النقمة، ومن السلامة إلى العذاب. وفي هذه الآية إشكال معروف، وسؤال مشهور، وهو أن يُقال: إن هؤلاء الكفرة كل أحوالهم خبيثة وخسيسة، فما غيروا الكفر إلا إلى كفر، فهم كانوا كفرة ولم يكونوا في حالة محمودة حتى يكونوا غيروا ما بأنفسهم، فالذي كانوا فيه خبيث خسيس، والذي غيروا به خبيث خسيس، فبأي موجب كانت تتمادى عليهم النعمة الأولى، وبأي سبب كانوا يدخلون في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} وهذا الإشكال قوي، ووجهه واضح جدّاً، ولا يمكن أن يخرج من الآية لأن الآية نازلة في الكفار، فرعون ومن سار على سيره، وكفار مكة الذين شُبّه دأبهم بِدَأبِهِ، والمقرر في علم الأصول: أن صورة السبب لا يمكن أن تُخرج من العام بمخصص، وهو التحقيق إن شاء الله (¬1). فبان استحكام هذا الإشكال وقوته. وأجاب بعض العلماء (¬2) عن هذا بأنهم كانوا في نِعْمَةٍ مِنَ الله؛ لأَنَّهُمْ لم يأتِهِمْ رسول، وكانوا معذورين بالفترة، فأرسل الله إليهم الرسل، وَبَيَّنَ لهم المعجزات، وأقام عليهم الحجج، فصاروا يحادون الله، ويكذبون رسله، ويعلمون الحق ويجحدونه عناداً وطغياناً وتكبرًا على ربهم، فانتقلوا من حال سيئة إلى حال أسْوَأ منها بأضعاف، فلما انتقلوا إلى حال أسوأ كانوا غيروا فَغَيَّر الله ما بهم لما غيروا ما بأنفسهم بانْتِقَالِهِمْ من سيئ إلى أسوأ، وهذا معنى قوله: ¬

(¬1) انظر: نثر الورود (1/ 313)، المذكرة في أصول الفقه ص210. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 507).

{حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} يعني: ما بأنفسهم بأن ينتقلوا من خير إلى شر. ودل هذا الجواب على أنه أيضاً بأن ينتقلوا من سيئ إلى أسوأ منه وأفظع كما ذكرنا، وهذا معنى قوله: {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}. {وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} عطف على ما قبله بأنه لم يك مغيراً، وبأنه سميع عليم لا يخفى عليه شيء من أقوال المغيرين المستوجِبِينَ لتَغْيِير النعمة، ولا من أفعالهم. وقد قدمنا مراراً (¬1) أن مثل هذا هو الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، وأوْضَحْنَاهُ مراراً كثيرة. وهذا معنى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: الآية 53]. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54)} [الأنفال: الآية 54] هذا كالتوكيد لما قبله، كرره ليبين بعض ما أجمله هناك، فبين في هذه الآية الأخيرة أن مِنْ كفرهم المذكور في قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ} بَيَّنَ أنَّ مِنْهُ التكذيب بآيات الله، وبين أنه عاقبهم وأغرق منهم آل فرعون. ومعنى قوله: كدأبهم {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فرعون: تطلق على كل مَنْ مَلَك مِصْرَ. والمراد بهذه: فرعون موسى. واختلف العلماء في لفظة (فرعون) هل هو عربي أو أعجمي (¬2)؟ فقال بعضهم: أعجمي. وقال بعضهم: هو عربي مُشْتَقّ مِنْ (تَفَرْعَن) الرجل إذا كان ذا دهاء ومكر، فكل من كان ذا دهاء ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

ومكر هو متفَرْعِن، وعلى أنه عربي فوزنه بالميزان الصرفي (فِعْلَوْل) فعلول بلامين لا (فعلون) بنون (¬1). وفرعون هو الوليد بن الريان أو غيره على ما شرحنا، وهذا معنى قوله: {كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [الأنفال: الآية 54] {ءَالِ فِرْعَوْنَ} معناه: أهله وجماعته. والتحقيق في ألف (الآل) أنها مبدلة من واو؛ لأن العرب تصغره على (أُويل). وبعضهم يقول: هي مبدلة من هاء، أصله: (أهل) (¬2) ولا يقال: (الآل) إلا لمن له شأن وخطب، وإنما قيل لفرعون: (آل فرعون) مع أنه خسيس خبيث وضيع لعظمته ومكانته عند قومه أيام إرسال موسى له؛ لأنه كان يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف: الآية 52] {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف: الآية 51] {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: الآية 24] {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: الآية 38] فهذه العظمة الزائفة والأبهة المختلقة كأنه قيل له بها (آل). {آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، {كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} كذب قوم نوح بآيات الله التي أرسل بها نبيه نوحاً، وقوم هود بآيات الله التي أرسل بها نبيه صالحا إلى آخره. وهذا معنى قوله: {كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ}. {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} وقد قدمنا تفصيل إهلاك هؤلاء الأمم، فبين في آيات كثيرة أنه أهلك قوم نوح بالطوفان {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: الآية 37] وبين أنه أهلك قوم هود بالريح العقيم {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: الآية 42] وأنه أهلك قوم صالح بصيحة صاح بهم الملك {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: الآية 67] وأنه أهلك قوم شعيب تارة قال: بصيحة، وتارة قال: برجفة، وتارة بظُلَّة. والتحقيق أن قوم شعيب -أهل مدين- اجتمعت لهم الصيحة والرجفة والظلة؛ لأنه صاح بهم الملك من فوق فرجفت بهم الأرض مِنْ تَحْتِهِمْ، ثم إن الله أرسل عليهم ظُلَّّة فأحرقتهم - على القول بأن أصحاب الظُّلة هم أصحاب الصيحة والرجفة، وهو أظهر الأقوال وأقربها -كما قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف- وبينا أن قوم لوط أخذ المَلَكُ أرْضَهُمْ فَرَفَعَها وقَلَبَهَا عَالِيَهَا سافلها؛ ولذا كانت قرى قوم لوط تسمى (المؤتفكات) والمؤتفكات: مفْتعلات من الأَفْك (¬1)، والأَفْك في لغة العرب هو القلب. من أفَكَ الشَّيْءَ: إذا قَلَبَهُ فجعل أسْفَلَهُ أعْلاَهُ. ومنه قيل لأسوأ الكذب (إفكاً) لأنه قلب للحقائق عن مواضعها. فقال (جل وعلا) فيهم: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: الآية 82] لأنها أَفَكَها الملك أي: قلبها. فالمؤتفكات: المنقلبات المجعول أسفلها عاليها، تارة عبر عنها بالمؤتفكة نظراً إلى سدوم التي هي عاصمتها، وتارة عبر عن جميع القرى، قال في موضع: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)} [النجم: الآية 53] وقال في موضع: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} [التوبة: الآية 70] إلى غير ذلك، وهذا معنى قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ} بين هنا ما فعل بآل فرعون؛ لأنه أغرقهم لما أسرى موسى ببني إسرائيل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأعراف.

وضرب بعصاه البحر فانفلق البحر وصار فيه اثني عشر طريقاً يبساً، وسلكها موسى وقومه، فجاء فرعون في قومه وأُبَّهَتِه فوجدوا الطرق يابسة، فدخلوا فيها حتى تكامل خروج بني إسرائيل على الشاطئ، ودخول القبطيين في البحر، أمر الله البحر فاضطرب عليهم، كما جاء مبيناً في سور كثيرة من كتاب الله. وهذا معنى قوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ}. {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأنفال: الآية 54] وكل من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، والكفرة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء الكفرة كانوا ظالمين، ظالمين بكفرهم. وقد قدمنا مراراً (¬1) أن أصل الظلم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو وضع الشيء في غير محله، فَكُلّ مَنْ وَضَعَ شَيْئاً في غير محلّه فهو ظالم، هذا هو لسان العرب الذي نَزَلَ به القرآن، كلّ مَنْ وَضَعَ شَيْئاً فِي غَيْرِ مَوْضِعِه فَقَد ظَلَمَ؛ ولذا كانوا يقولون لمن يضرب لبنه قبل أن يروب: ظالم. ويقولون للسقاء المضروب قبل أن يروب: مظلوم؛ لأن الضرب وقع في غير موقعه؛ لأن ضربه قبل أن يروب يُذهب زبده ويضيعه، فكان في غير موضعه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الشاعر (¬2): وقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائي ... وهَلْ يَخْفَى عَلَى العَكدِ الظَّليم العكد: عصب مؤخر اللسان. والظليم: اللبن المظلوم ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

المضروب قبل أن يروب. معناه: أن ذوق اللسان يفهم ما ضُرب منه قبل أن يروب، وما ضُرِبَ بعد أن راب، ونظيره قول الآخر (¬1): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لم تردني شَكَاتُه ... ظَلَمْتُ وَفِي ظَلْمِي لَهُ عَامِداً أَجْرُ ظلمته: أي: ضربته قبل أن يَرُوبَ، وهذا المعنى المعروف في كلام العرب، ومنه قيل للأرض التي ليست محلاًّ للحفر إذا وقع بها حفر: مَظْلومة، ومنه قول نابغة ذبيان (¬2): إلاَّ الأوَارِيَّ لأْياً ما أُبَيّنُها ... والنؤي كالحَوْضِ بالمظْلُومَةِ الجَلَدِ لأن حفر النؤي الذي يحول بين خيمة البدوي وبين السيل وقع في أرض ليست محلاًّ للحَفْرِ، ومنه قيل للتراب المنزوع من القبر: (الظَّلِيم)، أي: مظلوم؛ لأنه محفور في غير محل حفر عادة، ومنه قول الشاعر يصف رجلاً مقبوراً (¬3): فأَصْبَحَ في غَبرَاءَ بعد إِشَاحَةٍ ... من العَيشِ مردودٍ عليها ظَلِيمُها هذا معنى الظلم في لغة العرب. وجاء في القرآن معنى الظلم: الظلم بمعنى النقص في موضع واحد، هو قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} -يعني ولم تنقص- {مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف: الآية 33] وهو راجع في المعنى إلى ما ذكرناه. إذا عرفتم أن الظلم في لغة العرب: هو وضع الشيء في غير محله فاعلموا أن أعظم أنواعه وأشنعها هو وضع العبادة في غير مَنْ خَلَقَ. من خلقه الخالق ورزقه -جل وعلا- فَعَبَدَ غَيْرَهُ فَقَدْ وَضَعَ ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

عِبَادَتَهُ وطاعته في غير موضعها فهو ظالم الظلم بمعناه الأكبر ومعنى الكلمة تمامًا؛ ولأجْلِ هَذَا المعْنَى كثر في القرآن إطلاق الظالم على الكافر المشرك، كقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: الآية 254] وقوله: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: الآية 106] {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: الآية 13] وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: الآية 82] قال: «بشرك»، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: الآية 13] (¬1) وكذلك يطلق الظلم على المعصية التي لا تبلغ الكفر؛ لأن العاصي أطاع الشيطان وعصى الله، فقد وضع طاعته في غير موضعها، ووضع معصيته في غير موضعها فهو ظالم بهذا الاعتبار، فهذا معنى قوله: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأنفال: الآية 54] والتنوين في قوله: {وَكُلٌّ} تنوين عوض، عوض عن كلمة المضاف إليه، أي: وكلهم كانوا ظالمين. فعوض التنوين عن المحذوف كما هو معروف في محله. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: الآيات 55 - 61]. يقول الله جل وعلا: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58)} [الأنفال: الآيات 55 - 58]. نزلت هذه الآيات في بني قريظة من اليهود (¬1)، كانوا تعاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه عدوّاً، ثم إنهم نقضوا العهد وأعانوا كفار مكة بالسلاح، وذهب إليهم كعب بن الأشرف -قبحه الله- إلى أهل مكة يُشَجِّعُهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويكذب عليهم ويقول لهم: أنتم أهدى طريقاً مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كما قدمنا الكلام عليه في تفسير قوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: الآية 51] نقض بنو قريظة العهد أولا فأعَانُوا قُرَيْشاً بالسلاح على النبي -صلى الله عليه وسلم- والإعانة بالسلاح نقض للعهد الأول - فلما كلمهم صلى الله عليه وسلم في نقض ذلك العهد قالوا: نسينا وأخطأنا فلا تأخذنا بها. وأكدوا معه العهد مرة أخرى، ثم نقضوا العهد ومَالَئُوا الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وكانوا حرباً عليه مع المشركين؛ لأن حيي بن أخطب سيد بني النضير كان فتن سيد قريظة كعب بن أسد حتى نقضوا العهد وصاروا مع الأحزاب حرباً على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55)} [الأنفال: الآية 55]. ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 21).

الدواب: جمع دابة، وقد جرت العادة في القرآن أن الآدميين لا يعبر عنهم بالدواب، لكنه هنا عبر عن هؤلاء الكفرة باسم الدواب، ليشير إلى أنهم كالأنعام بل هم أضل، كما قال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: الآية 44] والدواب: جمع دابة. وأصل الدابة وزنه (فَاعِلَةٍ) (داببَة) جاء فيه الإدغام. وجمع (الفَاعِلَة) مطلقاً على (فَوَاعِل) جمع تكسير مقيس بقياس مطرد كما هو معروف في محله (¬1). أي: إن شر جميع ما يدب على وجه الأرض من الدواب هم الكفار؛ لأنهم شر كل ما يدب على وجه الأرض، فقوله هنا: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} هي صيغة تفضيل، أصله: إن أشر الدواب، أي: أكثرها وأعظمها نصيباً في الشر الذين كفروا. إلا أن (خيراً) و (شرّاً) لكثرة الاستعمال فيهما حذفت العرب منهما همزة أفعل التفضيل، وهما صيغتا تفضيل، فقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} أي: أكثر الدواب التي تدب على وجه الأرض شرّاً وأعظمها نصيباً في الشر -وهو ضد الخير- {الَّذِينَ كَفَرُوا} كبني قريظة {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لأن الكفر متغلغل في أعماقهم لا يقلعون عنه، وهم أشقياء قد سبق في علم اللَّه أنهم لا يؤمنون. ثم زادهم بياناً وإيضاحاً بقوله: {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ} [الأنفال: الآية 56] فـ {الَّذِينَ} بدل من {الَّذِينَ} قبله. قال بعض العلماء: قوله: {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ} إنما جيء بـ (من) لأنه مضمن معنى: أخذت منهم العهود. قال بعض العلماء: (من) تبعيضية؛ لأنهم وإن كانوا كفرة كلهم فهم كلهم شر الدواب، إلا أن العهد إنما يعقد مع رؤسائهم الذين لهم العقد والحل، وبذلك الاعتبار دخلت (من) التبعيضية. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

{الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ} المقرر في فن التصريف: أن كل فعل جاء على وزن (فَاعَل) كقوله هنا {عَاهَدتَّ مِنْهُمْ} أو على وزن (تفاعَل) إنه يقتضي اشتراك المصدر بين فاعلين (¬1). فمعنى {عَاهَدتَّ} أخذت عليهم العهد وأخذوا عليك العهد؛ لأن (فَاعَل) تقتضي الطرفين. والعهد: كل شيء مؤكد لا يجوز نقضه تسميه العرب عهداً. والميثاق: العهد المؤكد. {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ} وهم يهود بني قريظة ألا يحاربوك وألا يعاونوا عليك محارباً آخر {ثُمَّ} بعد هذا العهد المؤكد {يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} قال بعض العلماء: (ثم) هنا للاستبعاد؛ لأنه يستَبعَد من العاقل الذي عنده عقله أن يجعل على نفسه العهود والمواثيق المؤكدة ثم ينقض ذلك؛ لأن هذا الفعل خسيس قبيح يستبعد من العقلاء. وقد تقرر في كلام العرب وفي القرآن أن لفظة (ثم) التي هي للانفصال والتراخي قد تأتي للاستبعاد، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: الآية 1] لأن من خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور يستبعد كل الاستبعاد أن يُجعل له عديل ونظير، ولذا قال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام: الآية 1] أي: يجعلون له عدلاً ونظيراً. تقول: عَدَلْت به إذا جعلت له عدلاً ونظيراً، ومنه قول جرير (¬2): أَثَعْلَبَة الفَوَارِس أو رِيَاحاً ... عَدَلْتُ بِهِمْ طُهيَّةَ والخِشَابَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة (¬2) مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

فـ (ثمَّ) للاستبعاد، ومن شواهد إتيان (ثم) للاستبعاد قول الشاعر (¬1): وَلاَ يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثمَّ يَزُورُهَا لأن زيارة غمرات الموت بعد معاينتها من الأمور المستبعدة. {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} نقض العهد هو عدم الوفاء به ونكثه {عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} كما نقضوا في المرة الأولى حيث أعانوا كفار مكة بالسلاح، ونقضوا في المرة الثانية حيث صاروا مع الأحزاب على النبي وأصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. وهذا معنى قوله: {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} لا يتقون الله (جل وعلا) فيجترئون على نقض العهود وعلى كل جريمة، ليس لهم تقوى من الله تحملهم على امتثال أمره واجتناب نهيه، وهذه -والعياذ بالله- أمور قبيحة؛ حيث كانوا شر الدواب، وكانوا كافرين، ولا يؤمنون، وينقضون العهود، ولا يتقون الله، فهذا منتهى الذم -والعياذ بالله- هذا معنى قوله: {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال: الآية 56]. وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: الآية 57] {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} هذه (إن) هي الشرطية زيدت بعدها (ما) المزيدة لتوكيد الشرط. والأصل: فإن تثقفهم فشرد بهم. والفاء في قوله: {فَشَرِّدْ} لأن الجملة الطلبية جزاء الشرط، والمقرر في علم العربية أن جزاء الشرط إن كان لا يصلح أن يكون فعلاً للشرط وجب اقترانه بالفاء (¬2)، يعني: إن تثقفهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم، والعرب تقول: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (74) من سورة البقرة. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 316).

ثقفه يثقفه في الحرب إذا كان له في الحرب ثقافة، أي: بصيرة وعلم قَدَرَ بها على أن يتمكن من قِرنه ويظفر به. يعني: إن كانت ثقافتك في الحرب وبصرك بها خوَّل لك أن تتمكن منهم وتقدر عليهم {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} (من) مفعول (شرِّد) ومعنى: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} افعل لهم فعلاً فظيعاً وعقاباً منكراً هائلاً عظيماً يكون ذلك العقاب عظة لمن خلفهم ومن وراءهم فيتفرقوا ويَتَبَدَّدُوا عنك ويخافوا. وكان بعض الفرسان الشجعان لما سُئل: بأي طريق صار الفوارس يخافونك؟ قال: إذا ظفرت بفارس ضربته ضرباً فظيعاً منكراً ليخاف من وراؤه فلا يجترئوا عليَّ!! فمعنى: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي: افعل بهم عقاباً منكراً فظيعاً يكون ذلك العقاب المنكر الفظيع سبباً لتشريد مَنْ وَرَاءَهُمْ لِتَفْرِيقِهِمْ وتَبَدُّدِهِمْ عنك وخوفهم منك، وإن كان عند أحدهم عهد فإنهم يخافون مِنْ نَقْضِهِ ويفون به لئلا تَفْعَلَ بِهِمْ مَا فعلت بهم، وهذا هو التَّحْقِيق في معنى الآية، أي: شرِّد مَنْ خَلْفَهُمْ، أي: فَرِّق مَنْ خَلْفَهم وخَوِّفهم وبَدِّدْهُمْ بسبب فِعْلِكَ فيهم؛ لأنك إذا فعلت في هؤلاء الناقضين للعهد ذلك التنكيل العظيم خافَكَ غَيْرُهُمْ فتَفَرَّقُوا وتَبَدَّدُوا عَنْكَ، وخافُوا مِنْكَ، وحافظوا على العُهُودِ إن كانت لهم عهود لئلا توقع بهم مثل ما أوقعت بهؤلاء. وهذا معنى قوله: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}. والضمير في قوله: {لَعَلَّهُمْ} راجع لـ {مَّنْ خَلْفَهُمْ} {لَعَلَّهُمْ} أي: مَنْ خَلْفَهُمْ، مَنْ وَرَاءَهُمْ {يَذَّكَّرُونَ} يَعْتَبِرُونَ ويَتَّعِظُونَ بالفِعْلِ العَظِيمِ الَّذِي فَعَلْتَ بهؤلاَءِ فَلاَ يَجْتَرِئوا عليك بعدها. وهذا معنى قوله: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: الآية 57] ولما مكن الله النبي صلى الله عليه وسلم من بني قريظة وَحَكَّمَ فِيهِمْ سَعْدَ

الأَوْسِ سَعْدَ بن معاذ (رضي الله عنه)؛ لأن النبي كان صلى الله عليه وسلم لما ظفر بيهود قينقاع جاءه عبد الله بن أُبيّ رئيس المنافقين من الخزرج، وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: شفعني في حلفائي. فشفعه فيهم، فأُجلوا إلى نواحي الشام، وطُردوا من المدينة إلى نواحي الشام، فلما نزلوا (¬1) على حكم النبي صلى الله عليه وسلم وأمكن منهم جاءت الأوس -كما ذكره غير واحد من أهل السير والأخبار- فقالوا للنبي صلى الله عليه [7/أ] وسلم:/ شَفَّعْتَ إخْوَانَنَا الخَزْرَجَ في حُلَفَائِهِمْ بَنِي قَيْنُقَاع، وهؤلاء بنو قريظة حلفاؤنا -لأن قريظة حلفاء الأوس- فَشَفِّعْنا فيهم كما شَفَّعْت إخواننا في حلفائهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يكره ألا يجيب دعاءهم، ويكره ألا يُشَرِّد ببني قريظة ويفعل فيهم الأفاعيل، فتخلص من هذا وقال: «أُحَكِّم فِيهِمْ رَجُلاً مِنْ خِيَارِكُمْ هُوَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ». فقالوا: رضينا. فحَكَّم فيهم سعد بن معاذ (رضي الله عنه)، وكان سعد (رضي الله عنه) جُرِح في غزوة الخندق، جَرَحَهُ حبان بن العَرَقَة، أصابه في أكحله -وهو العِرْق الذي في العنق- وكان لما سال الدم من عِرْقه وخاف الموت كان دعا الله وقال: اللهم إن كنت أبقيت بين نبيك وبين كفار مكة حَرْباً فَأَبْقِنِي لها؛ لأنِّي لا أحِبّ أن أقاتل قوماً مثل القوم الذين أخْرَجوا نبيك من بلده وفعلوا له وفعلوا، وإن كان في عِلْمِكَ أنه لم يَبْقَ بَيْنَهُ وبين قريش حرب فاجعل لي هذا الجرح شهادة، ولا تُمِتْنِي حتى تقرَّ عَيْنِي في بني قريظة. فلما حكَّمه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فجاء على حمار -لما جاء للتَّحْكِيم- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» قال سعد (رضي الله عنه): حكمت فيهم بأن يُقْتَل رجالهم، وتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ ¬

(¬1) يعني: قريظة.

وذَرَارِيهِمْ. فأخبره صلى الله عليه وسلم أن هذا حكم الله فيهم من فَوْقِ سَبْعِ سَماوات (¬1)؛ لأنهم الذين نَزَلَ فيهم؛ {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}. وكان بعض العلماء يقول: كل هذه الآيات نازلة في كفار مكة؛ لأن هذه السورة كلها في وقعة بدر، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: الآية 57]. ثم قال تعالى معلماً نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله (جل وعلا) علم نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة الكريمة تَعَالِيمَ عظيمة، وهي كلها تعاليم من أصول الجهاد، علمه الثبات والصمود أمام العدو، وعلمه فيها الاتصال بخالق السماوات والأرض عند التحام الصفوف، وعَلَّمَهُ كيف يخيف أعداءه بشدة الوقيعة فيمن قدر عليهم، وعَلَّمَهُ هُنَا كَيْفَ يُصَالحُهم، وكيف ينبذ صلحهم، كل هذه تعاليم جِهَادِيَّة عسكرية من رب العالمين (جل وعلا) للنَّبِيِّ وأصْحَابِهِ؛ لأن هذا المحكم المنزل ¬

(¬1) خبر حُكْمِ سَعْدِ بن معاذ في بني قريظة مُخَرَّجٌ في الصحيحين من حديث: 1 - عائشة (رضي الله عنها) عند البخاري في الصلاة، باب الخيمة في المسجد للمَرْضَى وغيرهم، حديث رقم: (463) (1/ 663)، وأطرافه في (3901، 4117، 4122). ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال مَنْ نَقَضَ العَهْدَ ... ، حديث رقم: (1769) (3/ 1388). 2 - أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عند البخاري في المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب. حديث رقم: (4121) (4/ 411). ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قِتَالِ مَنْ نَقَضَ العَهْدَ ... ، حديث رقم: (1768) (3/ 1388). إلا أن الحديث الذي في الصحيحين مختصر، وهو بسياقه الطويل مخرج في المسند (6/ 141 - 142)، وذكره ابن هشام في السيرة (3/ 1031)، وابن كثير في تاريخه (4/ 103).

ينير معالم الطريق في جميع ميادين الحياة كائنة ما كانت؛ ولذا قال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: الآية 58] {وَإِمَّا تَخَافَنَّ} كقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} [الأنفال: الآية 57] فهي (إن) الشرطية زيدت بعدها (ما) لتوكيد الشرط. وبعض علماء العربية يقول: إن (إِنْ) الشرطية إذا زِيدَتْ بعدها (ما) المؤكدة وجب اقتران المضارع بنون التوكيد، وهو كذلك في القرآن، ما جاء في القرآن (إما) إلا والفعل المضارع بعدها مُؤَكَّدٌ بِنُون التَّوْكِيد الثقيلة (¬1)، إلا أن التحقيق أنها هي اللغة الفصحى ولا تتعين، فيجوز عدم توكيد الفعل بعد (إما) ( ... ) (¬2) وكقول لبيد بن ربيعة (¬3): فَإِمَّا تَرَيْنِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً ... فَلَسْتُ بِأَحْظَى مِنْ كلاب وَجَعْفَرِ وقول الحماسي (¬4): زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ ... يَسْدُد أُبينُوها الأَصَاغِرُ خلَّتِي وهو كثير في كلام العرب. وزَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ علماء العربية أنَّ حَذْفَ النون في هذه الشواهد لضرورة الشعر، وأن النون واجبة، وزعم جماعة آخرون أنها لغة فصيحة لا ضرورة شعرية. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأعراف. (¬2) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. ويظهر أن الشيخ (رحمه الله) ذكر بعض الشواهد الشعرية. ويمكن الوقوف على الكلام على هذه المسألة بشواهدها في كتاب شرح الكافية (3/ 1409 - 1410)، وفي كلام الشيخ (رحمه الله) فيما سبق عند تفسير الآية (35) من سورة الأعراف (¬3) مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأعراف. (¬4) السابق.

ومعنى قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} نزلت هذه الآية الكريمة في بني قريظة، قال بعض العلماء: في هذه الآية إشكال معروف؛ لأن قوله: {تَخَافَنَّ} الخوف يطلق على الظن الذي لا يستلزم اليقين، والعهد شيء مؤكد مُتَيَقَّن، فكيف يَنْتَقِل عَنْ حُكْمِ يقين العهد إلى ظن نقض العهد، والقاعدة المُقَرَّرَة في الأصول: أن اليقين لا يرتفع بالشك (¬1)؟ وأجاب العلماء عن هذا بجوابين (¬2): أحدهما: هو -ما قدمنا مراراً- أن العَرَبَ رُبَّمَا أطلقت الخوف وأرَادَتْ بِهِ العلم، كقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: الآية 229]. علمتم من قرائن أحوالهما ألا يقيما حدود الله. {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} أي: يعلما ألا يقيما حُدُودَ الله. ولا شك أن العرب تطلق الخوف على العلم اليقين، ومن شواهده قول أبي محجَن، مالك بن حبيب الثقفي (¬3): إذا مِتُّ فادفنِّي إلى جَنبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظامي في المماتِ عُرُوقُها ... وَلاَ تدفنني بالفَلاة فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لا أذوقُها وهو يتيقن علماً يقيناً أنه إذا مات لا يذوقها، فقد أطلق (أخاف) وأراد (أعلم) وهو عربي فصيح. وعلى هذا القول فـ {وَإِمَّا تَخَافَنَّ} أي: إِمَّا تَعْلَمَنَّ مِنْ قَوْمِ خيانة. وقال أكثر العلماء: إن كان بَيْنَكَ وبين قوم عهود ومواثيق -كالعهود التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة- ¬

(¬1) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص53، القواعد الفقهية الخمس الكبرى من مجموع فتاوى ابن تيمية ص187، شرح القواعد الفقهية للزرقا ص35. (¬2) انظر: القرطبي (8/ 31). (¬3) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

إن تَخَافَنَّ مِنْ هَؤُلاء القوم الذين كانت بينك وبينهم عهود تخافن منهم خيانة، أي: خيانة بنقض تلك العهود بأن يخونوك وينقضوا العهود. و (ياء) الخيانة مبدلة من واو؛ لأن أصل مادة الخيانة أجوف واوي العين، مِنْ: خَانَ يَخُون. أصلها: (خِوَانَة) فأبدلت الواو ياء (¬1)، كالحيازة من الحَوْز، والصيانة مِنَ الصَّوْنِ، والصّيَام من الصوم. إن تخف يعني مِنْ قَوْم بينك وبينهم عهود ومواثيق تخف منهم خيانة، أي: غدراً ونقضاً للعهود {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} يعني بأن يكون خوف الخيانة ظهرت له أمارات ومبادِئ وقرَائِن يُسْتَدَل بها عليه، كما ظهر من بني قريظة أنهم لما عاضدوا المشركين وناصروهم ولم يصرحوا بنبذ العهد كانت مناصرة المشركين ومعاضدتهم قرائن واضحة وأمارات لائحة على أنهم ناقضون للعهد. وعلى كل حال فالَّذِي دل عليه استقراء القرآن ودلت عليه الوقائع -وهو الصحيح إن شاء الله- أن الأمر له حالتان: تارة يكون الكفار الذين بيننا وبينهم عهد ومصالحة تصدر منهم أشياء تدل على نَقْضِ العَهْدِ، لِدلالة قَرَائِن على ذلك، أنهم صدرت منهم مَبَادِئ نقض العهد، ففي هذه الحالة لا ينبغي للإمام أن يَبْقَى على عهدهم وقد ظهر له منهم أمارات الخيانة؛ لئلا يصيبوا المسلمين بِغَائِلة، ففي هذه الحالة يجب على الإمام أن يصارحهم ويقول لهم: رأينا منكم ما يدل على نقضكم العهد وهو كذا وكذا وكذا، فهذا عهدنا إليكم قد طَرَحْنَاهُ إِلَيْكُمْ، ونَبَذْنَاه إليكم، وألقيناه إليكم، وأعْلَمْنَاكُمْ أنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ عَهْد، خَوْفَ أنْ تَظُنّوا أنَّا نخدعكم ونكيدكم ونُحَارِبُكُمْ ¬

(¬1) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص104.

غَفْلَةً منكم. وهذا معنى قوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} النبذ في لغة العرب: الطَّرْح. ومفعول (انبذ) محذوف، أي: فاطرح إليهم عهدهم، وألقه إليهم في حال كونك أنت وهم {عَلَى سَوَاء} استواء في العلم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، ليس أحد منكما يدلس للآخر. وعلى هذا فقوله: {عَلَى سَوَاء} أي: في العلم؛ بأنك لست على صُلْحِكَ الأول لما رأيت مِنْ علامات غدرهم ونقضهم له. قال بعض العلماء: فانبذ إليهم عَهْدَهُم حَالَ كَوْنِ ذلك النبذ على سواء. أي: على عدالة وطريقة محمودة؛ لأن العرب تسمي العَدَالَةَ (سواء)، وتسمي الطريق العدل الواضح (سواء) و (سويّاً) ومن هذا قول الراجز (¬1): وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدَّرِ الأَعْدَاءِ ... حَتَّى يُجيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ أي: إلى العدالة والإنصاف من غير مَيْلٍ وَلاَ جَوْرٍ. وهذا معنى قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أي: إِنْ خِفْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ خِيَانَة مِنْ قوم كان بينك وبينهم عهد بأن ظهرت لك أمارات الغدر وعلاماته وأوائله منهم {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم، وألْقِ إليهم العهد في حال كونك وإياهم على {سَوَاء}، أي: مستوين في العلم بالحالة الواقعة وأنه لا عهد بينك وبينهم. وقد جاء عن معاوية (رضي الله عنه) أنه كان بينه وبين الروم مصالحة وعهود ثم إنه (رضي الله عنه) سار إليهم وهم لا يشعرون ليقرب منهم، فإذا انقضت مدة العهد كان قريباً منهم فحمل عليهم، فإذا رجل على فرس له -وفي بعض روايات الحديث في السنن وغيرها- على دابة له، ذلك الرجل يقول: الله أكبر، الله أكبر، ¬

(¬1) البيت في ابن جرير (14/ 27) القرطبي (8/ 33).

وفاء ولا غدر، فلما جيء معاوية به وجده عَمْرَو بن عبْسة (رضي الله عنه) فقال: إني سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنْ كَانَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عُهُودٌ فَلاَ تَشدُّوا الْعُقْدَةَ وَلاَ تَحُلُّوهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ المُدَّةُ أَوْ تَنْبِذُوا إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ». قالوا: فرجع معاوية رضي الله عنه (¬1). ومعنى الآية الكريمة: إن تخف الخيانة مِنْ قَوْم بينك وبينهم عهد -والخيانة هنا: الغدر ونقض العهد- {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} أي: فاطرح إليهم عَهْدَهُمْ {عَلَى سَوَاء} أَنْتَ وَهُمْ مستويان في العلم بنقض العهد، ولا تدلس لهم فيظنوا أنك على عهد حَتَّى تمكر بهم وهم في غفلة، بل أعلمهم بنقض العهد ليستعدوا للحَرْبِ ولا تحارِبْهم في غفلة. وهذا مِنْ كَمَالِ إنصاف دين الإسلام؛ لأن التعاليم السماوية والكتب الإلهية هي في غاية العدالة والإنصاف، حتى مع الكفار نهى نبيه أن يُحَارِبَهُمْ وهم في غفلة من ذلك، بل أمره أن يعلمهم وينبذ إليهم العهد علنًا حتى يستوي الجميع في العلم بالحال الواقعة ليستعدوا لِلْحَرب والقتال؛ ولئلا يُؤْخَذُوا على غِرَّة، فهذه مكارم الأخلاق والعدالة الكاملة. ولا شك أن هذا التشريع تشريع ممن هو عالم بأن أولياءه لهم النصر والظفر لا حاجة له في استعداد الكفار وعلمهم وقوتهم؛ لأنه يعلم أنهم مغلوبون مقهورون، وأن الدائرة عليهم، وهذا معنى قوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء}. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: الآية 58]. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر، حديث رقم: (1580)، (4/ 143). وأبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير نحوه، حديت رقم: (2742) (7/ 439). وانظر صحيح الترمذي حديث رقم: (1285)، صحيح أبي داود، حديث رقم: (2397).

أما إذا تُيقن نقض العدو للعهد بأن قتلوا المسلمين، وفعلوا الأفاعيل، وصرحوا بنقض العهد علناً فهؤلاء لا حاجة لإعلامهم؛ لأنَّ أَمْرهم واضح، وهم لا يشكون في نقضهم العهد؛ ولأجل ذلك لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم مَعَ كفار قريش صلح الحديبية في ذي القعدة من عام ست من الهجرة عقده بينه وبينهم على يَدِ سُهَيْل بن عمرو العامري -رضي الله عنه وكان في ذلك الوقت كافراً- وانعقد هذا الصلح، ودخل خزَاعَة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأعداؤهم من البَكْريين في عهد قريش، وكان صلح الحديبية وقع على المهادنة تسع سنين، فَغَدَرت قريش غدرًا علناً، وأعانوا البكريين على خُزَاعة فقتلوهم، لما كان هذا الغدر علناً ظاهراً لا إشكال فيه ولا لبس فيه لم ينبذ إليهم رَسُول الله على سواء، بل غزا قريشاً غزوة الفتح، وأهل الأخبار والسير يقولون: إنه قال: «اللَّهُمَّ خُذِ الأَخْبَارَ وَالْعُيُونَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي دِيَارِهَا» (¬1)، وما دروا إلا والمسلمون بِمَرِّ الظّهْران كل رجل يوقد نارًا؛ لأن نقضهم للعَهْدِ هُنَا لا يَتَنَاوله {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} لأنهم خانوا بالفعل وقتلوا الخزاعيين قتلاً ذَرِيعاً، كَمَا قال صاحبهم الذي اسْتَنْجَدَ لهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمرو بن سالم الخزاعي (رضي الله عنه)؛ لأن قريشاً لما نقضوا العَهْدَ وقتلوا خزاعة مع البكريين أرسل الخزاعيون عمرو بن سالم (رضي الله عنه) فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة -هذه حرسها الله- قام عمرو بن سالم الخزاعي وذكر رجزه المشهور الذي يصرح فيه بأنهم قَتَلُوهم، وأن نقضهم للعهد كالشمس لا شك فيه حيث قال ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ص1238 من طريق ابن إسحاق، وكذا أورده ابن كثير في تاريخه (4/ 283).

للنبي صلى الله عليه وسلم في رجزه المشهور: ياربِّ إني ناشدٌ محمَّداً ... حِلفَ أبينَا وأَبيهِ الأتلَدَا ثم قال (¬1): إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا ... هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا ... وقَتَلونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا ... وزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا ... فَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا ... فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... في فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبَدَا ... إِنْ سِيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أيدَا إلى آخر رَجَزِهِ المعروف. وذكر أصحاب السير والأخبار أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا نَصَرَنِي اللهُ إن لمْ أنْصُرْك» (¬2). ولم ينبذ إلى قريش على سواء، بل تجهز إليهم في غزوة الفتح في رمضان من عام ثمان، وأنه ¬

(¬1) نص هذه الأبيات في ابن هشام ص1235، البداية والنهاية (4/ 278) هكذا: يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مَحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا ... قَدْ كُنْتُمُ وُلْداً وَكُنَّا وَالِدَا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا ... فَانْصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا ... فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... إِنْ سِيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبَدَا ... إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا ... وَجَعَلُوا لِي فِي كُدَاءٍ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا ... هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا (¬2) الذي نقله ابن هشام ص (1236)، ابن كثير في تاريخه (4/ 278) قوله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتَ يَا عمرو بن سَالِم».

(صلوات الله وسلامه عليه) لم يعلموا به حتى قرُب من ديارهم، وكان ما وقع مما هو مشهور يوم الفتح. وهذا معنى قوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء}. {إِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: الآية 58] وكل شيء لا [يحبه] (¬1) الله دل على أن صاحبه مرتكب جريمة وذنباً عظيماً. والخائنون: جمع خائن، وأصل الهمزة في {الخَائِنِينَ} مبدلة من واو؛ لأن (الفاعل) من الأجوف تبدل عينه همزة، سواء كانت واواً أو ياءً، والهمزة في محل الواو؛ لأن المادة واوية العين كما بينا (¬2). فالله (جل وعلا) يبغض الخائنين، فلا ينبغي للإنسان أن يخون، وهذا مِنْ مَكَارِمِ الأخلاق، وغاية عدالة الكتب السماوية وإنصافها. وقوله جل وعلا: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59)} [الأنفال: الآية 59] في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعية (¬3): قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {وَلاَ تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالتاء الفوقية وكسر السين من (تَحسِبَن). وقرأه عاصم في رواية شعبة وحده أعني أبا بكر: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} بالتاء الفوقية للمخاطب وفتح سين (تَحسَبن) وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ} بياء الغيبة التحتية وفتح سين (يحسَبن). ¬

(¬1) في الأصل: «يبغضه» وهو سبق لسان. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص103. (¬3) انظر: السبعة ص307.

أما على قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي: {وَلاَ تَحْسِبَنَّ} وقراءة شعبة: {لاَ تَحْسَبَنَّ} فالآية الكريمة لا إشكال فيها، وكلا القراءتين واضح لا إشكال فيه ولا كلام. أما قراءة ابن كثير (¬1) وحمزة وحفص عن عاصم: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ} بالياء، فهذه القراءة أصلها مشكلة، ومعناها مشكل (¬2). وتجرأ أقوام جراءة لا تليق -وإن كان فيهم معرفة وعلم وجلالة كأبي حاتم وأبي عبيد، حتى ابن جرير رحمه الله- وأنكروا هذه القراءة، وقالوا: إنها بعيدة من كلام العرب، وأنها لا وجه لها من الفصاحة، كما أنكر ابن جرير وغيره قراءة ابن عامر: {أَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الأنفال: الآية 59] بفتح همزة (أن). والتحقيق أن قراءة ابن عامر: {يَحْسَبَنَّ} بالياء، و {أنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} بفتح الهمزة، وقراءة حمزة وحفص عن عاصم: {يَحْسَبَنَّ} وقراءة: {إِنَّهُمْ} كلها قراءات سبعيات فصيحة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا وَجْهَ لِلطَّعْنِ فيها. أما على قراءة من قرأ: {ولا تحسِبن الذين كفروا} فاعلموا أولاً أن (حَسِب) بكسر السين في مضارعها لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن: (حَسِب يَحْسَب، وحَسِبتَ تَحْسَبُ). بفتح السين على القياس، و (حَسِبَ يَحسِبُ) بكسر السين على السماع لا على القياس، وهما لغتان فصيحتان مستفيضتان وقراءتان سبعيتان. ¬

(¬1) سبق لسان، والصواب: ابن عامر. (¬2) انظر: حجة القراءات ص312، ابن جرير (14/ 28)، القرطبي (8/ 33) الدر المصون (5/ 623).

فقراءة شعبة عن عاصم لا فرق بينها وبين قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي، وإنما الفرق بين قراءة التاء وقراءة الياء. أما على القراءة بتاء الخطاب فمعنى الآية واضح لا إشكال فيه، والحُسبان في لغة العرب: الظن. والمعنى: لا تظن يا نبي الله الذين كفروا سبقوا. فـ (الذين) في محل المفعول الأول، وجملة (سبقوا) في محل المفعول الثاني، و (سبقوا) معناه: غلبوا وفاتوا، فكل شيء فاتك ولم تدركه وعَجزتَ عنه تقول العرب: سبقك. ومنه قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: الآيتان 60، 61] لسنا بمغلوبين ولا معجَّزين عن أن نبدل أمثالكم. أي: لا تظنن يا نبي الله الذين كفروا سبقوا، لا تظنن الكفار فائتين سابقين يعجز عنهم ربهم (جل وعلا)، لا وكلا {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} ولا يسبقون، فهم تحت قهره وقدرته وسلطنته يفعل فيهم كيف يشاء، ولا يسبقونه ولا يفوتونه، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: الآية 4] أي: يفوتوننا ويعجزوننا، لا {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: الآية 4]، وكذلك قراءة شعبة عن عاصم: {ولا تَحْسَبن الذين كفروا} هي معناها وهذه القراءة واحد. [7/ب] / أما على القراءة الأخرى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا} فتفسير الآية مشكل؛ لأنه لا يُدرى أين مفعولا (حَسِب)، ولا يُدرى الفاعل أين هو؟! وللعلماء فيها أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً: قال بعض العلماء: هذه الآية الكريمة حُذفت منها (أن) المصدرية، وحذف (أن) المصدرية إذا دل المقام عليها أسلوب

عربي معروف موجود في القرآن وفي كلام العرب. قالوا: من أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: الآية 24] الأصل: ومن آياته أن يريكم البرق. ونظيره من كلام العرب قول طرفة بن العبد في معلقته (¬1): ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى ... ............................... ويُروى: ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى ... وأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي قالوا: الأصل: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا. قالوا: والمعنى: أنهم سبقوا. فيصير المفعولان في قوله: «أن سبقوا» لا يظنوا أنفسهم سابقين، أي: فائتين معجزين ربهم. قالوا: وغاية ما في هذا حذف (أن)، وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب. وقال بعض العلماء: ضمير الفاعل يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بدلالة أن ضمير الفاعل في الخطاب واقع عليه، أي: لا تحسبن أنْتَ يَا نَبِيَّ الله، ولا يحسبن هو، أي: نبي الله، لا يحسبن الذين كفروا سبقوا. ومعلوم أنّه لا يحسب ذلك ولكنه يُنهى ليشرّع على لسانه لغيره كما قيل له: {لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الإسراء: الآية 22] {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} [الإسراء: الآية 29] ونحو ذلك من الأشياء التي هو لا يفعلها، {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: الآية 24] وعلى هذا القول فتكون قراءة التاء قرينة دالة على الفاعل؛ لأن الفاعل في قراءة التاء {لاَ تَحْسَبَنَّ} أنت يا نبي الله. فيكون المعنى في قراءة الياء: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ} هو أي: نبي الله، لا يظنن ¬

(¬1) شرح القصائد المشهورات (1/ 80).

الذين كفروا سبقوا. أي: فاتوا وعَجَزَ عنهم ربهم سبحانه عن ذلك. وعلى هذا القول فـ (الذين) في محل المفعول الأول، و (سبقوا) في محل المفعول الثاني. وقال بعض العلماء: (الذين) في محل رفع على الفاعل، وأحد المفعولين محذوف. قالوا: المعنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. أي: لا يظنّون أنفسهم سابقين، قالوا: وربما حُذف المفعول كما حُذف في قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} [آل عمران: الآية 175] أصله: يخوفكم أولياءه لكن (حَسِب) و (خَوَّف) ليسا من باب واحد؛ لأن (حَسِبَ) تنصب المبتدأ والخبر، و (خَوَّفَ) لا تنصب المبتدأ والخبر بل مفعولاها أصلهما ليسا بمبتدأ وخبر. وقال بعض العلماء: لا يحسبن الكفار الذين كفروا سبقوا. هذه الأقوال في هذه الآية الكريمة وفي نظيرتها في سورة النور (¬1) على قراءة الياء. وهذا معنى قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ}. {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} وقرأه ابن عامر {أَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} بفتح الهمزة (¬2). وكان كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري (رحمه الله) يقول: إن قِرَاءَةَ ابْنِ عامر هذه لا وجه لها (¬3). والكمال لله؛ لأن قراءة ابن عامر - رحمه الله - وجهها ظاهر جداً؛ لأنها تطابق قراءة الجمهور في المعنى، إلا أن قراءة ابن عامر أظهر في المعنى وإن ¬

(¬1) وهي قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور: الآية 57]. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص222. (¬3) تفسير ابن جرير (14/ 28).

خفي ذلك على الإمام ابن جرير (رحمه الله)؛ لأن الكمال والعلم لله وحده. والحاصل أنه قد تقرر في الأصول في مسلك (الإيماء والتنبيه) (¬1) أن من الحروف الدالة على التعليل، (إنّ) المكسورة المشددة، تقول: اضربه إنه مسيء. أي: اضربه لعلة إساءته، أكرمه إنه محسن. أي: أكرمه لعلة إِحْسَانِهِ. فـ (إن) من حروف التعليل. وعلى قراءة الجمهور فـ (إنّ) المكسورة دلت على التعليل. لا تظننهم سابقين فائتين معجزين ربهم، لا وكلا {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} لا يعجزون ربهم ألبتة، فيكون النهي عن قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا} لأجل أنهم لا يعجزون أبداً، فلا يخطر في قلبك ذلك الحسبان الباطل. أما على قراءة ابن عامر: {أَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} فـ (أن) قد تقرر في علم النحو أن المصدر المنسبك من (أنّ) وصلتها و (أنْ) وصلتها يجوز جره بحرف محذوف بقياس مطرد (¬2). فالأصل: لا تحسبن الذين كفروا سبقوا؛ لأنهم لا يعجزون. غاية ما في الباب حذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من (أنّ) وصلتها، وهو واضح مطرد لا إشكال فيه، وقد عقد اطراده ابن مالك في خلاصته بقوله (¬3): ¬

(¬1) جرى الأصوليون على اعتبار (إنَّ) ضمن مسلك النص، وبعضهم يعتبرها من قبيل النص الصريح، ويرى آخرون أنها من قبيل النص غير الصريح (الظاهر). انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 119)، نثر الورود (2/ 480)، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين ص355. (¬2) مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

................................ ... وإنْ حُذِف فالنَّصْبُ للمُنْجَرِّ ... نقلاً وفي (أنَّ) و (أنْ) يطَّرِِدُ ... مع أَمْنِ لبسٍ كَعَجِبْتُ أنْ يَدُو فقراءة ابن عامر دالة على التعليل الذي دلت عليه قراءة الجمهور بقياس عربي واضح مطرد لا إشكال فيه، وهذا معنى قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59)} (يعجزون) مضارع (أعجز)، أعجزه: إذا صيَّره عاجزاً عنه، فكل شيء غلبك ولم تقدر عليه تقول العرب: أعجزك وسبقك وفاتك. بمعنى واحد {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} ربهم. أو: لأنهم لا يعجزون ربهم، بل ربهم قادر عليهم، كما قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: الآية 2] وهذا معنى قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الأنفال: الآية 59]. {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: الآيتان 60، 61]. قوله: {وَأَعِدُّواْ} [الأنفال: الآية 60] أمر من الإعداد، والإعداد في لغة العرب التي نزل بها القرآن: معناه اتخاذ الشيء، وادخاره إلى وقت الحاجة إليه، فكل شيء اتخذته وجعلته عندك تنتظر به وقت الحاجة إليه فَقَدْ أعْدَدْتَهُ. والأمر في قوله: {وَأَعِدُّواْ} للوجوب؛ لأن المقرر في الأصول: أن

صيغة (افعل) تدل على الوجوب ما لم يصرف عن ذلك صارف (¬1) [من] (¬2) كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ونعني بصيغة (افعل): الصيغ الأربع الدالة على الأمر الذي هو اقتضاء طلب الفعل. والصيغ الدالة على الأمر أربعاً (¬3): فعل الأمر، كقوله هنا: {وَأَعِدُّواْ} وكقوله: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [الإسراء: الآية 78] والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، كقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: الآية 29] واسم فعل الأمر، نحو: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ} [النساء: الآية 105] والمصدر النائب عن فعله، نحو: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: الآية 4] أي: فاضربوا رقابهم. ولعلماء الأصول اختلاف في صيغة (افعل) إذا جاءت في كلام الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وتجردت عن القرائن ماذا تفيده عند الإطلاق (¬4)، هل هو الإيجاب المتحتم، أو الندب، أو الطلب؟ إلى غير ذلك من الأقوال. والتحقيق الذي دلت عليه الأدلة: أن النصوص الشرعية واللغة العربية التي نزل بها القرآن كلها يدل على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب ما لم تقترن بدليل يصرفها عن ذلك، والدليل على ذلك من القرآن: أن الله (جل وعلا) قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (44) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف. (¬4) مضى عند تفسير الآية (44) من سورة الأنعام.

تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: الآية 63] فلو كانت مخالفة الأمر غير معصية، وامتثال الأمر غير واجب لما شدد عليه هذا الوعيد العظيم في قوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: الآية 12] والأمر بصيغة (افعل) وهو قوله: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: الآية 11] فعنفه التعنيف الشديد الذي لا يفعل إلا لتارك الواجب على مخالفته لصيغة (افعل) التي هي: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} وقد قال نبي الله موسى لأخيه هارون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: الآية 93] يعني قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} الآية [الأعراف: الآية 142] والمعصية لا تسمى إلا لارتكاب الحرام المستوجب للإثم، وقد وبخ الله (جل وعلا) قوماً توبيخاً شديداً لمخالفتهم لصيغة (افعل) في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ} [المرسلات: الآية 48] (اركعوا) صيغة (افعل) وقد وَبَّخَ مَنْ لم يَمْتَثِلْها وعنّفه تعنيفاً شديداً في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ (48)}، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: الآية 36] وفي القراءة الأخرى: {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1) فجعل أمر الله وأمر الرسول موجباً للامتثال قاطعاً للاختيار. وقال في الملائكة: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: الآية 6] فدل على أنهم لو لم يمتثلوا ما أمرهم لكانوا عاصين، حاشاهم من ذلك. وأما اللغة العربية: فإنك لو قلت لعبدك: اسقني ماءً. أمرته وألزمته بصيغة (افعل) ثم ترك ولم يمتثل فَأَدَّبْتَه، فقال لك العبد: ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف.

تأديبك لي ليس واقعاً في موقعه؛ لأن صيغة (افعل) في قولك: «اسقني» لم تلزمني ولم توجب علي!! فَكُلّ مَنْ يَعْرِف معنى اللسان العربي يقولون له: صيغة الأمر ألزمتك وأوجبت عليك، ولكنك عصيت وخالفت. ومرادنا بهذا: أن هذا أمر خالق السماوات والأرض، أمْرُ رَبِّ العَالَمِين بإعداد القوة التي يمكن أن تحصل في الاستطاعة، هذا الأمر واجب، وتضييعه حرام لا شك فيه، وبذلك يعلم أن تواكل من يُسَمَّوْنَ باسم المسلمين في أقطار الدنيا، وعدم سَعْيِهِمْ في إعداد القوَّة الكَافِيَة لِقَمْعِ العَدُوّ أنه تَمَرُّدٌ على نظام السَّمَاءِ، وعدم عمل بإرشادات خَالِقِ هَذا الكَوْنِ -جل وعلا- وامتثال أوامره، فالله (جل وعلا) في هذه السورة الكريمة وغيرها من سور القرآن رَسَمَ الطَّرِيقَ وبَيَّنَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطريق التي إذا فعلوها وساروا عليها كانت كفيلة بنصرهم، وذل أعدائهم، وقمع كلمة الكفر وإذلاله؛ لأنه هنا أمر بإعداد القوة التي يمكن أن تدخل تحت الاستطاعة كائنة ما كانت، تطورت القوة مهما تطورت، وانتقلت من حال إلى أي حال، فالآية تساير التطور بدلالة مطابقتها مهما كان وما تحول الأمر؛ لأن لفظها الصريح موجب أمر إيجاب سماوي من الله إعداد كل ما يمكن أن يدخل في الاستطاعة من القوة لِقَمْعِ الكَفَرَةِ (قَبَّحَهُمُ الله)، فهذا أمْرٌ واجِب، فلو عمل الناس بهذا الأمر، وبذلوا ما عندهم من الإمكانيات والثروات في إعداد القوة الكاملة من جميع وجوهها، حتى في تعليم الأمور التي تطورت إليها الحياة الراهنة؛ لأن كل حال له مقال، وكل حالة لها مواجهات بأمور تُلاَئِقُهَا. ودين الإسلام مرن غاية المرانة، كل شيء يقابله بما يصلح له، وذلك في نور السماء الذي شرعه الله

على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فإن القوة التي يقوى بها عسكر المسلمين، ويحمون حوزتهم، ويردون المسلوبات منهم إذا أعدوا القوة الكافية التي تدخل تحت الاستطاعة، ثم حَوَّلَ هَذِهِ القُوَّةَ كانوا متكاتفين غير متنازعين غير متفرقين، كلمتهم واحدة، وذكروا الله كثيراً، وتعلقت أرواحهم بربهم، وطلبوا المدد مِنَ السَّمَاءِ، كانت أسباب النصر كلها متوفِّرة لَدَيْهِم لقوتهم الكَافِيَة، ولعدم فَشَلِهِمْ؛ ولأنهم إذا فشلوا وتفرقوا دَخَلَ العَدُو بَيْنَهم، ورمى بعضهم ببعض كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: الآية 46] وقال تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: الآية 103] لا تَتَفَرَّقُوا، هذه أوامر الله، والقرآن يوضح الطريقة التي لو سَلَكها الناس لكانت كفيلة لهم بالنَّصْرِ والظفر؛ لأن منها إعداد القوة الكافية، وكل مَنْ عِنْده مال فباستطاعته كل شيء؛ لأن المال سبب لكل شيء، وهو شريان الحياة، ويُسَخِّر الله به لمن أعطاه إياه كل الإمكانيات من تعليم حتى يتعلم ما تعلمه الكفرة ويصل إلى ما وَصَلُوا إِلَيْهِ، ويستعين به في جميع الميادين ليكتسب به القوة الكاملة. ومعلوم أن هذه أوامر الله، وأنها متروكة، وأن دين الإسلام هو هو، وصلته بالله هي هي، وأن المتسمين باسم الإسلام هم الذين تَنَكَّرُوا للدِّينِ، وفارقوا الآلة الجبارة القاهرة التي كانوا يقهرون بها أعداء الله، وهي طاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا شك أنه يجب على المسلمين امتثال أوامر الله، وأن يَتَفَطَّنُوا ويَتَحَرَّزُوا، ويفرقوا بين النَّافِعِ والضَّارّ؛ لأن من طبيعة أدنى العقلاء التفريق بين ما ينفع وما يضر، ولا شك أن ما يسميه الناس (الحضارة الغربية) دل الاستقراء الصحيح اليقين أن فيها ماءً زلالاً نافعاً وسمّاً قاتلاً فاتكاً،

ونضرب لهذا مثلا (¬1): لأنك مثلاً أيها الإنسان إذا وجَدْتَ إناء فيه ماء زلالٌ وإناء فيه سم قاتل وأنت خارج من العمران في فلاة بعيدة شاسعة، فحالك لا يخلو من أربعة أحوال: إما أن تشرب الماء والسم معاً، وإما أن تتركهما معاً، وإما أن تشرب السم وتترك الماء، وإما أن تشرب الماء وتترك السم. فافرض مثلاً أنك وجدت ماءً زلالاً وسمّاً فاتكاً قتالاً في موضع واحد، وأنت في فلاة معطشة بعيد جدّاً من العمران، فلك مع هذا أربع حالات: إما أن تشربهما معاً، وإما أن تتركهما معاً، وإما أن تشرب السم وتترك الماء، وإما أن تشرب الماء وتترك السم، ولا خامسة البتة. وهذا تقسيم صحيح، فنرجع لهذا التقسيم الصحيح بالسبر الصحيح فنقول: إذا شربتهما معاً لم ينفعك الماء؛ لأن السم الفتاك يقتلك ويقضي عليك، وإن تركتهما معاً هلكت، ولم تبلغ العمران، ولم تلتحق بالرَّكْب، وإن أخذت السم وتركت الماء فأنت مجنون أهوج أحمق؛ حيث أخذت ما يضرك وتركت ما ينفعك!! وان كنت عاقلاً يصدق عليك مطلق اسم العاقل أخذت الماء وتركت عنك السم. وهذا مثال لما جاءت به الحضارة الغربية، فإن ما أحدثوه من القُوَّةِ المادِّيّة وأنواع التنظيمات في جميع ميادين الحياة هو ماء زلال [8/أ] فيحتاج له جدّاً لا بد منه/ في تطور هذه الحياة الراهنة حسب ما تطورت إليه من الأوضاع، وفيها سم قاتل فتاك لا شك فيه، وهو ما جنته من الكفر والانحطاط الخلقي، والتَّمَرُّد على نظام السَّمَاءِ، ومُعَادَاةِ خالق السماوات والأرض. فالموقف الطبيعي للمسلمين في الأوضاع الراهنة أن يتأملوا فإذا أخذوها كلها بنافعها وضارها أهلكهم ضارُّهَا ولم ينتفعوا بالأنفع، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

وإذا تركوها كلها -تركوا النافع منها والضار- بقوا ولم يلحقوا، وبقوا مستضعفين، وإذا أخذوا ضارها دون نافعها فهم قوم مجانين، هم حمقى لا عقول لهم، وإن أخذوا النافع وتركوا الضار فهذا هو الأمر الطبيعي لكل عاقل. والمؤسف كل الأسف أنّ غالب من يتسمّى باسم الثقافة والحضارة والتمدُّن لا يأخذ منهم إلا القشور المهلكة، والسموم الفاتكة، من الانحطاط الخُلُقِي، والتمرُّد على نظام السماء، والتنكر لخالق هذا الكون، في الوقت الذي لا يستفيد فيه من مائها الزلال - الذي هو قوّتها- شيئاً!! وهذه مسألة مَعْكُوسَة جمع صاحبها بين الكفر والإفلاس. مَا أحْسَنَ الدِّينَ والدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا ... وَأَقْبَحَ الكُفْرَ والإِفْلاسَ بِالرَّجُلِ (¬1) وإذا كان ربنا يقول في هذا المحكم المنزّل آخر الكتب السماوية عهداً برب العالمين: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: الآية 60] مهما تطوّرت القوّة، ومهما بلغت كائنة ما كانت {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} كان وقت نزولها أقوى القوة وأعظم العدة الخيل وما جرى مجراها من الرَّمْيِ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر الجهني (رضي الله عنه) أنه سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ». كرّرها ثلاثاً (¬2)؛ لأن الرَّمْيَ فِي ذَلِكَ الوقت إعداد الخيل والسّيوف هذا هو أقوى القوّة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (155) من سورة الأنعام. (¬2) أخرجه مسلم في الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، حديث رقم: (1917) (3/ 1522).

وأعظمها في ذلك الوقت، والإعداد في ذلك كان يكون بمثل هذا، حتى قال الشاعر (¬1): وَأَعْدَدْتُ للحَرْبِ أوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طُوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراً وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي (¬2): أَعدَدْتُ للحَدَثَانِ سَا ... بِغةً وَعَدَّاءَ عَلَنْدَى يعني: درعاً وفرساً ذكراً. أما الآن فقد تطوّرت الحياة عن ذلك في ظروفها الرَّاهِنَة، وصارت الخيل والدروع والرِّمَاحُ لا تغني شيئاً، فَصَارَ الأمْرُ يَتَطَلّب شيئاً زائداً على ذلك يساير الأحوال، ويساير التطوّر في حالاته الراهنة، فعلى المسلمين أن يُعدّوا كل ما في الاستطاعة منه، ولكنهم -وإنا لله وإنا إليه راجعون- لا يُعدّون في أغلب أقطار المعمورة شيئاً، والكفار يتقوّون ويسلّطهم الله عليهم بذنوبهم. أما التعاليم السماوية فهي لا تشجِّع على الضعف والتواكل والتسليم للأعداء، لا، إنما تأمر بالقوّة وإعداد القوة المستطاعة، والكفاح القوي، وعدم التنازع، وعدم التفرّق، والاتصال مع هذا كله بخالق السماوات والأرض، وامتثال أوامره، واجتناب نهيه {إِِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ} [الأنفال: الآية 45] إلى غير ذلك من الآيات. وهذا معنى قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم} إعداده {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} الرباط: تطلقه العرب على عين الخيل المربوطة، يقولون: هذا رباط. أي: ¬

(¬1) البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص71، تاريخ دمشق (20/ 140). (¬2) البيت في الدر المصون (1/ 207)، شواهد الكشاف ص32.

خيل مربوطة في سبيل الله. قال بعضهم: هو جمع ربيط، فرس ربيط: مربوط في سبيل الله، قالوا: كفصيل وفصال، وربيط ورباط، فالرباط اسم لذات الخيل المربوطة في سبيل الله؛ لأن الخيل كانت من أقوى القوة وأعظم العدة التي تقهر بها الأعداء في وقتها. وهذا معنى قوله: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} والخيل هو الحيوان المعروف. قال بعضهم: هو جمع (خايل)؛ لأن في مشيها خيلاء كمشية المتكبر المتبختر. وبعضهم يقول: هو جمع (خائل) واحده (خائل). وقد قدّمنا أن التحقيق عندنا أن (الفَاعِل) يُجمع على (فَعْل) إذا كان وصفاً. وقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} الإرهاب: التخويف، تخوّفون به عدو الله. والعدو يُطلق على المفرد وعلى الجمع، معناه: أعداء الله، كقوله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: الآية 4] {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} [النساء: الآية 92] أي: أعداء. وهذا معنى قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ككفار مكّة وغيرهم من الكفّار. {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} معنى {مِن دُونِهِمْ} آخرين غيرهم لا تعلمونهم. كان بعض العلماء يقول: هم قريظة. وبعض العلماء يقول: هم فارس والروم. وبعض العلماء يقول: هم المنافقون (¬1). واستدل من قال: إنهم المنافقون؛ لأن الله قال فيهم: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: ¬

(¬1) انظر هذه الأقوال في ابن جرير (14/ 35)، القرطبي (8/ 38)، ابن كثير (2/ 322).

الآية 101] وقال كثير من العلماء: هم مردة الجن، وزعم بعض العلماء أن الجن يخافون من الخيل، وأنهم يفرون من صهيلها!! وجاء في ذلك بعض الأحاديث. والتحقيق أنه لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: البحث عن هؤلاء الآخرين لا طائل تحته؛ لأن الله صرح بأنّا لا نعلمهم فكيف نتكلّم فيما قال ربنا إنّنا لا نعلمه، والله يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: الآية 36] (¬1) وهذا معنى قوله: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}. ولما أمر الله بإعداد القوة المستطاعة كائنة ما كانت، وكان إعدادها يحتج إلى مادّة رغب المؤمنين في الإنفاق في سبيل الله، لينفقوا ويعينوا على إعداد القوة، قال: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ} (ما) شرطية و {مِن شَيْءٍ} بيان لـ (ما)، و {تُنفِقُواْ} معناه: [تبذلونه] (¬2) لوجه الله وابتغاء مرضاته {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في طريقه التي ترضيه، ويدخل فيها دخولاً أوليّاً: ما يعين على الجهاد من إعداد القوة، ومن رباط الخيل. {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي: يعطكم الله ثوابه يوم القيامة وافياً غير منقوص، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله من الأضعاف. {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: الآية 60] لا تنقصون شيئاً من حقوقكم. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 38). (¬2) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69)} [الأنفال: الآيات 61 - 69]. يقول الله جل وعلا: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [الأنفال: الآيات 61 - 63]. قرأ هذا الحرف عامّة القراء السبعة غير عاصم في رواية شعبة أبي بكر: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} بفتح السين. وقرأه شعبة عن عاصم: {وإن جنحوا لِلسِّلْم} (¬1). و (السَّلم) بفتح السين و (السِّلْم) بِكَسْرِهَا لُغَتَان فَصِيحَتَانِ، وقراءتان سَبْعِيَّتَانِ صحيحَتَانِ، والمراد بالسَّلم: الصُّلْح. العرب تسمي الصلح: سَلماً، وسِلماً. وربما سمّتها: (سلاماً). ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص222.

والجنوح في لغة العرب: الميل، تقول العرب: جنح فلان إلى كذا، وجنح له. أي: مال إليه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول غيلان ذي الرمة (¬1): إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ ... بِذِكْرَاكِ والعِيسُ المَراسيلُ جُنَّحُ أي مائلات الأعناق في السير. معناها: إن مال الكفار يا نبي الله إلى السِّلم وودّوها وطلبوها فاجنح لها؛ أي: وافقهم في ذلك، وملْ إلى السلم وصالحهم وسالمهم كما طلبوا ذلك منك. و (السلم) مؤنَّثة في اللغة الفصحى، كالحَرب فهي مؤنثة أيضاً؟ ومنه قول العبّاس بن مرداس (¬2): السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضيتَ بِهِ ... والحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنفَاسِهَا جُرَعُ والمعنى: {وَإِن جَنَحُواْ}: أي الكفار {إِلَى السَّلْمِ} إلى الصلح، أي: مالوا إلى المصالحة، وأحبوا أن تكون معهم في صلح {فَاجْنَحْ} يا نبي الله إليها، أي: إلى الصلح، فَمِل إلى الصلح وسالمهم. وكان بعض العلماء يزعم أن هذه الآية من سورة الأنفال بينها وبين آية القتال تعارُضٌ أو إشكال (¬3)، والحق أنه لا تعارض بينهما؛ لأن آية الأنفال هذه قيدت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجنوحه إلى السلم بأن يكون الكفار هم الذين جنحوا إليه أولاً وطلبوه ومالوا إليه. أما آية ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 39)، الدر المصون (5/ 630). (¬2) البيت في الدر المصون (2/ 359)، (5/ 631). (¬3) انظر: ابن جرير (14/ 41)، القرطبي (8/ 39).

سورة القتال -سورة محمد- فهي لا تعارض هذا؛ لأن الله نهاهم فيها عن ابتداء طلب الصلح، وذلك لا ينافي إجابة الكفار إليه بعد أن طلبوه. ونعني بالآية المذكورة: قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: الآية 35] لأن آية القتال فيها النهي عن أن يكونوا هم البادئين بالدعاء إلى الصلح؛ لأن الداعي إلى الصلح يظهر من قرينة حاله أنه كأنه خائف، وأنه يحس بالغلبة فيريد الصلح. أما القوي الآمن الذي لا يظن أنه مغلوب فلا داعي له إلى طلب الصلح. فلا معارضة بين الآيتين. وهذا معنى قوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} أي: إن مال الكفار إلى الصلح فاجنح لها. أما قراءة: {فَاجْنُحْ لَهَا} فهي شاذة وليست من القراءات السبعية (¬1). أي: فَمِل إليها ووافقهم على ذلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يعني: إن صالحتهم فلا تخف مما يدبّرون لك من المكر والغدر والحيل في مدّة تلك المصالحة، لا تهتم بذلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ثق إليه، وفوِّض إليه جميع أمورك، فإنه (جل وعلا) يكفيك {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: الآية 3] وهذا معنى قوله: {فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} {إِنَّهُ} أي: الله {هُوَ السَّمِيعُ} لما يقولونه من المنكر والغوائل التي يتربصونك بها في مدة الصلح {الْعَلِيم} بكل ما يبطنون ويضمرون من المكر والخديعة والحيل أثناء المدة التي صالحتهم فيها، فهو (جل وعلا) لا يفوته شيء مما قالوا ولا مما عملوا، فهو مطّلع عليهم وكافيكهم، لا تهتم بذلك، واجعل ثقتك بالله وتوكلك عليه، فإنه يكفيك. ¬

(¬1) انظر: المحتسب (1/ 280).

واعلم أن جماعة من العلماء من الصحابة فمن بعدهم زعموا أن هذه الآية من سورة الأنفال منسوخة بآية السيف النازلة في براءة (¬1)؛ لأنها نازلة بعدها؛ لأن براءة نزلت في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وذلك العام عام تسع بلا خلاف، لم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعده إلا سنة واحدة، وسورة الأنفال هذه نزلت في وقعة بدر، وكانت في العام الثاني من الهجرة كما أوضحناه. قالوا: فهي منسوخة بآية السيف، كقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: الآية 5]. والتحقيق أن هذه الآية ليست منسوخة، وأن المصالحة والمهادنة لم تنسخ، وأن الإمام يخير وينظر في مصالح المسلمين، فإن رأى المصلحة في الصلح حتى يتقوّى المسلمون فيجتمع شملهم ويقدروا على القتال صالح، وإن رأى المصلحة في عدم الصلح لم يصالح، فالكل واسع وجائز إن شاء الله. وهذا معنى قوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: الآية 61]. {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} [الأنفال: الآية 62] {وَإِن يُرِيدُواْ} أي: الكفار الجانحون للسلم الطالبون للصُّلْحِ {أَن يَخْدَعُوكَ} بذلك الصُّلْحِ ويَتَمَكَّنُوا في مُدَّةِ المُصَالَحَةِ مِنْ تَدْبير المكر والمكائد ليضروك بها؛ لأن بعض الكفار يصالح غدراً ومكيدة، لا محبة في المصالحة. وكانت قريظة بعد أن أعانوا كفار مكة بالسلاح وصالحوه المرة الأخرى ليس في نيتهم الدَّوَام على المصالحة، بل يتربصون به الدوائر، ¬

(¬1) راجع المصادر في الحاشية قبل السابقة.

ويريدون أن يعينوا عليه الكفار. إذا كان قَصْدُهُمْ بِالصُّلْح الذي طلبوه وجنحوا إليه المخادعة فلا يغرّنَّكَ ذلك، ولا تَكْتَرِثْ بِقَصْدِهِمُ الخداع فإنهم لا يضروك شيئاً؛ لأن اللهَ يَكْفِيكَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ ولذا قال: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} الخديعة: الغُرور، وهو إبطانُ الشَّرِّ ومحاولَةُ إِيصَالِ الشرِّ بطريق خفية لا ظاهرة واضحة. {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} حَسْبك: معناه كافيك الله (جل وعلا). العرب تقول: حَسبه كذا. معناه: كافيه كذا. وهذا معنى معروف في كلامها مشهور، ومنه قول جرير يهجو قوماً ممن كان يهجوهم (¬1): وَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ المَكَارِمِ حَسْبكُمْ ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا ... فَإِذَا تُذُوكِرَتِ المَكَارِمُ مَرَّةً ... فِي مَجْلِسٍ أَنْتُمْ بِهِ فَتَقَنَّعُوا فقوله: حسبكم يعني: يكفيكم من المكارم أن تأكلوا وتشربوا، وهذا غاية الذم كما هجا الحطيئةُ الزبرقان بن بدر لما قال له (¬2): دَعِ المَكَارِمَ لا تَرْحَل لبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي وحبسه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه). {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} كافيك الله، يكفيك شَرَّهُمْ وشَرَّ خِدَاعِهِمْ، فَثِقْ بِهِ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ولا تكترث بإرادتهم بالصلِح الخَدَّاعِ. وهذا معنى قوله: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} {هُوَ} أي: الله {الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أَيَّدَك: مَعْنَاه قوَّاكَ. فالعرب تقول: أيّده يؤيّده تأييداً. إذا قوّاه. وتقول: رجل أيِّد. إذا كان قَوِيّاً. و (الأيد) و (الآد): ¬

(¬1) البيت في تاريخ دمشق (29/ 181) ونسبه لحسان (رضي الله عنه) وليس في ديوانه، ونسبه في شواهد الكشاف ص70 لجرير. (¬2) البيت في ديوانه ص108.

القوة (¬1). ومنه قوله تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات: الآية 47] أي: بنيناها بقوّة. وليست من (الأيدي) جمع (يد) فليست من آيات الصفات، بل معناها: القوة. هذا معنى: {أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: قَوَّاك وعزّزك بِنَصْرِهِ. وأصل النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم {أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} وقوّاك أيضاً وأيّدك بالمؤمنين، ويدخل فيهم دخولاً أوّلاً: الأنصار -الأوس والخزرج- الذين آووه ونصرُوهُ وأيّدَهُ اللهُ بِهِمْ. كان الأوس والخزرج وهما بطنا الأنصار أبناء قَيْلة، أولاد حارثة الغطريف كانوا مكثوا سنين كثيرة بينهم حروب دَامِية وقتال هلك فيها أشرافهم، وقُتل فيها ساداتهم، وبينهم عداوات وإحن وأضغان مستحكمة قديمة متوارثة لا يكاد أن تزول من صدورهم أبداً، فلما أرسل الله إليهم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وآووه ونصروه، وأيده الله بنصره وبهم، أزال تلك الأضغان والعداوات الكامنة، وجعل مكانها المحبة الصادقة والمودة والإخاء الكامل؛ ولذا امتن الله عليهم بذلك هنا، وقد قدمنا نحوه في سورة آل عمران؛ لأنه قال: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: الآيتان 62، 63] قال بعض العلماء: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} يعني: الأنصار. وقال بعض العلماء: هي أعم مِنَ الأنْصَارِ؛ لأن العرب الذين هم أول مَنْ دَخَلَ في دينه صلى الله عليه وسلم كانوا أمّة بينها ضَغَائِن وحروب ومقاتلات لا تكاد تجتمع على رجل واحد، فجمع الله شتاتها ولَمَّ شَعْثَهَا وألّفَ قُلُوبَهَا على الإيمان. وأكثر المفسرين على أن المُرَادَ بهم الأنصار (¬2)، كانوا في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (26) من هذه السورة. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 45)، القرطبي (8/ 42).

العداوات الشديدة، ومكثوا سنين كثيرة في حروب دامية، واستحكمت بينهم العداوات والإِحَنُ والأَضْغَان، فألَّف الله بين قُلُوبهم بنبيه صلى الله عليه وسلم كما قال هنا: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} التأليف في لغة العرب معناه: الجَمْع. أي: جمع بين قلوبهم فَصَارَتْ على قلب رجل واحد، نِيَّتُها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، ونصر نبيّه، ومحبة كل للآخر بعد أن كانت قلوبهم غير مجتمعة ولا متألِّفَة، بل هذا يريد قتل هذا، وهذا يريد قتل هذا، بقلوب شتى لا تَتَأَلّف؛ ولذا قال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} يعني: لو صرفت ما في الأرض جميعًا لِتُؤَلّف بين قلوبهم ما أمْكَن ذلك أبداً. ومِنْ أعظم الأسباب الدنيوية لكل شيء: المال، فإنه يؤلِّف القُلُوبَ ويُزِيلُ العَدَاوَةَ. يعني: لَوْ أنْفَقْتَ جَمِيعَ ما في الأرض ما قدرْتَ على أن توفق بين قلوبهم ولا أن تُوَحِّدَها، ولكن الله العظيم بقدرته وجلاله أَلَّفَ بَيْنَ قلوبهم؛ لأنه تعالى وحده هو الذي يملك القلوب ويصرّفها كيف يشاء؛ إذ كل إنسان قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء، كما قدّمنا بَسْطَه في تفسير قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} الآية [الأنفال: الآية 24]. الذي بيده القلوب يُصَرِّفُها كيف يشاء، ويقلبها كيف يشاء هو وحْدَهُ الذي يقدر على تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولمّ شَعْثِهم، وإزالة ما كان بينهم كما تَقَدَّمَ في قوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: الآية 103] وهذا معنى قوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية 63].

وقد قَدَّمْنَا مراراً أن العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، والعِزَّة: الغَلَبَةُ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: الآية 8] أي: وللهِ الغَلَبَةُ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: الآية 23] غلبني في الخصام. ومِنْ كَلاَمِ العَرَبِ: (مَنْ عزَّ بزَّ) (¬1) يعنون: من غلب استلب، وقد نظمته لخنساء السلمية الشاعرة في قولها (¬2): كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ... إِذْ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا أي: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. والحَكِيم: هو الذي يَضَعُ الأمُورَ فِي مَوَاضِعِها ويوقعها في مواقعها (¬3). فاقتضت عزّته وغَلَبَتُهُ أن يَقْهَرَ أعداءك، وأن لا يضرّوك بِخِدَاعِهِمْ ونِيَّتِهم المكر والخِدَاع؛ لأن رَبَّكَ غَالِبٌ قَاهِرٌ لا يغلبه شيء، واقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أن يؤلف بين قلوب أنصارك الذين نصروك، ويوحِّدَ كَلِمَتَهُمْ، ويجعلهم كرجل واحد، هذا اقْتَضَتْهُ عِزَّته وحكمته، وإن كانت حكمته تَقْتَضِي العَدْلَ الكَامِل، وكمال التَّمَام في كل ما يُدَبِّرُه في شرعه وقدره وغير ذلك. وعزّته تقتضي أنَّه غَالِبٌ لكل شيء، ويدخل في ذلك قَهْرُهُ لِلْكفار الجانحين للسّلم الذين يريدون بذلك الخِداع، ويدخل في حكمته جمعه بين قلوب أصحابك ليجتمعوا على نصرة دين الله وإعلاء كلمته. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية 63]. ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: الآية 64] قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير نافع: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} وقرأه نافع وحده من السبعة: {يَأَيُّهَا النَّبِيء حَسْبُكَ اللهُ} بالهمزة (¬1). أما على قراءة نافع فهو من النبأ بلا خلاف. وقد قدمنا مراراً (¬2) أن النبأ في لغة العرب: الخبر الذي له خطب وشأن، فكل نبأٍ خبراً وليس كل خبر نبأً؛ لأن النَّبَأَ أخَصّ مِنْ مُطْلَقِ الخَبَرِ؛ إِذْ لاَ تَكَادُ العَرَبُ تُطْلِق النبأ إلا على الإخبار بما فيه أهَمِّيَّة وله خطب وشأن، فلو قلت: جاءنا اليوم نَبَأُ الأَمِيرِ، أو نبأ الجيوش. كان هذا من كلام العرب؛ لأنه خَبَرٌ لَهُ خَطْبٌ وشأن، ولو قلت: بلغني اليوم نَبَأٌ عَنْ حِمَار الحجَّام. لما كان هذا من كلام العرب؛ لأن خبر حمار الحجام لا أهمية له ولا شأن ولا خَطْبَ لَهُ. أما على قراءة الجمهور: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ} فقال بعض العلماء: معناه كمعنى قراءة نافع، إلا أن الهمزة أُبْدِلَتْ يَاءً كَمَا أبدلت همزة (النسيء) في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: الآية 37] أُبدلت ياءً في قراءة سَبْعِيَّة صحيحة (¬3) {إِنَّمَا النَّسِيُّ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وبها قرأ ورش عن نافع وغيره، وعلى هذا القول فالقراءتان معناهما واحد. وقال بعض العلماء: (النبي) على قراءة الجمهور ليس من النبأ الذي هو الخبر وإنما هو من (النَّبْوَة) بمعنى الارتفاع؛ لأن النبي يوحى إليه وحيٌ، وهو خبرٌ له شأن وخطب؛ ولأن له مكانة رفيعة، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

والشيء المرتفع تسمّيه العرب (نبيّاً) والنّبْوة: الارتفاع، ومنه قيل لكثيب الرمل: (نبي) أي: لأنه مرتفع، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬1): إِلَى السَّيِّدِ الصَّعْبِ لَوْ أَنَّهُ ... يَقُومُ عَلَى ذرْوَةِ الصَّاقِبِ ... لأَصْبَحَ رَتماً دُقاقُ الحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ يعني بالنبي: كثيِب رمل مرتفع. وهذا معنى قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} أي: كافيك الله من أمور الدنيا والآخرة فإنه يكفيك أعداءك، ويعينك على من نَاوَأَكَ منهم. وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان من التفسير معروفان (¬2): قال قومٌ من علماء التفسير: إن قوله: {وَمَنِ} في محل رفع، وأنه معطوف على لفظ الجلالة، أي: حسبك الله وحسبك من اتبعك من المؤمنين، يعينك الله ويؤيدك الله بالمؤمنين. وهذا مروي عن الحسن البصري. والذين قالوا هذا القول قالوا: هذه الآية مكية جُعلت في سورة الأنفال وهي مدنية بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنها نزلت عندما أسلم عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- والنبي وأصحابه مختفون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم في مَكَّةَ، وأن عمر أظهر إسلامه حتى صلوا في المسجد، وما كانوا يقدرون، وأن الله ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (158) من سورة الأعراف. ولفظ الشطر الأول في ديوان: عَلَى الأَرْوَعِ السَّقْبِ لَوْ أَنَّهُ ... ....................................... (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 49)، القرطبي (8/ 43)، الأضواء (2/ 416)، ولابن القيم (رحمه الله) تحقيق جيد في معنى الآية ذكره في زاد المعاد (1/ 35).

أنزلها في مكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجعلها في هذه السورة المدنيَّة أعْنِي سُورَةَ الأَنْفَالِ. والتحقيق الذي دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِقْراء القُرْآن العَظِيم، وَبِهِ قَال أكثر علماء التفسير المشهورين: أن قَوْلَهَا {وَمِنَ} عطف على الضمير في قوله: {حَسْبُكَ اللَّهُ} معناه: كافيك الله وكافي معك من اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فالله يكفيك المُؤَنَ وشُرُورَ الأَعْدَاءِ وكُلَّ بَلِيّة، كما أنه يكفي أتباعك من الصحابة فَمَنْ بَعْدَهُمْ (رضي الله عنهم). وهذا القول هو التحقيق، وقد دل استقراء القرآن عليه؛ لأن الحسْب -الذي هو الكفاية- من خصائص رَبِّ العَالمين، ولم يسنده لأحد مِنْ خَلْقِهِ حَيْثُ قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: الآية 59] فجعل الإيتاء لله والرسول، والحسب لله وحده. وقال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: الآية 64] فجعل الحسب له وَحْدَهُ، والتأييد بنصر الله وبالمؤمنين. وقد أثْنَى الله (جل وعلا) على قوم أفردوه بالحسب -وهو الكفاية- كما في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: الآية 173] اللهُ وَحْدَهُ وَلَمْ يذكر معه غيره، فأثْنَى عليهم بإفراد الخالق بهذا الحسب الذي هو الكفاية. ونظيره قوله في خاتمة براءة: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} [التوبة: الآية 129]

هذا هو التحقيق - إن شاء الله - أن المعنى: يكفيك الله ويكفي جميع أتباعك. وفي هذين ترغيب عظيم في الإسلام؛ لأَنَّ مَنِ اتَّبَع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَفَاهُ الله كما كفى نبيّه صلى الله عليه وسلم. وهذا التفسير هو الذي عليه جُمْهُور عُلَماء المفَسِّرِين، وهو الذي دل عليه استقراء القرآن كما بيّنّا، إلا أنه يَرِدُ عليه سؤال عربي نحوي: وهو أن يقول طالب العلم: قررتم أن التحقيق أن (من) من قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} معطوفة على الكاف في قوله: {حَسْبُكَ} (¬1) أي: حَسْبُكَ اللهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. والمقرَّر عند جماعة من علماء العربية أن الضمير المخْفُوض لا يجوز العطف عليه إلا بإعادة الخَافِض، وهنا لم يُعد الخافض. وأُجيب عن هذا السؤال من أربعة أوْجُه (¬2): أحدها: أن هذه القضية غير مسلَّمة (¬3)، وأن جماعة من علماء العربية أصحاب علم وتحقيق قالوا: لا مانع مِنَ العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض. وهو رأي ابن مالك - رحمه الله - لأنه لما ذكر المذهب الأول بقوله في خلاصته (¬4): وعَوْدُ خَافضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى ... ضَميرِ خَفْضٍ لاَزِماً قد جُعِلاَ قال بعده: وَلَيْسَ عندي لازماً إذْ قَدْ أَتَى ... فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحِيحِ مُثْبَتَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 515)، الدر المصون (5/ 631)، الأضواء (2/ 417). (¬3) أطال ابن مالك (رحمه الله) في إبطالها. انظر شرح الكافية (3/ 1246 - 1255). (¬4) الخلاصة ص48.

ومراده بالنثر الصحيح: قراءة حمزة - رحمه الله - {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} [النساء: الآية 1] بخفض ميم الأرحام معطوفة على الضمير المجرور في قوله: (به) من غير إعادة الخافض، وهي قراءة سَبْعِيَّة صحيحة (¬1)، فمعلوم أن اللغة التي جاءت بها لا بد أن تكون لغة عَرَبِيَّة صَحِيحة، وهو كذلك. وقد اشتهر في أشعار العرب العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وأنْشَدَ له الشيخ سيبويه في كتابه (¬2): فَاليومَ قرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فما بِكَ والأيَّامِ منْ عَجَبِ فعطف الأيام على الضَّمِيرِ المجرور بالباء مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الخَافض، وهو كثير في أشعار العرب، ومِنْهُ قَوْلُ الآخر (¬3): نُعَلِّقُ في مثْلِ السَّوارِي سُيُوفَنَا ... وَمَا بَيْنَهَا والكَعْبِ مَهْوَى النَّفَانِفِ فقوله: «والكعب» معطوف على الضَّمِير المجرور من غير إعادة الخافض. ونظيره قول الآخر (¬4): لَقَدْ رَامَ آفَاقَ السَّمَاءَ فَلَمْ يَجِدْ ... لَهُ مَصْعَداً فِيهَا وَلاَ الأَرْضَ مَقْعَدَا فعطف الأرض على الضَّمِيرِ المَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادة الخافض، ونظيره قول الآخر (¬5): أَمُرُّ مَعَ الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَحَتْفي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص175. (¬2) الكتاب (2/ 383)، وهو في شرح الكافية (3/ 1250). (¬3) البيت في شرح الكافية (3/ 2151). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) البيت في شرح الكافية (3/ 1252) وهو للعباس بن مرداس.

فعطف (سواها) بـ (أم) على الضمير المخفوض، وهو كثير في كلام العرب. الوجه الثاني: أن قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} في محل نصب معطوف على المحل؛ لأن الكاف من قوله {حَسْبُكَ} وإن كان في محلِّ خَفْض مضاف إليه ما قبله فأصْلُهُ مفعول؛ لأن الحسب بمعنى الكفاية، والأصل: يكفيك. فالكاف في محلّ المفعول، والمعروف في علم العربية أن المخفوض بالإضافة الذي أصْلُهُ النَّصْب يجوز العطف عليه مخفُوضاً، وتجوز مراعاة محلِّه فينصب المعطوف عليه وهو معروف في محلّه. الوجه الثالث: وهو أظهرها وأبينها وأقلها تكلفاً: أن قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} في محل نصب على أنه مفعول معه، بناء على القول بأن العطف ضعيف، وهو العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض فيتعيّن حينئذٍ النصب على المفعول معه (حسبك الله مع من اتبعك من المؤمنين) وهذا واضح لا إشكال فيه، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر (¬1): إِذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ فنصب (والضحاك) مفعولاً معه. أي: حَسْبُكَ مع الضحاكِ. الوجه الرابع: أن قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} في محل رَفْع على أنه مبتدأ خَبَرُهُ مَحْذُوف دلّ ما قبله عَلَيْهِ. أي: ومَنِ اتَّبَعَك من المؤمنين ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 42)، الدر المصون (1/ 384)، ذيل الأمالي ص140، ونسبه لجرير، وليس في ديوانه.

فحسْبُهُم الله أيضاً. وهذا معنى قوله: {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: الآية 64]. ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: الآية 65] التحريض: هو الحَضُّ على الشَّيْءِ والحَثّ عَلَيْهِ بشدّة. حرّضهم على القتال، أي: حَثَّهُمْ وحرّصَهم عليه بشدّة؛ لأنّ القتال فيه خير الدنيا والآخرة، ثم إنه كان في أول الأمر يجب على المسلمين لقلّتهم أن يصابر الرجل الواحد منهم عشرة من الكفار، كان الرجل الواحد من المسلمين يجب عليه أن يصبر أمام عشرة مقاتلين من الكفار، فلذا قال: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: الآية 65] فإذا قابلت العشرين بالمائتين كان كل رجل مقابل لعشرة كاملة {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} صابرون محتسبون لله في ميدان الحرب. ثم قال: {وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر: {وإن تكن منكم مائة} بالتاء الفوقية. وقرأه العراقيون، أعني: أبا عمرو البصري والكوفيين الثلاثة -عاصماً وحمزة والكسائي- قرؤوه كلهم: {وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً} بالياء التحتية كما قبله (¬1)؛ لأن المائة إذا قابلت ألفاً فكل واحد بعشرة. وكأن قائلاً قال: لِمَ كان الواحد من المسلمين يغلب العشرة من الكفار، ويجب عليه أن يصبر لها، والله لم يوجب عليه ذلك إلا لعلمه بأنه قِرْنٌ لها وكُفْؤٌ لها عند الضرورة قبل أن يكثر المُسْلِمُون، ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص222.

فما موجب هذا حيث يكون الواحد من هؤلاء يقاوم العشرة من هؤلاء؟ [8/ب] فبيّن الله (جل وعلا) الحكمة في ذلك،/ وهذه الحكمة التي بيّن الله بهذه الآية من سورة الأنفال حكمة سماويّة عَظِيمَة تحتها أسرار هائلة يجب على كل مسلم أن يَتَصَفَّحَهَا ويَتَعَقّلَهَا ويتَدَبَّرَ مَعَانِيَهَا، وخصوصاً كل الخصوص تحتّمها على العسكريين من المسلمين، يجب عليهم كل الوجوب أن يتأملوا هذه الآية من سورة الأنفال، وأَنْ يَتَصَفَّحُوا مَعْنَاهَا؛ فإن فيها سرّاً عظيماً لو تعقّله المسلمون لفهموا الحقائق، ولما ساروا في الظلام؛ لأن الله لما قال: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بيّن علّة ذلك وأوضحها فقال: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} {ذَلِكَ} وهو كون الواحد يغلب عشرة منهم ويصابرها بسبب أنهم قوم لا يفقهون. أي: لا فقه عندهم ولا فهم عن الله، والذي لا يفقه عن الله ولا يفهم ما عنده فهو كالبهيمة ليس له مبدأ يقاتل عليه، والذي يتقدم إلى الميدان في خطوط النار الأمامية ليس عنده مبدأ نبيل يقاتل عليه فهو مائع، هزيمته قريبة سريعة، لا يقاوم أبداً. فإذا الْتَقَى مَنْ لا فقه عنده بمن عنده فقه عن الله فالمسلم القائم في الميدان للعشرة يفقه عن الله ويفهم، ويقول: إن ربي اشترى مني هذه الحياة القصيرة في هذه الأيام المعدودة، وهي حياة مكدّرة بالأمراض والأسقام والمصائب والبلايا والأحزان، اشتراها مني بحياة سرمدية أَبَدِيَّة لا انقطاع فيها ولا كدر ولا ألم ولا حزن، وهذا المال القليل اشتراه مني بالحور العين والولدان وغُرَفِ الجِنَان ومجاورة رَبٍّ غير غضبان، فهو ينتظر ما عند الله، فاهمٌ عن الله، يفقه عن الله، فهو متقدّمٌ في الميدان، لا يُهزم أبداً، ولو قُتل

لكانت هي أمنيته، فهذا الذي يقاتل على هذا المبدأ النبيل، وهذا الغرض الصحيح، فاهماً عن الله، يفقه عن الله، هذا لا يقاومه الأهْوَج الجَاهِل الذي لا يفقه شيئاً، ولا يقاتل على مبدأ، فحياته أهم عنده مما يقاتل عليه، فالذين لا يفقهون عن الله من الجنود العسكريين لا يمكن أن يردّوا سليباً، ولا أن يُعلوا كلمة الله؛ لأنهم لا مبدأ لهم، وهم قومٌ لا فقه لهم، فلا يقاتلون على شيء ترخص بسببه نفوسهم عندهم ويرغبون فيما عند الله. وهذا سِرٌّ لطيف عظيم، وتعليمٌ سماوي هائل، يفهم به المُسْلِمُون أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ من الأساسيات للاستعداد للميدان هو الفِقْه والفَهْم عن الله، فيَجِبُ كُلّ الوجُوب أن يُعلَّم العَسْكَرِيُّونَ عَنِ اللهِ حَتَّى يَفْقَهُوا؛ لأنهم إذا كانوا فَاهِمِين عَنِ الله، عارفين بِنُبْلِ المَبْدَأ الذي يقاتلون عليه، كانوا شجعاناً وصابرين، لا يَرْجِعُونَ القَهْقَرَى ولا يُهزمون، كما سَجَّلَهُ التاريخ لأوائل هذه الأمة. وإن كانوا لا يفقهون عن الله شيئاً، جَهَلةٌ كالأنعام لا مبدأ لهم يقاتلون عليه، فهم ليسوا بأساس ولا معوَّل عليهم، يُهزمون مع كل ناعق كما بيّنته هذه الآية العظيمة الكريمة من سورة الأنفال. وهذا معنى قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: الآية 65]. الفقه في لغة العرب: معناه الفهم {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} [هود: الآية 91] أي: ما نفهمه؛ لأنهم لا يفهمون عن الله شيئاً. وهذا معنى قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}. فلما انتشر الإسلام وكثر المسلمون خفف الله (جل وعلا) عن المؤمنين وجوب مصابرة واحد لعشرة إلى مصابرة واحد لاثنين قال: {الآنَ} (الآن) يعبّر بها عن الوقت الحاضر الذي أنت فيه،

{خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال: الآية 66] تكليفه الأول وهو مصابرة الواحد للعشرة، وجاءكم بتخفيف بدله وهو مصابرة الواحد للاثنين. {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} قرأه جماهير القرّاء منهم عامة السبعة غير عاصم وحمزة: {وعلم أن فيكم ضُعفاً} بضمّ الضاد. وقرأه عاصم وحمزة: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} (¬1) والضَّعف والضُّعف لغتان فصيحتان، وقراءتان سَبْعِيَّتَان صَحِيحَتَانِ {خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفاً}. {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ} هذا الحرف الأخير الذي هو قوله: {فََإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ} لم يقرأه بالياء من السبعة إلا الكوفيون الثلاثة -وهم عاصم وحمزة والكسائي- أما أبو عمرو البصري هذا فقد وافق غَيْرَهُ، فَصَارَ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو يقرؤون: {فإن تكن} بالتاء، وعاصم وحمزة والكسائي يقرؤون: {فَإِن يَكُن} بالياء (¬2). وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان سَبْعِيَّتَان صَحِيحتَانِ {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} الواحد لاثنين {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ} الواحد لاثنين {بِإِذْنِ اللَّهِ} جل وعلا {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} معيّة نصر وتوفيق وتأييد. وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69)} [الأنفال: الآيات 67 - 69]. {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص222. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص222.

الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} [الأنفال: الآية 67]. لما انهزم المشركون يَوْم بَدْرٍ كان سَعْد بن معاذ (رضي الله عنه) قائماً متوشّحاً سيفه على العريش الَّذِي فيه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، رآه النبي صلى الله عليه وسلم ينظر كأنه ينظر إلى شيء يَكْرَهُهُ فقال: «كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ تَكْرُهُه!!» قال: نَعَمْ، رأيتهم يأسرون الكفار ورَغْبَتِي أن يُقتلوا؛ لأن قتل الكفار أقوى للإسلام وأشدّ مناعة لشوكته، ويحصل به ضعف المشركين وانكسار شوكة الكفر، فقتلهم هنا أحبّ إليّ (¬1). ولما اجتمع الأسارى عند رَسُول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه، فجاءت روايات متعدّدة أن ممن أشار عليه أبو بكر وعمر وعبد الله بن رواحة، ومن أكثرها إشارة أبي بكر وعمر، وأن أبا بكر قال له: يا رَسُول الله، إنهم قَوْمُكَ وعشيرَتُكَ فلا تَعْجَلْ عليهم وهم كفار، فاسْتَبْقِهِمْ وأمْهِلْهُمْ لَعَلَّ اللهَ أنْ يهديهم، وخُذْ مِنْ فِدَائِهِمْ ما يَتَقَوَّى به المسلمون على الجهاد في سبيل الله. وقال له عمر: هؤلاء قوم كَذَّبُوكَ وأخْرَجُوكَ وهم رؤساء الكفر فاقتلهم، فَأَعْطِ عقيل بن أبي طالب لأخيه علي -وعقيل من الأسارى ذلك اليوم- يقتله، وادفع العباس لحمزة ليقتله، وأعطني فلاناً -رجلٌ كان بينه وبين عمر نسب- ليعلم الله أن لا هوادة بيننا وبين الكفار، فإن قتل رؤساء الكفر هو الذي يكسر شوكة الكفر ويذلّه، ويعزّ دين الإسلام ويُعلي كلمة الله. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمْيَل إلى ما قاله أبو بكر (رضي الله عنه). وذكروا في هذه الروايات أنه قال لأبي بكر: «قُلْتَ كَمَا قَالَ عِيسَى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} الآية ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (12) من سورة الأنفال.

[المائدة: الآية: 118]. وفي رواية أنه قال له: «قُلْتَ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمَ: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}» [إبراهيم: الآية 36] وفي بعض الروايات قال لعمر: «قُلْتَ كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: الآية 88] وفي بعضها أنه قال له: «قُلْتَ كَمَا قَالَ نُوحٌ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} الآيات [نوح: الآية 26]. وفي بعض الروايات أن معهم عبد الله بن رواحة (رضي الله عن الجميع)، وأنه قال له: أنت في وادٍ كثير الحطب فأضرم عليهم النار (¬1). وعلى كل حال فلما أَخَذُوا الأُسارى أَخَذَهُم الذين أسروهم أولاً ولم يأمرهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بأسرهم، وكانوا يرغبون في الفداء ليتَقَوَّوْا بالمال، فَلَمَّا اسْتَقَرّوا تحت أيديهم كان ذلك الرَّأْي لَيْسَ مُسْتَبْعِداً عنده صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل فيه وَحْي، فبَعْد أنْ أخذوا الأسارَى جَاءَهُمْ هَذَا اللَّوْم من الله، وهذا الأمر العظيم، وقرب العذاب منهم لولا الكتاب السابق. ولما كان مِنَ الغد جاء عمر (رضي الله عنه) ووجد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان، فقال: ما يبكيكما، أخبراني بما يبكيكما؟ فإن وجدت بكاءً بكيت معكما، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال له رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُ أَصْحَابِكَ كَهَذِهِ الشَّجَرَةِ -لشجرة قريبة منه (¬2) صلى الله عليه وسلم- لأن الله قال لهم: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: الآية 68]»، ثم إن الله بعد ذلك أحل لهم ذلك المغنم وطَيَّبَه ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (12) من هذه السورة. (¬2) مسلم في الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث رقم: (1763) (3/ 1383).

لهم في قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} [الأنفال: الآية 69] ويدخل فيه فداء الأُسارى. ومعنى قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: الآية 67] أن يأسر الرجال ويستعين بالمال بفدائهم حتى يثخن في الأرض. الإثخان: معناه الإيجاع في الأرض قتلاً، حتى يوجع في الأرض قتلاً، ويقتل الصناديد الكفرة والرؤساء العظام التي تضعف بهم شوكة الكفر وأهله. والإثخان: أصل الإثخان شدة الإيجاع في الأرض بالقتل (¬1). وقالوا: أثخنوهم أي: أوجعوا فيهم قتلاً شديداً ذريعاً، وأثخنته الجراحة: اشتدت عليه حتى أثبتته. وهذا الذي لامهم عليه هنا وبيّن لهم أنه ما كان هو الصواب، ولا هو الأولى أوضحه وشرحه في سورة القتال في قوله: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد: الآية 4] أي: أوجعتموهم قتلاً، قتلاً يضعف شوكة الكفر ويذل أهله، بعد ذلك {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وهو الأسر {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} ولذا قال هنا: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} يعني ما كان ينبغي لكم ولا يصح منكم أولاً أن تلتزموا أول وقعة نصركم الله فيها بالأسرى تريدون المال، لا ينبغي هذا منكم، وما كان هو الأولى لكم، كان الأولى لكم قتلهم وحصدهم حتى يذل الكفر ويستكين أهله، وتقوى شوكة الإسلام ويعز أهله. وهذا معنى قوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أي: يوجع فيها قتلاً؛ لأن ذلك القتل الوجيع هو الذي يذل الكفر ويكسر شوكته، ويعز الإسلام ويرفع كلمة الله (جل وعلا). وهذا معنى قوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 48)، الدر المصون (5/ 637).

ثم لامهم لوماً شديداً عظيماً من الله قال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} يعني: حطام الدنيا الزائل، فسماه عرضاً؛ لأنه عارض الوجود يعروه الزوال عن قريب، كما قدمنا في قوله: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} [الأعراف: الآية 169] والله (جل وعلا) لا يريد عرض الدنيا بل يريد الآخرة، يريد لكم الآخرة بأن تقتلوا الكفرة، وتكسروا شوكة الكفر، وتذلوا أهله وأهلها، وتُعِزّوا كَلِمَةَ الله وتُعْلُوا دِينَ اللهِ فِي أرْضِهِ وهذه هي الآخرة التي يريدها لكم، وهذه الإرادة إرادة شرعية دينية، ولو كانت إرادة قدرية كونية لنفذت على كل حال؛ لأن اللهَ إذا أراد بإرادته الكونية القدرية شَيْئاً لا بد أن ينفذ كائناً ما كان {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: الآية 82] فَهَذِهِ إرادَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّة لكم كان الأولى لكم شَرْعاً ودِيناً أن تقتلوهم فتُعْلوا كلمة الله، وتذلوا كلمة الكفر، وهذا معنى قوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}. {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي: حطامها الزَّائِلَ؛ لأنه عارض ينقضي ويزول {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} أي: الدار الآخرة. ومِنْ أَعْظَمِ أسْبَابِ الخُلُود في جناتها إعلاء كلمة الله، إذلال كلمة الكفر، وأكبر أسباب ذلك قتل الرؤساء قادَة الكفار وساداتهم. وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قَدَّمْنَا الكَلامَ عَلَيْهِ قَرِيباً. وقوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: الآية 68] (لولا) في علم العربية هي حرف امتناع لوجود، والمعنى: امتنع أن يَمَسَّكُمْ عذاب الله بسبب [الكتاب السابق في الأزل] (¬1) {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. ¬

(¬1) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

وَلَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَغَى ... وَقَالَ عَلَى اللهِ إِفْكاً وَزُورَا ... أَنَابَ إِلَى اللهِ مسْتَغْفِرًا ... لمَا وَجَدَ اللهَ إِلاَّ غَفُورَا (¬1) (¬2) [9/أ] / قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: الآيات 70 - 75]. يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)} [الأنفال: الآية 70]. جرى على ألسنة العلماء من المفسِّرِينَ والأصُولِيِّينَ أن هذه الآية الكريمة من أخريات سورة الأنفال نزلت في العباس بن ¬

(¬1) لم أقف على البيتين. (¬2) هذا هو الدرس الأخير من دروس الشيخ رحمه الله في شهر رمضان عام (1391) وكان ذلك اليوم في اليوم الخامس والعشرين منه.

عبد المطلب (رضي الله عنه) (¬1). والتحقيق أنها نزلت في جميع أسارى بدر، ولو فرضنا أنها نزلت في العباس فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وإنما قالوا: إنها نزلت في خصوص العباس مع أنها نازلة في جميع أسارى بدر؛ لأن العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) هو أكثرهم نصيباً وأوفرهم حظّاً فيها؛ لأنه أُخذ منه في الفداء ما لم يؤخذ من غيره، فصار كأنه أخَصّ منهم بهذه الآية؛ ذلك لأن العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) كان مِنْ أَشْرافِ قُرَيْشٍ الذين ضمنوا لهم الإطعام في غزوة بدر، وكان يوم بدر هو اليوم الذي عليه هو أن يطعم -كما قاله أصحاب المغازي والسير- فاشتغل الناس بالقتال عن الإطعام، وكان جعل معه عشرين أوقية مِنْ ذَهَبٍ ليطعم بها الناس، فلمَّا أَسَرَهُ المسْلِمُون أخذوا العشرين معه. وذكر بعض أصحاب المغَازي أنَّهُ كان رجلاً موسراً فأمرهم النبي أن يُضعِّفُوا الفداء عليه (¬2)، فأخذوا منه ثمانين أوقية، وضاعت له عشرون أوقية، فكان المجموع: مائة أوقية. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْدِي ابْنَيْ أخَوَيْهِ وهما عقيل بن أبي طالب ونَوْفَل بن الحارث بن عبد المطلب كانا أسيرين معه، أُسِرَا يَوْمَ بَدْر. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم أَمَرَ العَبَّاسَ أَيْضاً أن يُفْدِي حَلِيفَهُ وهو عُتْبَة بن عمرو (رضي الله عنه)، أخو بني الحارث بن فهر، كان حليفاً للعبَّاس بن عبد المطلب (¬3)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر كما ذكره أصحاب المغازي قال: «إِنَّ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (12) من سورة الأنفال. (¬2) انظر: دلائل النبوة (3/ 141)، الدر المنثور (3/ 204)، سُبُل الهدى والرشاد (4/ 71)، وأورده القرطبي (8/ 52) وعزاه للنقَّاش. (¬3) مضى عند تفسير الآية (12) من سورة الأنفال.

بَعْضَ مَنْ يلقُونَكم في هذا الجَيْش خرجُوا مُسْتَكْرَهِين، فَمَنْ لقَي منكم العبَّاسَ فلا يَقْتُلْهُ؛ لأنَّهُ أَكْرَهَهُ قَوْمُهُ على الخُرُوج، ومَنْ لَقِيَ أبَا البَخْتَرِيِّ فلا يَقْتُلْهُ». وكان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة (رضي الله عنه) وقعت منه زلّة يوم بدر، وكان يقول: منذ سقطت مني تلك الكلمة وأنا أخافها لا آمن منها أبداً حتى يكفّرها الله عني بالشهادة. فقُتل شهيداً أيام اليمامة (رضي الله عنه). وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «مَنْ لَقِيَ مِنْكُم العَبَّاسَ فَلا يقْتُلْهُ فإنَّهُ خَرَج مُسْتَكْرَهاً». قال أبو حذيفة بن عتبه (رضي الله عنه): أنقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟! والله إن لقيته لألجمنَّه السيف. فسمع بها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنه قال لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «يا أبا حفص» - قال عمر: ما كنّاني أبا حفص قبل ذلك اليوم - «أيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ»؟ فقال: إنه نافق دعني أقتله (¬1). وكان أبو حذيفة (رضي الله عنه) يتخوّف من كلمته هذه حتى رَزَقَهُ اللهُ المَوْتَ شهيداً أيام اليمامة. وكذلك نهى عن أبي البختري؛ لأنه كان يُحْسِن إلى بَنِي هاشم أيام كونهم في الشِّعب لما قاطعهم قريش، وكان يعاملهم معاملة حسنة ولم يؤْذِهِمْ، فجاءه المُجَذَّر بن زياد البلوي (رضي الله عنه) فقال: أما أنت فقد نهانا عنك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وكان له زميل، فقال له: وزميلي؟ فقال: أما زميلك فلم ينهنا عنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وأراد المجذّر أن يقتل زميله، فتعرّض دونه وقال (¬2): ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

لا يُسْلِمُ ابْنُ حُرَّةٍ زَمِيلَهُ ... حتَّى يمُوتَ أوْ يَرَى سَبِيلَهُ ... لاَ يُفارِقْ جَزَعاً أكِيلَهُ وتراجز هو والمجذّر (رضي الله عنه) وكان ذلك يقول (¬1): أَنَا الَّذِي أَزْعُمُ أَصْلِي مِنْ بَلِي ... أَضرِبُ بالحربة حتى تَنْثَني فقتله المجذر لما جاء دون زميله. وكان العباس (رضي الله عنه) أسَرَهُ رَجُلٌ قَصِير ليس بالقوي من الأنصار هو كعب بن عمرو (رضي الله عنه) وهو المشهور بكنيته أبي اليسر، وهو أخو بني سلمة. ذكر بعض أصْحَابِ المَغَازِي (¬2) أن العباس كان يَئِنّ أنيناً في الأسر، فسمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنينه فلم يَسْتَطِعْ أَنْ يَنَام حتى خففوا عليه الوثاق فَسَكَت، فلما سكت نام صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال فالعباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) لما أرسل قريش في فداء أسراهم كان الأسير يُفْدَى بأربعين أوقية، قال أصحاب المغازي: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُضعفوا الفداء على العبّاس فأخذوا منه ثمانين أوقية، وضاعت له عشرون أوقية أخذوها منه لما أسروه، وفدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وفدى حليفه عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر، فصار دفع مالاً كثيراً لم يدفعه غيره، فمن هنا قالوا: نزلت فيه هذه الآية الكريمة مع أنها نازلة في جميع أسرى بدر، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فلَفْظُ الآية عام، وهذه القاعدة قاعدة معروفة قويَّة يستدل بها علماء الأصول على أنَّ الآيَات النازلة في أسباب خاصة أحكامها ¬

(¬1) السابق. (¬2) أخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 141) من طريق ابن إسحاق، وعنهما أورده ابن كثير في تاريخه (3/ 299).

عامة، ولا تخصّص بأسبابها (¬1)، ومن المشهور في أمثلتها: المثال لها بهذه الآية من أخريات سورة الأنفال، أنها نزلت في العباس بن عبد المطلب وحكمها عام. ومن الأدلّة الدالة على هذه القاعدة الأصولية المهِمَّة المُعِينَة في التفسير -وهي أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب- دلّ عليها الحديث الصحيح واللغة، أما ما دلّ على ذلك من الأحاديث فهو ما سيأتي في سورة هود -إن شاء الله- من أن سورة هود نزلت فيها آيات مَدَنِيَّة وهي سورة مكية كما قال غير واحد من العلماء أن قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: الآية 114] نزلت في الأنصاري الذي جاءته المرأة تبتاع تمراً فأعجب بجمالها، وكان زوجها غائباً في الجهاد، فقال لها: إن في البيت تمراً أحسن من هذا. فلما دخلت البيت كان بينه وبينها بعض ما لا يليق من صغائر الذنوب، ثم إنّه ندم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنزل الله فيه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} تعني: فصلواتك الخمس تذهب عنك هذه السيئة التي اقترفت من هذه المرأة. فقال الرجل -كما في صحيح البخاري وغيره- ألي هذا وحدي يا رَسُول الله؟ وسؤال هذا الأنصاري هو سؤال عن هذه النازلة، كأنه يقول: آلعبرة بي لأنني سبب النزول، أو العبرة بعموم لفظ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فأجابه صلى الله عليه وسلم: «بَلْ لأُمَّتِي كُلِّهِمْ» (¬2). فَدَلّ على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومن النصوص الدالة على هذه القاعدة: هو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (31) من سورة الأعراف.

الصحيح أنه أيقظ فاطمة وعليّاً (رضي الله عنهما) ليصليا بالليل، فقال له علي (رضي الله عنه): إن أرواحنا بيد الله إنْ شَاءَ بَعَثَنَا. فَوَلّى صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ فَخِذَهُ ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: الآية 54] (¬1). مع أن قوله تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} نزلت في الكفار الذين يجادلون في كتاب الله، فاعتبر النبي عمومها حتى جعله شاملاً لخصام علي له ومجادلته له؛ بأن أرواحهم بيد الله؛ لأن الله قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ} الكافر مع وضوح القرآن وأدلته وتصريف أساليبه {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: الآية 54] وخصاماً بالباطل. ومما يدل على هذا مِنَ اللّغة: إِجْمَاعُ أهْلِ اللِّسَان العربي أن الرَّجُلَ لو كان له أربع زوجات فَقَامَتْ إِحْدَاهُنَّ وَسَبَّتْ هذا الرجل وأغضبته فقال: أنتن كلكن طوالق. فإنهن كلهنّ يطلقن بحسب المدلول العربي ولا يختص بالمرأة التي أغضبته فاستوجبت الطلاق كما لا يخفى. وهذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبد المطلب، وحكمها عام لمن معه، وظاهرها يشمل جميع الأسرى؛ لأنه قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى} [الأنفال: الآية 70] قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير نافع: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم} بالإدغام. وقرأه نافع وحده من السبعة: {يا أيها النبيء} بالهمزة من غير إدغام، ونافع قرأ لفظ النبيء والأنبئاء في جميع القرآن بالهمزة ¬

(¬1) السابق.

المحقّقة في رواية ورش في جميع القرآن، وفي رواية قالون عنه في جميع القرآن إلا في حرفين من سورة الأحزاب فقط، وهما قوله: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} [الأحزاب: الآية 50] وقوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: الآية 53] فهذان الحرفان قرأهما عنه قالون كقراءة الجمهور، وقرأهما عنه ورش بالهمزة المحققة كغيرهما في سائر القرآن (¬1). وقوله {قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى} قرأه عامّة السبعة غير أبي عمرو: {قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى} وقرأه أبو عمرو وحده من السبعة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسارَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} (¬2) ومعنى الآية الكريمة: أن الله (جلّ وعلا) أمر نبيّه أن يقول لمن في أيدي المسلمين من أسارى بدر يقول لهم هذا الكلام. (الأسارى) جمع أسير، و (الأسرى) جمع أسير، إلاّ أنّ (الأسير) يُجمع على (أسرى) قياساً مطّرداً، وقاعدة معروفة؛ لأن (الفَعِيل) المتّصف بما يُرثى له به يطرد جمعه تكسيراً على (فَعْلَى) (¬3) كمريض ومرضى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وصريع وصرعى، وأسير وأسرى (¬4). أما على قراءة {أُسَارَى} فهو جمعٌ مسموع، وإتيان الجموع على (فُعَالى) أو (فَعَالى) مسموع ولا يطرد منه شيء قياساً، ككسالى، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص223. (¬3) مضى عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام. (¬4) راجع ما سبق عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام.

وأُسارى، ويتامى، وحيارى، وما جرى مجرى ذلك (¬1). وقوله: {قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم} المراد بـ {قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم} من كانوا تحت أيديكم من الأسارى، وكل شيء كان في قبضة الإنسان وتحت قدرته وتصرّفِهِ تقول العرب: هو في يده؛ لأن اليد هي التي تُزَاوَلُ بِهَا الأعمال وتُؤخذ بها الأشياء عادة (¬2). والأيدي جمع (يد)، واليد من الألفاظ التي حَذَفَتِ العرب لامَهَا ولم تعوِّض منها شيئاً، وأعربتها على العين، فدال اليد في محل العين، وهي مُعربةٌ على عينها وهو الدال، نُزِّل منزلة لامها، وحذفت لامها، وتنوسيت، وهي إحدى ألفاظ معروفة كذلك، كيدٍ، ودَمٌ، وغذٍ، وددٍ، وهنٍ، وما جرى مجرى ذلك (¬3). وأصل لامها المحذوفة ياء، أصلها (يدي) فاؤها ياء، وعينها دال، ولامها ياء. ولامها المحذوفة إنما تُرَدّ عند التصغير وجمع التكسير، ففي تصغيرها تقول: (يُدَيَّه) وفي جمعها تقول: فاقطعوا أيديهما. وأصله: (أيْدُيهما) على وزن (أفعُل) لأن الأيدي أصل وزنه (أفعُل) (فَعَل) محذوف اللام مجموعٌ على (أفعُل) إلاّ أن ضمة العين تجعل كسرة لمجانسة الياء، وربما نطقت العرب باليد مثبتة لامها إثبات المقصور على الألف كالفتى. سُمع هذا عنهم قليلاً، ومنه قول الراجز (¬4): يا رُبَّ سَارٍ باتَ ما تَوَسَّدَا ... إلا ذِرَاعَ العِيسِ أَوْ كَفَّ الْيَدَا فردّ اللام كما هي في (الفتى) وهذا نادر. ¬

(¬1) انظر: حجة القراءات 314، الدر المصون (5/ 637). (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنفال. (¬3) مضى عند تفسير الآية (195) من سورة الأعراف. (¬4) السابق.

وقوله: {مِّنَ الأَسْرَى} الأسرى جمع أسير، والأسير (فَعِيل) بمعنى (مَفعُول) وهو اسم المفعول من (أَسَره) العرب تقول: أسره يأسره أسراً، فالفاعل (آسر) والمفعول (مأسور): إذا شدّه بالوثاق، وأصل هذه المادة مأخوذة من الإيسار، والإيسار: القِدّ. والقِدّ: هو جلد البعير غير المدبوغ؛ لأن جلد البعير إذا لم يُدْبَغ تسمّيه العرب قِدّاً، وكانوا يشدّون الأسِيرَ بالجلد عند سَلْخِهِ طَرِيّاً، فإذا يَبس اشتدّت قوّته ولا يقدر أحد على حلّه ولا قطعه ولا نزعه، ومن هنا قيل لكل مشدود شدّاً محكماً: إنه مأسور. وأصله من (الإيسار) وهو الشدّ بالإسار، أعني القِدّ وهو جلد البعير إذا كان غير مدبوغ. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: الآية 28] المراد بقوله: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أحْكَمْنَا شَدَّ العِظَامَ بَعْضَها إِلَى بَعْضٍ بِإِحْكَام وإِتْقَانٍ شَدِيدٍ كَمَا يُشَدُّ الشَّيْءُ شَدّاً قويّاً بالقِدّ فييبس عليه فيمسكه إمساكاً قويًّا (¬1). وهذا صار معنىً معروفاً في كلام العرب، مشهور في كلامهم، فكل شيء شددته شدّاً محكماً تقول العرب: أسرته. ومنه سُمّي الأسير، أي: لأنه يُشد بالإسار، وهو جلد البعير غير المدبوغ. وهذا معروف في كلامهم، ومنه: أسر مراكب النساء؛ لأن أعواده تُشدّ بالقدّ حتى يتحكّم بعضه مع بعض، ومنه قول حُمَيْدِ بن ثور الهلالي (¬2): وما دخَلَتْ في الخَدْب حتى تَنَقَّضَتْ ... تآسير أعْلَى قِدّه وتحَطّمَا وهذا معنى معروف في كلام العرب. يعني: قل يا نبيّ الله لهؤلاء الذين أخذتموهم وكانوا في قبضتكم وتحت تصرّفكم: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (11) من سورة الأعراف. (¬2) البيت في ديوانه ص19.

{إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} العبّاس بن عبد المطلب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبيّ الله: احسب لي العشرين أوقية التي أخذوها منّي، كانت من مالٍ معي. قال: «لاَ، ذَلِكَ مَالٌ أَعْطَانَاهُ اللهُ مِنْكَ فَلاَ نَحْسِبُهُ لَكَ أَبَداً» وضاعف عليه الفداء، وأمَرَهُ بِمُفَادَاةِ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، لقد تركتني أَتَكَفَّفُ قُرَيْشاً إلى يوم القيامة فَقِيراً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ المَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أنْتَ وأم الفَضْلِ لما أرَدْت الخُرُوجَ»؟ فقال له: وما ذلك المال؟ قال له: «الذَّهَب الذي دفنْتَهُ أنت وأمّ الفَضْلِ، وقلت لها: ما أدْرِي ما يُصِيبُنِي فِي وَجْهِي هَذَا، فَإِنْ حَدَثَ بي حَدَتٌ في سَفَرِي هذا فهذا المال لَكِ وَلِبَنِي: الفَضْل، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم. ودفنتم المَالَ». فقال: أشهد أنك رَسُول الله، والله ما علم بهذا أحدٌ غيري وغير أمّ الفَضْل (¬1). وهي لُبَابة الصغرى بنت الحارث، أم أولاد العبّاس بن عبد المطلب، وهي هلالية مشهورة. لما أخذوا منهم هذا المال وكان الأسارى يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نحن مسلمون آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنك رَسُول الله، ووالله لننصحنّ لك على قومنا، ولا تأخذ منّا شيئاً. فأنزل الله فيهم: {إِن يَعْلَمِ اللَّّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} (خيراً) هنا جاء مرتين {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} الأولى منهما ليست صيغة تفضيل، والثانية منهما صيغة تفضيل، والدليل على أنها صيغة تفضيل اقترانها بـ (من) لأَنّ صِيغَةَ التَّفْضِيل المجردة تُقترن بـ (من) دائماً لفظاً أو تقديراً. معناه: إن يعلم الله في قلوبكم إسلاماً وإيماناً صَحِيحاً وتصديقاً كما تزعمون يؤتكم خيراً، أي: شَيْئاً أخْيَرَ وأفْضَل مما أُخِذَ منكم مِنَ الفِدَاء. ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (12) من هذه السورة.

يعني من حطام الدنيا وعرضها، ومن نعيم الجنة، ويغفر الله لكم أيضاً. وقوله {يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} يدل على أن محل نَظَرِ اللهِ من عبده إنما هو القلوب كما جاء بذلك الحديث؛ لأن القلب هو الذي ينظر الله إليه فيعلم فيه الخير والشر؛ ولذا قال: {إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} والله (جل وعلا) عالمٌ بما في الضمائر وما يخطر في القلوب {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: الآية 16] وقد بيّن القرآن العظيم في مواضع منه أنّ علم الله الإيمان والإخلاص في قلب الإنسان تكون له فوائد عظيمة، من تلك الفوائد: ما ذكره هنا في أخريات الأنفال في قوله: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} ومنها قوله في سورة الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: الآية 18] فَكَنّى عما في قلوبهم بالاسم المبْهَمِ الَّذِي هُوَ الاسْمُ الموْصول. يعني أنه إيمان كما ينبغي وإخلاص كما ينبغي، ترتّب على ذلك نتائج عظيمة كثيرة كقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ} [الفتح: الآية 20] وكقوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: الآية 21] أي: فأقدركم عليها، وكقوله جل وعلا: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: الآية 22] هذا الإيمان والتسليم الذي علمه الله في قلوبهم رتّب عليه نتائج عظيمة مفيدة منها قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: الآية 25] إلى آخر الآيات. وهذه الآيات ينبغي لنا أن نعتبر بها فنطهّر قلوبنا، ويكون ربنا يعلم منها الخير، ولا يعلم منها الشر؛ لأن ذلك يُسَبِّبُ لَنَا نَتَائِجَ

عَظِيمَة كصلاح الدنيا والآخرة؛ لأن هؤلاء الأسرى قال لهم: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} من المال {مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} ويزيدكم على ذلك المغفرة. قال العباس بن عبد المطلب: كان يقرأ: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} قال: إن العشرين أوقية التي ضَاعَتْ لِي يَوْمَ بَدْر أبْدَلَنِي الله خيراً منها، أعطاني عشرين عبداً كلهم يتاجر بمالٍ كثير، وهم لي، وأموالهم لي (¬1). ولما جاء مال البحرين -أرسله ابن الحضرمي من البحرين- ذلك المال الكثير الذي ما دخل المدينة مالٌ أكثر منه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ونثره في المسجد ووزّعه، جاء العباس وقال: يا نبيّ الله أعطني! فاديت نفسي وعقيلاً. فقال له: «احثُ من هذا المال». فحثا العباس في خميصة كانت عليه، ولم يزل يحثو فيها من المال حتى أراد أن يقوم فما قدر على أن يقوم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: مُر أحداً منهم يرفع معي المال!! فتبسّم صلى الله عليه وسلم حتى بدا ضاحكه أو نابه وقال: «لا يُعِينُكَ عَلَيْهِ أحَدٌ». فقال له: ارفعه أنت عليّ. فقال: «لا، اردُد طائِفة من المَال حتَّى تَسْتَطِيعَ حَمْلَهُ». فحثا عنه حتى استطاع أن يحمله، وحمله على كاهله. قال بعضهم: لم يزل صلى الله عليه وسلم ينظر إليه حتى اختفى، لشدّة حرصه على أخذ هذا المال، وقال العباس حينئذ: أما الأولى منهما فقد رأيناها: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} والله لقد أعطانا خيراً مما أُخِذَ مِنَّا، وإنا لنرجو الثانية التي هي: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (¬2). وهذا معنى قوله: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ} بعلمه المحيط بكل شيء {فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} أي إيماناً صحيحاً وتصديقاً وإخلاصاً لله {يُؤْتِكُمْ} أي: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الموضع السابق. (¬2) تقدم تخريجه في الموضع السابق.

يعطكم خيراً، أي: مالاً في الدنيا، وثواباً في الآخرة خيراً {خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} أي: أفضل وأعظم مما أُخذ منكم. والعرب استغنت بـ (خير) و (شر) عن (أخير وأشر)، فهما صيغتا تفضيل، والأخيرة منهما صيغة تفضيل، وقد قال ابن مالك في كافيته (¬1): وَغَالِباً أغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرّ ... عن قولهم أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّ فالأخيرة هنا تفضيل أي: يؤتكم أخير وأفضل، أي: أكثر خيراً وأعظم منه، وذلك كما وقع في مال البحرين أعطى العباس أكثر بأضعاف مما أُخذ منه يوم بدر من الفداء، وأعطاه عشرين عبداً. وقال العباس: وأعطاني الله زمزم أيضاً ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، فَعَوَّضَهُ اللهُ مِئَات الأضْعَاف على ما أخذ منه يوم بدر. وهذا معنى قوله: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} أي: مما أخذه المسلمون منكم كالعشرين أوقية التي أُخِذَتْ مِنَ العَبَّاسِ، وما أُخذ في فِدَائِهِمْ من المال. وحذف الفاعل هنا للعلم به {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي: يغفر لكم ذنوبكم. حذف فاعل (أُخذ) ومفعول (يغفر) والمعنى: يعطيكم خيراً مما أخذه منكم المسلمون يوم بدر، ويغفر لكم ذنوبكم كلها، وشرككم المتقدم وكفركم بالله. وهذا معنى قوله: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين، ولاسيما إذا علم في قلوبهم الإيمان والإخلاص له (جل وعلا). وهذا معنى قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية 71] ضمير واو الفاعل في قوله: {وَإِن يُرِيدُواْ} راجع على الأسارى الذين في أيدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم كانوا يقولون: آمنا بك وشهدنا أنك رَسُول الله، ووالله لننصحن لك على قومك، ولنكونن معك. {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} بهذا الكلام، إن كان هذا الكلام أرادوا به الخيانة والمكر والخديعة فلا تهتم بشأنهم {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} ظرف مقطوع من الإضافة مبني على الضم. أي: قد خانوا الله من قبل يوم بدر بالكفر، وعبادة الأصنام، وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم فأمكن الله منهم. هذا الفعل الذي هو (أمكن) يتعدى إلى مفعول، ومفعوله محذوف، والمعنى: فأمْكَنَكُمُ الله منهم. وَحَذْفُ الفضْلة إذا دَلَّ المقام عليه شَائِعٌ مُطَّرِدٌ في القرآن وفي كلام العرب، والعرب تقول: أمكنني من كذا: إذا هَيَّأَهُ لِي وجَعَلَهُ فِي قَبْضَتِي، وهو معنى معروف في كلامها، وهو مُتَعَدٍّ إلى المفْعُول كما هو معروف، فالمفعول هنا محذوف، وليس الفعل لازماً كما لا شك فيه، ومما يدل على ذلك من كلام العرب قولُ كُثَيِّر عزَّة وهو عربي قحّ، ذكروا أنه ناداه عبد العزيز بن مروان، وأحضر عزَّة وجعل دونها سجفاً؛ أعني: ستراً. وقال لكُثَيِّر: تمنَّ، فما تتمنى فهو حاضر. فتمنَّى إِبِلاً سوداً برعائها، أو غير ذلك من الأموال. فقال للغلام: ارْفَعِ السجف يا غلام. فرفعه عن عزة فإذا هي، فقال: لو تمنيت هذه لأعطيتكها وزوجتك إياها. فندم كُثَيِّر وقال، وهو محل الشاهد (¬1): حَلَفْتُ بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ إِلَى مِنًى ... يَجُوبُ الفَيَافِي نصها وزميلها ¬

(¬1) البيتان في ديوانه ص267 مغني اللبيب (1/ 19) (بشرح الأمير)، والثاني في رصف المباني ص66.

لَئِنْ عَادَ لِي عَبْدُ العَزِيزِ بِمِثْلِهَا ... وَأَمْكَنَنِي مِنْهَا إِذًا لاَ أُقيلُهَا ومحل الشاهد منه قوله: وأمكنني منها؛ أي: جَعَلَها فِي قَبْضَتِي وتَحْتَ تصرُّفِي. وهذا معنى قوله: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي: أمْكَنَكَ اللهُ أَنْتَ وأصحابك منهم يا نَبِيَّ الله، فلا تهتم بخيانتهم. وقوله: {خِيَانَتَكَ} الياء فيه منقلبة عن الواو؛ لأن مادة (الخيانة) أصلها من أجوف واوي العين، أصلها مِنْ (خَوَن) ولذا يقال في المبالغة منها: (خوَّان). ولو كانت يائية لقيل: (خيان) ويقال في ماضيها: خان يخون. ولو كانت يائية لقيل: يخين. إلا أن القاعدة المقررة في التصريف أن الواو إذا تَقَدَّمَتْهَا كسرة وجاء بعدها ألف وجب إبدالها ياء، كالخيانة من الخون، والحيازة من الحوز، والصيانة من الصون، والقيامة من قام يقوم (¬1). قال بعض علماء العربية: على القول بجمع المصادر تُجمع الخيانة على (خيائن) اعتداداً بالياء المبدلة من الواو، والقياس أن تُجمع على (خَوَائِن) إلا أنهم فرَّقُوا بَيْنَ جمع (خيانة) وبين جمع (خَائِنَة) فجعلوا هذه بالياء وإن كان أصلها الواو. {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} خيانتهم لله هي كُفْرُهُمْ بِالله، وعبادتهم للأصنام، وتكذيبهم لنبيه {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ} جل وعلا {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {عَلِيمٌ} (الفَعِيل) من صيغ المبالغة، وعلمه (جل وعلا) يَسْتَحِقّ أن يُبَالَغَ فِيهِ؛ لأن عِلْمَهُ محِيطٌ بكل شيء، وهو (جل وعلا) يعلم الموجودات والمعدومات والواجبات والجائزات والمستحيلات، حتى إنه من إحاطة علمه لَيَعلم المعدوم الذي سبق ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنفال.

في علمه أنه لا يوجد، فهو يعلم أن لو وُجد كيف يكون، وإن سبق في علمه أنه لا يكون؛ لإحاطة علمه بكل شيء، فهو يعلم أن أبا لهب لم يؤمن، ويعلم لو آمن أيكون إيمانه تامّاً أو ناقصاً مثلاً، والآيات القرآنية الدالة على هذا المعنى كثيرة جدّاً، من ذلك: أن الكفار إذا عَايَنُوا القِيَامَةَ ورُفع عنهم الغِطَاء، وشاهدوا الحقائق تَمَنَّوا الرد إلى الدنيا مرة أخرى {فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: الآية 27] وفي القراءة الأخرى (¬1): {وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} وهذا الرد إلى الدنيا الذي تمنوه اللهُ عالِمٌ بِعِلْمِه الأزَلِيّ أنه لا يكون، ومَعَ عِلْمِهِ بأنه لا يكون فهو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صَرَّحَ بِهِ في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: الآية 28]. والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أَبَداً؛ لأن الله خَلَّفَهم عنها لحكمة وإرادة إلهية كما قال: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: الآية 46] ومع كون خروجهم لا يكون هو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ... } الآية [التوبة: الآية 47]. ونظائر هذا كثيرة في القرآن، فَعِلْمُ اللهِ مُحِيطٌ بكل شَيْء. و (الفعيل) صيغة مبالغة. وقوله: {حَكِيمٌ} فالعليم والحكيم من أسمائه (جل وعلا) وكلاهما تتضمن صفة من صفاته (جل وعلا)؛ لأنه حكيم عليم. قال بعض العلماء: الحكيم لأنه حَكِيم في أقواله وأفْعَالِهِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (28) من سورة الأنعام.

وتشريعاته، فلا يقول إلا ما هو في غاية الإِحْكَام، ولا يَفْعَلُ إلا ما هو في غَايَةِ الإِحْكَامِ ولا يأمر إلا بالخَيْرِ، ولا ينهى إلا عَنِ الشَّرِّ، ولا يجازي بالشَّرِّ إلا الشر، ولا بالخير إلا الخير. وكان بعض العلماء يقول: الحكمة هي العلم النافذ الذي يَعْصِمُ الأقْوَالَ والأفْعَالَ أن يَعْتَرِيها الخلل. وهي في الاصطلاح: إِيقَاعُ الأمور في مَوَاقِعِهَا ووضْعُها في مواضعها (¬1)، ولا تتم الحكمة إلا بالعلم، فلا تتم الحكمة إلا بتمام العلم، وبقدر ما يكون في العلم مِنَ النَّقْصِ يكون في الحكمة؛ لأنَّكَ تَرَى الحاذِقَ القُلَّب البَصِير يعمل الأمر يظن أنه في غاية الإحكام، وغاية الإتقان، وأنه وضعه في موضعه، وأوْقَعَهُ فِي مَوْقِعِهِ، ثم ينكشف الغيب بعد ذلك أن فيه هلاكه أو ضرراً عظيماً عليه فيندم ويقول: ليتني لم أفعل، ولو فعلت لكان كذا، كما قال (¬2): ليتَ شِعْرِي وأينَ منِّي ليتُ ... إنَّ (لواً) وإنَّ (ليتاً) عناءُ وفي الحديث: «إِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ الْباب للشَّيْطانِ» (¬3). قال الشاعر (¬4): أُلاَمُ عَلَى (لَوٍّ) وَلَوْ كُنْتُ عَالِماً ... بِأَذْنَابِ (لَوٍ) لَمْ تَفُتْني أوَائِلُهْ والله وحده (جل وعلا) لا يجري عليه لو فعلت كذا لكان أصوب؛ لأنه عالم بخفايا الأمور، وما تنكشف عنه الغيوب، وما تجري به الأقْدَار، فلا يجري عليه شيء مِنْ ذلك، فلا يفعل فعلاً إلا وهو في غاية الإِحْكَامِ، ولا عملاً ولا تكليفاً ولا جزاءً إلا هو في غاية الحكمة، والوضع في الموضع، والإيقاع في الموقع؛ ولذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وهذان الوصفان من أسمائه (جل وعلا) من أعظم ما يستدعي الإنسان إلى أن يطيع ربه ولا يعصيه، وأن يَذْكُرَهُ ولا يَنْسَاهُ، فلأن كونه عليماً تعرف به أن علمه المحيط بكل شيء يقتضي أنه لا يدعوك إلا لما لك فيه الخَيْر والعواقب الحسنة الجميلة؛ لأنه يعلم عواقب الأمور، وما تؤول إليه، وما تنكشف عنه الغيوب، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (49) من هذه السورة. (¬4) مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

وما تجري به الأقْدَار، فلا يأمرك إلا بما هو خير مؤكد بلا شك وبكل يَقِينٍ، وكونه حكيماً يدل على أنه لا يَنْهَاك إلا عن شر، ولا يأمرك إلا بخير، فإن كان مبالغاً في الحكمة والعلم كان ذلك مدعاة لأن يتبع في كل ما يأمر به وكل ما ينهى عنه؛ لأنَّ عِلمه يعلم به أنه ما يدعو إليه خير، وما ينهى عنه شر، وحكمته يفهم منها أنه لا يضع الأمر إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه؛ ولذا قال جل وعلا: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (¬1) أنك لا تكاد تنظر ورقة واحدة [من المصحف الكريم إلا وجدت فيها إشارة إلى هذا الواعظ الأعظم، والزاجر الأكبر مما يبعث العبد على الإحسان والمراقبة في جميع أحواله وأعماله، وقد بَيَّن الله (جل وعلا) أن الغاية والحكمة [9/ب] التي] (¬2) / خلق الله من أجلها الخلق هي أن يَبْتَلِيَهُمْ، أي: يَخْتَبِرَهُمْ ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

أَيهم أحْسَن عملاً، كما قال في أول سورة هود: {خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ثم بين الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: الآية 7] وقال تعالى في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بَيَّنَ الحِكْمَةَ فقال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: الآية 7] وقال في أول سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بين الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: الآية 2] ولم يقل: أكثر عملاً، فإذا عَرَفَ العَبْدُ أنَّهُ خُلِقَ لأجل أن يُخْتَبَرَ في إحسان العمل كان حريصاً على الحالة التي ينجح بها في هذا الاختبار؛ لأن اختبار رب العالمين يوم القيامة مَنْ لَمْ يَنْجَحْ فِيهِ جُرَّ إلى النَّارِ، فَعَدَمُ النجاح فيه مهلكة، وقد أراد جبريل (عليه السلام) أن ينبه أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على عظم هذه المسألة وشدة تأكدها (¬1) فقال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور: يا محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أخبرني عن الإحسان؟ أي: وهو الذي خلق الخلق من أجل الاختبار فيه، فَبَيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن طريقه الوحيدة هي هذا الواعظ الأكبر والزَّاجِر الأعْظَم، الذي هو طريق المراقبة والعلم فقال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬2). وقد قدمنا ضرب العلماء مراراً (¬3) مثلاً لهذا بأن الحاضرين أمام ملك لا يُنتهك حماه، شديد العقاب لمن انتهك حرماته، لا يقدر أحد منهم أن يفعل شيئاً يَكْرَهه وهو ناظر إليه!! ورب السماوات والأرض ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام .. (¬2) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬3) راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

مُطَّلِعٌ عَلَى ما يسره خلقه، ومع هذا فإنَّهم لا حياء عندهم ولا ماء في وجوههم، لا يستحون ممن خَلَقَهُمْ (جل وعلا) وهو معهم أيْنَمَا كانوا، مراقب على خطرات قلوبهم وجميع أعمالهم. فعلى العاقل أن يَنْتَبِهَ لهذه الآيات، ويعلم أن ربَّهُ حَكِيم عليم، يعلم خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُور. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: الآية 16] فيعلم أَنَّ رَبَّهُ نَاظِر إليه مطلع عليه، فلا يفعل أمام ربه إلا ما يرضي ربه (جل وعلا)، أما أن يُبَارِزَ رَبَّهُ بالمَعَاصِي بوجه لا حياء فيه ولا ماء فهذا مما لا ينبغي؛ ولذا يقول (جل وعلا) بعد كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْي: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} إلى غير ذلك من الآيات التي بمعناها. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)} [الأنفال: الآية 72]. قرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة وحده: {مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم} بفتح الواو، وقرأه من السبعة حمزة وحده: {ما لكم من وِلايتِهِم مِن شَيْء} بكسر الواو (¬1). والتحقيق أن الوَلاية والوِلاية معنيان صحيحان، ولغتان فصيحتان، وقراءتان سَبْعِيَّتَانِ، فما يذكر عن الأصمعي من أنه يقول: «إن قراءة حمزة خطأ». هو الذي أخطأ فيه (¬2)، أما قراءة حمزة فهي قراءة صحيحة، ولغة معروفة فصيحة، ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص224. (¬2) انظر: الدر المصون (5/ 640).

فالوَلاية والوِلاية كالدَّلالة والدِّلالة، فهما لغتان عَرَبِيَّتَانِ وقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ فَصِيحَتَانِ. وكان المسلمون في أول الإسلام يَتَوَارَثُونَ بالهِجْرَةِ والمؤاخاة دون القرابات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل المهاجرون بالأنصار والمهاجرون فقراء آخَى بَيْنَ المُهَاجرين والأنصار، فصاروا يتوارثون بتلك الأخوة دون القرابات، فإذا مات واحد منهم ورثه أخوه الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وبَيْنَهُ دون قرابته، وكان الذين لم يهاجروا لا إِرْثَ لهم في إِخْوَانهم الذين هاجروا؛ لأنها كانت بالهجرة والمؤاخاة، ونسخ الله -تعالى- ذلك بقوله: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 75] كما سيأتي إيضاحه. ومعنى الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} هذه أولاً في المهاجرين، الله (جل وعلا) كأنه قَسَّمَ المؤْمِنِينَ طَوَائِف، طائفة هم المهاجرون ذكرهم بقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} آمَنُوا بِاللهِ ورسوله وهاجروا أوطانهم وديارهم وأموالهم في سبيل الله (جل وعلا) وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم؛ لأنهم جعلوا أموالهم في مؤن الجهاد من شراء السلاح، والمراكب للقتال، ومؤن القتال، وجاهدوا بأنفسهم حيث عرّضوها للموت وللخطر في الجهاد، كل هذا في سبيل الله {إِنَّ الذّينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ} الهِجْرَة كانت هجرة متعددة متنوعة أولها الهجرة إلى الحبشة -وقد هاجروا إلى الحبشة مرتين- ثم الهجرة إلى المدينة، وكانت الهجرة إلى المدينة واجبة، وكان الذي أسلم ولم يهاجر كالذي يسلم ويبقى في البَوَادِي مِنَ الأعراب لا يرث من أخيه المسلم المهاجر شيئاً، وكان الذين أسلموا ولم يهاجروا لا نصيب لهم فِي الغَنَائِمِ، ولا في الخمُس، ولا في

شيء مما عند المسلمين، وليس لهم على المسلمين من النصر إلا إن استنصروهم على عدو في الدين خاصة كما سيأتي إيضاحه. الطائفة الثانية: هم الأنصار، أهل المدينة، الذين كانوا قبلهم. الطائفة الثالثة: هم الذين هاجروا بعد ذلك، فهم مهاجرون وأنصار، وطائفة جاءوا بعد ذلك كما سيأتي تفاصيله وإيضاحه؛ ولذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله ورسوله وبكل ما يجب به الإيمان {وَهَاجَرُوا} هاجروا أوطانهم وأموالهم وديارهم. والمُهَاجَرَة: هَجْرُ الشَّيْءِ أصْلُهُ المُبَاعَدَةُ مِنْه. وقد هاجروا أولاً إلى الحبشة، وثانياً إلى المدينة. ثم إن هذه الهجرة التي كان بها التَّوَارُث ولا يقبل من أحد إلا أن يفعلها نُسِخَتْ بِفَتْحِ مكة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيّةٌ» (¬1). والتحقيق أن الهِجْرَةَ لا تنقطع أبَداً، إلا أن الهجرة المخصوصة التي كانت إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة هي التي انقطعت بفتح مكة لانتشار الإسلام في جزيرة العرب، أما الهجرة التي لا تَنْقَطِعُ فَهِيَ أنَّ كُلَّ إنسان تُعُرِّض له في دينه، وصار لا يقدر على إقامة شعائِرِ دِينِهِ في مَحل فواجب عليه بإجماع العلماء أن ينتقل من هذا المحل، ويبذل في ذلك كل مجهود حتى يَصِلّ إِلَى محل يتمكن فيه مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِر دينه، وهذه الهجرة التي لا تَنْقَطِعُ. والمهاجر الحقيقي هو مَنْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام. حديث رقم: (1864) (3/ 1488) من حديث عائشة (رضي الله عنها) مرفوعاً. وقد أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: (3899) (7/ 226) موقوفاً على ابن عمر. وأطرافه (4309، 4310، 4311).

هَجَرَ ما نَهَى اللهُ عَنْهُ ورسوله كما هو معلوم. وهذا معنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ} [الأنفال: الآية 72] مفعول (آووا) ومفعول (نصروا) كلاهما محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى: آوَوْا الذين هَاجَرُوا إِلَيْهِمْ وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونصروهم. وهؤلاء الذين آووا ونصروا هم الأنصار أبناء قَيْلَة، الذين كانوا من سكان المدينة، الذين هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقوله: {ءَاوَواْ} العرب تقول: آواه يؤويه إيواءً: إذا جَعَلَ لَهُ مَأْوًى يَنْضَمُّ إِلَيْهِ؛ أي: جعل له مسكناً ومَنْزِلاً يَسْكُنُ إِلَيْهِ؛ لأنهم أسكنوهم في ديارهم، وشَاطَرُوهُمْ أمْوَالَهم، وهيئوا لهم كل أسباب الرَّاحَةِ، وذلك معنى إيوائهم لهم. ونصروهم، النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم؛ أي: أعَانُوهُمْ عَلَى أعدائهم حتى تمكن الإسلام وانْتَشَرَ وفُتحِتْ مَكَّة، وفتحت جميع جزيرة العرب، وانْتَشَرَ بَعْدَ ذلك الإسلام في أقطار الدنيا. {وَالذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوا} والمعنى: إن المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض. فعبَّر عن المهاجرين بلفظ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وعبّر عن الأنصار بـ {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ} لأنهم آووا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونصروهم على أعدائهم. {أُوْلَئِكَ} أصل قوله: {الَّذِينَ} مبتدأ، وقوله: {أُوْلَئِكَ} مبتدأ، والمبتدأ وخبره خبر المبتدأ الأول، فلما دخلت (إن) صار المبتدأ الأول اسمها، والمبتدأ الأخير وخبره خبر (إن) كما هو معروف لا يخفى. هذا معنى {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. معناه: أن المهاجرين أولياء الأنصار، والأنصار أولياء المهاجرين، فبعض المهاجرين أولياء المهاجرين والأنصار، وبعض الأنصار أولياء

المهاجرين والأنصار، فهم أولياء بعضهم على بعض. وكانت هذه الولاية يتوارثون بها دون غيرهم، وهذه الولاية ولاية نصر ومعاونة ومساعدة وميراث تعم ذلك كله. وهذا معنى قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} الأولياء جمع ولي، والولي: كل مَنْ يَنْعَقِدُ بينك وبينه سبب يجعلك تُوَالِيهِ ويُوَالِيكَ تسميه العرب وليّاً (¬1)؛ ولذا كان الله وليّ المؤمنين {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} لأنهم يوالونه بالطاعة ويواليهم بالجزاء والمغفرة، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض. وهذا معنى قوله: {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} والأولياء جمع الولي، وقد تقرر في فن التصريف أن (الفعيل) بمعنى اسم الفاعل يطرد جمعه على (فُعَلاَء) إلا إذا كان معتل اللام أو مُضَعَّفاً فيقاس جمع تكسيره على (أَفْعِلاَء) (¬2) فمثاله في المعتل: ولي وأولياء، وتقي وأتقياء، وسَخِيّ وأسْخِيَاء، وشَقِيٌّ وأشْقِيَاء، ونَبِيّ وأنْبِيَاء. ومثاله في المضَعَّف: شديد وأشِدَّاء، وحبيب وأحِبَّاء. وما جرى مجرى ذلك. {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} التنوين في قوله {بَعْضٍ} تنوين عوض، عوض من الإضافة. أي: بعضهم أولياء بعضهم. فحذف المضاف إليه وعوض منه التنوين، ومعلوم أنَّ مِنْ أقْسَامِ التَّنْوِين ما يسمى «تنوين العِوَضِ» سواء كان عوضاً عن حرف، أو عن كلمة، أو عن جملة كما هو معروف في محله. هذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) راجع ما سبق عد تفسير الآية (3) من سورة الأعراف.

ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُوا} هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا على أقسام: منهم الذين يرجعون إلى قَبَائِلِهِمْ في البادية من الأعراب، ومنهم من يكون في أهل مكة، وهؤلاء الذين في أهل مكة منهم من يُؤْمِن ولم ينزل بين أظهر الكفار اختياراً كالذي وقع ممن ذكرنا في سورة الأنفال، وهم العاص بن نُبيه، والحارث بن زمعة بن الأسود، وعلي بن أمية، وأضرابهم الذين نزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97)}. ثم إن الله استثنى منهم المستضعفين الذين لا حيلة لهم فعذرهم فقال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)} [النساء: الآيات 97 - 99]. كان ابن عباس يقول: أنا من المستضعفين من الولدان، وأمي من المستضعفات من النساء (¬1). قبل هجرتهم، أما الذين أسلموا ورجعوا إلى ديارهم في البادية كأبي ذر وأمثاله ممن أسلموا، ثم رجعوا ولم يهاجروا، بل بقوا في البادية فهؤلاء لا يرثون إخوانهم المهاجرين، بل يرثهم قبلهم إخوانهم من الأنصار والمهاجرين، وليس لهم في غنيمة المسلمين ولا في خمس الغنائم شيء، إلا أنهم يحكم لهم بحكم الإيمان، وإذا استنصروا المسلمين استنصار دين خاصة فعليهم أن ينصروهم، إلا إذا استنصروهم على مَنْ بَيْنَهُمْ وبينهم مُهَادَنة وعهود كما يأتي تحريره قريباً إن شاء الله. وهذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْء}. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } (4587، 4588)، (8/ 255).

قال بعض العلماء: الولاية المنفيَّة هُنَا هِيَ ولاية الميراث خاصة، وهو مروي عن ابن عباس (¬1) وجماعة من الصحابة فمَنْ بَعْدَهُمْ. وقال بعض العلماء: هي جميع الأنواع: الموالاة من الميراث والمعاونة. والتحقيق: أنها عامة إلا ما استثني منها وهو النصر الديني خاصة؛ لأن الله استثناه بقوله: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} هذا الذي بقي من ولايتهم مع عدم هجرتهم. وهذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} وقد بيَّن عذر المستضعفين وعدم عذر الذين كانوا على قدرة وبقوا بين أظهر الكفار المحاربين للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يهاجروا. ثم قال: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} الاستنصار طلب النصر، وقد تقرر في علم العربية: أن من معاني السين والتاء: الطلب. استغفر: طلب المغفرة، واستطعم: طلب الطعام، واستسقى: طلب السقيا، واستنصر: طلب النصر، {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ} أي: طَلَبُوا نَصْرَكُمْ في الدين. قوله: {فِي الدِّينِ} يدل على أنهم لو استنصروهم نصر قَوْمِيَّة وعَصَبِيَّة أنهم ليس عليهم أن ينصروهم، وأن المناصرة إنما هي في الدين، فلا مناصرة في العصبيات، ولا في القوميات، ولا في الأراضي الفاسدة، وإنما المناصرة في الله، وفي دين الله (جل وعلا)؛ ولذا قال: {فِي الدِّينِ} والمراد بالدين: دين الإسلام كما قال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: الآية 19] ¬

(¬1) ابن جرير (14/ 78) من طريق علي بن أبي طلحة.

{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: الآية 85]. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل أن الدين شامل للإيمان والإحسان والإسلام حيث سأله عن الإيمان وفسره له، والإسلام وبيّنه له، والإحسان كذلك. ثم قال: «هَذا جِبْرِيل أتَاكم يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» (¬1). فعلم من قوله: «يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» أن اسم الدين شامل لكل من الإحسان والإسلام والإيمان كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي: فواجب عليكم نصرهم. أي: إعانتهم الإعانة الدينية لا الإعانة العصبية القومية فذلك لا يكون؛ لأن الإعانات والانتصارات إنما هي في سبيل الله، وعلى كتاب الله، لا في سبيل الشيطان، ولا على سبيل العصبيات وقضايا الجاهلية الأولى كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ} الجار والمجرور في قوله: {عَلَى قَوْمٍ} يتعلق بمحذوف، إلا إن استنصروكم على قوم فلا تنصروهم على قوم بينكم وبينهم ميثاق. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (¬2) أن لفظ القوم يختص في الوضع العربي بالذكور دون الإناث، كما قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء} [الحجرات: الآية 11] فعطفه النساء على القوم في آية الحجرات هذه يدل على أن القوم لا يتناول النساء وضعاً، ومثل الآية الكريمة قول زهير وهو عربي جاهلي قح (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

وما أدرِي وسَوفَ إخَال أَدْرِي ... أَقَوَمٌ آلُ حِصْنٍ أم نِسَاءُ فعطف النساء على القوم فدل على عدم دخولهن فيهم، وقد دل القرآن العظيم على أن المرأة قد تدخل في اسم القوم بحكم التبع إذا اقترن المقام بما يدل على ذلك، كقوله في ملكة سبأ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: الآية 43] وما جرى مجرى ذلك. وهذا معنى قوله: {إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}. المراد بالميثاق: المهادنة والمعاهدة، وأصل الميثاق في لغة العرب: العهد المؤكد (¬1)، فكل عهد كان مؤكداً تُسَمِّيهِ العَرَبُ مِيثَاقاً. وعلى هذا فكل مِيثَاقٍ عَهْد، وليس كل عَهْد ميثاقاً. وياء الميثاق مبدلة من واو، ووزنه بالميزان الصرفي (مِفْعَال) وفاؤه واو، وأصله: (موثاق) (¬2) كميعاد من الوعد، وميزان من الوزن، وميثاق من الوثوق؛ ولذا يُصَغَّر على (مُوَيْثيق) لأن التصغير يرد العين إلى أصلها. ويُجمع جمع التكسير على (مواثيق) على القياس. وما سمع عن العرب من تكسيره على (مَيَاثِقَ) كقول عياض بن درة الطائي (¬3): حِمًى لا يُحَلّ الدهر إلا بإذننَا ... ولا نسألُ الأقوامَ عقدَ المَيَاثِق فهو سماع يحفظ ولا يقاس عليه؛ لأنه اعتد بالعارض هنا على غير القياس. وهذا معنى قوله: {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (169) من سورة الأعراف. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص273. (¬3) البيت في الخصائص (3/ 157)، اللسان (مادة: وثق) (3/ 876).

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعني: لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهذا هو الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم الذي كنا نتحدث عنه الآن ونخبر بكثرته في القرآن العظيم لشدة عظم موعظته وزجره لمن كان له قلب. وهذا معنى قوله: {إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: الآية 72]. {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: الآيات 73 - 75]. يقول الله (جل وعلا): {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}. هذه الآية الكريمة من الآيات العظام التي يعتبر بها؛ لأن ما ذكره الله (جل وعلا) فيها وما حذر منه من الفتنة والفساد الكبير إن لم يوال المسلمون بعضهم بعضاً، ويقطعوا موالاة الكفار، ويتركوا الكفار بعضهم يوالي بعضاً، ما حذر به من أنهم إن لم يحافظوا على صدق الموالاة بينهم ومقاطعة أعدائهم تقع في الأرض الفتنة والفساد الكبير، فهو واقع منتشر الآن، يدل على عظم هذا القرآن العظيم وأنه كلام رب العالمين، وأن تحذيره حق، وترغيبه حق، والله في هذه الآيات من أخريات سورة الأنفال بَيَّنَ أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قال في المهاجرين والأنصار: {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} وهم في ذلك الوقت سادات المسلمين جميعاً في أقطار الدنيا؛ لأنهم هم الأغلبية والكثرة التي فيها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم أتبع ذلك بأن الكفار بعضهم أولياء بعض، ويُؤخذ من هذا -من قطع الولاية أولاً بين الكفار والمؤمنين- أنه لا يرث كافر مسلماً ولا مسلم كافراً؛ لأن الميراث لا بد له من ولاية بين الوارث والموروث، وقد قطع الله الولاية بينهما، وما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة جاء مصرحاً به في الحديث الصحيح عنه (صلوات الله وسلامه عليه) حيث يقول: «لا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ وَلاَ المُسْلِمُ الْكَافِرَ» (¬1) وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، دل عليه عموم هذه الآيات الكريمة، وصرح به النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الموالاة قال بعض العلماء (¬2): منها ولاية النكاح، فالمرأة المؤمنة لا يلي عقدها أبوها الكافر؛ لأن الله قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، والله يقول: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: الآية 141] وقد قدمنا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب (¬3). وكذلك قال العلماء: لو كانت كافرة ذمية وأراد مسلم تزويجها ولها ولي ابن عم أو أب من المسلمين فإنه لا يتولى عقد نكاحها ولو للمسلم، لانقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين، وإنما يزوجها أقرباؤها من أهل دينها أو أساقفتهم. وشَذَّ في هذه المسألة أصبغ -أحد أصحاب مالك بن أنس رحمه الله- فقال: إن الكافرة إذا كان لها ولي مسلم يزوجها من مسلم، قال: فعقد المسلم لها خير للمسلم ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، حديث (6764) (12/ 50) ومسلم في الفرائض، في فاتحته، حديث رقم: (1614) (3/ 1233). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 57). (¬3) راجع ما سبق عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

من عقد الكافر (¬1). وهذا القول ليس بصواب؛ لأنه لا ولاية بين مسلم وكافر ألبتة، والكفار بينهم ولاية الكفر، ولاية الشيطان والكفر، كما قال الله: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. وهذه الآية تدل على أن الكفار بعضهم ولي بعض، وظاهرها أن الكافر يرث الكافر ولو اختلفت مللهما من الكفر، وبهذا الظاهر تمسك من قال يرث النصراني اليهودي واليهودي النصراني، كما يتوارث غيرهم من أهل الملل. والصواب أنه لا يتوارث أهل ملتين للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم «لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» (¬2) وهو الأصْوَبُ، وهو أَخَصُّ؛ لأنه يبين المراد بعموم هذه الآية الكريمة. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 57). (¬2) روى هذا الحديث غير واحد من الصحابة (رضي الله عنهم)، ومنهم: 1 - جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، عند الترمذي في الفرائض، باب: لا يتوارث: أهل ملتين، حديث رقم: (2108) (4/ 424). وهو في صحيح الترمذي (1712)، الإرواء (6/ 121، 155). 2 - عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما)، عند أحمد (2/ 178، 195)، وأبي داود في الفرائض، باب. هل يرث المسلم الكافر. حديث رقم: (2894) (8/ 122)، وابن ماجه في الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، حديث رقم: (2729) (2/ 912)، والدارقطني (4/ 72، 75)، وابن الجارود (3/ 232). وانظر: صحيح أبي داود (2527) وصحيح ابن ماجه (2207)، الإرواء (6/ 120). 3 - أسامة بن زيد (رضي الله عنهما)، عند الحاكم (2/ 240)، وانظر: الإرواء (6/ 120). 4 - عن الشعبي مرسلاً. عند الدارمي (2/ 267). وساق الدارمي في هذا المعنى جملة من الآثار عن بعض الصحابة (رضي الله تعالى عنهم).

وقوله: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ} مبتدأ، و {بَعْضُهُمْ} مبتدأ آخر، و {أَوْلِيَاء} خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول كما هو واضح. وقد قَدَّمْنَا في هَذِهِ الدروس مراراً (¬1) أن مادة الكاف والفاء والراء (كَفَرَ) أن معناها في لغة العرب التي نزل بها القرآن: السّتْر والتغطية، فكل شيء غطيته وسترته فقد كفرته، وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور مبتذل في كلامهم جدّاً، ومنه سَمَّتِ العَرَبُ اللَّيْلَ كافِراً؛ لأنه يكفر الأجرام ويغطيها عن العيون بظلامه، ومنه قول لبيد بن ربيعة (رضي الله عنه) في معلقته (¬2): حَتَّى إذا أَلقَتْ يَداً في كَافرٍ ... وأَجنَّ عَورَاتِ الثغُورِ ظَلاَمُهَا ومن هذا المعنى قول لبيد أيضاً في معلقته هذه (¬3): يعلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاترٌ ... في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجُومَ غَمَامُهَا يعني: ستر النجوم وغَطَّاهَا غَمَامُهَا. هذا أصل المادة، وتكفير السيئات من هذه المادة؛ لأن الله يغطيها ويسترها بحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها، وإنما قيل للكافر (كافر) لأنه يغطي أدِلَّة التوحيد بجحوده مع وضوحها، ويغطي نعمة الله ويسترها كأنه ليس عليه إنعام من الله حيث يأكل رزقه ويتقلب في نعيمه ويعبد غيره. وقوله (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} هي (إن) الشرطية أُدْغِمَتْ فِي (لا) النافية. والمقرر في علم العربية: إن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف. (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف. (¬3) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

(إن) الشرطية التي تجزم فعلين إن جاءت بعدها (لا) النافية لا تمنع عملها من الجزم، فهي (إن) الشرطية، وفعل الشرط هو قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} مجزوم بحذف النون، وجزاء الشرط هو قوله: {تَكُنْ فِتْنَةٌ} والتحقيق: أن (تكن) أنه هنا تام، وأن (فتنة) فاعله، وليس من الأفعال الناقصة الناسخة كما هو الصواب، والضمير في قوله: {تَفْعَلُوهُ} أما الضمير المرفوع الذي هو الواو فهو عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو يتناول جميع المسلمين إلى يوم القيامة. وأما الضمير المنصوب فهو ضمير الواحد الغائب -أعني الهاء في قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} - فلعلماء التفسير في مرجع هذا الضمير أقوال معروفة (¬1) سنذكر طرفاً منها ونبيّن الصواب فيها -إن شاء الله-: قال بعض العلماء: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} راجع إلى الميراث المفهوم من قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} لأنه يدخل فيها ولاية الميراث، إلا تتركوا الكافر يرث الكافر، والمسلم يرث المسلم دون الكافر تكن فتنة. وهذا مروي عن ابن عباس (¬2) وغيره، ومعه أقوال شبهه. والتحقيق الذي لا شك فيه -إن شاء الله- أن الضمير -الهاء- في قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} عائد إلى ما ذكره الله (جل وعلا) من ولاية المسلمين بعضهم بعضاً ومقاطعتهم للكفار، وولاية الكفار بعضهم بعضاً، وقد جرت العادة في كلام العرب الذي نزل به القرآن، وفي القرآن العظيم، أنه يرجع الضمير أو ترجع الإشارة إلى أشياء متعددة ويرجع الضمير إليها بصيغة الإفراد (¬3)، كأنه يعني بالضمير ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (5/ 641). (¬2) أخرجه ابن جرير (14/ 86) من طريق علي بن أبي طلحة. (¬3) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

أي: ما ذكر من الأشياء المتعددة من اثنين فصاعداً، وهذا موجود في الضمائر، وفي كلام العرب، ولما أنشد رؤبة بن العجاج في رجزه (¬1): فيها خُطوطٌ من سَوادٍ وَبَلَقْ ... كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ قال له رجل: لِمَ قلت: «كأنَّهُ» إذا كنت تعني الخطوط فالصواب أن تقول: «كأنَّهَا» وإذا كنت تعني السواد والبلق فهلا قلت: «كَأَنَّهُمَا» فأي وجه لقولك: «كأنه»؟ قال: كأنه أي: ما ذُكر. ومِنْ أَصْرَحِ الأدِلَّةِ القرآنية في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ} (به) أي: بجميع ما ذُكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم كما لا نزاع فيه. وهذا معنى معروف في كلام العرب، وقد قدمنا بعض شواهده في سورة البقرة في الكلام على قوله: {إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (¬2) أي: بين ذلك المذكور من الفارض والبكر. ومن نظيره في الإشارة قول ابن الزبعرى السهمي (¬3): إِنَّ لِلْخَيْرِ ولِلشَّرِّ مَدًى ... وكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وقَبَل أي: كلا ذلك المذكور. والمعنى: إلا تفعلوا ذلك الذي ذكرنا من موالاة بعضكم لبعض موالاة صدق، ومقاطعتكم للكفار مقاطعة كاملة، وترك الكفار يوالي بعضهم بعضاً إلا تفعلوا هذا {تَكُنْ} أي: تقع {فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) راجع الموضع السابق، وكذا ما ذكره عند تفسيره للآية (69) من سورة البقرة. (¬3) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} وهذا المشاهد الآن، فإن مَنْ يُسَمَّوْنَ بالمسلمين تولوا الكفار وقاطعوا المسلمين، وصار هذا الكافر وهذا المسلم يزعمان أنهما أَخَوَان، وأنهما تجمعهما العصبية الفلانية، أو القومية الفلانية، وأن هذه الدولة الكافرة صديقة، وأن هذين الشعبين شقيقان وما جرى مجرى ذلك. فلم يفعلوا ما أمر الله بأن يفعلوه فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير. ومن عِظم هذه الفتنة اختلاط الحابل بالنابل؛ لأن المسلمين إذا صادقوا الكفار أعانُوهُمْ عَلَى أَذِيَّةِ المُسْلِمِينَ وقَتْلهم وكل ما يريدونه بهم، وأطلعوهم على عوراتهم، إلى غير ذلك، فانتشر في الدنيا الفساد العريض العظيم، وانتشرت الفتنة، وهذا مشاهد يجب على المؤْمِنِينَ أنْ يَعْتَبِرُوا بهذا فيقطعوا ولايتهم من جميع الكفار، ويصدقوا ولاية بعضهم لبعض لئلا تتمادى بهم هذه الفتنة والفساد الكبير. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (¬1) أن الفتنة جاءت في القرآن لمعانٍ معروفة، أشهر معاني الفتنة: أن أصل الفتنة هي وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ ليُمْتَحَن بسبكه في النار: أخالص هو أم زائف؟ تقول العرب: فتنت هذا الذهب؛ أي: جعلته في النار وأذَبْتُهُ فيها؛ لأنه إذا ذاب تبين أخالص هو أم زائف؟ ولذا صار يأتي في القرآن وفي كلام العرب إطلاق اسم الفتنة على مطلق الوضع في النار، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} [الذاريات: الآية 13] أي: يوضعون فيها ويحرقون. ومنه على أحد التفسيرين قوله تعالى: ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: الآية 10] يعني: أحرقوهم بنار الأخدود. هذا معنى من معاني الفتنة. ومعناها الثاني: أن الفِتْنَةَ تُطْلَقُ عَلَى الاخْتِبَار، وهذا أَشْهَرُ مَعَانِيها، وهو في الحقيقة راجع إلى الأول؛ لأن وضع الذَّهَبِ فِي النَّارِ ليختبر بالنار أخالص هو أم زائف؟ وإطلاق الفتنة على الاختبار إطلاق مشهور مُسْتَفِيض في القرآن العظيم وفي كلام العرب، ومنه قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: الآيتان 16، 17] {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: الآية 35] أي: اختباراً وامتحاناً. إلى غير ذلك من الآيات. وإطلاق الفتنة الثالث: تطلق الفتنة على نتيجة الاختبار بِشَرْطِ كَوْنِهَا سَيِّئَة خاصَّة؛ لأن المختبر إذا كانت نتيجة اختباره سيئة كان ضالاًّ؛ ولذا تُطْلَقُ الفِتْنَة على الكفر والضلال، يقولون: فَتَنَه عن دينه؛ أي: أضَلَّهُ. وهذا مفتون؛ أي: ضال في دينه. ومنه بهذا المعنى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: الآية 39] أي: لا يَبْقَى فِي الدنيا شرك على أصح التفسيرين؛ لأن قوله: {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} غاية غَيّا فيها القتال لِئَلاّ يكون في الدنيا شرك. وهذا بَيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بياناً صريحاً صحيحاً في قوله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ» (¬1). قال بعض العلماء: جاء للفتنة إطلاق رابع في سورة الأنعام، وهو أنها أُطلقت على الحجة. قال: ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} وفي القراءة ¬

(¬1) السابق.

الأخرى (¬1): {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: الآية 23] فهذه الفتنة هي في الحقيقة المعنى الثاني من هذه المعاني التي ذكرنا، وهي نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة؛ لأنه إذا اتَّصَل الكافر بالمسلم، والمسلم بالكافر صار الكافر صديق المسلم، وصار المسلم صديق الكافر، فكل هذا ضلال مخالف لما جاء من الله، تتسبب عنه المحن والبلايا كما هو معروف. وقوله: {وَفَسَاد} الفساد في لغة العرب هو ضد الإصلاح، فكل أمْرٍ ليس على وجهه الصحيح الذي هو إصلاح تسمية العرب فاسداً. ووصف هذا الفساد بالكبير؛ لأنه ضياع دين، وضعف إسلام، وقوة كفار، وإطلاعهم على عورات المسلمين بواسطة مَنْ يُصَادِقُهُمْ ويُوَالِيهِمْ من المسلمين، إلى غير ذلك من البلايا. وقد بَيَّنَ الله (جل وعلا) قبل هذا آيات تبيّن هذه الآية، فبيّن أن موالاة الكافر للمسلم لا يرخص منها في شيء إلا بقدر ما يدفع الضرورة عند الخوف، ويكون ذلك باللسان لتفادي الخوف فقط، كما تقدم في قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: الآية 28] أي: تخافوا منهم خوفاً كما قاله بعض العلماء. وقد قدمنا أنه (جل وعلا) بَيَّنَ أن الذي يتولى الكفار اختياراً رَغْبَة فيهم وفي دينهم أنه منهم، كما تقدم في قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: الآية 51] فهذه الآيات الكريمة في القُرْآنِ العَظِيمِ، وبالأخص هذه الآية من أخريات سورة الأنفال تُبَيِّنُ لِلْمُسْلِم أنه تجب عليه مقاطعة الكافر والمُبَاعَدَة، منه واعتقاد أنه حرب عليه، وقد ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف.

جاءت أحاديث كثيرة تُؤَيِّدُ هذا المعنى، ففي بعض الأحاديث في رجل أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند إيمانه قال: «وأن لاَ تَرَى نَارَ مُشْرِكٍ إلاَّ وأنْتَ حَرْبٌ علَيْهِ» (¬1) وفي الحديث الآخر: «لا تَتَرَاءَى نَارُ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ» (¬2) فالعداوة يلزم أن تكون بين المسلمين [10/أ] والكفار/ [كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ}] (¬3) {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: الآية 4] هذا الذي ينبغي أن يسير عليه المسلمون ويَتَجَنَّبُوا هَذِهِ الفِتَن والفَساد الكبير والبلايا التي طبَّقت الدنيا بسبب مُوَالاَةِ المُسْلِم للكافر ومجافَاة المسلم للمسلم؛ ولذا قال تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِير} [الأنفال: الآية 73] والله ما فعلوه اليوم، والله إن في الدنيا اليوم لفتنة وفساداً كبيراً منتشراً. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (11/ 330 _ 331)، وابن جرير (14/ 82 _ 83) عن الزهري مرسلاً. (¬2) لفظ الحديث: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ» .. قالوا: يا رسول الله لم؟! قال: «لا تَرَاءَى نَارُهُمَا» أخرجه أبو داود في الجهاد، باب النَّهْيِ عن قتل مَنِ اعْتَصَمَ بالسجود، حديث رقم: (2628) (7/ 303)، والترمذي في السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، حديث رقم: (1604، 1605) (4/ 155)، والنسائي في القسامة، باب القود بغير حديدة، حديث رقم: (4780) (8/ 36). وانظر: الإرواء (5/ 29 - 33)، السلسلة الصحيحة (2/ 230). (¬3) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

وقد تكون الفتنة والفساد الكبير بأسباب أُخَر غير هذا، وقد تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الأصُول أن جزاء الشرط يجوز أن يكون أعَمّ مِنْ شَرْطِهِ، لا مانع من ذلك، فلا يلزم أنه لا تكون فتنة وفساد كبير إلا مِنْ هَذَا، فقد تكون فتنة وفساد كبير لأسباب أخر، فإنك لو قلت مثلاً: إن بلت انتقض وضُوؤك. لا يلزم من هذا أنه لا ينتقض وضوؤك إلا مِنَ الْبَوْلِ، فَقَدْ تَكُون نواقض أخر غير هذا؛ ولذا قد يوجد الفتنة والفساد الكبير لأسْبَابٍ أُخَر غير هذا المذكور؛ ولذا جاء في السنن وغيرها من حديث أبي حاتم المُزَنِيّ (رضي الله عنه) وحديث أبي هريرة أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) قال: «إذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» في بعض روايات الحديث: «وفَسَاد عَرِيض» وفي بعضها. «وفَسَاد كَبِير». قالوا: يا رَسُول الله وإن كان فيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فأنْكِحُوه إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ عَرِيضٌ» أو «فَسَادٌ كَبِيرٌ» (¬1). ¬

(¬1) حديث أبي حاتم المزني أخرجه الترمذي في النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، حديث رقم: (1085) (3/ 386)، والبيهقي (7/ 82)، والدولابي في الكنى (1/ 25). وانظر: السلسلة الصحيحة (1022)، الإرواء (1868). وحديث أبي هريرة أخرجه الترمذي (الموضع السابق) حديث رقم: (1084) (3/ 385)، وابن ماجه في النكاح، باب الأكفاء، حديث رقم (1967) (1/ 632)، والدوري في (جزء فيه قراءات النبي صلى الله عليه وسلم) ص 103 - 104، والحاكم (2/ 164، 165)، والخطيب (11/ 61). وانظر: الإرواء (6/ 266). تنبيه: ورد في هذا المعنى أيضاً حديث عن ابن عمر (رضي الله عنهما)، وهو في الكامل (5/ 1728) والدولابي في الكنى (2/ 27).

وهذا أيضاً يدل على أن الفتنة والفساد الكبير تتعدد أسبابها وهو كذلك، فإن للافتتان والفساد الكبير المنتشر في الدنيا أسباباً كثيرة، ومن أعظم تلك الأسباب وأبرزها: مقاطعة المسلم للمسلم وموالاته للكافر، فهذا مما لا ينبغي، وهو من الأسباب العظيمة؛ لأن الله يقول لنبيه: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: الآية 9] فاللين للكفار والمحبة والمؤاخاة لهم ليست من شأن المسلمين، ولا مِنْ خُلُقِ النَّبِيِّ وأصحابه، فالله (جل وعلا) أثنى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه بأنهم لا يضعون اللين إلا في موضع اللين، ولا يضعون القسوة إلا في موضع القسوة، قال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} ليسوا بأصدقاء لهم ولا محبين ولا أولياء {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: الآية 29] هذه عادة المسلم أن يكون شديداً عظيماً على الكافر، رحيماً رفيقاً ذليلاً على المسلم، هذه عادة المسلمين وصفات المسلمين، وقد مدح الله بها قوماً في سورة المائدة حيث قال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} -يعني لا يهتم بهم المسلمون لعدم صعوبتهم وذلهم وتواضعهم للمسلمين- {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: الآية 54] أشداء، وقد صدق من قال (¬1): فَمَا حَمَلَتْ مِن ناقَةٍ فَوْقَ رَحْلِها ... أشَدّ عَلَى أعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ (صلوات الله وسلامه عليه)، فهو لا يوالي الكفار، بل هو ولي المسلمين {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: الآية 6] ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (199) من سورة الأعراف.

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية [المائدة: الآية 55] إلى غير ذلك من الآيات، فيجب علينا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فنوالي المؤمنين ونلين لهم، ونرفق بهم، ونعَادي الكفار ونكون أشداء عليهم؛ لأن الشدة في محل اللين خرق وحمق، واللين في محل الشدة خور وضعف، والصحيح أن يكون كل شيء في محله، وهذا في موضعه، وهذا في موضعه، كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: الآية 73]. {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: الآية 74] [شرع] (¬1) الله (جل وعلا) وبيّن للمؤمنين أن يكونوا أولياء للمؤمنين، والكفار بيّن أنهم أولياء الكفار، وأثنى على المهاجرين والأنصار؛ لأن بعضهم أولياء بعض، مدح المهاجرين والأنصار وزكاهم وهو المطلع على ضمائرهم وخبايا ما يضمرون، بيّن أن إيمانهم أنه إيمان حق لا شك فيه لا نفاق ولا ضعف، فأثنى عليهم ومدحهم مدحاً عظيماً من رب العالمين، قال: {والَّذِينَءَامَنُواْ} -بالله ورسوله وكل ما يجب به الإيمان- {وَهَاجَرُوا} -أوطانهم وأموالهم وديارهم- {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فسرناه. وهذه الصفات كلها يُقصد بها المهاجرون الذين هاجروا إلى المدينة هذه، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هاجروا معه رضي الله عنهم. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

{وَالَّذِينَ آوَوا} يعني: آووهم، قد قدمنا أن العرب تقول: آواهُ يؤويه إيواء: إذا ضَمَّهُ إلَيْهِ وجَعَلَ لَهُ مأْوًى يَأْوِي إِلَيْهِ، والمَأْوَى: المَسْكَنُ والمَنْزِلُ؛ لأن الأنْصَار هَيَّئُوا لِلْمُسْلِمِينَ أمكنة ينزلون فيها وهيَّئُوا لهم كل ما يَسْتَعِينُونَ بِهِ، وآخَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بينهم، كان يقول: «فلان أخُو فلان» فيتوارثان بذلك الإخاء، وكان الأنصار يشاطرونهم أموالهم، وقد آخى صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف الزهري (رضي الله عنه) وسعد بن الربيع الأنصاري (رضي الله عنه)، ذكر بعض أهل المغازي والأخبار أن النبي لما آخى بينهما جاء سعد إلى عبد الرحمن وقال: أرخص ما عندي نعلاي، فهذه إحداهما، وأعظم ما عندي زوجتاي أنزل لك عن إحداهما، فإن تمت عدتها تزوجتَها!! -وقد كان عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) وأغلب المهاجرين تعففوا واتجروا- فقال له عبد الرحمن بن عوف: أقرضني درهماً. فأقرضه درهماً فاتّجر به، فراح وعنده درهمان، ردّ إليه درهمه واتجر بالثاني، فراح عنده درهمان، ولم يزل يتجر حتى انتشر عليه المال وكان من أغنياء الصحابة (¬1) (رضي الله عنهم). فهم آووهم حيث هيئوا لهم المساكن والأموال، وشاطروهم أموالهم، وأحسنوا إليهم كل الإحسان، كما في قوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} ¬

(¬1) أخرجه البخاري في البيوع، باب ما جاء في قول الله عز وحل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ ... } رقم: (2048)، (4/ 288). وطرفه في (3780). عن عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه). وأخرجه أيضاً عن أنس (رضي الله عنه) (الموضع السابق) برقم (2049). وأطرافه في: (2293، 3781، 3937، 5072، 5148، 5153، 5155، 5167، 6386).

[الحشر: الآية 9] هذا ثناء الله ومدحه للمهاجرين والأنصار، ثم قال {أُوْلَئِكَ} شاملة للمهاجرين والأنصار معاً، فالمهاجرون هم المعبّر عنهم بـ {آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والأنصار هم المعبّر عنهم بقوله: {آوَواْ وَّنَصَرُواْ} أي: آووا النبي وأصحابه ونصرهم على أعدائهم، هؤلاء جميعاً {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} حق إيمانهم حقّاً؛ لأنهم صدقوا إيمانهم بهجرتهم وجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وبإيمانهم، وأولئك حققوه بإيوائهم ونصرتهم لله؛ لأن الأنصار قامت موقفاً عظيماً حيث تحملت عداوة جميع أهل الدنيا في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذا قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ} -هؤلاء- {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} بمعنى الكلمة الإيمان الذي هو لا قيل فيه ولا قال، بل هو الإيمان كما ينبغي. وهذه من الآيات الدالة على تزكية الصحابة لاسيما المهاجرين والأنصار، ووصفهم بالعدالة وصحة الإيمان، فإذا روى لنا مهاجري أو أنصاري حديثاً فلا نقول: هل هذا عدل أو غير عدل؟ لأنه لا مزكّى أعظم تزكية من الله، ولا تزكية أعظم من قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: الآية 4] والله (جل وعلا) نوّه بشأن المُهَاجِرِين والأنْصَار الذين اتبعوهم، ونوَّهَ بشأن جميع الصحابة وَزَكَّاهُمْ فِي غَيْرِ ما آية، فمن الآيات التي أثْنَى بها على المهاجرين والأنصار قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة: الآية 100] وفي

قراءة ابن كثير: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (¬1) والمصحف الذي أرسله عثمان إلى مكة فيه: {من تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} بذكر لفظة (من) وقراءة الجمهور والمصاحف التي أرسلت إلى الشام وإلى الكوفة والبصرة فيها: {تحتَها الأنهار} بغير لفظة (من). فقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} -لم يشترط فيهم شيئاً، بل قال:- {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: الآية 100]-وهذه أعظم تزكية، والذين اتبعوهم- اشترط فيهم شرطاً وهو الإحسان؛ لأن قوله: {بِإِحْسَانٍ} اشترطه في خصوص الذين اتبعوهم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: الآية 10] ثم قال: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} كلاًّ من جميع الصحابة ممن أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده وعد الله الحسنى. ومن هذه الآية الكريمة قال ابن حزم: يجب على كل مسلم أن يعتقد أن الصحابة كلهم في الجنة؛ لأن الله صرح بذلك ولا يخلف الله الميعاد حيث قال: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} -ثم صرح في الجميع بوعده الصادق الذي لا يخلفه قال:- {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (¬2). وقال (جل وعلا): {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: الآية 8] فزكَّاهم بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ثم ذكر الأنصار قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص228. (¬2) الإحكام ص664.

قَبْلِهِمْ} الدار: هي المدينة {تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أي: وانتهجوا الإيمان، فهو مفعول فعل محذوف دل المقام عليه (¬1) {مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} قال جماعة من أهل العلم: إن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ ولذا كان الأنصار لا يكون في صدورهم شيء من فضل المهاجرين عليهم، هكذا قاله غير واحد (¬2). {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: الآية 9] ثم ذكر من يأتي بعدهم، فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: الآية 10] ومن هذه الآيات أخذ مالك بن أنس (رحمه الله) إمام دار الهجرة أن الذين يسبون بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نصيب لهم في فَيْءِ المسلمين أبداً، وقال لبعضهم: هل أنتم من الفقراء المهاجرين الذين أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وأمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله؟ قالوا: لا، لسنا من هؤلاء. قال: هل أنتم من الذين قال فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}؟ قالوا: لا، لسنا من هؤلاء. قال: وأنا أشهد أنكم لستم من الطائفة الثالثة التي قال الله فيها: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} فأنتم تسبّون الصحابة وتلعنونهم، فلستم من جملة مَنْ جَعَلَ الله لهم شيئاً من المسلمين فلا شيء لكم ألبتة (¬3). وهذه الآيات وأمثالها في القرآن تدل على أن الذين يسبون ¬

(¬1) انظر: القرطبي (18/ 20). (¬2) انظر: ابن كثير (4/ 337). (¬3) تقدم عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ضُلاَّل، منابذون لهدْيِ الله، مخالفون لِكتَاب الله الذي هو آخر الكتب السماوية نزولاً من عند رب العالمين (جل وعلا) وهذا معنى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: الآية 74]. قال بعض العلماء: (حقّاً) مصدر (¬1)، أي: حق ذلك حقّاً، أي: لما حققوه به من الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} المغفرة (مَفعلَة) من الغفران، وأصل مادة الغين والفاء والراء (غفر) أصلها معناها الستر والتغطية أيضًا كَمَادَّةِ (الكُفْرِ) لأَنَّ اللهَ يَسْتُرُ بِحِلْمِهِ وفَضْلِهِ ذنوب التائبين إليه حتى لا يظهر لها أثر يتضررون به (¬2). {وَرِزْقٌ} هو ما يرزقهم الله في الجنة. وقوله: {كَرِيمٌ} كل شيء حسن مبالغ في الحسن والجمال تسميه العرب كريماً، وإنما وصف رزقهم بأنه كريم؛ لأن ما في الجنة من الأرزاق كله كريم {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة: الآية 25] وأرزاق الجنة مبيّنة في القرآن العظيم من مآكلها ومشاربها وغير ذلك. وهذا معنى قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: الآية 74]. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 8). (¬2) مضى عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف.

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: الآية 75]. للعلماء أقوال في المراد بالظرف في قوله: {مِن بَعْدُ} فقوله: {مِن بَعْدُ} ظرف منقطع من الإضافة مبني على الضم، وتقدير مضافه هذا -المحذوف- فيه للعلماء أقوال متقاربة (¬1): قال بعض المحققين: أظهر الأقوال فيه أن المراد به: من بعد صلح الحديبية. وهذا القول له اتجاه لمن عرف تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتاريخ الهجرة وأهميتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده التشديد العظيم في الهجرة، فلا بد لمن آمن أن يهاجر وإلا لم تكن له ولاية عند المسلمين كما قدمناه في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: الآية 72] لأن البلاد كلها كانت بلاد حرب، والإيمان في المدينة، والذي أسلم إما أن يبقى في دار حرب وإما أن يروح إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلما كان صلح الحديبية -وقد كان صلح الحديبية وقع في ذي القعدة من عام ست من الهجرة بإجماع المؤرخين- خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمراً، وساق معه بعض البُدن، وذلك في ذي القعدة من عام ست، فلما بلغ الحديبية سمع به المشركون فتعرضوا له، وقالوا: والله لا يقتل أبناءنا ببدر ويدخل علينا بلدنا ويطوف ببيتنا أبدًا!! فوقع ما وقع مما هو مشهور. {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: الآية 25] ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 8).

أي: وصدوا الهدي مَعْكُوفاً أن يَبْلُغَ مَحله، وقد نزلت في قفوله من الحديبية سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1)} [الفتح: الآية 1] نزلت في رجوعه من الحديبية كما قاله غير واحد، وقد وقع ما وقع، ولم يزالوا يراسلونه ليردوه عنهم، أرسلوا له عروة بن مسعود سيد ثقيف، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وأضرابهم، حتى انعقد بينه وبينهم الصلح على يد سُهَيْلِ بن عَمْرو على المهادنة عشر سنين، وأغلظوا له في الصلح بأَنَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ قُرَيْش مسلماً رده إليهم، والذي جاء إلى قريش مرتدّاً عن الإسلام لا يردونه، وهذا معروف. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلَ لهم هذه الشروط، وكتب وثيقة الصلح بينه وبينهم، وعقدها معه سهيل بن عمرو العامِرِي (رضي الله عنه) -من بني عامر بن فهر من قريش (رضي الله عنهم) - وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) اغْتَاظَ مِنْ تَغْلِيظِ هَذِهِ الشروط، وقال: يا رَسُول الله، ألَسْنَا على الحق؟ ألَسْنَا نحن الذين على الحق؟ كيف نرضى لهم بهذه الدنية؟! وأبو بكر يقول له: استمسك بغرز رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعلم منك. وكان هذا الصلح أول الفتح العظيم الذي فتح الله به على المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما فيه من المصْلَحة؛ لأنه لما وقعت الهجرة والمهادنة، وأمن الناس بعضهم بعضاً صار الصحابة يرجعون إلى قبائلهم ويبثون فيهم الإسلام، فانتشر في الناس دين الإسلام، حتى إن الكفار مكثوا سنتين لم ينقضوا العهد، وقد نقضوا العهد الذي أبْرَمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الحديبية؛ لأن بني بكر كانت بينهم وبين خزاعة دماء وحروب، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر في عهد قريش،

فَعَدَت بنو بكر على خزاعة، فأعانهم قريش عليهم بالسلاح، ونقضوا العهد بعد سنتين، وكان ذلك سبب غزوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم غزوة الفتح، ولم يمكثوا إلا سنتين؛ لأن صلح الحديبية وقع من ذي القعدة عام ست، وغزو النبي صلى الله عليه وسلم لهم في فتح مكة وقع في رمضان عام ثمان، وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء والمؤرخين، فأقاموا سنتين، ونقضوا العهود، إلا أن هذا الصلح كان فتحاً عظيماً على المسلمين؛ لأن الصحابة انتشروا في قبائلهم، ووجدت الدعوة إلى الله طريقها، فاتصل المسلم بالكافر يدعوه إلى الإسلام، فكثر الإسلام في أقطار الجزيرة العربية، ومما يوضح هذا أن أهل بيعة الرضوان التي وقعت في صلح الحديبية، الذين بايعوه تحت شجرة الحديبية -لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض أصحاب المغازي والمؤرخين أنه أراد أن يرسل بالهدايا إلى مكة-، وقال لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «اذْهَبْ بِهَا إِلَى مَكَّةَ». فقال له عمر: إن بني عدي بن كعب -يعني قبيلة عمر من قريش- لا يستطيعون أن يحموني من قريش، ولكني أدّلك على رجل عزيز في مكة لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه، وهو عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. فأرسل عثمان بالهدايا لينحرها بالحرم، فتلقى له بنو عمه من بني سعيد بن العاص، وقالوا له (¬1): أَقبِلْ وأدبِرْ ولا تَخَفْ أحداً ... بَنُو سَعِيدٍ أَعِزَّةَ الحَرَمِ وجاء، وقالوا له: إن شئت طُف بالبيت. فقال: والله لا أطوف ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (159) من سورة الأنعام.

ببيت مصدود عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم (¬1)، وكان هذا مما يدل على شرف عثمان (رضي الله عنه) لأنه امتنع أن يطوف؛ لأن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ممنوع من الطواف وهو محرم. ثم إن قائلاً قال: إن قريشاً قتلوا عثمان بن عفان -وهو كاذب- فسمع بها المسلمون فقالوا: قُتِلَ عثمان!! قالوا: لما قتلوا عثمان ما هنالك إلا القتال والموت!! فبايعوه بيعة الرضوان تحت سمرة الحديبية، وهي الشجرة التي قال الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: الآية 18] ومحل الشاهد من هذه القصة، وأن صلح الحديبية كان أول فتح على المسلمين، وأول انتشار للإسلام، أن أهل بيعة الرضوان كانوا ألفًا وأربعمائة تقريباً، كما ثَبَتَ ذَلِكَ صَحِيحاً عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما غَزَا فتح مكة غزاه بآلاف متعددة، غزاه بعشرة آلاف مقاتل، فدل هذا على أن هذه العشرة الآلاف كانت من مزايا صلح الحديبية حيث وجدت الدعوة طريقها، واتصل المسلمون بالكفار فَدَعَوْهُمْ إلى الإسلام فانتشر الإسلام في المسلمين؛ ولذا كانت الهجرة بعد صلح الحديبية أقل عظماً وأخف وقعاً مما كانت قبل ذلك؛ لأنه في ذلك الوقت جازت مخالطة المسلم لقبيلته ليدعوهم إلى الإسلام، فخف شأن الهجرة من ذلك الوقت؛ لأنها كاد الله أن يُغني عنها، فلما غزا النبي صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان من سنة ثمان، وفتح مكة، قال: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» (¬2). وهذه الهجرة انقطعت بالفتح وخفت بالحديبية؛ ولذا قال فيه: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ} أي: بعد أن خف ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (72) من هذه السورة.

شأن الهجرة بصلح الحديبية، واتصل المسلمون بالكفار، وانتشر المسلمون في أقطار الجزيرة العربية، وهذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ} [الأنفال: الآية 75] قبل فتح مكة وبعد صلح الحديبية، كما قاله بعض العلماء. {فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} معكم وينالهم الفضل العظيم، وإن كان شرف الأسبقية لا يناله من جاء بعدهم كما قال: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: الآية 10]. {فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي: هم من جملتكم وإن كان بعضكم أفضل من بعض. ثم قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} (أولوا الأرحام) معناه: أصحاب الأرحام، وهم ذوو القرابات. و (أولوا) اسم جمع لا واحد له من لفظه، هو يُعرب إعراب الجمع المذكر السالم، يرفع بالواو وينصب ويخفض بالياء، وهو من الأسماء الملازمة للإضافة. والأرحام: جمع رحم، والرحم مؤنثة، وشذ قوم هنا وقالوا: إن المراد بها أرحام العصبات خاصة، وممن نصر هذا القول: أبو عبد الله القُرْطُبِي في تفسيره (¬1). وهو ليس بصواب، وما استدلوا به في ذلك لا ينهض حجة؛ لأنهم قالوا: إن العرب كثيراً ما تُطلق الرحم على قرابة العصبات دون قرابات غيرهم، قالوا: تقول العرب: وصلتك رحم. يعنون به رحم العصبات لا غيرها. وقالت قتيلة بنت الحارث، أو بنت النضر بن الحارث في رجزها المشهور لما قتل ¬

(¬1) تفسير القرطبي (8/ 8).

النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث في رجوعه من بدر -كما أوضحنا قصته في أول هذه السورة الكريمة سورة الأنفال- قالت في شعرها، تقول (¬1): ظَلَّتْ سُيوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... للهِ أَرْحَامٌ هُناكَ تشقَّقُ فصرحت بأن مرادها بالأرحام بنو الأب، يعني مِنْ بَنِي عَمِّهِ وعَصَبَتِهِ. وهذا يجوز، ولكنه لا ينفي غَيْرَهُ مِنْ إِطْلاق ذوي الأرحام على جميع القَرَابَات (¬2). وهذه الآية ثبت في الصحيح وغيره -ولا يكاد يُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَ العُلَمَاءِ- أنها نسخت للموارثة التي كانت تقع بالهجرة والمؤاخاة والحلف؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة ولا يرث القريب من قريبه شيئاً إذا كان لم يهاجر، كما تقدم في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: الآية 72] وأن الله نسخ ذلك بالقرابات، وأن المراد: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} أي: أصحاب القرابات من قرابة الأب والأم، بعضهم أولى ببعض في الميراث؛ أي: من المهاجرين الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار كما هو معروف، فنسخ الله ذلك الميراث أولاً بميراث القريب قريبه، والولي وليه. {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} أي: في الميراث. {فِي كِتَابِ اللَّهِ} قال بعض العلماء: المراد بكتاب الله أي: في حكم الله وأمره الذي كلف به خلقه وألزمهم إياه، والعرب كل شيء ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (12) من سورة الأنفال. (¬2) انظر: الأضواء (2/ 418).

مكتوب مؤكد تسميه كتاب الله. [10/ب] / وقال بعض العلماء: كتاب الله: هو اللوح المحفوظ لأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ (¬1) كما قال تعالى: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ... } [الأحزاب: الآية 6] فآية الأحزاب كأنها بَيَّنَتْ آيَةَ الأنفال هذه، وقال بعض العلماء: المراد بكتاب الله: القرآن؛ لأن الله بيّن المواريث في كتاب الله في القرآن في سورة النساء بيّنها بآية الصيف وآية الشتاء، فآية الشتاء هي: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: الآية 11] إلى آخر الآيات، وآية الصيف هي التي في آخر السورة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء: الآية 176]. وقد قدمنا (¬2) أن الكتاب بمعنى المَكْتُوب، وأن إِتْيَان (الفِعَال) بمعنى (المفْعُول) مسموع في كلام العرب موجود في أوْزَان مَعْرُوفة، كَكِتَاب بمعنى مكتوب، ولباس بمعنى ملبوس، وإله بمعنى مألوه، أي: معبود، وإمام بمعنى مُؤتم به. وقد قَدَّمْنَا (¬3) أن مادة الكاف والتاء والباء في لغة العرب (كَتب) أن معنى هذه المادة في اللغة التي نزل بها القرآن معنى (كتب): ضم وجمع، فالكَتْب في لغة العرب معناه: الضم والجمع، وكل شيء ضممته وجمعت بعضه إلى بعض فقد كتبته، ومنه سميت الكتيبة من الجيش؛ لأنها قطعة عظيمة ضُمَّ بعضها إلى بعض، وجُمع بعضها مع بعض، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 90). (¬2) مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

حتى صارت جملة عظيمة من الجيش، ومنه قول نابغة ذبيان (¬1): ولا عَيبَ فيهم غَيرَ أن سُيُوفَهم ... بهنَّ فُلُولٌ من قِراعِ الكَتَائِبِ ومن هذا المعنى سُمِّيَت الكتابة كتابة؛ لأنك تضم نقش حرف إلى حرف إلى حرف حتى يتألف من مجموع هذا نقوش تُقْرأ بها ألفاظ؛ ولأجل هذا قيل للخياطة (كَتْب) فالخياط يسمى كاتباً؛ لأنه يضم أطراف الأديم بعضها إلى بعض، وأطراف الثوب بعضها إلى بعض فيخيطها، فالخياطون كُتّاب، وفي لُغَز الحريري (¬2): وكَاتِبِينَ وما خَطَّتْ أَنَامِلُهم ... حرفاً ولا قرءوا ما خُطَّ في الكُتبِ يعني: الخياطين، ومنه قيل للسير الذي تُشد به الرقعة في السقاء: كُتْبة، وقيل لنفس الرقعة كُتبة؛ لأنها تضم في السقاء يُرقع بها، ومنه قول غيلان بن عقبة ذي الرمة (¬3): ما بَالُ عَيْنَيْكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ ... كأنَّهُ مِنْ كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ ... وفْرَاءَ غَرْفِيَّة أَثْأَى خَوَارِزَهَا ... مُشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ يعني: ماء يسيل ضيعته الرقع والسيور المشدودة بها الرقع في السقاء يسيل منها، شبَّه دمعه به. ومن تسمية الخياطين (كتَّابين) قول ابن دارة يهجو فزارة (¬4): ¬

(¬1) السابق. (¬2) تقدم هذا الشاهد عد تفسير الآية (38) من سورة الأنعام. (¬3) تقدم هذا الشاهد في الموضع السابق. (¬4) تقدم هذا الشاهد في الموضع السابق.

لا تأْمَنَنَّ فَزَاريّاً خَلوتَ به ... على قَلُوصِكَ واكْتُبها بأسْيَارِ يعني: خِط فرجها بأسيار لئلا يزني بها. هذا أصل معنى الكتابة. وجمهور العلماء على أن معنى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي: في حُكْمِ اللهِ الذي هو حكمه الذي استقر عليه أمره، أن الميراث بالرحم والقرابات لا بالهجرة والمؤاخاة، فهذا نسخ هذا كما هو الذي عليه جمهور العلماء {فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: الآية 75]. اختلف العلماء في المراد بـ {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} في هذه الآية (¬1)، فذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بأولي الأرحام هم خصوص الذين أعطاهم الله مواريث من عصبات، أو أصحاب فروض، وأن هذه الآية بينتها آيات المواريث، وأن من لم يبيّن الله له نصيباً في كتابه لا شيء له ولا يدخل في هذا، وهذا قال به جماعة من العلماء، وممن ذهب إليه: مالك والشافعي (رحمهم الله)، قالوا: لا ميراث إلا لمن سمّى الله له شيئاً، والمراد بـ (أولوا الأرحام) هذا مجمل بيّنته آيات المواريث، فلا ميراث لمن لم يجعل الله له سهماً. ومن أصرح أدلتهم في هذا حديث: «إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (¬2) ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 90)، القرطبي (8/ 8)، المغني (9/ 82)، ابن كثير (2/ 330)، الأضواء (2/ 418). (¬2) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، ومنهم: 1 - أبو أمامة (رضي الله عنه)، عند أحمد (5/ 267) وأبي داود في الوصايا، باب: ما جاه في الوصية للوارث. حديث رقم: (2853) (8/ 72)، والترمذي في الوصايا، باب ما جاء: «لا وصية لوارث». حديث رقم: (2120) (4/ 433)، وابن ماجه في الوصايا، باب: لا وصية لوارث، حديث رقم: (2713) (2/ 905)، والبيهقي (6/ 264)، والطيالسي (1127). وانظر التلخيص (3/ 92) وحسَّن الحافظ إسناده، ونصب الراية (4/ 403)، والإرواء (6/ 88). 2 - عمرو بن خارجة (رضي الله عنه)، عند أحمد (4/ 186، 187، 238 - 239)، والدارمي (2/ 302) والترمذي في الوصايا، باب ما جاء: «لا وصية لوارث». حديث رقم: (2121) (4/ 434) وابن ماجه في الوصايا، باب: لا وصية لوارث. حديث رقم: (2712) (2/ 905)، والبيهقي (6/ 264)، والطيالسي (1217)، والدارقطني (4/ 152). وانظر: التلخيص (3/ 92)، نصب الراية (4/ 403)، الإرواء (6/ 88). 3 - أنس بن مالك (رضي الله عنه)، عند ابن ماجه في الوصايا، باب لا وصية لوارث، حديث رقم: (2714) (2/ 906)، والبيهقي (6/ 264)، وابن عدي في الكامل (4/ 1575). وانظر: التلخيص (3/ 92)، نصب الراية (4/ 404)، الإرواء (6/ 89). 4 - ابن عباس (رضي الله عنهما) (بلفظ مقارب) عند البيهقي (6/ 263)، الدارقطني (4/ 97، 98، 152)، وابن عدي في الكامل (1/ 307)، (4/ 1570). وانظر: التلخيص (3/ 92) (وحسن إسناده)، ونصب الراية (4/ 404)، الإرواء (6/ 89، 96). 5 - جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما). عند الدارقطني (4/ 97)، وقال: «الصواب: مرسل» اهـ وابن عدي في الكامل (1/ 202). وانظر: التلخيص: (3/ 92)، نصب الراية (4/ 404)، الإرواء (6/ 92). 6 - علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) (بلفظ مقارب) عند الدارقطني (4/ 97)، والبيهقي (6/ 267)، وابن عدي (7/ 2511). وانظر: التلخيص (وضعف إسناده) (3/ 92)، نصب الراية (4/ 405)، الإرواء (6/ 94). 7 - عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) عند الدارقطني (4/ 98)، وابن عدي (2/ 817). وانظر: التلخيص (2/ 92)، نصب الراية (4/ 404)، الإرواء (6/ 91، 97). 8 - معقل بن يسار (رضي الله عنه)، عند ابن عدي (5/ 1853). وانظر: التلخيص (3/ 98). 9 - زيد بن أرقم والبراء (رضي الله عنهما). عند ابن عدي (6/ 2349). وانظر: نصب الراية (4/ 405). 10 - مجاهد (مرسلاً) عند البيهقي (6/ 264). وانظر: التلخيص (3/ 96). 11 - جعفر بن محمد عن أبيه (مرسلاً) عند الدارقطني (4/ 152).

قالوا: هذا الحديث فيه كلام معروف، والتحقيق أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج، بيّن النبي فيه أن الله أعطى كل ذي حق حَقَّهُ، قالوا: نص هذا الحديث على أنَّهُ مَا بَقِيَ لصاحب حقٍّ حَقٌّ أبداً إلا أعطاه الله إيَّاهُ، فالَّذِي لم يُسَمَّ لَهُ حق فليس له شيء، وهذا معروف، وممن ذَهَب إلى هذا من الأئمة: مالك والشافعي. وقالت جماعة آخرون: المراد بأولي الأرحام: مَنْ لا مِيرَاثَ لهم بفرض ولا تعصيب، وأنهم يرثون من لا وارث له، واستدلوا بهذه الآية الكريمة وبأحاديث أُخر، منها ما هو ثابت في ميراث الخال، ومنها بعض جاء في ميراث العَمَّة والخالة، والذين قالوا هذا قالوا: إن هؤلاء يصدق عليهم (أولو الأرحام) بالوَضْعِ العَرَبِيّ، فلا

يجوز إخراجهم منه، قالوا: ولأنَّهُمْ من جملة المسلمين، وهم يزيدون بقرابة، ولو فَرَضْنَا أنه لبيت المال كان لخصوص المُسْلِمِينَ، فمن أدلى بسببين وهما الإسلام والقرابة أولى ممن يُدْلِي بسبب واحد وهو الإسلام. والذين قالوا هذا قالوا: إن المراد بأولي الأرحام مَنْ لاَ فَرْضَ لهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ ولَيْسُوا بعصبة، وهم أحد عشر حيّزا معروفة عند العلماء، وممن قال بتوريث أولي الأرحام بهذا المعنى: الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- وأحمد بن حنبل -رحمه الله- وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار. والذين قالوا بتوريث أولي الأرحام معروف أنهم اختلفوا في كيفية توريثهم اختلافاً متشعباً يرجع إلى أمرين (¬1): أحدهما: قَوْلُ مَنْ يقال لهم: أصحاب التَّنْزِيل. والثاني: قول من يُسمون بأصحاب القرابات. وأصحاب التنزيل: هم الذين من على مذهبهم أحمد بن حنبل وأصحابه. وأصحاب القرابات: هم الذين مشى عليهم أبو حنيفة وأصحابه، والذين قالوا بالتنزيل قالوا: إن كل واحد من أولي الأرحام يُنَزَّل منزلة من يدلي به، فيُعطى ميراث من يدلي به، فإذا كان واحداً أخذ جميع المال، وإذا كانوا جماعة وكانوا نازلين قُرّبُوا درجة درجة ثم نُظر جميع من يدلون به وعُرف ميراث كل واحد منهم فأُعْطِيَ كل واحد منهم نصيب من يدلي به، وهذا معروف، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد. ¬

(¬1) انظر: المغني (9/ 85)، الأضواء (2/ 424).

وأما أصحاب القرابات الذين ذهب إلى مذهبهم أبو حنيفة (رحمه الله) فهم يعملون بالأقرب فالأقرب، قالوا: ما دام أبو الإنسان يوجد شيء من أولاده كأولاد بناته وأبناء بناتهم ونحو ذلك لا يعطى شيء يدلي بجده ويعطى بنو جد دنيه قبل الجد الذي فوقه وهكذا، ولم يزل يُعطى من يدلي بمن هو أقرب ثم من هو أقرب حتى ينتهي الأمر في ذلك. وتفاصيل مذاهبهم معروفة في فروعهم، رحم الله الجميع.

تفسير سورة التوبة

تفسير سورة التوبة [1/أ] / يقول الله (جل وعلا): {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} [التوبة: الآيات 1 - 4]. نزلت هذه السورة الكريمة عام تسع، رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكان بعض الصحابة يقول: آخر سورة نزلت بتمامها من القرآن براءة (¬1). واعلم أن الصحابة (رضي الله عنهم) لم يكتبوا في المصاحف العثمانية سطر {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قبل هذه السورة الكريمة، مع أنهم كتبوه في كل سورة من سور القرآن غير ¬

(¬1) البخاري عن البراء (رضي الله عنه)، كتاب التفسير، باب {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } حديث رقم: (4654) (8/ 316).

سورة التوبة هذه، والعلماء لهم أقوال معروفة في سبب [عدم] (¬1) كتب {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (¬2). قال بعض العلماء: كانت سورة براءة طويلة قدر سورة البقرة، فنسخ الله أولها، فلما سقط أولها وكانت فيه البسملة سقطت البسملة مع المنسوخ الساقط منها. وقال بعض العلماء: البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف والقتال ونقض العهود؛ فلذا لم تكتب فيها {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وقال بعض العلماء: لما أرادوا كتب المصاحف العثمانية اختلفوا في براءة، فقال بعضهم: هي والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم: كلتاهما سورة مستقلة، فلما اختلفوا جعلوا بياضاً بين السورتين ليدل على قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنهما سورتان، وتركوا سطر {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ليدل على قول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وقامت حجة كل منهما في المصحف الكريم. وأظهر الأقوال هو ما روي عن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) رواه بعض أصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: سألت عثمان بن عفان (رضي الله عنه) لمَ عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وجعلتموها في السبع الطوال؟! ¬

(¬1) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: القرطبي (8/ 61)، ابن كثير (2/ 331)، الأضواء (2/ 426).

فأجابه عثمان (رضي الله عنه) بما معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن، تنزل عليه السور والآيات ذوات العدد فيأمر بعض من يكتب له ويقول: ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا، وضعوا كذا في محل كذا، وكانت [«الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة» وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقُبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا أنها منها، وظنت أنها منها ... ] (¬1) كأنهما سورة واحدة، فمن ثم واليت بينهما وجعلت بينهما فصلاً، ولم أكتب بينهما {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (¬2). وهذه السورة الكريمة نزلت عام تسع [وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث أبا بكر (رضي الله عنه) ليقيم للناس الحج] (¬3) وأرسل في أثره علي بن ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام نقلتها من بعض روايات الحديث. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 57،69)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 100)، وفي غريب الحديث (3/ 147 - 148)، (4/ 104) وأبو داود في الصلاة، باب من جهر بها، رقم: (771) (2/ 495)، والترمذي في التفسير، باب ومن سورة براءة، رقم: (3086) (5/ 272)، وابن حبان (الإحسان 1/ 126)، والحاكم (2/ 221، 330)، والبيهقي في البكرى (2/ 42)، والدلائل (7/ 153)، وابن أبي داود في المصاحف ص39، وابن جرير (1/ 102)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 201 - 202)، وفي مشكل الآثار (1/ 38)، (2/ 151 - 156)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 396)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 207) وعزاه لابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وضعفه أحمد شاكر في تعليقه على: المسند (1/ 329)، ابن جرير (1/ 102). (¬3) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

أبي طالب (رضي الله عنه) على ناقته العضباء، وأمره أن يكون هو المتولي للأذان ببراءة في موسم الحج، وأن يقول للناس: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فكان علي بن أبي طالب ذهب في أثر أبي بكر فأدركه، قال بعض العلماء: أدركه بالجحفة، فقال له: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور. وأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله بصدر هذه السورة الكريمة يُنادي به في الموسم (¬1) -في موسم الحج- عام تسع من الهجرة، فكان أبو بكر هو أمير الحج الذي يُقيم للناس حجهم، وكان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يؤذن في الناس بأول هذه السورة الكريمة؟ بعضهم يقول: بأربعين آية منها. ¬

(¬1) بَعْثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً (رضي الله عنه) في حَجِّةِ أَبِي بَكْرٍ (رضي الله عنه) رواه جماعة من الصحابة، منهم: 1 - أبو هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الصلاة، باب ما يستر من العورة، حديث رقم: (369) (1/ 477) وأطرافه (1622، 3177، 4363، 4655، 4656، 4657)، ومسلم (من غير ذكر علي رضي الله عنه) في الحج، باب: لا يحج البيت مشرك .. حديث رقم (1347) (2/ 982). 2 - أنس (رضي الله عنه)، عند الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة براءة، حديث رقم (3090) (5/ 275). 3 - ابن عباس (رضي الله عنه)، عند الترمذي في التفسير، باب: (ومن سورة براءة) حديث رقم (3091) (5/ 275) وانظر: الإرواء (4/ 303). 4 - زيد بن أُثَيْع أنه سأل عليّاً (رضي الله عنه) ... عند أحمد (1/ 79)، والدارمي (1/ 394)، والحميدي (48) والترمذي في التفسير. باب (ومن سورة براءة) حديث رقم: (3092) (5/ 276) وانظر الإرواء (4/ 301). وأخرجه أحمد (1/ 3) عن زيد بن أُثَيْع عن أبي بكر (رضي الله عنه). 5 - جابر (رضي الله عنه)، عند النسائي في الحج، باب الخطبة يوم التروية، حديث رقم (2993) (5/ 247).

وبعضهم ينقص، وبعضهم يزيد، والروايات متفقة على أنه أرسله بهذه السورة الكريمة، بشيء منها يؤذن بها في المواسم. ومضمون ما كان يؤذن به عليٌّ (رضي الله عنه) راجع إلى أربع جمل: إحداها: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان له عهد فعهده إلى مُدَّتِهِ. وكان يؤذن في الناس بهذا. فعلم الكفار أنه لا عهود بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العام القابل وهو عام عشر لم يحج البيت كافر، ولم يطف بعدها عريان، فحجّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله: {بَرَاءةٌ} البراءة مصدر كالشناءة والدناءة. وإعرابه (¬1): قال بعض العلماء: هو مبتدأ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وقال بعض العلماء: لا مانع من كون قوله: {بَرَاءةٌ} مبتدأ، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة لأنها وُصفت بقوله: {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كما قال (¬2): ........................... ... ورَجُلٌ من الكِرَامِ عندنَا وأن قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم} خبر المبتدأ، والوجهان من الإعراب كلاهما صحيح، والمعنى: هذه براءة من الله. أو براءة من الله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. ولفظة (من) في قوله: ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 95)، الدر المصون (6/ 5). (¬2) هذا هو الشطر الثاني من أحد أبيات الخلاصة ص17، وشطره الأول: «وَهَلْ فَتًى فِيكُمْ فَمَا خِلٌّ لَنَا» ... .......................................

{مِّنَ اللَّهِ} هي المعروفة بابتداء الغاية، أي: ابتداء هذه الغاية ومنشؤها كائن من الله. ومعنى براءة الله منهم: أنه (جلّ وعلا) برئت ذمته من عهودهم فلا يلتزم لهم عهداً ولا ذمة؛ لأنهم نقضوا العهود أو كادوا. واعلم أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما غَزَا غَزْوَةَ تبوك كان المنافقون يرجفون أراجيف كثيرة، فسمع بها الكفار فأرادوا نقض العهود وتَغَيَّرُوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت بَيْنَهُ وبَيْنَ بَعْضِ القبائل عهود ومواثيق، مصالحات ومهادنات، فلما سمع الكفار بأراجيف المنافقين نقض بعضهم، وبعضهم خيف منه النقض، فأنزل الله براءته من جميع الكفار إلا ما سيأتي استثناؤه إن شاء الله. واعلم أن الكفار أقسام (¬1): منهم من كان له عهد مؤجل بأجل، وهؤلاء قسمان: من عهده أقل من أربعة أشهر، ومن عهده أكثر من أربعة أشهر. ومنهم من لا عهد له أصلاً، ومن له عهد مطلق لم يُقَيَّد بِزَمَنٍ مُعَيَّن، فهذه فرق الكفار، وهذه الآية تَضَمَّنَتْ نَقْضَ العهود في هذه كلها إلا في صورة واحدة على التحقيق. أما من كان له عهد إلى مدة أقَلّ مِنْ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فالتَّحْقِيقُ عند جمهور العلماء أنه يرفع عهده إلى أربعة أشهر ثم بعد الأربعة أشهر هو حرب لله ولرسوله، ومن كان له عهد مطلق فله أربعة أشهر يسيح فيها ويذهب في الأرض مقبلاً ومدبراً آمناً، ثم بعد انتهاء تلك الأربعة الأشهر هو حرب لله ولرسوله. ومن لم يكن عنده عهد أصلاً فقال بعض العلماء: له هذه الأربعة الأشهر. وهذا أظهر القولين، بناء على أن قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 96)، القرطبي (8/ 64)، الأضواء (2/ 428).

الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: آية 5] أنها أشهر الإمهال هذه الأربعة، لا الأشهر الحُرُم الأربعة. وقال بعض العلماء: هي الأشهر الحرم الأربعة، وعلى ذلك لم يبقَ من عهده إلا خمسون يوماً، عشرون من ذي الحجة، والشهر الذي بعده الذي هو المحرم، فتنقضي عهودهم على خمسين يوماً على هذا القول. فقوله: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ} هذه البراءة كائنة من الله {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم} يعني النبي وأصحابه. وإنما خاطبهم جميعاً وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى عقد العهود لأنهم أتباعه وأعوانه، وهم معه في كل شيء من حَلّ وعقد، فكل حلّ وعقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهم أصحابه وأعوانه وأتباعه، فهم معه فيه؛ ولذا قال: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الكفار الذين يعبدون الأصنام ويشركون بالله (جل وعلا). والتحقيق: أن هذه ما نزلت إلا في غزوة تبوك، وما زعمه ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما من أن صدر هذه السورة نزل قبل عام الفتح، بعد نقض قريش وبني بكر لمعاهدة صلح الحديبية؛ فهو خلاف الظاهر، مع أنه قال به ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما (¬1). قالوا: كان أول هذه السورة نزل قبل هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد صلح الحديبية بينه وبين كفار قريش بواسطة سهيل بن عمرو العامري (رضي الله عنه) كان خزاعة دخلوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وكان ذلك الصلح دخلت فيه قبائل من بني ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 64 - 65).

كنانة منهم بنو الديل ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو مدلج بن بكر بن كنانة، وبنو ضمرة بن بكر بن كنانة، فهي أربع قبائل من كنانة دخلوا في ذلك الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قبل ذلك بين كنانة وخزاعة دم، وكان الدم في خصوص بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة من قبائل كنانة، فانتهزوا الفرصة وعدوا على خزاعة، وأعانهم قريش على خزاعة الإعانة المشهورة التي هي سبب غزوة الفتح؛ لأن بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة لما عدوا على خزاعة ونقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصلحه الذي أبرمه معهم في الحديبية، وأعانتهم قريش على ذلك بالسلاح، بل بعض رجال قريش دخل معهم في قتالهم، كما قاله بعض العلماء، وأرسل خزاعة عمرو بن سالم (رضي الله عنه) إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يستنصره، وجاءه هنا في المدينة - حرسها الله - وأنشده رجزه المشهور (¬1): يا رَبِّ إني ناشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا كُنْتَ لَنَا أَباً وَكُنَّا وَلَدَا (¬2) ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تُنْجِي أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا فَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا ... فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا أَبْيَض مِثْل الشَّمْسِ يَجري صُعدَا ... في فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يجري مُزْبدا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنفال، ووقع فيها هنا تقديم وتأخير كما وقع في الموضع السابق. وقد أثبتنا نص الأبيات هناك في الهامش فليراجع. وانظر: القرطبي (8/ 65). (¬2) في ابن هشام (1235): «قد كنتم وُلْداً وكنا والداً».

إن سِيمَ خسْفاً وجْهُهُ تربَّدَا ... هُمْ بَيَّتُونا بالوَتِيرِ هُجَّدَا ... وقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا ... فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أَيَّدَا فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ» (¬1). وكان ذلك سبب غزوة [الفتح] (¬2). هكذا قالوا إن هذا هو الذي جاءت فيه هذه الآيات، وأن قريشاً وبني الديل من بني بكر بن كنانة نقضوا وبَقِيَتْ قَبَائِل كِنَانَة الآخرين، وهم: بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة، وبنو مُدْلِج، وبنو ضمرة لم ينقضوا العهود كما سيأتي في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} [التوبة: آية 7] هكذا قالوا أنها نزلت قبل غزوة الفتح. والتحقيق أنها ما نزلت إلا بعد غزوة تبوك، وأرسل النبي بها أبا بكر (رضي الله عنه) ينادي في الناس بها، ثم أتبعه علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). ومعنى الآية الكريمة: هذه براءة من الله، أو براءة من الله إلى الذين عاهدتم من المشركين جميعاً. يعني: من كان له منهم عهد أقل من أربعة أشهر، ومن لا عهد له أصلاً، ومن كان له عهد مطلق، ومن له عهد مؤقت إلا أنه خيف منه أن ينقض؛ لأن المُعاهَد من المشركين إذا خيف منه النقض وظهرت منه علامات ذلك وبوادره وجب إعلامه بنبذ العهد إليه ونقض عهده، كما قدمناه في سورة الأنفال في قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58)} [الأنفال: آية 58] فعرفنا أن قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنفال. (¬2) في الأصل: «بدر» وهو سبق لسان.

الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: آية 1] صادق بمن لهم عهد غير مؤقت، وعهد مؤقت بأقل من أربعة أشهر، وعهد مؤقت بأكثر منها إن خيفت منهم الخيانة، بقي قسم واحد هو الآتي استثناؤه مرتين وهو من كان له عهد مؤقت معين محدد بوقت معين أكثر من أربعة أشهر، وهو ثابت على عهده لم ينقض ولم يخف منه نقض لثبوته على عهده، فهؤلاء باقون على عهدهم على التحقيق الذي لا شك فيه. وما قاله بعض العلماء من نقض عهودهم جميعاً؛ خلاف التحقيق؛ لأن الله يقول: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: آية 4] ويقول: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} [التوبة: آية 7] كما سيأتي إيضاحه؛ لأن المراد بالذين عاهدوه عند المسجد الحرام عند الحديبية وأُطلق عليها: «المسجد الحرام» قال بعض العلماء: لأن بعضها الذي وقعت فيه المعاهدة كان من الحرم، والمسجد يطلق غالباً على جميع الحرم، وسيأتي هناك -إن شاء الله- أن هؤلاء الذين عاهدوا دخل فيهم قبائل من كنانة مع قريش، وأن الذي غدر: بنو الديل من كنانة فقط وقريش، وبقية قبائل كنانة الأخرى ثابتة على عهدها. وهذا معنى قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: آية 1]. ثم هنا التفات من الغيبة إلى الخطاب، أي فقولوا للذين عاهدتم من المشركين: سيحوا في الأرض أربعة أشهر (سيحوا في الأرض) معناه: اذهبوا في أرض الله مقبلين ومدبرين حيث ما أردتم، وأين أحببتم أن تتوجهوا، آمنين لا خوف عليكم، لا ينالكم منا سوء؛ لأنها أشهر أمان وإمهال لا ينالكم منا فيها سوء.

والحكمة في أن الله (جل وعلا) أجَّلهم هذه الأشهر الأربعة ليروا رأيهم، ويتأملوا في شأنهم لعل الله أن يهديهم إلى صوابهم. وهذا معنى قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ}؛ أي: اذهبوا في جوانب أرض الله مقبلين ومدبرين آمنين، لا خوف عليكم في مدة هذه الأشهر الأربعة. ثم قال: {وَاعْلَمُواْ} أي: أيقنوا علماً يقيناً لا يتطرق إليه الشك {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} {مُعْجِزِي} أصله: معجزين بالنون، فحذفت النون للإضافة. والمعجزون جمع المعجز، وهو اسم فاعل (أعْجَزه) العرب تقول: «أعجزه يُعجزه» إذا صار غير قادر عليه. أنكم لا تفوتونه ولا تتعذرون عليه، بل أنتم في قبضته وتحت سلطانه وقهره، هو قادر عليكم واعلموا أيضاً {أَنَّ اللَّهَ} جل وعلا {مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 2] المخزي: اسم فاعل أخزى، ومعنى إخزائه للكافرين: أنه مذلهم ومهينهم، يذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، ويهينهم بذلك وفي الآخرة بعذاب الله، كما سيأتي في قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} الآية [التوبة: آية 14] وهذا معنى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 2]. ثم قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جملة معطوفة على جملة؛ لأن جملة: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} [التوبة: آية 3] معطوفة على قوله: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} [التوبة: آية 1] ويجوز في قوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ} من

الإعراب الوجهان الجائزان في (براءة) (¬1) يجوز أن يكون (أذان) خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا أذان من الله. ويجوز أن يكون (أذان) مبتدأ سوغ الابتداء فيه بالنكرة كونها وُصفت بقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. والأذان معناه: الإعلام، وهو اسم مصدر (أذَّن) (يؤذّن) (أذاناً)، (وآذن) (يوذن) (أذاناً) والعَرَب ربما جعلت (الفَعَال) قائماً مقام «التفعيل»؛ لأن العرب تقول: آذنته أعلمته، وأذنت أعلمت. ومعروف في علم التصريف أن (فعّل) بالتضعيف ينقاس مصدرها على (التفعيل)، ولكنه يُسمع كثيراً إتيان المصدر منها على (الفَعَال) كما قالوا: سلَّّم عليه سلاماً، أي: تسليماً. وكلّّمه كلاماً، أي: تكليماً. وطلَّقها طلاقاً، وبيَّنَهُ بياناً. إلى غير ذلك من الأوزان. وكذلك ربما جاء (الفعَال) في موضع (الإفعال) كقول العرب: آمنته أؤمِنه إيماناً: إذا جعلته في أمان. فإنهم يقولون: آمنه أماناً، وآذنه أذاناً، أي: أعْلَمَهُ إِعْلاَماً. والأذان في لغة العرب: الإعلام. قال بعض العلماء: هو الإعلام المقترن بنداء؛ لأن اشتقاقه من الأذن، لأن النداء يقع في الآذان فيحصل بذلك الفهم والإعلام، ومنه الأذان للصلاة؛ لأنه إعلام بها بنداء. وكون الأذان بمعنى الإعلام معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الحارث بن حِلّزة (¬2): آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ يعني أَعْلَمَتْنَا بِبَيْنِهَا. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (6/ 6). (¬2) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ} هذا الأذان كائن مبدؤه من الله ورسوله {إِلَى} جميع {النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: آية 3] أصل الحج في لغة العرب جرى على ألسنة العلماء أنهم يقولون: الحج في اللغة القصد (¬1). والحج في لغة العرب أخص من مطلق القصد؛ لأن الحج في اللغة لا يكاد تطلقه العرب إلا على قصد مُتَكَرِّر لأهمِّيَّة فِي المقْصُود. فَكُلّ حَجٍّ قَصْدٌ، ولَيْسَ كل قَصْدِ حَجّاً؛ لأن الحَجّ هو القَصْدُ المُتَكرر لأجل الأهمية الكائنة في المقصود. هذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول المخبَّل السعدي؛ حيث قال (¬2): ألَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ أَسْعَدَ أَنَّمَا ... تَخَطَّّاني ريْبُ المَنُونِ الأَكْبَرَا وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَان المُزَعْفَرا «سِبَّه» يعني به عمامته، أي: يقصدون عمامته -عبر بها عن شَخْصِهِ- قَصْداً كثيراً متكرراً لأهمية ما يرونه عنده من النوال، هذا أصل الحج. ومعروف أن الحج في اصْطِلاَح الشَّرْعِ (¬3): هو الأفعال والأقوال التي تُقَالُ في المنسك المعروف. قال بعض العلماء: وإنما قال له الأكبر؛ لأن العرب ربما كانوا ¬

(¬1) انظر: القاموس (مادة: الحج) 234، المفردات (مادة: حج) 218، المصباح المنير (مادة: حج) ص47. (¬2) البيتان في المشوف المعلم (1/ 231)، ولفظ البيت الأول فيه: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ أَنَّنِي ... تَخَطَّانِي رَيْبُ الزَّمَانِ الأَكْبَرَا (¬3) انظر: القاموس الفقهي ص (76 - 77).

يقولون: حج أصغر، وحج أكبر، يعنون بالأصغر: العمرة لنقصان أعمالها عن أعمال الحج (¬1). واختلف العلماء في يوم الحج الأكبر (¬2) فذهبت جماعة من العلماء إلى أن المراد به يوم عرفة. وعليه فَمَبْدَأُ النِّدَاءِ بالأربعة الأشهر كائن ابتداء تأجيله من يوم عَرَفَة. وقالت جماعة آخرون: هو يوم النحر. وخلاف العلماء في يوم الحج الأكبر هل هو يوم عرفة أو يوم النحر مشهور معروف، وكان بعض المحققين يختار أنه يوم النحر لأمور، منها: أنه جاءت بذلك روايات صحيحة، كرواية أبي هريرة في صحيح البخاري (¬3). وقالوا: ولأن أكثر أفعال الحج إنما تكون يوم النحر؛ لأنه هو اليوم الذي يطاف فيه طواف الإفاضة، وينحر فيه، ويحلق فيه، ويقضى فيه التفث، وأن يوم عرفة لا يختص ¬

(¬1) انظر: التمهيد (1/ 125)، ابن جرير (14/ 129)، وابن أبي حاتم (6/ 1747)، والبغوي (2/ 268)، وابن عطية (8/ 128)، والمجموع (8/ 223)، وابن كثير (2/ 332)، والدر المنثور (3/ 211)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص122. (¬2) انظر: سنن سعيد بن منصور (5/ 236 - 241)، التمهيد (1/ 125)، ابن جرير (14/ 131)، القرطبي (8/ 69)، المجموع (8/ 223)، تفسير البغوي (2/ 268)، تفسير ابن عطية (8/ 127)، تهذيب السنن لابن القيم (2/ 406)، زاد المعاد (1/ 54)، تفسير ابن كثير (2/ 332 - 335)، فتح الباري (8/ 321)، الدر المنثور (3/ 211)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص116. (¬3) ولفظه: «بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ... » البخاري في التفسير، باب {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَربَعَة أَشهر وَاعلَموا ... } حديث رقم: (4655) (8/ 317).

بشيء خاص من مناسك الحج؛ لأن الوقوف وإن كان ركناً من أركان الحج فنفس اليوم لا يختص به عن الليلة لإجماع العلماء على أن من وقف بعرفة ليلة النحر أن ذلك يجزئه، بعضهم يقول: يلزمه دم لفوات النهار، وبعضهم يقول: حجه كامل -كمالك وأصحابه- ولا دم عليه. وقولهم: «الحج عرفة»، قالوا: لا يُرَدّ عَلَى هَذَا؛ لأن عَرَفَةَ شَامِلٌ للَّيْلِ والنَّهَارِ، فالوقوف الذي هو الركن الأعظم في الحج يكون في الليل، ولا يشترط أن يكون في النهار، والكلام في خصوص اليوم. وقال بعض العلماء: يوم الحج الأكبر هو جميع أيام الحج، لأن العرب تقول: يوم صفين، ويوم الجمل، ويوم بُعَاث، وهو زمن يتناول أياماً معدودة متعددة، وأنه يشمل الجميع. وهذا أيضًا لا بأس به. وجمهور العلماء على أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة هي من يوم النحر، وأن انقضاءها في العاشر من ربيع الثاني؛ لأن هذه الأشهر الأربعة عشرون منها من ذي الحجة من يوم الحج الأكبر، ثم منها المحرم كاملاً، وصفر كاملاً، وربيع الأول كاملاً، وعشر من ربيع الثاني، فتتم هنالك الأشهر الأربعة، وعلى هذا جماهير العلماء. وقد اشتهر قول هنا عن الزهري لا شَكَّ فِي غَلَطِهِ، وإن كان قائله جَلِيلاً؛ لأنهم ذكروا عن الزهري (رحمه الله) أن أول هذه الأشهر الأربع أنه من ابتداء شوال، وأنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وتنتهي بانتهاء المحرم (¬1). وهذا لا يتمشى مع أن ابتداء ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 101)، وابن أبي حاتم (6/ 1747)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 412)، وذكره السيوطي في الدر (3/ 211) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.

الأذان صرح الله بأنه يوم الحج أكبر. فالتحقيق هو ما قاله الجمهور لا ما قاله الزهري (رحمه الله)، إن صح عنه فهو غلط منه. وهذا معنى قوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} عامة {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} هذا الإعلام هو إعلام بأن الله بريء من المشركين، ورسوله بريء منهم أيضاً، فالله بريء من المشركين بريء من ذمتهم وعهدهم، لا عهد لهم عليه يأمر به، ولم يلتزم لهم بشيء، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال لهم: {فَإِن تُبْتُمْ} عن ذنوبكم وكفركم وشرككم {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وصيغة التفضيل هنا ليست على بابها؛ لأن الكفر بالله لا خير فيه أصلاً، فلا معنى للتفضيل فيه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي: ثَبَتُّمْ على كفركم وما أنتم عليه من الشرك. {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} فسرناه الآن. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} اعلم أن التحقيق أن (البشارة) في لغة العرب هي الإخبار بما يسر، والإخبار بما يسوء أيضاً. فمن أخبرته بما يسره فقد بشرته، ومن أخبرته بما يسوؤه فقد بشرته (¬1)؛ ولذا قال: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: آية 21] والقرآن في غاية الفصاحة والإعجاز، وإطلاق البشارة على الإخبار بما يسر معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): أَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي ... جَفَوْنِي وَقَالوا الْودُّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

وقول الثاني (¬1): يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي ... فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ هذا هو التحقيق أنها أساليب عربية، وأن البشارة تغلب للإخبار بما يسر، وأنها تطلق على الإخبار بما يسوء، هذا هو الظاهر، ومعلوم أن علماء البلاغة يقولون: إن البشارة حقيقة في الإخبار بما يسر، وأما البشارة بما يسوء فهي مما يسمونه الاستعارة (العِنَادِيَّة) المعروفة عندهم، وهي منقسمة إلى تهكُّمِيَّة وتمليحية كما هو معروف مُقَرَّر في علم البيان عند أهله (¬2). ونحن نقول دائماً: إن مثل هذا أساليب عربية نَطَقَت بها العرب، وكلها أسلوب عربي فصيح في محله، وهذا معنى قوله: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: آية 21] الظاهر أن تَنْكِيرَ العَذَابِ هنا للتفخيم والتعظيم، ومن المعاني التي يستجلب لها التنكير: التفخيم والتعظيم، ويدل على هذا قوله: {أَلِيمٍ} والأليم: (فَعِيل) بمعنى (مُفْعِل) أي: مؤلم. واعلم أن إتيان (الفَعِيل) بمعنى (المُفْعِل) واقع في القرآن وفي كلام العرب، فما ذكروا عن الأصمعي أن (الفعيل) لا يكون في اللغة بمعنى (المُفعل) فهو خلاف التحقيق (¬3). فمعنى أليم: مؤلم، أي: شديد الألم، وإتيان (الفعيل) بمعنى: (المُفْعِل) أسلوب عربي معروف يكثر في كتاب الله وفي لُغَةِ العَرَبِ، ومِنْ إِتْيَانِهِ في القرآن قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: آية 46] وقوله: {نَذِيرٌ} أي: منذر فهو (فعيل) ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عد تفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

بمعنى (مُفْعِل) {أَلِيمٍ}. بمعنى مُؤلم. وقوله: ضرب وجيع. بمعنى: مُوجِع، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وله أمثلة في القرآن كقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ} [البقرة: آية 117] أي: مبدعهما {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} أي: منذر، ومن نظائره من كلام العرب قول غيلان بن عقبة ذي الرمة (¬1): وَيَرْفَعُ مِنْ صَدْر شَمَرْدَلاَتٍ ... يصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ وقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي (رضي الله عنه) (¬2): أَمِنْ ريحانةِ الدَّاعي السَّميعِ ... يُؤَرِّقُني وأَصْحَابِي هُجُوعُ فقوله: «السميع» يعني: المسمع. وقوله في قصيدته هذه (¬3): وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ أي: ضرب موجع. وهذا معنى قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: آية 3]. وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 4]. قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ} استثناء من قوله: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: الآيتان 1، 2] هذه البراءة والتأجيل بخصوص أربعة أشهر لجميع الكفار المعاهدين وغيرهم {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم} [التوبة: آية 4] ثم وفوا لكم بالعهود ولم ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف. (¬3) السابق.

ينقصوكم شيئاً، وكان بعض العلماء يقولون (¬1): هؤلاء أهل مكة، ومعلوم أن أهل مكة نقضوا. والتحقيق أنها في قبائل من كنانة بقوا على عهدهم ولم ينكثوا فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفي لهم بعهدهم حتى تنتهي مدتهم، ومعلوم أن صلح الحديبية قد عاهد النبيّ فيه قبائل من كنانة، ذكرنا أن منهم بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبني ضمرة، وبني مدلج، وبني جذيمة بن عامر، وقد قَدَّمْنَا في تفسير سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} [النساء: الآيتان 89، 90] إن هؤلاء القوم الذين بينكم وبينهم ميثاق الذين شرطوا أن من وصل إليهم فحكمه كحكمهم، منهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم حيث عقد العهد لبني مدلج مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فهؤلاء القبائل كانت أربع قبائل من كنانة، وكان غيرهم عقد ذلك، كبني أسلم عقد لهم الصلح هلال بن عويمر الأسلمي، فهؤلاء لم ينقضوا. وجرى على ألسنة علماء التفسير (¬2) أنه في هذه الآية الكريمة وهي قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: آية 4] وفي الآية الآتية: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} [التوبة: آية 7] يقولون: هؤلاء الذين ثبتوا وأُمر النبي أن يفي لهم بعهدهم حتى تَنْقَضِيَ مدتهم هم خصوص بَنِي ضَمْرَة ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 133). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 71).

من قبائل بكر بن عبد مناة بن كنانة، ومنهم عمرو بن أمية الضمري المشهور. والتحقيق أن قبائل كنانة لم يُعرف أنه نقض منهم العهد إلا بنو الديل هم وقريش، أما قبائلهم الأخرى كَبَنِي جذيمة بن عامر وبني مدلج وبني ضمرة فلا يعلم أنهم نقضوا عَهْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وإن جرى على ألسنة العلماء أنها في خصوص بني ضمرة دون غيرهم من قبائل كنانة، ومعنى الآية الكريمة: هذا الحكم الذي ذكرنا من نقض العهود وتأجيلهم أربعة أشهر فقط، كل هذا في جميع المعاهدين {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} {لَمْ يَنقُصُوكُمْ} من الشروط التي اشترطتم عليهم شيئاً، ولم يخيسوا بشيء من عهدكم، ولم ينقصوكم مالاً ولا نفساً ولا دماً، بل ثَبَتُوا على عهدهم ولم ينقضوا، ولم يظاهروا عليكم أحداً، ولم يعينوا عليكم أحداً كقريش الذين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} ولا تعدوا عليهم حتى ينتهي عهدهم كاملاً إلى مدتهم التي اتفقتم أنتم وهم عليها أنها مدة الصلح والمهادنة بينكم حتى تنقضي. قال بعض العلماء: كان وقت نزول هذه البراءة بقي من عهد هؤلاء تسعة أشهر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي لهم بها (¬1). وهذا معنى قوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 4] ومن المتقين الذين يوفون بعهدهم ولا ينقضونه، فَدَلَّتِ الآيَةُ على أن الوفاء بالعهود وعدم النكث والنقض أنه من تقوى الله (جل وعلا) وهو كذلك. ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (5/ 8).

وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (¬1) أن المتقين جمع تصحيح للمتقي، وأن أصل هذه المادة من (وقى)، ففاء هذه المادة واو، وعينها قاف ولامها ياء. مادة التقوى فاؤها واو، وعينها قاف، ولامها ياء، فهي مما يسميه الصرفيون «اللفيف المفروق» هذا أصلها، إلا أنها دخلها تاء الافتعال كما تقول في قرب: اقترب، وفي كسب: اكتسب، وفي قطع: اقتطع، وفي «وقى» اوتقى. والقاعدة المقرَّرَة في التصريف: أن كل فعل (مثال) -أعني معتل الفاء بالواو- إذا دخله تاء الافتعال وجب إبدال الواو تاء، وإدغام التاء في التاء، فقيل فيها: «اتقى» هكذا (¬2). وأصل الاتِّقَاء في لغة العرب (¬3): هو أن تتخذ وقاية تكون بينك وبين ما تَكْرَهُهُ فَتَقِيكَ منه. تقول العرب: اتقيت الرمضاء بنعلي، واتقيت السيوف بمجني، ومنه قول نابغة ذبيان (¬4): سَقَطَ النَّصِيْفُ ولم تُرِدْ إسْقَاطَهُ ... فَتَنَاولتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ أي: جَعَلَتْ يَدَهَا وقايَةً بَيْنَنَا وبَيْنَ وَجْهِهَا. وتفسير من قال: (اتقتنا: استقبلتنا) تفسير بالمعنى الإجمالي لا بالحقيقة. وهذا أصله معنى التقوى. وهي في اصطلاح الشَّرْعِ: أن يجعل العبد وقاية بينه وبين عذاب رَبِّه، هذه الوقاية مركبة من شيئين هما: امتثال أمر الله، واجتناب نهي الله (¬5)، والوفاء بالعهود من ذلك؛ لأن الوفاء بالعهود امتثال لأمر الله، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

وترك النقض انتهاء عما نهى الله عنه. وهذا معنى قوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 4]. قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)} [التوبة: الآيات 5 - 8]. يقول الله (جل وعلا): {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)} [التوبة: آية 5]. اختلف العلماء في المراد بهذه الأشهر الحرم (¬1): فقال بعض العلماء: المراد بها الأشهر الحرم المعروفة الآتي ذكرها في قوله في هذه السورة الكريمة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: آية 36] وهذه الأشهر الأربعة الحرم ثلاثة منها سرد وواحد منها فرد، ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 134) القرطبي (8/ 72)، الأضواء (2/ 430).

فثلاثتها المتتابعة هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وآخَر: رجب الفرد. هذه هي الأشهر الحرم. وقال بعض العلماء: هذه هي المراد هنا في قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وعلى هذا القول فالباقي عن انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النداء بهذه الآيات من أول براءة في موسم الحج عام تسع، الباقي منها خمسون يوماً فقط، وهي العشرون الباقية من ذي الحجة [1/ب] وتمام المحرم، فبانقضاء الخمسين تنتهي على هذا القول./ وهذا القول قاله بعض العلماء، وهو مبني على أن تحريم الأشهر الحرم لم ينسخ، ومعلوم أن العلماء مختلفون في تحريم الأشهر الأربعة المذكورة هل هو باق إلى الآن أو نسخ (¬1)؟ فكانت جماعة كثيرة من العلماء يقولون: إنه منسوخ. واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر ثقيفاً في غزوة الطائف في ذي القعدة من عام ثمان، وهذا ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الزمن الذي حاصر فيه ثقيفاً في غزوة الطائف كان من ذي القعدة (¬2). قالوا: فلو لم ينسخ تحريم الأشهر الحرم لكف وانصرف عنهم بإهلال ذي القعدة. وكنا نرى هذا القول أَصْوَبَ، مكثنا كثيراً من الزمن ونحن ننصر هذا القول ونقرر أنه ¬

(¬1) انظر الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص206، الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 535)، ابن جرير (4/ 313)، القرطبي (3/ 43)، (8/ 134)، ابن كثير (2/ 355). (¬2) البخاري في المغازي، باب غزوة الطائف في شوال، حديث رقم: (4325) (8/ 44). ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة الطائف، حديث رقم: (1778) (3/ 1402) وليس في رواية الصحيحين ما يدل على أن بعض الحصار وقع في ذي القعدة. ولكن أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح (8/ 44).

الأصوب، ثم ظهر لنا بعد ذلك أن أصوب القولين وأولاهما بالصواب أن تَحْرِيم الأشهر الحرم باق لم ينسخ. ومن أصْرَحِ الأدِلَّة في ذلك: أنه دَلَّت عليه الأحاديث الصحاح في حجة الوداع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله (صلوات الله وسلامه عليه) في حجة الوداع قبل موته بنحو ثمانين يوماً قوله: «إن اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» (¬1) نص دال على أَنَّ تَحْرِيمَ الأشهر الحُرُمِ بَاقٍ لم يُنْسَخْ، وهَذا هو الأظْهَر، والله أعلم. ¬

(¬1) رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم: 1 - ابن عباس، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام منى، حديت رقم: (1739) (3/ 573) وطرفه (7079). 2 - أبو بكرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام مِنًى، حديث رقم: (1741) (3/ 573) وأطرافه (67، 105، 3197، 4406، 5550، 7078، 7447) ومسلم في القَسَامَة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم: (1679) (3/ 1305). 3 - عبد الله بن عمرو، عند البخاري في الحدود، باب ظهر المؤمنِ حِمًى إِلا فِي حَدِّ أو حَقِّ، حديث رقم: (6785) (12/ 85) وأطرافه (1742، 4403، 6043، 6166، 6868، 7077) ومسلم في الإيمان، باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً ... » حديث رقم: (66) (1/ 82). 4 - سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه. عند الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة، حديث رقم: (3087) (5/ 273). وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم: (2159). وقال: وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحُذيم بن عمرو السعدي.

القول الثاني في هذه الآية الكريمة: أن المراد بقوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أنها أشهر الإمهال الأربعة التي قدمنا أن التحقيق أن أولها من يوم النحر من ذي الحجة عام تسع، وأنها تنقضي بالعشر من ربيع الثاني من ذلك العام، وإنما قيل لها «حُرُم» لأن الله حرّم فيها قتال المشركين، وقال لهم فيها: سيحوا في الأرض أربعة أشهر، أي: آمِنِينَ مُدْبِرِينَ ومقبلين، قتالكم والتَّعَرُّضُ لَكُمْ حَرَامٌ. وهذا أظهر القَوْلَيْنِ هنا؛ لأن اللام في قوله: {الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: آية 5] الألف واللام فيها للعهد، والأشهر الحُرم المذكورة لم تكن معهودة هنا، والمعهود هنا هي الأربعة المذكورة في قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: آية 2] وعلى هذا فانسلاخها هو ما قدمنا بعد انتهاء العشر الأول من ربيع الثاني كما لا يخفى. وقد بيّنا أن قول الزهري (رحمه الله) أن ابتداء أشهر الإمهال من شوال (¬1) [أنه إن صح عنه فهو غلط منه. والصحيح قول الجمهور، وهو أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة من يوم النحر، وتَنْقَضِي في اليوم العاشر من ربيع الثاني]. وانسلاخ الأشهر: معناه انْقِضَاء مُدَّتِهَا. تقول العَرَبُ: انْسَلَخَ الشَّهْرُ، وانْسَلَخَ العَامُ: إذا مَضَى زَمَانُهُ، وسلخته: إذا كنت في آخر يوم من أيامه وقد مضى علي. وهذا معروف في كلام العرب (¬2)، ومنه قول لبيد في مُعَلَّقَتِهِ (¬3): ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) انظر ابن جرير (14/ 133 - 134)، القرطبي (8/ 72)، الدر المصون (6/ 11). (¬3) شرح قصائد المشهورات (1/ 144).

حتى إذا سَلَخا جُمَادى ستَّةً ... جُزْءاً فطَالَ صِيَامُهُ وصِيَامُهَا والأَشْهُر: جمع شهر. و «الأفْعُل» جمع قِلّة؛ لأنها أرْبَعَةٌ. والحُرُم: جَمْع حرام، وهو الصفة المشبهة من حَرُمَ الشيء فهو حَرَام. وإنما قيل للواحد منها «حرام» لأَنَّ اللهَ حَرَّمَ فيه القتال (¬1)، وهذا معنى قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} على القَوْلَيْنِ المذْكُورَيْنِ {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} الذين يشركون بالله (جلّ وعلا)، اقتلوهم كلهم {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (حيث): كلمة تدل على المكان، كما تدل (حين) على الزمان، وربما ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، ويجوز فيها لغةً لا قراءة إبدال يائها واواً وتثليث ثائها (¬2). ومعنى {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}: في أي مكان من أمكنة الأرض وجدتموهم فاقتلوهم. وقال بعض العلماء: هذا ما لم يكونوا في الحرم (¬3). وقال: عموم هذه الآية يخصصه عموم قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [البقرة: آية 191]. وعلى هذا القول يكون القتال لا يجوز في الحرم إلا إذا بدؤوا بالقتال. بهذا قال جماعة من العلماء، وقال جماهير من أهل العلم: إنهم يُقْتَلُون في كل مكان، كما دَلَّ عليه عموم (حيث) هنا، وإن كانوا في الحَرَم. قالوا: أمَّا آيَة: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: آية 191] فإنها ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 136)، القرطبي (8/ 72). (¬2) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة. (¬3) انظر: القرطبي (2/ 351، 8/ 73).

كانت من مراحل تشريع القتال. وإيضاح هذا المعنى: أنه جَرَتِ الْعَادَة في كتاب الله أن الله (تبارك وتعالى) إذا أراد أن يُشرع أمراً عظيماً شاقّاً تشريعه على النفوس إنما يُشرِّعه على سبيل التدريج لا مَرَّة واحدة؛ لأنه حكيم عليم. وهذا أمثلته كثيرة، فمنها: أنه لمّا أراد تحريم الخمر وكانت -قبّحها الله- تَصْعب مفارقتها على مَنْ أَلِفَهَا وتَعَهَّدَهَا حَرَّمها تَدْرِيجاً، ذَمّها أَوَّلاً فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: آية 219] فبدأ بعيبها، وأن فيها الإثم الكبير، وقال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} لتبتدئ نفس المؤمن تشمئز منها، ثم بعد ذلك حَرَّمَهَا في أوقات الصلاة، يعني أنها حُرمت عليهم في بعض الأوقات دون بعض، فحرِّم عليهم شربها في الوقت التي تقرب فيه أوقات الصلاة، وكانوا إذاً لا يشربونها إلا من بعد صلاة الصبح؛ لأن مَنْ شَرِبَهَا بعد صَلاة الصبح يصحو قبل صلاة الظهر، وكذلك بعد صلاة العشاء؛ لأن مَن شربها بعد صلاة العشاء يصحو عادة قبل صلاة الصبح، أمّا غير هذا من الأوقات فحرِّم عليهم شربها، كما قال تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: آية 43]. ثم لما أَنِست نفوسهم بتحريمها في الجملة، وعيبها أولاً، حرّمها تحريماً باتّاً في سورة المائدة بقوله: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: آية 90] وعَلَّقَ الْفَلاَح على اجْتِنَابِهِ، فكان هذا أسهل للتدريج الذي وقع في تحريمها. وكذلك لمّا أَرَادَ تَشْرِيعَ الصوم -والصوم عبادة شاقّة على النفوس؛ لأن فيها منع البطون والفروج عن شهواتهما- شرّعها تدريجاً: كان أول ما بُدِئ: وجوب الصوم بثلاثة أيام من كل شهر

مثلاً، ثمّ لما فرِض رمضان فُرِض أولاً على سبيل الخيار بين الصوم وبين الإطعام كما تقدّم في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: آية 184] فلما أَنِسَتْ النفوس بالصوم في الجملة وتمرنتْ عليه أوجب الصوم إيجاباً تامّاً بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: آية 185]. وكذلك القتال -وهو محل الشاهد- لمّا كان عظيماً شاقّاً على النفوس؛ لما فيه من تعريض المُهَج والأموال للتلف أذِن فيه أولاً من غير أمْر به في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: آية 39] أَذِنَ فيه أولاً ثم بعد ذلك أوجبهُ في حال دون حال، فأوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم -وهو محل المشاهد- في قوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: آية 191] ثم لمّا استأنست النفوس بالقتال وتمرنت عليه أوجبه إيجاباً باتّاً عامّاً بقوله هنا: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: آية 5]. فهذه الآية الكريمة قوله: {الْمُشْرِكِينَ} هو صيغة عموم، فالألف واللام فيه تدل على العموم؛ لأن (المشركين): جمع (المشرك)، وهو اسم فاعل، والألف واللام الداخلتان على اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة -على أحد القولين- يقول علماء العربية: إنها موصولة، والموصولات من صيغ العموم كما تَقَرَّرَ في الأصول (¬1). وعلى القول بأن هذا اللفظ قد تُتناسى وصفيته فتكون الصفة غير صريحة فيؤول إلى الأسماء -أسماء الأجناس الجامدة- ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام.

فيكون عموماً، فهو لفظ عام على كلا التَّقْدِيرَيْنِ يصدق بكل مشرك، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن تخصيص هذا اليوم بنهيه عن بعض مَنْ يَتَّصِفُ بالشرك، من ذلك: النساء والصبيان من الكفار فإنهم من المشركين، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وكذلك الرهبان في الصوامع نهى عن قتلهم، وكذلك الشيوخ الفانية نهى عن قتلهم، إلا إذا كان الشيخ الفاني يُستعان برأيه فإنه يُقتل؛ لأن رأيه عظيم على المسلمين؛ ولأجل ذلك قتل الصحابة دُريد بن الصمة يوم حنين، وكان ذا شيبة أعمى للاستعانة برأيه؛ لأنه وضع لهم الرأي الحكيم السديد، وخالفه مالك بن عوف النصري كما سيأتي إيضاحه في غزوة حنين في هذه السورة الكريمة. وكذلك المُعاهدون. وهذه الآية الكريمة قال بعض العلماء (¬1): قد لا تتناول أهل الكتاب؛ لأن آيتهم مذكورة في هذه السورة؛ لأن الله يقول: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: آية 29] فالكتابي إذا أعطى الجزية يخرج من عموم هذه الآية. واعلم أن بعض العلماء (¬2) قالوا: إن الكتابيّ لا يدخل في اسم المشركين. قالوا: لأن الله غاير بينهما في آيات كثيرة كقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 1] فعطف المشركين على أهل الكتاب، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 72). (¬2) السابق.

وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 6] وقال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [آل عمران: آية 186]. وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ} [المائدة: آية 82] فَدَلَّت هذه الآية على المغايرة بين المشركين وأهل الكتاب، والتحقيق أنَّ الكتابيين نوعٌ من المشركين، وقد أوضح الله في هذه السورة الكريمة أنَّ أهل الكتاب من المشركين حيث قال فيهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: آية 31] فَصرّح تعالى بأنهم مُشْرِكُونَ إلا أنّهم نوعٌ خاصٌّ من المشركين، ربما أُدخِل في عمومهم، وربما أُفرد منهم، كأنَّه غيرُ داخلٍ فيهم؛ للفوارق التي بين الكتابيين وعبَدَة الأصنام كما هو معروف، وهذا معنى قوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: آية 5]. قال بعض العلماء: يؤخذ من عموم هذه الآية أنَّ المسلم لَوْ قدر على اغتيال الحربي لجاز له أن يغتاله. وأخذ بعض العلماء من هذا قالوا: إذا لم يُقدر عليهم إلا بالقتل بالنار كالضرب بمنجنيق من بعيدٍ ونحو ذلك، أنَّ هذا يتناوله العُمُوم (¬1). وبعض العلماء يقول: هذا مُثْلة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن المُثلة (¬2). وهذا معنى قوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ¬

(¬1) انظر: السابق (8/ 72). (¬2) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمُجثَّمة، حديث رقم: (5516) (9/ 643) من حديث عبد الله بن يزيد (رضي الله عنه). وأخرجه في المغازي (باب قصة عُكْل وعُرَيْنَة) عن قتادة -بلاغاً- «بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة ويَنْهَى عن المثْلة». وقد وصله الحافظ (رحمه الله) في الْفَتْحِ (7/ 459). وفي الباب أحاديث كثيرة رواها جماعة من الصحابة منهم: يعلى بن مرة، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن حصين، والحكم بن عمير، وعابد بن قرط، وعليّ بن أبي طالب، وأبو أيوب الأنْصَارِيّ، وابن عمر، وزيد بن خالد، وأسماء بنت أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وغيرهم (رضي الله عنهم أجمعين).

أي: في أي مكانٍ من أمكنةِ الأرض وجدتموهم. وقوله: {وَخُذُوهُمْ} يعني: بالأَسْرِ، فمَعْنَى {وَخُذُوهُمْ}: ائسروهم. وهذه الآية الكريمة من براءة -وهي من آخر ما نَزَلَ مِنَ القُرْآن- تدل على أنه يجوز قتل المشركين وأخذهم بالأسْر، وقال بعض العلماء: هذه الآية من سورة براءة نسخت قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: آية 4] فليس هناك إلا القتل (¬1). وقال بعض العلماء: بل آية القِتَال هِيَ الَّتِي نَسَخَتْ آيَةَ بَرَاءَة، فلا يقتل الأسير، إما أن يُمَنَّ عليه وإما أن يُفْدَى (¬2). والتحقيق: أنَّ كل هذه الآيات محكم، وأنها لا يُنْسَخُ بَعْضُها بعضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منذ قاتل الكفار، ربما قتل الأسير، وربما فدى الأسير، وربما مَنَّ على الأسير، كل هذا يفعله صلى الله عليه وسلم، فمعلومٌ أنَّه قتل بعض الأُسارى يوم بدر، قتل النضر بن الحارث يوم بدر أسيراً (¬3)، ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 72). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 72). (¬3) راجع ما سبق عند تفسير الآية (12) من سورة الأنفال.

وقتل عقبة بن أبي معيط يوم بدرٍ أسيراً (¬1)، وقد دلت القصة التي ذكرناها في غزاة بدر في سورة الأنفال على أنَّ قَتْلَهُ للنَّضْرِ بن الحارث لم يكن عن وَحْي (¬2)، ولذا لما جاءه شعر أخته -أو ابنته- قُتيلة بنت الحارث -أو قُتيلة بنت النضر بن الحارث- لما أرسلت شعرها المشهور إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أبكاه حتى أخضل الدمع لحيته، وقال فيه: «لو بَلَغَنِي شِعْرُهَا قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ لَعَفَوْتُ عَنْهُ» (¬3) فدلَّ على أنَّه لم يقتله بوحي من الله. وشعرها مشهورٌ قَدَّمْنَاه برمته في سورة الأنفال (¬4)، تقول فيه: يَا راكبًا إنَّ الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ ... مِنْ صُبحِ خَامِسَةٍ وأَنْتَ موفَّقُ أَبْلِغْ بها مَيْتًا بأنَّ تَحِيَّةً ... مَا إِنْ تَزَالُ بها النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مني إليكَ وعبرةً مسفُوحةً ... جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وأُخْرى تخنُقُ هل يسمعنَّ النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ أمحمدٌ يا خيرَ ضَيْءِ كريمة ... في قومِهَا والفَحْلُ فحلٌ مُعْرِقُ ما كان ضَرَّكَ لو مَنَنْتَ ورُبَّما ... مَنَّ الفَتى وهو المغيظُ المُحْنَقُ فالنَّضْرُ أقربُ مَنْ أَسَرْتَ قرابةً ... وأحقُّهم إن كانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ ظَلَّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُه ... للهِ أرحامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ صَبْرًا يُقادُ إلى المنيةِ مُتْعَبًا ... رَسْفُ المُقَيَّدِ وهو عان مُوثَقُ فهذا يدل على أنَّ الأمر في ذلك إلى الإمام، إن رأى المصلحة ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق. وقد سقط بعد البيت الخامس بيت من القصيدة، وهو قولها: أوكنتَ قابلَ فديةٍ فَلَيُنْفِقَنْ ... بِأَعَزَّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفَقُ

للمسلمين القَتْل قَتَل، وإن رأى أنها الفِدَاء فَدَى، وإِنْ رَأَى أنَّهَا المَنُّ مَنَّ، وهذا هو التحقيق -إن شاء الله- وأنَّ الآياتِ كلها محكمة لم ينسخ بعضها بعضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فعل كل ذلك، أطلق أبا عزةَ في غزاة بدر لما قال له: إنَّه ذو بَنات. ولما أمسكه بحمراء الأسد من صبيحة أُحد بعد أن اشترط عليه ألاَّ يعين عليه المشركين وقال له: يا محمد، عفوك مرةً أخرى. فقال له: لا والله، لا تحك عارضيك بين نساء مكة وتقول: غررت محمداً مرتين!! فقتله (صلوات الله وسلامه عليه) (¬1). وهذا معنى قوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} [التوبة: آية 5] بالأسر {وَاحْصُرُوهُمْ} معناه: ضَيِّقُوا عَلَيْهِمْ واحْصُروهُمْ في مَعَاقِلِهِمْ حتى لا يستطيعوا أن يخرجوا وينتشروا في الأرض، فضلاً عن أن يصلوا إليكم، فالمراد بالحصر هنا: حصرهم في أماكنهم وفي معاقلهم، والتضييق عليهم ومنعهم من الانتشار في الأرض. هذا معنى قوله: {وَاحْصُرُوهُمْ}. {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}: المراد بالمرصد هنا: اسم مكان، وقد تقرر في فن التصريف: أن جميع المصادر الميمية، وأسماء الأمكنة، وأسماء الأزمنة إذا لم تكن يعني: من واوي الفاء كانت كلها على (مَفْعَل)، إلا اسمُ الزمان والمكان خاصة إذا كان من (فَعَلَ) بالفتح (يَفْعِلُ) بالكسر (¬2). والمرصد هنا القياس فيه: ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في السنن (6/ 320)، (9/ 65)، وأورده الشافعي في الأم (4/ 238)، وابن سعد في الطبقات (2/ 30)، والطبري في تاريخه (3/ 10)، وابن هشام في سياقه لغزوة أُحد. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 83 - 84).

(المَفْعَل) وهو اسم مكان. معناه: مكان الرصد. والرصد: هو مراقبة الشيء ليُتَمَكَّنَ مِنْهُ في حَالَةِ غِرّته. {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي: في كل مكانٍ ترصدونهم وترقبونهم فيه، حتى يمروا عليكم فتأخذوهم، فكل شيء هو في طريق شيء مختفياً عنه لتمكنه غرته فهو رصد له. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عامر بن الطفيل (¬1): وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا إِخَالُكَ نَاسِياً ... أَنَّ المَنِيَّةَ لِلْفَتَى بالمَرْصَدِ ومن هذا قولُ الآخر، وهو عدي بن زيد حيث قال (¬2): أَعَاذِلَ إِنَّ الجَهْلَ مِنْ لَذَّةِ الفَتَى ... وَإِنَّ المَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ ومن هذا معنى قوله: {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن: آية 9] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: آية 14] فمعنى: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}: اقعدوا لهم في جميع الطرق التي ترصدونهم فيها ليمروا عليكم في حال غرتهم فتتمكنوا منهم. والعرب تقول للإنسان الذي يختفي عند الماء لترد عليه الوَحْش في اللَّيْلِ فيرميها: هذا راصد لها، ومكانه الذي هو فيه: مرصدٌ لها، وهذا معنى معروف. وقوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ}: قال بعض العلماء: هو منصوبٌ على أنَّه ظرف، ولمّا قاله الزجاج (¬3) غلَّطهُ فيه أبو عليّ الفارسي (¬4) وقال: إنَّ مثل هذا لا ينصب على الظرف؛ لأنَّ الطريق مكانٌ محصور ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 73). (¬2) السابق. (¬3) معاني القرآن (2/ 431). (¬4) انظر: الدر المصون (6/ 11).

كالمسجد والبيت، فلا يكون ظرفاً، وإنما هو منصوبٌ بنزع الخافض، ويدل على أنه منصوبٌ بنزع الخافض: هو ما قَدَّمْنَا في سورة الأعراف في قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: آية 86] فعدَّاهُ بِالْبَاءِ التي هي حَرْفُ الجر، ومعلومٌ عند علماء العربية أنَّ النَّصْبَ بنزع الخافض لا يكون على المشهور قِيَاساً مُطَّرِداً، يُحفظ ما سُمع منه ولا يقاس عليه، خِلافاً للأَخْفَشِ الصَّغِير وهو عَلِيّ بن سُلَيْمَان؛ لأنه يقول: إنَّ النزع بالخافض مطَّرِدٌ في كل ما أُمِنَ فيه اللَّبْس، وقد عقد مذهبه ابن مالكٍ في الكافية فقال (¬1): وابنُ سُليمانَ اطرادَه رَأَى ... إِنْ لم يُخَفْ لَبْسٌ كـ (مَنْ زَيْداً نَأَى) وعلى هذا فمعنى {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}: اقعدوا لهم في كل طريق ترقبونهم وترصدونهم فيها حتى تأخذوهم في غرتهم، وعلى هذا فهو منصوبٌ بنزع الخافض. ونظيره من كلام العرب -في نصب الطريق، المرصد: هو الطريق، في نصبه وتقدير حرف الجر الذي هو منصوبٌ بنزعه- قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذلي في بيته المشهور الذي هو من شواهد سيبويه في كتابه (¬2): لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِل مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ يعني: كما عسل -أي: جرى العَسَلاَن- الثعلبُ في الطريق. وقال بعضُ العلماء: اختار بعض المتأخرين أنَّه ظرف، وإن كان محصوراً (¬3)، وبذلك أعرب قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ¬

(¬1) شرح الكافية (2/ 633). (¬2) الكتاب (1/ 36، 214). (¬3) انظر: البحر (5/ 10)، الدر المصون (6/ 12).

الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: آية 16] وهذا معنى: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}: اقتلوهم أولاً، وأْسروهم، وحاصروهم في معاقلهم وأماكنهم، وخذوا عليهم الطرق، وارصدوا لهم فيها لتأخذوهم. وهذه أوامرُ من الله بأنه يُبذل في التضييق على المشركين وقتلهم وأخذهم كل غاية المجهود. وهذا معنى قوله: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}. {فَإِن تَابُواْ} من كُفْرِهِمْ وَرَجَعُوا عن شِرْكِهِمْ {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} أقاموا صلاة المسلمين {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} وهي الحقوق الواجبة عليهم في الأموال، فالصلاة والزكاة معروفتان، وإقامة الصلاة: هي الإتيان بها على وجهها الأكمل من مراعاة أركانها، وشروطها، وسننها، وصلاتها في الجماعات، وأوقاتها، إلى غير ذلك. وإقامة الزكاة: هي إعطاء الواجب من الأنْصِبَاء التي بيَّنَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم. إذا فعلوا هذا كله، بأن تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} السبيل (¬1) في اللغة: الطريق. والتخلية: معناه الترك. فمعنى {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} اتركوا طريقهم لا تقعدوا عليها، والعرب تقول: خَلِّ سبيل فلان. أي: اترك له الطريق، ولا تقعد له في طريقه، ولا تتعرض له. فإذا خَلَّيت له طريقه يمر ويذهب بها كيف شاء، معناه: أنك لم تتعرض له، وهذا معروف في كلام العرب كثيرٌ مبتذل، يقولون: خَلِّ سبيله، أي: اتْرُكْه ولا تَتَعَرَّضْ لَهُ؛ لأن سبيله: طريقه الذي يمشي بها، فإذا لم تقعد له فيها ولم تتعرض له فقد تركته يذهب ويقبل ويدبر من غير أن تتعرض له، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام.

وهو المعروف، ومن هذا المعنى قول ربيعة بن مكدم في رَجَزِهِ المشْهُور في قصته مع دريد بن الصَّمَّة وأصحابه (¬1): خَلِّ سَبِيلَ الحَرَّةِ المَنِيعَهْ ... إِنَّكَ لاَقٍ دُونَهَا رَبِيعَهْ فِي كَفِّهِ خَطِيَّةٌ مُطِيعَهْ ... أَوْ لاَ فَخُذْهَا طَعْنَةً سَرِيعَهْ وَالطَّعْنُ مِنِّي فِي الوَرَى شَرِيعَهْ معنى: «خَلِّ سبيلها»: لا تَتَعَرَّضْ لهَا واتْرُكْ طَرِيقَهَا تذهب فيها وتَتَوَجَّه كيف شاءت. ومن هذا المعنى قول كعب بن زهير (¬2): فقُلتُ خَلُّوا سَبِيلي لاَ أَبَا لَكُمُ ... فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ وقوله: (خَلِّ سبيلها) من كنايات الطلاق المعْرُوفَة عند الفقهاء في المذاهب. هذا معروف في كلام العرب، فكُلُّ مَنْ تَرَكْتَهُ، وتَرَكْتَ لَهُ طَرِيقَهُ يَذْهَبُ مَعَهَا ويمر مُقْبِلاً ومُدْبِراً حيث شاء فقد خليت سبيله، أي: تركته ولم تَتَعَرَّضْ لَهُ، ومن هذا قول جرير يهجو عمر بن لجيءٍ التميمي (¬3): خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي المَنَارَ بِهِ ... وَابْرُزْ بِبَرْزَةَ حَيْثُ اضْطَرَّكَ القَدَرُ قَدْ خِفْتَ يَا ابْنَ الَّتِي مَاتَتْ مُنَافِقَةً ... مِنْ خُبْثِ بَرْزَةَ أَنْ لاَ يَنْزِلَ المَطَرُ وهذا معنى: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}. ¬

(¬1) هذا الرجز في الأمالي (2/ 271). (¬2) شرح قصيدة بانت سعاد للتبريزي ص (31). (¬3) البيتان في ديوانه ص (211)، شواهد الكشاف ص (47) وبين البيتين سبعة عشر بيتاً. ولفظ الشطر الأول من البيت الأول: (خل الطريق ... ).

وهذه الآيةُ وأمثالها في القرآن هي التي تمسّك بها الصدِّيق أبو بكر (رضي الله عنه) في قتالِ أهل الردة، لما منعوا الزكاة، فإنَّ الصَّحَابَةَ أوَّلاً قالوا: كيف نُقَاتِلُهُمْ وَهُمْ يَشْهَدُون أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رَسُول الله؟! ومن مثل هذه الآية استدلَّ أبو بكر (رضي الله عنه) لأن الله قال: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} بعد ثلاثة شروط، وهي: توبتهم مِنَ الشِّرْك، وإقامتهم الصلاة، وإيتاؤهم الزكاة. وقد تَقَرَّرَ في علم الأصول، أنَّ الشرط المشروط بشروطٍ متعدِّدة لا يحصل المشروط إلا بجميعها. فلو قلت لِعَبْدِكَ: إن صام زيد، وصلى، وقام وقعد فأَعْطِهِ دِيناراً، فإنه لا يستحق الدينار إلا إذا فعل جميع الشروط كلها، ولذا تخلية سبيلهم مشروطةٌ بهذه الشروط كلها؛ لأنَّ ما عُلِّق على شرطين أو شروط لا يتحصل إلا بجميع تلك الشروط، كما هو مقرر في الأصول. وأخت هذه الآية آتية قريباً في قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: آية 11] مفهومه: أنَّهم إن لَمْ يَتُوبُوا، أَوْ لم يُقِيمُوا الصلاة، أو لم يؤتوا الزكاة فلا تخلوا سبيلهم، وليسوا إخوانكم في الدين، أي: وهو كذلك. وهذه الآية الكريمة قال بعض العلماء: يؤخذ منها أنَّ مَنْ قَالَ: «تُبْتُ» فقط لا يجتزئ بذلك حتى يفعل أفعالاً تدل على صحة ما يَقُولُ؛ لأنَّ إِقَامَةَ الصَّلاَةِ وإِيتَاءَ الزَّكَاةِ بَرَاهِين وأدلة على صدقه في توبته التي قال. وهذا معنى قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: آية 5] كثير المغفرة والرحمة، ومن رحمته ومغفرته الكثيرة تَوْبته ورحمته للذين تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فهو كثير المغفرة والرحمة، يرحم هؤلاء ويغفر لهم؛ لأنَّ من تاب تابَ الله

عليه {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: آية 38]. {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6)} [التوبة: آية 6]. (إنْ) هي الشرطية. وقوله: {أَحَدٌ}: يقول علماء العربية: إنَّه مَرْفُوعٌ بفعل محذوف يفسره ما بعده. أي: وإن اسْتَجَارَكَ أحدٌ من المشركين؛ لأن {إن} أداة شرط لا تَتَولى إلا الجمل الفعلية، فلا تتولى الجمل الاسمية؛ ولذا يُقَدَّر فِعْلٌ بَعْدَهَا. فـ {أَحَدٌ} عند علماء العربية فاعلُ فعلٍ محذوف يفسرهُ ما بعده (¬1). والأحد معناه: الواحد، وأصل همزته مبدلة من واو، أصل الأحد: (وَحَد) بواو؛ لأنَّ هذه المادَّة أصلها واوية الفاء، وكثيراً ما تقول العرب في الوَحَدِ: الأحد، وربما نطقت بلفظ الوَحَد على أصله (¬2). ومن ذلك قول نابغة ذبيان (¬3): كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي الجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأنَسٍ وَحِدِ وقوله: {اسْتَجَارَكَ} قَدْ قَدَّمنا أنَّ السين والتاء للطلب فمن معاني (استفعل) أنَّ السين والتاء للطلب، كقولهم: «اسْتَغْفر ربه» أي: طلبه المغفرة. و «استطعم» طلب الطعام، و «استسقى» طلب السقيا، و «استنجد» طلب النجدة. وهكذا. فقوله: {اسْتَجَارَكَ} طلب الإجارة منك. والإجارة: هي الأمان. أن تُجِيرَهُ وتُؤَمِّنَهُ من أذَى ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 77). (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص275. (¬3) مضى عند تفسير الآية (71) من سورة البقرة.

قَوْمِكَ حتى يسمع ما أُنزل إليك. وهذا معنى قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} قال بعض العلماء: لما نادى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في الموسم بهذه الآية من سورة براءة، أتاه قوم فقالوا: إن انتهت هذه الأشهر الأربعة وانقضت أشهر الإِمْهَال، وكان الواحد منا يريد أن يسمع من محمدٍ ما يقول لينظر هل يتبعه أو لا، يُقتل؟! فقال لهم علي: لا يُقتل؛ لأنَّ الله يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (¬1). معنى هذه الآية الكريمة بإيضاح: أنَّ بعض المشركين إذا أراد أن يسمع ما يقوله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليفهم معنى ما ينزل عليه ويعرف الأوامر التي يأمر بها، والنواهي التي ينهى عنها، والأشياء التي يدعو إليها، ليستيقن في قرارة نفسه أهو حقٌّ فيتبعه أو يعلم أنَّه ليس بحق فيصد عنه، وطلب أن يجار، أن يُؤَمَّن، وألا يصل إليه أذى حتى يسمع القرآن، ويفهم ما أنزل على النبي؛ ليكون على بصيرة مِنْ أَمْرِهِ في الأخْذِ والتَّرْكِ، فإنه يجب أن يعطى ذلك الأمان حتى يسمع ويُتلى عليه القرآن، ويُفَهَّم بما فيه من الزواجر والمواعظ، ثم بعد ذلك إن أسلم فبها ونعمت، وإن أصرَّ على كُفْرِهِ وَجَبَ أَنْ يُردَّ إِلَى مَأمنه وهو محل داره التي يأمن فيها. هذا معنى قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} طلبك أن تجيره وتؤمنه. {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} هو هذا القرآن العظيم. وهذه الآية الكريمة من سورة براءة نص صريح في أنَّ هذا الذي نقرؤه ونتلوه هو ¬

(¬1) هذا الأثر ذكره القرطبي في التفسير عن سعيد بن جبير مرسلاً (8/ 76) وأبو السعود (4/ 44)، والألوسي (10/ 53).

بعينه كلامُ الله، فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ؛ لأن الله صرَّح بأن هذا المشرك المستجير يسمع كلام الله يتلوه عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم. فهذا المحفوظ في الصدور، المقروء في الألسنة، المكتوب في المصاحف، هو كلام الله (جَلّ وعلا) بمعانيه وألفاظه. ولا شَكَّ أن أصل الكلام صفة الله (جَلَّ وعلا). ونحن لا نحب إكثار الخوض فيه؛ لأن هذه الصفة هي منشأ البلايا والمحن (¬1)، ولكن نقول: إن الكلام صفة الله التي لم يزل متصفاً بها، فلم يتجرد يوماً عن كونه متكلماً، فالكلام صفته المتَّصِف بها أزلاً لم يَتَجَرَّدْ، ومَعَ كَوْنِهِ مُتَكَلِّماً فهو في كل وقت يَتَكَلَّمُ بِمَا شاء كيف شاء، على الوجه اللائق بِكَمَالِهِ وجَلالِهِ، فَكَلامُهُ صفته ليس بمخلوق. وقد أشرنا -مراراً- إلى المحنة التي ابْتَلَى اللهُ بِهَا المسْلِمِينَ في أيام الدولة العباسية بالامتحان بالقول بخلْقِ القُرْآنِ؛ لأَنَّ مِحْنَةَ القول بخلق القرآن نَشَأَتْ فِي أيَّامِ المَأْمُونِ، ولم تزل في أيام المأمون حتى مات، واستفحلت في أيام المعتصم واستحكمت، وفي أيامه ضُرِب سيد المسلمين في زمانه أحمد بن حنبل (رضي الله عنه وأرضاه)، يُضرب حتى يُرفع من محل الضرب لا يعرف ليلاً من نهار، إذا أفاق قالوا له: قل: القرآن مخلوق. فيقول: لا، القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وكذلك مضى زمن الواثق والمحنة قائمة على ساق وقدم، وقد أزالها الله على يد المتوكل غفر الله له وعفا عنه؛ لأن محنة القول بخلق القرآن أزالها المتوكل على الله بعد ¬

(¬1) يريد (رحمه الله) ما نشأ بسبب الاختلاف في هذه الصفة، وإلا فهي صفة كمال من كل وجه.

أن مضت في زمن المأمون والمعتصم والواثق. وكان بعض المؤرخين يقولون: إنها في أخريات أيام الواثق أنها بردت وانكسرت شوكتها وضعف شرها وقد قدمنا في هذه الدروس السابقة (¬1) أن ذلك على يد ذلك الشيخ الشامي، صاحب القصة المشهورة، وأنه شيخ جيء به من الشام أيام الواثق بالله، جيء به مكبلاً بالحديد ليمتحن ويقتل في محنة القول بخلق القرآن، وجيء به، وجلس الواثق يوماً -والرواية رواها الخطيب البغدادي عن ابن الواثق محمد من طرق أسانيدها فيها ما يُنكر، ولكنها قصةٌ معناها صحيح، تَلَقَّاهَا العُلَمَاء بالقبول- وذلك أنّ الواثق لما أراد قتل ذلك الشيخ الشامي (رحمه الله) كان إذا أراد قتل أحد أحضر ولده محمداً -وهو الذي روى الخطيب هذه القصة من طريقه- فجيء بالرجل مُقَيَّداً بالحديد، فقال للواثق: السلام عليك يا أمير المؤمنين!! قال: لا سلَّمك الله. فقال الشيخ: بئس ما أدَّبك مؤدبك يا أمير المؤمنين!! الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: آية 86] واللهِ ما حَيَّيت بأحسن منها ولا رَددتها. فقال الواثق: ائذنوا لأبي عبد الله -يعني الخبيث أحمد بن أبي دؤاد، عامله الله بما هو أهله؛ لأنه سبب هذه البلايا والمحن- وأحضره، فقال له ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم!! فقال الواثق لابن أبي دؤاد: ناظر هذا الرجل. فقال الشيخ الشامي: ابن أبي دؤاد أحقر من أن يناظرني -كما جاء في بعض روايات قصته- فقال له ابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: يا ابن أبي دؤاد: ما أنصفتني. يعني: أنَّ الذي يراد أن يُقَدَّمَ للقتل أحق بأن يكون هو السَّائِل. فقال له: سلْ. فقال: ما تقول يا ابن أبِي دُؤاد ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (114) من سورة الأنعام.

في القرآن؟ قال: أقول إنَّه مخلوق. قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، وتأمرهم بها، ويفتن الخلفاء فيها يمتحنون فيها الناس بفتياك ورأيك، هل كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون -أبو بكر وعمر وعثمان وعلي- هل كانوا عالمين بها أو لا؟ فقال ابن أبي دؤاد: ما كانوا عالمين بها. فقال الشيخ الشامي: ما شاء الله!! ما شاء الله!! جهلها رَسُول الله وخلفاؤه الراشدون وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد!!، فقال ابن أبي دؤاد: أقلني، والمناظرةُ على بابها. فقال له: ذلك لك. ثم قال له: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل كان رَسُول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو لا؟ قال: كانوا عالمين بها، ولكنهم لم يدعو الناس إليها. فقال له الشيخ الشامي: يا ابن أبي دؤاد: ألم يسعك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما وسع رَسُول الله في أمته، ووسع خلفاءه الراشدين في رعاياهم؟! فَأَلْقَمَهُ حَجَراً وسكت، وقام الواثق وجلس في محل خلوته واضطجع، وجعل رجله على ركبته وقال: جهلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد؟ ما شاء الله!! ما شاء الله!! ثم قال: علمها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ولم يدعوا الناس إليها، ألم يسعك يا ابن أبي دؤاد ما وسع رَسُول الله وخلفاءه الراشدين في أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم دعا بالحداد وقال له: اذهب وفكَّ قيد هذا الشيخ الشامي. وأعطاه أربعمائة دينار، وقال له: انصرف راشداً إلى أهلك. وذكر الخطيب في بعض روايات هذه القصة بأسانيد ليست قائمة أنَّه بعد ذلك لم يمتحن أحداً. بل روى -أيضاً- عنه أن الواثق رجع عنها في أُخريات حياته.

وعلى كل حال فالقرآن كلام الله وصِفَته الأزَلِيَّة، ليس بمخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو صفته الأزلية لم يتجرد عن كونه متكلماً يوماً ما، وهو في كل يوم يتكلم بما شاء، كيف شاء، على الوجه اللائق بكماله وجلاله (جَلّ وعلا) من غير مشابهةٍ للخلق، ومن غير تعطيل له من صفته (جَلّ وعلا). وهذا معنى قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: آية 6] أَبْلَغَهُ إِيَّاهُ: أَوصَلَهُ إِلَيْهِ. والمأمن هنا: اسم مكان -أيضاً- كالمرصد، فالمأمن والمرصد كلاهما اسم مكان، فالمرصد مكان الرصد، والمأمن: مكان الأمن، أي: أبلغه مكان أمنه، وهو داره الذي جاء منها، وأهله الذي جاء من قِبَلِهم. وهذا معنى قوله: {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ثم قال: {ذَلِكَ} المذكور من الأمر بإجارة المشرك المستجير حتى يسمع كلام الله ويَتَفَهَّمَهُ وَاقِع بسبب أنَّهُمْ {قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} لا يعلمون الْوَحْيَ، ولا يفهمون عن الله، فإذا طلبوا أن يعلموا ويتعلموا ويسمعوا ما جاء عن الله فلا تمنعوهم من ذلك، فأمِّنوهم حتى يسمعوا ويَتَفَهَّمُوا ويَعْرِفُوا الحَقَّ لَعَلَّ اللهَ يَهْدِيهم، وهذا معنى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}. قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ

الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)} [التوبة: الآيات 7 - 11]. {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)} [التوبة: آية 7]. لما أنزل الله أول هذه السورة {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} [التوبة: آية 1] فنبذ العهد إلى كل المعاهدين، وأعلمهم بأنهم حرب بعد مضي أربعة أشهر، ولم يستثنِ من ذلك إلا القوم الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقضوه، ولم يظاهروا أحداً على المؤمنين، بَيَّن في هذه الآية الكريمة أنَّ ذلك الحكم المذكور في أول هذه السورة أنَّه حكم واقع في محله، وأنَّ نبذ العهود إلى المشركين أمرٌ في غاية الإحكام والصواب؛ لأنه قال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ} (كيف) هنا حرف يدل على الاستبعاد، يُستبعد جدّاً أن يكون للمشركين عهد يُحْفظون به ويأمنون به على أنفسهم وأموالهم، مع خبث ما يبطنونه من العَدَاوَةِ للمُسْلِمِينَ. [2/أ] / والمعنى: أنَّ نبذ عهودهم إليهم حكم في غاية الصواب واقع في موقعه، موضوع في موضعه؛ لأنهم أهل خبثٍ وأهل عداوةٍ ومكْرٍ للإسلام، يستحقون بنبذ عهودهم إليهم، وأن يكونوا حَرباً، إلا الطائفة الذين ثبتوا. وهذا معنى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} يأمنون به على أنفسهم وأموالهم {عِندَ اللَّهِ} يأمر نبيه بالوفاء به {وَعِندَ رَسُولِهِ} صلى الله عليه وسلم يعمل لهم بمقتضاه {إِلاَّ} الطائفة الثابتة التي لم يوجد منها غدر ولا مكر فهؤلاء مستثنون كما تقدم.

{إِلاَّ الَّذِينَ [عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}] (¬1) [التوبة: آية 7] لأن صلح الحديبية الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش بواسطة سهيل بن عمرو العامري (رضي الله عنه) دخل في حلف قريش ودخل في صلحهم معهم قبائل من كنانة بن مدركة، منهم: بنو الديل، وبنو ضمرة، وبنو مدلج أولاد بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو جذيمة بن عامر، عامر هو ابن عبد مناة بن كنانة أخو بكر. فهم أربع قبائل من كنانة، هؤلاء القبائل الأربع من كنانة بن مدركة كانوا أهل عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش، ثم نقض العهد منهم بنو الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأن عَدَوا على خُزَاعَةَ، ونقض معهم قريش حيث أعانوهم على الخزاعيين، وبَقِيَ بَنُو ضَمْرَةَ وبَنُو جذيمة بن عامر وبنو مدْلِج على عهدهم لم ينقضوا، وهم الذين استثناهم الله (¬2). وهذه المعاهدة وقع عَهْدُهَا في الحُدَيْبِيَةِ كما عليه جميع المؤرخين. والله (جلّ وعلا) ذكر أنها في المَسْجِدِ الحَرَام، والتحقيق أن الحديبية بعضها في الحلّ وبعضها في الحرم. وهذه الآية تدل على أن معاهدة الحديبية وقعت في الطَّرف منها الذي هو مِنَ الحَرَم؛ لأنه جرت العادة أن الله رُبَّمَا أطْلَقَ المسجد الحرام وأراد به جميع الحرم، فالمراد به هنا: إلا الذين عاهدتم في حرم الله عند الحديبية. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد أكملت بقية الآية وجعلت ذلك بين معقوفين. (¬2) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام.

وأطلق على اسم الحرم «المسجد الحرام»؛ لأنَّهُ مِنْ أهم أجْزَائِهِ، وهو أسلوبٌ عربي معروف (¬1)، ومن إطلاق المسجد الحرام على جميع الحرم: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: آية 191] أي: لا تقاتلوهم في جميع الحرم؛ ولأجل هذه الإطلاقات سيأتيكم أن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: آية 28] أنَّ المراد به لا يقربوا الحرم كلَّه بعد هذا العام. وهذا معنى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ} في صلح الحديبية {عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ} (ما) مصدرية ظرفية، وهي منصوبة بـ «استقيموا» (¬2)، أي: استقيموا لهم وأوفوا لهم بالعهد إلى تمام مُدَّتِهِمْ في جميع المدة التي استقاموا فيها لكم، ولا تبدؤوهم بنقض العهد. وهذا معنى قوله: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} كما تقدم في قوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: آية 4] هذا معنى قوله: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ}. والذين قالوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْش (¬3). يظهر أَنَّ قَوْلَهُمْ خِلاف التحقيق؛ لأن قريشاً نقضوا العهد وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في فَتْحِ مَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ هذه الآيات مِنْ بَرَاءَة؛ لأنها نزلت عام تسع، وأرسل النبي بها عليَّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) بعد أبي بكر ينادي بها في الموسم عام تسع. وفي ذلك الوقت أهل مكة قد نقضوا قبل هذا بزمان، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) سيأتي عند تفسير الآية (28) من هذه السورة. (¬2) انظر: الدر المصون (6/ 15). (¬3) انظر: ابن جرير (14/ 143).

وفتح مكة عنوة على التحقيق، وظفر بهم، وسمُّوا الطلقاء، وأعْطَى عَهْداً لمنْ أراد منهم أن يتربَّص كصفْوان بن أميَّة ومَنْ فِي مَعْنَاه. وهذا معنى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ}. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ويدخل في المتقين دخولاً أوَّلِيّاً: الذين لا ينقضون العهود ويوفون بالعهود؛ لأن الوفاء بالعهد وعدم نقضه ونكثه من تقوى الله (جلّ وعلا)، والمتصف بالتقوى يحبّه الله. وهذا معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)} [التوبة: آية 8]. هذا تأكيدٌ بعد تأكيد؛ لأن حكم الله بنبذ العهود إلى الكفار أمرٌ في غاية الإحكام والصواب واقعٌ في موقعه، موضوعٌ في موضعه، والفعل هنا محذوف دلَّ ما قبله عليه (¬1). أي: كيف يكون لهم عهدٌ عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي: إن يغلبوكم ويقهروكم ويجدوا فرصة يهينونكم بها لا يراعون فيكم العهود ولا الذمم، ولا يراعون شيئاً، بل يقتلونكم، فمن كانوا بهذه المثابة مِنَ الغَدْرِ والمَكْرِ والخِيَانَةِ وسوء الطوايا والنيات، نَبْذ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ هو أمْرٌ في غاية الحكمة والإصابة. وهذا معنى قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا} كيف يكون لهم -للمشركين- عهد والحال أنهم إن يظهروا، وقد عُلِمَ من اللغة العربية أن العرب رُبَّما تحذف الفعل بعد (كيف) إذا تقدم ما يدلّ عليه؛ لأن (كيف) هنا حُذف بعدها ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 145)، القرطبي (8/ 78).

قوله: {كَيْفَ} يكون لهم عهدٌ عند الله وعند رسوله والحال أنهم وغِرَةٌ صدورهم، حرب أضداد {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ونظير هذا من كلام العرب في حذف الفعل بعد كيف إذا دَلَّ المَقَام عليه قول الشاعر (¬1): وَخَبَّرْتُمَاني أنَّمَا الموْتُ بالقُرَى ... فَكَيْفَ وهَاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ ويُروى: «فكيف وهاتا هضبة وكثيب»، هذا قاله بدويّ أعرابي قال له قوم: إن القرى والمدن والحضر فيها الوباء، يموت الناس فيها غالباً. والصحة أجود في الصحاري؛ لأن أهلها أقلّ موتاً!! فخرج إلى الصحراء، فلما خرج إلى الصحراء فإذا قَبْرٌ في الصحراء بجنب كثيب وهضبة فقال: وَخَبَّرْتُمَاني أنَّمَا الموتُ بالقُرى ... فكيفَ وهَاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ أي: فكيف مات هذا وهو في البادية وليس في القرى؟ وهذا معنى قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} {يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} معناه: يغلبوكم وينتصروا عليكم، تقول العرب: ظهروا عليهم: إذا غلبوهم وانتصروا عليهم. ومنه قوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: آية 14] أي غالبين منتصرين؛ لأن أصل (ظَهَره): علاه فطلع على ظهره، والغالب كأنه يعلو المغلوب حتى يقف على ظهره، ومنه قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} أي: يعلوا ظهره (¬2) {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: آية 97]. كيف يكون ¬

(¬1) البيت لكعب بن سعد الغنوي، وهو في ابن جرير (14/ 145)، القرطبي (8/ 78). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 78).

لهم عهد وهم بهذه المثابة من خبث النيّات والطويّات، وشدة العداوة، وغِرَةٌ صدورهم، والحال {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي: يغلبوكم ويقهروكم وينتصروا عليكم {لاَ يَرْقُبُواْ} أي: لا يراعوا فيكم. {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ولا يحفظوا لكم {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} اعلموا أن المراد بـ (الإلّ) هنا فيه لعلماء التفسير أقوالٌ متقاربة (¬1): قال بعض العلماء: (الإلُّ) اسم الله بالعبرانية. واستأنسوا لهذا ببعض القراءات الشاذة: (لا يرقبوا فيكم إِيْلاً ولا ذمة) (¬2) والإيل من أسماء الله بالعبرية. فجبرائيل معناه: عبد الله، وإسرافيل: عبد الله، وإسرائيل: عبد الله. وهذا القول قال به جماعة من العلماء، أن (الإيل والإلّ) تطلق على الله، ومعروفٌ في قصة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) أنه لما جاءه قوم من أصحاب مسيلمة الكذَّاب وقال لهم: اقرؤوا علي مما يدّعي أنه ينزل عليه. فقرءوا عليه شيئاً مِنْ تُرَّهَاتٍ مسيلمة الكذَّاب، فقال: أنتم تعلمون أن هذا لم يخرج من إلّ، أن هذا كلام لم يصدر من الله. وعلى هذا القول فالمراد: إن يظهروا عليكم ويغلبوكم لا يراقبوا فيكم الله، ولا يراعوا فيكم الله، ولا العهود. هذا قال به قوم. وقالت جماعات من العلماء: (الإلّ) هنا المراد به القرابة، أي: لا يراعون فيكم قرابة، بل يقتلونكم وإن كنتم من قراباتهم. وبهذا قال جماعات من علماء التفسير، وإطلاق الإلِّ على القرابة ¬

(¬1) انظر: أبن جرير (14/ 146 - 149)، القرطبي (8/ 79)، الدر المصون (6/ 17 - 20). (¬2) انظر: المحتسب (1/ 283).

معنى معروف في كلام العرب مشهور، ومنه قول تميم بن مقبل (¬1): أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَّعُوا الإِلَّ وأَعْرَاقَ الرَّحِمْ أي: قطعوا القرابات ولم يصلوها، ومنه بهذا المعنى قول حسان بن ثابت رضي الله عنه (¬2): لََعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ في قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رأْلِ النَّعَامِ يعني: إنّ قرابتك في قريش كذب كقرابة السقب الذي هو الحوار -أعني ولد الناقة- من رألِ النعام، ولا قرابة بين أولاد الإبل وأولاد النعام، ومن هذا المعنى قول يزيد بن مفرغ الحميري في شعره الذي ينفي به نسب زياد بن أبيه عن قريش، ويعاتب معاوية في استلحاقه له؛ لما كان بينه وبين عبّاد بن زياد من العداوة، وما أهانه به عبّاد بن زياد كما هو معروف، قال يزيد بن مفرّغ الحميريُّ في ذلك أبياته المشهورة التي يقول فيها (¬3): ألاَ أبْلِغْ معاويةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَة مِنَ الرَّجُلِ اليَمَانِي ... أَتَغْضَب أن يُقالَ أَبُوكَ عَفٌّ ... وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي إلى أن قال في ابن زياد: فَأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ الجِلِّ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ أَيْ: إِنَّ قَرَابَتَكَ فِي قُرَيْش، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وعلى هذا القول {لاَ يَرْقُبُواْ} أي: لا يُرَاعُون ولا يحْفَظُون ¬

(¬1) البيت في ابن جرير (14/ 148). (¬2) ديوانه ص (242) والسقب: ولد الناقة. والرَّأل: وَلَدُ النعام. (¬3) الأبيات في تاريخ دمشق (65/ 180 - 181) ولفظ البيت الثالث فيه: فأشْهَد أنَّ رحمك مِنْ زياد ... كرحم الفِيلِ من وَلَدِ الأَتَانِ

فيكم {إِلاًّ} أي: قرابة {وَلاَ ذِمَّةً} أي: لا قرابة ولا عهداً، وقال بعض العلماء: الإلّ هو الحِلْفُ، فالعَرَبُ تقول: بَيْنِي وبين فلانٌ إِلٌّ: إذا كان بَيْنَكُمَا حِلْفٌ. قالوا: واشتقاق (الإِلُّ) أنهم كانوا إذا تَحَالَفُوا وتَمَاسَحُوا بالأَيْدِي عند الحلف رفعوا أصواتهم، والعرب تقول: «ألَّ، يَؤُلُّ» إِذَا صَرَخَ ورَفَعَ صوته، ومنه: أَلِيلُ المَرِيضِ؛ أي: أَنِينُ المَرِيضِ المُرْتَفِع، والعرب تقول: «دعت الجارية أَلَلَيْهَا» إذا وَلْوَلَتْ؛ لأن الأليل صراخٌ وصوت. ومنه قولهم: دَعَتِ الجارية ألليها: إذا وَلْوَلَتْ قَول الكميت (¬1): وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ ... إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكَاعِبُ الفُضُلُ وقال قومٌ آخرون: إن (الإلّ) معناه العهد. وعلى هذا القول فهو شيءٌ معطوف على نفسه باختلاف اللفظين، وقد قدّمنا في هذه الدروس مراراً (¬2) أن عطف الشيء على نفسه بلفظين مختلفين أنه أسلوبٌ عربي معروف؛ لأن المغايرة في اللفظ ربما نزلتها العرب كمغايرة المعنى. وهذا الأسلوب في اللغة العربية وفي القرآن، فمن أشهر أمثلته في القرآن قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: الآيات 1 - 4] لأن (الذي) و (الذي) كلها واقعة على شيء واحد هو الله (جلّ وعلا)، إلا أنه لما اختلفت الألفاظ صار العطف بسبب اختلافها، وهو أسلوب معروف في العربية، ومن شواهده المشهورة قول الشاعر (¬3): ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: ألل) (1/ 86)، الدر المصون (6/ 20). (¬2) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... ولَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَم وهو كثير في كلام العرب، ومما أنشده له صاحب اللسان قول الشاعر (¬1): إِنِّي لأعظم في صدر الكَميِّ على ... ما كان في زَمَنِ التَّجْدِيرِ والقِصَرِ وقول عنترة في معلقته (¬2): حُيِّيتَ من طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وأَقْفَرَ بَعْدَ أُمّ الهَيْثَمِ لأن (الإقواء) و (الإقفار) معناهما واحد. و (التجدير) و (القصر) معناهما واحد. واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله- أن هذه المعاني كلها يجب حمل (الإلِّ) عليها؛ لأنه شاملٌ لِلْعَهْدِ والقرابة، والحلف (¬3)؛ أي: لا يُرَاعُونَ فِيكُمْ عَهْداً، ولا قرابة، ولا حلفاً، ولا يُرَاعُونَ اللهَ فِيكُمْ. وهَذَا الذي ذهب إليه هو مِنْ حَمْلِ المُشْتَركِ على مَعَانيه، وحمل المشترك على معنييه أو معانيه مما اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَماء الأصُول، والذي حَرَّرَهُ المحققون من أصوليي أصحاب المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على مَعْنَيَيْهِ أو معانيه (¬4)، فيجوز أن تقول مثلاً: عدا اللصوص البارحة على ¬

(¬1) البيت في اللسان (مادة: جدر) (1/ 417). (¬2) البيت في ديوانه ص 118. (¬3) تفسير ابن جرير (14/ 148). (¬4) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 189 - 195)، البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 126 - 148، 3/ 166 - 472)، مجموع الفتاوى (13/ 340 - 341)، زاد المعاد (5/ 606)، قواعد التفسير (2/ 819).

عين زيد. تعني: أنه عَوَّروا عَيْنَهُ الباصرة، وغَوَّروا عينه الجارية، وسَرقوا عينه التي هي ذهبه وفِضَّتُه فتحمله على الجميع إذا قَصَدْتَ ذَلِكَ، وكان في كلامه ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وهذا معنى قوله: {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}. {يَرْقُبُواْ} معناه: يَحْفَظُوا ويُرَاقِبُوا ويُرَاعُوا. والذمَّةُ: مَعْنَاهُ العَهْدُ، وكل ما تجب المحافظة عليه ويؤاخذ بِنَكْثِهِ تسميه العرب (ذِمَّة). وهو هنا: العَهْدُ، وهذا معنى قوله: {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} يعني: يبذلون لكم الكلام الطيب الحلو باللسان دون ما في القلوب؛ لأن ما في قلوبهم من البغض وإضمار العداوة والشحناء لا يساعد وما تجري به ألسنتهم، فالألسنة تقول شيئاً وما تنطوي عليه الصدور شيءٌ آخر. وهذا معنى قوله: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أي: تُوَافِقُ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ بِأَفْوَاهِهِمْ لما هي منطوية عليه من الكفر والبغض وشدة العَدَاوَةِ لَكُمْ. وهذا معنى قوله: {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} والقلوب هنا جمع قَلْب. وهذه الآيات وأمثالها تدلُّ على أن الذي يدرك ويقع فيه الإباء والانْقِيَاد وجميع أنواع الإدْرَاك كلّه القلب (¬1). وذلك أمرٌ لا شك فيه؛ لأن الذي خلق العقل ومنَّ بالعَقْلِ أعْلَم حيث وَضَعَ العَقْل، فالله (جلّ وعلا) في آيات كتابه يبين دائماً أنه جعله في القلب كقوله: {لهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: آية 179] وقوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] ولم يقل الله يوماً ما: ولكن تعمى الأدمغة التي في ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

الرؤوس. ولم يقل: فإنها لا تعمى الأدمغة. أبداً؛ لأن العَقْلَ محلُّه القَلْب هذا جاء به الوحي الصحيح وكلام مَنْ خَلَقَ القَلْبَ وتَفَضَّلَ بالقَلْبِ، فلَمْ يَأْتِ فِي آيَةٍ واحِدَة ولا في حديثٍ واحد أن مَرْكَزَ العَقْلِ فِي الدِّمَاغِ أَبَداً، لم يقل الله: لهم أدمغة يفقهون بها. أبداً، ولكن يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ}، و {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} ولم يقل: وتأبى أدمغتهم. أبداً، والذي خَلَقَ القَلْبَ وَمَنَّ به ووضعه لا شكّ أنه أعلم بالمحل الَّذِي وَضَعَ به مِنْ فَلْسَفَاتِ الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ الجَهَلَةِ وأذْنَابِهِمْ، وهذا معنى قوله: {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} الفسق: الخروج عن طاعة الله، فكل خارجٌ عن طاعة الله فَهُو فَاسِق، ومنه قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: آية 50] أيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، والعَرَبُ تقول: فسق عن الطريق: إذا خرج منها. ومنه قول الرَّاجِزِ (¬1): يَهْوَينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِراً ... فَوَاسِقاً عن قَصْدِهَا جَوَائِرَا فواسقاً؛ أي: خارجات عن طريقهن. والمراد بالفسق شرعاً: هو الخروج عن طاعة الله. والخروج عن طاعة الله قد يعظم، وقد يكون بعضه أعظم من بعض، فالخروج الأكبر هو الكفر بالله، والمعاصي والكبائر خروج دون خروج؛ ولذا سُمّي الكافر فاسقاً؛ لأنه خارج عن طاعة الله الخروج الأعظم، كقوله جل وعلا: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: آية 26] وقد يطلق الفسق على خروج دون خروج، كالمرتكب لبعض الذنوب، كقوله: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: آية 6]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يُقال: لِمَ قال: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} وهم جميعهم فاسقون، أكثرهم وأقلهم، كلهم فاسقون، فما وجه التعبير بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ}؟ أجاب جماعة من العلماء عن هذا السؤال بأن المراد بالفسق هنا فسق خاص، وهو فسق نقض العهود وعدم الوفاء بها (¬1)، أي: وأكثرهم ناكثون، ناقضون للعهود، فاسقون هذا النوع الخاص من الفسق، وإن كان الجميع مشتركين في أنواع الفسق والكفر. وهذا معنى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}. {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9)} [التوبة: آية 9]. {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الاشتراء في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه: الاستبدال، فكل أحد استبدل شيئاً من شيء تقول العرب: اشتراه، فالاشتراء في لسانها يتناول كل استبدال كائناً ما كان، ومن هذا المعنى قول الراجز (¬2): بُدِّلْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أَزْعَرَا ... وبالثَّنَايَا الواضِحَاتِ الدَّرْدَرَا ... كَمَا اشْتَرى المُسْلمُ إذْ تَنَصَّرَا أي: كما تبدل المسلم، إذا أخذ النصرانية بدل الدين. والثمن في لغة العرب: تطلقه على كل عوض كائناً ما كان، تسميه العرب ثمناً. أما إطلاق (الشراء) على الثمن والمثمن، وتسمية المبيع (مُثمناً)، والمدفوع فيه (ثمناً) فهو اصطلاح خاص للفقهاء في ¬

(¬1) انظر ابن جرير (14/ 150)، البغوي (2/ 271)، القرطبي (8/ 80). (¬2) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة.

البيوع. ومن إطلاق (الشراء) على الاستبدال و (الثمن) على كل عوض في اللغة العربية قول علقمة بن عَبَدَة التميمي (¬1): والحَمدُ لا يُشتَرى إلا له ثَمَنٌ ... مما تَضِنُّ به النفوسُ مَعْلُومُ ومن هذا المعنى قول ابن أبي ربيعة المخزومي (¬2): إن كنت حَاوَلْتَ دُنيا أو أَقَمْتَ لها ... ماذا أَخَذْتَ بتركِ الحَجِّ من ثَمَنِ أي: من عوض يخلفه لك. وهذا معنى {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ} استبدلوا بآيات الله الشرعية -التي هي هذا القرآن العظيم- تركوها وتَعَوَّضُوا منها ثمناً قليلاً. واختلف العلماء بالمراد بهذا الثَّمَنِ القَلِيل (¬3)، فقال جماعة من العلماء: هي نزلت في قوم من الأعراب الذين كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم أبو سفيان بن حرب، وأطعمهم أُكْلَة، ونقضوا العهود بسبب ذلك. وهذا قاله جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ المفسرين في هذه الآية. وهو مستبعد جدّاً؛ لأن هذه الآية من براءة نزلت بعد إسلام أبي سفيان؛ لأنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ عَامَ الفَتْحِ عَامَ ثَمَانٍ، وَهَذِهِ نَزَلَتْ عَامَ تِسْعٍ. وقال بعض العلماء: هي في اليهود؛ لأنهم هم الذين تَبَدَّلُوا الرُّشَا من بيان الحق، وهو ضعيف أيضاً. والتحقيق -إن شاء الله- أن المعنى: أن الكفار تبدلوا من آيات الله والعمل بما جاء عن الله ثمناً قليلاً من متاع الحياة الدنيا، وهو -مثلاً- عدم التقيد بالشرع، وبقاؤهم على ما كانوا عليه، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) انظر: ابن جرير (14/ 150)، البغوي (2/ 271)، القرطبي (8/ 80).

واتباعهم أهواءهم، كما قال (جل وعلا): {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ} [البقرة: آية 90] فتعوضوا من هذا اتباعهم هواهم، وبقاءهم على ما كانوا عليه؛ لأنه أحب إليهم. وهذا شيء تافه تَعَوَّضُوا مِنْهُ سَعَادَةَ الدنيا والآخرة. وهذا معنى قوله: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً}. {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} الظاهر أن (صَدّ) (¬1) هنا هي المتعدية، والمفعول محذوف؛ أي: فصدوا الناس عن سبيله؛ لأن صدودهم في أنفسهم معلوم من قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} لأَنَّ مَنِ اشْتَرَى بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قليلاً فهو صَادٌّ عن سبيل الله، فبيَّنَ أنَّهُمْ ضُلاَّل بقوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وبيّن أنهم مُضِلُّونَ بقوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي: صدوا غيرهم عن سبيل الله (جل وعلا). والسبيل: معناه الطريق. وسبيل الله: دين الإسلام؛ لأنه طريق الله التي أمَرَ بِهَا وَوَعَدَ الجزاء الحسن لمن اتَّبَعَها؛ ولذا سُميت: (سبيل الله) أي: طريقه التي يدعو إليها، والتي تُوَصِّلُ إلى رضاه، وإلى نَيْلِ ما عنده مِنَ الكرامة. وقد قدمنا أن (السبيل) تُذكَّر وتؤنث (¬2)، فمن تذكيرها في القرآن: قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ} [الأعراف: آية 146] برجوع الضمير مذكراً على السبيل. ومن تأنيث السبيل: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف: آية 108]، ولم يقل: «هذا سبيلي أدعو إلى الله». ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف. (¬2) مضى عند تفسير الآية (55، 116) من سورة الأنعام.

وهذا معنى قوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: آية 9]. {سَاء}: فعل جامد لإنشاء الذم. هو بمعنى (بئس)؛ لأن (ساء) بمعنى (بئس) وتعمل عمل (بئس) ( ... ) (¬1). و (ما) إذا جاءت بعد (بئس) أو (نِعم) قال بعض العلماء: يجوز أن تكون نكرة مميزة للفاعل الذي هو الضمير المحذوف، ويجوز أن تكون هي فاعل (بئس) و (ساء) و (نِعم) (¬2). وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فعلى أنها مميّزة فالتقدير: (ساء هو) أي: بئس هو شيئاً كانوا يعملونه. وعلى أنها فاعل فالأمر واضح. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ} [التوبة: آية 10] كائناً من كان {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي: قرابة ولا عهداً. أو: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ، لا يرقبون اللهَ ولاَ يَخَافُونه في المؤمنين فيتَّقون الله فيهم. ثم قال: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} المعتدي: (مُفْتَعِل) من العدوان، والعدوان: مجاوزة الحد. والمراد بالمعتدين: الذين يُجَاوِزُونَ مَا أحَلَّ اللهُ إِلَى ما حَرَّم. وهذا معنى قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}. ثم قال: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} [التوبة: آية 11] فسَّرْناها. {فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فَهُمْ إخْوَانُكم في الدين. مفهومه: أنهم إن ¬

(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. (¬2) انظر: التوضيح والتكميل (2/ 117).

لم يتوبوا من الشرك، أو لم يقيموا الصلاة، أو لم يؤتوا الزَّكَاة لا يكونون إخواننا في الدين. وهذا معنى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}. ثم قال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ} آيات هذا القرآن العظيم، نفصِّلُهَا معْنَاه: نُبَيِّنُهَا ونوضِّحُهَا، ولا نترك بها إجْمَالاً. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إنما خَصّ القَوْم الذين يعلمون؛ لأنهم هم المنتفعون بِهَا؛ لأن من لم يرزقهم اللهُ عِلْماً لا ينتفعون بها. وجرت العادة في القرآن أنه يخص بالشيء العام المنتفعين به دون غيرهم، كقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: آية 45] لأنه المنتفع بالإنذار، وإن كان منذراً للأَسْوَدِ والأحْمَرِ {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: آية 11] لأنه المنتفع مع أنه منذر للأسود والأحمر {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] لأنه هو المنتفع، وإن كان يُذكِّر جميع الخلق بالقرآن (¬1). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. ونرجو الله (جل وعلا) أن نكون ممَّنْ يَفْهَم عن الله تفصيله لآياته؛ لأن هذا القرآن العظيم فَصَّلَ اللهُ فِيهِ كلَّ شَيْء، وأوْضَحَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً ... } الآية [الأعراف: آية 52]. {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} [التوبة: الآيات 12 - 16]. [هذه] (¬1) الآياتُ من سورة براءة يكاد المفسِّرون من الصحابة فمن بعدهم يُجمعون على أنها نازلة في نقض أهل مكة للعهد الذين عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية (¬2)، وذلك يدل على أن بعض هذه الآيات من سورة براءة نزلت قبل التاريخ الذي كنا نقول؛ لأن هذا نازل قبل عام تسع على القول بأنها في أهل مكة، وعامة المفسرين يقولون: إنها فيهم، ولا نعلم أحداً ممن اشتهر عنهم أخذ العلم يقول في غيرهم إلا القول المروي عن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) أن هذه في قوم لم يقاتَلوا بعدُ وقت نزولها (¬3). وعلى هذا القول فلا تُحفظ تفاصيل لهذا النكث والنقض، بل الظاهر والسياق يقتضي أنها في أهل مكة؛ لأن قوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: آية 13] الذين هموا بإخراجه هم أهل مكة، وعلى هذا عامة المفسرين. ومعنى الآية الكريمة: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: آية 12] النكث في لغة العرب: هو تفكيك طاقات الشيء المفتول، فالحبل المفتول -مثلاً- إذا فككتَ طاقاته، وجعلت كل واحدة منها على حدة فقد نكثته، وقد نقضته، كما في قوله: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} ¬

(¬1) في هذا الموضع وُجد انقطاع يسير في التسجيل وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 154)، القرطبي (8/ 84). (¬3) أخرجه ابن جرير (14/ 156)، وابن أبي حاتم (6/ 1761) وأورد البغوي (2/ 272) عن مجاهد قوله: «هم أهل فارس والروم».

[النحل: آية 92] جمع نِكْث. وعلماء البلاغة يقولون: إن النكث والنقض حقيقة في الحسِّيَّاتِ، كل مفتول فككت بين طاقاته فقد نَقَضْته وقد نكثته، وأنها في المعنويات كالعهود مستعارة (¬1). ونحن دائماً نقول: إنها أساليب عربية نطقت بها العرب منذ تكلمت بلغتها، ونزل بها القرآن، يطلق النكث على تفكيك طاقات الحبل، ويطلقه أيضاً على الإخلال بالعهود ونقضها وإبطالها. {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم} الأيمان: جمع يمين. قال بعض العلماء: هي العهود (¬2). وقال بعض العلماء: هي الأيمان التي تؤكَّد بها العهود؛ لأنهم إذا أُخِذَت عليهم العهود أكدوها بالأيمان. وقوله: {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي: من بعد العهد الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم. {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} الطعن في الدين معناه: استنقاصه وثَلْبه بالمعايب. يقولون: إن دين الإسلام ليس بشيء، وأنهم يعيبونه إذا نقضوا العهد وعابوا الدين وثلبوه. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: نكث) (822) القرطبي (8/ 81)، فتح القدير (2/ 341)، التحرير والتنوير (9/ 73). (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 156).

{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} الأصل: فقاتلوهم، إلا أن هؤلاء الذين ينقضون العهود ويسبون الدين أجرى الله العادة أنهم الرؤساء المتبوعون؛ لأن الله أجرى عادته بأن الذين يناصبون الرسل بالعداوة هم القادة المتبوعون المُتْرَفُون، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} [الزخرف: آية 23] المتنعمون الكبار منها. وهذه سنة الله في خلقه؛ ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان في حديثه الصحيح المشهور: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعافهم؟ فقال: بل ضعافهم. قال: أولئك أتباع الأنبياء (¬1). وهذه سنة الله في كونه؛ ولذا قال: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}. قرأ هذا الحرف من السبعة نافع وابن كثير وابن عامر: {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} بجعل الهمزة الأخيرة بين بين (¬2)، وقرأه عامة الباقين من السبعة: {أَئِمَّةَ} بتحقيق الهمزتين. والأئمة جمع إمام، وأصله: أَأْمِمَة وزنه: (أَفْعِلَة) جمع (فِعَال) كمثال وأمثلة. توصِّلَ فيه إلى الإدغام بتسكين الميم الأولى، ونُقِلَت حركتها إلى الهمزة فقيل فيه: (أئمة) (¬3) والأئمة جمع الإمام، والإمام ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (93) من سورة الأنعام. (¬2) قال ابن مجاهد في كتاب السبعة ص312: «قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (أَيْمَة) بهمز الألف وبعدها ياء ساكنة. غير أن نافعاً يُختلف عنه في ذلك ... وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: (أَئِمة) بهمزتين» اهـ. وانظر: المبسوط لابن مهران ص225، النشر (1/ 378 - 379) وقد فصل في كيفية تسهيل الهمزة الثانية ونقل مذاهب القُرَّاء في ذلك. (¬3) انظر: القرطبي (8/ 84)، حجة القراءات ص315، الدر المصون (6/ 25)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص27.

هو: المقْتَدَى به. وللكفر أئمة يُقْتَدَى بِهِمْ فيه -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: آية 41]. {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي: رؤساء الكُفْر وعُظَمَاءَهُ الذين عابُوا دِينَكُمْ ونَقَضُوا عُهُودَكُمْ. والعادة أن الذي يَتَصَدَّى لِتَكْذِيبِ الرّسل وعنادهم وعداوتهم الرؤساء المتبوعون، شياطين الإنس. وما جرى على ألْسِنَة كثير من العلماء هنا أنهم: أبو جهل وأمية بن خلف وسهيل بن عمرو إلى أشراف المذكورين في غزوة بدر، فهو خلاف الظاهر (¬1) للإجماع على تأخر هذه الآيات كثيراً إلى عام تسع، أو إلى أنها نزلت قبل الفتح عام ثمان، وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}. قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} بفتح الهمزة. وهو جمع يمين، وقَرَأَهُ ابْنُ عامر من السبعة: {إنهُمْ لا إِيمانَ لهُمْ لعَلَّهم يَنتَهون} (¬2). فعلى قراءة الجمهور (¬3): {لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} جمع يمين، التحقيق فيها: أنَّ نَفْي أيمانهم على قراءة الجمهور إنما يراد به أنَّهُمْ لا يوفون بها وهي عندهم كَلاَ أيْمَان؛ لأنهم ينقضونها، وهذا أسلوب عَرَبِي معروف؛ تقول العرب لمن يكذب وينقض العهود: لا تَغْتَرّ بِيَمِينِ هذا ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 154)، ابن عطية (8/ 141)، القرطبي (8/ 84)، فتح القدير (2/ 341). (¬2) انظر: السبعة ص312، المبسوط لابن مهران ص 225. (¬3) في توجيه القراءتين انظر: ابن جرير (14/ 157)، القرطبي (8/ 85)، حجة القراءات ص 315، الدر المصون (6/ 25).

فلا يمين له، يعني: لا يَفِي بِهَا ولا يبرّها ولا يوفي بعهد، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول الحماسي (¬1): وَإِنْ حَلَفَت لاَ يَنْقُضُ البَيْنُ عَهْدَهَا ... فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ يعني ليس للنساء أيْمَان؛ لأنهن ينقضنها غالباً. هذا مراده. وقد تمسك الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- بظاهر هذه الآية فقال: لا تُقبل يمين من كافر، ويمين الكافر كَلاَ شَيْء، فلا يمين له؛ لأن الله يقول: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} (¬2). وعلى قراءة ابن عامر: {إنهُمْ لاَ إِيمَان لهُمْ لعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} ففي معنى الآية الكريمة وجهان واضحان معروفان من التفسير: أحدهُمَا: أن المراد بالإيمانِ المنفِيِّ عنهم هو الإيمان الذي هو دين الإسلام، يعني: لا إسلام لهم ولا دين. القول الثاني: -وهو أظهرهما- أنه مصدر: (آمَنَه يؤمِنُه إيماناً) إذا أمَّنه وجعله في مأمن. فالعرب تقول: آمنت فلاناً أومنه، معناه: أمّنته وجعلت له الأمان، وهو معنى مشهور في كلام العرب؛ منه قول الشاعر (¬3): أَيَّانَ نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غَيْرَنَا وَإِذَا ... لَمْ تُدْرِكِ الأَمْنَ منَّا لم تَزَلْ حَذِرَا وهذا أظهر القَوْلَيْنِ؛ لأَنَّ نفي الإيمان عن أئمة الكُفْر معروف واضح. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}. ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 81)، الدر المصون (6/ 26) وفي القرطبي: «لا يَنْقُضُ النأيُ» وفي الدر المصون: «لا تَنْقُضُ الدهرَ». (¬2) انظر: المبسوط للسرخسي (8/ 147). (¬3) البيت في البحر المحيط (4/ 419)، الدر المصون (5/ 529).

قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} متعلق بقوله: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فقاتلوهم لأجل أن يكون قتالكم لهم رادعاً وسبباً لانتهائهم. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (¬1) أَنَّ مِنْ أَشْهَرِ مَعَانِي (لعل) في القرآن معنيان: أحدهما: أنها على معناها الظاهر من التَّرَجِّي، والمعنى: قاتلوهم على رَجَائِكُمْ أنَّ ذَلِك القتال يكون موجباً لانتهائهم عن الكُفْر والطعن في الدين، وهذا بحسب ما يظهر للناس الذين يجهلون العواقب، أما الله (جلّ وعلا) فهو عالم بما كان وما يكون، وعلى هذا المعنى فقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: آية 44] أي: على رجائكما بقدر علمكما أن يكون ذلك سبباً لأن يتذكر أو يخشى. الوجه الثاني: هو ما قاله بعض علماء التفسير من أن كل (لعل) في القرآن فهي بمعنى: التعليل، إلا التي في الشعراء {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: آية 129] قالوا: هي بمعنى كأنَّكُمْ تَخْلدون. وإتيان «لعل» بمعنى التعليل معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (¬2): فقُلتُم لنا كُفُّوا الحروبَ لعلَّنَا ... نكفُّ ووثَّقْتُم لَنَا كلَّ موثقِ فقوله: «كفوا الحروب لعلنا نكف» أي: كفوا لأجل أن نكف عنكم. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

وقوله: {يَنتَهُونَ} أي: يَرْتَدِعُونَ ويَكُفُّونَ وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والطَّعْنِ في الدين. وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة من سورة براءة: أن الذي يطعن في دين الإسلام بلسانه ويستخف به أنه يُقتل (¬1)، أما إذا كان ذِمِّيّاً عُقِدَت له ذِمَّةُ المسلمين فطعن في الإسلام أو سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فالجمهور على أنه يُقتل (¬2)؛ لأن ذلك ينتقض به عهده ويبطل به عهده. وقال بعض العلماء: إنه لا يقتل ولكنه يُؤدَّب ويُعَزَّر؛ لأنَّهُ أُعْطِيَ له الأمان وهو على كفره. والأول أظْهَر. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي: قاتلوهم لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون عن كفرهم. [2/ب] / قال تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13)} [التوبة: آية 13]. (ألا) هنا حرف تَحْضِيض، والتَّحْضِيض معناه الطلب بِحَثٍّ وشِدَّة. والمعنى: إن الله هنا طلب منهم بِحَثّ وشدة أن يقاتلوا هؤلاء الكفَرَة أئمة الكفر، وبيّن لهم أن قِتَالهُمْ إيَّاهُمْ الذي حضَّض عليهم فيه أن له أسباباً متعددة، كل واحد منها يستوجبه بانفراده، فكيف بها مجموعة؟! الأول منها: أنهم نكثوا أيمانهم. الثاني: أنهم هموا بإخراج الرسول (صلوات الله وسلامه عليه). ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 82). (¬2) السابق (8/ 83).

الثالث: أنهم بدءوكم بالقتال. فهذه الأسباب حَرِيَّةٌ بأن يُقاتَل الذين اقترفوها وجاءوا بها. وهذا معنى قوله: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً}. قد قَدَّمْنَا مِراراً (¬1) أن (القوم) اسم جمع لا واحد له من لفظه، وأنه في الوضع العربي يختص بالذكور دون الإناث، بدليل قوله: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} ثم قال: {وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء} [الحجرات: آية 11] وأن المرأة ربما دَخَلَتْ فِي اسْمِ (القَوْم) بحكم التَّبَع إذا اقْتَرَنَ بما يدل عليه، كقوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43]. وقال بعض العلماء: سُمِّيَ قوم الرجل قوماً؛ لأنه لا قوام للإنسان إلا جماعة ينضم إليها ويدخل في جملتها. وهذا معنى قوله: {قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} أي: نقضوا عهودهم، أو نقضوا العهود وأخلُّوا بالأيمان التي حلفوها تَوْكيداً للعهود. {نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: آية 13] الجَمَاهِير على أنَّ هَؤُلاَءِ الذين هَمّوا بإخراج الرسول هُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ (¬2) حين دَبَّرُوا لَهُ المَكِيدَة التي قَدَّمْنَاها مُوضَّحَة في سورة الأنفال (¬3) في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: آية 30] والله (جل وعلا) نص في بعض الآيات أنهُمْ أَخْرَجُوهُ بالفِعْل؛ لأنهم في الحقيقة اضطروه وألجئُوهُ (صلوات الله وسلامه عليه) إلى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: القرطبي (8/ 86)، الأضواء (2/ 430). (¬3) مضى عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال.

الخروج؛ لأن عمه أبا طالب ما دام حيّاً كان يكفّهُمْ عنه، ويرْدَعُهم عنه، ولا يقدرون أن يبلغوا منه المبلغ الذي بلغوا بعد أن مات، وكان يقول له (¬1): واللهِ لنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بجَمْعِهِم ... حَتَّى أُوسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفينَا ... اصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَة ... ............................... فلما توفي أبو طالب ضيّقوا عليه حتى خرج (صلوات الله وسلامه عليه) ودخل هو وصاحبه الصديق في الغار كما ستأتي قصة ذلك مُفَصَّلة في هذه السورة الكريمة -سورة براءة- حيث نصّ الله عليه فيها. وقد قال جل وعلا: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: آية 13] فصرَّح بأنهم أخْرَجُوه. وقال (جلّ وعلا): {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: آية 1] وقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: آية 40] وقال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} [الإسراء: آية 76] إلى غير ذلك من الآيات. والرسول هو سيدنا محمد (صلوات الله وسلامه عليه). وأصل الرسول (فَعُول) بمعنى (مُفْعَل) رَسُول بمعنى مُرْسَل. وأصل الرسول مصدر، إتيان المصادر على وزن (الفعول) مسموع بقلة، كرسول بمعنى الرسالة، وقبول، وولوع، في أوزان قليلة (¬2). والتحقيق أن أصل الرسول مصدر، ومن إطلاقه مصدراً قول الشاعر (¬3): ¬

(¬1) الأبيات في البداية والنهاية (3/ 42)، ولفظ البيت الثاني هناك: فامض لأمرك ما عليك غضاضة ... أَبْشرْ وقَرَّ بذاكَ منك عيونا (¬2) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬3) السابق.

لقد كَذَبَ الواشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِقَوْلٍ وَلا أرسَلْتَهُم بِرَسُولِ يعني: ما أرسلتهم برسالة. ومن فوائد كون أصل الرسول مصدراً؛ لأن هذا الأصل يُحل به بعض الإشكالات في القرآن؛ لأَنَّ مِنَ المُقَرَّرِ فِي عِلْمِ العَرَبِيَّة أن المصدر إذا نُعت به أُلزم الإفراد والتذكير، وربما تنوسي كونه مصدراً فجُمِع (¬1)، وقد جاء (الرسول) مجموعاً بلفظ المفرد، وقد جاء مُثَنى بلفظ المفرد؛ لأن الله قال في سورة طه: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا} [طه: آية 47] فثنّى، وقال في سورة الشعراء: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بالإفراد. ووجه الإفراد في آية الشعراء: أن أصل الرسول مصدر، والمصادر إذا نُزِّلت منزلة الأوصاف أُفردت وذُكِّرَت، ويدل لهذا أنه سُمع في لغة العرب إطلاق الرسول مراداً به الجمع؛ لأن أصله مصدر، ومنه بذلك المعنى قول أبي ذؤيب الهذلي (¬2): أَلِكْنِي إليها وخَيرُ الرسولِ ... أَعْلَمُهُم بنَوَاحي الخَبَر يعني: وخير الرسل. وهذا معنى قوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}. ثم قال: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: آية 13] حذف المتعلق لقوله: {بَدَؤُوكُمْ} والظاهر أن المعنى: بدؤوكم بالقتال والعدوان عليكم أول مرة، واختلف العلماء في وجه ذلك على قولين (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: القرطبي (8/ 86).

أحدهما: أن ابتداءهم لِلْقِتَالِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مُفَصَّلاً في سورة الأنفال في غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِيهَا لِلْعِير خَاصَّةً ولم يخرج للقتال، فَلَمَّا سَاحَل أبو سفيان بالعير، ونجت العير، واستنفر النفير، وجاءهم الخَبَرُ أن عِيرَهُمْ قَدْ سلمت، كان مِنْ حَقِّهِمْ في ذلك الوقت أن يرجعوا، كما أشار عليهم به عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ وعُتْبَة بن ربيعة وحكيم بن حزام، ولكن الخبيث أبا جهل قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكانت من مواسم العرب- وتعزف علينا الغواني، ونشرب الخمر. وفي بعض الروايات أنه قال: لا نَرْجِع حتى نستأصل محمداً وأصحابه (¬1). فلما نجت عيرهم وجاءوا بعد ذلك إلى بَدْر مَعْنَاه أنهم يريدون الشَّرَّ، فكان هذا ابتداءهم بالشر. وقال بعض العلماء: -وهو أظهرهما- أن معنى: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ} أي: بدؤوكم بنقض العهود وقتْل مَنْ كان داخلاً في حِلْفِكُمْ كما وقع من قريش في إعانتهم لبني الديل بن بكر على خزاعة فقتلوهم، كما قال راجزهم (¬2): هم بَيَّتُونا بالوَتِيرِ هُجَّدَا ... وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا فابتداء هذا القتل كأنهم بدءوا بالقتل ونقض العهود، وخزاعة في ذلك الوقت لهم حكم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لدخولهم في عهده. وهذا معنى قوله: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} كان في المرة الأولى ابتداء السوء حاصلاً منهم. وهذا معنى قوله: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: آية 13]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (5) من سورة الأنفال. (¬2) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنفال.

ثم إن الله لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقتال الكفار أنكر عليهم أن يخافوا الكفار، قال: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} بِهَمْزَةِ الإِنْكَارِ. يعني: لا تخشوا هؤلاء أبداً فإنهم كفَرَة فَجَرَة، والله (جل وعلا) أحَقّ أَنْ تَخْشَوْهُ فتمتثلوا أمره، وتقاتلوا أئمة الكفر الذين همُّوا بإخْرَاجِ الرَّسُولِ، وبدءوا بالشر أول مرة. وهذا معنى قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ}. {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} (إن) في قوله: {إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} تشكل دائماً على المتعلمين وبعض العلماء (¬1)، و (إن) هذه هي التي اختلف فيها البصريون والكوفيون، وهي كثيرة في القرآن، فالبصريون يقولون: إن (إن) هذه أنها صيغة شرط جيء بها مراداً بها التهييج وقوة الحمل على الامتثال، وهو أسلوب عربي معروف، أن العرب تنطق بأداة الشرط ولا تريد به حقيقة تعليق جزاء على شرط، وإنما تريد به التهييج والدعوة الصارمة إلى الامتثال، كما تقول للرجل: «إن كنت ابن فلان فافعل لي كذا» وأنت تعلم أنه ابن فلان، إلا أنك تستنهضه وتستحثه، ومن هذا المعنى قول واحد من أولاد الخنساء لما أوصتهم بالجهاد في سبيل الله (¬2): لستُ لخنساءَ ولا للأَخْرَمِ ... ولا لعمرو ذي الثَّنَاءِ الأَقْدَمِ ... إن لم أَرِدْ في الجَيْشِ جَيْش الأَعْجَمي ... ماضٍ على الهولِ خِضَمّ خِضْرِمِ يعني: إن لم أرد في الجيش فلست ابناً لأبي ولا لأمي. لا يقصد التعليق وإنما يقصد تحريض نفسه على هذا. هذا معناها عند البصريين فيما يصح فيه هذا وفيما لا يصح فيه هذا كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ} [الفتح: آية 27] وهم داخلوه قطعاً. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام. (¬2) هذان البيتان سبق ذكرهما عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث الزيارة: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ» (¬1) وهم لاحقون بهم قطعاً، قالوا: السر في هذا التعليق ليُعَلِّم الله خلقه أنهم لا يتكلمون عن مستقبل إلا بتعليقه على مشيئة من له المشيئة، ولو كان أمراً واقعاً لا محالة فكيف بغيره. أما الكوفيون فإنهم يقولون: إن (إن) هذه بمعنى (إذ) وأنها تعليلية، ويقولون: «فالله أحق أن تخشوه إذ كنتم مؤمنين» أي: لأجل كونكم كنتم مؤمنين فذلك يستوجب منكم الخشية، وإطلاق (إن) بمعنى (إذ) رُبَّمَا سُمِع في كلام العرب، وأنشد له بعض علماء العربية قول الفرَزْدَق (¬2): أتَغْضَبُ إن أُذْنَا قُتيبة حُزَّتَا ... جِهَاراً ولم تَغْضَب لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِ يعني: أتغضب لأجل «إذ حُزَّتْ أُذُنَا قُتَيْبَةَ؛ لأجل أَنْ حُزَّتَا» وهذان الوجهان في قوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} [التوبة: آية 13]. قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} [التوبة: الآيتان 14، 15]. [{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ] (¬3) وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}. ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) أول الآية ذهب من التسجيل. وقد أثبتُّ أولها وجعلته بين معقوفين.

لما أَمَرَ اللهُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم وأصحابه بمقاتلة أئمة الكفر وَعَدَهُمْ وَعْدَهُ الجَمِيل -وهو لا يخلف الميعاد- ليستَنْشِطَ هِمَمَهُمْ بهذا الوعد على امْتِثَال الأمر {قَاتِلُوهُمْ} أي: قاتلوا الكفَرَة وأئمة الكفر {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} «يعذب» فعل مضارع مجزوم بجزاء الطلب، وجماهير مِنْ عُلَمَاءِ العرَبِيَّة يقولون: إن جزم المضارع في جَزَاءِ الطَّلَبِ أن أصله مجزوم بشرط مُقَدَّر دل الأمر عليه، وتقديره: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم. وهو جائز (¬1)، فالجزم يجوز، ولو لم يجزم لكان جائزاً؛ لأن الجزم في جزاء الطلب لم يتعين. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} هذا التعذيب الذي يعذبهم الله بأيديهم هو القتل بالضرب الوجيع الذي يصل به صاحبه إلى النار. {وَيُخْزِهِمْ} أي: يذللهم ويهينهم بالأسر، فإن القتل تعذيب، والأسر خزي وإهانة وإذلال، وهذا معنى قوله: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ}. {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: ويعنكم عليهم حتى تقتلوا منهم وتأسروا. {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 14] (يشف) معناه: يداوي داء قلوبهم؛ لأن المؤمن يكون وَغِر الصدر حانقه على الكافر، كأن قلبه مريض لما فيه من شدة الغضب، وكون صدره وَغِراً على الكفار لكفرهم بالله وقتلهم للمسلمين فإذا أمكنه الله منهم وقتلهم وأَسَرَهُمْ شَفَى ذَلِكَ صَدْرَهُ؛ لأَنَّ الغَيْظَ كأنه داء ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (69) من سورة البقرة.

كامن في صدره، والتمكن من الأعداء والتسليط عليهم وقتلهم وأسرهم يشفي ذلك الداء الكامن في الصدر، فينشرح الصدر، ويزول ما كان فيه من كامن المرض الدَّفِين والحِقْد على الكفار. وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور مبتذل جدّاً، ومنه قول مهلهل بن ربيعة (¬1): ولكنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْباً ... عَلَى الأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنّحُورِ ... هتَكْتُ بِهِ بُيُوتَ بَنِي عُبَادٍ ... وَبَعْضُ القَتْلِ أَشْفَى للصُّدُورِ لأن طالب الثأر كأنه وَغِر الضمير حران، فإذا قتل صاحبه بردت غلته وشُفي ما في صدره. وهذا كثير معروف في كلام العرب مَشْهُور. وهذا معنى قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 14] قال جَمَاهِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِير: إن المراد بالقَوْمِ المؤمنين أنهم خزاعة (¬2) حيث تَمَالأَ عليهم البكريون وقريش وقتّلوهم في الحرم، واسْتَنْجَدُوا بالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم لما أرسلوا عمرو بن سالم في قوم منهم بديل بن ورقاء، وقال عمرو رجزه الذي ذكرنا قبل هذا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ» (¬3) يعني مِنْ خُزَاعَةَ، وقد كان ذلك سبباً لغزاة الفتح، وقد قتل جماعة من المشركين يوم الفتح، قال بعض المؤرخين: قتل منهم اثنا عشر رجلاً يوم فتح مكة، والأظهر كما قدمنا مراراً أن أهل مكة قُتلت منهم جماعات. وقد جاء في صحيح مسلم ما يدل على ذلك (¬4)، ويدل ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 160)، القرطبي (8/ 87). (¬3) تقدم تخريجه عند تفسير (58) من سورة الأنفال. (¬4) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

على ذلك رجز حماس بن قيس المشهور الذي هو مشهور عند العلماء؛ لأن حماس بن قيس كان في مكة، وكان يقول لامرأته: لأُخدمنك نساء محمد صلى الله عليه وسلم، ولأجعلهن لك خدماً. وكان يقول لها: إذا جئتك منهزماً فأغلقي الباب دوني. فكان في ذلك اليوم في الطائفة التي وقع فيها القتل والقتال فجاءها مذعوراً منهزماً، وكان يقول قبل يوم الفتح (¬1): إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لِي عِلَّةٌ ... هَذَا سِلاَحٌ كَامِلٌ وأَلَّه ... وذُو غِرَارَيْنِ سَرِيْعُ السَّلَّه فلما جاء زَوْجَتَهُ ووجهه كأنه زَعْفَران مِنَ الخَوْفِ، وقال لها تفتح له الباب، فقالت له: أين الذي كنت تقول؟ فقال (¬2): إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوانٌ وفَرَّ عِكْرِمَهْ ... واسْتَقْبَلَتْنَا بالسّيوفِ المُسْلِمَهْ ... لهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ ... يقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمهْ ... ضَرْباً فَلاَ تَسْمعُ إِلاَّ غَمْغَمَهْ ... لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ وهذا صريح في أنهم قاتلوا وقتلوا. وفي صحيح مسلم: أنهم لم يتعرض لهم ذلك اليوم أحد إلا أناموه (¬3) كما هو معروف. وقد ذكرناه مُفصلاً في سورة الأنفال (¬4). فهذا القتل -قتل قريش وإذلالهم ¬

(¬1) تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر. (¬2) تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر. (¬3) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال. (¬4) السابق.

وقهرهم- شفى صدور الخزاعيين حيث أخذوا بثأرهم وأذل الله عدوهم. وهذا معنى قوله: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: الآيتان 14، 15] لِمَا نالوا من شفاء غليل صدورهم من قهر أعدائهم كما قال الشاعر (¬1): تعلَّمْ شِفَاءَ النَّفسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا ... فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ والمَكْرِ وهذا معنى {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}. {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} قراءة الجمهور: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} لأنها ليست معطوفاً على الجزاء، والأفعال المعطوفة على الجزاء جُزمت، والقراءة هنا هي الجزم. أما اللغة فيجوز في الأفعال المعطوفة على الشرط والجزاء معاً بعد أن تستكمل أداة الشرط شرطها وجزاءها، فالأفعال المعطوفة عليها معلوم أنها يجوز فيها ثلاث لغات: الجزم كما في قراءة هذه الآيات، والرفع، والنصب، وهو معنى معروف في كلامهم، وفي أوجه العربية الثلاثة يروى قول نابغة ذبيان (¬2): فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قابوسَ يَهلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ والشَّهْرُ الحَرَامُ ... وَنَأْخُذَ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أجَبّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ فيه: «ونأخذْ»، «ونأخُذُ»، «ونأخُذَ» بالجزم، والنصب، والفتح. وهذا معنى قوله: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} بعد ذلك يتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه، قد يوفق بعض المشركين فيتوبون ¬

(¬1) البيت في أوضح المسالك (1/ 295)، شذور الذهب ص362. (¬2) ديوان النابغة ص157.

إلى الله ويتوب عليهم. وتوبة الله على عبده هي أن يُقِيلَ عَثْرَتَهُ، ويقبل منه رجوعه حتى يكون الذي صَدَرَ مِنْه كَأَنّه لم يكن. {عَلَى مَن يَشَاءُ} أن يَتُوبَ عَلَيْهِ، فمفعول المشيئة محذوف. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كثير العلم يبالغ في علم نفسه لإحاطة علمه بكل شيء {حَكِيمٌ} لأنه حكيم في شرعه وفي أقواله وأفعاله وتدبيره وجزائه، فهو حكيم في كل شيء، وله الحكمة البالغة (جلّ وعلا). قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [التوبة: الآيات 16 - 19]. يقول الله (جلّ وعلا): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} [التوبة: آية 16]. (أم) هنا هي المنقطعة. ومعنى (أم) المنقطعة عند علماء العربية: أنها تأتي بمعنى استفهام الإنكار، وبمعنى (بل) الإضرابية، وتأتي بمعناهما معاً، وهو أجودها (¬1). ¬

(¬1) انظر: الكليات ص182، معجم الإعراب والإملاء ص78.

و (حسبتم) معناه ظننتم. والإنكار الذي في قوله: «أم» يتوجه إلى من ظن أنه يدخل الجنة من غير ابتلاء ولا امتحان. والمعنى: أحسبتم، أي: أظننتم أن الله يترككم من غير أن يختبركم بالمشاق التي يظهر بالاختبار بها المطيع من العاصي، والمحق من المبطل، والصادق من الكاذب؟ والمعنى: لا بد أن يبتليكم الله ويمتحنكم بأنواع الابتلاء، ومن أعظمها: الأمر بالجهاد في سبيل الله الذي فيه تعريض المُهَج والأمْوَال للتَّلَفِ والضياع؛ لأن ذلك يظهر به الزائف من الخالص، ويُتَبَيَّن به الصَّادِق مِنَ الكَاذِبِ، وهذا معنى قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} يعني أظننتم؟ الحسبان معناه الظن {أَن تُتْرَكُواْ} أن يَتْرُككم الله من غير اختبار ولا امتحان ولا ابتلاء؟ لا. لا يكون ذلك أبداً {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} هي (لم) النافية دخلت عليها (ما) المزيدة لتوكيد النفي، وهي تدل على توقع حصول الأمر ولم يحصل بالفعل. وقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي: يترككم الله ولم يختبركم اختباراً يُعلم به من هو الصادق منكم ومن هو الكاذب، ومن هو المخلص وغيره. وهذه الآيات وأمثالها في القرآن التي ربما يفهم الجاهل منها أن الله يختبرهم ليطرأ له علم بذلك الاختبار، هذا لا يُراد؛ لأنَّ عَالِمَ الغيب والشهادة عالمٌ بِمَا كان وما سيكون وما يقع، وعالم بالمعدومات والموجودات والجائزات والمستحيلات، حتى إنه مِنْ إِحَاطَةِ علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في علمه أنه لا يوجد وأنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون، كما أوضحناه مراراً (¬1). ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

وجرت العادة في القرآن أن الله تبارك وتعالى إذا جاء عنه بعض الآيات التي فيها شبه خفاء لا بد أن يبيّنه ويوضحه في بعض المواضع، وقد أوضح هذا في آية من سورة آل عمران قدمناها مراراً، أوضح فيها أنه يختبر ويبتلي ليُظهر للناس حقيقة الناس، ويعلموا المخلص من الزائف، والصادق من الكاذب، وتلك الآية هي قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: آية 154] بيّن أن ما أوقع بهم يوم أحد من تسليط المشركين عليهم وقتل سبعين منهم أنه فعل ذلك لأجل أن يبتليهم ويختبرهم ويمحص ما في قلوبهم، فظهر المنافقون من الصادقين، ومع هذا قال بعد قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: آية 154] ومن هو عالم بما يخطر في الضمائر لا يستفيد بالاختبار علماً سبحانه (جلّ وعلا) عن ذلك. فالمراد بـ {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} هنا إظهار مَعْلُومَهُ لِلنَّاسِ، أو العلم الذي يترتب عليه الثواب والجزاء؛ لأن الله عالم بأفعالهم قبل أن يفعلوها، وعلمه بها أولاً لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وعالم أيضاً بها وقت فعلها وذلك العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب. وقال البغوي (رحمه الله) في تفسير هذه الآية الكريمة: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} يعني: أحسبتم أن يترككم الله ولم يرَ الله عملكم حتى يتبيّن للناس المخلص من غيره (¬1). وعلى هذا التفسير الذي فسرها به فالمعنى يشبه قوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: آية 105] وعلى كل حال فيجب على كل مسلم أن يعتقد أن علم الله محيط بكل شيء، ¬

(¬1) تفسير البغوي (2/ 273).

لا يخفى عليه شيء، يعلم ما كان، وما سيكون، وما سبق في علمه أنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (¬1) الآيات الكثيرة الدالة على إحاطة علمه حتى بالمعدومات الذي سبق في علمه أنها لا توجد، وأنه عالم بأنها لو وُجدت أنها لا تكون، وأنها لو كانت يعلم كيف تكون، دلت على هذا آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله في سورة الأنعام: {فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] إذا رأى الكفار الحقائق يوم القيامة نَدِمُوا عَلَى تَكْذِيب الرسل وتمنوا أن يُردوا إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا ويصدقوا الرسل، وهذا الرد الذي تمنوه الله عالم بأنه لا يكون، ومع ذلك فقد صرح بأن هذا الرد الذي لا يكون هو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبداً؛ لأن الله ثبطهم عنها لحكمة وإرادة كما صرح به في قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: آية 46] وخروجهم هذا الذي لا يكون صرح بعلمه أن لو كان كيف يكون حيث قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ... } الآية [التوبة: آية 47]. ونظائر هذا كثيرة في كتاب الله (جلّ وعلا) وهذا معنى قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [التوبة: آية 16] يعني: يعلمهم علماً يظهرهم به للناس حتى يتميزوا به، أما هو فهو عالم بكل ما يصنعون وما يؤولون إليه، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: آية 63] يعلمها قبل أن يعملوها. وهذه الآية نصّ الله على ما دلت عليه هنا في آيات كثيرة كقوله: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: الآيتان 1، 2] لا يكون ذلك {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} ومن نظائرها قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: آية 142] وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ} [البقرة: آية 214]. وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} [آل عمران: الآيتان 166، 167] أي: يميز بينهم بما يعمله من الاختبار {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: آية 179] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: آية 31] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المصرحة بأنه قد اقتضت حكمة الله أن لا يترك خلقه من غير ابتلاء وامتحان، بل لا بد أن يمتحنهم ويبتليهم بالشدائد والعظائم ليظهر الذي هو على الحق من الذي هو على الباطل، ويتبين الصادق من الكاذب. وهذا معنى قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: آية 16]. {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} معطوف على فعل الصلة، والمعنى: ولما يعلم الله الذين جاهدوا ويعلم الذين لم يتخذوا من دون الله وليجة. والمعنى: لا بد أن يمتحنكم حتى يُعْلَم المجاهد في سبيل الله

والمخلص الذي لم يتخذ وليجة من دون الله ولا رسوله؛ لأن بعض الناس ظهر نفاقهم وبعضهم ظهر اتخاذهم الوليجة من دون الله. واعلم أن الوليجة في لغة العرب: كل شيء أدخلته في شيء فهو وليجة (¬1). والمراد بها هنا: بطانة السوء؛ لأنهم يدخلون في المسلمين وليسوا منهم؛ لأن كثيراً من غير المخلصين يتخذون أعداء الله أولياء، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، ويطلعونهم على حقائقهم، وهم أعداء للمسلمين، كما كان عبد الله بن أُبيّ وأصحابه يفعلون، هم مع الكفار واليهود، والمعنى: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} ولم يتخذوا من دون رَسُول الله، ولم يتخذوا من دون المؤمنين وليجة، أي: أولياء وبطانات سوء يوالونهم دون المسلمين؛ لأن الأعداء خارجون عن المسلمين، فإدخالهم فيهم كأنه وليجة لهم وإدخال لمن ليس منهم فيهم. فالوليجة هنا: بطانة السوء، وأولياء السوء، يتخذُهم بعض غير الصادقين في إيمانهم أولياء، كما تقدم في قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: آية 28] فاتخاذ هؤلاء الأولياء هو الوليجة؛ لأن العدو الموالَى من المسلمين المُدْخَل فيهم وليجة فيهم وليس منهم، والعرب تقول للرجل في القوم ليس منهم: هو وليجة. يعني داخل فيهم وليس منهم. ووليجة الأمر: دخيلته، وهؤلاء وليجة فلان، معناه: أصحاب سره وداخله، وتطلق على المفرد والجمع. وهذا معنى {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: آية 16] أي: دخيلة من الأعداء يتخذونهم ¬

(¬1) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الواو، باب الواو واللام وما يثلثهما، (مادة: ولج) ص1103.

أولياء، ويوالونهم، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، كما كان يفعله المنافقون، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول أبان بن تغلب: فَبِئْسَ الْوَلِيجَةُ لِلْهَارِبِينَ ... وَالمُعْتَدِينَ وَأَهْلِ الرِّيَب (¬1) وهذا معنى قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي: بطانة سوء وأولياء يدخلونهم ويولجونهم في المسلمين وليسوا من المسلمين، بل هم أعداء المسلمين، يفشون إليهم أسرار المسلمين، كما قال: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: آية 118]. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يعني: الخبير أخص من العالم، والخبرة أخص من العلم؛ لأن العلم يطلق على كل علم، والخبرة لا تطلق في اللغة إلا على علم خاص، وهو علم الشيء الذي من شأنه أن يخفى، فالعرب تقول في الشيء الذي شأنه أن يخفى: على الخبير سقط، وأنا خبير بهذا. فلو قلت مثلاً: أنا عالم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، كان هذا كلاماً عربيّاً، ولو قلت: أنا خبير بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، لما كان هذا كما ينبغي؛ لأن العرب لا تكاد تطلق الخبرة إلا على المعرفة بما من شأنه أن يخفى، كما قال الشاعر في العيافة (¬2): خَبِيرٌ بنُو لهْبٍ فَلاَ تَكُ مُلْغِيَا ... مَقَالةَ لهْبيِ إذا الطَّيْرُ مَرَّتِ ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 88). (¬2) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنعام.

ومعنى خِبْرَته (جلّ وعلا): أنه يعلم الخفايا والخبايا كما يعلم الظاهر، فلا تخفى عليه خافية. وهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم الذي نوَّهْنَا عنه مراراً كثيرة ولا نزال ننوه عنه. وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)} [التوبة: آية 17] {مَسَاجِدَ اللَّهِ} مساجدُ هنا ذُكِرَتْ مرتين: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} والثانية في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}. أما الأُولى منهما وهي قولُه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} فقد قرأه عامةُ السبعةِ غيرَ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرو: {أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} بصيغةِ جمعِ التكسيرِ. وقرأه ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: {ما كان للمشركين أن يعمروا مسجدَ الله شاهدين على أنفسهم بالكفر} (¬1). أما مساجدُ الثانيةُ وهي قولُه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} فقد أَجْمَعَ جميعُ القراءِ على قراءتِها بصيغةِ الجمعِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} ولم يقرأها أحدٌ بالإفرادِ كما هو معروفٌ. وقولُه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} سببُ نزولِها أن كفارَ قريشٍ صَدُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن البيتِ الحرامِ، وقالوا: هو بيتُنا ونحن أولياؤه، وافتخروا بعمارةِ المسجدِ الحرامِ، كما يأتي. يفتخرونَ دائمًا ببيتِ اللَّهِ الحرامِ وأنهم عُمَّارُهُ وأهلُه، كما سيأتي في قولِه: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تُهْجِرُونَ (67)} [المؤمنون: الآيتان 66، 67] ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص226.

وفي القراءة الأُخرى: {تَهْجُرُونَ} (¬1). {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي: بالبيتِ، على أَظْهَرِ التفسيرين؛ لأنهم يتكبرون به بأنهم قُطَّانه وعُمَّاره وأولياؤه، فَرَدَّ اللَّهُ عليهم في هذه الآيةِ الكريمةِ. وقد قدمنا طرفًا من ذلك في سورةِ الأنفالِ في قولِه: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34)} [الأنفال: آية 34]. وقال هنا: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما يصح ولا ينبغي ولا يمكن هذا التناقضُ؛ لأن المساجدَ بيوتُ اللَّهِ، أُسِّسَتْ على طاعتِه والتقربِ إليه بما يرضيه، والمشركونَ كفَرَةٌ فجَرَةٌ، أعمالُهم في المساجدِ كلِّها كفرٌ وتمردٌ على الله وَعُدْوَانٌ، كيف يكونُ هذا يجتمعُ مع هذا؟! لأن المساجدَ إنما بُنِيَتْ لطاعةِ اللَّهِ، وتُؤَسَّسُ على ما يُرْضِي اللَّهَ (جلَّ وعلا) وهؤلاء كفَرَةٌ أعمالُهم كلُّها كفرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، فهذا من الشيء الذي لا يمكنُ أن يجتمعَ؛ لأن فيه اجتماعَ النقيضين. وهذا معنَى قولِه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: آية 17] وفي قراءةِ ابنِ كثيرٍ وأبِي عمرٍو: {يعمروا مسجدَ الله} هو المسجد الحرام، مسجد مكة حرسها الله. وقولُه: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} هذا محلُّ التناقضِ؛ لأن عمارةَ المسجدِ الحرامِ فِعْلُ الْمُطِيعِينَ والمتقربين إلى اللَّهِ، كيف يفعلونَ هذا في وقتِ الحالِ التي هم شاهدونَ فيها على أنفسِهم بالكفرِ؟ وقولُه: {شَاهِدِينَ} حالٌ من واوِ الفاعلِ في قولِه: {يَعْمُرُوا} أي: يعمروها في حالِ كونِهم شاهدين على أنفسِهم بالكفرِ. ¬

(¬1) السابق ص313.

[3/أ] / قال بعضُ العلماءِ (¬1): شهادتُهم على أنفسِهم بالكفرِ إنما هي بأفعالِهم؛ لأن مَنْ سَجَدَ ووضعَ جبهتَه للصنمِ فقد شَهِدَ على نفسِه، وَنَادَى بأعظمِ الكفرِ وأفظعِه. وعلى هذا فهي شهادةُ حَالٍ. وقال بعضُ العلماءِ: هي شهادةُ مقالٍ أيضًا، فهم شاهدون بالحالِ والمقالِ. قالوا: يُرَادُ بذلك أنهم في تَلْبِيَتِهِمْ وطوافِهم بالبيتِ في المسجدِ الحرامِ يقولونَ: لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ، إلا شريكًا هو لَكَ، تملكُه وما مَلَكَ [وقال بعضُ العلماءِ: شهادتُهم على أنفسِهم بالكفرِ هو أن الكافرَ إذا قلتَ له: ما دِينُكَ؟ فيقول] (¬2) النصرانيُّ: نصرانيٌّ، والصابئ: صابئٌ، والمشركُ يقول: مشرك؛ لأنه يَعْبُدُ مع الله غيرَه. والله (جلَّ وعلا) ذَكَرَ مثلَ هذا من شهادتِهم على أنفسِهم في غيرِ هذا الموضعِ كقولِه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} [العاديات: الآيتان 6، 7] أي: الإنسان، وفيه الأقوالُ المذكورةُ هنا. وهذا معنَى قولِه: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} لأن عمارةَ مساجدِ اللَّهِ هي من القربةِ والطاعةِ لله لا تمكن من أحد هو في حال وقت فعله إيَّاها شاهدٌ على نفسه بأنه كافر. وعمارةُ المسجدِ الحرامِ تشملُ أَمْرَيْنِ: أحدُهما: العمارةُ الحسيةُ، وهي مَرَمَّتُهُ وبناؤُه وتزيينُ بنائه. ¬

(¬1) في معنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر. انظر ابن جرير (14/ 165)، القرطبي (8/ 89)، ابن كثير (2/ 340). (¬2) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. انظر: ابن جرير (14/ 165)، ابن أبي حاتم (6/ 1765)، القرطبي (8/ 90).

والثانيةُ: عمارتُه المعنويةُ، وهي عبادةُ اللَّهِ وطاعتُه فيه، واللائقُ بالكفارِ هنا هو الأولُ؛ لأنهم كانوا يَسْدِنُونَ البيتَ وقد بَنَوْهُ، كما قال زهيرٌ (¬1): وَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ ... رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ وبناءُ قريشٍ له معروفٌ، حضره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صِغَرِهِ كما هو معروفٌ. وهذا معنَى قولِه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: آية 17]. {أُولَئِكَ} الكفرةُ الشاهدونَ على أنفسهم بالكفرِ {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ومنها عمارتُهم للبيتِ الحرامِ؛ لأن الكفرَ يحبطُ جميعَ الأعمالِ. ومعنَى {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} اضْمَحَلَّتْ وكانت لا فائدةَ فيها؛ لأن أفعالَ الكفارِ تضمحلُّ ولا تنفعُهم يومَ القيامةِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنْثُورًا (23)} ويقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: الآيتان 15، 16] أما أفعالُ الكافرِ من قُرَبِهِ فإنها تنفعُه في الدنيا؛ لأن الكافرَ إذا أطاع اللَّهَ في الدنيا مُخْلِصًا في طَاعتِه لوجهِ اللَّهِ كَأَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، ويصلَ الرحمَ، وَيُقْرِيَ الضيفَ، وَيُنَفِّسَ عن المكروبِ، ويعينَ [المظلوم] (¬2)، فإذا فَعَلَ الكافرُ هذه القربَ يقصدُ بها وجهَ اللَّهِ فإن اللَّهَ يعاوضه في الدنيا ويعطيه ثوابَه في الدنيا من الصحةِ والرزقِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة الأعراف. (¬2) في الأصل: «الظالم» وهو سبق لسان.

والمالِ، ولا شيءَ له يومَ القيامةِ، كما دَلَّتْ على هذا آياتٌ من كتابِ اللَّهِ، كقولِه: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: آية 20]. وَثَبَتَ معناه في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه (¬1). وهذا معنى قولِه: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: آية 17] النار- والعياذُ بالله - هي نارُ الْخِزْيِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لأعدائه يومَ القيامةِ. والألفُ التي بين النونِ والراءِ منقلبةٌ عن واوٍ، فأصلُها من مادةِ الأجوفِ واوي العين، أصلها (نَوِرْ) ولذا يقولون في النظرِ من بعيدٍ إلى النارِ: تَنَوَّرْتُهَا. فلو كانت يائيةَ العينِ لقالوا: تَنَيَّرْتُهَا. قالوا واشتقاقُها من: نَارَتِ الظبيةُ. إذا ارتفعت جافلةً؛ لأن طبيعةَ النارِ الارتفاعُ. (¬2) {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} خلودُ الكفارِ في النارِ خلودٌ أبديٌّ سرمديٌّ لا انقطاعَ له، كما قال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97]، {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30)} [النبأ: آية 30]، {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: آية 162]. ومعروفٌ في هذا إيرادٌ يُورِدُهُ الكفرةُ الملاحدةُ وأذنابُهم وَمَنْ تَعَلَّقَ بهم يقولونَ: إن الله (جلَّ وعلا) في غايةِ الحكمةِ والعدالةِ، وهو العدلُ الحكيمُ (جلَّ وعلا) والكافرُ إنما عَصَى في الدنيا أيامًا معدودةً، قالوا: فكيفَ يكونُ العملُ في أيامٍ معدودةٍ محدودةٍ والجزاءُ دائمٌ لاَ ينقطعُ أبدًا؟ وأين الحكمةُ والإنصافُ في هذا؟ قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يقولُ ¬

(¬1) تَقَدَّمَ تخريجُه عند تفسير الآية (42) من سورة الأعراف. (¬2) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

هذا!! وهذا يتمسك به الملاحدةُ وأذنابُ الكفرةِ (¬1). والجوابُ عن هذا أن الكافرَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - خبثُه الذي ينطوي عليه الذي هو سببُ كُلِّ ما جاءه من البلايا هو دائمٌ أبدًا لا يزولُ ولا ينقطعُ، فكان جزاؤُه دائمًا لا يزولُ ولاَ ينقطعُ، والله (جلَّ وعلا) يقول: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: آية 21] (خيرًا) نكرةٌ في سياقِ الشرطِ وهي تَعُمُّ، فلا يكونُ في قلوبِهم خيرٌ أبدًا في وقتٍ ما كائنًا ما كَانَ. ومما يوضحُ ذلك: أنهم لَمَّا عاينوا النارَ، وشاهدوا الحقائقَ، وكشفَ اللَّهُ غطاءهم عنهم، وَعَايَنُوا كُلَّ شيءٍ، وَتَمَنَّوُا الردَّ إلى الدنيا مرةً أخرى، صرَّح اللَّهُ بأن ما طُبِعُوا عليه وما جُبِلُوا عليه من الكفرِ لا يزولُ أبدًا، وأنه لو رَدَّهُمْ إلى الدنيا لرجعوا إلى كفرهم؛ لأنهم مُنْطَوُونَ عليه لا يفارقُهم أبدًا، كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] فهذا يدلُّ على أنهم لا يَنْفَكُّونَ عن كفرِهم، وأنهم دائمونَ عليه أبدًا، فكان جزاؤُه دائمًا عليهم أبدًا، جزاءً وفاقًا، ولله (جل وعلا) الحكمةُ في كل ما يفعلُه، وهو الحكمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ. وهذا معنَى قولِه: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}. {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: آية 18]. [المقررُ] (¬2) عند علماءِ العربيةِ أن (إنما) أداةُ حصرٍ وإثباتٍ. ¬

(¬1) راجع هذه الشبهة والجواب عنها، عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

يعنِي: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} العمارةُ المعنويةُ بالعباداتِ وَذِكْرِ اسمِ اللَّهِ فيها، والعمارةُ الحسيةُ، من بنائِها وترميمِها، هذا كُلُّهُ من شأنِ المؤمنينَ، لاَ مِنْ شَأْنِ الكفارِ، وهذا قولُه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}. (مَنْ) فاعل قولِه {يَعْمُرُ} الذي آمَنَ بالله هو الذي يَعْمُرُ مساجدَ اللَّهِ، لا الكافرُ الذي عملُه ضِدٌّ لِمَا بُنِيَتْ له المساجدُ، فهذا تناقضٌ لا يمكنُ أن يكونَ عَامِرًا للمساجدِ، وعملُه ضِدُّ ما بُنِيَتْ له المساجدُ، وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أي: صَدَّقَ به (جلَّ وعلا) وبكلِّ ما يجبُ التصديقُ به. {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} هو يومُ القيامةِ. وجرتِ العادةُ أن اللَّهَ يذكرُ الإيمانَ باليومِ الآخرِ مع الإيمانِ به؛ لأَنَّ الكفرَ باليومِ الآخِرِ سببٌ لكلِّ البلايا وأنواعِ الكفرِ والجحودِ؛ لأن مطامعَ العقلاءِ محصورةٌ في أمرين: هما: جلبُ النفعِ، ودفعِ الضرِّ، والذي لا يصدقُ بيومِ القيامةِ لاَ يرغبُ في خيرٍ في ذلك اليوم، ولا يخافُ من شَرٍّ في ذلك اليومِ، فلا يَنْزَجِرُ عن شيءٍ، ولا يَرْعَوِي عن شيءٍ؛ ولذا كان التكذيبُ بالبعثِ من أشنعِ أنواعِ الكفرِ بالله (جلَّ وعلا) وقد صرَّح اللَّهُ بأن المكذبين بالبعثِ والشاكِّين فيه من حَطَبِ جهنمَ في آياتٍ كثيرةٍ كقولِه: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: آية 11] وقولُه في المنكرين للبعثِ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} استفهامُ إنكارٍ منهم في الخلقِ الجديدِ بعد الموتةِ الأُولَى، قال اللَّهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: آية 5]. وهذا معنى قولِه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ} يعني: الصلواتِ المكتوباتِ الخمسَ. {وَآتَى الزَّكَاةَ}

الحقوقَ الواجبةَ في الأموالِ كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. {فَعَسَى أُولَئِكَ} جماهيرُ العلماءِ يقولونَ: (عسى) من اللَّهِ واجبةٌ (¬1) لأن اللَّهَ كريمٌ لاَ يُطْمَعُ في شيءٍ إلا هو فاعلُه لشدةِ كَرَمِهِ (جلَّ وعلا) وفضلِه. {أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي: السالكينَ طريقَ النجاةِ والصوابِ الْمُوصِلَةَ إلى الجنةِ، وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديثِ أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ» (¬2) لأن اللَّهَ يقولُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: آية 18] وقال أبو بكر بن العربي في الكلامِ على هذا الحديثِ في قولِه: «فَاشْهَدَوُا لَهُ بِالإِيمَانِ» اشْهَدُوا له شهادةً ظاهرةً؛ لأن فعلَه يدلُّ عليها، وتعاهد المساجد يدلُّ على إيمانِه ظاهرًا كما دَلَّ عليه قولُه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أما حقيقةُ الباطنِ فهي عندَ اللَّهِ جَلَّ وعلا. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (129) من سورة الأنعام. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 68، 76)، والدارمي (1/ 222)، والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة، حديث رقم: (3093) (5/ 277)، وابن ماجه في المساجد والجماعات، باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة، حديث رقم: (802) (1/ 263)، والبيهقي (3/ 66)، والحاكم (1/ 212، 2/ 332)، وابن حبان (الإحسان3/ 110). وابن أبي حاتم في التفسير (6/ 1766)، وانظر: ضعيف ابن ماجه ص62، المشكاة (723)، ضعيف الجامع (1/ 184).

وقولُه: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} لم يَخَفْ أحدًا إلا اللَّهَ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ وأمثالِها في القرآنِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقالَ: لاَ يوجدُ أحدٌ إلا هو يَخْشَى من غيرِ اللَّهِ، ويخافُ من غيرِ اللَّهِ؛ لأن كل المخاوف والمحاذير جُبلت طبائعُ البشرِ على الخوفِ والخشيةِ منها، والذي لم يَخْشَ شيئًا من المخاوفِ والمحاذرِ هذا أمرٌ صَعْبٌ. والعلماءُ يُجِيبُونَ عن هذا بِجَوَابَيْنِ (¬1): بعضُهم يقولُ: الخشيةُ التي هي شِرْكٌ بالله التي يحذِّر اللَّهُ منها هي خشيةُ الأصنامِ، والخوفُ من المعبوداتِ من دونِ اللَّهِ، وهذا النوعُ دَلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ؛ لأن عَبَدَةَ الأصنامِ يُخَوِّفُونَ مَنْ يَسُبُّ الأصنامَ بأن الأصنامَ ستفعلُ له وتفعلُ، كما قالوا لِنَبِيِّ اللَّهِ هودٍ: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} الآية [هود: الآيات 54 - 56] وكذلك لما خوَّفوا منها نبيَّ اللَّهِ إبراهيمَ (عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ) وقالوا له: سوف تفعلُ بكَ أصنامُنا وتفعلُ، قال لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: آية 81] وخوَّفوا بها نَبِيَّ اللَّهِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ الزمرِ في قولِه {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ثم قال ردًّا عليهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: آية 36] وفي القراءةِ الأخرى (¬2): {بكاف عباده} وهذا كثيرٌ في ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 90). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص384.

القرآنِ، فهذه الخشيةُ التي يخافُ صاحبُها من عاقبةِ الأصنامِ هذا كفرٌ بِاللَّهِ وشركٌ به. وقال بعضُ العلماءِ: هي الخشيةُ الدنيويةُ من الناسِ إذا كانت تحملُ الإنسانَ على أن يعصيَ اللَّهَ، كالذي يَخْشَى من الكفارِ وَيَجْبُنُ عن الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، كما تقدَّم في قولِه: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤُمِنِينَ} [التوبة: آية 13] أما ما يعرض للإنسانِ من الخوفِ من الأشياءِ والمحاذيرِ بِجِبِلَّتِهِ فهذا أمرٌ لا مؤاخذةَ به؛ لأن اللَّهَ لاَ يكلفُ نفسًا إلا وسعَها كما هو معلومٌ، وهذا معنى قولِه: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: آية 18]. {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [التوبة: آية 19]. قال بعضُ العلماءِ: نزلت هذه الآيةُ الكريمةُ في العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، ذلك أنه لَمَّا أُسِرَ يومَ بدرٍ كان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يلومُه ويشددُ عليه في قتالِه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابةُ يُعَيِّرُونَهُ وأصحابَه بالشركِ بالله، فقال لهم: تذكرونَ مساوئَنا ولاَ تذكرونَ محاسنَنا!! فقال له عَلِيٌّ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ قال: نعم، نحن نُعَمِّرُ بيتَ اللَّهِ الحرامَ، ونسقي الحاجَّ، ونفكَّ العانيَ، ونفعل ونفعل (¬1). ¬

(¬1) أخرج نحوه ابن جرير (14/ 170)، وابن أبي حاتم (6/ 1768) وإسناده صحيح، والواحدي في أسباب النزول ص (244)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 218) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). كما أورده عنه مختصرًا وعزاه لابن مردويه. وقد جاء في هذا المعنى جملة من الآثار منها: 1 - الشعبي: أخرجه ابن جرير (14/ 171)، وابن أبي حاتم (6/ 1768)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 218) وعزاه لابن مردويه وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. 2 - عبد الله بن عبيدة: أورده السيوطي في الدر (3/ 218) وعزاه لابن أبي شيبة وابن مردويه وأبي الشيخ. 3 - ابن سيرين: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 244، وعزاه في الدر (3/ 218) للفريابي. 4 - الضحاك: أخرجه ابن جرير (14/ 172).

وقال بعضُ العلماءِ: نزلت في عثمانَ بنِ طلحةَ، أو شيبةَ بنِ طلحةَ، وَعَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، والعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ. قال العباسُ: أنا صاحبُ السقايةِ. وقال صاحبُ بَنِي عبدِ الدارِ: أنا سادنُ البيتِ، عندي مفتاحُ الكعبةِ، لو أشاءُ لَبِتُّ فيها. وقال عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ: صليتُ إلى القبلةِ قبلَ أن يصليَ الناسُ إليها، وذكرَ الجهادَ ونحوَ ذلك، فأنزل اللَّهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 171)، والواحدي في أسباب النزول ص 244 عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً. وقد جاء بمعناه عدة آثار منها: 1 - عن الحسن البصري: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 244، وعزاه في الدر (3/ 219) لعبد الرزاق. 2 - أنس بن مالك (رضي الله عنه): أورده السيوطي في الدر (3/ 219) وعزاه لأبي نعيم في فضائل الصحابة، وابن عساكر. 3 - السدي: أخرجه ابن جرير (14/ 172). 4 - الشعبي: أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1767).

وأكثرُ المفسرين أن سببَ نزولِها هو افتخارُ الكفارِ بسقايتِهم الحاجَّ، وعمارتِهم المسجدَ الحرامَ، وَجَعْلِهِمْ ذلك مثلَ إيمانِ المؤمنين، وأن لهم من الأَجْرِ مثلَ ما للمؤمنين، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عليهم. وقد جاء في سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ حديثٌ مُشْكِلٌ، لأنه خرَّج جماعةٌ عن النعمانِ بنِ بشيرٍ (رضي الله عنه)، ومن جملةِ مَنْ خَرَّجَ حديثَه مسلمُ بنُ الحجاجِ (رحمه الله) في صحيحِه، أن سببَ نزولِها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يومَ جمعةٍ وعندَ منبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ، فقال واحدٌ منهم: لا أُبَالِي أن أفعلَ شيئًا بعدَ الإسلامِ إلاَّ أن أسقيَ الحاجَّ. وقال الثاني: لا أبالي أن أفعلَ شيئًا بعد الإسلامِ إلا أن أُعَمِّرَ المسجدَ الحرامَ. وقال الثالثُ: الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ أفضلُ من هذا كلِّه. فزجرهما عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) وقال: لا تَرْفَعُوا أصواتَكم عندَ منبرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وكان هذا يومَ جمعةٍ. فإذا صلى الجمعةَ استفتيتُ رسولَ الله فيم اختلفتُم فيه. وأنه استفتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} سببُ نزولِ هذه الآيةِ على هذا السياقِ أَخْرَجَهُ مسلمٌ في صحيحِه وجماعةٌ (¬1)، وهو مُشْكِلٌ جِدًّا؛ لأنا لو فَرَضْنَا أن نزولَها في المؤمنين لاَ يناسبُ قولَه في آخِرِهَا: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 19] فَدَلَّ على أن الصحيح أنها في الكفارِ، وهذا الحديثُ أصلُه فيه إشكالٌ معروفٌ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ، وقد أَوْرَدَ أبو عبدِ اللَّهِ القرطبيُّ (رحمه الله) في تفسيرِ هذه الآيةِ إزالة هذا الإشكال (¬2)، ¬

(¬1) مسلم في الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله. حديث رقم: (1879) (3/ 1499). (¬2) تفسير القرطبي (8/ 92) ..

وكلامُه فيه أجودُ ما وقفتُ عليه في إزالةِ إشكالِه، قال: إنهم لَمَّا اختلفوا وَذَكَرَ واحدٌ منهم عمارةَ المسجدِ، وَذَكَرَ الثاني سقايةَ الحجِّ، وَذَكَرَ الثالثُ الجهادَ، وسأل عمرُ بنُ الخطابِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أن النبيَّ إنما قرأَ الآيةَ- وَكَانَتْ نازلةً قَبْلُ- مستدلاً بها لحكم ما اختلفوا فيه، وهي قولُه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} فظنَّ الراوي أن قراءةَ النبيِّ لها أن ذلك وقتُ نزولها، وذلك ليس بوقتِ نزولِها، فهي نازلةٌ قبلُ ولكنه ذَكَرَهَا استشهادًا واستدلالاً لِمَا اختلفوا فيه. وهذا هو الأظهرُ، والله تعالى أعلم. وقولُه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الظاهرُ أن (جَعَلَ) هنا هي التي بمعنَى اعْتَقَدَ، وأنه أَنْكَرَ عليهم اعتقادَهم تساوي هذين الأمرين وهما بعيدٌ من المساواة، بينهما بَوْنٌ عظيمٌ، وبونٌ شاسعٌ. وكان بعضُهم يقولُ: لاَ يبعدُ أن تكونَ هي التي بمعنَى (صيَّر) أي: صيرتُم هذا كهذا وادعيتُم أنه مثلُه. وقد ذَكَرْنَا في هذه الدروسِ مرارًا (¬1) أن لفظةَ (جعل) تأتِي في اللغةِ العربيةِ لأربعةِ مَعَانٍ، ثلاثةٌ منها موجودةٌ في كتابِ الله، ورابعها موجودٌ في اللغةِ العربيةِ ولم يوجد في كتابِ اللَّهِ، من هذه المعانِي الأربعةِ: كونُ (جعل) بمعنَى (اعتقد) وجعل التي بمعنَى اعتقدَ أصلُها تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين، ومنها قولُه: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: آية 19] وفي القراءة الأخرى (¬2): {الذين هم عند الرحمن إناثًا} والمعنَى: جَعَلُوا الملائكةَ إناثًا، أي: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (100، 112) من سورة الأنعام والآية (189) من سورة الأعراف. (¬2) مضت عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

اعْتَقَدُوهُمْ إناثًا؛ لأنهم لم يصيروهم إناثًا ولا يَقْدِرُونَ، فهي (جَعَلَ) بمعنَى (اعتقد). والثانيةُ: (جَعَلَ) بمعنَى (صيَّر) ومنه قولُه: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: آية 15] أي: صَيَّرْنَاهُمْ. وهذه أيضًا تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين. والثالثةُ: (جَعَلَ) بمعنَى (خَلَقَ) وهي تتعدى إلى مفعولٍ واحدٍ، ومن هذا قولُه في أولِ سورةِ الأنعامِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: آية 1] أي: خلق الظلماتِ والنورَ، بدليلِ عطفِه على قولِه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}. هذه ثلاثةُ مَعَانٍ كُلُّهَا في القرآنِ: (جَعَلَ) بمعنى (اعْتَقَدَ)، (جعل) بمعنَى (صيَّر)، (جعل) بمعنى (خَلَقَ). الرابعُ منها: (جَعَلَ) بمعنَى (شَرَعَ) جَعَلَ يفعلُ كذا إذا شَرَعَ فيه. وهذه ليست موجودةً في كتابِ اللَّهِ، وهي موجودةٌ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي ... ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ وهذا معنَى قولِه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة: آية 19]. والسقاية هي إحدى الوظائفِ؛ لأن قُصَيَّ بنَ كلابٍ - وهو مُجَمِّعٌ - لَمَّا جمَّع قريشًا وأخذ سدانةَ الكعبةِ من خزاعةَ، وجمَّع قريشًا وكان يُسِمَّى مُجَمِّعًا؛ لأنه جَمَعَ قبائلَ قريشٍ بمكةَ، وهو الذي يقولُ فيه ابنُ حذافةَ (¬2): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم هذا البيت في سبيل الهدى والرشاد (1/ 275).

أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ جَعَلَ الوظائفَ وهي السقايةُ والرفادةُ والندوةُ واللواءُ وحجابةُ البيتِ، هذه الوظائفُ كلُّها جعلها لعبدِ الدارِ بنِ قُصَيٍّ؛ لأن أولادَ قصي أربعةٌ: عبدُ بنُ قُصَيٍّ، وكان عبد الدارِ بنُ قُصَيٍّ، وعبد العزَّى بن قصي، وعبد منافِ بن قصي. وكان عبدُ الدارِ بنُ قصيٍّ أقلَّ أولادِه شرفًا وأكثرهم خمولاً، فأعطاه جميعَ الوظائفِ. وَجَعَلَ إلى عبدِ الدارِ السقايةَ والرفادةَ والحجابةَ ودارَ الندوةِ واللواءَ. اللواءُ: هو حَمْلُ اللواءِ في الميدانِ عندَ التحامِ الحربِ. ودارُ الندوةِ: هي الدارُ التي كانوا لاَ يعقدونَ ولا يحلونَ إلا بها، اشتراها بعدَ ذلك حكيمُ بنُ حزامٍ وباعها وتصدقَ بثمنِها (¬1). ولما قالوا له: يا أبا خالدٍ: بِعْتَ مأثرةَ قريشٍ!! قال لهم: الشرفُ بالدِّينِ لا بالديرِ. والسقايةُ: كان قصيٌّ يجمعُ أموالاً على قريشٍ يجعلُ منها الرفادةَ والسقايةَ. الرفادةُ: مالٌ يكونُ عندَهم يكونُ رفدًا لمن تَعَطَّلَ، إذا مات بعيرُ حَاجٍّ اشتروا له بعيرًا، وإذا افتقر أحدٌ أو انقطعت به النفقةُ زَوَّدُوهُ منه حتى يصلَ إلى أهلِه. كل هذا يفعلُه قصي ويأخذ هذا المالَ على قريش. والسقايةُ: كانوا يأخذونَ النبيذَ والشرابَ الطيبَ ويجعلونَه في الموسمِ في الأماكنِ التي تَغْشَاهَا النَّاسُ، فيأتي الناسُ فيشربونَ ¬

(¬1) أخرجه الطبراني من طريقين (3/ 186 - 187) وقال في المجمع (9/ 384): «رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن» اهـ.

مَجَّانًا. وعن ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أن أعرابيًّا جاء واستسقاهم من سقايتِهم فسقوه نبيذًا، فقال الأعرابيُّ: سبحان الله! إن الناس يسقونَ في سقايتهم اللبنَ والعسلَ وأنتم تسقونَ النبيذَ!! يعيبهم بأن سقايتَهم نبيذٌ. فأخبره ابنُ عباسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم وَسَقَوْهُ من نبيذِها، وأمرهم أن يسقوا الناسَ منه. قال: لا نزيدُ على ما أمرنا به رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (¬1). ومعلومٌ أن هذا النبيذَ الذي أمر النبيُّ بِسَقْيِهِ على تقديرِ صحةِ هذا أنه نبيذٌ لا يُسْكِرُ كثيرُه؛ لأن النبيذَ الذي يُسْكِرُ كثيرُه لاَ ينبغي أن يُقْدَمَ على شُرْبِهِ؛ لأنه ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» (¬2) كما هو معروفٌ. فهذه هي سقايةُ الحاجِّ. والرفادةُ والحجابةُ التي هي سدانةُ البيتِ كانت كُلُّهَا لعبدِ الدارِ، وَلَمَّا شبَّ أولادُ عبدِ منافٍ وأرادوا نزعَ هذه الأشياءِ من بَنِي عبدِ الدارِ، ووقعت المخالفةُ بينَ قريشٍ، وتحالفوا للقتالِ الحلف الذي يقال فيه «حِلْفُ الْمُطَيِّبِينَ» و «حِلْفُ لَعَقَةِ الدَّمِ» كما هو معروفٌ، ثم اصطلحوا على أن تبقَى السقايةُ والرفادةُ أن تُرَدَّ لِبَنِي عبدِ منافٍ، ويبقى للعبدريين اللواءُ والندوةُ وحجابةُ البيتِ، أي: سدانة الكعبة حرسها اللَّهُ. فهذه السقايةُ كانوا يفتخرونَ بها ويقولونَ: نحن نَسْقِي الحجَّ ونعمر بيت الله!! ويجعلونَ هذا أفضلَ ممن يؤمنُ بالله، فأنكر اللَّهُ عليهم فقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة: آية 19] الحجاجُ يقدمونَ عليكم فتسقونَهم {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كَتَرْمِيمِهِ وبنائِه. ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد (2/ 131)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 219) وعزاه لابن سعد. (¬2) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

{كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} لاَ بُدَّ أن يُقَدَّرَ مضافٌ في أحدِ الأَمْرَيْنِ (¬1). قال بعضُ العلماءِ: يقدرُ في الأولِ، والمعنَى: أجعلتُم أصحابَ سقايةِ الحاجِّ، أو أهلَ سقايةِ الحاجِّ وعمارةَ المسجدِ الحرامِ كمن آمَنَ، أي: كالذين آمنوا بالله؟ وقال بعضُ العلماءِ: يُقَدَّرُ المضافُ في الثانِي: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ} كعملِ مَنْ آمَنَ بالله. والأمرانِ جائزانِ، وأظهرُهما: تقديرُه في الأولِ، والمعنَى: أجعلتُم أهلَ سقايةِ الحاجِّ وأصحابَ عمارةِ المسجدِ كالذين آمنوا بالله، لا يكونون مثلَهم أبدًا. وَيُسْتَأْنَسُ لهذا بالقراءةِ الشاذةِ المرويةِ عن ابن الزبير وأُبَيِّ بنِ كعبٍ وأبي وجزةَ وغيرهم في قوله: «أجعلتُم سُقاةَ الحاجِّ وعَمَرة المسجدِ الحرامِ» (¬2) السُقاة: جمع الساقي، كقاضي وقضاة. والعَمَرَةُ: جمع عَامِرٍ، ككاتبٍ وكَتبَةٍ، وظالمٍ وَظَلَمَةٍ. فهي قراءةٌ شاذةٌ إلا أنها يُسْتَأْنَسُ بها للمعنَى. والحاجُّ: اسمُ جنسٍ لكلِّ مَنْ يحجُّ بيتَ اللَّهِ الحرامِ، وسقايتُهم: كما كانوا يسقونَ النبيذَ والشرابَ الحلوَ في المواسمِ أيامَ الحجِّ. {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كما بَنَاهُ قريشٌ في صِغَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. جعلتُم واعتقدتُم هذا {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} لاَ يكون مثله. ثم قال: {لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} لاَ يستوي هؤلاء وهؤلاء، لأن ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 91)، الدر المصون (6/ 31). (¬2) ذكرها ابن جني في المحتسب (1/ 285)، والقرطبي (8/ 91)، وأبو حيان في البحر (5/ 20) ولم أجد من عزاها لأُبي بن كعب.

عملَ هؤلاء باطلٌ للكفرِ؛ لأن اللَّهَ قال: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: آية 16] وقال (جلَّ وعلا): {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)} [الفرقان: آية 23] وقال: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 19] أي: ومنهم الكفرةُ الذين يفتخرونَ بسقايةِ الحاجِّ وعمارةِ المسجدِ الحرامِ، فَهُمْ قومٌ ظالمونَ لاَ يهديهم اللَّهُ (جلَّ وعلا). قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: الآيات 20 - 24]. يقول الله (جلَّ وعلا): {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: الآيات 20 - 22]. لَمَّا قال أهلُ مكةَ مفتخرين بأنهم يسقونَ الحاجَّ، ويعمرونَ المسجدَ الحرامَ، ويفكونَ العانيَ - أي: الأسيرَ - وافتخروا بمثلِ هذه الخصالِ، وأنكر اللَّهُ عليهم تسويتَهم بين ذلك وبين الجهادِ والإيمانِ في قولِه الذي ذَكَرْنَا: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: آية 19] صَرَّحَ هنا بأن الإيمانَ بِاللَّهِ والهجرةَ والجهادَ في سبيلِ اللَّهِ أعظمُ درجةً وأفضلُ مما يفتخرُ به أهلُ مكةَ. والظاهرُ أن صيغةَ التفضيلِ هنا لمطلقِ الوصفِ؛ لأن كفارَ أهلِ مكةَ لا درجةَ لهم في سقايةِ الحاجِّ ولا عمارةِ المسجدِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: آية 17] ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا} بالله وبكلِّ ما يجبُ به الإيمانُ {وَهَاجَرُوا} أوطانَهم وديارَهم وأموالَهم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ هؤلاء {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} (درجةً): تمييزٌ محولٌ عن الفاعلِ، أي: أَرْفَعُ رتبةً ومكانةً {وَأُولَئِكَ} المذكورونَ {هُمُ الْفَائِزُونَ} الظافرونَ بالحظِّ الأكبرِ؛ لأن العربَ تقولُ: «فاز فلان». إذا ظفر بما كان يتمنَّى، وظفر بأكبرِ مطلوبٍ، يقولونَ: «فاز»: نال الفوزَ، ومنه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: آية 185]. والإتيانُ بضميرِ الفصلِ بينَ المسندِ والمسندِ إليه في قولِه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} يدلُّ على اختصاصِهم بالفوزِ دونَ الذين قالوا: نحنُ نسقي الحاجَّ وَنُعَمِّرُ المسجدَ الحرامَ. وهذا معنَى قولِه: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}. {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: آية 21] قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غير حمزةَ {يُبَشِّرُهُمْ} مضارعُ يُبشَّره يُبشره. وقرأه حمزةُ من السبعةِ (¬1): {يَبْشُرُهُمْ ربهم برحمة منه} الآية، فعلى قراءةِ حمزةَ: {يَبْشُرُهُم} مضارعُ (بَشَرَه) ثلاثيًّا مجردًا (يَبْشرُهُ) بالضمِّ. وعلى قراءةِ الجمهورِ: {يُبَشِّرُهُمْ} مضارعُ (بشَّره) بالتضعيفِ (يُبَشِّرُه، تبشيرًا). ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 89).

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مرارًا (¬1) أن البشارةَ في لغةِ العربِ هي الإخبارُ بما يَسُرُّ، فكلُّ مَنْ أخبرَك بما يسركَ فقد بشَّرَكَ، وبَشَرَكَ على اللغةِ الأخرى، وأنه يُطْلَقُ أيضًا على البشارةِ بما يسوءُ، فالعربُ أيضًا تُسَمِّي الإخبارَ بما يسوءُ (بشارةً) إذا اقترنَ بما يدلُّ على ذلك، وهو كثيرٌ في القرآنِ، كقولِه: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: آية 34] وقد ذَكَرْنَا أنه أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ. تقول العربُ: «بَشَّره بكذا». إذا أخبرَه بما يسوؤه، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي ... فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرْ وبَيْنُ أَهْلِهِ مِمَّا يسوؤُه الإخبارُ به. وقولُ الآخَرِ (¬3): أَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي ... وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ فجفاءُ الأحبةِ إخبارٌ بما يسوءُ. ومعلومٌ أن الذين تَكَلَّمُوا في البلاغةِ والذين كانوا يُقَسِّمُونَ الكلامَ إلى حقيقةٍ ومجازٍ يقولونَ: إن البشارةَ حقيقةٌ في الإخبارِ بما يَسُرُّ، وهي في الإخبارِ بما يسوءُ استعارةٌ عندهم، ويجعلونَها من الاستعارةِ المسماةِ في اصطلاحِ البيانيين بالاستعارةِ العناديةِ، ويقسمونَها إلى تهكميةٍ وتمليحيةٍ كما هو معروفٌ في مَحَلِّهِ (¬4). ونحن نقررُ دائمًا أنها أساليبُ عربيةٌ، كلها حقيقةٌ في مَحَلِّهِ، وقد وَضَعْنَا في ذلك رسالةً تُسمى (مَنْعُ جوازِ المجازِ في الْمُنَزَّلِ للتعبدِ والإعجازِ) وهذا معنَى قولِه: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: آية 21] الرحمةُ: مصدرُ رَحِمَهُ، والرحمةُ من صفاتِ اللَّهِ (جلَّ وعلا)، ونحن معاشرَ المسلمين نَصِفُ اللَّهَ بما وَصَفَ به نفسَه، وبما وصفَه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، وَنُثْبِتُ له ما أَثْبَتَ لنفسِه، مُنَزِّهِينَ خالقَ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، فلا نميلُ إلى التعطيلِ، ولا إلى التمثيلِ، بل نُقِرُّ بصفاتِ اللَّهِ ونؤمنُ بها على سبيلِ المخالفةِ لصفاتِ الخلقِ، كما عَلَّمَنَا اللَّهُ في قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] ومرارًا نوضحُ مذهبَ السلفِ في آياتِ الصفاتِ عندَ كُلِّ المناسباتِ. ومعنَى قولِه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: آية 21] قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غير شعبةَ - أبي بكر - عن عاصمٍ: {وَرِضْوَانٍ} بكسرِ الراءِ. وقرأه شعبةُ عن عاصمٍ: {ورُضوان} بضمِّ الراءِ (¬1) وهما لغتانِ فصيحتانِ، وقراءتانِ صحيحتانِ؛ لأن العربَ تقولُ في مصدر (رضي) تقول: رَضِيَ يرضى رضاءً ورضوانًا. وتزيدُ فيه الألفَ والنونَ، والألفُ والنونُ تزادانِ في بعضِ المصادرِ كثيرًا كالكفرانِ والرجحانِ والغفرانِ والرضوانِ. والكسرُ والضمُّ لغتانِ فيه، ورضوانُ اللَّهِ: رِضَاهُ (جل وعلا)، والرضا أيضًا صفةٌ من صفاتِ الله (جلَّ وعلا) أَثْبَتَ لنفسه الاتصافَ بها إذا امتُثلت أوامرُه واجتُنبت نواهيه، كما قال تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: آية 8] ونحن دائمًا نُوصِي أنفسَنا وإخوانَنا وعامةَ المسلمين أن يعتقدوا في مذهبِ السلفِ المعتقدَ الواضحَ الذي هو في ضوءِ القرآنِ العظيمِ، الذي لاَ إشكالَ فيه ولا قِيلَ ولا قَالَ، وصاحبُه يَلْقَى اللَّهَ ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 89).

سَالِمًا من البلايا التي وَقَعَ فيها الناسُ الذين أَكْثَرُوا الخوضَ في ذلك بِقِيلٍ وَقَالَ. وإيضاحُ مذهبِ السلفِ في آياتِ الصفاتِ كما بَيَّنَهُ القرآنُ وَأَوْضَحَهُ هذا المحكمُ المنزلُ أنه يتأسسُ على ثلاثةِ أصولٍ مَنْ جاء بها كاملةً لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها أوقعَ نفسَه في بليةٍ فلا يدري هل يتخرجُ منها أو لا (¬1)؟ أَوَّلُ هذه الأسسِ: هو الأساسُ الأعظمُ للتوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ على طريقٍ صحيحٍ، هذا الأساسُ الأعظمُ هو: أن يعتقدَ الإنسانُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مُنَزَّهٌ عن مشابهةِ جميعِ خَلْقِهِ في جميعِ صفاتِهم وأفعالِهم وذواتِهم، فالخلقُ صنعةٌ، والخالقُ (جلَّ وعلا) صانعٌ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: آية 88] والصنعةُ لاَ تُشْبِهُ صانعَها، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمَ هذا الأساسِ عن الله، وَعَلِمَ أن الخلائقَ صنعةٌ، وأن خالقَهم هو صانعُهم وَمُدَبِّرُهُمْ ومنشئُهم عَلِمَ أنه لاَ مناسبةَ بينَ صفاتِه وصفاتِهم، وأنه مُنَزَّهٌ كُلَّ التنزيهِ، مقدسٌ كُلَّ التقديسِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ، لا في ذواتِهم، ولا في صفاتِهم، ولا في أفعالِهم. هذا الأساسُ الأعظمُ، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ هذا الأساسَ، وَفَهِمَهُ عن اللَّهِ، وَطَهَّرَ قلبَه من أدرانِ التشبيهِ، وأقذارِ التمثيلِ، كان يهونُ عليه بعد ذلك أن يُصَدِّقَ اللَّهَ فيما وَصَفَ به نفسَه، ويؤمنَ بصفاتِ اللَّهِ على الوجهِ اللائقِ بكمالِه وجلالِه (¬2). ¬

(¬1) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام. (¬2) وهذا هو الأساس، والأصل الثاني من الأصول الثلاثة المُشار إليها.

وهذا الذي أقولُه لكم ليس من تلقاءِ نَفْسِي بل هو من تعليمِ خالقِ السماواتِ والأرضِ في المحكمِ الْمُنَزَّلِ الذي هو أعظمُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على أشرفِ رسولٍ؛ لأن اللَّهَ يقولُ فيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] فَوَضْعُ الأساسِ الأولِ الذي هو أساسُ التنزيهِ ومخالفةُ الخلقِ في ذواتِهم وصفاتِهم وأفعالِهم بقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] ثم وَضَعَ بعدَه الأساسَ الثانيَ وهو الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ على أساسِ ذلك التنزيهِ، لاَ إيمانًا دَنِسًا وَسِخًا ذَاهِبًا إلى صفاتِ الخلقِ، لا .. لا .. لا، بل هو إيمانٌ مُنَزَّهٌ مَبْنِيٌّ على أساسِ التنزيهِ. وقولُه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بَعْدَ قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه سِرٌّ أَعْظَمُ، ومغزًى أكبرُ، وتعليمٌ عظيمٌ من رَبِّ العالمين، كأنه يقولُ لَكَ: تَعَقَّلْ يا عبدي وَتَفَهَّمْ، ولا تَنْفِ عَنِّي سمعي وبصري بدعوى أن المخلوقاتِ تسمعُ وَتُبْصِرُ، وأن إثباتَ ذلك فيه تشبيهٌ، لا .. لا .. ، رَاعِ في إثباتِ السمعِ والبصرِ أولَ الآية، وَابْنِهِ على نَفْيِ المماثلةِ والمخالفةِ، وَارْبِطْ أولَ الآيةِ بِآخِرِهَا، فأولُها تنزيهٌ، وآخرُها إيمانٌ بالصفاتِ على أساسِ ذلك التنزيهِ، فلا تَقْطَعْ أولَ الآيةِ من آخرِها، ولاَ آخرَها من أولِها، بل ارْبِطْ بينَهما، ولا تَقُلْ: المخلوقاتُ تسمعُ وتبصرُ، وإثباتُ السمعِ والبصرِ لله تَشْبِيهٌ. لا، أَثْبِتِ السمعَ والبصرَ، ولكن إثباتًا مبنيًّا على {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا إثباتًا وسخًا نَجِسًا قذرًا ذاهبًا إلى صفاتِ الخلقِ، لاَ .. لاَ، فأولُ الآيةِ تنزيهٌ بلا تعطيلٍ، وآخرُها إيمانٌ بالصفاتِ وإثباتٌ لها بِلاَ تمثيلٍ.

الأصلُ [الثالثُ] (¬1) من هذه الأصولِ الثلاثةِ: هي أن يعلمَ الإنسانُ قَدْرَهُ، ويقفَ عند حَدِّهِ؛ لأن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأجلُّ وأكبرُ من أن تحيطَ به العقولُ المخلوقةُ المسكينةُ، واللَّهُ يقولُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110] فَنَفَى الإحاطةَ للعلمِ البشريِّ عن خالقِ السماواتِ والأرضِ نَفْيًا بَاتًّا. فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وهو متمسكٌ بهذه الأسسِ الثلاثةِ في ضوءِ كتابِ اللَّهِ لَقِيَهُ في سلامةٍ وفي غيرِ ندامةٍ. ونحن الآنَ في طريقِنا في إسراعٍ وحثٍّ إلى الوقوفِ بين يَدَيِ اللَّهِ (جلَّ وعلا)؛ لأن هذه اللحظاتِ والدقائقَ والثوانيَ يظنُّ الجاهلُ أنها هادئةٌ، وأنها واقفةٌ، وهي تقطعُ بنا آلافَ الأميالِ إلى المحشرِ، فَعَنْ قريبٍ ونحن قائمونَ بين يَدَيِ اللَّهِ في صعيدٍ واحدٍ، ينفذنا البصرُ ويسمعنا الداعي، ويسألنا اللَّهُ، وَاللَّهُ يقولُ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: آية 6] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: الآيتان 92، 93] فَيُوشِكُ أن يقولَ لنا: ماذا كان موقفُكم من صفاتِي التي كنتُ أُثْنِي بها على نَفْسِي في كتابِي، ويثنِي بها عَلَيَّ رَسُولِي صلى الله عليه وسلم؟ [ولا يقولُ لكَ اللَّهُ: لِمَ نَزَّهْتَنِي عن مشابهةِ خَلْقِي؟ لاَ وَاللَّهِ، لا يقولُ لكَ ذلك] (¬2) [3/ب] / أبدًا بل تنزيهُ رَبِّ السماواتِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ في ذواتِهم وصفاتِهم وأفعالِهم طريقُ سلامةٍ محققةٍ لاَ شَكَّ فيه، ولا ¬

(¬1) في الأصل: «الثاني»، وهو سبق لسان. (¬2) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.

يقولُ لكَ اللَّهُ: لِمَ صَدَّقْتَنِي فيما مدحتُ به نفسِي، وأثنيتُ به على نفسِي، وأنزلتُه في كُتُبِي مُعَلِّمًا خَلْقِي أن يَمْدَحُونِي به؟! لا يقولُ لكَ: هذا أبدًا، ولا يقولُ لكَ: لِمَ تقفُ عند حَدِّكَ، وتقرُّ بما لا تَعْلَمُ؟ لأن اللَّهَ يقولُ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} بل هي كُلُّهَا طرقُ سلامةٍ محققةٍ. وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن أولَ البلايا ومنشأَ الرزايا كُلِّهَا من أنجاسِ القلوبِ بسببِ التشبيهِ، كُلُّ البلايا منشؤُها الوحيدُ بسببِ أنجاسِ القلوبِ من أقذارِ التشبيهِ. هذا أصلُ البلاءِ والمحنِ والفتنِ الذي طَبَّقَتْ وَجَلَّلَتْ هذه المعمورةَ؛ لأَنَّ السلفيَّ - مثلاً - العاملَ بضوءِ القرآنِ، إذا سَمِعَ اللَّهَ يُثنِي على نفسِه بصفةٍ من الصفاتِ التي أَثْبَتَهَا لنفسِه، سواء كَانَتْ صفةَ ذاتٍ أو صفةَ فِعْلٍ، كقولِه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: آية 59] امتلأَ قَلْبُهُ إجلالاً وتعظيمًا وإكبارًا، وَعَلِمَ أن هذا الاستواءَ الذي أَثْنَى اللَّهُ به على نفسِه في سبعِ آياتٍ من كتابِه أنه بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ والتنزيهِ والتقديسِ والمباعدةِ عن صفاتِ المخلوقينَ ما يقطعُ جميعَ علائقِ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ. أما إذا كان قلبُ الإنسانِ فيه بعضُ أقذارِ التشبيهِ فأولُ ما يسبقُ إلى ذهنِه أن هذا الاستواءَ ظاهرُه استواءُ المخلوقاتِ - سبحانَ اللَّهِ وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا - فيخطرُ في ذهنِه أنه انتصابٌ كانتصابِ هذا، فَيَتَقَذَّرُ القلبُ من أقذارِ التنجيسِ والتشبيهِ، فعندَ ذلك تأتِي البلايا، وبعدَ ذلك إذا قال: ظاهرُ هذا هو مشابهةُ صفاتِ المخلوقينَ جاءت البلايا من هنا، ثم إنه دَعَاهُ شؤمُ هذا التشبيهِ إلى أن ينفيَ هذه الصفةَ عن اللَّهِ، وَمَنْ يَنْفِي عن اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لنفسِه فهو «أَجْرَأُ من خَاصِي

الأَسَدِ» (¬1). ثم إذا نَفَى هذه الصفةَ عنه ذَهَبَ يتلمسُ إلى وصفٍ في زَعْمِهِ مُلاَئِمٍ، ثم يبدلُ الاستواءَ بالاستيلاءِ فيقولُ: اسْتَوَى معناه اسْتَوْلَى!! ويضربُ لهذا مثلاً بقولِ الراجزِ في بِشْرِ بْنِ مروانَ (¬2): قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ فهذا غلطٌ شديدٌ كبيرٌ أيها الإخوانُ!! ونحن نرجو اللَّهَ أن الذين وَقَعُوا فيه من العلماءِ أن يعفوَ اللَّهُ عنهم ويغفرَ لهم لحسنِ نياتِهم، فَهُمْ كما قال الشافعيُّ رحمه الله (¬3): رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ... وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقَا ونرجو اللَّهَ ألا يكونوا كالذين قال الله فيهم: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} [البقرة: آية 59]. وهذا الذي ذَهَبُوا إليه أعظمُ وأشرُّ وأضرُّ من الذي فَرُّوا منه؛ لأنا نقولُ: أيها الإنسانُ الذي ضَرَبْتَ مثلاً لاستيلاءِ اللَّهِ على عرشِه الذي فَسَّرْتَ به الاستواءَ من تلقاءِ نفسِك باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ وضربتَ له المثلَ ببيتِ الرجزِ المذكورِ: قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ أَمَا تَسْتَحِي من اللَّهِ؟ أما تخافُ اللَّهَ؟ وبأيِّ مبررٍ سَوَّغْتَ لنفسِك أن تشبهَ استيلاءَ اللَّهِ على عرشِه الذي زعمتَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ؟ وهل يوجدُ في الدنيا تشبيهٌ أنتنُ وأخسُّ وأقبحُ من ¬

(¬1) انظر: الأمثال لأبي عبيد ص375. (¬2) مضى عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (148) من سورة الأنعام.

هذا؟! شَبَّهْتَ العرشَ بالعراقِ، وربَّ السماواتِ والأرضِ ببشرِ بنِ مروانَ، وهذا يفتحُ بابًا إلى بحورٍ من أنواعِ التشبيهِ لاَ ساحلَ لها أبدًا؛ لأنه فيه تشبيهُ استيلاءِ اللَّهِ على عرشِه المزعومِ بكلِّ مخلوقٍ قَهَرَ مخلوقًا فَغَلَبَهُ فَاسْتَوْلَى عليه!! فَمِنْ هنا يُضْطَرُّ هذا القائلُ أن يقولَ: الاستيلاءُ الذي فَسَّرْتَ به الاستواءَ استيلاءٌ مُنَزَّهٌ عن استيلاءِ المخلوقينَ. ونحن نقولُ: كيف تُنَزِّهُهُ وأنتَ تضربُ له المثلَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ؟ ثم نقولُ: إذا لَزِمَنَا أن نُنَزِّهَ أحدَ الكلمتين: إما الاستواء الذي نَصَّ اللَّهُ عليه في كتابِه وَأَنْزَلَهُ في سبعِ آياتٍ من القرآنِ كتابًا يُتْلَى أو الاستيلاء الذي جئتَ به، أيهما أَحَقُّ بالتنزيهِ؟ والجوابُ: ولا شكَّ أن كلامَ ربِّ العالمينَ الذي أَنْزَلَهُ وَحْيًا يُتْلَى من فوقِ سبعِ سماواتٍ أحقُّ بالتنزيهِ من غيرِه. فمقصودُنا أن نُبَيِّنَ لإخوانِنا أن المدارَ على حفظِ القلبِ والمحافظةِ عليه من أقذارِ التشبيهِ، وأن يعلمَ الإنسانُ أن كُلَّ وصفٍ وَصَفَ اللَّهُ به نفسَه فهو بالغٌ من غايةِ الجلالِ والكمالِ والإعظامِ والإكبارِ والتقديسِ ما يقطعُ جميعَ علائقِ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ؛ فَيُحْمَلُ على أطهرِ المعانِي وأعظمِها وأقدسِها وأليقِها بِاللَّهِ (جلَّ وعلا) وأبعدِها عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ. ولو قال قائلٌ: نحن لا نعقلُ استواءً تُدْرِكُهُ عقولُنا إلا مثلَ استواءِ المخلوقينَ. فنقولُ له: وهل عقلتَ كيفيةَ الذاتِ المقدسةِ المتصفةِ بهذا الاستواءِ؟ فلا بد أن يقولَ: لاَ. فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الصفاتِ متوقفةٌ على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ، وَاللَّهُ يقولُ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: آية 110] والأشياءُ تختلفُ بإضافاتِها، فالصفةُ المضافةُ وَالْمُسْنَدَةُ إلى اللَّهِ تخالفُ المضافةَ والمسندةَ إلى غيرِه

كمخالفةِ ذاتِ اللَّهِ لذواتِ خَلْقِهِ، فصفاتُ الخلقِ حَقٌّ، وصفاتُ اللَّهِ حَقٌّ، إلا أن صفاتِ اللَّهِ لائقةٌ بذاتِ اللَّهِ، منافيةٌ لصفاتِ المخلوقينَ كمنافاةِ [ذاتِ الخالقِ لذواتِ] (¬1) الْخَلْقِ، والإضافاتُ تتغيرُ بها المخلوقاتُ فكيفَ بِمَا بَيْنَ الخالقِ والمخلوقِ؟ فمثلاً - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى - كلمةُ (رَأْس) أعنِي: كلمةَ (الراءِ والهمزةِ والسينِ) (رأس) هذه الكلمةُ إذا أَضَفْتَهَا إلى الإنسانِ وقلتَ: رأسُ الإنسانِ. وأضفتَها إلى الوادِي فقلتَ: رأسُ الوادِي. وأضفتَها إلى المالِ فقلتَ: رأسُ المالِ. وأضفتَها إلى الجبلِ فقلتَ: رأسُ الجبلِ، أَلَيْسَتْ هذه الإضافاتُ مختلفةً في حقائقِها، متباينةً كُلَّ التباينِ؟ مع أنها مخلوقاتٌ حقيرةٌ ضعيفةٌ تَبَايَنَتْ وَتَخَالَفَتْ لاختلافِ إضافاتِها، فما بَالُكَ بالاختلافِ الواقعِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ؟ لا مشابهةَ هناك ولا مناسبةَ بَيْنَ خالقٍ ومخلوقٍ. فَعَلَيْنَا أن نمشيَ على هذا النمطِ، وإذا سَمِعْنَا اللَّهَ يُثْنِي على نفسِه بصفةٍ أن نعتقدَ أنها صفةٌ بالغةٌ من غاياتِ التنزيهِ والكمالِ والإجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَها وبينَ صفاتِ المخلوقينَ، ونؤمنَ بها على خصوصِ هذا الأساسِ من التنزيهِ، ولاَ نؤمنَ بها إيمانًا وَسِخًا قَذِرًا ذَاهِبًا إلى المشابهةِ بصفاتِ الْخَلْقِ، لاَ .. لاَ، ثم نقطعُ الطمعَ عن إدراكِ الكيفياتِ والإحاطةِ العلميةِ؛ لأن اللَّهَ نَفَاهَا نفيًا بَاتًّا في قولِه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: آية 110] فإننا إذًا نكونُ مُنَزِّهِينَ رَبَّنَا، مُصَدِّقِينَ لِرَبِّنَا، وَاقِفِينَ عندَ حَدِّنَا، وتنزيهُ اللَّهِ طريقٌ مأمونةٌ، وتصديقُ اللَّهِ ورسولِه طريقٌ مأمونةٌ، والوقوفُ عندَ الحدِّ طريقٌ مأمونةٌ. وسنبسط على هذا الكلامِ - إن شاء الله - في بعضِ المناسباتِ الآتيةِ. وهذا ¬

(¬1) في الأصل: «صفة الخالق لصفات». وهو سبق لسان.

معنَى قولِه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21)} [التوبة: آية 21]. الجناتُ: جمعُ تصحيحٍ للجنةِ، والجنةُ في لغةِ العربِ (¬1): البستانُ، فإن العربَ تُسَمِّي كُلَّ بستانٍ جنةً، وسيأتِي قولُه: {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: آية 17] والبستانُ صاحبُ القصةِ المعروفةِ. وإطلاقُ الجنةِ على البستانِ إطلاقٌ معروفٌ مشهورٌ، ومنه قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى (¬2): كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ... مِنَ النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا هذا أصلُ الجنةِ في لغةِ العربِ، وهي في اصطلاحِ الشرعِ: دارُ الكرامةِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لأوليائِه يومَ القيامةِ، فهي شجرةٌ مثمرةٌ، ونخلةٌ مضطردةٌ، وغرفةٌ عاليةٌ، وزوجةٌ حسناءُ، نرجو اللَّهَ أن يرزقَنا الجنةَ وما قَرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ نحنُ وإخواننا المسلمينَ. وهذا معنَى قولِه: {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ}. النعيمُ: خفضُ العيشِ ولينُه، وهو ضِدُّ البؤسِ كما هو معروفٌ. وقولُه: {مُّقِيمٌ} أي دائمٌ أبدًا لا يزولُ، وهذا كمالُ النعمةِ؛ لأَنَّ كمالَ النعمةِ الإقامةُ فيها وعدمُ الانتقالِ عنها؛ لأَنَّ أعظمَ ما يُكَدِّرُ النعمَ والمسارَّ هو أن يُفَكِّرَ الإنسانُ في أنه يفارقُها. فترى الإنسانَ في لَذَّاتِهِ وَفِي نِعَمِهِ وترفِه، إذا فَكَّرَ في أنه غدًا يموتُ عنها، وَتُنْكَحُ نساؤُه، وَتُقْسَمُ أموالُه، ويذهبُ عنه كُلُّ شيءٍ فَزِعَ من ذلك، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

وَأَظْلَمَتِ الدنيا في عَيْنَيْهِ، ولم يَتَلَذَّذْ بما هو فيه، وقد صَدَقَ أبو الطيبِ حيث يقول (¬1): أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي شُرُورٍ ... تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ وهذا معروفٌ عندهم، فكمالُ اللذةِ والنعمةِ إنما هو بالإقامةِ أبدًا، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) نَصَّ في آياتٍ من كتابِه على أن نعيمَ الجنةِ لاَ ينقطعُ ولا يزولُ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: آية 108] فقولُه: {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: غيرُ مقطوعٍ أبدًا، وكذلك قولُه: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: آية 96] أي: باقٍ لا نفادَ له أبدًا، والآياتُ الدالةُ على هذا متعددةٌ في كتابِ اللَّهِ، وهذا معنَى قولِه: {وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ}. {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة: الآية 22] على الدوامِ لا يَزُولُونَ، كما قال جلَّ وعلا: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: آية 108] لا يتحولونَ عنها إلى غيرِها. {إِنَّ اللَّهَ} (جل وعلا) {عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} الأجرُ في لغةِ العربِ: جزاءُ العملِ. ومعنَى {أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: جزاء عملهم وهو الجنة، وَوَصَفَهُ باِلْعِظَمِ لِمَا في الجنةِ من عظيمِ الشأنِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ فيها: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: آية 17] ولأَجْلِ هذا وَصَفَ هذا الجزاءَ بالعِظَمِ. وقد جاء مُفَصَّلاً في القرآنِ جميعُ مَلاَذِّهِ، كالمناكحِ في النساءِ التي هُنَّ في غايةِ الجمالِ، والملابسِ التي هي في غايةِ الجمالِ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (42) من سورة الأعراف.

والمشاربِ والأوانِي وَالْحُلِيِّ والولدانِ والغلمانِ إلى غيرِ ذلك من نعيمِ الجنةِ المفصلِ في آياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، وهذا معنَى قولِه: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: آية 22]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)} [التوبة: آية 23]. سببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ أنه كان رجالٌ من المسلمينَ يؤمنونَ بِاللَّهِ ويريدونَ الهجرةَ، فإذا أرادَ الواحدُ منهم أن يهاجرَ إلى رسولِ اللَّهِ ليشاركَ المسلمينَ فيما هُمْ فيه مِنَ الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ والدعوةِ إلى اللَّهِ جاءته امرأتُه وأولادُه وأبوه وأخوه يناشدونَه بالله أَلاَّ يذهبَ عنهم، ويقولونَ له: إلى مَنْ تَكِلُنَا؟ وَيُثَبِّطُونَهُ، فبعضُهم يَمْكُثُ مِنْ أَجْلِ هذا. فنهاهم اللَّهُ عن هذا، وسيأتِي في سورةِ التغابنِ آيةُ التغابنِ النازلةُ في عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعيِّ، وهي قولُه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] لأنها نَزَلَتْ في عوفِ بنِ مالكٍ، كان كُلَّمَا أرادَ الهجرةَ جاءت امرأتُه وأولادُه وَنَاشَدُوهُ بالله، وقالوا: إلى مَنْ تَكِلُنَا؟ فَيَتَثَبَّطُ، فَلَمَّا هاجرَ بعدَ ذلك وجدَ المسلمينَ سَبَقُوهُ بِكُلِّ خيرٍ، فَنَدِمَ وأرادَ أن يضربَ امرأتَه وأولادَه بسببِ تثبيطهم إياه. فَأَمَرَ اللَّهُ المسلمينَ أن يتحفظوا من الأولادِ والأزواجِ لئلا يُثَبِّطُوهُمْ عن الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، وأنهم إن وَقَعَ منهم شيءٌ أن لا يُؤَاخِذُوهُمْ، بل يَعْفُوا عنهم

وَيَصْفَحُوا (¬1)، كما قال في آيةِ التغابنِ: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] ثم قال: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: اصْفَحُوا عنهم واغفروا لهم ولا تُؤَاخِذُوهُمْ. وهذا معنَى قولِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ} [التوبة: آية 23] قالوا: لم يَذْكُرِ الأولادَ هنا وَذَكَرَهَا في غيرِ هذا الموضعِ، لاَ تتخذوهم أولياءَ تُوَالُونَهُمْ إذا كانوا يريدونَ أن يقطعوكم عن الهجرةِ. {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} قرأ الهمزةَ الثانيةَ من قولِه: {أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو مسهلةً بَيْنَ بَيْنَ، والباقونَ بتحقيقِها كما هو مَعْلُومٌ (¬2). ومعنَى {اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} معناه: اختارُوه وآثَرُوهُ على الإيمانِ، إن آثَرُوا الكفرَ واختارُوه على الإيمانِ لاَ تَتَّخِذُوهُمْ أولياءَ، بل قَاطِعُوهُمْ وَهَاجِرُوا ولا تَرْكَنُوا إليهم. ويتعددُ في القرآنِ إطلاقُ (اسْتَحَبَّ) بمعنَى: (اخْتَارَ) و (آثَرَ) ومنه قولُه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: آية 17] أي: فاختارُوه وَآثَرُوهُ عليه. ومنه قولُه: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [إبراهيم: آية 3] أي: يُؤْثِرُونَهَا ويقدمونَها عليها. وهذا معنَى قولِه: {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ} [التوبة: آية 23] فيكونُ معهم فيما هُمْ فيه ويتركُ الهجرةَ {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ¬

(¬1) الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التغابن، حديث رقم: (3317) (4/ 419)، والحاكم (2/ 490)، وابن جرير (28/ 125)، وانظر: صحيح الترمذي (3/ 121). (¬2) انظر: الإتحاف (2/ 89).

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬1) أن أصلَ مادةِ (الظلمِ) مادةُ: (الظاء واللام والميم) (ظَلَم) أنها في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ أصلُها في الوضعِ العربيِّ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ مَحَلِّهِ. فَمَنْ وَضَعَ شيئًا في غيرِ مَحَلِّهِ تقولُ العربُ: إنه ظَلَمَ؛ لأنه وَضَعَ الشيءَ في غيرِ محله. ومنه قالوا للذي يَضْرِبُ لَبَنَهُ قبلَ أن يروبَ: «ظالم». لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ محلِّه؛ لأنه يُفْسِدُ زُبْدَهُ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ وقولُ الآخَرِ (¬3): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبنْيِ شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ أصلُ الظلمِ هو وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه، وجاءَ في القرآنِ في موضعٍ واحدٍ بمعنَى النقصِ، وهو: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: آية 33] أي: ولم تَنْقُصْ منه شيئًا. وأصلُ الظلمِ: وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه، وأعظمُ أنواعِ وضعِ الشيءِ في غيرِ محلِّه: الكفرُ بالله؛ لأنه وَضْعٌ للعبادةِ في غيرِ مَنْ خَلَقَ، فالذي يأكلُ رزقَ اللَّهِ، ويتقلبُ في نعيمِه، ويعبدُ غيرَه قد وَضَعَ عبادتَه في غَيْرِ موضعِها؛ فهو ظالمٌ، وهذا أكبرُ أنواعِ الظلمِ؛ ولأجلِ هذا يكثرُ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُ الظلمِ على الكفرِ، كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)}، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] وقد ثَبَتَ فِي صحيحِ البخاريِّ (¬1) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ قولَه تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82] قال: بِشِرْكٍ. ثم تلاَ آيةَ لقمانَ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} هذا أصلُ الظلمِ. وقد يكونُ ظلمٌ دونَ ظُلْمٍ؛ لأن مَنْ أَطَاعَ الشيطانَ وَعَصَى رَبَّهُ بغيرِ ما يكفرُ به قد وضعَ الطاعةَ في غيرِ موضعِها، ووضع المعصية في غير موضعِها حيث عَصَى رَبَّهُ وأطاعَ عدوَّه. وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وضعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها؛ ولذلك هنالك ظلمٌ هو كفرٌ، وهنالك ظُلْمٌ دونَ ظلمٍ هو خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ لاَ يبلغُ بصاحبِه الكفرَ، وهذا معنَى قولِه: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم وَضَعُوا الأمرَ في غيرِ موضعِه فَاتَّخَذُوا مَنْ يَضُرُّهُمْ أولياءَ، وتركوا ما ينفعُهم من الهجرةِ والجهادِ في سبيلِ اللَّهِ. وهذا معنَى قولِه: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: آية 24]. سببُ نزولِها هو ما أَشَرْنَا له آنِفًا؛ لأَنَّ بعضَ الناسِ كان إذا أَسْلَمَ عَاقَتْهُ هذه العوائقُ عن الهجرةِ والجهادِ في سبيلِ اللَّهِ (جلَّ وعلا) بأن تُعَطِّلَهُ عن ذلك الأبناءُ والآباءُ والإخوانُ والعشائرُ والزوجاتُ والأموالُ المكتسَبةُ والتجاراتُ التي يُخاف أن تضيعَ بالكسادِ ويضيعَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

رِبْحُهَا، إِن كان هذا كُلُّهَ أحبَّ إليكم من اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ ومن الجهادِ في سبيلِه {فَتَرَبَّصُوا} هو أمرُ تهديدٍ كما يَأْتِي. وقولُه: {آبَاؤُكُمْ} اسمُ كَانَ. و {أَحَبَّ} خبرُها. ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لهؤلاء المتخلفينَ عن الهجرةِ في سبيلِ اللَّهِ بسببِ هذه العوائقِ الآتيةِ، قُلْ لَهُمْ: إن كانت هذه الأمورُ التي عَاقَتْكُمْ أَحَبَّ إليكم من اللَّهِ ومن رَسُولِهِ ومن جهادٍ في سبيلِه فانتظروا أمرًا يأتيكم مِنَ اللَّهِ. وهذا معنَى قولِه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ}. الآباءُ جمع الأبِ، والعربُ تقولُ: «أَبٌ» إذا نَكَّرَتْهَا تعربُها على العينِ وتحذفُ لاَمَهَا ولاَ تُعَوِّضُ منه شيئًا، وهي من الأسماءِ التي تُعْرَبُ على العينِ عند التنكيرِ والتعريفِ. أما إذا أُضيفت فَإِنَّ لاَمَهَا تَرْجِعُ لها (¬1)، وأصلُ لاَمِ (الأب) واوٌ، أصلُه (أبوٌ) فلامُ الكلمةِ وَاوٌ، فإنها إذا أُضِيفَتْ - مثلاً - أُعْرِبَتْ بالواوِ والألفِ والياءِ، فَرَجَعَتْ لها لامُها كما هو معروفٌ. وإذا نُكِّرَتْ أو عُرِّفَتْ أُسْقِطَتْ لامُها وَأُعْرِبَتْ على العينِ (¬2). والإخوانُ جمعُ أخٍ. وأصلُ (أخٍ) أيضًا لاَمُهُ المحذوفةُ واو؛ ولهذا رَجَعَتْ في جمعِ التكسيرِ في قولِه: {وَإِخْوَانُكُمْ} فالأخُ أصلُه (أخوٌ) بالواوِ، فلامُه المحذوفةُ واوٌ (¬3)، وهو كالأبِ في جميعِ ما كنا نَذْكُرُ. هذا معنَى قولِه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}. الأبناءُ جمعُ الابنِ وهو معروفٌ. ¬

(¬1) انظر: شرح قطر الندى ص46. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص7. (¬3) انظر: المصدر السابق ص17.

{وَأَزْوَاجُكُمْ} الأزواجُ جمعُ زوجٍ، وزوجُ الرجلِ امرأتُه، ومفردُه (زوج) بلا هاءٍ، وهذه هي اللغةُ الفصيحةُ. العربُ تقولُ: هذه زوجُه، أي: امرأتُه، وزعم بعضُ علماءِ العربيةِ أن قولَهم (زوجتُه) بالتاءِ أنها من لَحْنِ الفقهاءِ، وأنها لا أساسَ لها في العربيةِ. والتحقيقُ أن اللغةَ الفصحى في امرأةِ الرجلِ أنها (زوجُه) بلا تاءٍ، وأن التاءَ لغةٌ فيها مسموعةٌ وليست لَحْنًا كما يقولُه بعضُهم (¬1). وَمِنْ إِطْلاَقِ الزوجةِ بالتاءِ على امرأةِ الرجلِ قولُ الفرزدقِ، هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ، وهو عربيٌّ قُحٌّ (¬2): وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا ومنه قولُ الحماسيِّ (¬3): فَشَكَا بَنَاتِي شَجْوَهُنَّ وَزَوْجَتِي ... وَالظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا وفي صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَنَسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في صفيةَ: إنها زوجتِي (¬4). فالتحقيقُ أن الزوجةَ بالتاءِ لغةٌ لاَ لَحْن، وأن اللغةَ الفصحى في امرأةِ الرجلِ أن يقال فيها: (زَوْجُهُ) بلا هاءٍ. وهذا معنَى {وَأَزْوَاجُكُمْ} أي: نِسَاؤُكُمْ. {وَعَشِيرَتُكُمْ} قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ - غير أبي بكرٍ عن عاصمٍ - (أعني بأبي بكر: شعبةَ) قرؤوه كلُّهم: {وَعَشِيرَتُكُمْ} بالإفرادِ. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (189) من سورة الأعراف. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

وقرأه شعبةُ عن عاصمٍ: {وعشيراتكم} (¬1) بجمعِ التصحيحِ، جمع عشيرةٍ، وعشيرةُ الرجلِ ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه ما يدلُّ على أنها تشملُ إلى الجدِّ العاشرِ؛ لأنه ثَبَتَ في الصحيحِ (¬2) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزلَ عليه قولُه تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: آية 214] أنه امْتَثَلَهَا فَنَادَى بني فِهْر، وفِهْرٌ هو جدُّه العاشرُ صلى الله عليه وسلم، فَدَلَّ هذا الحديثُ الصحيحُ على أن العشائرَ تشملُ إلى الجدِّ العاشرِ من الرجلِ، وهذا معنَى {وَعَشِيرَتُكُمْ}. {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} الاقترافُ في لغةِ العربِ معناه الاكتسابُ، أموالٌ اكْتَسَبْتُمُوهَا تخافونَ إن سَافَرْتُمْ عنها أن تضيعَ {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} تخافونَ إذا هاجرتُم عنها أن تكسدَ ولا تَجِدَ رواجًا وربحًا، وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: إن التجارةَ التي يخافُ كَسَادَهَا مَنْ عِنْدَهُ بناتٌ - مثلاً - إذا خرج كَسَدْنَ ولم يَجِدْنَ أزواجًا يتزوجونهن (¬3). والأولُ هو ظاهرُ القرآنِ، وهو ظاهرُ اللغةِ، وإن كان الثانِي قال به جماعةٌ. {وَمَسَاكِنُ} جَمْعُ الْمَسْكَنِ وهي الديارُ والقصورُ {تَرْضَوْنَهَا} يعنِي ترضونَها سَكَنًا وتحبونَ الإقامةَ وَالسُّكْنَى فيها، إن كان هذا كلُّه ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص 226. (¬2) البخاري في التفسير، باب: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)} حديث رقم: (4770) (8/ 501) وأخرجه في موضع آخر، انظر حديث رقم: (4971) ومسلم في الإيمان، باب في قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} حديث رقم: (208) (1/ 193) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). وقد جاء نحوه عن أبي هريرة وعائشة وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين. (¬3) انظر: القرطبي (8/ 95).

أحبَّ إليكم من اللَّهِ ورسولِه وجهادٍ في سبيلِه {فَتَرَبَّصُوا} قد ثَبَتَ في الصحيح (¬1) عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يُؤْمِنُ أحدٌ حتى يكونَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من أهلِه وولدِه بل وَمِنْ نفسِه التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، فلا يؤمنُ أحدٌ حتى يكونَ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسِه التي بين جَنْبَيْهِ وَمِنْ كُلِّ شيءٍ كائنًا ما كان. وكذلك محبةُ اللَّهِ (جلَّ وعلا)، فالمسلمُ يُحِبُّ اللَّهَ (جلَّ وعلا) ويحبُّ رسولَه صلى الله عليه وسلم. وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن العلامةَ الواضحةَ لمحبةِ اللَّهِ ورسولِه هي امتثالُ أَمْرِ اللَّهِ واجتنابُ نَهْيِ اللَّهِ فيما بَلَّغَهُ عنه رسولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم. هذا هو علامةُ المحبةِ. وَاعْلَمُوا أن كُلَّ مَنْ يَدَّعِي محبةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يخالفُه أنه كذابٌ، كذابٌ، لا يحبُّ اللَّهَ ولاَ رسولَه، وَمَنْ يُخَالِفُ اللَّهَ فالحبُّ منتقصٌ بقدرِ المخالفةِ، والمحبُّ جِدًّا لا يخالفُ محبوبَه، فعلامةُ حُبِّ اللَّهِ وَحُبِّ رسولِه الواضحةُ والشهادةُ به القاطعةُ هي اتباعُ ما جاء عن اللَّهِ على لسانِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومصداقُ هذا في كتابِ اللَّهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: آية 31] فمحبةُ اللَّهِ ومحبةُ رسولِ اللَّهِ علامتُها القاطعةُ اتباعُ رسولِ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي أنه يحبُّ اللَّهَ ويحبُّ رسولَ اللَّهِ ويرتكبُ الأمورَ المخالفةَ لِمَا جاء به رسولُ اللَّهِ عن اللَّهِ فهو كَذَّابٌ، كذابٌ، كذابٌ في دَعْوَاهُ المحبةَ. وهذا أمرٌ معروفٌ عند ¬

(¬1) البخاري في الأيمان، باب: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حديث رقم: (15) (1/ 58)، ومسلم في الإيمان، باب: وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: (44) (1/ 67)، من حديث أنس (رضي الله عنه). وأخرجه البخاري في الموضع السابق (14) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وقد ذكره الشيخ بمعناه، ولفظه: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وفي بعض الألفاظ: «من أهله وماله والناس أجمعين».

الناسِ؛ لأنه من الجبلةِ المعروفةِ عند العامةِ أن المحبةَ تقتضِي الاتباعَ: لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ (¬1) وقد صدق مَنْ قال (¬2): قَالَتْ وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ حَالِ عَاشِقِهَا ... بِاللَّهِ صِفْهُ وَلاَ تَنْقُصْ وَلاَ تَزِدِ فَقُلْتُ لَوْ كَانَ رَهْنَ الْمَوْتِ مِنْ ظَمَأٍ ... وَقُلْتِ قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدِ هذا في محبةِ مخلوقٍ على وَجْهٍ غيرِ لائقٍ فكيف بمحبةِ اللَّهِ ورسولِه؟ فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ هو مطيعُ اللَّهِ، والمحبُّ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هو متبعٌ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وقولُه: {فَتَرَبَّصُوا} التربصُ في لغةِ العربِ: الانتظارُ، ومنه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: آية 228]. تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا (¬3) ¬

(¬1) البيت في تاريخ دمشق (13/ 379) ونسبه للحسن بن محمد بن الحنفية. (¬2) البيتان في ديوان يزيد ص83، وهي أيضًا في (قرى الضيف) ص118، بالإسناد إلى أبي المطاع ذي القرنين بن ناصر الدولة أبي محمد من شعره. وذكرهما الأبشيهي في المستطرف (2/ 385)، وابن الجوزي في المدهش ص314، بدائع الفوائد (3/ 216) ولفظهما هناك: قالت لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلتِ: قف عن ورود الماء لم يرد قالت: صدقت الوفا في الحب شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي (¬3) البيت في القرطبي (3/ 108)، واللسان (مادة: ربص) (1/ 1106)، والدر المنثور (6/ 120) وعزاه لابن الأنباري في الوقف والابتداء، وهو أيضًا في فتح القدير (1/ 232) (5/ 99).

قال بعضُ العلماءِ: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الظاهرُ أنه واحدُ الأمورِ، ولاَ شَكَّ أن في هذه الآيةِ تَهْدِيدًا وتخويفًا لِمَنْ دَامَ على إيثارِه هذه الأشياءَ على الله وعلى رسولِه صلى الله عليه وسلم {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ} جلَّ وعلا {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. مِثْلُ هذه الآياتِ فيه سؤالٌ معروفٌ للعلماءِ، كقولِه: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فَاللَّهُ (جلَّ وعلا) نَفَى هدايتَه للفاسقين، وَنَفَى هدايتَه للظالمين، مع أَنَّا نُشَاهِدُ بعضَ الفاسقينَ الظالمينَ يَهْدِيهِ اللَّهُ، وَكَمْ مِنْ كافرٍ شديدٍ في الكفرِ، ظالمٍ فاسقٍ يهديه اللَّهُ. هذا وجهُ الإشكالِ. وأجابَ العلماءُ عن هذا بِجَوَابَيْنِ: أحدُهما: أن قولَه: {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} من العامِّ المخصوصِ، وأن المرادَ بها الذين سَبَقَ في علمِ اللَّهِ أنهم لا يهتدونَ من الفسَقَةِ وَالظَّلَمَةِ الذين قال اللَّهُ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} الآيةَ [يونس: الآيتان 96، 97]. وقال بعضُ العلماءِ: لا يهديهم ما زالوا مُتَّصِفِينَ بالظلمِ والفسقِ، فإذا نَزَعُوا عن ذلك برحمةِ اللَّهِ وهدايتِه زَالَ عنهم اسمُ الفسقِ والظلمِ، فلا مانعَ إذًا من هُدَاهُمْ. هكذا قَالَهُ بعضُ العلماءِ وَاللَّهُ تعالى أعلمُ. وهذا معنَى قولِه: {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: آية 24]. {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ

جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27)} [التوبة: الآيات 25 - 27]. {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} اللامُ جوابُ قَسَمٍ محذوف، وَاللَّهِ لقد نصركم اللَّهُ. أي: أعانَكم على أعدائِكم {فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي: في مشاهدَ ومواضعَ كثيرةٍ، كما نصركم يومَ بدرٍ، ويومَ الأحزابِ، ويومَ فتحِ مكةَ، إلى غيرِ ذلك {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: آية 25] بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ أن النصرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وحدَه، لا بكثرةِ العددِ ولا بكثرةِ العُددِ {كَم مِّنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: آية 249] لأن أكثرَ غزاةٍ قبلَ تبوك غزاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم غزوةُ حُنَيْنٍ، كانوا اثْنَيْ عَشَرَ ألفًا، عشرة آلافِ مقاتلٍ فَتَحَ بهم مكةَ، وألفانِ من مَسْلَمَةِ الفتحِ من قريش وَمَنْ معهم وهم الطلقاءُ. وكان بعضُ العلماءِ يقول: إنه دَخَلَ مكةَ وَفَتَحَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ ألفًا. فيكون المجموعُ: أربعةَ عشرَ ألفًا. ذَكَرُوا أن الصحابةَ قالوا: لن نُغْلَبَ اليومَ من قِلَّةٍ. بعضُهم يقولُ: إن هذه قَالَهَا أبو بكر (رضي الله عنه)، وقيل: قَالَهَا رجلٌ آخَرُ. فَلَمَّا أَعْجَبَتْهُمُ الكثرةُ وأنهم كانوا اثني عشر ألفًا، أو أربعةَ عشرَ ألفًا، وقيل: ستةَ عشرَ ألفًا. وأكثرُ الرواياتِ أنهم كانوا اثْنَيْ عشرَ ألفًا، عشرةُ آلافٍ فَتَحَ بهم مكةَ، وألفانِ من أهلِ مكةَ أَسْلَمُوا وَغَزَوْا معه {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ} هذه الكثرةُ {شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} وهذا نَصُّ اللَّهِ فيه على ما وَقَعَ بالمسلمينَ أولَ وقعةِ حُنَيْنٍ، يُبَيِّنُ لهم أن النصرَ من عنده (جلَّ وعلا) وحدَه لاَ مِنْ كثرةِ العددِ والعُددِ.

ونحن دائمًا في هذه الدروسِ إنا جاءت غزوةٌ من مَغَازِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الآياتِ القرآنيةِ نُفَصِّلُهَا ونذكرُ تفاصيلَها لتمامِ الفائدةِ كما أَوْضَحْنَا فيما مَضَى غزوةَ أُحُدٍ في سورةِ آلِ عمرانَ، وغزوة [بدر] (¬1) في سورةِ [الأنفال] (¬2)، وسيأتِي في سورِ القرآنِ العظيمِ أكثرُ مغازيه صلى الله عليه وسلم. وهذه الغزوةُ التي أَشَارَ لها اللَّهُ هنا وَبَيَّنَ أن الصحابةَ أَعْجَبََتْهُمْ كثرتُهم فيها، وأن كثرتَهم لم تُغْنِ عنهم شيئًا، وأنهم ضَاقَتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ ثم وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، هي غزوةُ حُنَيْنٍ، وسنشيرُ الآنَ إلى هذه الغزوةِ ونذكرُ تفاصيلَها. أما حنين فهو وَادٍ من أوديةِ تِهَامَةَ بينَ مكةَ والطائفِ غيرُ بعيدٍ من ذِي المجازِ، وأما الذين غَزَاهُمْ فَهُمْ هوازنُ، وهوازنُ قبيلةٌ من قبائلِ قيسِ عيلانَ بنِ مضر؛ لأن هوازنَ هو ابنُ منصورِ بنِ خصفةَ بنِ عكرمةَ (¬3) بنِ قيسِ عيلانَ بنِ مُضَرٍ. قال بعضُ أصحابِ المغازي وَالسِّيَرِ (¬4): لَمَّا سمع هوازنُ بخروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من [المدينة] (¬5) ظَنُّوا أنه يقصدُهم في غزاةِ الفتحِ فتجمعوا، جَمَعَهُمْ رئيسُهم في ذلك الوقتِ، ورئيسُهم في ذلك الوقتِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ من بَنِي نصرِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ. ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مكةَ جَمَعَهُمْ مالكُ بنُ عوفٍ وعزموا على مقاتلةِ ¬

(¬1) في الأصل: «الأنفال». وهو سبق لسان. (¬2) في الأصل: «بدر». وهو سبق لسان. (¬3) في ابن هشام (1/ 176) ابن عكرمة بن حصفة. (¬4) السابق ص1283. (¬5) في الأصل: «مكة». وهو سبق لسان.

النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأخبارِهم فأرسلَ إليهم عبدَ اللَّهِ بنَ أبي حدردٍ الأسلميَّ (رضي الله عنه) عَيْنًا يعرفُ له أخبارَهم، فدخلَ في القومِ مُخْتَفِيًا وسمع أخبارَهم، وعرفَ أنهم عازمونَ على حربِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد فَتَحَ مكةَ في رمضانَ من سنةِ ثَمَانٍ. قال بعضُ أصحابِ المغازي (¬1): فَتَحَهَا لعشرينَ خَلَتْ من رمضانَ وعشرٍ بَقِيَتْ، وأنه أقامَ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ بمكةَ بعدَ أن فَتَحَ مكةَ وخمسَ ليالٍ من شوالٍ، ثم غَزَا بعدَ خمسَ عشرةَ ليلةً من فَتْحِهِ مكةَ غَزَا هوازنَ بِاثْنَيْ عشرَ ألفًا من أصحابِه، عشرة آلاف الذين فَتَحَ بهم مكةَ، والألفانِ الذين أَسْلَمُوا وخرجوا غَازِينَ معه من الطلقاءِ أهلِ مكةَ، ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ بأن هوازنَ تَجَمَّعُوا له في وادي حُنَيْنٍ فَقَصَدَهُمْ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وقد صَلَّى (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) الصبحَ، وفي مخرجِه هذا من مكةَ إلى حنينٍ. مَرَّ بذاتِ أنواطٍ، وهي سدرةٌ خضراءُ كبيرةٌ كان المشركونَ يَأْتُونَهَا يومًا مِنَ السنةِ يذبحونَ عِنْدَهَا، ويعكفونَ عندها، ويعلقونَ عليها سلاحَهم تُسَمَّى «ذَاتَ أَنْوَاطٍ» وكان كثيرٌ مِمَّنْ معه حديثُ عهدٍ بالإسلامِ، فقالوا له: يا نَبِيَّ اللَّهِ اجْعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ. فقال (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه): "اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} " [الأعراف: آية 138] (¬2) وكان العباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ ¬

(¬1) السابق ص1282. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 218)، وعبد الرزاق (20763)، وابن أبي عاصم في السنة (76)، والترمذي في الفتن، باب ما جاء «لتركبن سنن من كان قبلكم» حديث رقم: (2180) (4/ 475)، والحميدي (848)، والطيالسي (1346)، والطبراني في الكبير (3290، 3294)، وابن حبان (الإحسان 8/ 248)، وابن نصر في السنة ص16، 17، وابن جرير (13/ 81، 82).

قال: لَمَّا خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ مكةَ قاصدًا هوازنَ قال قصيدةً يَصِفُ فيها جيشَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما يَعْزِمُ عليه من غزوِ هوازنَ منها أنه يقول (¬1): أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلاَهَا وأَسْفَلَهَا ... عَنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ ... إِنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا لهُ فِي فَضَاءِ الأَرْضِ أَرْكَانُ ... فِيهِمْ سُلَيْمٌ أَخُوكُمْ غَيْرَ تَارِكِكُمْ ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللَّهِ غَسَّانُ ... وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ... وَالأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ ... تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ يعني بـ (أوسٌ وعثمانُ) قَبِيلَتَيْ مُزَيْنَةَ من قبائلِ أُدِّ بنِ طابخةَ بنِ إلياس، ومزينةُ أُمُّهُمْ. فَتَوَجَّهَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كان قَرِيبًا منهم كان مالكُ بنُ عوفٍ جَمَعَ جميعَ مَنْ طَاوَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ، وكانت خَرَجَتْ معه بنو نصرٍ كُلُّهَا (بَنُو نصرِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ)، وبنو جُشَمَ كُلُّهَا، (جُشَمُ بنُ بكرِ بنِ هوازنَ) وبنو سعدٍ كُلُّهُمْ، (سعدُ بنُ بكرِ بنِ هوازنَ)، ولم يخرج معه كثيرٌ من بَنِي عامرِ بنِ صعصعةَ من قبائلِ هوازنَ، تَخَلَّفَ عنه بَنُو ربيعةَ، وبنو كلابٍ، وجاء معه أوزاعٌ قليلةٌ من بَنِي هلالِ بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وجماعةٌ من بني عمرِو بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وَبَنِي عوفِ بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وجاء معه ثقيفٌ كُلُّهَا، وكانت ثقيفٌ كُلُّهَا ترجع إلى قبيلتين، وثقيف أهل الطائف، وثقيف هو ابنُ بكرِ بنِ مُنَبِّهِ بنِ هوازنَ، هم من قبائلِ هوازنَ، وإن كان كثيرٌ من الناس يَظُنُّ أنهم مع هوازنَ، فَهُمْ من هوازنَ؛ لأن ثقيفَ بنَ مُنَبِّهِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ جاءت معه ثقيف كلها لم يَبْقَ منهم أَحَدٌ، وكان ¬

(¬1) القصيدة في سيرة ابن هشام ص1287.

رئيسُ الجميعِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ، وكان في ثقيف أهلِ الطائفِ رئيسانِ، رئيسُ الأحلافِ، ورئيسُ بَنِي مالكٍ؛ أما رئيسُ الأحلافِ ذلك اليومَ فهو قاربُ بنُ الأسودِ بنِ مسعودِ بنِ الْمُعَتِّبِ، ورئيسُ بَنِي مالكٍ هو ذُو الخمارِ، وهو سبيعُ بنُ الحارثِ، وأخوه أحمرُ بنُ الحارثِ. وجاء دريدُ بنُ الصمةِ من بَنِي جشمَ بنِ بكرٍ، وكان سَيِّدًا عظيمًا من ساداتِ هوازنَ، مُجَرِّبًا في الحروبِ، وكان في ذلك الوقتِ شَيْخًا فَانِيًا يرتعشُ، لا فائدةَ فيه إلا التيمنُ برأيه، جاء راكبًا في شِجَارٍ (¬1) له، وكان جماعُ الناسِ إلى مالكِ بنِ عوفٍ النصريِّ، فقال دريدٌ: هذا المحلُّ الذي أنتم فيه أَيُّ وادٍ أنتم فيه؟ قالوا: نحنُ الآنَ بوادِي أَوْطَاسٍ. قال: نِعْمَ مَجَالُ الخيلِ، لا حَزْنٌ ضَرْسٌ ولا سَهْلٌ دَهْسٌ. ثم إنه قال: ما لي أَسْمَعُ بكاءَ الصغيرِ، ونهاقَ الحميرِ، ورغاءَ البعيرِ، ويعارَ الشاءِ؟ قالوا له: جَمَعَ مالكُ بنُ عوفٍ مع هوازنَ مواشيَهم وأموالَهم ونساءَهم وذراريَهم!! فقال: أين مالكٌ؟ فَدُعِيَ له مالكُ بنُ عوفٍ، فقال: يا مَالِكُ!! لقد أصبحتَ رئيسَ قومِك، وإن هذا يومٌ له ما بعدَه، فَمَا لِي أسمعُ رغاءَ البعيرِ، وبكاءَ الصغيرِ، ونهاقَ الحميرِ، ويعارَ الشاءِ؟ قال: سُقْتُ مع الناسِ أموالَهم ونساءَهم وأولادَهم. قال: وَلِمَ؟ قال: أريدُ أن يكونَ عند ظهرِ كُلِّ رجلٍ أهلُه ومالُه ليقاتلَ عنهم ولا يَفِرَّ. فقال دريدٌ يهزأُ بِمَالِكٍ (أَنْقَضَ به) - أي أَخْرَجَ من فمه صوتًا استهزاءً به - وقال: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، هل يَرُدُّ المنهزمَ شيءٌ؟! هذا ليس برأيٍ؛ لأنها إن كانت عليكَ فُضِحْتَ في أَهْلِكَ وَمَالِكَ، فكانَ الأَوْلَى أن تردَّهم إلى متمنِّع بلادِهم وَعُلْيَا قومِهم، فإن كانت لكَ فإنه لا ينفعُك إلا رجلٌ بسيفِه وَرُمْحِهِ، وإن ¬

(¬1) الشجار: يشبه الهودج لكنه غير مُغطَّى من الأعلى.

كانت عليكَ أَلْفَاكَ ذلك وقد أحرزتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ. فقال مَالِكٌ: وَاللَّهِ لاَ أفعلُ غيرَ هذا. ثم قال: يا معشرَ هوازنَ وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي أَوْ لأَتَّكِئَنَّ على هذا السيفِ حتى يخرجَ من ظَهْرِي!! فقالوا: أَطَعْنَاكَ. فقال دريدٌ: هذا يومٌ لم أَشْهَدْهُ ولم يَفُتْنِي. ثم قال: هل حَضَرَ أحدٌ من بَنِي كَعْبٍ أَوْ كِلاَبٍ؟ قالوا: ما حَضَرَهَا أحدٌ من بَنِي كعبٍ وَلاَ كلابٍ. يعني كعبًا وكلابًا أولادَ عامرِ بنِ صعصعةَ. قال: غابَ الجدُّ والحدُّ (¬1) لو كان يومَ رفعةٍ وعلاءٍ لم يَغِبْ عنه كعبٌ وكلابٌ. قال: مَنْ حَضَرَهَا مِنْ عَامِرٍ؟ قالوا: بَنُو عوفِ بنِ عامرٍ، وَبَنُو عمرِو بنِ عامرٍ. قال: ذَانِكَ الجذعانِ من عامرٍ لا ينفعانِ ولا يضرانِ. ثم قال دريدٌ (¬2): [4/أ] يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... / أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ ... أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ (¬3) كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ (¬4) ثم إن مالكَ بنَ عوفٍ أَمَرَهُمْ فَكَمِنُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في مضايقِ وَادِي حنينٍ وأحنائِه، كانوا في مضايقِ الوادِي بِجَنْبَتَيِ الوادِي كَامِنِينَ له. وقال لهم ملكُهم - مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ: إذا أَقْبَلَ عليكم القومُ فَشُدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ. فصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم الصبحَ وسارَ بأصحابِه في الْغَلَسِ - يعني: بقية ظلامِ الليلِ مختلطةً بضياءِ ¬

(¬1) الحد: يعني الحدة والشجاعة. (¬2) ذكرهما ابن هشام في السيرة ص1285، مرويات غزوة حنين (1/ 234). (¬3) الوطفاء: طويلة الشعر. الزمع: الشعر الذي فوق مربط قيد الدابة. فهو يذكر صفة فرس. (¬4) الشاة هنا: الوعل. والصدع: الفتى القوي الشاب من الأوعال ونحوها.

الصبحِ - فَانْحَدَرُوا في وَادِي حنينٍ يَمْشُونَ، فلم يَشْعُرُوا بشيءٍ إلا وقد دَخَلُوا في مكمنِ القومِ، فَشَدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ، وصارت الرماحُ والسهامُ كأنها رِجْلُ جرادٍ منتشرٍ عليهم، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَزَلَّ المسلمونَ، وَوَقَعَ ما قَالَ اللَّهُ: {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} فَثَبَتَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو على بغلتِه البيضاءِ، وبعضُهم يقولُ: الشهباء؛ لأَنَّ لونَها بياضٌ فيه شُهبةٌ. والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ (رضي الله عنه) آخِذٌ بِزِمَامِهَا. وبعضُهم يقولُ: آخِذٌ بِرِكَابِهَا الأيمنِ، أو حَكَمَتِهَا، وَآخِذٌ بِرِكَابِهَا الثانِي أبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ، وكان مع النبيِّ جماعةٌ من آلِ بيتِه، منهم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالبٍ (رضي الله عنه)، والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ، وَأَبُو سفيانَ بنُ الحارثِ، والفضلُ بنُ العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ (رضي الله عنهم)، وربيعةُ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ، وأسامةُ بنُ زيدٍ، وأيمنُ بنُ أُمِّ أيمنَ مولاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَثَبَتَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذلك الثباتَ العظيمَ، وكان يركضُ البغلةَ في نَحْرِ الْعَدُوِّ يسرعُ إليهم ويقولُ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وهذا من الشجاعةِ منقطعُ النظيرِ (¬1)؛ لأنه على بغلةٍ لاَ تُحْسِنُ الْكَرَّ وَلاَ الْفَرَّ، لا تصلحُ لِكَرٍّ وَلاَ لِفَرٍّ، وقد انكشفَ عنه أصحابُه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وليس مَعَهُ إِلاَّ قومٌ قليلٌ، ومع هذا يركضُ في وجهِ العدوِّ وَيُنَوِّهُ بِاسْمِهِ ليعرفَه مَنْ لَمْ يكن يعرفه!! وقال للعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ - وكان رَجُلاً ضَخْمًا قَوِيًّا جهيرَ الصوتِ جِدًّا - "نَادِ: يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ" فنادَى العباسُ بأعلى صوتِه: يَا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

أصحابَ السَّمُرَةِ. والسَّمُرَةُ هي شجرةُ الحديبيةِ التي وَقَعَتْ تحتَها بيعةُ الرضوانِ، وقد بَايَعُوهُ فيها على أن لا يَفِرُّوا عنه. وفي بعضِ المراتِ يقولُ: يا أصحابَ السمرةِ، يا أصحابَ سورةِ البقرةِ. يَدْعُوهُمْ. فَسَمِعُوا نداءَه فقالوا: يَا لَبَّيْكَ. وتراجعَ إليه المسلمونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وقد أَعْجَزَهُمْ أن يَرُدُّوا الأباعرَ التي يَرْكَبُونَهَا؛ لأنها آلَمَهَا وَقْعُ السِّهَامِ، فلم يَقْدِرُوا على رَدِّهَا ولا عَطْفِهَا. قال العباسُ بنُ عبدِ المطلبِ (رضي الله عنه): فَوَاللَّهِ لَمَّا نَادَيْتُهُمْ فَسَمِعُوا صَوْتِي فكأنما عَطَفُوا عليه عطفةَ البقرِ على أولادِها. وكان (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) أَخَذَ قبضةً من ترابٍ فَرَمَى بها في أَوْجُهِ القومِ وقال: شَاهَتِ الوجوهُ. وَذَكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ وغيرُ واحدٍ أنه رَوَى من طرقٍ كثيرةٍ عن أولادِ أولئك الجيشِ الذين أَسْلَمُوا بعدَ ذلك أنهم قالوا: لَقِينَا أصحابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَمَا لَبِثْنَا أَنْ هَزَمْنَاهُمْ وَاتَّبَعْنَاهُمْ حتى أَتَيْنَا على صاحبِ البغلةِ الشهباءِ فَزَجَرَنَا زَجْرًا قَوِيًّا، وَأَخَذَ قبضةً من ترابٍ وَحَصًى فرمى بها في أَوْجُهِنَا فلم تبقَ عينٌ ولا فَمٌ إلا امْتَلأَتْ من ذلك الْحَصَى. وَرَجَعُوا مُنْهَزِمِينَ، فَمِنْ ذلك الوقتِ الذي رَمَى تلك القبضةَ في أَوْجُهِهِمْ وكان حَدُّهُمْ كَلِيلاً وَأَمْرُهُمْ مُدْبِرًا. ثم إنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وكان العباسُ بنُ عبدِ المطلبِ (رضي الله عنه) في ذلك اليومِ شديدَ الشجاعةِ يُنوِّه بالنفرِ الذين بَقَوْا مَعَهُ، والذي يقولُه العباسُ في شعرِه أنهم عَشَرَةٌ فقط حيث يقول (¬1): ¬

(¬1) البيت الأول أورده ابن عساكر في تاريخ دمشق (26/ 299) ويليه بيتان غير المذكورين هنا. والبيتان الأخيران ذكرهما ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 96) (مع بعض الاختلافات)، والقرطبي (8/ 98)، والحافظ في الفتح (8/ 30) دون الأول. وهما في مرويات غزوة حنين (1/ 183).

أَلاَ هَلْ أَتَى عِرْسِي مُكَرِّي وَمَقْدَمِي ... بِوَادِي حُنَيْنٍ وَالأَسِنَّةُ تُشْرَعُ إلى أن قال: نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةٌ ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا ... وَعَاشِرُنَا لاَقَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... لِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لاَ يَتَوَجَّعُ يعنِي بعاشرِهم الذي لاَقَى الحِمَامَ أي: الموتَ: أيمنَ بنَ أُمِّ أيمنَ (رضي الله عنه)، أُمُّهُ أُمُّ أيمنَ مولاةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فرجع المسلمونَ لَمَّا سَمِعُوا نداءَ العباسِ، فاجتمعَ عليه من أوائلهم مئةُ رجلٍ، فَأَمَرَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَصْدُقُوا الحملةَ على القومِ، فَاجْتَلَدَ الناسُ اجْتِلاَدًا شديدًا، فَنَظَرَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا هم يَجْتَلِدُونَ ويتقاتلونَ قتالاً شديدًا، فقال (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه): «الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» (¬1). وكانت من الكلماتِ التي لم يُسْبَقْ قَبْلَهَا، قال بعضُ مَنْ رَوَى قِصَّةَ حنينٍ هذه: فوالله ما تَرَاجَعَ المسلمونَ إِلاَّ وَالأَسْرَى بجنبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (¬2). وكان مِمَّنْ ثَبَتَ ذلك اليومَ ثَبَاتًا عظيمًا أُمُّ سليمٍ امرأةُ أَبِي طلحةَ، وهي حَامِلٌ في ذلك الوقتِ بعبدِ اللَّهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، كانت تشدُّ وَسْطَهَا بِبُرْدٍ وفي يدِها خنجرٌ، وهي مُمْسِكَةٌ بعيرِ أَبِي طلحةَ، وَلَمَّا سَأَلُوهَا عن الخنجرِ قالت: إذا قَرُبَ مِنِّي بعضُ المشركين بَعَجْتُ به بَطْنَهُ (¬3). فهي عظيمةٌ في الشجاعةِ والثباتِ، فرجعَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرَكِبُوا أكتافَ العدوِّ يَقْتَلُونَهُمْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب في غزوة حنين. حديث رقم: (1775) (3/ 1398 - 1399) بلفظ: «هذا حين حمي الوطيس». (¬2) السيرة لابن هشام ص (1292). (¬3) مسلم في الجهاد باب غزوة النساء مع الرجال. حديث رقم: (1809) (3/ 1442).

وَيَأْسِرُونَهُمْ، ثم إنهم فَرُّوا وَانْهَزَمُوا، طائفةٌ منهم فيها سَيِّدُهُمْ مالكُ بنُ عوفٍ انْهَزَمُوا ورجعوا إلى حصنِ الطائفِ فَتَحَصَّنُوا به، وطائفةٌ عَسْكَرُوا في أوطاس. وأوطاس محلٌّ هو وَحُنَيْنٌ يَجْمَعُهُمْ وَادٍ واحدٌ، إلا أنهم عَسْكَرُوا في محلٍّ بعيدٍ منه، فأرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أَثَرِهِمْ سريةً أَمَّرَ عليها أبا عامرٍ الأشعريَّ (رضي الله عنه)، ومعه في تلك السريةِ ابنُ عَمِّهِ أبو موسَى الأشعريُّ، فَأَدْرَكَ أَبُو عَامِرٍ فَلَّهُمْ، وأخذَ ما عندهم من السَّبَايَا أيضًا، وَاسْتُشْهِدَ أبو عامرٍ، أَصَابَهُ سهمٌ في ركبتِه فماتَ، واسْتَحَرَّ القتلُ ذلك اليومَ في ثقيفٍ خاصةً، ثم في بَنِي مَالِكٍ فَقُتِلَ منهم سبعونَ رجلاً، أو أكثرَ، وقتلَ قومٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكثيرٌ من هوازنَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تباركَ وتعالى، وفي ذلك اليومِ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» (¬1). وكان أبو قتادةَ (رضي الله عنه) كما ثَبَتَ عنه رَأَى رَجُلاً عليه رَجُلٌ من المشركين يريدُ أن يقتلَه، فجاءَ فَضَرَبَ المشركَ من ورائِه على حَبْلِ عاتقِه فَقَطَعَ دِرْعَهُ وَقَطَعَ حبلَ عاتقِه، قال: فَرَجَعَ إِلَيَّ فضمني ضَمَّةً شممتُ منها ريحَ الموتِ، ثم أَدْرَكَهُ الموتُ فَأَرْسَلَنِي. ثم إنه بعدَ ذلك سَأَلَ عن درعِ ذلك الرجلِ لِيَأْخُذَهَا؛ لأَنَّهُ قاتِلُه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» فَنَادَى أبو قتادةَ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فلم يَجِدْ أحدًا يشهدُ له، فَأَخْبَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجلٌ من القومِ: هو عندي يا رسولَ اللَّهِ، فَأَرْضِهِ منه. قال له أبو بكر: لاَهَا اللَّهِ لاَ يعمدُ إلى أسدٍ من أسودِ اللَّهِ يقاتلُ عن اللَّهِ ورسولِه فيعطيك سَلَبَهُ!! قال له صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ» (¬2). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال. (¬2) السابق.

فهذه القصةُ أَوَّلاً انْهَزَمَ فيها المسلمونَ، وقد ثَبَتَ في الصحيحِ (¬1) عن البراءِ بنِ عازبٍ (رضي الله عنه) أنه سَأَلَهُ رجلٌ: أَفَرَرْتُمْ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ؟ قال: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وكان يقولُ: «أَقْبِلُوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ جميعَ سَبْيِ هوازنَ، وكان فيه آلافٌ عديدةٌ من السَّبَايَا من النساءِ وَالذَّرَارِي، ومن الأموالِ ما لا يُحْصِيهِ إِلاَّ اللَّهُ، من الإبلِ والشاءِ وجميعِ الأموالِ، وكان قد نَفَّلَ بعضَ أصحابِه، فَأَعْطَى عَلِيَّ بنَ أَبِي طالبٍ جاريةً تُسَمَّى ريطةَ بنتَ هلالٍ، وأعطى عمرَ بنَ الخطابِ (رضي الله عنه) جاريةً تُسَمَّى زينبَ بنتَ حيانَ، في أشياءٍ كثيرةٍ (¬2). ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ بنفسِه يتبعُ فَلَّهُمْ إلى الطائفِ، فَحَاصَرَ أهلَ الطائفِ؛ لأَنَّ أهلَ الطائفِ - ثَقِيفًا - لَمَّا مَاتَ منهم ما مَاتَ في غزوةِ حنينٍ وَرَجَعُوا تَحَصَّنُوا بحصنِ الطائفِ، وَصَارُوا يُخْرِجُونَ السهامَ مِنْ كُوَى الحائطِ يُرامون بها أصحابَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَكَثَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنًا يُحَاصِرُهُمْ، وَمَاتَ في حصارِهم جماعةٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ مُتَحَصِّنُونَ لم يُؤْذَنْ له في فَتْحِهِمْ، فسأل عنهم معاويةَ بنَ نوفلٍ الديليَّ: ماذا تَرَى؟ قال: أَرَى أنَّ هؤلاء القومَ كالثعلبِ في جُحْرِهِ، إن أَطَلْتَ المقامَ على جُحْرِهِ أَخَذْتَهُ، وإن ¬

(¬1) البخاري في المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ... } حديث رقم: (4315 - 4317) (8/ 27 - 28). (¬2) ذكره ابن هشام في السيرة ص1342.

ذَهَبْتَ عنه لاَ يَضُرُّكَ بشيء (¬1)، فسألوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ عليهم فَأَبَى أن يدعوَ عليهم، وقال: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَائْتِ بِهِمْ» (¬2) ثم بعدَ ذلك أَسْلَمُوا، وجاؤوا وَافِدِينِ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بالسبايا والمغانمِ فذهبَ بها رجلٌ أَمَّرَهُ عليها إلى الجعرانةِ وكانت هناك حتى رَجَعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حِصَارِهِ إلى الطائفِ، فَلَمَّا رَجَعَ جَاءَه وفدُ هوازنَ مُسْلِمِينَ، وقام خطيبُهم زهيرُ بنُ صردٍ أبو صرد أمامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال له: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا أصلٌ وعشيرةٌ، وإنه قد وَقَعَ بنا ما ترى، وإنا تُبْنَا إلى اللَّهِ وَرَجِعْنَا مُسْلِمِينَ. ولو وَقَعَ ما وقع بنا وجئنا الحارثَ بنَ أَبِي شمر الغسانيَّ أو النعمانَ بنَ المنذرِ لَرَجَوْنَا عَائِدَتَهُ بالخيرِ وَعَطْفَهُ عَلَيْنَا، وأنتَ خيرُ مكفولٍ، وكذا وكذا، فَرُدَّ علينا أموالَنا ونساءَنا. قال لهم صلى الله عليه وسلم: «اخْتَارُوا أَيَّهُمَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ: أَسَبْيُكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟» فقالوا: خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وأموالِنا فنختارُ نساءَنا وأولادَنا. فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ» فقال المهاجرونَ: ما كان لنا منها فهو لرسولِ اللَّهِ. وقال الأنصارُ: ما كان لنا فهو لرسولِ اللَّهِ. وقال الأقرعُ بنُ حابسٍ التميميُّ: أما أنا وبنو تميمٍ فَلاَ، وقال عيينةُ بنُ حصنٍ الفزاريُّ: أَمَّا أَنَا وبنو فزارةَ فَلاَ، وقال عباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ: أما أنا وبنو سليمٍ ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في تاريخه (4/ 350) وعزاه للواقدي. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 343)، والترمذي في المناقب، باب مناقب ثقيف وبني حنيفة. حديث رقم: (3942) (4/ 729)، والواقدي في المغازي (3/ 936 - 937)، وابن سعد في الطبقات (2/ 114) والطبري في التاريخ (3/ 133) وذكره ابن القيم في الهدي (3/ 497)، وابن كثير في التاريخ (4/ 350)، والحافظ في الفتح (8/ 45). وانظر: ضعيف الترمذي ص527، مرويات غزوة حنين (1/ 336 - 337).

فَلاَ. فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: ما كان لنا فهو لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم العباسُ: وَهَّنْتُمُونِي حيث لم تُجِيزُوا ما قلتُ عليكم. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ لوفدِ هوازنَ جميعَ سَبَايَاهُمْ، جميعَ نِسَائِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ (¬1). وَاخْتَلَفَتْ عباراتُ المؤرخينَ وأصحابِ المغازي هل كان رَدُّهُمْ لهم قَبْلَ أن تقسمَ الغنائمُ، أو بعدَ قَسْمِهَا (¬2)؟ وظاهرُ كلامِ ابنِ إسحاقَ وَمَنْ وَافَقَهُ أنه كان قبلَ قسمِ الغنائمِ، وموسى بنُ عقبةَ وغيرُه من أئمةِ المغازِي يقولونَ: إنه كان بعدَ أن قُسِّمَتْ غَنَائِمُهُمْ. قال ابنُ عمرَ (رضي الله عنه). كانت الجاريةُ التي أعطانِي عمرُ بنُ الخطابِ أَرْسَلْتُهَا إلى أخوالِي مِنْ بَنِي جُمَحَ يُصْلِحُونَهَا وَيُزَيِّنُونَهَا لِي حتى أطوفَ بالبيتِ وأرجعَ فأدخلَ بها، فَلَمَّا رجعتُ أَنْوِي الدخولَ بها إذا أَصْلَحَها لِي أخوالِي فإذا الناسُ يَشْتَدُّونَ، قلتُ: ما بَالُكُمْ؟ قالوا: رَدَّ إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءَنا وأولادَنا، فقال: اذْهَبُوا إلى صاحبتِكم في بَنِي جُمَحَ فَخُذُوهَا (¬3). ثم إن زهيرَ بنَ صُرد خطيبَ هوازنَ الذي خَطَبَ لهم رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْطَفَهُ بخطبةٍ نثريةٍ، وبشعرٍ أيضًا، فَمِنْ شِعْرِهِ الذي يَسْتَعْطِفُهُ به (¬4): ¬

(¬1) أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 135) من طريق ابن إسحاق، وذكره ابن هشام في السيرة ص1340، وابن كثير في تاريخه (4/ 352) وأصل قدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم وتخييره لهم بين الأموال والذراري في البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ... }.حديث رقم: (4318) (8/ 32). (¬2) انظر: البداية والنهاية (4/ 354). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 69)، وابن جرير في تاريخه (3/ 135)، وذكره ابن هشام في السيرة (1342)، وابن كثير في تاريخه (4/ 354). (¬4) أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 194)، والطبراني في الكبير (5/ 270، 271)، والأوسط (5/ 45)، والصغير (1/ 236)، والخطيب في تاريخه (7/ 106)، والطبري في تاريخه (3/ 134)، وابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 576)، وذكرها الذهبي في الميزان، وابن كثير في تاريخه (4/ 353). وقد سقط هنا بعد البيت الثاني بيتان، وفي بعض الروايات ثلاثة أبيات. وأما البيتان الثالث والرابع هنا فهما بيت واحد ورد في بعض الروايات باللفظ الأول وفي بعضها باللفظ الثاني. وانظر: مرويات غزوة حنين (2/ 456 - 460). وقد حسنه الحافظ في اللسان (4/ 99 - 104)، والفتح (8/ 34)، وانظر: الإصابة (1/ 553).

امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ ... امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزَّقٌ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ ... امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ ... امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ وقد كان قال له في خُطْبَتِهِ: إنما وراءَ هذه الحضرةِ من نساءِ هوازنَ خالاتُك وحواضنُكَ (¬1). ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عليهم جميعَ نسائِهم وأولادِهم، وكان عيينةُ بنُ حصنٍ قد أَخَذَ عَجُوزًا وقال: هذه العجوزُ لَهَا حَسَبٌ وَنَسَبٌ في قَوْمِهَا، فيكونُ فداؤُها شيئًا كثيرًا غاليًا. فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ: مَنْ أَرَادَ أن يعطيَ شيئًا من سبايا هوازنَ لِيُرَدَّ إلى أهلِه مَجَّانًا فَعَلَ، وَمَنْ أَرَادَ الْعِوَضَ عنه قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سَنُعَوِّضُكَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَمِنْ أَوَّلِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا سِتَّ فَرَائِضَ». والظاهرُ أن مرادَه بالفرائضِ رؤوسٌ مِنَ الإبلِ؛ لأَنَّ حِقَّةَ الزكاةِ تُسَمَّى (فريضةً) ثم إن عيينةَ بنَ حصنٍ قِيلَ له: خُذْ عن هذه سِتًّا. فقال: لاَ. فَامْتَنَعَ وقال: لاَ آخُذُ عنها شيئًا. يطمعُ في فداءٍ كثيرٍ!! ¬

(¬1) أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 134)، وذكره ابن هشام ص1340، وابن كثير في تاريخه (4/ 352) وانظر المصادر في الهامش السابق.

فقال له زهيرُ بنُ صردٍ: وَاللَّهِ ما فُوهَا بِبَارِدٍ، ولا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، ولاَ بَطْنُهَا بِوَالِدٍ، ولاَ زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ. فلما قال له هذا الكلامَ قَبِلَ معاوضتَها بما عُوِّضَ به بقايا السَّبْيِ (¬1)، ثم إن أهلَ الغزاةِ الذين حَضَرُوهَا من الأعرابِ وغيرِهم خافوا أن يردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على هوازنَ الأموالَ أيضًا، فَضَيَّقُوا عليه فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ، اقْسِمْ علينا فَيْئَنَا، حتى أَلْجَؤُوهُ إلى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فقال: «رُدُّوا عَلَيَّ رِدائِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ مِنَ الْفَيْءِ مِثْلُ شَجَرِ تِهَامَةَ لَقَسَمْتُهُ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ، وَلاَ تَجِدُونِي جَبَانًا وَلاَ كَذَّابًا وَلاَ بَخِيلاً» (¬2). (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) فَأَعْطَى ذلك اليومَ المؤلفةَ قلوبُهم، أعطى الأقرعَ بنَ حابسٍ مائةً من الإبلِ، وعيينةَ بنَ حصنٍ مائةً من الإبلِ، وأعطى أَبَا سفيانَ مائةً من الإبلِ، وابنَه معاويةَ مائةً من الإبلِ، وصفوانَ بنَ أميةَ مائةً من الإبلِ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَزَمَ على غزاةِ حُنَيْنٍ استعارَ من صفوانَ بنِ أميةَ الجمحيَّ أَدْراعًا كانت له وَسِلاَحًا، فقال له: أَغَصْبًا يا مُحَمَّدُ؟ قال: «بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ» (¬3) وكانت تلك الأدرعُ قد فُقِدَ منها شيءٌ في ¬

(¬1) أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 135)، وذكره ابن هشام (1342) وابن كثير في تاريخه (4/ 355). (¬2) البخاري في الجهاد باب: الشجاعة في الحرب والجبن. حديث رقم: (2821) (6/ 35) وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (3148). (¬3) أخرجه أحمد (3/ 401)، (6/ 365)، وأبو داود في البيوع، باب في تضمين العارية. حديث رقم: (3545 - 3547) (9/ 476 - 478)، والحاكم (2/ 47)، والبيهقي (6/ 89) من حديث أمية بن صفوان عن أبيه .. وبعضهم يرويه عن أُناس من آل عبد الله بن صفوان، وبعضهم: عن ناس من آل صفوان، وللحديث شاهد من حديث جابر (رضي الله عنه) عند الحاكم (3/ 48 _ 49). وانظر: الإرواء (5/ 344).

القتالِ، فَلَمَّا أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يعوضَه قال له: إِنَّ في قلبِي اليومَ ما لم يَكُ في قلبِي بالأمسِ، إني صرتُ أرغبُ في الإيمانِ. ولم يَأْخُذْ عِوَضَ أدراعه، قال بعضُ العلماءِ: لَمَّا أرادَ الخروجَ اسْتَسْلَفَ مِنْ ربيعةَ المخزوميِّ آلافًا كثيرةً يستعينُ بها، وَأَعْطَى المؤلفةَ قلوبُهم. وَلَمَّا وقعَ بالمسلمينَ ما وقع أولاً وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ كان بعضُ قريشٍ إيمانُهم في ذلك الوقتِ لم يكن قويًّا حتى ذَكَرُوا مثلَه عن أبِي سفيانَ بنِ حربٍ (رضي الله عنه) قالوا: كانَ في ذلك الوقتِ إيمانُه مدخولاً، فقال: هزيمتُهم لا يَرُدُّهَا البحرُ (¬1). وكان مع صفوانَ بنِ أميةَ أخوه لأُمِّهِ - وصفوانُ بنُ أميةَ في ذلك الوقتِ على شِرْكِهِ، ومعه أخوه لأُمِّهِ - بعضُهم يقول: اسمُه كلدةُ بنُ الحنبلِ. فلما وَقَعَ بالمسلمينَ ما وَقَعَ أولاً وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ قال: الآنَ بَطَلَ سحرُ محمدٍ. فقال له صفوانُ بنُ أميةَ وهو مُشْرِكٌ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، وَاللَّهِ لأَنْ يَرُبَّنِي رجلٌ من قريشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من هوازنَ (¬2). وكان شيبةُ بنُ عثمانَ بنِ أبي طلحةَ قُتِلَ أبوه عثمانُ بنُ أبي طلحةَ يومَ أُحُدٍ في حَمَلَةِ اللواءِ من بَنِي عبدِ الدارِ، وَعَمُّهُ طلحةُ بنُ أبِي طلحةَ وغيرُه من أعمامِه، وكان حَنِقًا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ في غزاةِ حنينٍ وهو على كُفْرِهِ يريدُ أن يصادفَ غرةً من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليقتلَه ويأخذَ بثأرِه، فلما انْكَشَفَ المسلمونَ وَوَقَعَ ما ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (5/ 128)، والطبري في تاريخه (3/ 128)، وذكره ابن هشام ص1290، وابن كثير في تاريخه (4/ 327) وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 163). (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

وَقَعَ قال شيبةُ: جئتُ من طرفِ بَغْلَتِهِ الأيمنِ فإذا عمُّه مُمْسِكٌ بِرِكَابِ بغلتِه، قلتُ: هذا عمُّه ولن يَخْذُلَهُ، فجئتُ من الطرفِ الثاني فإذا أبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ مُمْسِكٌ ركابَه من الجنبِ الآخَرِ، فقلتُ: وهذا ابنُ عَمِّهِ لن يَخْذُلَهُ، فجئتُ من ورائِه فَلَمَّا قَرُبْتُ منه وَأَرَدْتُ أن أساورَه بالسيفِ وقلتُ: الآنَ آخُذُ ثَأْرِي فأقتلُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، في بعضِ الرواياتِ أنه قال: جَاءَنِي عنقٌ مِنْ نَارٍ كأنه برقٌ خاطفٌ فَصِرْتُ أرجعُ القهقرى خوفًا منه، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: «ادْنُ يَا شَيْبَ!!» فَمَسَحَ صدرَه ودعا له اللَّهَ. قال: وَاللَّهِ ما رَفَعَ يدَه عَنِّي حتى صار أحبَّ إِلَيَّ من كُلِّ شيءٍ. وفي بعضِ رواياتِ هذه القصةِ عن شيبةَ بنِ عثمانَ بنِ أبِي طلحةَ (رضي الله عنه)، قال: لَمَّا أردتُ أن أضربَه وأقتلَه جُعِلَ في فؤادي شيءٌ لاَ أَدْرِي ما هو مَنَعَنِي منه، فتيقنتُ أنه ممنوعٌ مِنِّي، ثم دَعَا لي فصارَ أحبَّ الناس إِلَيَّ (¬1). فصار شيبةُ بعدَ أن كان يريدُ قتلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقاتلُ معه في إخلاصٍ ونصحٍ. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَسَّمَ غنائمَ حُنَيْنٍ أَعْطَى المؤلفةَ قلوبُهم، ¬

(¬1) أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 128)، والطبراني في الكبير (7/ 299)، والبيهقي في الدلائل (5/ 128، 145)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (مختصر ابن منظور 11/ 9 - 10) وساق ابن هشام بعضه ص1290، كما ساق ابن كثير في تاريخه (4/ 333) رواية البيهقي وابن إسحاق. وكذا في التفسير (2/ 345)، وابن القيم في زاد المعاد (3/ 470)، وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 184)، والحافظ في الإصابة (2/ 161)، والسيوطي في الخصائص (2/ 94 - 95) وعزاه لأبي القاسم البغوي وأبي نعيم وابن عساكر، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 167 - 169) .. ولا يصح في سبب إسلامه شيء من الروايات.

فأعطى مائةً من الإبلِ، مائةً من الإبلِ، وأعطى ما مَلأَ بين جَبَلَيْنِ غَنَمًا لرجلٍ، وكان أعطى عيينةَ بنَ حصنٍ مائةً من الإبلِ، والأقرعَ بنَ حابسٍ مائةً من الإبلِ، ولم يُعْطِ العباسَ بنَ مرداسٍ السلميَّ. فغار العباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ وَعَاتَبَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في شِعْرِهِ المشهورِ وقال له (¬1): أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ وَالعُبيدُ: فَرَسُهُ. قال: أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعِ كَانَتْ نِهَابًا تَلافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الأَجْرَعِ وَإِيقَاظِي الْحَيَّ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ إِلاَّ أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الأَرْبَعِ فقال صلى الله عليه وسلم: «اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ، فَكَمَّلُوا لَهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ» (¬2). وَلَمَّا أَعْطَى قريشًا ورؤساءَ قبائلِ العربِ وَلَمْ يُعْطِ الأنصارَ شيئًا ¬

(¬1) تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال. وقد وقع فيها شيء من التقديم والتأخير. (¬2) هذا الحديث أصله في صحيح مسلم من غير قوله: (اقطعوا عني لسانه) مسلم في الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. حديث رقم: (1060) (2/ 737) وهو بالسياق الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) في سيرة ابن هشام ص (1346). وقد ذكره ابن كثير في تاريخه (4/ 359) من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير وابن إسحاق.

وَجَدَ الأنصارُ في أنفسِهم موجدةً، وقالوا: يُعْطِي قريشًا الغنائمَ وسيوفُنا تقطرُ من دمائِهم!! فَسَمِعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بمقالتِهم، فأرسلَ سعدَ بنَ عبادةَ (رضي الله عنه) يجمعُ له الأنصارَ، فَجَمَعَ له جميعَ الأنصارِ، فأخبرَه أن القومَ اجتمعوا، فجاءهم، قال: «مَا شَيْءٌ سَمِعْتُهُ عَنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟» قالوا: وما هو؟ قال: «سَمِعْتُ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: يُعْطِي قُرَيْشًا وَلاَ يُعْطِينَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، أَوْ كَلاَمٌ نَحْوَ هَذَا» فقالوا: قد قال هذا بعضُ سفهائِنا، وأما أهلُ الْحِلْمِ مِنَّا فلم يقولوه. فقال لهم: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَأَعْدَاءً فَألَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي؟» قالوا له: لِلَّهِ المنةُ ولرسولِه صلى الله عليه وسلم. قال: «أَوَلاَ تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟» قالوا: ماذا نقول؟ قال: «لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: أَلَمْ تَأْتِنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ؟ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ؟ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ؟» ثم قال: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلاَ يُرْضِيكُمْ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَالأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَ الأَنْصَارِ» فبكى القومُ حتى أَخْضَلَ الدمعُ لِحَاهُمْ، وقالوا: رَضِينَا يا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (¬1). وكانت قِيلَتْ في حنينٍ أشعارٌ، ونحن لاَ نريدُ الإكثارَ من إيرادِ الأشعارِ فيها، لكن نذكرُ طرفًا منها، ومن أَشْهَرِ ما قيل في غزوةِ حُنَيْنٍ: شعرُ العباسِ بنِ مرداس السلميِّ (رضي الله عنه)، يفخرُ بقومِه ¬

(¬1) البخاري في المغازي، باب: غزوة الطائف. حديث رقم: (4330) (8/ 47)، وأخرجه في موضع آخر، انظر حديث رقم: (7245)، ومسلم في الزكاة باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. حديث رقم: (1061) (2/ 738).

بني سُلَيْمٍ، ويذكرُ الفتحَ وَحُنَيْنًا في قصائدِه، ومن ذلك قولُه في رائيتِه المشهورةِ (¬1): مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرٌ ... مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَينْحَدِرُ كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ ... تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهْوَ مُنْتَثِرُ يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ ... وَقَدْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ فَالْحَفَرُ دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ ... وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشَّيْبُ وَالزَّعَرُ وَاذْكُرْ بَلاَءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا ... دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجِرُ لاَ يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ ... وَلاَ تَخَاوَرُ فِي مِشْتَاهُمُ الْبَقَرُ إِلاَّ سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيُّ ذِكْوَانَ لاَ مِيلٌ وَلاَ ضُجُرُ الضَّارِبُونَ جُنُودَ الْكُفْرِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مَكَّةَ وَالأَرْوَاحُ تُبْتَدَرُ حَتَّى رَفَعْنَا وَقَتْلاَهُمْ كَأَنَّهُمُ ... نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ تَحْتَ اللَّوَامِعِ وَالضَّحَاكُ يَقْدُمُنَا ... كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا ... لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلاَ كَثُرُوا ... إِلاَّ وَأَصْبَحَ مِنَّا فِيهُمُ أَثَرُ ¬

(¬1) الأبيات في ابن هشام ص1317 - 1318، والبداية والنهاية (4/ 342 - 343).

وهو في شعره دائمًا يُنَوِّهُ بالضحاكِ بنِ سفيانَ (رضي الله عنه)، قالوا: لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ بمائةِ رجلٍ، وكان عليه لواءُ سُلَيْمٍ، وكانت سُلَيْمٌ أَلْفَ مقاتلٍ، كما بَيَّنَهُ العباسُ بنُ مرداسٍ في شِعْرِهِ حيث يقولُ في عَيْنِيَّتِهِ المشهورةِ (¬1): عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمَطْلَى أُرَيْكٍ قَدْ خَلاَ فَالْمَصَانِعُ ... دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إِذْ جُلُّ عَيْشِنَا ... رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّارِ لِلْحَيِّ جَامِعُ ... حُبَيِّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى ... لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ رَاجِعُ ... فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ ... فَإِنِّي وَزِيرٌ لِلنَّبِيِّ وَتَابِعُ ... دَعَانَا إِلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلَمْتُهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمُرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ ... فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهُمُ ... لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاودَ رَائِعُ ... فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنَّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ ... عَلاَنِيَةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ ... وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنٌ ... إِلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنُّفُوسِ الأَضَالِعُ ... صَبَرْنَا مَعَ الضَّحَّاكِ لاَ يَسْتَفِزُّنَا ... قِرَاعُ الأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ ... أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لاَمِعُ وَلَمْ نُرِدِ الإكثارَ من إيرادِ مَنْ تَكَلَّمَ فيها والذين قالوا شِعْرًا في حُنَيْنٍ غيرَ كثيرٍ. وَلَمَّا قَسَّمَ صلى الله عليه وسلم غنائمَ حُنَيْنٍ، وَأَعْطَى هذا العطاءَ العظيمَ، وَأَرْضَى الأنصارَ بما أرضاهم به كان (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) خَلَّفَ ¬

(¬1) هذه القصيدة ذكرها ابن هشام ص1313 - 1314، ابن كثير في تاريخه (4/ 341) وقد أسقط الشيخ منها هنا - بعد البيت السادس - بيتًا نظرًا لما في معناه من الإيهام. والله أعلم.

على مكةَ عتَّابَ بنَ أَسِيدِ بنِ أَبِي العيصِ بنِ أميةَ (رضي الله عنه) (¬1)، وكان إِذْ ذاك ابنَ عشرين سنةً. هذا طرفٌ أَشَرْنَا له من هذه الوقعةِ التي نَوَّهَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بها في كتابِه، ولم نُرِدِ الإطالةَ فيها كثيرًا، وسنرجعُ - إن شاء الله - في اليومِ الآتِي إلى معنَى الآيةِ ونفسرُها؛ لأنا الآن ما ذَكَرْنَا إلا بَسْطَ سببِ نزولِها الذي نَزَلَتْ فيه. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: هذه أولُ آيةٍ نَزَلَتْ من سورةِ براءة. فهذه الآيةُ نَزَلَتْ قَبْلَ أَوَّلِهَا. يقولُ اللَّهُ جلَّ وعلا: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}. اللامُ توطئةُ قسمٍ محذوفٍ، أي: وَاللَّهِ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} أيْ: أَعَانَكُمْ على أعدائكم {فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} المواطنُ: جمعُ مَوْطِنٍ، وموطنُ الحربِ معناه مشهدُه وموقفُه، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعر (¬2): وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طِحْتَ كَمَا أَرَى ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي ¬

(¬1) أورده ابن هشام ص1286، وابن كثير في تاريخه (4/ 325). (¬2) البيت ليزيد بن أم الحكم، وهو في الكتاب (2/ 374)، البحر المحيط (5/ 23)، الدر المصون (6/ 37). وقوله: «طحت» أي: هلكت. والأجرام: جمع جِرْم وهو الجسد. والقُلَّة: ما استدار من رأس الجبل. والنِّيقِ: أعلى الجبل.

أي: كَمْ مَشْهَدِ حَرْبٍ. لقد أعانكم اللَّهُ على أعدائكم في مواقفَ ومشاهدَ عديدةٍ، كما نَصَرَكُمْ يومَ بدرٍ، ويومَ الخندقِ، ويومَ قريظةَ، ويومَ النضيرِ، ويومَ الحديبيةِ، ويومَ فتحِ مكةَ، إلى غيرِ ذلك من المواقفِ التي تَخْرُجُونَ منها وأنتم ظاهرونَ منصورون. {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} قيل: التقديرُ: في أيام مواطن، ويوم حنين أيضًا، أي: ولقد نصركم يومَ حنينٍ {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} يومَ حنينٍ حِينَ الْتَقَوْا بهوازنَ، وكانوا كَمَنُوا لهم في مضايقِ وادِي حنينٍ ومخارمِه وأحنائِه، ثم شَدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ، وكانوا في هذه الوقعةِ قبلَ ملاقاةِ العدوِّ كأن الصحابةَ أُعْجِبُوا بكثرتِهم لأنهم اجْتَمَعَ منهم ذلك اليومَ شيءٌ لم يَجْتَمِعْ مثلُه قَطُّ فيما مَضَى، وقالوا: لن نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ. فَبَيَّنَ لهم اللَّهُ أن النصرَ من عندِه وحدَه، لا بالعددِ ولا بالعُددِ {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: آية 126] {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} أُعْجِبْتُمْ بكثرةِ عددِكم وقلتُم: لَنْ نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ {فَلَمْ تُغْنِ} هي، أي: الكثرةُ التي أَعْجَبَتْكُمْ لم تُغْنِ {عَنْكُمْ شَيْئًا} لم تُفِدْكُمْ ولم تُجْدِكُمْ قَبْلَ أن يُنَزِّلَ اللَّهُ عليكم سكينتَه وينصرَكم. وهذا امتحانٌ من اللَّهِ وابتلاءٌ وبيانٌ لِخَلْقِهِ أن النصرَ بيدِه وحدَه لاَ بكثرةِ العددِ ولا بكثرةِ العُددِ؛ ولذا لَمَّا أَمَدَّهُمْ بالملائكةِ بَيَّنَ لهم مع ذلك أن النصرَ به وحدَه، قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: آية 126] {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: آية 25] فلم تَنْفَعْكُمْ ولم تُجْدِ عنكم شيئًا. والعربُ تقولُ: هذا لا يُغْنِي شيئًا، وما أَغْنَى عَنِّي هذا شيئًا. يَعْنُونَ: ما نَفَعَنِي وما أَجْدَانِي.

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬1) أن أصلَه من الغَنَاءِ بالفتحِ والمدِّ، فالغَنَاءُ في لغةِ العربِ:- كَسَحَابٍ - معناه: النفعُ. ومعنَى (لا يغني عنه) أي: لا يَحْصُلُ له به غَنَاءٌ. أي: نَفْعٌ. وقد قَدَّمْنَا لغاتِ هذه المادةِ مِرَارًا في هذه الدروسِ، وَبَيَّنَّا أن الغَنَاءَ بالفتحِ والمدِّ - غَنَاءٌ كسحابٍ - أن معناه: النفعُ. ومنه قولُ بعضِ شعراءِ بَنِي أسدِ بنِ خزيمةَ (¬2): وَقَلَّ غَنَاءً عَنْكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ ... إِذَا صَارَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لاَحِدُ «قَلَّ غَنَاءً عَنْكَ» أي: قلَّ نفعًا لك. تمييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ. وأن (الغَنَى) بالمدِّ والقصرِ أنه الإقامةُ في الموضعِ، فالعربُ تقولُ: غَنِيَ بالمكانِ يغنَى به غَنًى - على القياسِ - أي: أقام به. ومنه في هذا المعنَى قولُه تعالى: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: آية 24]. والغِنَاءُ - بكسرِ الغينِ والمدِّ إلى الهمزةِ، غِنَاء كَكِتَابٍ - معناه: الألحانُ الْمُطْرِبَةُ، قَبَّحَهَا اللَّهُ. والغِنى بالكسرِ والقصرِ هو ضِدُّ الفقرِ، والغِنَى بالضمِّ والقصرِ جَمْعُ غُنْيَةٍ، وهو المالُ الذي يَقْتَنِيهِ الإنسانُ فيغتني به في حياتِه. وَالْغُنَاءُ بضمٍّ فَمَدٍّ لاَ أعرفُه في لغةِ العربِ. وهذا معنَى قولِه: {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}. {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الباءُ بمعنَى (مع)، و (ما) مصدريةٌ. والمعنَى: ضَاقَتْ عليكم الأرضُ مع سَعَتِهَا ورُحْبِهَا، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48)، والآية (92) من سورة الأعراف. (¬2) البيت في ديوان الحماسة (2/ 51)، المزهر (2/ 306).

والرُّحْبُ بالضمِّ: هو الاتساعُ، والرَّحْبُ: وَصْفٌ، تقولُ: مكانٌ رَحْبٌ، يعنِي: وَسِيعٌ، وصدرٌ رَحْبٌ أي: وَسِيعٌ. والرُّحْبُ: معناه السعةُ، والرَّحْبُ بالفتحِ المصدرُ، فـ (الباءُ) بمعنى (مع) و (ما) مصدريةٌ. والمعنَى: ضَاقَتْ عليكم الأرضُ في حالِ كونِ ذلك مع سَعَتِهَا وَرُحْبِهَا متلبسةً بسعتها وَرُحْبِهَا. والجارُّ والمجرورُ في موضعِ الحالِ، كقولِك: زُرْتُهُ بثيابِي. أي مع ثيابِي. أي: في حالِ كَوْنِي مُتْلَبِسًا بها. والخائفُ يضيقُ عليه فضاءُ الأرضِ الواسعُ؛ لأن مَنِ اشْتَدَّ خوفُه ضَاقَتِ الأرضُ في عينه وإن كانت طويلةً عريضةً واسعةً، كما قال الشاعرُ (¬1): كَأَنَّ بِلاَدَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ وهذا معنَى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}. {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} مُوَلِّينَ الأدبارَ مُنْهَزِمِينَ؛ لأنهم أولُ المرةِ في ذلك اليومِ انْهَزَمُوا. وعن سلمةَ بنِ الأكوعِ (رضي الله عنه) أنه انْهَزَمَ فيمن انْهَزَمَ، وكان لابسًا بُرْدَيْنِ مُتَّزِرًا بأحدِهما مُتْرَدِيًا بالآخَرِ، فلما اشْتَدَّ منهزمًا هاربًا انْحَلَّ الإزارُ الذي يَتَّزِرُ به وعجل عن أن يشده فصار جَامِعًا له بيديه، ومرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذه الحالةِ والنبيُّ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في غايةِ الثباتِ والطمأنينةِ، فالتفتَ إليه وقال: «رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا» (¬2) وهو هَارِبٌ، فَرَجَعُوا مُدْبِرِينَ. هذا معنَى قولِه: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: آية 25] {مُّدْبِرِينَ} معناه: مُوَلِّينَ عدوَّكم بأدبارِكم، فَارِّينَ منه. ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 100). (¬2) أخرجه مسلم في الجهاد، باب في غزوة حنين. حديث رقم: (1777) (3/ 1402).

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} السكينةُ: فعيلةٌ من السكونِ، ومعناها: الطمأنينةُ والأَمَنَةُ المستوجبانِ لأكملِ الثباتِ {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} [التوبة: آية 26] أي: أَمَنَتَهُ من الخوفِ، وطمأنينتَه في القلوبِ المستوجبةِ لأكملِ الثباتِ على رسولِه محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان على بغلتِه الشهباءِ (دُلْدُل) يركضُها إلى نحورِ العدوِّ ويقولُ: «أَقْبِلُوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» (¬1) {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: وَأَنْزَلَ سكينتَه أيضًا على المؤمنين. قال بعضُ العلماءِ: المرادُ بالمؤمنينَ الذين أنزل الله سكينتَه عليهم: مَنْ ثَبَتُوا معه صلى الله عليه وسلم. وقال بعضُ العلماءِ: يدخلُ فيهم الذين رَجَعُوا بعد الفرارِ والهزيمةِ وَقَاتَلُوا معه عَدُوَّهُ. والتحقيقُ: أن اللَّهَ أَنْزَلَ سكينتَه على الجميعِ، الذين بَقُوا معه ولم يَفِرُّوا والذين رجعوا إليه. واختلف العلماءُ فيمن بَقِيَ معه ولم يَنْهَزِمْ (¬2)، وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: عَشَرَةُ رجالٍ أو أحدَ عشرَ رجلاً، وقد ذَكَرْنَاهُمْ، ومن جُمْلَتِهِمْ: شيبةُ بنُ عثمانَ بنِ أبي طلحةَ كان يريدُ الغدرَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ في ذلك الوقتِ، وكان من الثَّابِتِينَ الْمُقَاتِلِينَ مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وكثيرٌ من أصحابِ الْمَغَازِي يقولونَ: ثَبَتَ معه ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: ابن هشام ص (1289)، البداية والنهاية (4/ 326، 330)، فتح الباري (8/ 29)، مرويات غزوة حنين (1/ 169 - 184).

نحوٌ من مائةِ رجلٍ أو ثمانينَ. وبعضُ العلماءِ يُوَفِّقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ يقولُ: أما العشرةُ أو الأحدَ عشرَ فلم يتحركوا، وأما المائةُ أو الثمانونَ فَهُمُ الذين رَجَعُوا بسرعةٍ وحملوا على عَدُوِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ذَكَرُوا أن عَلِيَّ بنَ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) قَتَلَ ذلك اليومَ أربعينَ رَجُلاً بيدِه، وَذَكَرُوا عن أبِي طلحةَ أنه لَمَّا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» (¬1) أنه قَتَلَ عشرينَ رجلاً فأخذَ أسلابَهم، وكان عَلِيٌّ (رضي الله عنه) ذلك اليومَ هو الذي أَسْقَطَ الجملَ الذي عليه رايةُ هوازنَ؛ لأن رايتَهم كانت عند رَجُلٍ على رُمْحٍ طويلٍ راكبٍ على جَمَلٍ أحمرَ، يتقدمُ أمامَ الناسِ، فإذا أَدْرَكَ الناسَ طعنهم بالرمحِ، وإذا فَاتُوهُ رَفَعَ لواءَه على الرمحِ ليراه مَنْ بَعْدَهُ!! فَابْتَدَرَهُ عَلِيٌّ (رضي الله عنه) ورجلٌ من الأنصارِ فَضَرَبَ عَلِيٌّ الجملَ على عرقوبيه فسقطَ على عَجُزِهِ، فابتدرَ الأنصاريُّ الرجلَ فَأَطَنَّ رِجْلَهُ بنصفِ ساقِه وَانْجَعَفَ عن رَحْلِهِ (¬2). ثم إن اللَّهَ قال: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} هذه الجنودُ هي الملائكةُ لم يَرَهَا المؤمنونَ ولكن الكفارَ رَأَوْهَا، فذكر ابنُ عبدِ البرِّ أنه رُوِيَ من طرقٍ كثيرةٍ عن أولادِ أولئك الذين كانوا من الكفارِ شَهِدُوا حُنَيْنًا عن آبائِهم أنهم قالوا: لَقِينَا أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم فَمَا وَقَفُوا لنا حلبَ شاةٍ، فَهَزَمْنَاهُمْ وَاتَّبَعْنَاهُمْ، حتى إذا انْتَهَيْنَا إلى صاحبِ البغلةِ البيضاءِ أو البغلةِ ¬

(¬1) مضى قريبًا عند تفسير الآية (25) من هذه السورة. (¬2) أخرجه الواقدي (3/ 902)، والبيهقي في الدلائل (5/ 127)، والطبري في التاريخ (3/ 128)، وذكره ابن هشام ص1289، وابن كثير في تاريخه (4/ 326) وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 164).

الشهباءِ رَأَيْنَا رجالاً بِيضًا على خيلٍ بُلْقٍ وقالوا لنا: «ارْجِعُوا، شَاهَتِ الوجوهُ» (¬1)، وقد كان النبيُّ قال أيضًا هذه الكلمةَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فانْهَزَمُوا». وجاء من رواياتٍ أُخَرَ أن مالكَ بنَ عوفٍ النَّصْرِيَّ سيدَ هوازنَ أَرْسَلَ عيونًا يَتَجَسَّسُونَ له أخبار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فجاؤوه وقد انْخَلَعَتْ أوصالُهم. أي: كان ما بينَ عظامِهم مُتَفَكِّكًا. فقالوا: رَأَيْنَا رجالاً بيضًا على خَيْلٍ بلقٍ فما تَمَالَكْنَا أن وَقَعَ بنا ما ترى (¬2). وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) في هذا القرآنِ العظيمِ ذَكَرَ التأييدَ بجنودِ الملائكةِ في أربعِ سورٍ من كتابِه، في ثلاثةٍ منها يقولُ: {لَّمْ تَرَوْهَا} وفي الرابعةِ لم يَقُلْ: {لَّمْ تَرَوْهَا}. أما الثلاثُ التي قال فيها: {لَّمْ تَرَوْهَا} فمنها: الملائكةُ الذين نَزَلُوا في غزوةِ الخندقِ - غزوةِ الأحزابِ - الآتِي ذِكْرُهُمْ في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: آية 9]. الثانيةُ: الملائكةُ الْمُنَزَّلُونَ في غزوةِ حنينٍ هذه، المذكورونَ في قولِه: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: آية 26]. ¬

(¬1) أخرجه الطبري في التفسير (14/ 186، 188)، وذكره ابن عبد البر في الدرر في اختصار المغازي والسير ص168، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 208 - 209). (¬2) أخرجه الواقدي في المغازي (3/ 892)، وابن سعد في الطبقات (2/ 108)، والطبري في التاريخ (3/ 127)، وذكره ابن هشام في السيرة، وابن القيم في الهدي (3/ 467)، وابن كثير في تاريخه (4/ 323)، وابن الأثير في الكامل (2/ 178).

الثالثةُ: الملائكةُ الذين نَزَلُوا بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم يومَ دَخَلَ في الغارِ هو وصاحبُه، وسيأتِي بَسْطُ قِصَّتِهِمْ - إن شاء الله - في هذه السورةِ الكريمةِ سورةِ براءةٍ، وذلك في قولِه: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: آية 40] فَفِي هذه المواضعِ الثلاثةِ كُلِّهَا يقيدُ بـ (لَمْ تَرَوْهَا)، (لَمْ تَرَوْهَا) لأنه يُنْزِلُ ملائكةً لاَ يراهم بنو آدمَ؛ لأنهم ليسوا من شَكْلِهِمْ ولا من جِنْسِهِمْ حتى يَرَوْهُمْ. وفي الموضعِ الرابعِ لم يُقَيِّدْ بقولِه: (لَمْ تَرَوْهُمْ) وهو الملائكةُ النازلونَ يومَ بدرٍ، المذكورونَ في الأنفالِ وآلِ عمرانَ، حيث قال اللَّهُ في الأنفالِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} الآية [الأنفال: آية 13]. وَذَكَرَهُمْ أيضًا في سورةِ آلِ عمرانَ في قولِه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ... } إلى قولِه: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)} [آل عمران: الآيتان 123، 124] وقد قَدَّمْنَا في سورةِ الأنفالِ (¬1) أن أَظْهَرَ الأقوالِ أن الملائكةَ قَاتَلَتْ يومَ بدرٍ، وأنها لم تُقَاتِلْ في غيرِها بل تأتِي لِتَجْبِينِ الكفارِ وتقويةِ قلوبِ المؤمنينَ وَنُصْرَتِهِمْ، هذا هو الظاهرُ، وقد ذَكَرَ (جل وعلا) فَرْقًا شَاسِعًا بَيْنَ مَنْ يَفِرُّ في غزوةِ بدرٍ وَمَنْ فَرَّ في غيرِها؛ لأنه شَدَّدَ غايةَ التشديدِ فيمن يَفِرُّ فِي غزوةِ بَدْرٍ كما تَقَدَّمَ في قولِه: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} [الأنفال: آية 16] بهذا التشديدِ العظيمِ، ولم يَقُلْ مثلَ هذا فِيمَنِ انهزمَ من الصحابةِ يومَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (9) من سورة الأنفال ..

أُحُدٍ، ولا فيمن انْهَزَمَ منهم يومَ حُنَيْنٍ؛ لأن بعضَ الصحابةِ انْهَزَمُوا يومَ أُحُدٍ، وبعضُهم لم يرجعوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ثم قال: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: آية 155] ثم قال هنا: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: آية 27] فَأَشَارَ إلى أنه تَابَ عليهم من هزيمتِهم. وهذا معنَى قولِه: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم هوازنُ، عَذَّبَهُمْ بأيدِي المؤمنينَ حيث قَتَلُوهُمْ قَتْلاً وَجِيعًا وَأَسَرُوهُمْ وَأَخَذُوا أولادَهم ونساءَهم وأموالَهم مِصْدَاقًا لقولِه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: آية 14] {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذين كانوا يقاتلونَ النبيَّ وأصحابَه كهوازنَ {وَذَلِكَ} العذابُ {جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 26] ثم اللَّهُ تعالى قال: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: آية 27] قال بعضُ العلماءِ: {يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} يدخلُ فيه المنهزمونَ الذين انهزموا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ رَجَعَ منهم وَكَرَّ ومَنْ لَمْ يَرْجِعْ. قالوا: ويدخل فيه الكافرونَ الذين قال اللَّهُ: {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: آية 26] لأَنَّ كثيرًا منهم تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عليهم. وقد كان رئيسُ هوازنَ مالكُ بنُ عوفٍ (رضي الله عنه) أَسْلَمَ وكان من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لَمَّا انْهَزَمَتْ هوازنُ رَاحَ مع فَلِّ الطائفِ - والفَلُّ هو بقيةُ الْمُنْهَزِمِينَ - وَتَحَصَّنَ بحصنِ الطائفِ، فَأَرْسَلَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم سِرًّا: أنه إِنْ قَدِمَ إليه رَدَّ إليه أهلَه وولدَه وأعطاه. فَخَافَ إن أَعْلَمَ ثَقِيفًا بذلك أن يَمْنَعُوهُ، فأمر أن يُرْحَلَ جَمَلُهُ في مَحَلٍّ عَيَّنَهُ لهم،

ثم جاءه مُخْتَفِيًا، وَسَارَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا فَأَكْرَمَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ إليه أهلَه وولدَه، وأعطاه مائةً من الإبلِ كما أَعْطَى الْمُؤَلَّفِينَ. وقد كان مالكُ بنُ عوفٍ سَيِّدُ هوازنَ مَدَحَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ببعضِ أشعارِه، ومن ذلك قولُه لَمَّا رَدَّ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَا رَدَّ له وأعطاه مائةً من الإبلِ (¬1): مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ ... فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ هذا يمدحُه به رئيسُ الذين كانوا أعداءَه بالأمسِ يقاتلونَه، رَجَعَ في هذا الزمنِ القريبِ إلى مَدْحِهِ والثناءِ عليه هذا الثناءَ الجميلَ: مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ ... فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ ... أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إِذَا اجْتُدِي ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ (¬2) ... وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ أَنْيَابُهَا ... بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ ... فَكَأَنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ وهذا معنَى قولِه: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 26] فَقَسَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم غنائمَ هوازنَ بَعْدَ أن رَدَّ إليهم أولادَهم ونساءَهم، قَسَّمَ غنائمَهم بالجعرانةِ في ذي القعدة عامَ ثَمَانٍ - ثم إنه أَحْرَمَ بعد أن قَسَّمَهَا بعمرةٍ (¬3) - من الهجرةِ. ¬

(¬1) هذا الخبر مع الأبيات أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 198)، وأورده ابن هشام ص1343، وابن كثير في تاريخه (4/ 361). وانظر: مرويات غزوة حنين (2/ 469). (¬2) معلوم أنه لا يعلم ما في غد إلاَّ الله تعالى. (¬3) عمرته صلى الله عليه وسلم بعد قسم غنائم حنين خرَّج حديثها البخاري في صحيحه، كتاب العمرة باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ حديث رقم: (1778) (3/ 600)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم: (1779، 1780، 3066، 4148)، ومسلم في الحج، باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن. حديث رقم: (1253) (2/ 916) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وكانت في السبايا التي جِيءَ بها رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشيماءُ بنتُ الحارثِ بنِ عبدِ الْعُزَّى، أُمُّهَا حليمةُ السعديةُ، أختُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من الرضاعةِ، كانت تقولُ لهم: مَهْلاً عَلَيَّ لاَ تُزْعِجُونِي فإني أختُ صاحبِكم من الرضاعةِ، فلما جاءت أَخْبَرَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهَا عن العلامةِ فقالت له: عَضَّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي كَتِفِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ. فعرف صلى الله عليه وسلم العلامةَ فبسط لها رداءَه وأجلسَها عليه وأكرمَها غايةَ الإكرامِ، وَخَيَّرَهَا أن تبقَى معه محببةً مكرمةً أو أن يردَّها إلى أهلِها ويمتعَها. فاختارت الردَّ إلى أهلها فَمَتَّعَهَا. كانوا يقولونَ: من جملةِ ما أعطاها جَارِيَةٌ وَغُلاَمٌ، زَوَّجَتِ الغلامَ من الجاريةِ، قالوا: وكان عقبهما فيهم لا يكادُ ينقطع (¬1). وهذا من كرمِه ووفائِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فإن الإنسانَ إذا استعرضَ شيئًا من سِيرَتِهِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) رأى العظمةَ الهائلةَ من الشجاعةِ الكاملةِ، والحلمِ الكاملِ، والكرمِ الكاملِ، والوفاءِ الكاملِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: آية 27] على مَنْ يشاءُ أن يتوبَ عليه، وهذه يُفْهَمُ منها أنه تعالى تَابَ على الذين انْهَزَمُوا وإن لم يُصَرِّحْ بها. أما الذين انْهَزَمُوا ¬

(¬1) أخرجه الواقدي (3/ 913)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 199، 200)، والطبري في تاريخه (3/ 131)، وابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 344)، وأورده ابن حزم في جوامع السيرة ص245، وابن هشام ص1306، وابن كثير في تاريخه (4/ 363) وابن الأثير في أُسد الغابة (5/ 257)، (7/ 167)، والكامل (2/ 180)، والحافظ في الإصابة (3/ 456)، (4/ 344)، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 265).

يومَ أُحُدٍ فقد صَرَّحَ بأنه تابَ عليهم في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: آية 155]. وقولُه هنا: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} التوبةُ تُطْلَقُ من اللَّهِ على عبدِه، ومن العبدِ إلى رَبِّهِ، فإذا أُطْلِقَتِ التوبةُ من العبدِ إلى رَبِّهِ عُدِّيَتْ بـ (إلى) ولم تُعَدَّ بـ (على) تقولُ: تُبْتُ إلى اللَّهِ. ولا تقولُ: تُبْتُ على اللَّهِ. وإذا تَوَجَّهَتْ من الربِّ إلى عبدِه عُدِّيَتْ بـ (على) تقولُ: تَابَ اللَّهُ عليه. ولم تَقُلْ: تَابَ إليه. أما التوبةُ الواقعةُ من المخلوقينَ فإن الوصفَ منها يُطْلَقُ على (تَائِبٍ) وعلى (تَوَّابٍ) بصيغةِ المبالغةِ. أما توبةُ اللَّهِ على عَبْدِهِ فلم يَأْتِ الوصفُ منها إلا على (تَوَّابٍ). وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا (¬1) أن توبةَ العبدِ إلى رَبِّهِ المستوجبةِ لتوبةِ اللَّهِ على عَبْدِهِ أنها واجبةٌ فَوْرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وأن مَنْ أَخَّرَهَا كان ذلك ذَنْبًا تَجِبُ منه التوبةُ. وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬2) أن في التوبةِ إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا) إِشْكَالَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ عندَ العلماءِ: أحدُهما: إِطْبَاقُ العلماءِ على أن توبةَ العبدِ إلى رَبِّهِ هي مُرَكَّبَةٌ من ثلاثةِ أركانٍ، وهي: إقلاعُه عن الذنبِ إن كان مُتَلَبِّسًا به، وَنَدَمُهُ على ما صَدَرَ منه، ونيتُه أن لا يعودَ. فهذه هي الأركانُ التي تتألفُ منها توبةُ العبدِ النصوحُ إلى رَبِّهِ، الذي إذا فَعَلَهَا جاءته توبةُ اللَّهِ؛ لأن ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

اللَّهَ يتوبُ على مَنْ تَابَ عليه، كما قال (جلَّ وعلا): {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: آية 8] وهم يقولونَ: «عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ» (¬1). هذا فيه إشكالانِ معروفانِ: أحدُهما: أن التوبةَ واجبةٌ بإجماعِ العلماءِ فَوْرًا من كُلِّ ذَنْبٍ يُجْتَرَمُ. فعلينا جميعًا إذا صَدَرَ من الواحدِ مِنَّا ذنبٌ أن يرجعَ إلى اللَّهِ ويتوبَ إليه فورًا ولا يؤخرَ التوبةَ من ذلك، فإن أَخَّرَهَا كان تأخيرُها ذَنْبًا يحتاجُ إلى توبةٍ أخرى. والندمُ من أركانِها بالإجماعِ، وركنُ الواجبِ واجبٌ إجماعًا، فالندمُ على الذنبِ واجبٌ؛ لأنه من أركانِ التوبةِ، وركنُ الواجبِ واجبٌ، والإشكالُ هنا في الندمِ؛ لأن المعروفَ أن الندمَ من الانفعالاتِ النفسيةِ والتأثراتِ، لا من الأفعالِ الاختياريةِ كما هو مُشَاهَدٌ، والعلماءُ مُجْمِعُونَ على أنه لا تكليفَ إلا بفعلٍ اختياريٍّ، وأن الانفعالاتِ والتأثراتِ النفسانيةَ لا يَمْلُكُهَا أَحَدٌ، فكيف يُكَلَّفُ بالندمِ ويُوجِبُ عليه وهو انفعالٌ وتأثرٌ نَفْسَانِيٌّ ليسَ تحتَ طاقتِه، وأنتَ تُشَاهِدُ الإنسانَ يُجَاهِدُ نفسَه ليطردَ عنها الندمَ، كالبائعِ المغبونِ يتجلدُ وَيَتَقَوَّى ويريدُ أن لا يندمَ وهو يندمُ غَصْبَ أَنْفِهِ؛ لأنه انفعالٌ وتأثرٌ، كما أن بعضَ الناسِ يريدُ أن يَنْدَمَ ولا يندمُ إذا كان الذنبُ الذي وَقَعَ فيه - والعياذُ بالله - مِمَّا كان يَشْتَهِيهِ جِدًّا، كالذي يظفرُ بِقُبْلَةٍ من امرأةٍ يعشقُها، إذا أخطرَ ذلك على قلبِه يصعبُ عليه أن يندمَ عليه؛ لأنها أُمْنِيَتُهُ التي كان يرجوها فإذا كان الندمُ قد يريدُه الإنسانُ ولا يَجِدُهُ، وقد يدفعُه عنه ولا يندفعُ، وهو انفعالٌ وتأثرٌ نفسانيٌّ فكيف يكونُ ركنًا من أركانِ التوبةِ، ويكونُ واجبًا، ومعلومٌ إجماعُ العلماءِ على أن اللَّهَ لاَ يُكَلِّفُ إلا بِفِعْلٍ؟ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (129) من سورة الأنعام.

هذا الإشكالُ أَجَابَ عنه العلماءُ بأن المرادَ بإيجابِ الندمِ هو إيجابُ الأخذِ في أسبابِه؛ لأن الإنسانَ إذا أَخَذَ بأسبابِ الندمِ أَخْذًا صحيحًا ولم يُحَابِ نفسَه لاَ بد أن يندمَ، وَمَنْ كانت أسبابُه الموصلةُ إليه متيسرةً في طوعِ المكلفِ فكأنه مُتَيَسِّرٌ في طاقةِ المكلفِ؛ لأن الإنسانَ إذا أَخَذَ نفسَه أَخْذًا حَقِيقِيًّا وعرَّفها في داخلِ قرارةِ نفسِه أنه لا يوجدُ في الدنيا إنسانٌ يَبْلُغُ من الْبَلَهِ والتغفيلِ ما يستلذُّ به طعامًا أو شرابًا حُلْوًا وفيه سُمٌّ قَاتِلٌ؛ لأن عامةَ العقلاءِ لاَ يحبونَ الطعامَ الحلوَ ولا الشرابَ الحلوَ ولو كان في غايةِ اللذاذةِ والحلاوةِ إذا كان في داخلِه سمٌّ فَتَّاكٌ قَاتِلٌ، هذا يعافُه جميعُ الناسِ ويكرهونَه، ولا شَكَّ أن حلاواتِ المعاصِي ولذاذاتِها عند الجَهَلَةِ، وإنما هي منطويةٌ عليه من السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وهو سَخَطُ خالقِ السماواتِ والأرضِ وغضبُه، أن العاقلَ إذا تَأَمَّلَ في هذا تَأَمُّلاً حقيقيًّا ولم يُحَابِ نفسَه وأخذَها بالتحقيقِ لا بد أن يندمَ؛ لأن الإنسانَ لو نَالَ ما نَالَ من حلاوةِ الذنبِ فهو يعلمُ أن تلك الحلاوةَ منطويةٌ على أَشَدِّ السمومِ وَأَفْتَكِهَا وهو سخطُ خالقِ السماواتِ والأرضِ وغضبُه؛ لأنه قد يستوجبُ هلاكَه في الدنيا وعذابَه السرمديَّ في الآخرة، وهذا معروف؛ لأنه لا يأخذُ الإنسانَ في أسبابِ الندمِ أَخْذًا صحيحًا حَقِيقِيًّا ويعرفُ عواقبَ الذنبِ وسرعةَ انقضاءِ حلاوتِه. فَلاَ تَقْرَبِ الأَمْرَ الْحَرَامَ فَإِنَّمَا ... حَلاَوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُهَا (¬1) **** ... **** ... تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا ... مِنَ الْمَعَاصِي وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالْعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا ... لاَ خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ (¬2) ¬

(¬1) البيت في تاريخ دمشق (14/ 334) ونسبه للحسين بن مطير. (¬2) البيتان في الآداب الشرعية (2/ 227)، شعر الدعوة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ص516، وقد نسبها بعضهم لعثمان بن عفان (رضي الله عنه).

فَمَنْ عَرَفَ حقارةَ لذةِ المعصيةِ وشدةَ السمومِ الفتاكةِ المنطويةِ عليها، وَأَعْمَلَ عقلَه [إعمالاً] (¬1) صحيحًا لا بد أن يندمَ، فَلَمَّا كانت الأسبابُ الموصلةُ إلى الندمِ متيسرةً لاَ يعجزُ عنها إلا مَنْ حَابَى نفسَه ولم يستعمل أسبابَ الندمِ صارَ الندمُ كأنه في طوقِ الإنسانِ. الإشكالُ الثانِي: هو ما ذَكَرَهُ العلماءُ في الإقلاعِ؛ لأن الإقلاعَ عن الذنبِ والكفَّ عن شَرِّ الذنبِ، وعدمَ التمادِي فيه، هذا ركنٌ من أركانِ التوبةِ، فَلاَ توبةَ مع عدمِ الإقلاعِ؛ لأَنَّ المتلبسَ بالذنبِ الذي لم يُقْلِعْ عنه لاَ توبةَ له بإجماعِ العلماءِ، والإشكالُ في هذا أن بعضَ الناسِ يتوبُ مع تعذرِ الإقلاعِ عليه، كالذي كان ينشرُ بدعةً من البدعِ حتى طَارَتْ في أقطارِ الدنيا، وصار يُعْمَلُ بها في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، ومعلومٌ أن مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيئةً فَعَلَيْهِ وزرُها ووزرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ، لاَ ينقصُ ذلك من أوزارِهم شيئًا. ثم إنه نَدِمَ على بدعتِه وأرادَ الإقلاعَ والرجوعَ عنها، لَكِنَّ شَرَّهُ منتشرٌ مستطيرٌ في أقطارِ الدنيا؛ لأن البدعةَ التي بَثَّ وهي إلى الآن في أقطارِ الدنيا يَتَنَاقَلُهَا الناسُ بعضُهم عن بعضٍ، وَيُضِلُّونَ بها بعضَهم عن بعضٍ، فهل نقولُ: هذا مُقْلِعٌ؛ لأنه فَعَلَ غايةَ ما يستطيعُ، أو نقولُ: ليس بِمُقْلِعٍ؛ لأن فسادَه لم يَزَلْ فهو منتشرٌ في أقطارِ الدنيا الآنَ؟ وَمِنْ هذا القبيلِ: مَنْ غَصَبَ أرضًا، كأن غَصَبَ أرضًا مثلاً عشرينَ مِيلاً في عشرينَ ميلاً وهو جالسٌ في وسطِها، ثم إنه نَدِمَ على ¬

(¬1) في الأصل: تعميلاً.

الغصبِ وأرادَ أن يخرجَ من الأرضِ المغصوبةِ نَادِمًا، الزمنُ الذي يمكثُه قبلَ أن يخرجَ منها لو أدركَه الموتُ وهو فيها هل نقولُ: هل هذا تائبٌ؛ لأنه فَعَلَ غايةَ ما يستطيعُ؟ أو نقولُ: لَمْ يُقْلِعْ؛ لأنه إلى الآن لم يَتَخَلَّ عن الشيء الذي غَصَبَهُ، بل هو في حوزتِه إلى الآن؟ وهو يشغلُه بجسمِه؟ ومن هذا المعنَى: مَنْ رَمَى إنسانًا مِنْ بَعِيدٍ بسهمٍ ثُمَّ لَمَّا فَارَقَ السهمُ نَدِمَ والسهمُ في الهواءِ فتابَ إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا) والسهمُ في الهواءِ، ثم بعدَ أن تَابَ أَصَابَ السهمُ في الرميةِ فَقَتَلَهُ، هل نقولُ: هو تائبٌ؛ لأنه فَعَلَ في ذلك الوقتِ ما يستطيعُ، أو نقولُ: ليسَ بِتَائِبٍ؛ لأن فسادَه منتشرٌ، وَأَثَرُ جريمتِه بَاقٍ لم يَنْقَطِعْ؟ هذه مسائلُ اختلفَ فيها علماءُ الأصولِ حولَ الإقلاعِ عن الذنبِ في التوبةِ (¬1). والمحققونَ مِنْ علماءِ الأصولِ أن الإنسانَ إذا فَعَلَ غايةَ ما في وِسْعِهِ وَنَدِمَ على ما صَدَرَ منه أن اللَّهَ يغفرُ له بذلك ويتوبُ عليه؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: آية 286] وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} مفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، أي: ويتوبُ اللَّهُ على مَنْ يشاءُ أن يتوبَ عليه {وَاللَّهُ} (جلَّ وعلا) {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} كثيرُ المغفرةِ والرحمةِ لعبادِه؛ لأَنَّ اللَّهَ غفورٌ رحيمٌ، فقد جاء في غزوةِ حُنَيْنٍ هذه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً من السَّبْيِ تَصِيحُ تطلبُ ولدَها وهي في غايةِ التشويشِ إليه حتى وَجَدَتْهُ فَجَعَلَتْ تُقَبِّلُهُ وَتَضُمُّهُ إليها من شدةِ شَفَقَتِهَا عليه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا هَذَا فِي النَّارِ؟» قالوا: لاَ. قال: «ولِمَ؟» قالوا: لشفقتها عليه. قال: «اللَّهُ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذِهِ ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

بِوَلَدِهَا» (¬1). فالله (جلَّ وعلا) أَرْحَمُ من كُلِّ شيءٍ: فَلَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَغَى ... وَقَالَ عَلَى اللَّهِ إِفْكًا وَزُورَا ... أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَغْفِرًا ... لَمَا وَجَدَ اللَّهَ إِلاَّ غَفُورَا (¬2) الذين قالوا إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ فجاؤوا بأشنعِ كُفْرٍ كيفَ يستعطفُهم اللَّهُ ويقولُ لهم: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74)} [المائدة: آية 74] هذا الاستعطافُ والكلامُ اللَّيِّنُ العظيمُ في الاستعطافِ والوعدِ بالمغفرةِ للذين قالوا: إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ يدلُّ على عظمةِ رحمةِ اللَّهِ وسعةِ مغفرتِه (جل وعلا): {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: آية 38] كائنًا ما كان من شدةِ رحمةِ اللَّهِ ومغفرتِه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: الآيتان 28، 29]. يقول اللَّهُ جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)} [التوبة: ¬

(¬1) البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، حديث رقم: (5999) (10/ 426)، ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، حديث رقم: (2754) (4/ 2109). (¬2) مضى عند تفسير الآية (67) من سورة الأنفال.

آية 28] هذه مِمَّا كان ينادي به عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) في مواسمِ عامِ تِسْعٍ، ولم يَحُجَّ بعدها مُشْرِكٌ، ولم يَطُفْ بالبيتِ عُرْيَانٌ، خَاطَبَ اللَّهُ عبادَه في هذه الآيةِ الكريمةِ باسمِ الإيمانِ ليكونَ ذلك أَدْعَى وأبعثَ على الامتثالِ، آمِرًا لهم أن يُبْعِدُوا الكفارَ عن مسجدِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} صَرَّحَ في هذه الآيةِ الكريمةِ بأن المشركينَ نَجَسٌ، والنجسُ أصلُه مصدرُ نَجِسَ الشيءُ ينجسُ نَجَسًا فهو نَجِسٌ بفتحٍ فكسرٍ، أصلُه مصدرٌ. وهذا من النعتِ بالمصدرِ، والمصدرُ إذا نُعِتَ به أُفْرِدَ وَذُكِّرَ، تقولُ: مشركٌ نَجَسٌ، ومشركة نَجَسٌ، ومشركانِ نَجَسٌ، ومشركاتٌ نَجَسٌ، ومشركونَ نَجَسٌ. تطلقُه بالإفرادِ على الواحدِ والاثنين والجمعِ من الذكورِ والإناثِ. قال بعضُ العلماءِ: هي نجاسةٌ كالنجاسةِ الحسيةِ، ولذا قال بعضُ العلماءِ: ذَاتُ المشركِ نَجِسٌ كالكلبِ والخنزيرِ. وعن الحسنِ البصري رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ (¬1). وجماهيرُ العلماءِ - وهو الصوابُ إن شاء اللَّهُ - على أن النجاسةَ في هذه الآيةِ الكريمةِ معنويةٌ، فهو نَجِسٌ مَعْنًى، والمعنَى أعظمُ من الحسِّ؛ لأن شِرْكَهُ بِاللَّهِ أنتنُ شيءٍ وأقذرُه وأنجسُه، وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: نجاستُه أيضًا لأنه لم يَتَطَهَّرْ من جنابةٍ، ولم يَتَوَضَّأْ ولم يَجْتَنِبْ شيئًا من القاذوراتِ والأنجاسِ، فهو ملازمٌ للنجاسةِ. وأكثرُ العلماءِ على أن الكافرَ الذي لم يَتَلَبَّسْ بَدَنُهُ بنجاسةٍ أن نجاستَه معنويةٌ لاَ حسية، وأنه لأَجْلِ هذه النجاسةِ المعنويةِ أَمَرَ اللَّهُ أن يُبْعَدَ عن المسجدِ الحرامِ ولاَ يَقْرُبَ منه. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 192).

قال عطاءٌ (رحمه الله) وغيرُ واحدٍ من العلماءِ: {فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: آية 28] المرادُ بالمسجدِ الحرامِ: الحرمُ كُلُّهُ (¬1)، أي: لاَ يَقْرَبِ المشركونَ حَرَمَ اللَّهِ كُلَّهُ، بل يجبُ إبعادُهم عن الحرمِ وعدمُ قُرْبَانِهِمْ إياه. وهذا القولُ هو الحقُّ والصوابُ - إن شاء الله - ¬

(¬1) السابق.

لأنه دَلَّ استقراءُ القرآنِ العظيمِ على أن اللَّهَ يُطْلِقُ المسجدَ الحرامَ على جميعِ الحرمِ، وهذه الآيةُ من جملةِ الآياتِ التي أَطْلَقَ فيها المسجدَ الحرامَ وأرادَ الْحَرَمَ كُلَّهُ، كقولِه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: آية 1] والصحيحُ أن الإسراءَ وَقَعَ به من بيتِ أُمِّ هَانِئٍ بنتِ أبي طالبٍ في مكةَ في الحرمِ لاَ في نفسِ المسجدِ، وقد قَدَّمْنَا في الآياتِ الماضيةِ قولَه: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: آية 7] والمعاهدةُ في طرفِ الحرمِ من الحديبيةِ، فهذه الآياتُ دَلَّتْ على أن مَنْعَ الكفارِ والمشركينَ من القربانِ عَامٌّ لجميعِ الحرمِ لاَ لخصوصِ المسجدِ وحدَه، خلافًا لمن قَامَ مَعَ اللفظِ. والفاءُ في قولِه: {فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} دَلَّ مَسْلَكُ الإيماءِ والتنبيهِ مِنْ مَسَالِكِ العلةِ في الأصولِ على أنها أداةُ تعليلٍ، وكذلك قُرِّرَ في الأصولِ أن الفاءَ من حروفِ التعليلِ (¬1)، كقولِهم: سَهَى فَسَجَدَ. أي: لعلةِ سَهْوِهِ. وَسَرَقَ فَقُطِعَتْ يدُه. أي: لعلةِ سرقتِه. وأساءَ فَأُدِّبَ. أي: لعلةِ إساءتِه. {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: آية 28] لعلةِ نجاستِهم التي يجبُ أن تُبْعَدَ من المسجدِ ويُتَوَقَّى إياها. والحاصلُ أن الصحيحَ - إن شاء الله - أنه لاَ يجوزُ أن يدخلَ جميعَ حرمِ مكةَ مُشْرِكٌ (¬2). والصوابُ - إن شاء اللَّه - أنها لا يدخلُها الْكِتَابِيُّونَ من يهودٍ ولا نَصَارَى (¬3)، خِلاَفًا لِمَا ذَهَبَ إليه جماعةٌ من العلماءِ، وهو مَرْوِيٌّ عن أبِي حنيفةَ (رحمه الله) أنه لا مانعَ من دخولِ اليهوديِّ والنصرانيِّ الذميِّ - مثلاً - الحرمَ، بل المسجد. قالوا: لأن اللَّهَ إنما مَنَعَ منه خصوصَ المشركينَ. قالوا: وأهلُ الكتابِ ليسوا من المشركينَ (¬4). واستدلوا بآياتٍ من كتابِ اللَّهِ ظاهرُها المغايرةُ بَيْنَ أهلِ الكتابِ والمشركينَ، كقولِه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 1] وقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 6] وقولِه: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [آل عمران: آية 186] وقولِه: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: آية 105] وقولِه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: آية 82] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ التي عَطَفَ اللَّهُ فيها أهلَ الكتابِ على المشركينَ، قالوا: والعطفُ يَقْتَضِي المغايرةَ، فَدَلَّ أنهم ليسوا من المشركينَ، والتحقيقُ الذي لا شكَّ فيه - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أن أهلَ الكتابِ من المشركينَ، وقد نَصَّ اللَّهُ على أنهم من المشركينَ في هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ براءة؛ لأنه لَمَّا ذَكَرَ أهلَ الكتابِ وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. (¬2) في هذه المسألة انظر: ابن جرير (14/ 191)، القرطبي (8/ 104)، إعلام الساجد للزركشي ص173. (¬3) انظر: المغني (13/ 245). (¬4) مضى عند تفسير الآية (5) من هذه السورة.

وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: آية 29] ثم صَرَّحَ بأن أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ من المشركينَ في قولِه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: الآيتان 30،31] فَصَرَّحَ بأنهم مشركونَ بعدَ أن صَرَّحَ بمنعِ المشركينَ من المسجدِ الحرامِ أَتْبَعَهُ بأن الْكِتَابِيِّينَ من نفسِ المشركينَ، وهذا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ. وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا ... } [التوبة: آية 31] ومعلومٌ أن الذي اتَّخَذَ الأحبارَ والرهبانَ أربابًا من المشركينَ شِرْكُ رُبُوبِيَّةٍ كما لا يَخْفَى. وسيأتِي في هذه الآياتِ الكريمةِ من سورةِ براءة بيانُ أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ أحدٍ ونظامَه واتبعَ تشريعَ الشيطانِ المخالفَ لتشريعِ اللَّهِ كُلٌّ مُتَّبِعٌ لتشريعِ الشيطانِ الذي يشرعه على ألسنةِ أوليائِه تاركًا تشريعَ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ رُسُلِهِ كافرٌ مُشْرِكٌ بالله (¬1)، كما سَنُوَضِّحُهُ في هذه الآياتِ الآتيةِ. وَمِنْ أصرحِ الأدلةِ عليه أنه لَمَّا وَقَعَتْ تلك المناظرةُ المشهورةُ بينَ حزبِ الرحمنِ وحزبِ الشيطانِ في حُكْمٍ من أحكامِ الحلالِ والحرامِ، وحزبِ الشيطانِ يقولونَ: إن ذلك الحكمَ حلالٌ، ويستدلونَ بوحيٍ شيطانيٍّ، وحزبُ الرحمنِ يقولونَ: إن ذلك الحكمَ حرامٌ. ويستدلونَ بوحيٍ قرآنيٍّ، لَمَّا اخْتَصَمُوا وَأَدْلَى كُلٌّ بحجتِه تَوَلَّى اللَّهُ الفصلَ بينهم فأفتَى بينَهم فتوى سماويةً تُتْلَى قرآنًا في سورةِ الأنعامِ في قولِه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يعني الميتةَ؛ لأَنَّ الكفارَ أَوْحَى إليهم الشيطانُ: أن سَلُوا محمدًا عن الشاةِ تصبحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ فقال لهم: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

اللَّهُ قَتَلَهَا. فقالوا: إِذَنْ ما ذَكَّيْتُمُوهُ وذبحتموه بأيديكم حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ حرامٌ، فأنتم أحسنُ من اللَّهِ. فهؤلاءِ استدلوا بوحيٍ إبليسيٍّ!! ما ذبحتموه حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ حرامٌ، فأنتم إِذَنْ أحسنُ من الله!! والمسلمونَ استدلوا بوحيٍ قرآنيٍّ، وهو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. فلما أَدْلَى كُلٌّ بحجتِه فَصَلَ اللَّهُ بينهم فَأَفْتَى في قولِه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} منه الميتةُ، أي: وإن زَعَمُوا أنها ذبيحةُ اللَّهِ. ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: آية 121] أي: الأكلُ منها فِسْقٌ. ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} يعني قولَهم: ما ذبحتموه حلالٌ، وما ذبحه اللَّهُ حرامٌ، فأنتم إِذَنْ أحسنُ من اللَّهِ. ثم قال، وهو مَحَلُّ الفتيا السماويةِ من رَبِّ العالمينَ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] فَصَرَّحَ بأن مَنْ أَطَاعَ تشريعَ الشيطانِ في حِلِّ الميتةِ أنه مشركٌ بربِّ العالمينَ، ولاَ شَكَّ أن اليهودَ والنصارى أَطَاعُوا الشيطانَ فيما هو أعظمُ من إباحةِ الميتةِ كما لا يَخْفَى، والشيطانُ عَالِمٌ بأن الذين يَتَّبِعُونَ نظامَه وقانونَه أنهم مشركونَ به، عَالِمٌ هذا في قرارةِ نفسِه، ولكنه في الدنيا يُدَلِّسُ لهم وَيَجْحَدُ، فإذا كان يومَ القيامة الذي تظهرُ فيه الدفائنُ، وَتَبْرُزُ فيه الحقائقُ أوضحَ لهم تَبَرُّؤَهُ من شِرْكِهِمْ به كما سيأتِي في سورةِ إبراهيمَ الخليلِ في الخطبةِ العظيمةِ التي ذَكَرَهَا اللَّهُ عن الشيطانِ، وهي قولُه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: آية 32] فصرَّح بأنهم كانوا مشركينَ به من قَبْلُ، ولاَ شَكَّ أن اليهودَ والنصارى دَاخِلُونَ في

هذا دخولاً أوليًّا، وكذلك قولُه: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: آية 100] واليهودُ والنصارى داخلونَ فيهم بلا شَكٍّ، وهذا الشركُ الشيطانيُّ باتباعِ نظامِه وشرعِه هو الذي وَبَّخَ اللَّهُ مرتكبَه في سورةِ (يس)، وَبَيَّنَ مصيرَه النهائيَّ في قولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس: الآيتان 60، 61] إلى أن قال مُوَبِّخًا لهم نَاعِيًا عقولَهم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: آية 62] ثم بَيَّنَ مصيرَهم النهائيَّ الأخيرَ في قولِه: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} [يس: الآيتان 63، 64] وهذا الشركُ الشيطانيُّ بالاتباعِ هو الذي نَهَى إبراهيمُ عنه أباه في قولِه: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] وقال تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: الآية41] وسيأتِي لهذا المبحثِ زيادةُ إيضاحٍ بالآياتِ القرآنيةِ قريبًا في الآياتِ الآتيةِ - إن شاء اللَّهُ - في الكلامِ على قولِه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: آية 31] فهذه النصوصُ ولا سيما آية براءة هذه التي صَرَّحَتْ أن خصوصَ أهلِ الكتابِ من المشركينَ تَدُلُّ على مَنْعِهِمْ من دخولِ الحرمِ، وما نُقِلَ عن بعضِ العلماءِ وَرُوِيَ عن الإمامِ أبي حنيفةَ من أنهم لا مانعَ من دخولِهم الحرمَ، فيه نَظَرٌ، والأصوبُ والأظهرُ أنهم يُمْنَعُونَ منه؛ لأنهم نَجَسٌ؛ ولأن اللَّهَ صَرَّحَ بأنهم مشركونَ. والتحقيقُ - إن شاء الله - أن المرادَ بالمسجدِ الحرامِ فيها الحرمُ كُلُّهُ، فلاَ يجوزُ أن يدخلَ حَرَمَ مكةَ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ ولاَ كافرٌ، كِتَابِيًّا أو غيرَه، وما رُوِيَ عن جابرٍ (رضي الله عنه) من أنه خَصَّصَ هذه الآيةَ الكريمةَ وقال: لا يدخلُ فيها العبدُ والأَمَةُ، إذا كان للمسلمِ عَبْدٌ ذِمِّيٌّ أو أمةٌ ذميةٌ

مملوكانِ فلا مانعَ من دخولِهما المسجدِ (¬1). وَرُوِيَ فيه حديثٌ مرفوعٌ، والتحقيقُ عند الْمُحَدِّثِينَ أن الموقوفَ على جابرٍ هو الأثبتُ الصحيحُ والمرفوعُ ليس بصحيحٍ (¬2). وقولٌ قاله جابرٌ لا يمكنُ أن يُخَصَّصَ به النصُّ الصريحُ، ولا سيما النص المبني حكمُه على العلةِ؛ لأنه صَرَّحَ بأنهم نجسٌ، وأشار بالفاءِ إلى أن تلك النجاسةَ هي سببُ منعِهم من قربانِ المسجدِ. وعلى كُلِّ حالٍ فالمشركونَ كعَبَدةِ الأوثانِ أَجْمَعَ جميعُ العلماءِ على مَنْعِهِمْ من دخولِ المسجدِ، واختلفوا في الكتابيِّ وفي غيرِ المسجدِ من سائرِ الْحَرَمِ، وقد بَيَّنَّا أن الصوابَ - إن شاء الله - مَنْعُهُمْ من ذلك كُلِّهِ. ولو جاءت من المشركينَ رسالةٌ إلى سلطانِ المسلمينَ - وهو بمكةَ - لا يُدْخَلُ الرسولُ، بل يَخْرُجُ إليه خارجَ الحرمِ حتى يسمعَ منه ما يقولُ، ويعطيَه الرَّدَّ خارجَ الحرمِ، أو يرسلَ إليه مَنْ يَنُوبُ عنه في ذلك (¬3). قال بعضُ العلماءِ (¬4) - وبه قال جماعةٌ من المالكيةِ - إن الواحدَ منهم إن دَخَلَ مُخْتَفِيًا وماتَ وَدُفِنَ في الحرمِ واطُّلِعَ عليه أنه يُنْبَشُ قبرُه، وَتُخْرَجُ عظامُه من الحرمِ، ولا يُتْرَكُ في حرمِ اللَّهِ؛ لأنه نَجِسٌ قَذِرٌ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فالتحقيقُ أنه لا يجوزُ أن يدخلَ حرمَ اللَّهِ ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 196) من طريق عبد الرزاق. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 339، 392) وقال عنه ابن كثير: «تفرد به الإمام أحمد مرفوعًا، والموقوف أصح إسنادًا» اهـ. تفسير ابن كثير (2/ 346). (¬3) انظر: القرطبي (8/ 104). (¬4) السابق، وانظر: إعلام الساجد للزركشي ص175.

كافرٌ، وأن اللَّهَ نَهَى عن قربانِهم إياها، لا يقربوه فضلاً عن أن يدخلوه. واختلف العلماءُ في غيرِ المسجدِ الحرامِ من المساجدِ هل يدخلُ الكفارُ المساجدَ غير المسجدِ الحرامِ (¬1)؟ اختلف العلماءُ في ذلك، فذهب مالكٌ (رَحِمَهُ اللَّهُ) وأكثرُ أصحابِه في طائفةٍ من العلماءِ إلى أنه لا يجوزُ أن يدخلَ كافرٌ مسجدًا من مساجدِ اللَّهِ كائنًا مَنْ كان في أي قُطْرٍ [5/أ] من أقطارِ الأرضِ في حَرَمٍ أو حِلٍّ. / واستدلَّ مالكٌ لهذا الحكمِ بأدلةٍ، قالوا: من تلك الأدلةِ أن اللَّهَ (جلَّ وعلا) صَرَّحَ بالعلةِ فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وقد تقررَ في علمِ الأصولِ أن العلةَ تارةً تُعَمِّمُ معلولَها وتارةً تُخَصِّصُهُ (¬2)، وقد جاءت مواضعُ من كتابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رسولِه لاَ خِلافَ فيها بَيَّنَ العلماءُ أن العلةَ تُعَمِّمُ معلولَها، قالوا: وَمِنْ أمثلةِ ما تُعَمِّمُ فيه العلةُ معلولَها قولُه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في حديثِ أبِي بكرةَ الثابتِ في الصحيحِ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» (¬3) نَصَّ (¬4) النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ الصحيحِ على مَنْعِ علةِ الحاكمِ الغضبانِ من الحكمِ؛ لأَنَّ الغضبَ يشوشُ فِكْرَهُ، فيمنعُه من تَقَصِّي فَهْمِ أقوالِ الخصومِ، وَفَهْمِ ما يحكمُ عليهم به. قالوا: إذا كان الحاكمُ في غايةِ الجوعِ والعطشِ الْمُفْرِطَيْنِ، أو في غايةِ الحزنِ والسرورِ الْمُفْرِطَيْنِ، أو في غايةِ الحقنِ والحقبِ المفرطينِ - والحقنُ: مدافعةُ البولِ. والحقبُ: مدافعةُ الغائطِ - إذا ¬

(¬1) انظر القرطبي (8/ 104)، إعلام الساجد ص318. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنفال. (¬3) مضى تخريجه عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام. (¬4) في الأصل: «هذه الآية الكريمة نص فيها النبي ... ». وهو سبق لسان.

كان في أَمْرٍ من هذه الأمورِ يشوشُ الفكرَ تشويشًا عظيمًا مثلَ تشويشِ [الغضبِ] (¬1) أو أشدَّ لاَ يجوزُ له أن يحكمَ، فتعليلُه بالغضبِ المستلزمِ لتشويشِ الفكرِ عِلَّةٌ عَمَّمَتْ هذا الحكمَ وَعَدَّتْهُ إلى كُلِّ شيءٍ يشوشُ فِكْرِ الإنسانِ. قالوا: فكذلك قولُه: {نَجَسٌ} قذرٌ، ومعلومٌ أن المساجدَ بيوتُ اللَّهِ، وأن اللَّهَ قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: آية 36] وأن شيئًا صَرَّحَ اللَّهُ بأنه نَجَسٌ، ومعلومٌ قذارةُ النَّجَسِ، لا ينبغي أن يُدْخَلَ في بيوتِ اللَّهِ التي أُسِّسَتْ لعبادةِ اللَّهِ وعلى الطهارةِ وعلى تَجَنُّبِ الأقذارِ. هذا من أدلةِ مالكٍ، واستدلَّ الإمامُ مالكٌ أيضًا بما قَدَّمْنَا من آيةِ سورةِ البقرةِ، وهي قولُه تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} [البقرة: آية 114] قال: معناه لاَ يَدْخُلُونَهَا أبدًا إلا خائفينَ من المسلمينَ أن يَطَّلِعُوا عليهم فَيُنَكِّلُوا بهم. فَسَّرَ الآيةَ هذا التفسيرَ، واستدلَّ بعمومِها. وَذَهَبَ آخرونَ من العلماءِ، منهم الأئمةُ الثلاثةُ إلى أن دخولَ الكافرِ لمسجدٍ غيرِ المسجدِ الحرامِ قالوا: لا مانعَ منه ولا يُمْنَعُ، وبعضُهم يُقَيِّدُ بقولِه: إن دَعَتْ إلى ذلك حاجةٌ، وبعضُهم يُطْلِقُ. واستدلوا على ذلك بأدلةٍ، منها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَبَطَ ثمامةَ بنَ أُثال سيدَ بني حنيفةَ - لَمَّا أُخِذَ أسيرًا - رَبَطَهُ وهو كافرٌ في ساريةٍ من سَوَارِي مسجدِه هذا (¬2) قالوا: وَأَنْزَلَ وَفْدَ نجرانَ فِي المسجدِ وهم ¬

(¬1) في الأصل: «الفكر». وهو سبق لسان. (¬2) البخاري في المساجد، باب الاغتسال إذا أسلم، وربط الأسير أيضًا في المسجد. حديث رقم: (462) (1/ 555) وأطرافه (469، 2422، 2423، 4372).

كفارٌ (¬1)، ومعلومٌ أن في هذا البحثِ مناقشةً، وأن مَنْ قال: يُمْنَعُ دخولُ الكفارِ المساجدَ، أجابوا عن كُلٍّ بجوابٍ، فقالوا في حديثِ ثمامةَ: إنه وَقَعَ قبلَ تحريمِ دخولِ المساجدِ. وجاؤوا بأدلةٍ احْتَجُّوا بها، وحاصلُ ما للعلماءِ فيها هو ما ذَكَرْنَا. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ (¬2): إذا أَسْلَمَ الكافرُ لَزِمَهُ أن يتطهرَ؛ لأنه نَجَسٌ، وقال بعضُهم: يجبُ على الكافرِ الطهارةُ إذا أَسْلَمَ، قالوا: لأنه لا بد أن تكونَ كانت عليه جَنَابَةٌ. وهذا قال به جماعةٌ من العلماءِ، ويدلُّ له: أَمْرُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثمامةَ بنَ أُثالٍ الحنفيَّ لَمَّا أَسْلَمَ أن يغتسلَ (¬3). قالوا: ذَهَبَ إلى حائطِ أبِي طلحةَ واغتسلَ فيه. وقالوا أيضًا: أَمَرَ قيسَ بنَ عاصمٍ لَمَّا أَسْلَمَ أن يغتسلَ بماءٍ وسدرٍ (¬4). وكان ¬

(¬1) خبر قدوم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم أورده ابن سعد في الطبقات (1/ 2/84)، وابن هشام في السيرة ص610، وابن كثير في التفسير (1/ 368)، وابن القيم في الزاد (3/ 629). وليس في الخبر أنه أنزلهم المسجد، وإنما دخلوا عليه في المسجد، وأنهم صلوا فيه إلى المشرق. (¬2) انظر: المغني (1/ 274 - 276)، القرطبي (8/ 103). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 304، 483)، وعبد الرزاق (6/ 9)، وابن خزيمة (1/ 125)، وابن حبان (2/ 269)، والبيهقي (1/ 171)، وابن الجارود (1/ 24) وأصله في الصحيحين كما في الحديث المتقدم قريبًا وفيه: أنه ربطه بسارية من سواري المسجد. وليس فيه أنه أمره بالاغتسال. وانظر: الإرواء (1/ 164). (¬4) أخرجه أحمد (5/ 61)، وعبد الرزاق (6/ 9)، وأبو داود في الطهارة، باب الرجل يُسْلِمُ فيؤمر بالغسل. حديث رقم: (351) (2/ 19)، والترمذي في الصلاة، باب ما ذكر في الاغتسال عندما يُسْلِمُ الرجل. حديث رقم: (605) (2/ 502)، والنسائي في الطهارة، باب غُسل الكافر إذا أَسْلَمَ. حديث رقم: (188) (1/ 109)، وابن الجارود (1/ 25)، وابن خزيمة (1/ 126)، وابن حبان (2/ 270)، والبيهقي (1/ 171) وانظر: الإرواء (1/ 163).

ابنُ وهبٍ من أصحابِ مالكٍ يقولُ: لاَ يجبُ عليه إذا أَسْلَمَ غُسْلٌ؛ لأن الإسلامَ يَجُبُّ كُلَّ شيءٍ قَبْلَهُ، ويَجُبُّ الجناباتِ، وَيجُبُّ كُلَّ شَرٍّ وسوءٍ كان قبلَه. هذا معنَى قولِه: {فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}. {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وعامُهم هذا هو عامُ تسعٍ على التحقيقِ، وَخَالَفَ قومٌ منهم قتادةُ (¬1) وأبو بكر بنُ العربيِّ (¬2)، قالوا: هو عَامُ عَشْرٍ. وقال أبو بكر بن العربيِّ المالكيُّ: عَجَبًا لعاقلٍ يقولُ: إن هذا العامَ عامُ تِسْعٍ!! ونحنُ نقولُ: العجبُ كُلُّ العجبِ من كلامِ ابنِ العربيِّ هذا!! والعامُ بلا شَكٍّ أنه عامُ تِسْعٍ، والإشارةُ بقولِه: {هَذَا} إلى العامِ الذي هُمْ فيه في ذلك الوقتِ الراهنِ، وهو عامُ تسعٍ بلاَ نزاعٍ، والذي غَلِطَ في هذا من العلماءِ وقال: هو عامُ عَشْرٍ. الْتَبَسَ عليه ما بَيْنَ المضافِ والمضافِ إليه؛ لأن المضافَ هو لفظةُ (بعد)، والباء والعين والدال {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} البعديةُ المضافةُ إلى عامِهم هذا، فعامُهم هذا هو عامُ تسعٍ يقينًا لا شَكَّ فيه، وما بعدَ عامِ تسعٍ أولُه عامُ عشرٍ؛ لأن الشيءَ إذا انتهى عامَ تسعٍ فالزمنُ الذي بعدَ انتهائِه يُسَمَّى أنه بَعْدَهُ. فالبعديةُ واقعةٌ بعامِ عَشْرٍ، أما العامُ المذكورُ في قولِه: {عَامِهِمْ هَذَا} المضافُ إليه البعديةُ، فهو عامُ تسعٍ بلا نزاعٍ كما لاَ يَخْفَى. ¬

(¬1) الرواية التي نقلها ابن جرير (14/ 192) عن قتادة (رحمه الله) مصرحة بأنه عام تسع. ولعل الشيخ (رحمه الله) عزا ذلك لقتادة متابعة للقرطبي (8/ 106)، وابن العربي في أحكام القرآن (2/ 915). (¬2) أحكام القرآن (2/ 915).

ثم قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أن الكفارَ يُمْنَعُونَ من الإتيانِ إلى الحرمِ لأن أهلَ مكةَ كانوا في الموسمِ تَحُجُّ إليهم قبائلُ العربِ من أقطارِ الدنيا فيأتونَ بالأموالِ والطعامِ يبيعونَها، فَلَمَّا مُنِعُوا من أن يَحُجُّوا، وَأُمِرَ المشركونَ بتجنبِ الحرمِ، قالوا: مِنْ أينَ نعيشُ؟ كنا نعيشُ مما يأتِي به هؤلاء في مواسمِهم فإنا سَنَفْتَقِرُ، ولن يبقَى لنا شيءٌ نعيشُ به إن مُنِعَ هؤلاء من القدومِ علينا؛ لأنا كنا نعيش بما يُورِدُونَهُ من الأطعمةِ والأموالِ ونحوِ ذلك. فقال لهم اللَّهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} {خِفْتُمْ} من الخوفِ. أصلُ {خِفْتُمْ} مِنْ خَافَ يَخَافُ. هذه المادةُ فاؤُها خاءٌ، وعينها واوٌ، ولامُها فَاءٌ، وقد يُشْكِلُ على طالبِ العلمِ مِنْ أينَ جاءت هذه الكسرةُ التي كُسِرَ بها الخاءُ في قولِه: {خِفْتُمْ} مع أن المادةَ من الأجوفِ الواويِّ العينِ. فسببُ كسرِ الخاءِ من قولِه: {خِفْتُمْ} أن مَاضِيَ (خَافَ) أصلُه (خَوِف) بكسرِ الواوِ، قُلِبَتِ الواوُ أَلِفًا فقيلَ فيه: (خاف) والواوُ المبدلةُ من الألفِ أصلُها مكسورةٌ، فإذا بُنِيَ الفعلُ إلى ضميرِ الرفعِ كالتاءِ هنا سَقَطَتِ العينُ بالاعتلالِ وَجُعِلَتْ كسرةُ الواوِ الساقطة بالاعتلالِ نُقِلَتْ إلى الفاءِ ليدلَّ على أن العينَ كانت مكسورةً كما هو مُقَرَّرٌ معلومٌ في فنِّ التصريفِ (¬1). وقد ذَكَرْنَا (¬2) أن الخوفَ في لغةِ العربِ هو الغَمُّ من أمرٌ مُسْتَقْبَلٌ. وأن الحزنَ هو الغمُّ من أمرٍ فائتٍ. وربما أَطْلَقَتِ العربُ أحدَهما في موضعِ الآخَرِ كما هو مَعْرُوفٌ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنفال. (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

وقولُه: {عَيْلَةً} العيلةُ في لغةِ العربِ: معناها الفقرُ. تقولُ العربُ: عَالَ الرجلُ يَعِيلُ عيلةً. إذا افْتَقَرَ فَقْرًا. فـ (العيلةُ) من أجوفَ يائيِّ العينِ، عَالَ يعيلُ عيلةً إذا افْتَقَرَ. وعالَ يعولُ بالواوِ إذا جَارَ وعدلَ عن الحقِّ. وَذَكَرَ بعضُهم أنه مسموعٌ عن العربِ أيضًا: عَالَ يَعُولُ - بالواوِ - إذا افْتَقَرَ (¬1). وهو غَرِيبٌ!! أما (عيلةٌ) فمعناه فَقْرًا. وَعَالَ يعيلُ بمعنَى افْتَقَرَ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أُحَيْحَةَ بنِ الجُلاَحِ الأنصاريِّ (¬2): وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ أي: لا يدري الْغَنِيُّ مَتَى يفتقرُ، ومنه بهذا المعنَى قولُ جَرِيرٍ (¬3): وَاللَّهُ نَزَّلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً ... لاَبْنِ السَّبِيلِ وَلِلْفَقِيرِ الْعَائِلِ وَصَفَهُ بنفسِه توكيدًا لاختلافِ اللفظينِ. فالمعنَى: إِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا فسوف يُغْنِيكُمُ اللَّهُ من فضلِه، ولا شكَّ أن اللَّهَ أَغْنَاهُمْ من فضلِه. قال بعضُ العلماءِ: أَغْنَاهُمْ من فضلِه بما فَتَحَ من بابِ الجزيةِ. قالوا: والدليلُ عليه أن الآيةَ التي بعدَها آيةُ الجزيةِ، فَأَخَذَ المسلمونَ الجزيةَ من الكفارِ واستغنَى بها المسلمونَ. وقال بعضُ العلماءِ: أَغْنَاهُمْ بإنزالِ المطرِ، وَأَخْصَبَتِ الأرضُ، فَأَخْصَبَتْ بلادُ اليمنِ، وأخصبت تبالةُ وجُرش، وجلبوا لهم من الطعامِ والودكِ، وأسلمَ قبائلُ العربِ في اليمنِ وفي نَجْدٍ وفِي غيرِه، فكانوا يَحُجُّونَ كُلَّ سنةٍ ويأتونَهم بمثلِ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 193). (¬2) البيت في ابن جرير (14/ 192). (¬3) البيت في ديوانه ص313.

ما كانوا يأتونَهم به من الطعامِ والأموالِ فَأَغْنَاهُمُ اللَّهُ بذلك (¬1). وهذا معنَى قولِه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. قال بعضُ العلماءِ (¬2): يُؤْخَذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ حُكْمٌ، وهو أن تعلقَ القلبِ بأسبابِ الرزقِ والمعيشةِ لاَ ينافِي التوكلَ ولا يقدحُ في توكلِ الإنسانِ؛ لأن هؤلاء القومَ لَمَّا تَخَيَّلَ لهم أن الطريقَ التي كانوا يعيشونَ منها أنها انْقَطَعَتْ بمنعِ المشركينَ من الحجِّ، وَخَافُوا الفقرَ من هذا الطريقِ ما عَنَّفَ اللَّهُ عليهم ولاَ عَابَهُمْ بل قَرَّرَهُمْ على ذلك، فقال لهم: إِنْ خِفْتُمُ الفقرَ من هذا الطريقِ، ومن أن السببَ الذي كُنْتُمْ تعيشونَ به أنه انقطعَ فسوفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ بأسبابٍ أُخَرَ. وهذا معنًى معروفٌ، أن الأسبابَ لاَ تُنَافِي التوكلَ، فالمسلمُ الذي يعلمُ ما جاءَ عن اللَّهِ يتسببُ ويتعاطَى جميعَ الأسبابِ لحياتِه، ويتسببُ فِي أسبابِ الرزقِ والمعيشةِ على الوجوهِ الشرعيةِ غيرِ الْمُزْرِيَةِ، ومع ذلك فهو مُتَوَكِّلٌ على اللَّهِ، والذي يتركُ جميعَ الأسبابِ ويقولُ: توكلتُ على الله!! هذا مُخَالِفٌ للشرع، مخالفٌ لِمَا جاء عن اللَّهِ، والذي يعتمدُ في كُلِّ شيءٍ على الأسبابِ ولا ينظرُ إلى رَبِّهِ هذا أيضًا ضَالٌّ مُضِلٌّ، والذي يستعملُ الأسبابَ كما شَرَعَهَا له رَبُّهُ، ويكونُ اعتمادُه في الحقيقةِ على رَبِّهِ فهذا هو المؤمنُ. ألا تَرَوْنَ أن نَبِيَّ اللَّهِ يعقوبَ، وقد قال اللَّهُ فيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] عَلَّمَ أولادَه السببَ في التحرزِ عن العينِ فقال لهم: {يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} فهذا تَسَبُّبٌ في التحرزِ عن العينِ؛ لأنها تَضُرُّ، ثم صَرَّحَ مع ذلك بتوكلِه الكاملِ على ¬

(¬1) هذه المعاني ذكرها القرطبي (8/ 106). (¬2) السابق (8/ 107).

اللَّهِ حيث قَالَ: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: الآية 67] فالأخذُ بالأسبابِ لاَ ينافِي التوكلَ كما هو معروفٌ، وقد قال اللَّهُ لمريمَ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: آية 25] ولا شَكَّ أنه لو أَرَادَ أن يتساقطَ عليها رُطَبُهَا من غيرِ سببٍ لَتَسَاقَطَ مِنْ غيرِ سببٍ، ولكنه أَجْرَى العادةَ بِأَنْ جَعَلَ للأرزاقِ والمعايشِ والأشياءِ أسبابًا، رَبَطَ بَيْنَ الأسبابِ ومسبباتِها بما شَاءَ بقدرتِه وحكمتِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ ... وَهُزِّي إِلَيْكِ الْجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبُ ... وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ ... جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ (¬1) فالأخذُ في الأسبابِ مع مراعاةِ الشرعِ، وتعلقُ القلبِ بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلُهُ على اللَّهِ، هذه طريقةُ الأنبياءِ، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: آية 3] يعنِي: أن مَنِ اضْطُرَّ إلى أَكْلِ الميتةِ أَكَلَ الميتةَ وتسبَّب في إمساكِ رمقِه بأكلِ الميتةِ، ولم يَقُلْ له فَانْتَظِرْ وَتَوَكَّلْ على اللَّهِ حتى ينزلَ لك رزقٌ من السماءِ!! لَمْ يَقُلْ هذا تعليمًا للناسِ بالأخذِ بالأسبابِ، وتعلق قلوبهم بربهم، وتوكلهم عليه. وهذا معنَى قولِه: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} إن شاء أن يغنيَكم. فَعَلَّقَ الغِنَى بمشيئتِه، فَلاَ يكونُ شيءٌ إلا بمشيئتِه (جلَّ وعلا)؛ لأن الأرزاقَ مقسومةٌ بمشيئتِه (جلَّ وعلا)، فهو الذي تَوَلَّى قسمَها بنفسِه وَلَمْ يَكِلْهُ إلى أَحَدٍ، كما سيأتِي في سورةِ الزخرفِ في الكلامِ على قولِه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ¬

(¬1) تقدم ذكرهما في الحاشية عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف، والبيتان في المستطرف (2/ 128، 548)، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (1/ 590).

وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: آية 32] {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} [النحل: آية 71]. هذا معنَى قولِه: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} {إِنَّ اللَّهَ} (جلَّ وعلا) {عَلِيمٌ} محيطٌ عِلْمُهُ بِكُلِّ شيءٍ {حَكِيمٌ} في كُلِّ ما يفعلُ، وكلِّ ما يقولُ، وكلِّ ما يَشْرَعُ، فأفعالُه كلُّها فِي غايةِ الحكمةِ، وأقوالُه وتشريعُه وجزاؤُه كلُّه في غايةِ الحكمةِ، هذا معنَى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: آية 28]. قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: الآيات 29 - 31]. يقول الله (جلَّ وعلا): {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: آية 29]. كان الصحابةُ (رضي الله عنهم) ينتظرونَ نزولَ هذه الآيةِ الكريمةِ بسببِ آيةٍ نَزَلَتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم هي من الْمُنْسَأِ الذي قَدَّمْنَاهُ في قولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: آية 106] على

قراءةِ {نَنْسَأها} (¬1) يعني: نُؤَخِّرُهَا؛ لأن اللَّهَ يؤخرُ بعضَ الآياتِ إلى أمدٍ معلومٍ، ثم يأتِي ببدلها، تارةً يأتِي ببدلِها ناسخًا، وتارةً تكونُ مُنسأة لا منسوخةً؛ لأنها كانت مَعْلُومًا أنها مُغَيَّاةٌ بغايةٍ. وإيضاحُ هذا: أن اللَّهَ أَنْزَلَ آياتٍ في أهلِ الكتابِ تَدُلُّ على عدمِ قتالِهم، كقولِه في سورةِ البقرةِ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: آية 109]. {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أي: عن أهلِ الكتابِ {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي: حتى يأتيَكم الأمرُ الأخيرُ من الله. وكانت هذه الآيةُ من سورةِ براءة فيها الأمرُ الذي كانوا ينتظرونَه في آيةِ البقرةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: آية 29]. لأن أهلَ الكتابِ من يهودٍ وَنَصَارَى وإن قالوا: لا إله إلا الله وأقروا بالقيامةِ فَهُمْ كَمَنْ أَنْكَرَ وجودَ اللَّهِ وأنكرَ وجودَ القيامةِ؛ لأنهم لَمَّا اتخذوا الأربابَ معه وَأَشْرَكُوا به في الأربابِ وقالوا: إن عُزيرًا ابنُه، وإن المسيحَ ابنُه!! هذا قولُ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ولاَ باليومِ الآخِرِ؛ لأن الكافرَ إذا كَفَرَ بِاللَّهِ من وجهٍ لا ينفعُه الإيمانُ به من وجهٍ آخَرَ، فَمَنْ قال: لاَ إلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَادَّعَى لله ولدًا، أو شريكًا، أو رَبًّا معه، فهذا لا يؤمنُ بالله {وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} وهو يومُ القيامةِ، {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بل يُحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ويحرمونَ ما أحلَّ الله، {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}، الذي هو دينُ الإسلامِ. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص134.

وفي قولِه: {دِينَ الْحَقِّ} وجهانِ من التفسيرِ (¬1): أحدُهما: أن (الحقَّ) هو ضِدُّ الباطلِ، وأن دينَ الحقِّ من إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه. أي: الدينُ الذي هو الحقُّ الذي هو دينُ الإسلامِ. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: آية 85]. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: آية 19]. الوجهُ الثانِي: أن الحقَّ هو اللَّهُ، فالحقُّ من أسماءِ اللَّهِ. {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي: دين الله الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقولُه: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيانٌ للذين أُمِرُوا بقتالِهم الموصوفونَ بأنهم لاَ يؤمنونَ بالله إلى آخِرِ ما ذكر. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مِنْ يَهُودٍ وَنَصَارَى. وعندما نَزَلَتْ تَجَهَّزَ صلى الله عليه وسلم لقتالِ النصارى في غزوةِ تبوك كما ستأتِي تفاصيلُه في هذه السورةِ الكريمةِ. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}: (حتى) حرفُ غايةٍ، وَالْمُغَيَّا هنا {قَاتِلُوا} أي: قاتلوهم، وَأَمَدُ ذلك القتالِ إلى غايةٍ هي أن {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} إِذْ لم يؤمنوا بالله، فإن آمَنُوا بالله فَذَلِكَ، وإلا فَلاَ بُدَّ أن يُعْطُوا الجزيةَ. الجزيةُ: (فِعْلةٌ) وقد تَقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ أن (الفِعلةَ) بكسرِ الفاءِ تأتِي لبيانِ الهيئاتِ، من هيئاتِ المصدرِ. وأصلُها من جَزَى يجزي؛ لأن الكفارَ - أهلُ الكتابِ -: يُنْعِمُ عليهم المسلمونَ بحقنِ ¬

(¬1) انظر البحر المحيط (5/ 29).

دمائِهم وعدمِ قتلِهم. والمدافعةِ عنهم، وَمَنْعِ كُلِّ مَنْ أَرَادَ أن يظلمَهم، فهذا الإحسانُ يُجَازَوْنَهُ نوعًا من الجزاءِ عُبِّرَ عنه بالجزيةِ من (جزى يجزي) إذا كَافَأَ ما أُسْدِيَ إليه، تقولُ العربُ: أَحْسَنَ إِلَيَّ فَجَزَيْتُهُ، أي: كَافَأْتُهُ بما أَسْدَى، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): يَجْزِيكَ أَوْ يُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ مَنْ ... أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ كَمَنْ جَزَى وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {عَنْ يَدٍ} فيه أَوْجُهٌ من التفسيرِ معروفةٌ عندَ العلماءِ لاَ يُكَذِّبُ بعضُها بعضًا (¬2): قال بعضُ العلماءِ: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}: أي: عَنْ قهر وتحتَ ذُلٍّ وكلِّ ما أعطاه الإنسانُ مقهورًا ذليلاً تقولُ العربُ: أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ. وقال بعضُ العلماءِ: يُعْطِيهِ عن يدٍ معناه: يُسَلِّمُهُ بيدِه ولاَ يُرْسِلُ به غيرَه، فالدافعُ واقفٌ والآخِذُ جالسٌ. وقال بعضُ العلماءِ: {عَنْ يَدٍ} أَيْ: نَقْدًا مُتسلمًا باليدِ لا نسيئةً. وقال بعضُ العلماءِ: {عَنْ يَدٍ} أي: عن اعترافِهم بنعمةِ المسلمينَ عليهم حيث قَبِلُوا منهم العوضَ ولم يقتلوهم. والحالُ في هذا {وَهُمْ صَاغِرُونَ} الصاغرونَ: المتصفونَ بالصَّغَارِ. والصَّغَارُ في لغةِ العربِ معناه: الذلُّ والحقارةُ والهوانُ. ومعنَى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: حَقِيرُونَ ذَلِيلُونَ. وَسَنُبَيِّنُ هنا - إن شاء الله - بعضَ أحكامِ الجزيةِ: اعْلَمُوا أَوَّلاً أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عليه القرآنُ بجوازِ أَخْذِ الجزيةِ من أهلِ الكتابِ، ولكنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) بَيَّنَ أنهم وإن أُخِذَتْ منهم الجزيةُ فلاَ يجوزُ بحالٍ من الأحوالِ ولاَ بِوَجْهٍ من الوجوهِ ¬

(¬1) البيت في القرطبي (8/ 114)، البحر المحيط (5/ 30). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 115)، البحر المحيط (5/ 30).

أن يُتركوا يسكنونَ في جزيرةِ العربِ، فإقامةُ الكفارِ وَسُكْنَاهُمْ في جزيرةِ العربِ ممنوعٌ لاَ يجوزُ بحالٍ، فيجبُ على المسلمينَ أن يُخْرِجُوهُمْ من جزيرةِ العربِ جميعِها ولاَ يتركوا فيها كافرًا. وهذا من آخِرِ ما أَوْصَى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وقد ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) قال: اشْتَدَّ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يومَ الخميسِ، وَأَوْصَى عندَ موتِه بثلاثٍ، قال: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» قال الراوي: ونسيتُ الثالثةَ (¬1). فهذا حديثٌ صحيحٌ أَوْصَى به النبيُّ عند موتِه. وقد أخرجَ مسلمٌ وغيرُه أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال: «لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لاَ أَدَعُ فِيهَا إِلاَّ مُسْلِمًا» (¬2). وروى الإمامُ أحمدُ وغيرُه عن عائشةَ (رضي الله عنها) أنها قالت: آخِرُ ما عَهِدَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن قَالَ: «لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ» (¬3). وروى أحمدُ وغيرُه عن أبِي عبيدةَ بنِ الجراحِ (رضي الله عنه) قال: آخِرُ ما قالَه رسولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم: «أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ ¬

(¬1) البخاري في الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب. حديث رقم: (3168) (6/ 270)، ومسلم في الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. حديث رقم: (1637) (3/ 1257). (¬2) مسلم في الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. حديث رقم: (1767) (3/ 1388) من حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 275) وقال الهيثمي في المجمع (5/ 325): «رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع» اهـ.

الْعَرَبِ» (¬1). فهذه الأحاديثُ وأمثالُها تَدُلُّ على أنه لاَ يجوزُ أن يسكنُ كافرٌ بجزيرةِ العربِ كائنًا ما كَانَ، وأن على المسلمينَ إخراجُ الكفارِ من جزيرةِ العربِ، ولكنهم لا يمنعونَ من الإتيانِ إليها لتجارةٍ أو نحوِه من غيرِ إقامةٍ بها، وكان عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) إذا أَرَادَ بعضُ اليهودِ دخولَ الحجازِ لتجارةٍ أَذِنَ له وَأَجَّلَ لهم ثلاثةَ أيامٍ يبيعونَ فيها ويشترونَ ثم يذهبونَ (¬2). وَاعْلَمُوا أن الجزيةَ إذا أَسْلَمَ الكافرُ اختلف العلماءُ هل تسقطُ عنه الجزيةُ (¬3)؟ وَأَظْهَرُ القولينِ: أنه تسقطُ عنه الجزيةُ لِمَا جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ» (¬4) ولأنه لا تُؤْخَذُ منه وهو صَاغِرٌ؛ لأن المسلمَ لا يُحَقَّرُ ولاَ يُهَانُ. وقال الشافعيُّ في طائفةٍ من العلماءِ: إذا أَسْلَمَ لَمْ تسقط عنه ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 195، 196)، وأبو يعلى (1/ 872)، والحميدي (85)، والدارمي (2/ 151 - 152)، والطيالسي (229)، والبيهقي (9/ 208). وانظر: السلسلة الصحيحة (1132). (¬2) أخرجه البيهقي (9/ 209). (¬3) انظر: بدائع الصنائع (7/ 112)، المغني (13/ 221 - 222)، القرطبي (8/ 113 - 114). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 223، 285)، وأبو عبيد في الأموال ص49، وأبو داود في الخراج والفيء، باب الذمي الذي يسلم في بعض السنة. حديث رقم: (3037) (8/ 305)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء: ليس على المسلم جزية. حديث رقم: (633) (3/ 18)، والبيهقي (9/ 199)، والدارقطني (4/ 156، 157)، وابن عدي (5/ 1845)، (6/ 2072)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 232). وانظر: الإرواء (5/ 99).

الجزيةُ؛ لأنها بقيت دَيْنًا فيه، فهي كسائرِ الديونِ، إلا أنه عند أدائِها يُؤَدِّيهَا غيرَ صاغرٍ ولا مُهَانٍ؛ لأَجْلِ إسلامِه، ولكنها تَقَرَّرَتْ في ذمتِه. واختلف العلماءُ: في القَدْرِ الذي يُؤْخَذُ من أهلِ الجزيةِ (¬1)، وَمِمَّنْ تُؤْخَذُ الجزيةُ (¬2)؟ فقال جماعةٌ من العلماءِ: تُؤْخَذُ الجزيةُ من كُلِّ كتابيٍّ عَجَمِيًّا كان أو عَرَبِيًّا، والجزيةُ بالأديانِ لاَ بالأنسابِ. وهذا القولُ هو الصحيحُ والأظهرُ. وقال بعضُ العلماءِ: تُؤْخَذُ من مُشْرِكِي العجمِ ولا تُؤْخَذُ من مشركِي العربِ. وهو قولُ أبِي حنيفةَ رحمه الله (¬3). والحقُّ أن الجزيةَ تُؤْخَذُ من كُلِّ كتابيٍّ عربيًّا كان أو غيرَه، وقد أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا لَمَّا أرسلَه إلى اليمنِ أن يأخذَ من كُلِّ حالمٍ من كفارِ أهلِ اليمنِ - أهلِ الكتابِ - الذين لم يُسْلِمُوا أن يأخذَ من كُلِّ حالمٍ دينارًا منهم (¬4). وبعثَ خالدَ بنَ الوليدِ إلى أُكَيْدَر فَأَخَذَ من أُكيدر ¬

(¬1) انظر: بدائع الصنائع (7/ 11 - 112)، المغني (13/ 211 - 212)، القرطبي (8/ 111)، أحكام أهل الذمة (1/ 26). (¬2) انظر: الأم (4/ 240، 281)، القرطبي (8/ 110)، المغني (13/ 202) فما بعدها، أحكام أهل الذمة (1/ 1) فما بعدها. (¬3) انظر: المدونة (2/ 46 - 47)، بدائع الصنائع (7/ 110 - 111)، المغني (13/ 206 - 207، 208). (¬4) أخرجه أحمد (5/ 230، 233، 240، 247)، وعبد الرزاق (4/ 21)، وابن أبي شيبة (3/ 126 - 127)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. حديث رقم: (623) (3/ 11) وقال: «هذا حديث حسن. وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي ... وهذا أصح» ا. هـ. وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم: (1561 - 1562) (4/ 457) وفي الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (3022، 3023) (8/ 287)، وابن ماجه في الزكاة، باب صدقة البقر. حديث رقم: (1803) (1/ 576)، والنسائي في الزكاة باب زكاة البقر. حديث رقم: (2450 - 2452) (5/ 25 - 26)، والحاكم (1/ 398)، والبيهقي (4/ 98)، (9/ 193)، وابن خزيمة (4/ 19)، وابن حبان (الإحسان 7/ 195). وقال ابن عبد البر في التمهيد (2/ 275): «إسناده متصل صحيح ثابت» اهـ. وانظر: التلخيص (2/ 152)، الإرواء (795)، صحيح أبي داود (2/ 589)، صحيح ابن ماجه (1/ 302).

الجزيةَ (¬1). وأُكيدر دومة معلومٌ أنه عَرَبِيٌّ، أصلُه من كندةَ، كما قاله غيرُ واحدٍ. وَأَخَذَ الجزيةَ من أهلِ نجرانَ (¬2). وأكثرُ أهلِ نجرانَ نصارى عربٌ. وهذا هو التحقيقُ، فالحقُّ الذي لا شكَّ فيه أن الكتابيَّ الذي كان على دينِ أهلِ الكتابِ قبلَ أن يُبْعَثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ بنصِّ هذه الآيةِ؛ ولأَنَّهَا لم تُفَصِّلْ. وأما المجوسُ فقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهم تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ، فقد رَوَى البخاريُّ في صحيحِه عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ (رضي الله عنه) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الجزيةَ من مجوسِ هجرَ (¬3). وقد ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (3021) (8/ 286)، والبيهقي (9/ 186، 187). وانظر: صحيح أبي داود (2/ 589). (¬2) أخرجه أبو داود في الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (3025) (8/ 291)، والبيهقي (9/ 187). (¬3) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم: (3157) (6/ 257).

أخذ الجزيةَ من أهلِ البحرينِ (¬1) وأكثرهم في ذلك الوقتِ كانوا مَجُوسًا. فالحقُّ الذي لا شكَّ فيه أنها تُؤْخَذُ من المجوسِ لِمَا جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (¬2) وَثَبَتَ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ أنه قال: أَشْهَدُ فقد أَخَذَ رسولُ اللَّهِ الجزيةَ من مجوسِ هجرَ. وكان عمرُ بنُ الخطابِ تَوَقَّفَ في أَخْذِ الجزيةِ من المجوسِ حتى شَهِدَ عندَه عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ (رضي الله عنه) (¬3). والشافعيُّ (رحمه الله) يقولُ: لاَ تُؤْخَذُ إلا مِنَ الكتابيِّ عربيًّا كان أو عجميًّا، أو من المجوسيِّ بِالسُّنَّةِ. أما المشركونَ مِنْ عَبَدَةِ الأوثانِ وما جَرَى مجراهم (¬4) قال الشافعيُّ: لاَ تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ. وقال به ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم: (3158) (6/ 257)، وطرفه (4015، 6425)، ومسلم في الزهد والرقائق. حديث رقم: (2961) (4/ 2273) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري (رضي الله عنه). وقد أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، حديث رقم: (1588) (4/ 147) من حديث السائب بن يزيد. وعقبه بقوله: «وسألت محمدًا عن هذا فقال: هو مالك عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم» اهـ. وقد أخرجه مالك ص187 عن الزهري بلاغًا. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ ص188، والبيهقي (9/ 189) من حديث عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه). وقال ابن عبد البر في التمهيد (2/ 114): «هذا حديث منقطع» اهـ. وله شاهد من حديث السائب بن يزيد (رضي الله عنه). قال في المجمع (6/ 13): «رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه» اهـ. وانظر: الإرواء (5/ 88). (¬3) مضى تخريجه قريبًا. (¬4) انظر: المدونة (2/ 46)، الأم (4/ 172 - 174)، المغني (13/ 203 - 204، 208).

جماعةٌ من العلماءِ. قالوا ووجهُه: أن اللَّهَ [مَا نَصَّ في المشركينَ] (¬1) إلا على القتلِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: آية 5] وفي أهلِ الكتابِ قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: آية 29] وفي المجوسِ ثَبَتَ أخذُ الجزيةِ منهم بالسنةِ. فالمشركونَ لهم السيفُ، وأهلُ الكتابِ لهم الجزيةُ بالقرآنِ، والمجوسُ لهم الجزيةُ بِالسُّنَّةِ، وبهذا قال جماعةٌ من العلماءِ منهم الشافعيُّ. وقال مالكُ بنُ أنسٍ (رحمه الله) في جماعةٍ من العلماءِ: إنها تُؤْخَذُ من كُلِّ كافرٍ وَثَنِيًّا كان يعبدُ الأصنامَ أو مجوسيًّا، أو كتابيًّا، فتؤخذُ من جميعِ الكفارِ. هذا قولُ مالكٍ في طائفةٍ من العلماءِ. وأقلُّ ما جاء في قَدْرِ الجزيةِ على الرجلِ من أهلِ الكتابِ دينارٌ (¬2). قال جمهورُ العلماءِ: لاَ تُنْقَصُ الجزيةُ عن دينارٍ. وبعضُهم يقولُ: لاَ حَدَّ لَهَا، فما صَالَحَ عليه الإمامُ هو الذي يُؤْخَذُ. وكان عمرُ بنُ الخطابِ أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ الشامِ (¬3)، وَأَخَذَهَا من أهلِ السوادِ (¬4). وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ معاذًا أن يأخذَ الجزيةَ من أهلِ اليمنِ من كُلِّ حَالِمٍ دينارًا (¬5). والتحقيقُ أنها لاَ تُؤْخَذُ من الصبيانِ والنساءِ، بل من الرجالِ المقاتلينَ، كما دَلَّ عليه حديثُ معاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» (¬6). ¬

(¬1) في الأصل: أن الله في المشركين مانص ... (¬2) كما جاء في حديت معاذ (رضي الله عنه) لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا. وقد مضى تخريجه قريبًا. (¬3) سيأتي تخريجهما قريبًا. (¬4) سيأتي تخريجهما قريبًا. (¬5) مضى تخريجه قريبًا. (¬6) مضى تخريجه قريبًا.

يعنِي: لا صَبِيًّا، ولا امرأةً؛ ولأن الصبيانَ والنساءَ ليسوا من المقاتلينَ ولا يجوزُ قتلُهم. وَاللَّهُ يقولُ في الْمُقَاتِلِينَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}. فَدَلَّ أن الذي يُعْطِي الجزيةَ هم المقاتلونَ لاَ غيرهم. كان عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ الشامِ على الواحدِ أربعةُ دنانيرَ (¬1). وعن ابنِ أبِي نُجيح أنه سألَ مجاهدًا (رحمه الله): ما بالُ أهلِ اليمنِ أُخِذَ منهم في الجزيةِ دينارٌ، وأهلُ الشامِ أربعةُ دنانيرَ؟ قال: ذلك باعتبارِ الفقرِ وَالْيَسَارِ، وهؤلاءِ فقراءُ أُخِذَ منهم دينارٌ، وهؤلاءِ مُوسِرُونَ أُخِذَ منهم أربعةُ دنانيرَ (¬2). وكان عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ السوادِ، فَأَخَذَ من الفقيرِ -والمرادُ به الفقيرُ الذي لَهُ حِرْفَةٌ وتَسَبُّبٌ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، ومن المتوسطِ أربعةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، ومن الغنيِّ ثمانيةً وأربعينَ درهمًا (¬3). وبعضُ العلماءِ يقولُ هذا، وبعضُهم يقولُ: أربعةُ دنانيرَ، وبعضُهم يقول: دينارٌ. وقد أَمَرَ النبي بدينارٍ، وأخذ عمرُ من أهلِ الشامِ أربعةَ دنانيرَ، ومن أهلِ السوادِ اثْنَيْ عَشَرَ [درهمًا] (¬4) للفقيرِ، وأربعةً وعشرينَ للمتوسطِ، وثمانيةً وأربعينَ للغنيِّ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي (9/ 195). (¬2) البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (6/ 257). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (12/ 241)، والبيهقي (9/ 196). (¬4) في الأصل: «دينارًا». وهو سبق لسان.

والتحقيقُ - إن شاء الله - أن كُلَّ هذا واسعٌ بحسبِ ما يراهُ الإمامُ، إلا أنه لا ينبغي أن ينقصَ الجزيةَ عن دينار. وهذا معنَى قولِه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: آية 29] لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى ما أَذِنَ في تركِهم إلا بهذا. واختلفَ العلماءُ في الْعِوَضِ الذي أُعْطِيَتْ عنه الجزيةُ (¬1): قال بعضُ العلماءِ: عِوَضُهَا حقنُ دمائِهم. وعلى هذا القولِ إذا أَسْلَمَ سقطت عنه الجزيةُ؛ لأن دمَه حَقَنَهُ الإسلامُ. وقال بعضُهم: عِوَضُهَا حَقْنُ دمائِهم، والمدافعةُ عنهم، وَمَنْعُ مَنْ أرادَ أن يَظْلِمَهُمْ. وعلى هذا تَبْقَى الجزيةُ فيه ولو أَسْلَمَ. هكذا قالَه بعضُ العلماءِ. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: الآيتان 30، 31]. {ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: آية 30] قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ السبعةِ غيرَ عاصمٍ والكسائيِّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ} بلا تنوينٍ على الراءِ. وقرأه عاصمٌ والكسائيُّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} بتنوينِ الراءِ (¬2). وقرأ عامةُ السبعةِ غيرَ عاصمٍ: {يضاهُون قول الذين كفروا} بضم الهاء ليس بعدها همزةٌ. ¬

(¬1) انظر: المغني (13/ 202)، القرطبي (8/ 113)، أحكام أهل الذمة (1/ 25). (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص 226.

وَقَرَأَ من السبعةِ عاصمٌ وحدَه: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بكسرِ الهاءِ وهمزةٍ بعدَه (¬1). وفي الآيةِ التي قبلَ هذا أَمَرَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بعقوبةِ أهلِ الكتابِ بقولِه: {قَاتِلُوا} ثُمَّ بَيَّنَ موجبَ تلك العقوبةِ بقولِه: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} ثم أَكَّدَ موجبَ عقوبتِه بقولِه هنا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} يعني: هؤلاء الذين أَمَرْتُكُمْ بقتالِهم مرتكبونَ من الجرائمِ ما يستوجبُ قتالَهم {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: آية 29] فَأَوْجَبَ على أهلِ الكتابِ عقوباتٍ شديدةً، منها: قتالُهم حتى يدفعوا الجزيةَ {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَخِسَّاءُ أَذِلاَّءُ. وكذلك لحقارتِهم على اللَّهِ [5/ب] / بَيَّنَّا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى بإخراجِهم من جزيرةِ العربِ [وتطهيرِها منهم] (¬2). ومن آخِرِ ما أَوْصَى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم تطهيرُ جزيرةِ العربِ من اليهودِ والنصارى وسائرِ المشركينَ (¬3). ولاَ شَكَّ أن هذا أَمْرٌ مُهِمٌّ، لو لم يكن مُهِمًّا لَمَا أَوْصَى به النبيُّ عند موتِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، ولكنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) عَلَّمَنَا في هذا الدينِ العظيمِ أن له عزائمَ وَرُخَصًا، فهذا الدينُ العظيمُ أنزلَه اللَّهُ مُنْقَسِمًا إلى عزائمَ ورخصٍ، فعزائمُه: تُسْتَعْمَلُ عندَ الأوقاتِ المناسبةِ لها، ورخصُه: تستعملُ عندَ الأوقاتِ المناسبةِ لها؛ لأن الدينَ السماويَّ لاَ بُدَّ أن يكونَ مُشْتَمِلاً على مواجهةِ التطوراتِ والأحداثِ حيث ما كانت وأيًّا ما كانت، ففي كُلِّ حالٍ له فيها مواجهةٌ. ونريدُ هنا أن نُبَيِّنَ بعضَ الأشياءِ التي يجوزُ أخذُها من الكفارِ ¬

(¬1) السابق ص226. (¬2) في الأصل: «وتطهيرهم منها». وهو سبق لسان. (¬3) مضى تخريجه قريبًا.

والتي لا يجوزُ أخذُها؛ ليكونَ المسلمُ على بصيرةٍ من ذلك، ويعلمَ ما ينبغي وما لا ينبغي، وَيُفَرِّقَ بينَ ما يضرُّ وما لا يضرُّ. لاَ شَكَّ أنه إن كانت القوةُ كاملةً للمسلمينَ من غيرِ حاجةٍ للكفارِ في شيءٍ أنهم يقومونَ بأنفسِهم ويقيمونَ عزائمَ اللَّهِ في المشركينَ مِنْ قَتْلٍ حتى يُعْطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرونَ، وتطهيرُ جزيرةِ العربِ منهم إلى غيرِ ذلك مِمَّا قَدَّمْنَا أنه لا بُدَّ منه في كُلِّ الأحوالِ وفي كُلِّ الظروفِ، أي: إذا كان محل العزائمِ والمسلمون في قوتِهم كما ينبغي، أما إذا كان المسلمونَ في ضَعْفٍ عن ذلك، أو في حاجةٍ ماسةٍ ضروريةٍ إلى الكفارِ فَلِكُلِّ حالٍ مقالٌ، وقد عَلَّمَنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَخْرَجَ في جميعِ هذه الأشياءِ، فهو (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) لَمَا أَمْكَنَهُ أن يُجْلِيَ بني قَيْنُقَاعَ من غيرِ حاجةِ المسلمينَ ولا ضرورةٍ عليهم أجلاهم من المدينةِ إلى الشامِ، وَلَمَا أمكنَه بعد ذلك أن يُجْلِيَ بنِي النضيرِ أجلاهم من المدينةِ إلى أطرافِ الشامِ كما سيأتِي في قولِه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ... } إلى آخِرِ الآياتِ [الحشر: آية 2]. وَلَمَّا كانت حاجةُ المسلمينَ ماسةً إلى عدمِ إجلاءِ خيبر لم يُجْلِهِمْ بل عَامَلَهُمْ ليتولوا القيامَ على نَخْلِ خيبرَ وأرضِها، وأعطاهم شَطْرَ ثمارِ نخلِ خيبرَ وما يخرجُ من أرضِها، وهو صلى الله عليه وسلم عازمٌ على إخراجِهم عندما أَمْكَنَتِ الفرصةُ، وصار وقتُ العزيمةِ، وانتهى وقتُ الرخصةِ؛ وَلِذَا ثَبَتَ في بعضِ الرواياتِ الصحيحةِ أنهم لَمَّا قالوا له: أَقِرَّنَا على الأرضِ نقومُ على نَخْلِهَا وزرعِها بشطرِها. قال لهم صلى الله عليه وسلم: «نُقِيمُكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شَئْنَا، وَإِنْ شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ» (¬1) لأنه عازمٌ على إخراجِهم ¬

(¬1) البخاري في الحرث والمزارعة، باب: إذا قال رب الأرض: أُقرك ما أقرك الله .. حديث رقم: (2338) (5/ 21)، ومسلم في المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع. حديث رقم: (1551) (3/ 1187).

(صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، عندما تسنحُ الفرصةُ المواتيةُ لذلك، فالعزيمةُ لها وقتُها، وإنا كان الوقتُ للعزيمةِ لا يجوزُ أن تُهْمَلَ بحالٍ من الأحوالِ، فإذا كان الظرفُ مناسبًا للرخصِ أُعْمِلَتِ الرخصُ؛ لأن دينَ الإسلامِ دينٌ مرنٌ صالحٌ لمواجهةِ جميعِ التياراتِ والأحداثِ والتطوراتِ، وقد قَدَّمْنَا في سورةِ [آل عمران] (¬1) طَرَفًا جَيِّدًا من هذا في الكلامِ على قولِه: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: آية 28] أي: إلا أن تخافوا منهم خوفًا فَلِذَلِكَ حَالٌ وَحُكْمٌ آخَرُ. وَاعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن المؤسفَ كل المؤسف هو أن الذي يجوزُ لنا أن نأخذَه من الكفارِ والذي يمتنعُ علينا أن نأخذَه منهم معكوسٌ في أقطارِ المعمورةِ الآنَ!! يأخذونَ منهم ما لا يَحِلُّ أَخْذُهُ، ويتركونَ ما لاَ ينبغِي تَرْكُهُ، فيعكسونَ القضيةَ عَكْسًا تَامًّا!! وإيضاحُ هذا المعنَى أنه يجوزُ للمسلمينَ أن يَنْتَفِعُوا بأعمالِ الكفارِ التي هي أمورٌ دنيويةٌ بحتةٌ وَيَحْذَرُوا كُلَّ الحذرِ من أن يُقَلِّدُوهُمْ في شيءٍ من أوامرِ الدينِ. وسنذكرُ لكم أمثلةً من هذا يتضحُ بها المقامُ (¬2): هذا سَيِّدُ الخلقِ محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - لَمَّا تَوَاطَأَتْ عليه قُوَى الشَّرِّ وَاضْطَرُّوهُ أن يخرجَ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِ - كما قَدَّمْنَا في سورةِ الأنفالِ في الكلامِ على قولِه تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: آية 30] وَدَخَلَ هو وصاحبُه في غارٍ كما سيأتِي تفصيلُه في هذه السورةِ الكريمةِ إن شاء الله - وَجَدَ في ذلك الوقتِ ¬

(¬1) في الأصل: «النساء». وهو سبق لسان. (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

كافرًا مِنْ بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأُرَيْقِطِ، وكان في ذلك الوقتِ كافرًا من عبَدَةِ الأوثانِ، إلا أن عندَه خبرةٌ دنيويةٌ بالطرقِ من مكةَ إلى المدينةِ؛ لأنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في ذلك الوقتِ محتاجٌ إلى خبيرٍ بِالطُّرُقِ؛ لأن الطرقَ المعهودةَ السابلةَ أَمْسَكَهَا الكفارُ وجعلوا جعائلَ لكلِّ مَنْ أَتَى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أن يُعْطُوهُ الأموالَ الكثيرةَ، فصارَ لا يمكن أن يسيرَ في الطرقِ المعهودةِ والسبلِ السابلةِ، بل لا بُدَّ أن يذهبَ من بُنَيَّاتِ طرقٍ ليست هي المعهودةَ، وهذه تحتاجُ إلى خبرةٍ خاصةٍ ووجدَ هذه الخبرةَ عند كافرٍ من بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأريقط، فَأَوْدَعَهُ رواحلَه وأعطاه الموعدَ، وكان ذلك الكافرُ أَمِينًا معه، فجاءَه في الموعدِ وَذَهَبَ به وجاء به من طُرُقٍ غيرِ معهودةٍ حتى أَوْصَلَهُ المدينةَ بسلامٍ (¬1). فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم عندَ الحاجةِ انتفعَ بخبرةِ هذا الكافرِ ولم يَقُلْ: هذه خِبْرَةٌ نَجِسَةٌ قَذِرَةٌ لأنها من كَافِرٍ، بل انْتَفَعَ بها على حَدِّ قولِهم «اجْتَنِ الثِّمَارَ وَأَلْقِ الْخَشَبَةَ فِي النَّارِ». وكذلك لَمَّا سَمِعَ بالكفارِ في غزوةِ الأحزابِ قال له سلمانُ الفارسيُّ - كما هو مذكورٌ في الأخبارِ وَالسِّيَرِ -: كُنَّا إِذَا خِفْنَا خَنْدَقْنَا (¬2). فأشارَ إليه بالخندقِ، وهو خطةٌ حربيةٌ عسكريةٌ، فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وانتفعَ بهذه الخطةِ الحربيةِ العسكريةِ وإن كانت ابْتَدَعَتْهَا أذهانُ فارسَ الذين هُمْ كفَرَةٌ يعبدونَ النارَ، ولم يَقُلْ: هذه خطةٌ نَجِسَةٌ قذرةٌ؛ لأَنَّ أصلَها من الكفارِ!! بل انتفعَ بما ينفعُه في دنياه وهو محافظٌ على دِينِهِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم هَمَّ أن يمنعَ الرجالَ من أن يطؤوا نساءَهم فِي حالةِ إرضاعِهن؛ لأن العربَ كانوا يَظُنُّونَ أن الرجلَ إذا أَتَى أَبُوهُ أُمَّهُ وهي ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

تُرْضِعُهُ أن ذلك يُضْعِفُ عظمَه ويتركُ فيه ضَعْفًا طَبِيعِيًّا!! كانوا إذا ضَرَبَ الرجلُ وَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ قالوا: هذا من آثارِ الغيلةِ، وهي وطءُ الْمُرْضِعِ!! وكان شاعرُهم يقولُ (¬1): فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ ... فتَنْبُوا فِي أَكُفِّهُمُ السُّيُوفُ فَأُخْبِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن فَارِسَ والرومِ أنهم يفعلونَ ذلك ولا يضرُّ أولادَهم (¬2)، فَأَخَذَ هذه الخطةَ الطبيةَ من فارسَ والرومِ ولم يَمْنَعْهُ خبثُ مَنْ جاء بها عن أن يأخذَها. فهذا تعليمُ الصادقِ المصدوقِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). وَمِمَّا هو واضحٌ أن ما جاء به الكفَرَةُ الفَجَرَةُ الخنازيرُ الذين يُسَمُّونَ أنفسَهم (أهلَ الحضارةِ) أنهم جاؤوا بماءٍ زُلاَلٍ، وجاؤوا بِسُمٍّ فَتَّاكٍ قَتَّالٍ؛ لأن ما في الحضارةِ الغربيةِ من المنافعِ الدنيويةِ لا يحتاجُ أن يُنَوَّهَ عنه، فَهُمْ خَدَمُوا الإنسانَ - من حيث إنه جِسْمٌ - خدمةً هائلةً ما كانت تخطرُ على البالِ. ولاَ يُحْتَاجُ أن يُنوَّهَ عنها، ولكنهم بالنسبةِ إلى الروحِ وإلى عنصرِ الإنسانِ من حيثُ كونه رُوحًا مُفْلِسُونَ كُلَّ الإفلاسِ. فعلى المسلمينَ أن يُمَيِّزُوا بَيْنَ ما يَضُرُّ وما لا يَضُرُّ، فيأخذوا منهم الأمورَ الدنيويةَ فينتفعوا بخبرتِهم في الأمورِ كما انتفعَ صلى الله عليه وسلم فِي الأمورِ الدنيويةِ من الكفارِ، أما أنهم يأخذونَ عنهم كُفْرَهُمْ وَتَمَرُّدَهُمْ على اللَّهِ وإفلاسَهم الروحيَّ النهائيَّ فهذا مِمَّا لا يجوزُ وَلاَ كان ينبغِي لعاقلٍ أن يفعلَه. ونحنُ دائمًا نُبَيِّنُ الموقفَ السليمَ فِي الأوضاعِ الراهنةِ للإسلامِ والمسلمينَ، وَنَعْرِضُهُ على الدليلِ العظيمِ المعروفِ عندَ علماءِ ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق.

الأصولِ بـ (السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ)، وعندَ علماءِ المنطقِ. بـ (الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ)، وعندَ علماءِ الجدلِ بـ (الترديدِ والتقسيمِ) (¬1)، فنقولُ: إن موقفَ المسلمينَ مِمَّا أَحْدَثَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ التي صارت سببَ ضلالٍ ودمارٍ مع ما أُدْخِلَ في الثقافاتِ من البلايا والويلاتِ، نقولُ: وهو بالتقسيمِ الصحيحِ منحصرٌ في أربعةِ أقسامٍ حَصْرًا اسْتِقْرَائِيًّا (¬2)، وقد تَقَرَّرَ في علمِ البحثِ والمناظرةِ، وعلمِ الأصولِ أن للحصرِ طَرِيقَيْنِ: إما عَقْلٌ، وإما استقراءٌ، فهو محصورٌ في أربعةِ طرقٍ بطريقِ الاستقراءِ: أَوَّلُهَا: أن نقولَ: يجبُ علينا أن نأخذَ جميعَ ما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ من مائِها الزلالِ وَسُمِّهَا الفتَّاكِ القتَّالِ، فهذا قِسْمٌ وَاحِدٌ، أو نقولُ: نتركهما معًا، أو نأخذُ نافعَها ونتركُ ضارَّها، أو نأخذُ ضَارَّهَا ونتركُ نافعَها، فهي أربعةُ أقسامٍ بالحصرِ الاستقرائيِّ، فإذا رَجَعْنَا لهذه الأقسامِ الأربعةِ بِالسَّبْرِ الصحيحِ نَجِدُ ثلاثةً منها باطلةً، وواحدًا صحيحًا، وهذه فائدةُ السبرِ والتقسيمِ، التقسيمُ: يحصرُ الأوصافَ، والسبرُ: يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا وصالحِها وطالحِها. فلو قُلْنَا: نَأْخُذُ جميعَ ما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ، فإن مَنْ أرادَ أن يأخذَ الماءَ الزلالَ مَمْزُوجًا بالسمِّ الفتاكِ القَتَّالِ لاَ ينتفعُ بالماءِ، وَمَنْ أَرَادَ تَقَدُّمًا مِنَ الأمورِ الدنيويةِ التي عندهم مع ما فيها من الانحلالِ، وضياعِ الأخلاقِ، والتمردِ على نظامِ السماءِ، والإلحادِ والكفرِ بخالقِ السماواتِ والأرضِ، فهذا لا ينفعُ معه شيءٌ، إذا الدينُ لم يَكُنْ فَلاَ كانت الدنيا. فهذا قِسْمٌ باطلٌ يَقِينًا، ولو قلنا: نتركهما جميعًا، فهذا القسمُ باطلٌ أيضًا؛ لأَنَّ تركَ الأخذِ بالقوةِ تَوَاكُلٌ وعجزٌ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (144) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

وتمردٌ على نظامِ السماءِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60]. فَتَرْكُ القوةِ والاستعدادِ للعدوِّ مخالفٌ للشرعِ الكريمِ، ومخالفٌ لِلْفِطَرِ السليمةِ، فالحياةُ بتطوراتِها الراهنةِ لاَ يجوزُ للمسلمينَ أن يتركوا استعمالَ القوةِ وجميعَ أنواعِ الوسائلِ لتكونَ عندهم قوةٌ يدافعونَ بها عن أنفسِهم ودينِهم، فهذا القسمُ باطلٌ أيضًا. القِسْمُ الثالثُ: وهو أن يُؤْخَذَ سُمُّهَا فقط، ويتركَ زُلاَلُهَا، فَمَنْ وَجَدَ ماءً زُلالاً وَسُمًّا فَاتِكًا قَتَّالاً، واختار السمَّ على الماءِ فهذا مجنونٌ أَهْوَجُ!! أما أن نأخذَ نافعَها ونتركَ ضَارَّهَا، فهذا هو اللائقُ بكلِّ عاقلٍ أن يأخذَ ما ينفعُه ويتركُ ما يضرُّه. والمؤسفُ كُلُّ المؤسفِ أن الذين تَأَثَّرُوا بهذه الحضارةِ من الناسِ الذين أصلُهم مسلمونَ لم يأخذوا من هذه الحضارةِ إلا سُمَّهَا الْفَتَّاكَ الْقَتَّالَ، ولم ينتفعوا بمائِها الزلالِ، فتراهم يقلدونَهم في الإلحادِ والكفرِ بِاللَّهِ وَالْمَسْخَرَةِ من الدينِ، والاستهزاءِ بآياتِ اللَّهِ، في الوقتِ الذي لم يَأْخُذُوا عنهم شيئًا مما أَنْتَجُوهُ من الأمورِ النافعةِ في الدنيا. مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا ... وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلاَسَ بِالرَّجُلِ (¬1) فَهُمْ يجمعونَ بَيْنَ الكفرِ والإفلاسِ - والعياذُ بالله - وهذا الشيءُ الذي طَبَّقَ المعمورةَ وانتشرَ في أقطارِ الدنيا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ¬

(¬1) تقدم هذا البيت عند تفسير الآية (155) من سورة الأنعام.

وعلى كُلِّ حالٍ فدينُ الإسلامِ هُوَ هُوَ، وصلتُه بالله هِيَ هِيَ، دينٌ عريقٌ عظيمٌ أُسُسُهُ قويمةٌ عظيمةٌ، لو لم يَكُنْ مَبْنِيًّا على أُسُسٍ عظيمةٍ، وكتابُه محفوظٌ لَطَمَسُوا أَثَرَهُ في قُرُونٍ!! ولكنه دِينٌ عَرِيقٌ ثابتُ الجذورِ لاَ يتغيرُ ولا يتزعزعُ، وإنما تَنَكَّرَ له المنتسبونَ إليه فصاروا خفافيشَ تقودُهم الكفارُ إلى ما يشاؤون، فيقلدونَهم في كُلِّ كُفْرٍ وَكُلِّ إلحادٍ، وَكُلِّ انحطاطٍ خُلُقِيٍّ، وَكُلِّ تمردٍ على نظامِ السماءِ، وكفر بخالقِ السماواتِ والأرضِ، في الوقت الذي لا ينتفعونَ بالأمورِ [الدنيويةِ] (¬1). وإنما حَكَيْنَا هذا أَسَفًا من واقعٍ نرجو اللَّهَ أن يزيلَ هذا عن المسلمينَ. ولما كان جزاءُ الكفارِ وعقوبتُهم عظيمةً بَيَّنَ بعضَ أسبابِ ذلك فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: آية 30] قال بعضُ العلماءِ (¬2): قَالَتْهُ جماعةٌ من اليهودِ، منهم: سَلاَّمُ بنُ مشكم، وشأسُ بنُ قيسٍ، ونعمانُ بنُ أَوْفَى، ومالكُ بنُ الصيفِ من اليهودِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - زعموا أن عُزيرًا ابنُ اللَّهِ. وقال بعضُهم: قاله القدماءُ من اليهودِ فَاتَّبَعَهُمُ الآخَرون. وقال بعضُهم: إن الذي قالَه قبلَ اليهودِ في زمنِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن سببَ ذلك أنهم قَتَّلُوا الأنبياءَ فَرَفَعَ اللَّهُ التوراةَ وَمَسَخَهَا من قلوبِهم، أو أن "بختنصرَ" قَتَلَ علماءَهم، وَضَاعَتْ عليهم التوراةُ، وكان بعضُهم دَفَنَهَا في مَحَلٍّ، وكان عُزيرٌ قد قَدَّمْنَا قضيتَه أن الله أماتَه مائةَ عامٍ ثم بَعَثَهُ، وجاء وقد ضَاعَتِ التوراةُ عليهم، بَقُوا لم يحفظوا منها شيئًا، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ إياها فقرأها عليهم لم يَخْرِمْ منها حَرْفًا، فقالوا: ما ¬

(¬1) في الأصل: «الدينية». وهو سبق لسان. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 202).

عَلَّمَهُ اللَّهُ إياها إلا لأنه ابنُه!! ومما يَدُلُّ على أن هذه المقالةَ صَدَرَتْ من اليهودِ أن هذا القرآنَ يُتْلَى من قديمِ الزمانِ من نزولِ هذه الآيةِ ولم يُعْلَمْ أن يهوديًّا في زمانِها كَذَّبَ بذلك وقال: ما قُلْنَا هذا!! مع مسارعتِهم إلى التكذيبِ. {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ} [التوبة: آية 30] يعنِي عيسى بنَ مريمَ قالوا إنه ابنُ اللَّهِ.- قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - فَأَشْرَكُوا. وقولُه: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: آية 30] على قراءةِ الجمهورِ، وهو مضارعُ: (ضَاهَاهُ يُضَاهِيهِ) إذا حَاكَاهُ وَشَابَهَهُ. وعلى قراءةِ عاصمٍ: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فهو بمعناه؛ لأن (ضَاهَأَ) يقال فيها: (ضَاهَا) بلا هَمْزٍ، ويقال فيها: (ضَاهَأَ) بالهمزِ، وهما لغتانِ صحيحتانِ وقراءتانِ سبعيتانِ صحيحتانِ (¬1). ومعنَى المضاهاةِ والمضاهأةِ معناها: المحاكاةُ والمشابهةُ. يعني: يُحَاكُونَ ويشابهونَ قولَ الذين كَفَرُوا (¬2) مِنْ كُفَّارِ مكةَ الذين قالوا: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ. وقال بعضُ العلماءِ: قالها المتأخرونَ من اليهودِ يُحَاكُونَ المتقدمينَ منهم. وقال بعضُ العلماءِ: قال النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} يُحَاكُونَ اليهودَ في قولِهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وهذا كُلُّهُ لاَ يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا، وهذا معنَى قولِه: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دَلَّ المقامُ عليه، أي: يُحَاكِيَ قولُهم قولَ الذين كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} قال بعضُ العلماءِ (¬3) معناه: لَعَنَهُمُ اللَّهُ. ¬

(¬1) انظر: المبسوط لابن مهران ص226. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 205)، القرطبي (8/ 118). (¬3) انظر: ابن جرير (14/ 207)، القرطبي (8/ 119).

وقال بعضُ العلماءِ: (قَاتَلَهُ اللَّهُ) كلمةُ تعجبٍ تقولُها العربُ إذا تَعَجَّبَتْ من شَيْءٍ يقولونَ: قَاتَلَ اللَّهُ فلانًا ما أَفْعَلَهُ لكذا. أو ما أَشَدَّ استحقاقَه لأن يُقْتَلَ، أو نحو ذلك. قولُه: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {يُؤْفَكُونَ} (يُفْعَلُونَ) من الإفكِ، والإفكُ: أسوأُ الكذبِ؛ لأن أصلَ مادةِ (أَفَكَهُ) إذا قَلَبَهُ. كُلُّ شيءٍ قَلَبْتَهُ فقد (أَفَكْتَهُ) ومنه قيل لِقُرَى قومِ لوطٍ: (المؤتفكات) لأن جبريلَ أَفكَها، أي: قَلَبَهَا فجعلَ عاليَها سافلَها. وإنما سُمِّيَ أسوأُ الكذبِ (إفكًا) لأنه صَرْفٌ للكلامِ في معناه الصحيحِ إلى معانِي أُخَرَ كاذبةٍ (¬1). وهذا معنَى قولِه: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: آية 30]. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: الآيات 31 - 33]. يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: آية 31]. ذَكَرَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في هذه الآياتِ الكريماتِ من سورةِ براءة ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأعراف.

جرائمَ اليهودِ والنصارى، فَعَدَّ منها أنهم نَسَبُوا له الأولادَ، وَأَتْبَعَ ذلك بقولِه: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: آية 30] كيف يُصْرَفُونَ عن الحقِّ مع وضوحِه، وَيَدَّعُونَ للواحدِ الأحدِ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، يَدَّعُونَ له الأولادَ فيقولونَ: عُزير ابنُ اللَّهِ، والمسيحُ ابنُ اللَّهِ؟ سبحانَه وتعالى عما يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا. ثم ذَكَرَ من معائبِهم وإجرامِهم بلايا أُخَرَ فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: آية 31] أي: وَاتَّخَذُوا المسيحَ بنَ مريمَ رَبًّا من دونِ اللَّهِ أيضًا. وهذه الآيةُ جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه فَسَّرَهَا لِعَدِيِّ بنِ حاتمٍ (رضي الله عنه) لَمَّا سَأَلَهُ عنها، فقد أَخْرَجَ الترمذيُّ وغيرُه عن عديِّ بنِ حاتمٍ (رضي الله عنه) أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقِهِ صليبٌ من ذَهَبٍ، فقال له صلى الله عليه وسلم: «اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» وَسَمِعَهُ يقرأُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} - وكان عَدِيٌّ في الجاهليةِ نَصْرَانيًّا - فقال عَدِيٌّ: ما كُنَّا نعبدُهم من دونِ اللَّهِ. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُوا عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتَتَّبِعُوهُمْ؟» قال: بَلَى. قال: «ذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ» (¬1). وهو معنَى اتخاذِهم أربابًا. وهذا التفسيرُ النبويُّ المقتضِي أن كُلَّ مَنْ يَتَّبِعُ مُشَرِّعًا فيما أَحَلَّ وَحَرَّمَ مُخَالِفًا لتشريعِ اللَّهِ أنه عابدٌ له، متخذُه رَبًّا، مُشْرِكٌ به، كافرٌ بالله هو تفسيرٌ صحيحٌ لا شَكَّ في صحتِه، والآياتُ القرآنيةُ الشاهدةُ لصحتِه لاَ تكادُ تُحْصِيهَا في المصحفِ الكريمِ، وَسَنُبَيِّنُ - إن شاء الله - طَرَفًا من ذلك: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

اعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن الإشراكَ بِاللَّهِ في حُكْمِهِ والإشراكَ به في عبادتِه كلاهما بمعنًى واحدٍ، لا فَرْقَ بينهما ألبتةَ، فالذي يَتْبَعُ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وتشريعًا غيرَ ما شَرَّعَهُ اللَّهُ، وقانونًا مُخَالِفًا لشرعِ اللَّهِ من وَضْعِ البشرِ، مُعْرِضًا عن نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِه، مَنْ كان يفعلُ هذا هو وَمَنْ يعبدُ الصنمَ ويسجدُ للوثنِ لاَ فرقَ بينَهما ألبتةَ بوجهٍ من الوجوهِ، فَهُمَا واحدٌ، فَكِلاَهُمَا مشركٌ بِاللَّهِ، هذا أَشْرَكَ به في عبادتِه، وهذا أَشْرَكَ به في حُكْمِهِ، والإشراكُ به في عبادتِه، والإشراكُ به في حُكْمِهِ كِلاَهُمَا سواءٌ، وقد قال اللَّهُ (جلَّ وعلا) في الإشراكِ به في عبادتِه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110]. وقال في الإشراكِ به في حُكْمِهِ أيضًا: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26]. وَفِي قراءةِ ابنِ عامرٍ من السبعةِ: {ولا تُشْرِكْ في حكمه أحدا} (¬1) بصيغةِ النهي المطابقةِ لقولِه: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110] فَكِلاَهُمَا إشراكٌ بِاللَّهِ؛ وَلِذَا بَيَّنَ النبيُّ لعديِّ بنِ حاتمٍ أنهم لَمَّا اتبعوا نظامَهم في التحليلِ والتحريمِ وَشَرْعِهِمُ المخالفِ لشرعِ اللَّهِ كانوا عبدةً لهم، مُتَّخِذِيهِمْ أربابًا، والآياتُ القرآنيةُ في المصحفِ الكريمِ المُصَرِّحةُ بهذا المعنَى لا تكادُ تُحْصِيهَا، ومن أَصْرَحِهَا: الْمُنَاظَرَةُ التي أَشَرْنَا لها، وَوَعَدْنَا بإيضاحِ مَبْحَثِهَا هنا، وهي المناظرةُ التي وَقَعَتْ بَيْنَ حزبِ الرحمنِ وحزبِ الشيطانِ في حُكْمِ تحليلِ لحمِ الميتةِ وتحريمِه، فحزبُ الشيطانِ يقولونَ: إن الميتةَ حلالٌ، ويستدلونَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام.

بِوَحْيٍ مِنْ وَحْيِ الشيطانِ، وهو أن الشيطانَ أَوْحَى إلى أصحابِه وتلامذتِه في مكةَ أَنِ اسْأَلُوا محمدًا عن الشاةِ تصبحُ ميتةً مَنْ هُوَ الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا قال: اللَّهُ قَتَلَهَا. احْتَجُّوا على النبيِّ وأصحابِه في تحريمِهم الميتةَ بفلسفةٍ مِنْ وَحْيِ الشيطانِ وقالوا: ما ذَبَحْتُمُوهُ وَذَكَّيْتُمُوهُ بأيديكم حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ بسكينٍ مِنْ ذَهَبٍ تقولونَ حرامٌ!! فَأَنْتُمْ أحسنُ مِنَ اللَّهِ إِذًا!! فهذا فلسفةُ الشيطانِ ووحيُ إبليسَ اسْتَدَلَّ بها كفارُ مكةَ على اتباعِ نظامِ الشيطانِ وتشريعِه وقانونِه بِدَعْوَى أن ما ذَبَحَهُ اللَّهُ أحلُّ مِمَّا ذَبَحَهُ الناسُ، وأن تذكيةَ اللَّهِ أطهرُ من تذكيةِ الخلقِ، وَاسْتَدَلَّ أصحابُ النبيِّ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم على تحريمِ الميتةِ بوحيِ الرحمنِ في قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: آية 3] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: آية 173] فَأَدْلَى هؤلاء بنصٍّ من نصوصِ السماءِ، وَأَدْلَى هؤلاء بفلسفةٍ من وحيِ الشيطانِ، وَوَقَعَ بينَهم جدالٌ وخصامٌ، فَتَوَلَّى رَبُّ السماواتِ والأرضِ الْفُتْيَا في ذلك بنفسِه فَأَنْزَلَهَا قُرْآنًا يُتْلَى في سورةِ الأنعامِ مُعَلِّمًا بها خلقَه، أن كُلَّ مَنْ يتبعُ نظامًا وتشريعًا وقانونًا مُخَالِفًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فهو مشركٌ بِاللَّهِ كافرٌ مُتَّخِذٌ ذلك المتبوعَ رَبًّا، فأنزل اللَّهُ ذلك في قولِه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} منه الميتةُ. أي: وإن قالوا: إنها ذَكَاةُ اللَّهِ، وأنها أَطْهَرُ. ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: إن الأكلَ من الميتةِ لَفِسْقٌ. أي: لَخُرُوجٌ عَنْ طاعةِ الرحمنِ إلى طاعةِ الشيطانِ {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} من الْكَفَرَةِ ككفارِ مكةَ {لِيُجَادِلُوكُمْ} لأجلِ أن يجادلُوكم بِوَحْيِ الشيطانِ، ما ذبحتمُوه حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ حرامٌ، فأنتم أحسنُ من اللَّهِ. ثم قال - وهو مَحَلُّ الشاهدِ -: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي:

اتَّبَعْتُمُوهُمْ في ذلك النظامِ الذي وَضَعَهُ الشيطانُ لأَتْبَاعِهِ وَأَقَامَ دليلاً من وَحْيِهِ عليه {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} بِاللَّهِ، متخذونَ مَنِ اتَّبَعْتُمْ تشريعَه رَبًّا غيرَ اللَّهِ. وهذا الشركُ في قولِه: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} هو الشركُ الأكبرُ المخرجُ عن مِلَّةِ الإسلامِ بإجماعِ المسلمينَ، وهو الذي أَشَارَ اللَّهُ إليه في قولِه: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: آية 100] وهو الذي صَرَّحَ به الشيطانُ في خطبتِه يومَ القيامةِ المذكورةِ في قولِه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إلى قولِه: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: آية 22] وهو المرادُ على أَصَحِّ التفسيرين في قولِه: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: آية 41] يعبدونَ الشياطينَ باتباعِهم أنظمتَهم وتشريعاتِهم على ألسنةِ الكفارِ، وهو الذي نَهَى عنه إبراهيمُ أَبَاهُ: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] أي: بِاتِّبَاعِ ما يقررُ لَكَ من نظامِ الكفرِ والمعاصِي مُخَالِفًا لشرعِ اللَّهِ الذي أَنْزَلَهُ على رُسُلِهِ، وهذه العبادةُ بعينِها هي التي وَبَّخَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهَا وَبَيَّنَ مصيرَه الأخيرَ في سورةِ "يس" في قولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60)} [يس: آية 60] ما عَبَدُوهُ بسجودٍ ولاَ ركوعٍ وإنما عَبَدُوهُ باتباعِ نظامٍ وتشريعٍ وقانونٍ شَرَعَ لهم أمورًا غيرَ ما شَرَعَهُ اللَّهُ فاتبعوه وتركوا ما شَرَعَ اللَّهُ فعبدوه بذلك واتخذوه رَبًّا كما بَيَّنَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعديِّ بنِ حاتمٍ (رضي الله عنه)، فهذا أمرٌ لاَ شَكَّ فيه، وهو المرادُ بقولِه: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: ما يعبدونَ إلا شيطانًا مَرِيدًا، أي: عبادةَ اتباعِ نظامٍ وتشريعٍ. وَاعْلَمْ أن قومًا زَعَمُوا أنهم يريدونَ أن يتحاكموا إلى شرعِ الشيطانِ والذي وَضَعَهُ، وَادَّعُوا مع ذلك أنهم

مؤمنونَ فعَجَّبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ من دَعْوَاهُمُ الكاذبةِ الفاجرةِ التي لا يمكنُ أن تُصَدَّقَ في سورةِ النساءِ في قولِه (جلَّ وعلا): {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: آية60]. وَكُلُّ مَنْ تَحَاكَمَ إلى غيرِ ما أنزل اللَّهُ فهو متحاكمٌ إلى الطاغوتِ، وهؤلاء قومٌ أَرَادُوا التحاكمَ إلى الطاغوتِ وزعموا أنهم مؤمنونَ بالله فَعَجَّبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْ كَذِبِ هؤلاءِ وعدمِ حيائِهم في قولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} يُعَجِّبه منهم {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الذي شَرَعَ لهم تلك النظمَ والأوضاعَ التي يسيرونَ عليها {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا} وَأَقْسَمَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) إقسامًا سماويًّا من رَبِّ العالمينَ على أنه لا إيمانَ لِمَنْ لم يُحَكِّمْ رسولَ اللَّهِ فيما جاء به عن اللَّهِ خالصًا من قلبِه في باطنِه وَسِرِّهِ في قولِه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: آية 65] وَبَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه أن الْحُكْمَ له وحدَه لاَ شريكَ له في حُكْمِهِ، وكلما ذَكَرَ اختصاصَه بالحكمِ أَوْضَحَ العلاماتِ التي يُعَرِّفُ بها بَيْنَ مَنْ يستحقُّ أن يحكمَ ويأمرَ وَيَنْهَى وَيُشَرِّعَ ويحللَ ويحرمَ، وَبَيْنَ مَنْ ليس له شيءٌ من ذلك، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: آية 40] {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ} [القصص: آية 70] وَسَنُبَيِّنُ لكم أمثلةً من ذلك، من ذلك قولُه في سورةِ الشورى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: آية 10] ثم إِنَّ اللَّهَ كأنه قال: هذا الذي يكونُ المرجعُ إليه،

والقولُ قولُه، والكلمةُ كلمتُه، حتى يُرَدَّ إليه كُلُّ شَيْءٍ، اخْتُلِفَ فيه ما صفاتُه التي يَتَمَيَّزُ بها عن غيرِه؟ قال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ يستحقُّ الحكمَ والتشريعَ والتحليلَ والتحريمَ والأمرَ والنهيَ فقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: الآيات 10 - 12] هذه صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويحللَ ويحرمَ ويأمرَ وينهى، أَفَتَرَوْنَ أيها الإخوانُ أن واحدًا من هؤلاءِ القردةِ الخنازيرِ الكلابِ أبناءِ الكلابِ الذين يضعونَ القوانينَ الوضعيةَ فيهم واحدٌ يستحقُّ هذه الصفاتِ التي هي صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويحللَ ويحرمَ ويأمرَ وينهى؟!! ومن الآياتِ الدالةِ على هذا النوعِ قولُه تعالى في سورةِ القصصِ: {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}. ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له أن يحكمَ فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} [القصص: الآيات 70 - 73] هل في الكفَرَةِ القردةِ الخنازيرِ الكلابِ أبناءِ الكلابِ الذين يضعونَ النظمَ ويزعمونَ أنهم يرتبونَ بها علاقاتِ الإنسانِ ويضبطونَ بها شؤونَه هل في هؤلاء من يستحقُّ أن يوصفَ بهذه الصفاتِ التي هي صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويأمرَ وينهى ويحللَ

ويحرمَ؟! ومن ذلك قولُه تعالى في أخرياتِ القصصِ: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ (¬1) [إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}] [القصص: آية 88]. [6/أ] / والآياتُ القرآنيةُ في مثلِ هذا كثيرةٌ جِدًّا. والحاصلُ أن التشريعَ لا يكونُ إلا للأعلى الذي لا يمكنُ أن يكونَ فوقَه آمِرٌ ولاَ نَاهٍ ولا مُتَصَرِّفٌ، فهو للسلطةِ العليا، أما المخلوقُ الجاهلُ الكافرُ المسكينُ فليس له أن يُحللَ ويحرِّمَ، والعجبُ كُلُّ العجبِ مِنْ قومٍ كان عندهم كتابُ اللَّهِ وَرِثُوا الإسلامَ عن آبائِهم، وعندَهم هذا القرآنُ العظيمُ، والنورُ المبينُ، وَسُنَّةُ خيرِ الخلقِ صلى الله عليه وسلم، يُبَيِّنُ اللَّهُ ورسولُه كُلَّ شيءٍ، ومع ذلك يعرضونَ عن هذا زاعمينَ أنه لا يَحْسُنُ القيامُ بشؤونِ الدنيا بعدَ تطوراتِها الراهنةِ، يطلبونَ الصوابَ في زبالاتِ أذهانِ كفرةٍ خنازيرَ، لاَ يعلمونَ شيئًا!! هذا مِنْ طمسِ البصائرِ - والعياذُ بالله - لا يُصَدِّقُ به إلا مَنْ رآه، ولكن الخفافيشَ يعميها نورُ القرآنِ العظيمِ، فالقرآنُ العظيمُ نورٌ عظيمٌ، والخفاشُ لا يكادُ أن يرى النورَ: خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (¬2) هذا القرآنُ العظيمُ ينصرفونَ عنه، وترى الواحدَ الذي هو مسؤولٌ عنهم يُعْلِنُ في غيرِ حياءٍ من اللَّهِ ولا حياءٍ من الناسِ بوجهٍ لا ماءَ فيه، بكلِّ وقاحةٍ أنه يُحَكِّمُ في نفسِه وفي الناسِ الذين هم رعيتُه الذين هو مسؤولٌ عنهم يحكمُ في أديانِهم، وفي أنفسِهم، وفي عقولِهم، وفي أنسابِهم، وفي أموالِهم، وفي أعراضِهم، قانونًا أَرْضِيًّا ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد أكملت الآية وجعلت ذلك بين معقوفين. (¬2) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

وضعَه خنازيرُ كفرةٌ جهلةٌ أنتنُ من الكلابِ والخنازيرِ، وأجهلُ خلقِ اللَّهِ، مُعْرِضًا عن نورِ السماءِ الذي وَضَعَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) على لسانِ خَلْقِهِ، فهذا مِنْ طَمْسِ البصائرِ لاَ يُصَدِّقُ به إلا مَنْ رَآهُ - والعياذُ بالله - اللَّهُمَّ لا تَطْمِسْ بصائرَنا ولا تُزِغْ قُلُوبَنَا بعدَ إِذْ هَدَيْتَنَا. وَاعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن كُلَّ مَنْ يَتَعَالَمُ أمامَ الخالقِ (جلَّ وعلا) بلا حياءٍ في وَجْهِهِ أنه يُعْرِضُ عمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُدَّعِيًا أنه لا يَقْدِرُ أن يقومَ بتنظيمِ علاقاتِ الدنيا يطلبُ النورَ وَالْهُدَى في زبالاتِ أذهانِ خنازيرَ كفرةٍ فجرةٍ جهلةٍ في غايةِ الجهلِ أنه هو وفرعونُ وهامانُ وقارونُ في الكفرِ سواءٌ، لأنه لا يُعْرِضُ عن اللَّهِ، وعن تشريعِ اللَّهِ، ويفضِّل عليه تشريعَ الشيطانِ، ونظامَ إبليسَ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه إلا مَنْ لاَ نصيبَ له في الإيمانِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، كما رأيتُم الآياتِ الكثيرةَ الدالةَ على ذلك، وَتَعْجِيبُ اللَّهِ نَبِيَّهُ مِنَ ادِّعَاءِ مِثْلِهِ الإيمانَ. فعلى المسلمينَ جميعًا أن يعلموا ويعتقدوا- ونحن نقولُ: لاَ شَكَّ يجبُ على كُلِّ مسلمٍ كَائِنًا مَنْ كان أن يعلمَ- أنه لاَ حلالَ إلا ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، ولا دينَ إلا ما شَرَّعَهُ اللَّهُ، فَمَنْ سِوَى اللَّهِ لاَ تحليلَ له ولا تحريمَ؛ لأنه عَبْدٌ مسكينٌ ضعيفٌ مربوبٌ، عليه أن يعملَ بما يَأْمُرُ بِهِ رَبُّهُ، فيتبعُ ما يُشَرِّعُهُ رَبُّهُ. وهذا معنَى قولِه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} الأحبارُ: جَمْعُ حَبْرٍ بفتحِ الحاءِ وكسرِها. والتحقيقُ أنهما لغتانِ. والأحبارُ: العلماءُ. والرهبانُ: المتعبدونَ المنقطعونَ في الصوامعِ، وهو جمعُ راهبٍ، وشذَّ قومٌ فقالوا: إن الواحدَ منهم يقال له (رهبان) واستدلوا

بِقَوْلِ الراجز (¬1): لَوْ كَلَّمَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلْ ... لأَقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَهْوِي وَنَزَلْ أنه واحدٌ. والتحقيقُ: أنه جمعُ راهبٍ. {أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} الأربابُ: جَمْعُ رَبٍّ، لأنهم عَبَدُوهُمْ، والعبادةُ من صفاتِ الرَّبِّ (جلَّ وعلا) وحدَه لاَ يُعْبَدُ سواه. {وَمَا أُمِرُوا} بِمَا أُمِرُوا به مِنَ الدِّينِ {إِلاَّ} لأَجْلِ أن يعبدوا اللَّهَ وَحْدَهُ {إِلَهًا وَاحِدًا} أي: معبودًا واحدًا {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لاَ معبودَ بِحَقٍّ إلا هو وحدَه (جلَّ وعلا) {سُبْحَانَهُ} أي: تَنْزِيهًا له أَتَمَّ تنزيهٍ عما يشركونَ به شركَ ربوبيةٍ وشركَ طاعةٍ وشركَ عبادةٍ. وهذه الآيةُ من سورةِ براءةٍ بَيَّنَ اللَّهُ فيها أن النصارى واليهودَ مشركونَ كما أَشَرْنَا إليه سابقًا. وهذا معنَى قولِه: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: آية 31]. {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: آية 32] قال بعضُ العلماءِ: نورُ اللَّهِ هو هذا القرآنُ العظيمُ، وقد سَمَّى اللَّهُ هذا القرآنَ نُورًا في آياتٍ كثيرةٍ كقولِه: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: آية 15] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا} [النساء: آية 174] {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ} [الشورى: آية 52] {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: آية 157] {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: آية 8] هو نورٌ ¬

(¬1) البيت لعروة بن حزام، وهو في ديوانه ص31، فتح القدير (2/ 68) ولفظ الشطر الثاني: «لزحف الرهبان يمشي وزحل»

أضاءَ اللَّهُ به كُلَّ شيءٍ، وَكُلُّ مَنْ لاَ يَعْلَمُ أنه نورٌ وأنه حَقٌّ فإن ذلك إنما جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ عَمَاهُ؛ لأنه خُفَّاشٌ أَعْمَى، والأَعْمَى لا يرى الشمسَ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ هذا في سورةِ الرعدِ في قولِه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فَصَرَّحَ بأن الذي يَمْنَعُهُ من أن يعلمَ أنه الحقُّ إنما هو عَمَاهُ. إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ ... فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (¬1) وقولُه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} يعني: يُذْهِبُوا أدلةَ هذا القرآنِ العظيمِ وَيُبْطِلُوهَا ويمنعوا إقامةَ أدلتِه وإظهارَه للحقِّ وَالدِّينِ. {بِأَفْوَاهِهِمْ} في قولِه: {بِأَفْوَاهِهِمْ} وَجْهَانِ (¬2): أحدُهما: أن المرادَ أن إطفاءَه بأفواهِهم هو تكذيبُهم به وقولُهم: إنه شِعْرٌ أو سِحْرٌ أو كهانةٌ أو أساطيرُ الأولينَ أو مكذوبٌ على اللَّهِ. فهذا إرادتُهم تكذيبُه وإبطالُه بأفواهِهم بالقولِ الكاذبِ. وقال بعضُهم: شَبَّهَ فِعْلَهُمْ بِمَنْ رَأَى نورًا مستضيئًا مَلأَ أَقْطَارَ الدنيا وأرادَ أن ينفخَه ليطفئَه بنفخةٍ؛ لأَنَّ النفخَ يطفئُ النورَ الضعيفَ، ولا يقدرُ على النورِ العظيمِ القويِّ. كأنه شَبَّهَ إرادتَهم لإطفائِه بِمَنْ يريدُ أن ينفخَ في نورٍ عظيمٍ مَلأَ الأرضَ ليطفئَه بالنفخِ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام. (¬2) انظر: ابن جرير (4/ 213 - 214)، ابن كثير (2/ 349)، البحر المحيط (5/ 33).

وهذا لا يمكنُ أبدًا {وَيَأْبَى اللَّهُ} (جلَّ وعلا) {إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} للعلماءِ بحثٌ لغويٌّ في قولِه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ} (¬1) قالوا: لأَنَّ الاستثناءَ يكونُ مِنْ نَفْيٍ قَبْلَهُ، وهنا ليس فيه نَفْيٌ، والإثباتُ لاَ يُسْتَثْنَى منه، فلا تقولُ: ضربتُ إلا زيدًا، وأكرمتُ إلا عَمْرًا. وأجاب بعضُ العلماءِ عن هذا بأن الإباءَ فيه معنَى الامتناعِ، والامتناعُ مُضَمَّنٌ معنَى الجحدِ، هم يريدونَ كذا ولم يُرِدِ اللَّهُ إلا أن يُتِمَّ نورَه. فهو في معنَى النفيِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو متعلقٌ بمحذوفٍ: وَيَأْبَى اللَّهُ كُلَّ شيءٍ إلا إتمامَ نورِه، فهذا وحدَه لا بُدَّ أن يَقَعَ. ثم قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} فَلَوْ كَرِهَ الكافرونَ إتمامَه فهو مُتَمِّمُهُ مَهْمَا كان. {هُوَ} أي: اللَّهُ {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} [التوبة: آية 33] هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم. {بِالْهُدَى} قال بعضُ العلماءِ: الْهُدَى أيضًا هو هذا القرآنُ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: آية 185] قالوا: {بِالْهُدَى} أي: بالقرآنِ الفارقِ بينَ الحقِّ والباطلِ {وَدِينِ الْحَقِّ} هو دينُ الإسلامِ؛ الذي لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ غيرَه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: آية 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: آية 85] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: آية 3]. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (6/ 40).

{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الضميرُ فِي قولِه: {لِيُظْهِرَهُ} فيه وجهانِ للعلماءِ (¬1): قال بعضُهم -وَهُوَ مَرْوِيٌّ عن ابنِ عَبَّاسٍ (¬2) -: الضميرُ عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. أي: أَرْسَلَهُ بهذا الْهُدَى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ليطلعَه على جميعِ الأديانِ فَيُبَيِّنُ لأهلِها حقيقَها من باطلِها، كما قَدَّمْنَاهُ في قولِه: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: آية 48] {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: آية 15] {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: آية 93] وغير ذلك من الآياتِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ من كتابِ اللَّهِ ما جاء في جميعِ الكتبِ المتقدمةِ. القولُ الثانِي: - وعليه الأكثرُ - أن الضميرَ لِلدِّينِ {لِيُظْهِرَهُ} أي: ليظهرَ دِينَ الإسلامِ، أي: يُعْلِيَهُ على جميعِ الأديانِ كُلِّهَا. وهذا الإعلاءُ يدخلُ فيه إظهارُه بالحجةِ والبرهانِ، فبراهينُه قاطعةٌ، وَحُجَجُهُ ساطعةٌ لاَ شَكَّ فيه، وكتابُه محفوظٌ، فلا شيءَ يُوَازِيهِ ولاَ يُشَابِهُهُ. قال بعضُ العلماءِ: {لِيُظْهِرَهُ} أي: يَنْصُرَهُ ويُغَلِّبَهُ على جميعِ الأديانِ، وقد وَفَّى اللَّهُ بهذا فيما مَضَى، وَسَيَفِي به - أيضًا - في المستقبلِ؛ لأن الدينَ فيما مضى ظَهَرَ على جميعِ الأديانِ، وَأَذَلَّ الدولَ الكبارَ العظيمةَ المعروفةَ، كالدولةِ الكسرويةِ، والدولةِ القيصريةِ، لم يَبْقَ منهم إلا مَنْ هو يُعْطِي الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغرٌ، أو مُسْلِمٌ، وَانْتَشَرَ في أقطارِ الدنيا من شَرْقِهَا وغربِها، وَظَهَرَ على كُلِّ الأديانِ، وَأَذَلَّ أهلَها، وسيأتِي ذلك في آخِرِ هذا الزمانِ أيضًا كما جاء في أحاديثَ صحيحةٍ كثيرةٍ أنه لا يَبْقَى في آخِرِ الزمانِ أحدٌ إلا كان ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 215)، القرطبي (8/ 121)، ابن كثير (2/ 349). (¬2) أخرجه ابن جرير (14/ 215) من طريق علي بن أبي طلحة.

مُسْلِمًا (¬1)، ولم يكن في المعمورةِ غير دينِ الإسلامِ. وهذا معنَى قولِه: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: آية 33] إظهارُه على الدِّينِ كُلِّهِ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: الآيات 34 - 36]. قال اللَّهُ (جلَّ وعلا): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: الآيتان 34، 35] لَمَّا ذَكَرَ الله (جلَّ وعلا) أن اليهودَ والنصارى اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا بَيَّنَ أن الرهبانَ والأحبارَ لا ينبغي اتخاذُهم أربابًا؛ لأن أكثرَهم فَجَرَةٌ غيرُ مستقيمينَ فقال: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ ¬

(¬1) ساق ابن كثير في تفسيره (2/ 349) كثيرًا من هذه الأحاديث المشار إليها.

بِالْبَاطِلِ} أي: فكيف تتخذونَ هؤلاء أربابًا مع أن الإنسانَ لو اتَّخَذَ أشرفَ الأنبياءِ رَبًّا أو أعظمَ الملائكةِ رَبًّا لكانَ مِنْ كبارِ المشركينَ، أَحْرَى مَنْ يتخذُ الفجَرَةَ أَرْبَابًا {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: الآية 80] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ ... } العلماء {وَالرُّهْبَانِ}: المتعبدينَ في صوامعِهم. {لَيَأْكُلُونَ} هذه أصلُها لامُ الابتداءِ التي تُزَحْلِقُهَا (إِنَّ) المكسورة عن المبتدأِ إلى الخبرِ {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} قال بعضُ العلماءِ: يأخذونَ الرُّشَا. وقال بعضُ العلماءِ: يأخذونَ من أتباعِهم أموالاً باسمِ الدِّينِ ثم يأكلونَها، قال بعضُهم: يأخذونَ أموالاً باسمِ الكنيسةِ والبيعةِ ونحوِ ذلك مما يُخَيِّلُونَ لأتباعِهم أن أخذَه مِنَ الدِّينِ ومرادُهم الغرضُ الدنيويُّ (¬1). وقولُه: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لأَنَّ مَنِ استشارَ الرهبانَ والأحبارَ مِنْ أتباعِهم: هَلْ يأخذُ دِينَ الإسلامِ يمنعونَهم من ذلك، وَيَصُدُّونَهُمْ عن سبيلِ اللَّهِ التي هي دِينُ الإسلامِ. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... } العربُ تقولُ: «كَنَزْتُ الشيءَ» إذا جمعتَه وجعلتَ بعضَه إلى بعضٍ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على المالِ المجموعِ بعضُه إلى بعضٍ المدفونِ في الأرضِ، والكنزُ في اللغةِ يُطْلَقُ على كُلِّ مجموعٍ مضمومٍ بعضُه إلى بعضٍ، ومنه: ناقةٌ مكتنزةُ اللحمِ؛ لأن لَحْمَهَا بعضُه مُنْضَمٌّ إلى بعضٍ. سواء كان في باطنِ الأرضِ أو على ظاهرِها (¬2). ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 122). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 123)، الدر المصون (6/ 42).

قال بعضُ العلماءِ: هذه في أهلِ الكتابِ. قاله معاويةُ، واختلف معه أبو ذَرٍّ (رحمه الله). كان أبو ذَرٍّ في الشامِ فشكاه معاويةُ إلى عثمانَ فَأَشْخَصَهُ عثمانُ إلى المدينةِ، وكان أبو ذرٍّ (رضي الله عنه) عندَه مذهبٌ معروفٌ مخالفٌ لجميعِ أقوالِ الصحابةِ يُضَيِّقُ في اقتناءِ المالِ، وكان (رضي الله عنه) يقولُ: إن الإنسانَ إذا ادَّخَرَ شيئًا زائدًا عن خَلَّتِه الضروريةِ فهو كَنْزٌ يُكْوَى به وجهُه وظهرُه وجنبُه، وكان يذكرُ هذا للناسِ، وَمِنْ أجلِ هذا أَمَرَهُ عثمانُ (رضي الله عنه) أيامَ خلافتِه أن يخرجَ إلى الربذةِ وَتُوُفِّيَ بها (رضي الله عنه وأرضاه) (¬1)، وأبو ذَرٍّ معذورٌ؛ لأنه جاء النبيَّ في أولِ الإسلامِ، وكان المسلمونَ في أولِ الإسلامِ فقراءَ ليس عندهم شيءٌ، وكان التشديدُ في إمساكِ الذهبِ والفضةِ في ذلك الوقتِ عظيمًا، فَسَمِعَ من النبيِّ شيئًا ورجعَ إلى أهلِه بالباديةِ، ثم أَنْزَلَ اللَّهُ فريضةَ الزكاةِ، وَكَثُرَ المالُ واتسعَ الأمرُ، وَزَالَ التشديدُ، ولم يَعْلَمْ (رضي الله عنه) بشيءٍ من ذلك، فصارَ على التشديدِ الأولِ؛ لأنه سَمِعَهُ من رسولِ اللَّهِ ولم يَسْمَعْ ما طَرَأَ بَعْدَ ذلك. هذا قَالَهُ بعضُ الصحابةِ وهو الظاهرُ أنه الحقُّ (¬2). قولُه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} رَدَّ الضميرَ هنا على الفضةِ ولم يَقُلْ: «ولاَ ينفقونَهما» وللعلماءِ في توجيهِه في اللغةِ العربيةِ أقوالٌ (¬3)، والتحقيقُ أن من أساليبِ اللغةِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ما أُدي زكاته فليس بكنز، حديث رقم: (1406) (3/ 271) وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم: (4660). (¬2) انظر: الأضواء (2/ 434). (¬3) انظر: الدر المصون (6/ 42).

العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ رجوعُ الضميرِ على أحدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بـ (الواو) أو (الفاء) أو (أو)، وهو في (أو) أظهرُ اكتفاءً ببعضِهما؛ لأن الآخَرَ مفهومٌ منه، وهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ (¬1) فَمِنْ أمثلتِه في القرآنِ: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا ... } {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة: آية 45] {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: الآية 20] ومن أمثلتِه بـ (أو): {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} [النساء: آية 112] {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: آية 11] وَمِنْ رجوعِ الضميرِ إلى المتعاطفينِ بـ (أو) قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: آية 135] ومثالُ إفرادِه في المتعاطفينِ بـ (الفاء): قولُ امرئِ القيسِ (¬2): فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... . . . . . . . . . . . . . . . فَرَدَّهُ على أحدِهما. وهو في العطفِ بـ (الواو) كالآيةِ كثيرٌ جِدًّا في كلامِ العربِ، منه قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬3): وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لاَهِيَيْنِ بِهَا ... وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ ولم يقل: «وَلَمْ يَهْمِمَا». ومنه قولُ حسانَ رضي الله عنه (¬4): إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الأَ ... سْوَدَ مَا لَمْ يُعَاصِ كَانَ جُنُونَا وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام. (¬3) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬4) السابق.

وقولُه: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} التحقيقُ - إن شاء الله - الذي هو الصوابُ؛ أن كنزَ الفضةِ والذهبِ الذي يُكْوَى به صاحبُه هو ما مَنَعَ فيه حَقَّ اللَّهِ من الزكاةِ (¬1)، أما ما أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ، وَأُخْرِجَ حَقُّ اللَّهِ الواجبُ فيه، فالباقِي بعدَ هذا لا يُسَمَّى كَنْزًا، وإن كان تحتَ الأرضِ، ولا يُكْوَى به صاحبُه، هذا هو المذهبُ الحقُّ - إن شاء الله - وأدلتُه واضحةٌ، وبراهينُه ساطعةٌ لاَ شَكَّ فيها؛ لأن اللَّهَ أَوْجَبَ في مالِ الإنسانِ من ذَهَبِهِ أو فضتِه أو مَاشِيَتِهِ أو ثمارِه وزروعِه، وَكُلُّ ذلك أَوْجَبَ فيه حَقًّا مُعَيَّنًا في أقدارٍ معينةٍ بَيَّنَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بَيَّنَ أنها هي الحقُّ في مالِ الإنسانِ، وأن أَخْذَهَا يُطَهِّرُ الإنسانَ وَيُطَهِّرُ له مالَه، فإذا أَدَّى ما أوجبَه اللَّهُ عليه وَأَمَرَهُ به فقد طَهُرَ هو وَطَهُرَ مالُه، ولم يَبْقَ فيه شيءٌ عليه تَبَعَةٌ؛ لأن اللَّهَ لو كان يكوي به جنبَه ووجهَه وظهرَه فلا فائدةَ في دفعِ الزكاةِ إذا كان المالُ يَلْزَمُ أن ينفقَه كُلَّهُ، فلا وجهَ للزكاةِ ولا محلَّ للمواريثِ؛ لأن الفرائضَ والمواريثَ التي نَزَلَ بها كتابُ اللَّهِ إنما هي في أموالٍ تبقى بعد صاحبِها، فالتحقيقُ الذي لا شَكَّ فيه - إن شاء الله - أن الكنزَ الذي يُكْوَى به صاحبُه هو ما مَنَعَ فيه حَقَّ اللَّهِ ولم يُؤَدِّ زكاتَه، أما ما أَدَّى زكاتَه وأعطى حَقَّ اللَّهِ فيه فليس بكنزٍ ولا يُكْوَى به، فإن شَاءَ أكثرَ من التطوعِ، وإن شاء أَمْسَكَ لنفسِه، والقدرُ الواجبُ أَوْجَبَ اللَّهُ أَخْذَهُ مُعَيَّنًا بتحديدٍ من رسولِه صلى الله عليه وسلم، وَمِمَّا يوضحُ هذا قولُه [لرسولِه] (¬2) صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: آية 103] وهي الزكاةُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ أَخْذَهَا يُطَهِّرُهُمْ ويزكيهم. وفي حديثِ ضمام بنِ ثعلبةَ لَمَّا أَمَرَهُ النبيُّ بدعائمِ ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 431 - 434). (¬2) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

الإسلامِ، وَذَكَرَ له فرضَ الزكاةِ، قال: هَلْ عَلَيَّ غيرُها؟ قال: «لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ» (¬1). فهذا هو الحقُّ - إن شاء الله - أنّ ما أُدِّيَتْ زكاتُه فليس بكنزٍ ولو تحتَ الأرضِ، وما لم تُؤَدَّ زكاتُه فهو كنزٌ يُكْوَى به صاحبُه وإن كان ظاهرًا على وجهِ الأرضِ. قال ابنُ خويز منداد من المالكيةِ: هذه الآيةُ من سورةِ براءةٍ تَضَمَّنَتْ زكاةَ العينِ (¬2). يعنِي بالعينِ: النَّقْدَيْنِ، الذهبَ والفضةَ. ونحن عادةً في هذه الدروسِ إذا مَرَرْنَا بآيةٍ من كتابِ اللَّهِ هي أصلُ بابٍ من أبوابِ الفقهِ نتعرضُ إلى مسائلِه الكبارِ، ونبينُ عيونَها ومسائلَها التي لها أهميةٌ، وهذه الآيةُ الكريمةُ على التحقيقِ فيها كأنها تشيرُ إلى الزكاةِ، وأن مَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا أنه يُكْوَى بذلك المالِ الذي لم يُؤَدِّ زكاتَه كما سيأتِي في حديثِ مسلمٍ. اعْلَمُوا أن المسلمينَ أَجْمَعُوا على وجوبِ زكاةِ الفضةِ والذهبِ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم - لا خلافَ بَيْنَ العلماءِ مِنْ كافةِ المسلمينَ أنه - بَيَّنَ قَدْرَ نصابِ الفضةِ وقدرَ الواجبِ فيها، فَبَيَّنَ أن نصابَ الفضةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ شرعيٍّ، وأنها خمسةُ أواقٍ، والأوقيةُ: أربعونَ درهمًا، وأن قدرَ الواجبِ منها: ربعُ الْعُشْرِ (¬3)، هذا أمرٌ لا شَكَّ فيه، أن مِائَتَيْ درهمٍ ففيها زكاةٌ يخرج منها ربعُ عُشْرِهَا، وليس في أقلَّ من مِائَتَيْ درهم شرعي زكاة. والدرهمُ الشرعيُّ: قال علماءُ المالكيةِ بالتحديدِ: ينبغي أن يكونَ بوزنِ أهلِ مكةَ الأولِ المتعارفِ؛ لِمَا ثَبَتَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (12) من سورة الأعراف. (¬2) نقله القرطبي (8/ 124)، والشيخ (رحمه الله) في الأضواء (2/ 434). (¬3) انظر المدونة (1/ 242 - 244)، بدائع الصنائع (2/ 16 - 18)، المغني (4/ 209 - 213)، الأضواء (2/ 434 - 435).

عَنِ ابنِ عمرَ عند النسائيِّ وأبي داودَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ» (¬1) فالخمسةُ الأوسقُ تُعْرَفُ بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ، ومائتا درهمٍ - نصابُ الفضةِ - تُعْرَفُ بالوزنِ الذي كان مَعْرُوفًا عِنْدَ أهلِ مكةَ. وقد حَرَّرَ علماءُ المالكيةِ الأَمْرَيْنِ (¬2) وقالوا: إن الدرهمَ المكيَّ الشرعيَّ وزنُه خمسونَ وخُمسا حبةٍ من مطلقِ الشعيرِ. هكذا الذي يقولونَ، وزاد بعضُهم: سُبْعُ الحبةِ. والتحقيقُ عندَهم هو هذا، فإذا كان عندَ الإنسانِ مائتا درهمٍ شرعية فإنه يَجِبُ عليه زكاتُها وإخراجُ ربعِ عُشْرِهَا كما هو معلومٌ، وهذا لا نزاعَ فيه بين العلماءِ. وَكُلُّ درهمٍ ستةُ دوانقَ، وكلُّ عشرةِ دراهمَ سبعةُ مثاقيلَ، وأربعونَ درهمًا هي الأوقيةُ. وهذا معروفٌ لاَ نِزَاعَ فيه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المكيال مكيال أهل المدينة» رقم (3324) (9/ 188)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب كم الصاع، رقم (2520) (5/ 54)، في كتاب البيوع، باب الرجحان في الوزن. رقم (4594) (7/ 284)، والطبراني في الكبير (13449)، والبيهقي (6/ 31)، كلهم من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان عن حنظلة عن طاووس عن ابن عمر. وأخرجه أبو عبيد في الأموال (1607)، ومن طريقه البغوي (2063) عن أبي المنذر إسماعيل بن عمر عن سفيان به. وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (2/ 99) من طريق الفريابي عن سفيان به. وأخرجه ابن حبان (3283) من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان فخالف من تقدم في متن الحديث وإسناده. انظر الإرواء (1342) (5/ 191). (¬2) مضى عند تفسير الآية (141) من سورة الأنعام.

وأكثرُ العلماءِ على أن الفضةَ لاَ وَقْصَ فيها (¬1)، فإذا كانت عنده مائتا درهمٍ أَخْرَجَ ربعَ عُشْرِهَا، وَكُلُّ ما زَادَ فَبِحِسَابِهِ. وقال بعضُ العلماءِ: إذا زَادَ عن مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لم يكن عليه شيءٌ حتى يبلغَ الأربعينَ درهمًا. أما الذهبُ فقد ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أنه لم يَثْبُتْ فيه تحديدٌ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا فِي نصابِه ولا في الْمُخْرَجِ منه (¬2)، وهذا مرويٌّ عن الشافعيِّ، وقاله ابنُ عبدِ البرِّ، وَبَالَغَ ابنُ حزمٍ في نصرِه، أن النبيَّ لم يَثْبُتْ عنه شيءٌ في تحديدِ نصابِ الذهبِ ولاَ في قدرِ الْمُخْرَجِ منه. والتحقيقُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه قدرُ نصابِ الذهبِ وقدرُ الْمُخْرَجِ منه، وأن نصابَ الذهبِ عشرونَ دِينَارًا ليس فيما دُونَهَا صدقةٌ، وأن في الذهبِ مثلَ ما في الفضةِ ربع العشر. اعْلَمُوا أولاً أن الكتابَ والسنةَ وإجماعَ المسلمينَ كُلُّ واحدٍ منها قَدْ دَلَّ على أن الزكاةَ تَجِبُ في الذهبِ، وقد دَلَّ عليه القرآنُ في قولِه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... } الآيةَ [التوبة: آية 34]. وَدَلَّتْ عليه السنةُ الصحيحةُ الثابتةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أبِي هريرةَ (رضي الله عنه) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُخْرِجُ مِنْهُمَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَظَهْرُهُ وَوَجْهُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 436). (¬2) انظر: الأم للشافعي (4/ 40)، الاستذكار لابن عبد البر (9/ 34)، المحلى (6/ 66)، الأضواء (2/ 438).

إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» (¬1) فهذا نَصٌّ صَحِيحٌ ثَابِتٌ في صحيحِ مسلمٍ أن الذهبَ تَجِبُ فيه الزكاةُ، وأن مَنْ لَمْ يُؤَدِّ زكاتَه يكوى به يومَ القيامةِ، وَيُصَفَّحُ له صفائحَ من نارٍ. إذا عرفتُم أن أصلَ زكاةِ الذهبِ واجبةٌ بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ، فبيانُ تحديدِ النصابِ وقدرِ الْمُخْرَجِ منه كأنه بيانٌ لإجمالٍ من كتابِ الله، وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يُبَيِّنُ هذا الإجمالَ ويوضحُه، وَيُعَيِّنُ قَدْرَ نصابِ الذهبِ، وقدرَ الواجبِ إخراجُه فيه، وهو ما رَوَاهُ أبو داودَ في سُنَنِهِ من طريقِ أبِي إسحاقَ عن عاصمِ بنِ ضمرةَ السلوليِّ والحارثِ الأعورِ الهمذانيِّ عن عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: «إِنَّ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ نِصْفَ دِينَارٍ» (¬2). وهذا بِعَيْنِهِ تحديدُ النصابِ بعشرينَ دينارًا، وتحديدُ الواجبِ فيه بربعِ الْعُشْرِ، هذا الحديثُ رواه أبو داودَ وَسَكَتَ عنه. ومعروفٌ أن كثيرًا من العلماءِ نَاقَشُوا في هذا الحديثِ وَضَعَّفُوهُ بالحارثِ الأعورِ، وقالوا: وعاصمُ بنُ ضمرةَ السلوليُّ ضعيفٌ أيضًا، فَضَعَّفُوا هذا الحديثَ. ونحن نقول (¬3): إن هذا الحديثَ عِنْدَ المناقشةِ الصادقةِ ليسَ بضعيفٍ، وأن الحارثَ الأعورَ وإن كان ضعيفًا عند قومٍ -وإن وَثَّقَهُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (37) من سورة الأنفال. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (4/ 89)، وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم: (1557، 1558) (4/ 444، 447) مع تردد بعض رواته - عند أبي داود - في رفعه. وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 119)، وأبو عبيد في الأموال ص369 موقوفًا على علي (رضي الله عنه). وانظر: الاستذكار (9/ 21، 34)، التلخيص (2/ 173)، الإرواء (3/ 291). (¬3) انظر: الأضواء (2/ 438 - 442).

ابنُ المدينيِّ وغيرُه (¬1) - فقد ضَعَّفَهُ أكثرُ العلماءِ. أما عاصمُ بنُ ضمرةَ فالتحقيقُ أنه صدوقٌ أَثْنَى عليه غيرُ واحدٍ، وهو لا بأسَ به، فروايتُه ¬

(¬1) العبارة غير منضبطة من حيت المعنى كما ترى. ولعل الشيخ أراد أن يقول «وإن كذبه ابن المديني وغيره .. » فسبق لسانه إلى ذلك. لأن ابن المديني كذَّب الحارث الأعور كما نقل ذلك الذهبي في الميزان (1/ 435) ويدل على ذلك ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (2/ 439). والحارث الأعور كذبه كذلك: الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وأبو خيثمة وذكر إبراهيم النخعي أنه اتُّهِم، وقال أبو بكر بن عياش: «لم يكن الحارث بأرضاهم، كان غيره أرضى منه. قال: وكانوا يقولون: إنه صاحب كتب كذاب» اهـ وقال جرير: «كان الحارث الأعور زيفًا» اهـ. وعن مغيرة: «لم يكن الحارث يصدق عن علي في الحديث» اهـ. وقال ابن حبان: «كان الحارث غاليًا في التشيع واهيًا في الحديث» اهـ. وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي: «عامة ما يرويه غير محفوظ» اهـ. وترك الاحتجاج به أبو زرعة وأبو حاتم وابن مهدي، وابن معين ضعفه، ومرة قال: «ليس به بأس» اهـ. وقال مرة: «ما زال المحدثون يقبلون حديثه» اهـ. وقال مرة «ثقة». وتعقبه عثمان الدارمي بقوله: «ليس يتابع يحيى على هذا» اهـ. وكذا النسائي قال مرة: «ليس بالقوي» وقال مرة: «ليس به بأس» وقال ابن سيرين: «أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثَنَّى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثَنَّى بالحارث» اهـ. وقال: «كان أصحاب ابن مسعود خمسة يُؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة وفاتني الحارث فلم أره وكان يُفضل عليهم» اهـ. وعن سفيان: «كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث» اهـ. وقال فيه الذهبي: «من كبار علماء التابعين على ضعف فيه» اهـ .. وقال: «والجمهور على تَوْهِينِ أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب» اهـ. وقد نقل الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (2/ 56) قول بعض من رماه بالكذب ولم ينقل عن أحد توثيقه. فقول الشيخ (رحمه الله) هنا: «فقد ضعفه أكثر العلماء» اهـ. في محله، وإنما توسعت في هذا التعليق لأن عبارة الشيخ هذه أيضًا لربما توهم القارئ أنها من سبق اللسان وليست كذلك.

مُحْتَجٌّ بها وهي معتضدةٌ بأشياءٍ عديدةٍ تقومُ بها الروايةُ الضعيفةُ أَحْرَى التي هي غيرُ ضعيفةٍ؛ لأَنَّ روايتَه معتضدةٌ بروايةِ الحارثِ الأعورِ، وهو يُقْبلُ في المتابعاتِ والشواهدِ، ومعتضدةٌ بإجماعِ المسلمينَ على مقتضاه؛ لأن هذا الحديثَ أَجْمَعَ على مُقْتَضَاهُ عامةُ المسلمينَ ولم يخالف منهم أحدٌ إلا شيء يُرْوَى عن داودَ الظاهريِّ وبعضِ أتباعِه، أما فقهاءُ الأمصارِ والصحابةُ والأئمةُ الأربعةُ وأصحابُهم وكافةُ العلماءِ المعروفينَ لم يُخَالِفْ أحدٌ منهم في أن نصابَ الذهبِ عشرونَ دينارًا، وأن الواجبَ فيه ربعُ العُشْرِ كالفضةِ، ورُوي عن الحسنِ البصريِّ أن نصابَه أربعونَ (¬1)، وعن طاووسٍ أنه يقاسُ بالفضةِ، فَمَا بَلَغَ من الذهبِ قيمةَ مائتي درهمٍ كانت فيه الزكاةُ، وما دُونَ ذلك فَلاَ. وهذا لا يكادُ يُلْتَفَتُ إليه (¬2) لكثرةِ مَنْ خَالَفَهُ من أَجِلاَّءِ العلماءِ من الصحابةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. فحديثُ عاصمِ بنِ ضمرةَ حجةٌ، وهو معتضدٌ بروايةِ الحارثِ الأعورِ، وبإجماعِ المسلمينَ، وهذا إنما هو بيانٌ لأمرٍ ثَبَتَ بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ أنه واجبٌ، ومعلومٌ أن البيانَ إرشادٌ ¬

(¬1) أخرج عبد الرزاق في المصنف (4/ 89)، وابن أبي شيبة (3/ 118)، وابن عبد البر في الاستذكار (9/ 25) عن الحسن: «ما زاد على المائتين فلا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ أربعين» وجاء عنه رواية ثانية نقلها النووي في المجموع (6/ 17) أنه لا زكاة فيما هو دون أربعين مثقالاً لا تساوي مائتي درهم. (¬2) أخرج عبد الرزاق (4/ 92)، وابن عبد البر في الاستذكار (9/ 24) عن طاووس قال: «إذا زادت الدراهم على مائتي درهم فلا شيء فيها حتى تبلغ أربعمائة درهم». قال في المغني (4/ 212 - 213): «وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالاً من غير اعتبار حقيقتها، إلا ما حُكي عن عطاء وطاووس والزهري ... أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة، فما كان قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير في نصابه» اهـ.

ودلالةٌ، وهو يصحُّ في كُلِّ شيءٍ يَجْلُو الجهالةَ والإجمالَ. وهذا هو التحقيقُ -إن شاء الله- أن نصابَ الذهبِ عشرونَ مِثْقَالاً، وأن الواجبَ فيها ربعُ العشرِ، وأنه لا وَقْصَ فيه فما زَادَ فَبِحِسَابِهِ. فإن كان عندَه بعضُ النصابِ من الذهبِ وبعضُه من الفضةِ فهل يضمُّ الفضةَ للذهبِ (¬1)؟ ليس في ذلك نَصٌّ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأنظارُ العلماءِ اختلفت فيه، فَذَهَبَ بعضُ العلماءِ إلى أنه لا يُضَمُّ الذهبُ إلى الفضةِ ولا الفضةُ إلى الذهبِ في الزكاةِ، وتوقفَ في هذا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ في روايةِ الأثرمِ، وَقَطَعَ في روايةِ حنبلٍ أنه لاَ يُضَمُّ أحدُهما إلى الآخَرِ (¬2). فَمَنْ كانت عنده عشرةُ مثاقيلَ ومائةُ درهمٍ لا زكاةَ عليه على هذا، وبهذا قال الإمامُ الشافعيُّ وأكثرُ أصحابِه في طائفةٍ كثيرةٍ من العلماءِ. وقال مالكُ بنُ أنسٍ وأصحابُه: يُضَمُّ الذهبُ إلى الفضةِ فيكونُ النصابُ منهما معًا. وهو مَرْوِيٌّ عن أبي حنيفةَ (رحمة الله) على الجميعِ. وعلى هذا فلو كان عنده مائةُ درهمٍ وعشرةُ دنانيرَ وَجَبَتْ عليه الزكاةُ، فَأَخْرَجَ من الدنانيرِ ربعَ عُشْرِهَا، ومن الدراهمِ ربعَ عُشْرِهَا وهكذا. وَاعْلَمُوا أن مِنْ توابعِ هذه المسألةِ أشياء اختلفَ فيها العلماءُ سنذكرُ طرفًا منها، من ذلك: إذا كان الذهبُ والفضةُ حُلِيًّا مَصُوغًا مُبَاحًا تتزينُ به النساءُ، هل تجبُ فيه الزكاةُ أو لا (¬3)؟ اختلف فيه ¬

(¬1) انظر: الاستذكار (9/ 40)، المبسوط (2/ 192)، المجموع (6/ 18)، المغني (4/ 210)، الأضواء (2/ 444). (¬2) انظر: المغني (4/ 210). (¬3) انظر: الاستذكار (9/ 66)، المبسوط (2/ 192)، المجموع (6/ 32)، المغني (4/ 220)، الأضواء (2/ 445).

العلماءُ وفقهاءُ الأمصارِ والصحابةُ فَمَنْ بعدَهم، فذهب كثيرٌ من العلماءِ إلى أنه لا زكاةَ في الْحُلِيِّ المباحِ، منهم مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وأصحابُهما وَخَلْقٌ لاَ يُحْصَى من الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم. وذهب آخرونَ إلى أن الحليَّ المباحَ تجبُ فيه الزكاةُ، وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه وخلقٌ من الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم. واحتجَّ كُلٌّ بحججٍ، أما الذين قالوا: لا تَجِبُ فيه الزكاةُ فإنما احْتَجُّوا بحديثٍ جاء في ذلك وآثارٌ عن الصحابةِ، واحتجوا بوضعِ اللغةِ، أما الحديثُ الذي جاء في ذلك هو حديثٌ رواه البيهقيُّ في كتابِ معرفةِ السننِ والآثارِ، رواه من طريقِ عافيةَ بنِ أيوبَ عن الليثِ بنِ سعدٍ عن أبي الزبيرِ عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ (رضي الله عنهما) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ زَكَاةَ فِي حُلِيٍّ» (¬1). هذا الحديثُ قال الآخرونَ: لا يجوزُ الاحتجاجُ به؛ لأن عافيةَ بنَ أيوبَ مجهولٌ، وَغَالَى البيهقيُّ (رحمه الله) فقال: إن العملَ بحديثِ عافيةَ هذا من جنسِ العملِ بأحاديثِ الكذابينَ. ونحن نقول: إن هذه مغالاةٌ منه (رحمه الله)؛ لأن عافيةَ بنَ أيوبَ لم يَقُلْ فيه أحدٌ إنه كذَّابٌ، وغايةُ ما في البابِ أن البيهقيَّ ظَنَّ أنه مجهولٌ، وقد وَثَّقَهُ غيرُ البيهقيِّ، فقد نقل ابنُ أبي حاتمٍ في كتابِ ¬

(¬1) البيهقي في المعرفة (3/ 298) وقال: «لا أصل له مرفوعًا، إنما يُروى عن جابر من قوله غير مرفوع» اهـ. وقد رواه الشافعي في الأم (2/ 41)، وعبد الرزاق (4/ 82)، وأبو عبيد في الأموال ص399، والدارقطني (2/ 107)، والبيهقي في السنن (4/ 138) موقوفًا على جابر (رضي الله عنه). وانظر: تنقيح التحقيق (2/ 1420)، نصب الراية (2/ 374)، الإرواء (3/ 294)، الأضواء (2/ 446).

الجرحِ والتعديلِ عن أبي زرعةَ أنه وَثَّقَ عافيةَ بنَ أيوبَ هذا وقال: لاَ بأسَ به (¬1). وقال ابن الجوزيِّ في جَرْحِهِ وتعديلِه: لاَ أعلمُ فيه قادحًا ولا جرحًا (¬2). فدعوى أنه من الكذابينَ ليس بصحيحٍ. وَاحْتَجُّوا بآثارٍ من الصحابةِ كثيرةٍ؛ لأنه جاءت آثارٌ عن الصحابةِ أنهم لا يُخْرِجُونَ زكاةَ الْحُلِيِّ، وهو ثابتٌ عن عائشةَ (¬3) وابنِ عمرَ (¬4) وجماعةٍ من الصحابةِ (رضي الله عنهم) وَاحْتَجُّوا بالقياسِ، ومعلومٌ أن القياسَ يُسْتَعْمَلُ مع النصِّ إذا كان لتعضيدِ النصِّ لا لِيُخَالِفَهُ؛ لأن النصوصَ لاَ مانعَ من اعتضادِ بعضِها بعضًا، وقد تَقَرَّرَ في الأصولِ (¬5) أن النصَّ الذي يُوَافِق (¬6) [القياسَ مُقَدَّمٌ في حالِ الترجيحِ]. النوعُ الثانِي من القياسِ: وهو المعروفُ عندَهم بـ (قياسِ العكسِ)، وقياسُ العكسِ قال جماعةٌ من الأصوليينَ: يُحْتَجُّ به، ¬

(¬1) الجرح والتعديل (7/ 44). (¬2) قال ابن الجوزي في كتاب التحقيق (2/ 43)، وهو في «تنقيح التحقيق» (1421): «ما عرفنا أحدًا طعن فيه» اهـ. (¬3) أخرجه البيهقي في المعرفة (3/ 293)، وفي السنن الكبرى (4/ 138). (¬4) أخرجه البيهقي في المعرفة (3/ 293)، وفي السنن الكبرى (4/ 138). (¬5) انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 695)، الأضواء (2/ 450). (¬6) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. قال في الأضواء (2/ 448): «وأما القياس فمن وجهين: الأول: أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية أُلحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان، بجامع أن كلاًّ مُعَدّ للاستعمال لا للتنمية. وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك - رحمه الله - في [الموطأ] بقوله: فأما الثبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة. قال مالك: ليس في اللؤلؤ ولا في المسك والعنبر زكاة».

وَأَبَى الاحتجاجَ به جماعةٌ آخرونَ (¬1). وقياسُ العكسِ قد نَبَّهَ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ أَجْرٌ» قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، أيأتِي أحدُنا شهوتَه وله فيها أَجْرٌ؟ قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟» (¬2) فهذا قياسُ عكسٍ، وهو إعطاءُ حكمٍ عكسَ حكمٍ لتعاكسِهما في العلةِ (¬3). قالوا: وكذلك هنا في الْحُلِيِّ المباحِ، فإن العروضَ لا تجبُ الزكاةُ في عَيْنِهَا، فإذا كانت للتجارةِ وَجَبَتِ الزكاةُ في عينِها، عكسَ الذهبِ والفضةِ، فإن الزكاةَ في عينِها، فإذا انقطعَ عنها اسمُ النماءِ والتجارةِ صَارَتْ لاَ زكاةَ فيها، من قياسِ العكسِ. ومن أمثلةِ قياسِ العكسِ عندَ المالكيةِ مِمَّا اختلفوا مع غيرِهم في القيءِ: هل ينقضُ الوضوءَ أو لا؟ قالوا: لا ينقضُ الوضوءَ كثيرُ القيءِ، قياسًا على قليلِ القيءِ، عكسَ البولِ، فإنه لَمَّا انتفضَ الوضوءُ بقليلِه انتقضَ بكثيرِه. ومن أمثلةِ قياسِ العكسِ عندَ الحنفيةِ قولُهم: لاَ قصاصَ في القتلِ بكبيرِ الْمُثَقَّلِ، كعمودِ الحديدِ والصخرةِ، قياسًا على صغيرِ الْمُثَقَّلِ، كالقضيبِ الذي لا قصاصَ في الضربِ به، عكسَ الْمُحَدَّدِ، فإنه لَمَّا وَجَبَ القصاصُ في قليلِه وجبَ في كثيرِه. هذا هو غالبُ حجةِ أهلِ هذا القولِ الذين قالوا: لا زكاةَ في الْحُلِيِّ. ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 219)، وانظر الكلام على هذا القياس مع الأمثلة والتطبيقات المذكورة في الأضواء (2/ 449 - 450). (¬2) مسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع معروف، حديت رقم: (1006) (2/ 697) من حديث أبي ذر (رضي الله عنه). (¬3) انظر: الأضواء (2/ 449).

أما الذين قالوا: تجبُ في الحليِّ المباحِ زكاةٌ فاحتجوا أيضًا بأحاديثَ جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبآثارٍ عن السلفِ، وبوضعِ اللغةِ، وبالقياسِ أيضًا (¬1). أما وضعُ اللغةِ مِنْ حجةِ الأولينَ فقولُهم: إنه صلى الله عليه وسلم قال: «وَفِي الرِّقَّةِ (¬2) رُبُعُ الْعُشْرِ» (¬3) وقال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» (¬4). قالوا: والورقُ لا تُطْلَقُ إلا على الدراهمِ المنقوشةِ، ولا تطلقُ على الحليِّ. هذا من حجةِ الأولينَ بالوضعِ اللغويِّ. وأما الذين قالوا: تجبُ الزكاةُ فيه فاحتجوا أيضًا بأحاديثَ جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وآثارٍ عن السلفِ، وبالقياسِ، وبوضعِ اللغةِ أيضًا. ¬

(¬1) انظر: الأضواء (2/ 451). (¬2) قال في الأضواء (2/ 450): «قال أبو عبيدة: الرقة عند العرب: الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس، ولا تطلقها العرب على المصوغ، وكذلك قيل في الأوقية. قال مقيده - عفا الله عنه -: ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب، قال الجوهري في صحاحه: الورق: الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء عوض عن الواو وفي القاموس. الورق - مثلثة، وككتف -: الدراهم المضروبة، وجمعه أوراق ووراق كالرقة» اهـ. (¬3) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: زكاة الغنم. حديث رقم: (1454) (3/ 317 - 318). (¬4) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ليس فيما دون خمس ذود صدقة. حديث رقم: (1459) (3/ 322). وأخرجه في موضع آخر، انظر رقم: (1484). ومسلم في الزكاة، حديث رقم: (979) (2/ 673) من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه). وأخرجه مسلم أيضًا من حديث جابر (رضي الله عنه) في الزكاة، حديث رقم: (980) (2/ 675).

ومن الأحاديثِ الدالةِ على ذلك: ما رواه أبو داودَ والنسائيُّ من طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ - وَجَدُّهُ: هو عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ (رضي الله عنهما) - أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَتْ عليه امرأةٌ ومعها ابنتُها، وفي يدِ ابنتِها مَسَكَتَانِ غليظتانِ من ذهبٍ - يعني سِوَارَيْنِ من ذَهَبٍ - فقال لها: «أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟» فقالت: لاَ. فقال: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟!» فخلعتهما فقالت: هُمَا لِلَّهِ ولرسولِه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 153)، وعبد الرزاق (4/ 85 - 86)، وأحمد (2/ 178)، وأبو عبيد في الأموال ص397، وابن زنجويه في الأموال (3/ 973)، وأبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (1548) (4/ 425)، والترمذي في الزكاة، باب: ما جاء في زكاة الحلي. حديث رقم: (637) (3/ 20 - 21) وعقبه بقوله: «وهذا حديث قد رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا، والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يُضَعَّفَانِ في الحديث. ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء» اهـ. وقال ص20: «وقد رُوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في الحلي زكاة. وفي هذا الحديث مقال» اهـ. والنسائي في الصغرى، في الزكاة، باب: زكاة الحلي. حديث رقم: (2479، 2480) (5/ 38) وفي الكبرى، في الزكاة، باب: زكاة الحلي. حديث رقم: (2258، 2259) (2/ 19). والبيهقي في الكبرى (4/ 140)، وابن حزم في المحلى (6/ 78) وأشار لضعفه. (بعضهم يرويه مرسلاً وبعضهم موصولاً) وقد ذكر له ابن الجوزي في التحقيق أربع طرق، وقد أعلها ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1425) جميعًا. وقال الحافظ في الدراية (1/ 258): «صححه ابن القطان، وقال المنذري: لا علة له. قلت: أبدى له النسائي علة غير قادحة» اهـ. إلى أن قال: «وروى أحمد وابن أبي شيبة والترمذي من طريق المثنى بن الصباح وابن لهيعة وهما ضعيفان ... » اهـ .. وانظر: نصب الراية (2/ 370 - 371)، وقال في الإرواء (3/ 296): «وإسناده إلى عمرو عند أبي داود والنسائي وأبي عبيد جيد» اهـ. وانظر: آداب الزفاف ص256، صحيح أبي داود (1/ 291)، صحيح النسائي (2/ 523).

هذا الحديثُ أخرجَه أبو داودَ والنسائيُّ من طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ. والتحقيقُ أن روايةَ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ - مع ما فيها من الكلامِ - أنها يصحُّ الاحتجاجُ بها، وأنها ليست بضعيفةٍ. وقال الترمذيُّ في هذا الحديثِ: لم يَرِدْ من طريقٍ صحيحةٍ (¬1) وَذَكَرَهُ من طُرُقٍ كلُّها ضعيفةٌ، ولم يَطَّلِعْ على روايةِ حسينٍ الْمُعَلِّمِ له. والتحقيقُ أنه جاء من روايةٍ أَقَلُّ درجاتِها الحسنُ، فلا شَكَّ في الاحتجاجِ بهذا الحديثِ من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، وهذا روي أيضًا عن غيرها. وقد أخرج أبو داودَ في سُنَنِهِ أيضًا عن أُمِّ سَلَمَةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها كانت تَلْبَسُ أوضاحًا من ذَهَبٍ، فسألت رسولَ اللَّهِ فقالت: أَكَنْزٌ هو يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: «مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَأُدِّيَتْ زَكَاتُهُ لَيْسَ بِكَنْزٍ» (¬2) فهذا يدلُّ على أن الأوضاحَ التي تَتَزَيَّنُ بها ¬

(¬1) سنن الترمذي (3/ 20، 21). (¬2) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (1549) (4/ 426) والدارقطني (2/ 105)، والبيهقي في الكبرى (4/ 140) وعقبه بقوله: «وهذا يتفرد به ثابت بن عجلان» اهـ. وفي الصغرى (1/ 325 - 326)، والحاكم (1/ 390) وقال: «صحيح على شرط البخاري» اهـ. ووافقه الذهبي. وأخرجه الطوسي في مستخرجه على الترمذي (3/ 228) وقال: «هذا حديث حسن» اهـ. وذكره ابن حزم في المحلى (6/ 79) وعقبه بقوله: «عتاب مجهول» اهـ. وانظر: تنقيح التحقيق (2/ 1423، 1426)، نصب الراية (2/ 371). وقد حسن الألباني أحد طرقه في التعليق على المشكاة (1/ 568)، وصحيح أبي داود (1/ 291).

من حُلِيِّهَا أن فيها الزكاةَ. ويعتضدُ هذا بحديثِ عائشةَ (رضي الله عنها) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها وفي يدِها فَتَخَاتٌ من فضةٍ - والفتخاتُ: نوعٌ من الخواتمِ لا فصوصَ له، وقد يكونُ في أصابعِ اليدِ، وقد يُجْعَلُ في أصابعِ الرِّجْلِ- فقال: «مَا هَذِهِ؟» قالت: فقلتُ: شيءٌ صنعتُه لأَتَزَيَّنَ لكَ به! فقال: «أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهَا؟» قالت: لاَ، قال: «هُوَ حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ» (¬1). واستدلوا أيضًا بحديثِ أسماءَ بنتِ يزيدَ بنِ السكنِ قالت: دخلتُ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنا وخالتي، وعلينا أساورُ من ذهبٍ، فقال: «أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاةَ هَذَا؟» فقلنا: لا. فقال: «أَدِّيَا زَكَاتَهُ، أَيَسُرُّكُمَا أَنْ تُسَوَّرَا بِهِمَا سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» (¬2). فهذه أربعةٌ من ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (1550، 1551)، والدارقطني (2/ 105) وقال: «محمد بن عطاء مجهول» اهـ. والبيهقي في الكبرى (4/ 139 - 140)، وفي الصغرى (1/ 326) وعقبه بقوله: «وهذا إسناد حسن» اهـ. والحاكم (1/ 389) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ .. وابن زنجويه في الأموال (3/ 973 - 974) وذكره ابن حزم في المحلى (6/ 79) وقال: «يحيى بن أيوب ضعيف» اهـ. وقال الحافظ في التلخيص (2/ 178): «وإسناده على شرط الصحيح» اهـ. وصححه الألباني في الإرواء (3/ 297)، صحيح أبي داود (1/ 291). وانظر الكلام على الحديث في تنقيح التحقيق (2/ 1423، 1427)، نصب الراية (2/ 371). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 461)، والبيهقي (4/ 141). وقد أعله ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1423، 1426) بشهر بن حوشب، وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وعلي بن عاصم. وقال الحافظ في الدراية (1/ 259): «وفي إسناده مقال» اهـ. وانظر: نصب الراية (2/ 372).

أصحابِ رسولِ اللَّهِ يَرْوُونَ عنه وجوبَ الزكاةِ في الحليِّ: ابنُ عمرِو بنِ العاصِ، وَأُمُّ سلمةَ، وعائشةُ، وأسماءُ بنتُ يزيدَ، وَعَضَّدُوا هذا أيضًا بالقياسِ. وَوَرَدَ فيه آثارٌ عن الصحابةِ أيضًا، كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ يأمرُ خازنَه أن يُخْرِجَ زكاةَ حُلِيِّ بناتِه (¬1). واستدلوا بالقياسِ، قالوا: تجبُ الزكاةُ في الذهبِ والفضةِ في المصوغِ منهما كما جَازَتْ في المسكوكِ والمسبوكِ، بجامعِ أن الكلَّ أصلُه من ذهبٍ وفضةٍ، أصلُه من عَيْنٍ وَجَبَتْ فيها الزكاةُ. واحتجوا بوضعِ اللغةِ، قالوا: إن أصلَ الْحُلِيِّ المصوغِ أصلُه يقال له ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، والصنعةُ لا تُذْهِبُ حكمَ الأصلِ، ولا تنقلُ اسمَه من كُلِّ الوجوهِ. هذا حاصلُ ما احتجَّ به هؤلاءِ، وما احتجَّ به هؤلاء، ومعلومٌ أن العقولَ إذا ازْدَحَمَتْ في مثلِ هذا وتشابهتِ الأدلةُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْقَى على مثل هذا أنوارًا نبويةً وأضواءً عظيمةً من ضوءِ النبوةِ تُبَيِّنُ المخرجَ الصحيحَ منه، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ» (¬2)، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 154)، وعبد الرزاق (4/ 84)، وأبو عبيد في الأموال ص398، 445، والدارقطني (2/ 107)، والبيهقي في الكبرى (4/ 139)، وابن زنجويه في الأموال (3/ 975). وانظر: نصب الراية (2/ 374). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (3/ 117 - 118)، والطيالسي ص163، والدارمي (2/ 161)، وأحمد (1/ 200)، والترمذي في أبواب صفة القيامة، باب (60). حديث رقم: (2518) (4/ 668)، والنسائي في الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهات. حديث رقم: (5711) (8/ 327) والحاكم (2/ 13) (4/ 99)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ. وابن حبان (الإحسان 2/ 52)، والطبراني (3/ 75 - 76)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 264)، وأبو يعلى (12/ 132). من حديث الحسن بن علي (رضي الله عنهما). وصححه الألباني في الإرواء (7/ 155)، غاية المرام ص130 - 131، المشكاة (2/ 845)، صحيح الترمذي (2/ 309)، ظلال الجنة ص179. وللحديث شاهد من حديث واثلة بن الأسقع (رضي الله عنه) عند أبي يعلى (13/ 476)، والطبراني (22/ 78) وقال في المجمع (10/ 294): «وفيه عبيد بن القاسم وهو متروك) اهـ. ومن حديث أنس (رضي الله عنه) (موقوفًا) عند أحمد (3/ 112، 153). ومن حديث ابن عمر عند الطبراني في الصغير (1/ 102) وعقبه بقوله: «تفرد به عبد الله بن أبي رومان» اهـ. قال الألباني في الإرواء (7/ 156) وهو ضعيف، «وبقية رجاله ثقات» اهـ. وذكره الخطيب في التاريخ (2/ 220)، (6/ 386)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 352). وقال الألباني في ضعيف الجامع (2974): موضوع.

«فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» (¬1) فلا ينبغِي للإنسانِ إلا أن يزكيَ حُلِيَّ امرأتِه وبناتِه للخروجِ من عهدةِ التكليفِ؛ لأن مَنْ زَكَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا منه بلا نزاعٍ، وَمَنْ [لم يُزَكِّهِ] (¬2) كان في قيلٍ وقال، جماعةٌ يقولونَ: لاَ عليكَ، وجماعة يقولونَ: إن زكاةَ الحليِّ واجبٌ. ومما يدخلُ تحتَ هذه المسألةِ: زكاةُ العروضِ الْمُعَدَّةِ للبيعِ والشراءِ (¬3). أَجْمَعَ عامةُ علماءِ المسلمينَ على أن عروضَ التجارةِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه. حديث رقم: (52) (1/ 126). وأخرجه في موضع آخر برقم: (2051)، ومسلم في المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات. حديث رقم: (1599) (3/ 1219). (¬2) في الأصل: «زكاة». وهو سبق لسان. (¬3) انظر: المبسوط (2/ 190)، المحلى (6/ 114)، المجموع (6/ 47)، المغني (4/ 249 - 262)، الموسوعة الفقهية (23/ 268)، الأضواء (2/ 457).

تجبُ فيها الزكاةُ، وأنها تُزَكَّى مثلَ زكاةِ العينِ، تُقَوَّمُ عند الْحَوْلِ، ما يُشْتَرَى منها بالذهبِ يُقوَّمُ بالذهبِ، وما يُشْتَرَى بالفضةِ يُقوَّمُ بالفضةِ. قال هذا بعضُ العلماءِ، ثم يُخْرَجُ ربعُ عُشْرِهَا، وهذا لا نعلمُ خلافًا فيه إلا شيء يُروى عن داودَ الظاهريِّ وبعضِ أتباعِه (¬1). وأما عامةُ الصحابةِ، وفقهاءُ الأمصارِ، ومنهم الأئمةُ الأربعةُ، وأتباعُهم، على وجوبِ الزكاةِ في عروضِ التجارةِ، واستدلوا لذلك بِأَدِلَّةٍ منها أحاديثُ جاءت بذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم منها: ما أَخْرَجَهُ الحاكمُ بِإِسْنَادَيْنِ وقال: «كلاهما صحيحٌ على شرطِ الشيخينِ» وأخرجَه الدارقطنيُّ والبيهقيُّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «فِي الإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا» (¬2) وَالْبَزُّ: يشملُ جميعَ ما يُلْبَسُ وهذه من ¬

(¬1) انظر: المحلى (6/ 114). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 213)، وأحمد (5/ 179)، والترمذي في العلل الكبرى (1/ 307) وعقبه بقوله: «سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس. يقول: حُدّثت عن عمران بن أبي أنيس» اهـ. وابن زنجويه في الأموال (2/ 783)، والبزار (9/ 340)، والبيهقي (4/ 147)، والحاكم (1/ 388) وقال: «على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. وتعقبه ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1438) بقوله: «وفيه نظر» اهـ. وأخرجه الدارقطني (2/ 101 - 102). (بألفاظ متقاربة). والحديث ضعفه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/ 388)، (5/ 55 - 56)، وذكر له الحافظ في التلخيص (2/ 179) أربعة طرق - وهي عند الدارقطني - فضعف - الحافظ - ثلاثة منها وقال عن الرابع: «وهذا إسناد لا بأس به» اهـ. وقال عن الحديث في الدراية (1/ 260): «وإسناده حسن» اهـ. وانظر في الكلام عليه في: تنقيح التحقيق (2/ 1436 - 1437)، إتحاف المهرة (14/ 181) نصب الراية (2/ 376)، أضواء البيان (2/ 458).

عروضِ التجارةِ. وهذا الحديثُ فيه مناقشاتٌ طويلةٌ عريضةٌ معروفةٌ يطولُ ذِكْرُهَا. وجميعُ هذه المسائلِ قد بَيَّنَّا مناقشاتِ العلماءِ فيها في الذهبِ والفضةِ، والتجاراتِ، والمعادنِ، والديونِ في كتابنا: (أضواء البيان) في الكلامِ على هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ براءةٍ (¬1). والحاصلُ: أنه جاء عن أبي ذَرٍّ وعن سَمُرَةَ بنِ جندبٍ الفزاريِّ (رضي الله عنه) كِلاَهُمَا جاء عنه حديثٌ يدلُّ على زكاةِ عروضِ التجارةِ، أما حديثُ أبي ذَرٍّ فقد ذَكَرْنَاهُ. وأما حديثُ سمرةَ بنِ جندبٍ الذي رَوَاهُ عنه أبو داودَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يأمرُنا أن نُخْرِجَ الزكاةَ مِمَّا نُعِدُّ للبيعِ (¬2). وفي مناقشاتٍ طويلةٍ عريضةٍ، فَمِنْ مضعِّف ¬

(¬1) الأضواء (2/ 434) فما بعدها. (¬2) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ حديث رقم: (1547) (4/ 424)، والدارقطني (2/ 127)، والبيهقي في الكبرى (4/ 146 - 147)، والصغرى (1/ 327)، والطبراني في الكبرى (7/ 253، 257)، وذكره ابن حزم في المحلى (5/ 234) وقال: «أما حديث سمرة فساقط؛ لأن جميع رواته ما بين سليمان بن موسى وسمرة (رضي الله عنه) مجهولون لا يُعرف من هم» اهـ. وقال الهيثمي في المجمع (3/ 69): «في إسناده ضعف» اهـ. وقال الذهبي في الميزان (1/ 408) عن سلسلة هذا الإسناد: «وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم» اهـ. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1435): «انفرد أبو داود بإخراج هذا الحديث وإسناده حسن غريب» اهـ. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسنه ابن عبد البر، وضعفه الحافظ في التلخيص (2/ 179)، والدراية (1/ 260) والألباني في التعليق على المشكاة (1/ 568)، ضعيف أبي داود ص154. وانظر: بيان الوهم والإيهام (5/ 139)، إتحاف المهرة (6/ 30)، تنقيح التحقيق (2/ 1435) التعليق المغني على الدارقطني (2/ 127 - 128)، أضواء البيان (2/ 459 - 460).

ومصحِّح، وجماعةٌ صَحَّحُوا حديثَ الحاكمِ، وصحَّحه الحاكمُ، وانتصرَ كثيرٌ لتصحيحِه، ولا شَكَّ أنه معتضدٌ بإجماعِ المسلمينَ في عهدِ الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم على أن عروضَ التجارةِ تجبُ فيها الزكاةُ. وقد ثَبَتَ عن عمرَ بنِ الخطابِ (رضي الله عنه) أنه أَخَذَ زكاةَ الجلودِ من حِمَاس، فعن أبِي عمرِو بنِ حِمَاس أن أباه مَرَّ بعمرَ بنِ الخطابِ يحملُ جلودًا فقال: هل أديتَ زكاةَ هذا؟ - في جلودٍ يَتَّجِرُ بها - فقال: لاَ، قال: هذا مالٌ، فحسبوه فوجدوا الزكاةَ قد وَجَبَتْ فيه، فأخذ منه زكاةَ الجلودِ (¬1). فهذا ثابتٌ عن عمرَ بنِ الخطابِ ولم يُخَالِفْهُ أحدٌ من الصحابةِ، فالتحقيقُ الذي لا شَكَّ فيه وجوبُ الزكاةِ في عروضِ التجارةِ. ما زكاةُ الديونِ، وهل تَمْنَعُ الديونُ الزكاةَ من المالِ أو لا (¬2)؟ فليس في ذلك شيءٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يَرِدْ عن رسولِ اللَّهِ شيءٌ في زكاةِ الدَّيْنِ، ولا هَلْ هو مُسْقِطٌ للزكاةِ أو لا؟ والعلماءُ مختلفونَ فيه، فاختلفوا في زكاةِ الدَّيْنِ، فكان مالكُ بنُ أنسٍ - رحمه الله - ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 183)، والشافعي (شفاء العي بتخريج وتحقيق مسند الشافعي (1/ 414)، وفي الأم (2/ 46)، وأبو عبيد في الأموال ص384، وعبد الرزاق (4/ 96)، والبيهقي (1/ 327)، وابن زنجويه في الأموال (3/ 941 - 942)، وذكره ابن حزم في المحلى (5/ 234 - 235) وقال: «وأما حديث عمر فلا يصح؛ لأنه عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه، وهما مجهولان» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (2/ 180). (¬2) انظر: المبسوط (2/ 194)، المحلى (6/ 103)، المجموع (6/ 20)، المغني (4/ 269)، الموسوعة الفقهية (23/ 238).

يرى على التاجرِ المديرِ (¬1) أن يزكيَ دينَه، يزكي الحالَّ منه على الْمُوسِرِينَ بالعددِ، والمؤجلَ يزكيه بالقيمةِ؛ لأنه يُزَكِّي الدَّيْنَ مع عروضِ التجارةِ. وإذا كان الدَّيْنُ على حالٍّ مَلِيءٍ موسرٍ مُقِرٍّ وعليه بَيِّنَةٌ فَمَالِكٌ يقولُ: إن مثلَ هذا كمثلِ الشيءِ الذي في صندوقِه؛ لأَنَّ القدرةَ على التحصيلِ حصولٌ، فَيُزَكِّيهِ بالعددِ، وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال آخرونَ: لاَ يُزَكِّيهِ إلا إذا قَبَضَهُ. في تشاعيبَ وأقوالٍ معروفةٍ. وهل يُسْقِطُ الدَّيْنُ الزكاةَ أو لا (¬2)؟ لا نَصَّ فيه عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والعلماءُ مختلفونَ فيه، وأقوالُهم مع كثرتِها متشابهةٌ ترجِع إلى ثلاثةِ مذاهبَ: قومٌ قالوا: إن الدَّيْنَ لا يُسْقِطُ شيئًا من الزكاةِ، وقومٌ قالوا: يُسْقِطُهَا كُلَّهَا. وقومٌ فَرَّقُوا بينَ الأموالِ الظاهرةِ والباطنةِ، قالوا: يُسْقِطُ الدَّيْنُ الزكاةَ في الأموالِ الباطنةِ. والأموالُ الباطنةُ: هي الذهبُ، والفضةُ، وعروضُ التجارةِ، فهذه يُسْقِطُهَا الدَّيْنُ. والأموالُ الظاهرةُ: هي المواشِي والثمارُ والحبوبُ والمعادنُ، قالوا: زكاةُ هذه لا يُسْقِطُهَا الدَّيْنُ؛ لأنها ظاهرةٌ، والزكاةُ واجبةٌ في عَيْنِهَا في أقوالٍ معروفةٍ. ومن المسائلِ التي اختلفوا فيها: زكاةُ المعادنِ (¬3) وَقَدْرُ ¬

(¬1) قال في الأضواء (2/ 457): «فالمدير: هو الذي يبيع ويشتري دائمًا، والمحتكر: هو الذي يشتري السلع ويتربص بها حتى يرتفع سعرها، وإن لم يرتفع سعرها لم يبعها ولو مكثت سنين» اهـ. (¬2) انظر: المبسوط (2/ 197)، المحلى (6/ 99، 101)، المغني (4/ 263)، الموسوعة الفقهية (23/ 245)، أضواء البيان (2/ 462). (¬3) انظر: المحلى (6/ 108)، المجموع (6/ 75)، القرطبي (3/ 323 - 324)، المغني (4/ 238)، الموسوعة الفقهية (38/ 197)، أضواء البيان (2/ 466).

الواجبِ فيها، فَذَهَبَ مالكٌ والشافعيُّ أنه: لا يَجِبُ في زكاةِ المعادنِ إلا في معدنِ الذهبِ والفضةِ خاصةً؛ لأن الذهبَ والفضةَ من [الأصناف التي فيها] (¬1) الزكاةُ، وجمهورُ العلماءِ منهم مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على أن زكاةَ المعدنِ ربعُ العشرِ، وفي مذهبِ مالكٍ والشافعيِّ: أن المعدنَ إذا كان معدنَ ذهبٍ أو فضةٍ كل ما يخرج منه من ذهبٍ وفضةٍ أُدِّيَتْ منه زكاتُه حالاًّ ولم يُنتظر به الحولَ، وهي ربعُ العشرِ، ولا زكاةَ عندهما في معدنٍ إلا إذا كان ذَهَبًا أو فضةً. وكان الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ (رحمه الله) يقولُ: تجبُ الزكاةُ في جميعِ المعادنِ، سواء كانت من الذهبِ والفضةِ، أو من الحديدِ والنحاسِ والرصاصِ أو الزجاجِ والزرنيخِ وسائر المعادن، حتى المعادن السائلة كالقارِ والنفطِ فإنها تجبُ فيها الزكاةُ عندَه، فزكاتُها عندَه ربعُ العشرِ. أما الإمامُ أبو حنيفةَ (رحمه الله) فإن الواجبَ عندَه من المعادنِ الْخُمْسُ؛ لأنه يرى الخُمسَ من الركازِ، وقد جاء في ذلك حديثٍ أنه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الركازِ؟ [6/ب] / وأنه قال: «الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمَخْلُوقَانِ فِي الأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (¬2)، وهذا الحديثُ لاَ يَصِحُّ. ¬

(¬1) في الأصل: من الذين فيهما الزكاة. (¬2) أصل الحديث (وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس») متفق عليه، والزيادة المذكورة عند البيهقي في الكبرى (4/ 152) وعقبه بقوله: «تفرد به عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف جِدًّا جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وجماعة من أئمة الحديث. وقال الشافعي: في رواية أبي عبد الرحمن الشافعي البغدادي عنه: قد روى أبو سلمة وسعيد وابن سيرين ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس» ولم يذكر أحد منهم شيئًا من الذي ذكر المقبري في حديثه، والذي روى ذلك شيخ ضعيف إنما رواه عبد الله بن سعيد المقبري، وعبد الله قد اتقى الناس حديثه فلا يُجعل خبر رجل قد اتقى الناس حديثه حجة» اهـ. وأخرجه أبو يعلى (6609) بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (3/ 78) وقال: «فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد وهو ضعيف» اهـ وذكره ابن عدي في الكامل (2/ 833) وقال: «هذا الحديث أخطأ إبراهيم بن راشد على الدولابي ... والبلاء في هذا الحديث من إبراهيم بن راشد لا من الدولابي ولا من ابن حبان» اهـ. وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 9) بلفظ أبي يعلى وقال: «قال الدارقطني: هذا وهم؛ لأن هذا ليس من حديث الأعمش ولا من حديث أبي صالح، إنما يرويه رجل مجهول عن آخر عن أبي هريرة» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (2/ 182)، نصب الراية (2/ 380).

ولا تجبُ الزكاةُ في المعادنِ عندَ أبِي حنيفةَ إلا فيما ينطبعُ منها كالذهبِ والفضةِ والحديدِ والنحاسِ والرصاصِ، وما جرى مجرَى ذلك. ومن ذلك قولٌ له وَجْهٌ من النظرِ قالت به جماعاتٌ من العلماءِ: أن المعدنَ إذا كان في استخراجِه كُلْفَةٌ ونفقاتٌ أن زكاتَه ربعُ العشرِ، وإذا كان يَخْرُجُ بِلاَ كُلْفَةٍ ولا مَشَقَّةٍ أن زكاتَه الخمسُ. وَأَجْمَعَ المسلمونَ على أن الركازَ فيه الخمسُ (¬1)، واشترط الشافعيُّ أن يكونَ الركازُ من ذهبٍ أو فضةٍ، وعامةُ العلماءِ على خِلاَفِهِ، والركازُ عند غيرِ أبِي حنيفةَ: دَفْنٌ جَاهِلِيٌّ، وعندَ أبِي حنيفةَ يشملُ جميعَ المعادنِ. هذه أقوالُ العلماءِ ذَكَرْنَاهَا مُخْتَصَرَةً، وقد أَوْضَحْنَاهَا في كتابِنا الذي أَشَرْنَا إليه. ¬

(¬1) انظر: المجموع (6/ 75)، القرطبي (3/ 322 - 324)، المغني (4/ 231 - 238)، الموسوعة الفقهية (23/ 98)، أضواء البيان (2/ 469).

( ... ) (¬1) بهمزةٍ محققةٍ، وقرأه ورشٌ وحدَه عن نافعٍ: {إنما النسيُّ زيادة في الكفر} [التوبة: آية 37] بياءٍ مشددةٍ، وما زَعَمَهُ بعضُهم - وقال به ابنُ جريرٍ - من أن قراءةَ ورشٍ هذه عن نافعٍ غَلَطٌ (¬2). خلافُ التحقيقِ، بل هي قراءةٌ سبعيةٌ صحيحةٌ لاَ كلامَ فيها، قرأ بها ورشٌ عن نافعٍ {إنما النَّسِيُّ زيادةٌ في الكفرِ} أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ كما يقرأ بعضُ القراءِ: {النبيء} بالهمزةِ وبعضُهم يقرأُ {النبيُّ} (¬3) بتشديدِ الياءِ (¬4). وقرأَ قولَه: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأه نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ وشعبةُ عن عاصمٍ: {يَضِلَّ به الذين كفروا} بفتحِ الياءِ وكسرِ الضادِ، مضارعُ (ضَلَّ يَضِلُّ) مُجَرَّدًا لاَزِمًا، وقرأه حمزةُ والكسائيُّ وحفصٌ عن عاصمٍ: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِضَمِّ ¬

(¬1) ذهب جزء من التسجيل في هذا الموضع، ويمكن أن نستدرك بعض النقص فننقل القراءات الواردة في {النسيء} عن كتاب «السبعة» لابن مجاهد ص314، حيث يقول: "اتفقوا على همز {النَّسِيءُ} ومده وكسر سينه، إلا ما حدثني به محمد بن أحمد بن واصل، عن محمد بن سعدان، عن عبيد بن عقيل، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ: {إنما النَّسْءُ زيادة} في وزن (النَّسْعُ). وحدثني ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن خلف، عن عبيد، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ: {إنما النَّسِيُّ} مشددة الياء غير مهموزة. وقد رُوي عن ابن كثير: {النَّسْيُ} بفتح النون وسكون السين وضم الياء مخففة. والذي قرأت به على قنبل: {النَّسِيءُ} بالمد والهمز مثل أبي عمرو. والذي عليه الناس بمكة، {النَّسِيءُ} ممدودة» اهـ. (¬2) تفسير ابن جرير (14/ 244). (¬3) تقدمت عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام. (¬4) انظر: البحر المحيط (5/ 39)، الدر المصون (6/ 46).

الياءِ وفتحِ الضادِ مَبْنِيًّا للمفعولِ (¬1). أما قراءةُ {يَضَلُّ به الذين كفروا} و {يُضِلُّ به الذين كفروا} فليستَا سَبْعِيَّتَيْنِ (¬2). وقرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: {زُين لهم سُوءُ وَعْمالهم} بإبدالِ الهمزةِ الثانيةِ واوًا. وقرأه غيرُهم من السبعةِ: {سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} بتحقيقِ الهمزةِ الثانيةِ (¬3). هذه هي القراءاتُ السبعيةُ في الآيةِ. وسببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ هو ما أَشَرْنَا إليه أن الكفارَ كانوا يتلاعبونَ في الأشهرِ الْحُرُمِ (¬4)، وبعضُهم يقولُ: في أشهرِ الحجِّ، فَيُحَرِّمُونَ منها ما لم يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، ويحلونَ ما لم يُحَلِّلْهُ اللَّهُ (¬5). فَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) في هذه الآيةِ أن ذلك كفرٌ على كفرٍ، أنه كفرٌ ازْدَادُوا به كُفْرًا على كفرهم الأولِ. والعلماءُ مختلفونَ في أولِ مَنْ سَنَّ هذه السنةَ السيئةَ الخبيثةَ، وهي سنةُ النسيءِ. فكان بعضُ العلماءِ يقولُ: أولُ مَنْ أَحْدَثَهُ الملعونُ عمرُو بنُ لحيِّ بنِ قمعةَ بنِ إلياسَ بنِ مضرَ، وهو الخبيثُ الذي هو أولُ مَنْ جاء بالأصنامِ إلى جزيرةِ العربِ، وهو أولُ مَنْ بَحَّرَ البحائرَ فيها، وَسَيَّبَ السوائبَ، وَغَيَّرَ معالمَ دينِ إبراهيمَ التي كانت في جزيرةِ ¬

(¬1) انظر: السبعة ص314. (¬2) انظر: المحتسب (1/ 288 - 289). (¬3) انظر: الإتحاف (2/ 91). (¬4) كما أخرج ذلك ابن جرير (14/ 245) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬5) أخرج ذلك ابن جرير (14/ 248) عن مجاهد.

العربِ عليه لعائنُ اللَّهِ (¬1). وأكثرُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أولَ مَنْ سَنَّ هذه السنةَ القبيحةَ قومٌ من بطنٍ من بَنِي كنانةَ يُسَمَّى بني فقيمٍ، وهم من أولادِ مالكِ بنِ كنانةَ، يزعمُ العربُ أنهم كانوا مُتَمَسِّكِينَ بدينِ إبراهيمَ، وكانوا يُشَرِّعُونَ لهم ما شاؤوا، ويتبعونَهم فيما شاؤوا، يقال: إن أولَ مَنْ فَعَلَ ذلك منهم رجلٌ يُسَمَّى نعيمَ بنَ ثعلبةَ (¬2). والذي قاله غيرُ واحدٍ من المؤرخينَ وأوضحَه ابنُ إسحاقَ في سيرتِه أن أولَ مَنْ فَعَلَ هذا منهم رجلٌ يُسَمَّى القَلَمَّسَ. والدليلُ على ذلك موجودٌ في أشعارِهم. واسمُ القَلَمَّسِ هذا حذيفةُ بنُ عبيدِ بنِ فقيمٍ، وبنو فقيمٍ بطنٌ من بني مالكِ بنِ كنانةَ. كان هذا الرجلُ الذي هو حذيفةُ المعروفُ بالقلمَّسِ يقولُ لهم: سأؤخرُ عنكم تحريمَ المحرَّم وأنسؤه إلى صَفَرٍ، فاذهبوا فَقَاتِلُوا في المحرَّم فإني حَوَّلْتُ حرمتَه إلى صفر. فَهُمْ يتبعونَه، ثم لَمَّا مَاتَ القَلَمَّسُ قام بهذا الأمرِ بعدَه ابنُه العبادُ بنُ القَلَمَّسِ، فكان يُحِلُّ لهم هذا التحليلَ وهذا التحريمَ، ثم لَمَّا مَاتَ العبادُ قام به بعدَه ابنُه قَلَعُ بنُ عبادٍ، ثم لَمَّا مَاتَ قام به بعدَه ابنُه أميةُ بنُ قَلَعِ بنِ عبادٍ، ثم لَمَّا مات قام به بعدَه ابنُه عوفُ بنُ أميةَ، ثم لَمَّا مات قام به بعدَه ابنُه جنادةُ بنُ عوفٍ المعروفُ بأبي ثمامةَ، كنيتُه ككنيةِ مسيلمةَ الكذابِ، وهو الذي قام عليه الإسلامُ وهو بهذه السُّنةِ السيئةِ الخبيثةِ. كانوا إذا انتهت أيامُ حَجِّهِمُ وَانْقَضَتْ أيامُ مِنَى ذهبوا إلى هذا الرجلِ الذي هو أبو ثمامةَ جنادةُ بنُ عوفِ بنِ أميةَ الكنانيُّ فيقولُ: أنا الذي لاَ يُعَابُ ولا يُجَابُ، ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 138). (¬2) السابق.

ولا مَرَدَّ لِمَا أقولُ، أَخَّرْتُ عنكم تحريمَ المحرمِ إلى صفر (¬1). فيتبعونَه، فجاء الإسلامُ بتغييرِ هذا وَرَدِّ كُلِّ شيءٍ إلى مَحَلِّهِ. وقد ذَكَرْنَا أن العلماءَ اختلفوا في الأشهرِ الحرمِ هل حرمتُها باقيةٌ إلى الآن؟ ويكونُ مَنْ نَسَأَ النسيءَ الآنَ ازدادَ كفرًا وَفَعَلَ كفرًا. أو هي منسوخةٌ ولا تحريمَ في الأشهرِ الحرمِ، وأن قتالَ العدوِّ يجوزُ في جميعِ الأشهرِ (¬2)؟ وَذَكَرْنَا أن المشهورَ عند العلماءِ الذي عليه الأكثرُ أنه قد نُسِخَ تحريمُ الأشهرِ الحرمِ، واستدلوا على ذلك بظواهرِ آياتٍ ليست صريحةً في ذلك، وَمِنْ أصرحِ ما استدلوا به هو ما ذَكَرْنَا من أنه ثَبَتَ في الصحيحينِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ ثَقِيفًا في غزوةِ الطائفِ بَعْضًا من ذِي القعدة (¬3). وهذا ثابتٌ في الصحيحينِ ثُبُوتًا لاَ مَطْعَنَ فيه. قالوا: لم تنسخ لما حَاصَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثقيفًا في ذي القعدةِ وهو شهرٌ حَرَامٌ. وقد ذَكَرْنَا أن الذي كان يظهرُ لنا وننصرُه أن تحريمَ الأشهرِ الحرمِ قد نُسِخَ، وأن الذي تَحَقَّقْنَاهُ بعدَ ذلك وَصِرْنَا نجزمُ به أنها باقيةُ التحريمِ إلى الآن، ولم يُنْسَخْ تحريمُها، كما كان يُقْسِمُ عليه عطاءُ بنُ أبي رباحٍ (رحمه الله)، كان يحلفُ أن حرمتَها باقيةٌ (¬4). وَمِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في ذلك هو الحديثُ الذي أَشَرْنَا إليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ به يومَ النحرِ في حجةِ ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (14/ 245). وذكره ابن هشام في السيرة ص56. (¬2) مضى عند تفسير الآية (5) من سورة التوبة. (¬3) السابق. (¬4) أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 207، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (1/ 535)، وابن جرير (4/ 314).

الوداعِ عامَ عَشْرٍ، ولم يَعِشْ بعد ذلك إلا نحوَ ثمانينَ يومًا، وقد صَرَّحَ فيه بأن ذلك الشهرَ حرامٌ، وذلك اليومَ حرامٌ، وذلك البلدَ حرامٌ (¬1)، ولم يَأْتِ بعدَ ذلك شيءٌ يَنْسَخُ هذا التحريمَ الثابتَ عنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). وهذه الآيةُ الكريمةُ قبلَ أن نشرعَ في تفسيرِها نشيرُ إلى أن فيها حُكْمًا يجبُ على كُلِّ مسلمٍ أن يعتبرَ به وينظرَه؛ لأن هؤلاء القومَ كفارٌ، كانوا يسجدونَ للأصنامِ، فَلَمَّا أَحَلَّ لهم رَجُلٌ شيئًا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَحَرَّمَ عليهم شيئًا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وهم يعلمونَ أن اللَّهَ حرَّم تلك الأشهرَ الحُرمَ، ولا يَشُكُّونَ في ذلك، وأن هذا الرجلَ الكنانيَّ أحلَّ لهم ما حرَّمه اللَّهُ، وحرَّم عليهم ما أحلَّه اللَّهُ، فاتبعوا تحريمَ هذا الإنسانِ، فَصَرَّحَ اللَّهُ بأن هذا كفرٌ جديدٌ ازْدَادُوهُ إلى كفرِهم الأولِ. فهذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ براءة مِنْ أَصْرَحِ النصوصِ القرآنيةِ في أن كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وتشريعًا غيرَ تشريعِ اللَّهِ، وقانونًا غيرَ قانونِ اللَّهِ، أنه كافرٌ بالله، إن كان يزعمُ الإيمانَ فقد كَفَرَ، وإن كان كافرًا فقد ازْدَادَ كُفْرًا جديدًا إلى كفرِه الأولِ. والآياتُ الدالةُ على هذا المعنَى لاَ تكادُ تُحْصِيهَا في هذا المصحفِ الكريمِ، الذي هو أعظمُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ من السماءِ إلى الأرضِ، وهو آخِرُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على أكرمِ نَبِيٍّ، وآخِرُ نَبِيٍّ جَمَعَ فيه له علومُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. وسنذكرُ لكم طرفًا من ذلك كما ذَكَرْنَاهُ قبلَ هذا مرارًا (¬2) نُبَيِّنُ به أن الحلالَ هو ما أحلَّه اللَّهُ، والحرامَ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينَ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وأن كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ نظامًا وتشريعًا وقانونًا - ولو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ - غيرَ ما أَنْزَلَهُ اللَّهُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (5) من هذه السورة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

في وحيِه على نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أنه كافرٌ بذلك، فإن كان كافرًا قَبْلَهُ ازْدَادَ كُفْرًا جديدًا إلى كفرِه الأولِ، وإن كان يزعمُ الإيمانَ فقد جاءَ بما يَكْفُرُ به. وَمِنْ أصرحِ الأدلةِ في هذا: المناظرةُ العظيمةُ المشهورةُ التي وَقَعَتْ بينَ الكفارِ والمسلمينَ في حُكْمٍ مِنْ أحكامِ الحلالِ والحرامِ، فالمسلمونَ يقولونَ: إن هذا الأمرَ حرامٌ. ويستدلونَ بنصٍّ من نصوصِ الوحيِ. وحزبُ الشيطانِ وتلامذتُه وأتباعُه يقولونَ: إن هذا الحكمَ حلالٌ. ويستدلونَ على ذلك بفلسفةٍ من وَحْيِ الشيطانِ. ويأتِي كلٌّ منهم بدليلِه، فلما تَحَاجُّوا وتخاصموا وحصلَ الجدالُ بينَهم في ذلك أَفْتَى اللَّهُ تعالى بنفسِه فتوى سماويةً تُتْلَى علينا قُرْآنًا في سورةِ الأنعامِ، وإيضاحُ هذا: أن الشيطانَ - لعنَه اللَّهُ - جاء كفارُ قريشٍ وقال لهم: سَلُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الشاةِ تُصْبِحُ ميتةً، مَنْ هُوَ الذي قَتَلَهَا؟ فأجابهم: اللَّهُ قَتَلَهَا. فقالوا: إِذَنْ ما ذبحتموه بأيديكم حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ بسكينٍ من ذَهَبٍ تقولونَ: هو حرامٌ، فأنتم إِذَنْ أحسنُ من الله!! فأنزلَ اللَّهُ في ذلك بإجماعِ العلماءِ في سورةِ الأنعامِ هذه الفتوى السماويةَ بعد أن بَيَّنَ اللَّهُ خصامَ المتخاصمينَ فيها فقال: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الميتة. وإن زعم حزبُ الشيطانِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأن ما قَتَلَهُ اللَّهُ أحلُّ مما قتله الناسُ. ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الضميرُ في قولِه: {إِنَّهُ} راجعٌ إلى المصدرِ الكامنِ في جوفِ الفعلِ الصناعيِّ في قولِه: {تَأْكُلُوا} أي: وإنه أي: الأكلُ من الميتةِ {لَفِسْقٌ} أي: خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، وإن زَعَمَ حزبُ الشيطانِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأن ما قَتَلَهُ اللَّهُ أَحَلُّ وَأَطْهَرُ مما قَتَلَهُ الناسُ. ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} {لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وحي الشيطانِ {لِيُجَادِلُوكُمْ} بالوحيِ

الشيطانيِّ، وهو قولُهم: ما ذبحتُموه حلالٌ، وما قتلَه اللَّهُ حرامٌ، فأنتم إذًا أحسنُ من اللَّهِ!! ثم أَفْتَى اللَّهُ الفتوى السماويةَ التي تَتَرَدَّدُ في آذانِ الخلقِ مساءً وصباحًا بقولِه: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] وإن أطعتُم أتباعَ الشيطانِ في تحليلِ ما حرَّمه اللَّهُ {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} بالله شِرْكًا أكبرَ، كما قال في هؤلاءِ {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] وهذا الشركُ شركٌ أكبرُ مُخْرِجٌ عن الملةِ؛ لأنه شركُ طاعةٍ، وشركُ الطاعةِ شركٌ في الْحُكْمِ، والشركُ في الحكمِ كالشركِ في العبادةِ لاَ فرقَ بينهما الْبَتَّةَ؛ لأن اللَّهَ هو الملكُ الجبارُ العظيمُ الأعظمُ لاَ يرضَى أن يكونَ معه شريكٌ في عبادتِه ولا أن يكونَ معه شريكٌ في حكمِه سبحانَه (جلَّ وعلا) أن يكونَ له شريكٌ في عبادتِه أو شريكٌ في حكمِه، وقد بَيَّنَ هذين الأمرين في سورةٍ واحدةٍ من كتابِه وهي سورةُ الكهفِ، فقال في الإشراكِ به في عبادتِه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110] وقال في الإشراكِ به في حُكْمِهِ: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26] فَمَنِ اتَّخَذَ تشريعًا غيرَ تشريعِ اللَّهِ، واتبع نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وقانونًا غيرَ ما شَرَعَهُ اللَّهُ - سواءً سَمَّاهُ نظامًا أو دستورًا، أو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ - هو كافرٌ بالله؛ لأنه يُقَدِّمُ ما شَرَعَهُ الشيطانُ على ألسنةِ أوليائِه مما جُمِعَ من زبالاتِ أذهانِ الكفرةِ على نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) على رُسُلِهِ لِيُسْتَضَاءَ به في أرضِه، وَتُنْشَرَ به عدالتُه وطمأنينتُه ورخاؤُه في الأرضِ. وهذا مِمَّا لا نزاعَ فيه، وهذا الشركُ الذي هو شركُ اتباعٍ، اتباعِ

قانونٍ ونظامٍ وتشريعٍ هو الذي يُوَبِّخُ اللَّهُ مرتكبَه يومَ القيامةِ على رؤوسِ الأشهادِ في سورةِ يَس في قولِه تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ... } [يس: آية 60] ما عَبَدُوا الشيطانَ بأن سجدوا للشيطانِ، ولا ركعوا للشيطانِ، ولا صاموا له، ولا صلوا، وإنما عبادتُهم للشيطانِ هي اتباعُ مَا سَنَّ لهم من النظمِ والقوانين من الكفرِ بالله ومعاصِي اللَّهِ. ثم قال: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} [يس: الآيتان 61، 62] أي: خلائقَ كثيرةً لاَ تُحْصَى. ثم وَبَّخَ عقولَهم فقال: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: آية 62] ثم ذَكَرَ المصيرَ النهائيَّ للذي كان يتبعُ نظامَ إبليسَ، وقانونَ الشيطانِ في دارِ الدنيا ذَكَرَ مصيرَه النهائيَّ في قولِه: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} الآيات ... [يس: الآيتان 63، 64]. وهذا هو معنَى قولِ إبراهيمَ: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] أي: لا تَتَّبِعْ ما شَرَعَ لكَ الشيطانُ وَسَنَّهُ من الكفرِ باللَّه، ومعاصِي اللَّهِ، وهو معنَى قولِه: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا} [النساء: آية 117] أي: ما يدعونَ إلا الشيطانَ، وهو دعاءُ عبادةٍ باتباعِ نظامِه وتشريعِه. وهو أصحُّ الْوَجْهَيْنِ في قولِه (جلَّ وعلا) في الملائكةِ: {أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: آية 40] لأن الملائكةَ قالوا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: آية 41] أي: يتبعونَ الشياطينَ ويعبدونَهم باقتفاءِ ما يَسُنُّونَ لهم من القوانينَ والنظمِ، وهذا أَمْرٌ لاَ نزاعَ فيه، فَكُلُّ مَنْ يتبعُ نظامَ أحدٍ وتشريعِ أحدٍ وقانونَه فهو متخذُه رَبًّا؛ ولذا جاء في الحديثِ المشهورِ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ (رضي الله عنه) أنه لَمَّا جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكان في

عنقِ عديٍّ صليبٌ فقال له النبيُّ: «يَا عَدِيُّ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» وصادفَه يقرأُ سورةَ براءة هذه، سَمِعَهُ يقولُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: آية 31] وكان عَدِيٌّ نَصْرَانِيًّا في الجاهليةِ فقال: ما كنا نتخذُهم أربابًا. فأجابَه النبيُّ بما معناه: أَلَمْ يَحِلُّوا لكم ما حَرَّمَ اللَّهُ ويحرِّموا عليكم ما أحلَّ اللَّهُ فتتبعوهم؟ قال: بلى. قال: تلك عبادتُهم، وبذلك اتخذتُموهم أربابًا (¬1). فهذه الآياتُ الكريمةُ تدلُّ على أن كُلَّ مَنْ يتبعُ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ وإن سَمَّاهُ قانونًا أو دستورًا أو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ فهو كافرٌ بالله، ولو كان كافرًا قبلَ ذلك وارتكبَ شيئًا يعلم أن اللَّهَ حَرَّمَهُ فَحَلَّلَ ما يعلمُ أن اللَّهَ حَرَّمَهُ، أو حَرَّمَ ما يعلمُ أن الله حَلَّلَهُ، فإنه ولو كان كافرًا قبلَ هذا يزدادُ بذلك كُفْرًا جديدًا إلى كُفْرِهِ الأولِ، كما قال هنا: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] وهذا معروفٌ لا نزاعَ فيه بينَ العلماءِ، فالحلالُ هو ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، ولا تشريعَ إلا لِلَّهِ؛ لأن التشريعَ والأمرَ والنهيَ لا يكونُ إلا للسلطةِ التي ليس فوقَها شيءٌ، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) هو خالقُ هذا الخلقِ، وخالقُ النِّعَمِ التي أَنْعَمَ بها عليه، فهو الْمَلِكُ فَلاَ يَرْضَى أن يأمرَ فيه غيرُه وينهى، بل الأمرُ له وحدَه، والنهيُ له وحدَه، والتشريعُ له وحدَه، فَكُلُّ مُشَرِّعٍ دُونَهُ ضَالٌّ، وَكُلُّ مُتَّبِعٍ تشريعًا غيرَ تشريعِه فهو كافرٌ به - جلَّ وعلا - وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في آياتٍ كثيرةٍ هذا المعنَى، فكانَ قومٌ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَرَادُوا أن يَتَحَاكَمُوا إلى غيرِ شرعِ اللَّهِ، وَادَّعُوا أنهم مؤمنونَ فعجَّب اللَّهُ نَبِيَّهُ من كَذِبِ دعواهم، وأن دعواهم الإيمانَ لا تَصِحُّ بوجهٍ من الوجوهِ مع إرادتِهم ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

التحاكمَ إلى غيرِ اللَّهِ، وذلك في قولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60)} [النساء: آية 60] فَعَجَّبَهُ من دعواهم الإيمانَ وهم يريدونَ التحاكمَ إلى غيرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وهذا لا يَخْفَى، وَأَقْسَمَ اللَّهُ (جل وعلا) في آيةٍ من كتابِه أنه لا يؤمنُ أحدٌ حتى يكونَ مُتَّبِعًا في قرارةِ نفسِه لِمَا جاءَ به سيدُ الرسلِ محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وذلك بقولِه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: آية 65] هذا قسمٌ من اللَّهِ أَقْسَمَ به {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فما ظَنُّكُمْ بالذين يُحَكِّمُونَ فيما شَجَرَ بينَهم قانونَ نابليونَ وما جرى بعدَه من زبالاتِ أذهانِ الكفَرَةِ؟ أَلاَ تَرَوْنَ أن اللَّهَ أَقْسَمَ في هذه الآيةِ من سورةِ النساءِ أنهم لا يؤمنونَ؟ وَمَنْ أصدقُ من اللَّه قِيلاً؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حديثًا؟ فعلى كُلِّ مسلمٍ أن يعلمَ أن الحاكمَ هو اللَّهُ، وأن الحكمَ لله وحدَه، وأنه لا يُحلُّ إلا اللَّهُ، ولا يُحَرِّمُ إلا اللَّهُ، فلا حلالَ إلا ما أحلَّه اللَّهُ، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولا دينَ إلا ما شَرَعَهُ اللَّهُ. فما عَمَّتْ به البلوى من انصرافِ جُلِّ مَنْ في المعمورةِ عن نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ على سيدِ خلقِه وأعظمِ رُسُلِهِ، موضحًا له في أعظمِ كتابٍ أَنْزَلَهُ من سمائه إلى أرضه، منصرفينَ عن هذا مع وضوحِ أدلتِه وقيامِ براهينِه وصيانتِه لمقوماتِ الناسِ؛ لأن القرآنَ العظيمَ والسنَّةَ النبويةَ المبينةَ له جاء فيهما غايةُ الحفاظِ على جميعِ مقوماتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا والآخرةِ، ولا سِيَّمَا الجواهر الستة التي يدورُ عليها نظامُ العالَم في الدنيا ونظامُ العدالةِ

والجورُ فيه، وهذه الأمورُ الستةُ لا يوجدُ شيءٌ أشدُّ محافظةً عليها مما جاء به سيدُ الخلقِ محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، ونعني بهذه الستةِ التي أَشَرْنَا إليها: المحافظةُ على الدينِ السماويِّ الذي هو الصلةُ بينَ السماءِ والأرضِ وبينَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، ثم المحافظةُ على الأنفسِ من القتلِ والإزهاقِ، ثم المحافظةُ على الأنسابِ من الضياعِ والاختلاطِ وتقذيرِ الفُرُشِ، ثم المحافظةُ على العقولِ من الضياعِ؛ لأن العقولَ إذا ضَاعَتْ صار المجتمعُ حيواناتٍ يضربُ بعضُه بعضًا، ثم المحافظةُ على الأموالِ، ثم المحافظةُ على الأعراضِ. فدينُ الإسلامِ جاء بأعظمِ حياطةٍ وصيانةٍ للدينِ، وحياطة وصيانة للنفسِ، وحياطة وصيانة للعقلِ، وحياطة وصيانة للنَّسَبِ، وحياطة وصيانة للمالِ، وحياطة وصيانة للعِرْضِ، وستأتِي هذه الأشياءُ في هذه الدروسِ كُلٌّ في محلِّه، وقد قَدَّمْنَا ما جاء منها. فهذا دينُ الإسلامِ الذي بَيَّنَ اللَّهُ فيه كُلَّ شيءٍ، وَحَافَظَ فيه على جميعِ المقوماتِ، وَأَعْطَى فيه الأجسامَ حقوقَها، والأرواحَ حقوقَها، وَأَرْشَدَ الإنسانَ إلى عملٍ مزدوجٍ يقومُ به الإنسانُ معاونًا جسمُه روحَه، وروحُه جسمَه؛ لأن مَنْ أَخَلَّ بناحيةِ الجسمِ أَهْمَلَ، وَمَنْ أخلَّ بناحيةِ الروحِ فهو أضيعُ وأضيعُ. فعلينا جميعًا أن نعلمَ أنه لا بدَّ من اتباعِ شَرْعِ اللَّهِ ودينِ اللَّهِ، وأن مَنْ طَلَبَ تشريعًا وتحليلاً وتحريمًا في غيرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ فهو ليس على دينِ الإسلامِ، أَحْرَى أن يكونَ من المؤمنينَ الذين يقولونَ: إن اللَّهَ ينصرُهم وأنه معهم وهم أعداؤُه، وقد بَيَّنَ اللَّهُ في القرآنِ أن الذي له التحريمُ والتحليلُ، والأمرُ والنهيُ لاَ يكونُ إلا له صفاتٌ ليست كصفاتِ خَلْقِهِ، بل صفاتُه مميزةٌ عظيمةٌ لائقةٌ به دالةٌ على أنه هو الذي يأمرُ وينهى ويحللُ ويحرِّم، كقولِه

تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} وكأنه قال: أتريدونَ أن تعرفوا صفاتِ مَنْ يكونُ له الحكمُ في الأشياءِ ولا يُصْدَرُ في حُكْمٍ إلا عنه ما هي؟ ثُمَّ بَيَّنَّهَا في قولِه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: آية 10] ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له الحكمُ {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: الآيات 10 - 12] هذه صفاتُ مَنْ لَهُ الحكمُ، أما الكفَرَةُ الفجَرَةُ الخنازيرُ أبناءُ الكلابِ فليس لهم أن يحكموا في بلادِ اللَّهِ، ولا في عبادِ اللَّهِ، ويحرموا ما شاؤوا ويحللوا ما شاؤوا، فَمُتَّبِعُهُمْ هو أَعْمَى الناسِ بصيرةً وَأَضَلُّهُمْ سَبِيلاً: خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (¬1) وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ: {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: آية 12] الذي له الحكمُ هو العليُّ الكبيرُ الذي عُلُوُّهُ وعظمتُه فوقَ كُلِّ شيءٍ، وهو أعظمُ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كُلِّ شيءٍ. ويقولُ (جلَّ وعلا): {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: آية 88] فلا يكونُ الحكمُ إلا لِمَنْ لا يهلك، ولمن كُلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه، هذه صفاتُ مَنْ له الحكمُ، ويقولُ (جل وعلا): {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: الآية 70] ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له الحكمُ فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71)} إلى آخِرِ الآياتِ [القصص: آية 71]. فالحكمُ لاَ يكونُ إلا للعظيمِ الأعظمِ الذي هو الخالقُ لكلِّ شيءٍ، الرازقُ لكلِّ شيءٍ، الفاعلُ ما يشاءُ في كلِّ شيءٍ، هذا الذي يُتَّبَعُ تشريعُه ويُحَلُّ ما أَحَلَّ، ويحرَّم ما حَرَّمَ، أما القوانينُ والنظمُ الملتقطةُ من زبالاتِ أذهانِ الكفَرَةِ الفجَرَةِ فلاَ يَتَّبِعُهَا ويعتقدُها وَيُحَكِّمُهَا في أموالِ المجتمعِ وعقولِه وأنسابِه وأديانِه وأعراضِه إلا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بصائرَهم، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ بصيرتَه فَلاَ حيلةَ له {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: آية 40] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ... } [الرعد: آية 19] لاَ ليسَ كمثلِه. ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] اختلفَ العلماءُ في تحقيقِ كلمةِ (النسيءِ) هنا (¬1) فقالَ بعضُهم: هو مِنْ (نسأ) الثلاثيةِ وهو (فَعِيلٌ) بمعنَى مفعولٍ، فالعربُ تقولُ: نساه ينسؤه نَسْئًا، إذا أَخَّرَهُ. والعربُ تأتِي بـ (الفعيل) مكانَ (المفعولِ) كما يقولونَ: قتيلٌ مكانَ مقتولٍ، وجريحٌ مكانَ مجروحٍ، ونسيءٌ مكانَ منسوءٍ، أي: مُؤَخَّرٌ. فَعَلَى هذا القولِ فالنسيءُ (فعيلٌ) بمعنَى (مفعولٍ) وكقتيلٍ بمعنَى مقتولٍ، وجريحٍ بمعنَى مجروحٍ. وعلى هذا فهو مِنْ (نَسَأَ) الثلاثيةِ. والقولُ الثانِي: أن النسيءَ اسمُ مصدرِ (أَنْسَأَ) الرباعيةِ على وزنِ (أَفْعَل) لأَنَّ العربَ تقولُ: أَنْسَأَ الأمرَ يُنْسِئُهُ إِنْسَاءً وَنَسِيئَةً. فالإنساءُ مصدرٌ قياسيٌّ، والنسيءُ مصدرُ (أَنْسَأَ) مصدرًا سماعيًّا، كما جاء ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 243)، القرطبي (8/ 136)، الدر المصون (6/ 46).

النذيرُ مصدرًا لأَنْذَرَ، والنكيرُ مصدرًا لأَنْكَرَ، والنسيءُ مصدرًا لأَنْسَأَ، بمعنَى: أَخَّرَ. فعلى أن النسيءَ اسمُ مصدرٍ بمعنَى الإِنْسَاءِ فلا إشكالَ؛ لأن الإنساءَ فعلُ الفاعلِ، وعلى هذا فلا إشكالَ في قولِه: {زِيَادَةٌ} أي: لأَنَّ تأخيرَ الشهرِ الحرامِ وَإِنْسَاءَهُ من نقلِه من المحرمِ وتأخيرَه منه إلى صَفَرٍ. هذا التأخيرُ والإنساءُ زيادةٌ في الكفرِ، لأنه أَحَلَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ وهو المحرَّم، وَحَرَّمَ ما أحلَّه اللَّهُ وهو صَفَرٌ. أما على القولِ بأن (النسيءَ) (فعيل) بمعنَى (مفعولٍ) وأنه من (نَسَأَ) الثلاثيةِ، وأن النسيءَ بمعنَى الزمانِ الْمَنْسُوءِ، فيكونُ في قولِه: {زِيَادَةٌ} إشكالٌ؛ لأن نفسَ الشهرِ المنسوءِ الْمُؤَخَّرِ ليس هو عَيْنَ الزيادةِ؛ وَلِذَا لا بُدَّ فِي هذا المعنَى من تقديرِ مضافٍ، أي: إنما نَسْءُ النسيءِ زيادةٌ في الكفرِ. أو إنما النسيءُ ذُو زيادةٍ، أي صاحبُ زيادةٍ في الكفرِ حَاصِلَةٌ فيه. فَاتَّضَحَ من هذا أنه على أن النسيءَ اسمُ مصدرٍ من (أَنْسَأَ) فلا تقديرَ في قولِه: {زِيَادَةٌ}. وعلى أنه (فعيلٌ) بمعنَى (مفعولٍ) مِنْ (نَسَأَ) الثلاثيةِ فلا بدَّ من تقديرِ مضافٍ إما قبلَ الزيادةِ أو قبلَ النسيءِ، فتقول: نَسْءُ المنسوءِ زيادةٌ، أي: تأخيرُ الشهرِ زيادةٌ في الكفرِ. أو تقولُ: المنسوءُ ذُو زيادةٍ، أي: صاحبُ زيادةٍ في الكفرِ لوقوعِها بسببِه. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنهم كانوا كفارًا، فلما أحلُّوا مُحَرَّمًا وهم يعلمونَ أن اللَّهَ حَرَّمَهُ، وحرموا صفرًا وهم يعلمونَ أن اللَّهَ ما حَرَّمَهُ، صاروا بهذا التشريعِ مُرْتَكِبِينَ كُفْرًا جديدًا كما بَيَّنَّا، ازْدَادُوا بهذا الكفرِ كُفْرًا جديدًا إلى كُفْرِهِم الأولِ. {يَضِلُّ به الذين كفروا} و {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} معناه:

يضلهم الشيطانُ كما يأتِي في قولِه: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}. {يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} قد أَشَرْنَا أن هذه الآيةَ الكريمةَ من سورةِ براءة والحديثَ الذي جاء في مضمونِها: أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ .. الحديثَ (¬1). غَلِطَ فيه خلقٌ من كبارِ المفسرينَ، وَمَنْ تَكَلَّمُوا على الحديثِ، وأن الصورةَ الحقيقيةَ التي قالت بها جماعةٌ من السلفِ (¬2) - والقرآنُ يشهدُ لصحةِ قولِهم - أنها التي كان يَعْمَلُهَا الكنانيون القَلَمَّس وَمَنْ بعدَه، وكان شاعرُهم يفتخرُ بذلك ويقولُ شاعرُهم وهو عميرُ بنُ قيسٍ المعروفُ بـ (جذل الطَّعان) (¬3): لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي ... كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا ... أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا ... وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ يُدْرَكْ بِوِتْرٍ ... وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ يُعْلَكْ لِجَامَا أنهم كانوا يأتون جنادةَ بنَ عوفٍ إذا صَدَرُوا مِنْ مِنًى، فيقومُ ويقولُ: أنا الذي لاَ أُجَابُ وَلاَ أُعَابُ، ولا مردَّ لِمَا أقولُ، هذا العام قد ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب: ما جاء في سبع أرضين .. ، رقم (3197) (6/ 293). وانظر الأحاديث: (67، 105، 741، 4406، 4662، 5550، 7078، 7447). وأخرجه مسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم (1679) (3/ 1305). وهو جزء من حديث خطبة حجة الوداع. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 245)، القرطبي (8/ 137)، ابن كثير (2/ 354). (¬3) الأبيات ذكرها ابن هشام ص56، والبيت الثالث عند الشيخ جعله ابن هشام ثانيًا، ولفظه عنده: فأي الناس فاتونا بوتر ... وأي الناس لم نعلك لجاما وقد مضى البيت الثاني منها عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف.

أخرتُ عنكم حرمةَ المحرمِ إلى صفرٍ فَقَاتِلُوا في المحرمِ، ثم حَرِّمُوا مكانَه صَفَرًا ويأتِي في العامِ القابلِ ويقولُ مثل مقالتِه: أنا الذي لاَ أُجَابُ ولاَ أُعَابُ، ولا مردَّ لِمَا أقولُ، قد حَرَّمْتُ هذا العامَ مُحَرَّمًا وَأَبَحْتُ صَفَرًا. كما هي العادةُ، فيحلُّ لهم المحرَّم عامًا ويحرِّم مكانَه صَفَرًا، ويحرِّم المحرَّم عامًا ويتركُ الأشهرَ على حَالِهَا (¬1). وهذا مُوَافِقٌ لقولِه: {يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} وموافقٌ لقولِه: {لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: آية 37] أما الصورُ الأخرى فلا تتفقُ مع الآيةِ. أما الذين زَعَمُوا أنه يقولُ لهم في بعضِ السنينَ: حللتُ لكم المحرمَ وَصَفَرًا معًا فَهُمَا صفرانِ، لا محرمَ في هذه السنةِ، وإنما فيها صفرانِ. فيحلُّ لهم المحرمَ ويتركُ صفرًا على حلالِه الأصليِّ، وفي السنةِ القابلةِ يقولُ: هُمَا مُحَرَّمَانِ، المحرمُ الذي كان حرامًا، وصفرٌ بدلَ المحرمِ الذي حَرَّمْنَاهُ في السنةِ القابلةِ. فهذا وإن قال به جماعةٌ كبيرةٌ من العلماءِ (¬2) فهو لاَ يصحُّ؛ لأنهم على هذا القولِ في إحدى السَّنَتَيْنِ ما حرَّموا إلا ثلاثةَ أشهرٍ، والأشهرُ الحرمُ أربعةٌ، وفي السنةِ الثانيةِ حَرَّمُوا خمسةَ أشهرٍ، فلم يُوَاطِئُوا ما حَرَّمَ اللَّهُ لاَ في السنةِ الأُولَى ولا في السنةِ الثانيةِ. وكذلك قولُ مَنْ قَالَ: إنهم كانوا يُسَمُّونَ صَفَرًا مُحَرَّمًا، ويسمونَ ما بعد صفرٍ صفرًا، وكلُّ شهرٍ يسمونَه باسمِ ما بعدَه، وَيَحُجُّونَ في كُلِّ شهرٍ عَامَيْنِ، وأن حَجَّةَ أبِي بكرٍ عامَ تسعٍ، وَافَقَتْ ذَا القعدةِ، وأن أبا بكر حَجَّ بالناسِ عامَ ذِي القعدةِ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ بالناسِ حجَّة موافِقة ذَا الحجةِ، وأن هذا معنَى ¬

(¬1) تقدم عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 249)، القرطبي (8/ 139)، ابن كثير (2/ 356).

استدارةِ الزمانِ كهيئتِه يومَ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ (¬1). فهذا لاَ شَكَّ في أنه فَاسِدٌ باطلٌ؛ لأن اللَّهَ صَرَّحَ في كتابِه بقولِه في حجةِ أبِي بكرٍ بالناسِ عامَ تِسْعٍ: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: آية 3] وقد أذن ببراءة عَلِيٍّ (رضي الله عنه) وَمَنْ معَه يومَ الحجِّ الأكبرِ، ومعلومٌ أن اللَّهَ لاَ يُنْزِلُ في كتابِه يومَ الحجِّ الأكبرِ يريدُ أنه مِنْ ذي القعدةِ! فهذا من الباطلِ الذي لاَ شَكَّ فيه، فهذا كُلُّهُ لاَ يصحُّ، فالتحقيقُ أن هذه الصورةَ التي نَزَلَ بها القرآنُ التي كان يفعلُ لهم الكنانيونَ أنهم سَنَةً يُحَرِّمُونَ صَفَرًا ويحلونَ المحرَّم مكانَه، وفي سَنَةٍ يُبْقُونَ الأمرَ على حالِه فيحلونَ المحرَّم سَنَةً ويحرِّمونه سنةً ويواطئوا بذلك - يوافقوا - عدةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، وهي أربعةُ أشهرٍ من السنةِ. وهذا معنَى قولِه: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}. العامُ: السنةُ، والألفُ التي في مكانِ عينِه منقلبةٌ عن واوٍ، فَيُكَسَّرُ على (أعوامٍ) فعينُه واوٌ. {لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: آية 37] المواطأةُ: الموافقةُ، أي لِيُوَافِقُوا عدةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ؛ لأن اللَّهَ حَرَّمَ أربعةَ أشهرٍ من السنةِ فَهُمْ يُحَرِّمُونَ قدرَ ما حَرَّمَ اللَّهُ إلا أنهم يعصونَ اللَّهَ بتغييرِه عن محلِّه، فالعدةُ هي العدةُ وَلَكِنَّ عينَ الزمانِ ليست هي عينَ الزمانِ، فهم يصيبونَ في العدةِ ويخطئونَ في تعيينِ المعدودِ، ومن هنا كانوا عصاةً بذلك. هذا هو الصحيحُ في معنَى الآيةِ الذي لا إشكالَ فيه، والصورُ الأُخَرُ فيها نظرٌ، ليست بصوابٍ، وإن قال بها مَنْ قال بها من ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 248)، القرطبي (8/ 137)، ابن كثير (2/ 356 - 357).

العلماءِ. هذا معنَى قولِه: {لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}. {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} زَيَّنَ لهم الشيطانُ سوءَ أعمالِهم الخبيئةِ. وهذا يدلُّ على أن مِنْ أسوأِ الأعمالِ وأخبثِها تحليلَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وتحريمَ ما أَحَلَّ اللَّهُ {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}. {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 37] هذه الآيةُ وأمثالُها بالقرآنِ فيها سؤالٌ معروفٌ، وَإِشْكَالٌ مشهورٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: هذه الآيةُ وأمثالُها صرَّح اللَّهُ فيها بأنه لا يهدِي الكافرينَ، مع أنَّا نشاهدُ اللَّهَ يهدي كثيرًا من الكافرينَ، فَاللَّهُ يهدي مَنْ يشاءُ من الكفارِ، ويضلُّ مَنْ يَشَاءُ، فما وَجْهُ تعميمِه في قولِه: {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} هذا وجهُ السؤالِ. وللعلماءِ عنه جوابانِ معروفانِ: أحدُهما: أن هذه الآيةَ الكريمةَ وأمثالَها في القرآنِ من العامِّ المخصوصِ، أي: لا يهدِي القومَ الكافرينَ الذين سَبَقَ في عِلْمِهِ عدمُ هدايتِهم وشقاؤهم شقاءً أزليًّا، كقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: الآيتان 96، 97] وقولُه: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (7)} [يس: آية 7] ونحو ذلك من الآياتِ. وعلى أن هذه الآيةَ الكريمةَ من العامِّ المخصوصِ بآياتٍ أُخَرَ فلاَ إشكالَ. وقال بعضُ العلماءِ: {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ما دام اللَّهُ (جلَّ وعلا) مُرِيدًا منهم أن يكونوا كافرينَ، فإذا شَاءَ اللَّهُ أن [يهديَهم

هُدَاهُمْ. وقال بعضُ العلماءِ: لاَ يهديهم ما داموا مُصِرِّينَ على كُفْرِهِمْ] (¬1). [7/أ] / نقولُ (¬2): إِنَّ مِنْ عَادَتِنَا التي نَجْرِي عليها في هذه الدروسِ أن نتعرضَ لِمَا نَظُنُّ أنه يسألُ عنه طلبةُ العلمِ، وقد مَرَّ في الآيةِ الماضيةِ، سؤالٌ معروفٌ يتساءلُ عنه طَلَبَةُ أهلِ العلمِ، وَنَسِينَا أن نتكلمَ عليه، فَأَحْبَبْنَا أن نَسْتَدْرِكَهُ الآنَ تَتْمِيمًا للفائدةِ، ونعنِي بذلك: أنا ذَكَرْنَا، أن العلماءَ اختلفوا في نسخِ الأربعةِ الْحُرُمِ، وأن قومًا قالوا: نُسِخَتْ، فجازَ للمسلمينَ الجهادُ في كُلِّ السَّنَةِ، وأن جماعةً من العلماءِ قالوا: إن تحريمَها باقٍ لم يُنْسَخْ، وذكرنا أنَّا كُنَّا أولاً نعتقدُ صحةَ نَسْخِهَا، وَأَنَّا عَرَفْنَا بعدَ ذلك أن الصحيحَ عدمُ نَسْخِهَا، وَذَكَرْنَا أن من أصرحِ الأدلةِ على نسخِها ما ثَبَتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ ثقيفًا بالطائفِ في بعضِ ذِي القعدةِ وهو شهرٌ حرامٌ، ولو لم يكن القتالُ فيها حلالاً لَمَّا حَاصَرَهُمْ فيها، فَعَلِمْنَا مِنْ هنا أن طالبَ العلمِ يقولُ: إذا قررتُم أن التحقيقَ عدمُ نسخِها فما وَجْهُ حصارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لثقيفٍ في الشهرِ الحرامِ؟! هذا هو السؤالُ الذي كُنَّا نَوَدُّ أن نتعرضَ للإجابةِ عنه، وهذا ¬

(¬1) انقطاع في التسجيل، ويمكن مراجعة جواب الشيخ (رحمه الله) على هذا الإشكال عند تفسير الآية (145) من سورة الأنعام. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. (¬2) تنبيه: في تفسير الشيخ (رحمه الله) لهذه الآية بقي الجواب عن إشكال معروف وهو توجيه حصار النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف في الشهر الحرام. وقد استدرك الشيخ (رحمه الله) هذه المسألة والجواب عنها في بداية الكلام على الآية التي بعدها، فألحقته في موضعه هنا، وجعلت الآيات (38، 39)، بعد جواب الشيخ عن هذا الإشكال.

السؤالُ أجابَ عنه جماعةٌ من العلماءِ بما مُلَخَّصُهُ في نُقْطَتَيْنِ وَهُمَا (¬1): أن حصارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لثقيفٍ كان ابتداؤُه في شهرٍ حلالٍ، والدوامُ قد يغتفرُ فيه ما لا يغتفرُ في الابتداءِ؛ لأن مِنَ المسائلِ ما يُحَرَّمُ فيها الابتداءُ ولا يحرمُ فيها الدوامُ، ألا تَرَوْنَ أن الرجلَ الْمُحْرِمَ لا يجوزُ له أن يبتدئَ تزويجًا، ولو تزوجَ قبل إحرامِه ثم أَحْرَمَ لم يَنْفَسِخْ تزويجُه بهذا الإحرامِ الطارئِ على تزويجِه، وكذلك الإحرامُ يُمْنَعُ ابتداءُ الطِّيبِ فيه، فلو كان مُتَطَيِّبًا قبلَه، لاَ يمنعُ الدوامَ على الطِّيبِ الأولِ الإحرامُ عندَ جماهيرِ العلماءِ، فالشاهدُ أن الدوامَ في بعضِ الصورِ قد يُغْتَفَرُ فيه ما لا يُغتفر في الابتداءِ، وفي هذه الصورةِ يتأكدُ بشيءٍ آخَرَ وهو ما قَدَّمْنَا في كلامِنا على غزوةِ حُنَيْنٍ (¬2) في تفسيرِ آيةِ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: آية 25] أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مكةَ في رمضانَ عامَ ثمانٍ، ولم يكن يريدُ أن يغزوَ هوازنَ، سَمِعَ أن مالكَ بنَ عوفٍ النصريَّ، سيدَ هوازنَ جَمَعَ مَنْ أَطَاعَهُ من هوازنَ وفيهم ثقيفٌ؛ لأن ثقيفًا من هوازنَ؛ لأن ثقيفَ بْنَ منبهِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ بنِ منصورٍ، وأنهم تَجَمَّعُوا له يريدونَ حربَه، فَهُمُ الذينَ بدؤوا بإرادةِ الحربِ، ولم يَكُنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَاصِدًا حربَهم في ذلك الوقتِ قبلَ ذلك، فَلَمَّا هَزَمَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ حنينٍ واستفاءَ أموالَهم، رَجَعَ فَلُّهُمْ (والفَلُّ بقيةُ المنهزمينَ) فَتَحَصَّنُوا بحصنِ الطائفِ. فحصارُه صلى الله عليه وسلم للطائفِ ليستنزلَ الذين كانوا يقاتلونَه في غزوةِ حنينٍ من تمامِ غزوةِ حنينٍ، وكانوا هم ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 356). (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

البادئين بالقتالِ، والأشهرُ الْحُرُمُ إذا بُدِئَ المسلمونَ فيها بالقتالِ قَاتَلُوا، كما تَقَدَّمَ في قولِه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: آية 194] وكما قَدَّمْنَاهُ في الكلامِ على قولِه تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: آية 191] فهذا هو الذي أَجَابَ به العلماءُ عن حصارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لثقيفٍ على القولِ ببقاءِ حرمةِ الأشهرِ الْحُرُمِ. يقول اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: الآيتان 38، 39]. وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة: آية 38]. أَجْمَعَ كافةُ العلماءِ، أن هذه الآيةَ الكريمةَ من سورة براءة نَزَلَتْ لما اسْتَنْفَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ إلى غزوِ الرومِ (¬1)، وفي غزوةِ تبوك، كان ذلك في ساعةِ العسرةِ، كما يأتِي منصوصًا في هذه السورةِ الكريمةِ، وكان وقتَ شدةِ الحرِّ، والأرضُ في غايةِ الجدبِ، وكان في المدينةِ النخيلُ حين أَزْهَتْ ثمرتُه، وطابت الظلالُ والمياهُ الباردةُ، فَرَكَنُوا إلى الدعةِ، وإلى نعيمِ الدنيا في ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 251)، القرطبي (8/ 140)، ابن كثير (2/ 357).

الظلِّ والثمارِ والمياهِ والظلالِ الباردةِ، فَرَكَنُوا إلى هذا؛ لأن العدوَّ قَوِيٌّ وكثيرُ العددِ جِدًّا، والشقةُ بعيدةٌ، والزمانُ حَارٌّ؛ ولذا مَنْ تَكَاسَلُوا منهم وَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ العظيمَ في هذه الآيةِ الكريمةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ} أي شيء ثبت لكم يقتضي نُكُولَكُمْ عن الغزوِ واختيارَكم للدعةِ والراحةِ على مرضاةِ اللَّهِ وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ؟ {مَا لَكُمْ} أي شيء ثبتَ لكم. {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا} أي: إذا قال لكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه: {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} انْفِرُوا معناه: تَهَيَّؤُوا خارجينَ متحركينَ لحربِ الرومِ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأَنَّ القتالَ والجهادَ في سبيلِ اللَّهِ هو أعظمُ أنواعِ سبيلِ اللَّهِ (جلَّ وعلا). {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} أصلُه: (تَثَاقَلْتُمْ) والمقررُ في علمِ العربيةِ: أن كُلَّ ماضٍ على وزنِ (تَفَاعَلَ) أو على وزن (تَفَعَّلَ) إذا تَقَارَبَتْ حروفُه الأُولَى، يكثرُ في اللغةِ العربيةِ إدغامُ بعضِها في بعضٍ واجتلابُ همزةِ الوصلِ لإمكانِ النطقِ بالساكنِ (¬1)، وهذا يكثرُ في القرآنِ في (تَفَاعَلَ) و (تَفَعَّلَ)، كقولِه هنا في (تفاعل): {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} أصلُه: (تثاقلتم)، {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: آية 72] أصلُه: (تَدَارَأْتُمْ)، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} [الأعراف: آية 38] أصلُه: (تَدَارَكُوا)، {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} [النمل: آية 66] أصلُه: (تَدَارَكَ علمُهم). وكذلك هو فِي (فَعَّلَ) كقولِه (جلَّ وعلا): {وَازَّيَّنَتْ} [يونس: آية 24] أصلُه: (تَزَيَّنَتْ) من (تَفَعَّلَ)، {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} [النمل: آية 47] أصلُه: (تَطَيَّرْنَا). وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة، وانظر: ابن جرير (14/ 252)، الدر المصون (6/ 49).

ومن شواهدِه العربيةِ المشهورةِ ما أَنْشَدَهُ الفراءُ من قولِ الشاعرِ (¬1): تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا ... عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلُ يعني بقولِه «ما اتّابع»: تَتَابَعَ. ومعنَى {اثَّاقَلْتُمْ} تَثَاقَلْتُمْ، أي: تَكَاسَلْتُمْ وتباطأتُم وتقاعستُم عن الخروجِ في سبيلِ اللَّهِ لغزوِ الكفارِ. ثم إن اللَّهَ أَنْكَرَ عليهم إنكارًا قويًّا بأداةِ الإنكارِ التي هي الهمزةُ في قولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} قد تَقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ أن لفظةَ (مِنْ) تأتِي بمعنَى البدلِ (¬2)، كقولِه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ} [الزخرف: آية 60] أي: لَجَعَلْنَا بَدَلَكُمْ ملائكةً في الأرضِ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي: بدلَ الآخرةِ، وإتيانُ (مِنْ) بمعنَى البدلِ، أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬3): فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ عَلَى طَهَيَانِ يعنِي ليس لنا شربةٌ باردةٌ مكانَ زمزمَ؛ لأنه يُؤْخَذُ حارًّا، ويُروَى: فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ حَمْنَانَ شَرْبةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ وَالطَّهَيَانُ: عُودٌ كانوا يجعلونَه مرتفعًا فِي جانبِ البيتِ متلقيًّا للهواءِ يعلقونَ عليه الماءَ ليبردَ (¬4). ¬

(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 252)، القرطبي (8/ 141)، الدر المصون (6/ 50). (¬3) البيت ليعلى بن مسلم اليشكري، أو الأحول الكندي. وهو في القرطبي (8/ 141)، الدر المصون (6/ 50). (¬4) انظر: القرطبي (8/ 141).

وقولُه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} الهمزةُ همزةُ إنكارٍ؛ لأَنَّ أَسْفَهَ الناسِ وأقلَّهم عقلاً هو مَنْ يرضى بالدنيا بدلاً من الآخرةِ؛ لأنه يعتاضُ القليلَ التافهَ من الكثيرِ الذي لا يُقَدِّرُ قدرَه إلا اللَّهُ، وفي هذا وَبَّخَهُمْ؛ لأنه نَقْضٌ ضِمْنِيٌّ للعقدِ الذي عَقَدَهُ معهم؛ لأن اللَّهَ (جلَّ وعلا) عقد عُقْدَةً بينَه وبينَ عبادِه المؤمنينَ وَأَبْرَمَهَا، وهو أنه اشْتَرَى منهم أنفسَهم وأموالَهم بالجهادِ، يشتري من المؤمنِ حياتَه الدنيويةَ وهي حياةٌ قصيرةٌ مُنغَّصَةٌ مشوشةٌ بالأمراضِ والمصائبِ والبلايا والمشاقِّ، يشتريها منه بحياةٍ أبديةٍ سرمديةٍ، لا شيبَ فيها ولا هرمَ ولا مرضَ ولا غضبَ ولا أَلَمَ ولا تشويشَ، ويشتري منه مالاً قليلاً وَعَرَضًا زائلاً من الدنيا بِالْحُورِ الْعِينِ والوِلْدانِ وغُرَفِ الجنةِ وأنهارِها وثمارِها، والنظرِ إلى وَجْهِ اللَّهِ الكريمِ. فهذا هو البيعُ الرابحُ، وَاللَّهُ يقولُ في هذه السورةِ الكريمةِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: آية 111] هذا هو البيعُ الرابحُ والمعاملةُ الراجحةُ، أما الذي يَنْقُضُهَا وينكثُها ويقدمُ للدنيا على الآخرةِ فهذا سَفِيهٌ يستحقُّ أشدَّ الإنكارِ؛ ولذا أَنْكَرَ اللَّهُ عليه بقولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} فإنه لا يَقْنَعُ بِالدُّونِ إلا مَنْ هو في غايةِ الدونِ، وقد صَدَقَ مَنْ قال (¬1): إِذَا مَا عَلاَ الْمَرْءُ رَامَ الْعُلاَ ... وَيَقْنَعُ بِالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا فلاَ يقنعُ بالدونِ إلا مَنْ هو دُونَ كما لاَ يَخْفَى، وهذا معنَى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (168) من سورة الأعراف.

قولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}. قد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا أن تسميةَ اللَّهِ (جلَّ وعلا) في كتابِه للدارِ الذي نَؤُولُ إليها تسميته إِيَّاهَا (الآخرة) ينبغي للمسلمِ أن ينظرَ فيه ويعتبرَ فيه، وقد أَوْجَبَ اللَّهُ على كلِّ إنسانٍ أن ينظرَ في مبدئِه، وإذا نَظَرَ في مبدئِه دَعَاهُ ذلك إلى النظرِ في انتهاءِ أَمْرِهِ الذي يَؤُولُ به إلى مُسَمَّى الآخرةِ، وإيضاحُ ذلك أن اللَّهَ قال بصيغةِ أَمْرٍ سَمَاوِيٍّ من اللَّهِ {فَلْيَنْظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: آية 5] لامُ الأمرِ في قولِه: {فَلْيَنْظُرِ} لامُ أمرٍ صادرةٌ مِنْ خَالِقِ السماواتِ والأرضِ، متوجهةً إلى مُسَمَّى الإنسانِ، يأمرُه اللَّهُ أن ينظرَ إلى الشيءِ الذي خُلِقَ منه ليعلمَ مبدأَ أمرِه وَمِنْ أينَ جَاءَ؟ وما سببُ وجودِه؟ وعلى أَيِّ طريقٍ جَاءَ؟ ثُمَّ ليَنْظُرْ بعدَ ذلك في مصيرِه، وإلى أين يُذْهَبُ به، وإلى أين يَصِيرُ، وإلى أين يكونُ آخِرُ أَمْرِهِ؟ وقد بَيَّنَ لنا هذا المحكمَ المنزلَ الذي جَمَعَ اللَّهُ به علومَ الأولينَ والآخرينَ، مبدأُ هذا الإنسانِ الضعيفِ ومنتهاه، ومصيرُه النهائيُّ الذي لا يحيدُ عنه إلى شيءٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ أن أولَ الإنسانِ ترابٌ بَلَّهُ اللَّهُ بماءٍ، وهو قولُه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الحج: آية 5] فمبدأُ رحلةِ الإنسانِ ومنشؤُه من الترابِ، بَلَّهُ اللَّهُ بالماءِ، فصارَ طِينًا، وهو قولُه تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: آية 61] {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّنْ طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: آية 11] ثم جَعَلَ نسلَه من سلالةٍ من طِينٍ، ثم إن الله خَمَّرَ ذلك الطينَ حتى صَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، ثم أَيْبَسَهُ حتى صَارَ صلصالاً كالفخارِ، ثم خَلَقَ منه آدمَ وجعلَه لَحْمًا وَدَمًا، ثم خَلَقَ منه زوجَه، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: آية 1] هي آدمُ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواءَ. وَذَكَرَ ذلك في الأعرافِ وفي الزمرِ كما

هو معروفٌ، ثم بعدَ أن حَصَلَ رجلٌ وامرأةٌ صَارَ طريقةُ وجودِ الإنسانِ على طريقِ التناسلِ المعروفةِ، يكونُ أولاً من نطفةٍ أمشاجٍ من ماءِ الرجلِ وماءِ المرأةِ، ثم يخلقُ اللَّهُ تلك النطفةَ علقةً وهي الدمُ الجامدُ الذي إذا صُبَّ عليه الماءُ الحارُّ لم يَذُبْ، ثم يجعلُ اللَّهُ تلك العلقةَ مضغةً، ثم المضغةَ عِظَامًا، ثم يَكْسُو العظامَ لَحْمًا، ويخلقُ هذا البشرَ السويَّ الذي تنظرونَ إليه، الذي كُلُّ موضعِ إبرةٍ منه فيها من غرائبِ صُنْعِ اللَّهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، وقد ذَكَرْنَا مِرَارًا أن أعظمَ مَا فُتِنَ به ضعافُ العقولِ من المسلمينَ حِذْقُ الإفرنجِ، في حالةِ الدنيا، وَمِنْ أبرعِ ما بَرَعُوا فيه الطبُّ، وأنا أقولُ لكم: إنه لو اجتمعَ اليومَ جميعُ مَنْ في المعمورةِ مِنْ مهَرَةِ الأطباءِ يريدونَ أن يعملوا عمليةً في جَنِينٍ في رَحِمِ أُمِّهِ فإنهم لا يقدرونَ أن يعملوا العمليةَ حتى يَشُقُّوا بطنَها وَرَحِمَهَا والمشيمةَ التي على الولدِ، ثم يأتوا بالأشعةِ الكهربائيةِ ليمكنَهم أن يَرَوْا، ثم يعملوا، فقد تموتُ وهو الأغلبُ!! وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ (جلَّ وعلا)، ليس فِينَا ولا فيهم ولا في غيرِنا أحدٌ إلا وهو يعملُ فيه آلافَ العملياتِ الهائلةِ وهو في بطنِ أُمِّهِ، من غيرِ أن يحتاجَ إلى شَقِّ بطنِها، ولا إلى شَقِّ رَحِمِهَا، ولا إلى شَقِّ المشيمةِ التي على الولدِ {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: الآية 6]. هذه الأعينُ قد فَتَحَهَا اللَّهُ (جلَّ وعلا) وأنتم في بطونِ أمهاتِكم، وَصَبَغَ بعضَها بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وَأَنْبَتَ عليها هذا الشعرَ، وجعلَ لها هذا الوعاءَ من الجفونِ، وهذا الدماغَ خَلَقَهُ وجعلَه في هذا الوعاءِ، وَخَاطَ عليه هذه العظامَ هذه الخياطةَ الهائلةَ، وهذا

الأنفُ خلقَه وثقبَه، وهذا الفمُ خلقَه وثقبَه، وجعلَ اللسانَ، وَأَجْرَى في الفمِ عَيْنًا باردةً هي الريقُ، يبتلعُ بها الطعامَ، لو أَمْسَكَ عنه الريقَ لَمَا ابتلعَ الزبدَ الذائبَ، وَشَقَّ له مجاريَ البولِ، ومجاريَ الغائطِ، ومجاريَ العروقِ والشرايين للدورةِ الدمويةِ، ولو نُظِرَ إلى موضعِ عضوٍ واحدٍ من الإنسانِ لوُجِدَ فيه من غرائبِ صنعِ اللَّهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، ومع هذا كلِّه فخالقُ السماواتِ والأرضِ يجعلُ هذه العملياتِ الهائلةَ فيكم وأنتم في بطونِ أمهاتِكم، من غيرِ أن يحتاجَ إلى بِنْجٍ، بل بِنْجُ القدرةِ وعظمةِ الخالقِ، يُفْعَلُ للمرأةِ جميعُ هذا وهي تضحكُ وتفرحُ وتمرحُ وتعصِي خالقَ السماواتِ والأرضِ، لاَ تشعرُ بشيءٍ، لعظمةِ وقدرةِ هذا الإلهِ الخالقِ العظيمِ (جلَّ وعلا)، ثم إن الله (جلَّ وعلا) يخلقُ هذا الإنسانَ بما فيه من الغرائبِ والعجائبِ الذي كُلُّ موضعِ إبرةٍ منه يبهرُ العقولَ بما أَوْدَعَ فيه اللَّهُ مِنْ بارعِ صنعِه وغرائبِ عجائبِه، ثم يخرجُه من بطنِ أُمِّهِ ويسهلُ له طريقَ الخروجِ من ذلك المكانِ الضيقِ كما يأتِي في قولِه: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} [عبس: آية 20] ثم يُلْهِمُهُ أَخْذَ الثديِ وهو في ذلك الصغرِ، ويلطفُ به حتى يكبرَ ويعظمَ ويكونَ قويًّا يجادلُ في رَبِّهِ، وتلك المحطةُ هي التي نَحْنُ فيها الآنَ، فقد جَاوَزْنَا ما قبلَها من المحطاتِ، وهي التي نحنُ فيها الآنَ، وهذه المحطةُ التي نحنُ فيها هي المحطةُ التي يُؤْخَذُ منها الزادُ، والسفرُ أمامَها طويلٌ، وَالشُّقَّةُ هائلةٌ، فَكَأَنَّ الإنسانَ يُقال له: يا مسكينُ، أنتَ في رحلةٍ عظيمةٍ، وَآخِرُهَا أعظمُ من أَوَّلِهَا، أشدُّ مسافةً وأكبرُ خطرًا وأعظمُ غررًا، فَخُذْ أهبتَك في وقتِ الإمكانِ، وليس موضع يمكنكَ به أخذُها إلا في هذا الزمنِ، الذي لا تَدْرِي في أَيِّ وقتٍ يقطعُك الموتُ فيه وَيَخْتَرِمُكَ، فعلى الإنسانِ أن يبادرَ بأعظمِ ما

يكونُ من السرعةِ ليأخذَ زَادَهُ ويستعدَّ عدتَه لبقيةِ هذا السفرِ العظيمِ الهائلِ الشاقِّ، ثم بعدَ هذه المرحلةِ ننتقلُ جميعًا إلى مرحلةٍ تُسَمَّى مرحلةَ القبورِ، نصيرُ جميعًا إلى القبورِ كما صَارَ إليها مَنْ قَبْلَنَا. وَذَكَرُوا أن أعرابيًّا بدويًّا سمع قارئًا يقرأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: الآيتانِ 1، 2]. قال: انْصَرَفُوا وَاللَّهِ من المقابرِ إلى دارٍ أُخْرَى (¬1). لأن الزائرَ مُنْصَرِفٌ لا محالةَ، ثم إنهم يومَ القيامةِ يُخْرَجُونَ من القبورِ إلى محطةٍ أخرى وهي محطةُ عرصاتِ الحشرِ، يجتمعونَ فيها جميعًا في صعيدٍ واحدٍ ينفذُهم البصرُ ويُسمعُهم الدَّاعِي، ثم يَقْضِي اللَّهُ بينَ خلقِه بالشفاعةِ الكبرى، شفاعةِ سيدِ الأنبياءِ محمدٍ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فإذا انْقَضَى حسابُهم وَتَمَّتْ مجازاتُهم، عندَ ذلك صدورًا أشتاتًا {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة: آية 6] فمذهوبٌ به ذاتَ اليمينِ إلى الجنةِ، ومذهوبٌ به ذاتَ الشمالِ إلى النارِ، ولاَ يجتمعونَ بَعْدَ ذلك، وهذا قولُه تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا}، وهذه الأشتاتُ قَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ معناها في سورةِ الرومِ، في قولِه تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: الآيات 14 - 16]. فإذا دَخَلُوا أماكنَهم دَخَلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، وفي ذلك الوقتِ يُدْعَى بالموتِ في صورةِ كبشٍ أملحَ، في مَرْأَى كُلٍّ منهم ثم يُذْبَحُ، ويُقال: يا أهلَ الجنةِ خلودٌ فلاَ موتَ، ويا أهلَ النارِ خلودٌ فلاَ موتَ، وذلك هو معنَى قولِه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في التفسير (4/ 545).

[مريم: آية 39] إِذْ قُضي الأمرُ وَذُبِحَ الموتُ واستقرَّ كلٌّ في منزلِه استقرارًا أبديًّا، فهذا الاستقرارُ الذي لا تَحَوُّل بعدَه، من أجلِه قِيلَ للدارِ (الآخرة) لأنها ليس بعدَها محطةٌ أخرى ينتقلُ إليها، فهي آخِرُ المحطاتِ التي ينتقلُ إليها، لا يبغونَ عنها حِوَلاً في الجنةِ، ولا خروجَ لهم من النارِ، وهذا هو معنَى قولِه: (الآخرة). قولُه تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} أي: في جنبِها وبالنسبةِ والإضافةِ إليها {إِلاَّ قَلِيلٌ} جِدًّا، قد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه ضَرَبَ لذلك مَثَلاً بِمَنْ وَضَعَ إصبعَه في البحرِ، فَلْيَنْظُرْ بماذا يخرجُ به أصبعُه من البحرِ (¬1)، فذلك بمثابةِ قلةِ الدنيا بجنبِ الآخرةِ، وهذا معنَى قولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} لأَنَّ الدنيا دارٌ قليلٌ ما فيها، وأهلُها الذين كانوا يتمتعونَ بها إذا بُعِثُوا يحلفونَ أنهم ما مَكَثُوا فيها إلا ساعةً كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: آية 55] وَبَيَّنَ أن أقواهم عقلاً وأثبتَهم نظرًا يَدَّعِي أنهم مَكَثُوا يومًا أو بعضَ يومٍ، وهو قولُه في (طه): {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} [طه: آية 104] وهذا معنَى قولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (الدنيا) تأنيثُ الأَدْنَى، وهي في غايةِ الدناءةِ والدنوِّ؛ لأنها قِيلَ من الدنوِّ بأنها عَرَضٌ عاجلٌ الآنَ، وقيل من الدناءةِ بالنسبةِ إلى الآخرةِ (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: فناء الدنيا. حديث رقم: (2858) (4/ 2193). (¬2) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأعراف.

{إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: آية 39]. قولُه: {إِلاَّ تَنْفِرُوا} هي (إن) الشرطيةُ أُدْغِمَتْ في (إلا) يعنِي: إلا تَنْفِرُوا، إن لم تَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَتَنْفِرُوا لجهادِ أعداءِ اللَّهِ وإعلاءِ كلمتِه فإن ذلك ضررُه عليكم لا على اللَّهِ ولا على رسولِه. وهذه الآيةُ فيها سِرٌّ عظيمٌ يَعْلَمُ به الإنسانُ أن كُلَّ ما يفعلُه إنما أثرُه راجعٌ إلى نفسِه، فإن كان شَرًّا فهو يَجْنِي شَرًّا على نفسه، وإن كان خيرًا فهو يجلبُ الخيرَ لنفسِه {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: آية 7]. فَعَلَى كُلِّ عاقلٍ في دارِ الدنيا أن يعتبرَ بمعنَى هذه الآيةِ وما في معناها من الآياتِ، وهو أن ما يفعلُه الإنسانُ لاَ يَجْنِيهِ إلا هو، وأن حركاتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا يَبْنِي بها مسكنَه الذي يصلُ إليه ويخلدُ فيه خلودًا أبديًّا يومَ القيامةِ، فهذه الحركاتُ والسكناتُ في دارِ الدنيا يظنُّ الجاهلُ أنها أمورٌ لاَ طائلَ تحتَها، ولا يلزمُ الاحتياطُ والنظرُ الدقيقُ فيها، وهذا من أشنعِ الغلطِ؛ لأن حركاتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا مُقْبِلاً ومدبرًا، ذاهبًا وجائيًا، متصرفًا هنا وهنا، كُلُّهُ يبني منزلَه ومقرَّه النهائيَّ، إما أن يَبْنِيَ بذلك غرفةً من غرفِ الجنةِ يخلدُ فيها، أو يبنيَ به سجنًا من سجونِ جهنمَ، هذا هو الواقعُ، فَعَلَى كُلِّ مسلمٍ أن ينظرَ في أقوالِه وأفعالِه، فيعلم أنه ينفعُ بالطيبِ منها نفسَه، ويضرُّ بالخبيثِ منها نفسَه، ليحاسبَ فيجتنبَ الخبيثَ ويجتلبَ الطَّيِّبَ، وهذا معنَى قولِه: {إِلاَّ تَنْفِرُوا} إلا تَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ ورسولِه بالنفرِ إلى الأعداءِ لجهادِ أعداءِ اللَّهِ، وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ، ونصرِ دينِ اللَّهِ {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أنتم الذين تنالون الضرَّ مِنْ ذلك. {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الظاهرُ أن هذا العذابَ شاملٌ لعذابِ

الدنيا وعذابِ الآخرةِ، لأن التكاسلَ عن مقاومةِ الأعداءِ في دارِ الدنيا من أسبابِ عذابِ الدنيا؛ لأنه يُضْعِفُ المسلمينَ ويقوي أعداءَهم فيُهينونهم في قعرِ بيوتِهم كما هو واقعٌ الآنَ؛ لأن المسلمينَ، أو من يتسمونَ باسمِ المسلمينَ معذبونَ في أقطارِ الدنيا من جهةِ الكفرةِ، يضطهدونَهم، ويظلمونَهم، ويقتلونَهم، ويتحكمونَ في خيراتِ بلادِهم، وهذا كُلُّهُ من أنواعِ عذابِ الدنيا لتركِهم الجهادَ وإعلاءَ كلمةِ اللَّهِ (جلَّ وعلا). وما ذكره غيرُ واحدٍ عن ابنِ عباسٍ من أنه قال: إن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في بعضِ قبائلِ العربِ، اسْتَنْفَرَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزوِ فَامْتَنَعُوا، فمنع اللَّهُ عنهم المطرَ، وأضرَّهم بالقحطِ (¬1). هذا قد يدخلُ في الآيةِ في الجملةِ، ولا يمكنُ أن يكونَ معناها؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا}. فهذا يدلُّ على أن المرادَ به ليس حبسَ المطرِ، وإن كان حبسُ المطرِ من أنواعِ العذابِ التي تُسَبِّبُهَا مخالفةُ اللَّهِ (جلَّ وعلا)؛ لأن مخالفةَ اللَّهِ وعدمَ القيامِ بأمرِه ونهيِه هي سببُ كُلِّ البلايا كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: آية 30]. {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الأليمُ: معناه الْمُوجِعُ الذي يَجِدُ صاحبُه شدةَ أَلَمِهِ ووجعِه، والتحقيقُ هو ما قَدَّمْنَاهُ مرارًا (¬2): أن الأليمَ بمعنَى المؤلمِ، وأن (الفعيل) يأتِي في لغةِ العربِ بمعنَى (الْمُفْعِلِ). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، حديث رقم: (2489) (7/ 183)، والبيهقي (9/ 48)، والحاكم (2/ 118)، وابن جرير (14/ 254) وهو في ضعيف أبي داود ص246. (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

فما ذَكَرَهُ بعضُهم عن الأصمعيِّ من أن (الفعيل) لا يكونُ بمعنَى (المُفعل) وعليه أَرَادَ بعضُهم أن يفسرَ الأليمَ بأنه يُؤْلَمُ به أو يُحْصَلُ بسببِه أَلَمٌ، فَكُلُّهُ خلافُ التحقيقِ، والتحقيقُ أن من أساليبِ اللغةِ العربيةِ إطلاقَهم (الفعيلَ) وإرادةَ (المُفعِل) وهذا معروفٌ في كلامهم، ومنه {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: آية 101] أي: مبدعُها، {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} [هود: آية 25] أي: منذرٌ لكم، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ غيلانَ بنِ عقبةَ المعروفِ بذي الرُّمَّةِ (¬1): وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمٌ أَيْ: مُؤْلِمٌ، وقولُ عمرِو بنِ معدِ يكربَ الزبيديِّ (¬2): أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ فقولُه: «الدَّاعِي السَّمِيعُ» يعني: الدَّاعِي الْمُسْمِعُ، وقول عمرِو بنِ معدِ يكربَ أيضًا (¬3): وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ أَيْ: مُوجِعٌ. وهذا هو الصحيحُ. {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أَكْثَرَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في القرآنِ مِنْ ذِكْرِهِ أن الموجودينَ إذا لم يُطِيعُوهُ وَيَمْتَثِلُوا أمرَه فهو غَنِيٌّ عنهم قادرٌ على إذهابِهم وإزالتِهم بالكليةِ والإتيانِ بِمَنْ يَخْلُفُهُمْ، بل مَنْ يكونُ خَيْرًا منهم، وقد قَدَّمْنَا هذا مِرَارًا وسيأتِي أيضًا، فَمِنَ الآياتِ التي بَيَّنَ بها هذا قولُه تعالى في سورةِ النساءِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف. (¬3) السابق.

وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: آية 133] وقولُه في الأنعامِ: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: آية 133] وقولُه تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)} [إبراهيم: الآيتانِ 19، 20]. وقولُه في سورةِ القتالِ: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: آية 38] {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: آية 54] أي: بدلاً من هؤلاء الْمُرْتَدِّينَ، وهذا معنَى قولِه: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: آية 39] أي: يأتِي بقومٍ يجعلُهم بَدَلَكُمْ خَيْرًا منكم، إذا اسْتُنْفِرُوا نَفَرُوا، ولا يُؤْثِرُونَ الحياةَ الدنيا على الآخرةِ، كما دَلَّتْ عليه هذه الآياتُ المذكورةُ، وهذا معنَى قولِه: {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}. وقد ذَكَرْنَا مِرَارًا (¬1)، أن لفظةَ (القومِ) اسمُ جمعٍ لاَ واحدَ له من لفظِه، يُطْلَقُ في اللغةِ العربيةِ الإطلاقَ الأولَ على الذكورِ خاصةً دونَ النساءِ؛ لأنه وُضِعَ للذكورِ خاصةً، وربما دَخَلَتْ فيه النساءُ بِحُكْمِ التبعِ إذا دَلَّ على ذلكِ قرينةٌ، أما الدليلُ على أن القومَ اسمُ جمعٍ خاصٌّ بالرجالِ، في أصلِ وضعِه: فقولُه تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} [الحجرات: آية 11] ثم قال: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} فعطفُه النساءَ على القومِ يدلُّ على عدمِ دخولِهن في اسمِ القومِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ زهيرِ بنِ أبِي سُلْمَى (¬2): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ فَعَطَفَ النساءَ على القومِ، وربما دَخَلَتِ النساءُ في اسمِ القومِ بحكمِ التبعِ إذا دَلَّتْ على ذلك قرينةٌ خارجيةٌ، ومنه قولُه تعالى في سورةِ النملِ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43]. وقولُه: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} قال بعضُ العلماءِ: الضميرُ المنصوبُ في «تَضُرُّوهُ» عائدٌ إلى اللَّهِ، أي: لاَ تَضُرُّوا اللَّهَ شيئًا بعدمِ امتثالِكم أمرَه ولاَ سعيِكم في إعلاءِ كلمتِه (¬1). وهذا الوجهُ هو الذي يشهدُ له القرآنُ كقولِه (جلَّ وعلا): {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد: آية 32] وتدلُّ على هذا الآياتُ القرآنيةُ الكثيرةُ أن اللَّهَ غَنِيٌّ عن خَلْقِهِ الذين يدعوهم لطاعتِه، فإنما يَدْعُوهُمْ لنفعِهم، فامتثالُهم نَفْعُهُ لهم، وتمردُهم ضررُه عليهم، كما قال تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: آية 6]، {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: آية 8]، {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: آية 7] إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ. وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ المنصوبُ عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم (¬2)، أَيْ: لاَ تَضُرُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ له بنصرِه، كما يأتِي في قولِه: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ... } الآيةَ [التوبة: آية 40] ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 142)، ابن كثير (2/ 358). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 142).

وقولُه تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: آية 39] معناه: أنه (جلَّ وعلا) قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، فهو قادرٌ على ما شَاءَ، وقادرٌ أيضًا على ما لم يَشَأْ، فهو (جَلَّ وَعَلاَ) قادرٌ على هدايةِ أبِي بكرٍ الصديقِ، وقادرٌ على هدايةِ أبِي لَهَبٍ، لاَ شَكَّ أنه قادرٌ على الأَمْرَيْنِ، وقد أَرَادَ أحدَ الْمَقْدُورَيْنِ، وهو هدايةُ أبِي بكرٍ، وَلَمْ يُرِدِ المقدورَ الثانيَ وهو هدايةُ أبِي لهبٍ، فهو (جلَّ وعلا) قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، لا يَتَعَاصَى عليه شيءٌ، يقولُ للشيءِ: كُنْ فَيَكُونُ، خَلْقُهُ لجميعِ البشرِ كخلقِه لنفسٍ واحدةٍ {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: آية 28] لأنه (جلَّ وعلا) لا يَتَعَاصَى على قدرتِه شيءٌ سبحانَه (جل وعلا). [7/ب] / يقولُ اللَّهُ جلَّ وعلا: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} [التوبة: آية 40]. هذه الآيةُ يقولُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) فيها للذين تَكَاسَلُوا عن غزوةِ تبوكَ وَتَثَاقَلُوا وَتَبَاطَؤُوا أن يَغْزُوا الرومَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ} (إن) هي الشرطيةُ مدغمةً في (لا) والضميرُ المنصوبُ في (تنصروه) عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يعني: إن تَتَقَاعَسُوا وَتَتَثَاقَلُوا عن نصرةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوكَ فإن الله نَاصِرُهُ لاَ محالةَ، سواء تَثَاقَلْتُمْ أَمْ لَمْ تَتَثَاقَلُوا. وقد بَيَّنَ (جَلَّ وعلا) أنه نَصَرَهُ في حالةِ الضعفِ والقلةِ، في حالةِ كَانَ هو وصاحبُه دَاخِلَيْنِ في غارٍ مُخْتَفِيَيْنِ عن المشركينَ، فَلَمَّا نصره اللَّهُ في حالةِ الضعفِ والقلةِ فكيفَ لاَ ينصرُه في حالةِ الكثرةِ والقوةِ؟ وهذا

معنَى قولِه: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ} فَاللَّهُ ناصرُه على كُلِّ حالٍ، ثم بَيَّنَ نَصْرَهُ له السابقَ في حالةِ الضعفِ والقلةِ {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} على أعدائِه حيث أَنْجَاهُ اللَّهُ منهم، وَخَيَّبَ مكرَهم وأبطلَه، ثم أظهرَه عليهم بَعْدَ ذلك. وهذا معنَى قولِه: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}. {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} حينَ أَخْرَجَهُ الذين كفروا وهم كفارُ مكةَ، ومعنَى إخراجِهم له أنهم اضْطَرُّوهُ وَأَلْجَؤُوهُ إلى أن يخرجَ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان فِي حياةِ عَمِّهِ أبِي طالبٍ يدفعُ عنه مَكْرَ قريشٍ، وَيَحْمِيهِ منهم، ويقولُ له (¬1): وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا فَلَمَّا مَاتَ أبو طالب وَجَدَ الأنصارَ وَبَايَعُوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعةَ العقبةِ خاف قريشٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَظُمَ عليهم أَمْرُهُ، وَهَالَهُمْ شأنُه، فقالوا: هذا الرجلُ صار له أتباعٌ في القبائلِ الأُخْرَى، فما نَأْمَنُ أن يَغْزُونَا بأتباعه فيحتلنا. واعتزموا على أن يقتلوه، وقد قَدَّمْنَا السببَ الذي أَلْجَأَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى الهجرةِ في سورةِ الأنفالِ، في الكلامِ على قولِه تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} (¬2) [الأنفال: آية 30]. وذلك أن قريشًا لَمَّا هَالَهُمْ أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَظُمَ عليهم شأنُه، وخافوا أن تتبعَه قبائلُ العربِ فيغزوَهم بهم حاولوا أن يقتلوه، فاجتمعوا في دارِ الندوةِ، واجتمعَ جميعُ ساداتِ قبائلِ قريشٍ في ذلك الاجتماعِ، وجاءهم إبليسُ - عليه لعائنُ اللَّهِ - في صورةِ شيخٍ جليلٍ جَائيًا من ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (13) من سورة التوبة. (¬2) مضى عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال.

بلادِ نَجْدٍ، وقال لهم: قد علمتُ بما اعتزمتُم عليه. وَأَرَادَ أن يجلسَ معهم ليتبادلَ معهم الرأيَ، أَدْخَلُوهُ معهم، فَتَشَاوَرُوا في أمرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال قائلٌ منهم، يقال هو أبو البختريِّ: احْبِسُوهُ وَنَتْرُكُهُ مَحْبُوسًا حتى يموتَ. فقال ذلك الشيخُ الذي هو إبليسُ في صورةِ ذلك الشيخِ: ليس هذا لكم بِرَأْيٍ؛ لأنكم إن حبستموه جاء بَنُو عَمِّهِ وأتباعُه فَانْتَزَعُوهُ منكم، وَغَلَبُوكُمْ عليه. فقال آخَرُ: نرى أن نخرجَه من بلادِنا وأرضِنا ونصلحَ شأنَنا بعدَه إذا أَخْرَجْنَاهُ. فقال لهم إبليسُ اللعينُ في صورةِ ذلك الشيخِ: ليس هذا وَاللَّهِ بِرَأْيٍ؛ لأنكم إن أَخْرَجْتُمُوهُ فقد عرفتُم حلاوةَ منطقِه، وعذوبةَ لسانِه، فقد يَتْبَعُهُ الناسُ فيغزوكم في ديارِكم فيغلبَكم على أَمْرِكُمْ. فقال أبو جهلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إن عندي لَرَأْيًا ما أراكم ذَكَرْتُمُوهُ، خُذُوا من كُلِّ قبيلةٍ من قبائلِ قريشٍ شابًّا حدثًا قويًّا وَأَعْطُوهُ سَيْفًا وأْمُرُوهُمْ يضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ فَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ في قبائلِ قريشٍ، فلن يستطيعَ بَنُو عبدِ منافٍ أن يُحَارِبُوا جميعَ قريشٍ، فيقبلوا منا عقلَه، فنعقلَه ونعطيَهم دِيَتَهُ، ونستريحَ من شَأْنِهِ. فقال لهم إبليسُ اللعينُ: هذا وَاللَّهِ هو الرأيُ. فَأَجْمَعُوا رأيَهم على هذا وأنهم يقتلونَه، واجتمعوا لتنفيذِ ذلك عندَ بابِ الدارِ التي ينامُ فيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكان أَبْو بَكْرٍ (رضي الله عنه) قبلَ ذلك هَاجَرَ إلى الحبشةِ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَلَقِيَهُ عمرُو بنُ الدغنةِ سيدُ بَنِي القارةِ، وهم بنو الهونِ بنِ خزيمةَ بنِ مدركةَ بنِ إلياسَ، فقال لأبِي بكرٍ: أنتَ لاَ تذهبُ، وأنتَ فِي ذِمَّتِي. فرجع به في ذمتِه، وَأَعْطَاهُ قريشٌ ذمةَ ابنِ الدغنةِ على أن لا يُظْهِرَ قراءتَه ولا دِينَهُ، وأن يجعلَ دينَه سِرًّا في بيتِه، فلما طال ذلك على أبي بكرٍ (رضي الله عنه) صار يُظْهِرُ صلاتَه وقراءتَه، فَأَرْسَلَتْ قريشٌ إلى عمرِو بنِ الدغنةِ، الذي كان في ذمتِه

أبو بكرٍ (رضي الله عنه)، فقالوا: نَحْنُ لاَ نحبُّ أن نخفرَ ذمتَك، وإن صاحبَك صَارَ يفعلُ ما لم يَحْصُلْ عليه الاتفاقُ، فكلم ابنُ الدغنةِ أَبَا بكرٍ (رضي الله عنه) فقال: إما أن تَفِيَ بالشرطِ الذي تَوَافَقْنَا عليه، وإما أن تَرُدَّ إِلَيَّ ذمتي. فقال له أبو بكر (رضي الله عنه): رَدَدْتُ إليكَ ذمتَك، وأنا في ذمةِ اللَّهِ تعالى. وكان أبو بكر لَمَّا أرادَ أن يهاجرَ أشارَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه يطمعُ أن يُؤْذَنَ له في الهجرةِ، فقعد أبو بكر (رضي الله عنه) طَمَعًا في أن يُؤْذَنَ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الهجرةِ فيكون رفيقَه، واشترى رَاحِلَتَيْنِ، وكان يعلفُهما الْخَبَطَ، وهو ورقُ السمرِ، شجرٌ معروفٌ، علفهما إياه أشهرًا عديدةً، أربعةً، أو ستةً، أو غيرَ ذلك. فلما اجتمعت قريشٌ لقتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتِي بيتَ أبِي بكرٍ كُلَّ يومٍ إما أولَ النهارِ أو آخرَه، فبينما هُمْ ذاتَ يومٍ إِذْ قَدِمَ عليهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في حَرِّ الظهيرةِ، فقال أبو بكر: هذا وقتٌ ما جَاءَنَا به رسولُ الله، وَاللَّهِ ما جاء إلا لأَمْرٍ حَدَثَ. ثم لَمَّا دَخَلَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال لأبِي بكرٍ: أَقِمْ مَنْ عِنْدَكَ. فقال: هُمْ أَهْلُكَ يا رسولَ اللَّهِ، هُمُ ابْنَتَايَ - يعني عائشةَ وأسماءَ (رضي الله عنهما) - فأخبرَ النبيُّ أبا بكر (رضي الله عنه) أن اللَّهَ أَذِنَ له في الهجرةِ، فقال: الصحبةَ يا رسولَ اللَّهِ. فقال: الصحبة. قالت أسماءُ (رضي الله عنها): ما رأيتُ أحدًا يبكي من الفرحِ قبلَ ذلك اليومِ، فأبو بكر يَبْكِي من الفرحِ. كذا قاله غيرُ واحدٍ من أهلِ الأخبارِ وَالسِّيَرِ، ثم إن قريشًا اجتمعوا لتنفيذِ الخطةِ وقتلِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ جبريلُ فأخبرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ بالخروجِ، فنادى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ (رضي الله عنه) وأمرَه أن يضطجعَ في مكانِه، وأن ينامَ في البُرْدِ الذي كان ينامُ فيه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم إن اللَّهَ أَخَذَ بأعينِهم فَمَرَّ بهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم

وقرأ عليهم آياتٍ من أولِ سورةِ (يس) حتى بَلَغَ {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: آية 9] وَوَضَعَ على رأسِ كُلِّ واحدٍ منهم الترابَ. ثم خرجَ هو وأبو بكرٍ (رضي الله عنه). قال بعضُهم: خرج من خوخةٍ في قَفَا دارِ أبي بكرٍ التي في بَنِي جُمَحَ، وذهب هو وأبو بكر إلى الغارِ، وهو غارٌ في جبلٍ من جبالِ مكةَ يُسَمَّى ثورًا، فدخل فيه هو والنبيُّ صلى الله عليه وسلم، وجاءَه ليلاً، ومكثوا فيه ثلاثَ ليالٍ بأيامِها حتى يرجعَ الطلبُ، وَآجَرُوا رجلاً من بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأريقطِ على دينِ كفرِ قريشٍ، يُقال: إن له خؤولةً في بَنِي سهمِ بنِ عمرِو بنِ هصيصِ بنِ كعبِ بنِ لؤيٍ، فَأَمَّنَهُ وَاسْتَأْجَرَهُ على راحلتيهما وواعدَه بعدَ ثلاثِ ليالٍ أن يأتيَهم بالراحلتين في غارِ ثورٍ، وكان كافرًا أمينًا، كَتَمَ سِرَّهُمَا وَحَفِظَ عليهما أمرَهما، وجاءهما في الموعدِ، وكان عبدُ اللَّهِ بنُ أبي بكرٍ (رضي الله عنهما) غلامًا ثَقِفًا شابًّا عاقلاً، كان يأتيهم بأخبارِ قريشٍ وَكُلِّ ما قالوا وَتَحَدَّثُوا به في شأنِهم في النهارِ يأتيهم به في الليلِ في الغارِ، وكانت أسماءُ (رضي الله عنها) تأتيهم بالطعامِ، وكان عامرُ بنُ فهيرةَ الطائيُّ (رضي الله عنه) مولَى أبي بكرٍ الصديقِ كان عبدًا مَمْلُوكًا لأولادِ أُمِّ رومانَ، وهي أُمُّ عائشةَ، كانت لها أولادٌ قبلَ أبِي بكرٍ، وكان عامرُ بنُ فهيرةَ هذا عَبْدًا لهم، فاشتراه أبو بكر (رضي الله عنه) فَأَعْتَقَهُ، فكان مولًى لأَبِي بكرٍ، كان يريحُ على النبيِّ وأبي بكر غَنَمًا لأبي بكر (رضي الله عنه) فيحلبُ لهم منها فيشربونَ بالليلِ، ثم إذا كان في آخِرِ الليلِ صَاحَ بها فأصبحَ مع رعاءِ قريشٍ، ولا يَدْرُونَ أنه كان معهم. فمكثوا فيها ثلاثَ ليالٍ، فجاءهم عبدُ اللَّهِ بنُ الأريقطِ الدؤليُّ - رفيقُهم - وَرَكِبَا، وكان خرِّيتًا ماهرًا، سار بهم في طرقٍ غيرِ معهودةٍ؛ لأَنَّ الطرقَ المعهودةَ عليها

الرصدُ والعيونُ، وكانت قريشٌ أَخَذُوا قائفًا خبيرًا بِقَصِّ الأثرِ يقال هو سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جعشمَ، ويقال هو غيرُه، فَاقْتَصَّ بهم الأثرَ حتى بلغ الغارَ، وقال: مِنْ هَاهُنَا ضاعَ الأثرُ. ويقول أصحابُ الأخبارِ وَالسِّيَرِ: إن الله قَيَّضَ العنكبوتَ فَنَسَجَتْ على الغارِ (¬1)، وَقَيَّضَ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَبَاضَتَا على فَمِ الغارِ (¬2)، فلما جاء كفارُ مكةَ وَوَصَلُوا فَمَ الغارِ، قال أبو بكر لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أن أحدَهم نَظَرَ تحتَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا. فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَالُكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟» (¬3) فرجعوا خَائِبِينَ. فلما كان بعدَ ثلاثِ ليالٍ ورجعَ الطلبُ جاءهم عبدُ اللَّهِ بنُ الأُريقطِ براحلتيهما وَرَكِبَا ومعهما عامرُ بنُ فهيرةَ. وكان عامرُ بنُ فهيرةَ رديفَ أبِي بكرٍ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم على إحدى الناقتين اللتينِ اشتراهما أبو بكر لهذا الْغَرَضِ، وهي ناقتُه العضباءُ المشهورةُ، وَلَمَّا عرضها عليه أبو بكر (رضي الله عنه) أَبَى أن يَقْبَلَهَا إلا بالثمنِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فخرجَ بهما في طريقٍ يُسَمَّى طريقَ الساحلِ، وجاء إلى طرقٍ غيرِ معهودةٍ، وابنُ إسحاقَ ذَكَرَ الْمَحَالَّ التي جاء منها (¬4)، تارةً يَصِلُونَ إلى الطريقِ المعهودةِ، وتارةً يخرجونَ عنها ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال .. (¬2) أخرجه ابن سعد (1/ 154)، والبزار (كشف الأستار 2/ 299) ولا يصح في بيض الحمامتين شيء. وانظر: أحاديث الهجرة ص 138. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، منهم أبو بكر رقم (3653) (7/ 8). وانظر الأحاديث رقم (3922، 4663). وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق. رقم (2381) (4/ 1854). (¬4) نقله عنه ابن هشام ص514 - 516، وابن كثير في البداية والنهاية (3/ 189). وقد جاء ذلك في بعض الروايات عند الحاكم (3/ 8)، وابن سعد (1/ 1/157) وانظر مجمع الزوائد (6/ 55).

حتى وصلوا المدينةَ. ومن أشهرِ ما حَصَلَ في طريقِهم إلى المدينةِ قصةُ أُمِّ معبدٍ، وقصةُ سراقةَ بنِ مالكِ بنِ جعشمَ. وَمِمَّا نَزَلَ من القرآنِ في هذا السفرِ، نَزَلَتْ فيه آياتٌ من القرآنِ منها قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: آية 85] قال بعضُ العلماءِ: نَزَلَتْ في الجحفةِ في سفرِ الهجرةِ هذا، وفي هذا السفرِ مَرَّ على ديارِ بَنِي مُدْلِجٍ، يقول بعضُهم: هي قريبٌ من قديدٍ فقال رَجُلٌ: رأيتُ أشخاصًا كأنهم القومُ الذين يطلبهم قريشٌ. فعلم سراقةُ بنُ مالكٍ أنهم هُمْ، ولكنه طَمِعَ بأن يأخذَهم أو يقتلَهم فينال الجعائلَ التي جَعَلَتْهَا قريشٌ. فقال: لاَ، أولئك قومٌ خرجوا للكلأ. ثم بعدَ هنيهةٍ خَرَجَ وَأَمَرَ جاريتَه أن تُسْرِجَ فرسَه من وراءِ أَكَمَةٍ، ثم خرج مختفيًا فركب على فرسِه، فلما قاربَهما سَاخَتْ به قوائمُ فَرَسِهِ في الأرضِ، في القصةِ المشهورةِ، فطلب الأمانَ من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (¬1)، قال بعضُ أهلِ السيرِ والأخبارِ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ له رقعةً، وصار يُثَبِّطُ الناسَ ويردُّهم عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ بذلك الخبيثُ أبو جَهْلٍ، وأرسل إلى بَنِي مُدْلِجٍ يحذرُهم من نصرِ سراقةَ لِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويقولُ أبو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ في ذلك أشعارًا في غايةِ الكفرِ، ويعيبُ على سراقةَ نصرَه لِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ومما يقولُ في ذلك (¬2): بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ ... سُرَاقَةَ مُسْتَغْوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ ¬

(¬1) خبر سراقة وما قبله مما يتعلق بالهجرة من روايات كل ذلك تقدم تخريجه في مواضع سابقة. منها عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال .. (¬2) البيتان في البداية والنهاية (3/ 186).

عَلَيْكُمْ بِهِ أَلاَّ يُفَرِّقَ شَمْلَكُمْ ... فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عِزٍّ وَسُؤْدَدِ فسمع بشعرِه سراقةُ بنُ مالكٍ وأرسلَ إليه بأبياتِه المشهورةِ التي ذَكَرَهَا غيرُ واحدٍ من المؤرخينَ وأصحابِ السيرِ وهو قولُه (وكان أَبُو جهلٍ يُكَنَّى أبا الحكم (¬1): أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا ... لأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ عليكَ بكفّ القوم عنه فإنني ... أرى أمره يومًا ستبدو معالمه بِأَمْرٍ يَوَدُّ النَّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ ... بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا يُسَالِمُهْ وَمَرَّ في هذه الطريقِ بعاتكةَ بنتِ خالدٍ الخزاعيةِ المعروفةِ بِأُمِّ مَعْبَدٍ (رضي الله عنها)؛ لأنها أَسْلَمَتْ وقد رَوَيْتُ قصتَها عنها وعن أخيها حُبيشِ بنِ خالدٍ ويقال خنيس بن خالد وغيرهما (¬2) أنهم كانوا ¬

(¬1) الأبيات في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 489)، البداية والنهاية (3/ 186) مع اختلافات يسيرة في الأبيات الثلاثة الأولى، أما البيت الأخير فنصه في البداية والنهاية: بأمرٍ تودُّ النصرَ فيه فإنهم ... وإنَّ جميعَ الناس طُرًّا مُسالِمُهْ وفي الدلائل: بأمر يود النصر فيه بإِلْبِهَا ... لو أن جميع الناس طُرًّا تسالمه (¬2) أخرجه البيهقي في الدلائل (1/ 276)، (2/ 491)، والحاكم (3/ 9)، وابن سعد (1/ 1/155)، وابن عساكر (انظر: تهذيب تاريخ دمشق (1/ 326)، والآجري في الشريعة ص465. وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 55) من حديث جابر (رضي الله عنه) مختصرًا، وعزاه للبزار، وقال: «وفيه من لم أعرفه» اهـ وأورده من حديث حبيش بن خالد (رضي الله عنه) (6/ 55) وقال (6/ 58): «رواه الطبراني في إسناده جماعة لم أعرفهم» اهـ. كما أورده من حديث قيس بن النعمان (6/ 58) وقال: «رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح» اهـ.

في شِدَّةٍ، وكانت أغنامُهم عازبةً، فَمَرَّ بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعامرُ بنُ فهيرةَ وعبدُ اللَّهِ بنُ الأريقطِ، فسألوها هل عندها لحمٌ أو تَمْرٌ يُبَاعُ؟ فقالت: لا شيءَ عندها. وقالت: لو كان عندنا القِرَى ما أَعْوَزَكُمْ؛ لأن الْحَيَّ في شدةٍ، والأغنامُ عازبةٌ، فَنَظَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى شاةٍ في كسرِ خيمتِها فقال: «مَا بَالُ هَذِهِ الشَّاةِ؟» قالت: خَلَّفَهَا الجهدُ. قال: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا؟» قالت: إن وجدتَ فيها حليبًا فاحلبها. فدعا بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ضرعَها وسمى الله، فَتَفَاجَّتْ وَاجْتَرَّتْ، ودعا بإناءٍ عظيمٍ فحلب فيه حتى امتلأ، فسقاها هي وَمَنْ معها، ثم سَقَى قَوْمَهُ، وشرب صلى الله عليه وسلم وقال فيما يقولُ أهلُ الأخبارِ: «سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا» (¬1) ثم أخذَ الإناءَ وملأه مرةً أخرى وتركَه عندَها وخرجَ. فلم تَمْكُثْ إلا قليلاً أن جاء زوجُها أبو معبدٍ فوجدَ الإناءَ مملوءًا من اللبنِ، فعجب منه وقال: كيف هذا اللبنُ؟ ولا حلوبةَ في البيتِ؟ فقالت: جاءنا رجلٌ مباركٌ من صفتِه كيت وكيت، فقال: صِفِيهِ لِي يا أُمَّ مَعْبَدٍ. فَوَصَفَتْهُ وصفَها المشهورَ، فقالت له: رأيتُ رجلاً ظاهرَ الوَضَاءةِ، حَسَنَ الْخَلْقِ، مليحَ الوجهِ، لم تُعِبْهُ تُجْلَة (¬2)، ولم تُزْرِ به صُعْلَةٌ، قَسِيمٌ وَسِيمٌ، في عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وفي ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد (1/ 1/155) في خبر الهجرة. وهذه الجملة «ساقي القوم آخرهم شربًا» سردت أيضًا في مناسبة غبر سفر الهجرة كما في حديت أبي قتادة (رضي الله عنه) عند مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة رقم (681) (1/ 472). (¬2) المثبت في أكثر الروايات (تُجلة)، وفي بعضها: (تُحْلَة). والثُّجلة: عظم البطن، والنحلة: الدقة والنحول.

أشفارِه حَوَرٌ، وفي صوتِه صَحَلٌ، أكحلُ أقرنُ أزجُّ، في عنقه سَطَعٌ، وفي لحيتِه كثافةٌ. إذا صمت فعليه الوقارُ، وإذا تكلم سَمَا وعليه البهاءُ، حُلْوُ المنطقِ، فَصْلٌ ليس بنزرٍ ولا هَذْرٍ، كأن منطقَه خَرَزَاتُ نَظْمٍ يتحدَّرْن أو يَنْحَدِرْنَ، أجملُ الناسِ وأبهاهم من بعيدٍ، وأحسنُهم من قريبٍ، رَبْعَةٌ لاَ تَنسَؤهُ عينٌ لطولِه، ولا تَقْتَحِمُهُ عينٌ لقِصَرهِ، إلى آخِرِ ما ذَكَرَتْ من أوصافِه الكريمةِ الجليلةِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه (¬1). وهذه المعانِي الجليلةُ قد لا يَفْهَمُهَا كُلُّ الناسِ، سنُشيرُ إلى ما لا يُفْهَمُ منها: فقولُها: (لم تَعِبْهُ التُّجلَةُ) (¬2): بِضَمِّ التاءِ والجيمِ معناه عِظَمُ البطنِ وكبرُها. وقيل: ارتفاعُ الْخَاصِرَتَيْنِ ونتؤوهما. (وَلَمْ تزْرِ به صُعْلَةٌ): الصُّعلَةُ: صِغَرُ الرأسِ صغرًا مفرطًا. يعنِي: ليس ضخمَ البطنِ، ولا صغيرَ الرأسِ جِدًّا، بل هو ضامرُ البطنِ، رأسُه ليس بصغيرٍ صغرًا مزريًا. وقولُها: (في عَيْنَيْهِ دَعَجٌ): الدَّعَجُ: سوادُ العينِ مع سعتِها. وقولُها: (في أشفارِه وَطَفٌ): الوَطَفُ: هو كثرةُ شعرِ الجفنِ. وقولُها (أَزَجّ) تعني: قليلُ شعرِ الحاجبِ. وقولُها: (أقرنُ): تعني أن شعرَ حَاجِبَيْهِ يمتدُّ طرفُ هذا حتى يقربَ من هذا مع الزَّجَجِ فيه. ¬

(¬1) هذه الأوصاف وردت في بعض الروايات عند الحاكم (3/ 9)، والبيهقي في الدلائل (1/ 278 - 279)، وابن سعد (1/ 1/156)، وابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق 1/ 326 - 327). (¬2) راجع الحاشية قبل السابقة.

وقولُها: (في عنقه سَطَعٌ): أي طُولٌ؛ لأنه ليسَ قصيرَ العنقِ. إلى آخِرِ ما ذَكَرَتْهُ من أوصافِه الجميلةِ. فلما جاء زوجُها قال: هذا وَاللَّهِ صاحبُ قريشٍ الذي يطلبونَه وَلأَجْهَدَنَّ في أن أصحبَه. وَذَكَرَ غيرُ واحدٍ أنه أَسْلَمَ بعدَ ذلك وَهَاجَرَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي صبيحةِ ذلك اليوم سَمِعَ قريشٌ هاتفًا من الجنِّ يسمعونَ صوتَه مرتفعًا، ولا يَرَوْنَ شخصَه، يُنْشِدُ ذلك الشعرَ المشهورَ الذي يقولُ فيه (¬1): جَزَى اللَّهُ رُبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلاَّ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ هُمَا نَزَلاَ بِالْبِرِّ وَارْتَحَلاَ بِهِ ... فَأَصْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمْ ... بِهِ مِنْ فَعَالِ اللَّهِ جَاهًا وَسُؤْدَدِ لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ ولم يدرِ قريشٌ أين ذهبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى سَمِعُوا هاتفًا من الجنِّ على أبِي قُبَيْس ينشدُ هذا الشعرَ، يسمعونَ أيضًا صوتَه ولا يرونَ شَخْصَهُ: فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانُ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ ... بِمَكَّةَ لاَ يَخْشَى خِلاَفَ الْمُخَالِفِ فقال أبو جهل: ما هذانِ السعدانِ، سعد كذا أو سعد كذا (¬2). ¬

(¬1) هذه الأبيات ضمن الرواية المفصلة في قصة أم معبد، وقد سبق تخريجها قريبًا. (¬2) القائل هو أبو سفيان. ومقالته: «من السعدان: أسعد بن بكر، أم سعد بن هُذَيم»؟ وهما قبيلتان.

فسمِع بعد ذلك الهاتفَ يقول (¬1): أَيَا سَعْدُ سَعْدَ الأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا ... وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجَيْنِ الْغَطَارِفِ أَجِيبَا إِلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا ... عَلَى اللَّهِ بِالْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ فَإِنَّ جَزَاءَ اللَّهِ لِلطَّالِبِ الْهُدَى ... جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذَاتِ رَفَارِفِ ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استمرَّ في طريقِه ذاهبًا إلى هذه المدينةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ - وكان الأنصارُ (رضي الله عنهم) سمعوا بخروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ في طريقِه، لَقِيَ الزبيرَ بنَ العوامِ كما ذَكَرَهُ البخاريُّ (¬2) في قومٍ مسلمينَ جاؤوا تجارًا من الشام، فكساهم ثيابًا بِيضًا وجاؤوا يلبسونَ ثيابًا بيضًا، وكان الأنصارُ كلما صَلَّوُا الصبحَ خرجوا إلى حرتِهم ينتظرونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَرَحًا بقدومِه، فلم يزالوا ينتظرونَه حتى تَغْلِبَهُمْ الشمسُ على الظلالِ، والزمنُ زمنُ حَرٍّ في ذلك الوقتِ، ولم يزالوا كذلك حتى رَجَعُوا إلى بيوتِهم وقتَ شدةِ الحرِّ بعدَ أن غَلَبَتْهُمُ الشمسُ على الظلالِ، فصعد رجلٌ من يهودٍ على أطم من آطامِهم فأبصرَ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والذين مَعَهُ في ثيابٍ بِيضٍ يزولُ بهم السرابُ، فلم يَتَمَالَكْ أن نادى بأعلى صوتِه: يا بني قَيْلَةَ هذا جدُّكُم الذي تنتظرونَ، فَثَارَ الأنصارُ في السلاحِ وَتَلَقَّوْهُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) (¬3). وفي بعضِ الرواياتِ الثابتةِ (¬4) أنه لما قَرُبَ من المدينةِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 428 - 429)، ونقله عنه ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 165). (¬2) مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. حديث رقم: (3906) (7/ 238 - 239). (¬3) الكلام إلى هذا الموضع تابع لرواية البخاري. (¬4) أوردها ابن هشام (517 - 518)، وابن كثير في تاريخه (3/ 196).

جَلَسَ في ظِلِّ نخلةٍ، وأن الأنصارَ جاؤوه في السلاحِ، وكان كثيرٌ منهم لم يَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يَعْرِفْ هو أو أبو بكر جَلَسَ تحتَ ظِلِّ تلك الشجرةِ حتى تَحَوَّلَ الظلُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فَظَلَّ عليه بردائِه، فَعَلِمُوا أنه هو. وجاء في بعضِ الرواياتِ أنه جاء المدينةَ في حرِّ الظهيرةِ (¬1). وفي بعضها (¬2) أنه دَخَلَهَا في الليلِ. وقد وَفَّقَ بينَهما بعضُ العلماءِ (¬3) بأن أصلَ قدومِه وقتَ الظهيرةِ، وأنه جَلَسَ تحتَ تلك النخلةِ حتى صار آخِر النهارِ. فجاء بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ في قباء، وَقَدِمَ أولاً على بَنِي عمرِو بن عوفٍ من الأوسِ في قباء وَمَكَثَ فيهم مدةً. واختلف العلماءُ في قَدْرِ المدةِ التي مَكَثَ فيهم (¬4)، فَثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه أنه مَكَثَ فيهم بضعَ عشرةَ يومًا (¬5)، وجاء عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) وَأَدْرَكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرِو بنِ عوفٍ بقباء؛ لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانت تدعوه قريشٌ (الأمينَ) وكان عنده كثيرٌ من الودائعِ يحفظُها لأمانتِه عندَهم، فَخَلَّفَ عليَّ بنَ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) بعد أن هاجر هو وأبو بكر حتى يَرُدَّ على الناس ودائعَهم، ثم يتبعه صلى الله عليه وسلم، فَلَحِقَ به وهو في بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بقباء. كان ابنُ إسحاقَ يقولُ: قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بقباء يومَ الإثنينِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ من ربيعٍ الأولِ، وَمَكَثَ فيهم ¬

(¬1) كما في رواية البخاري السابقة عن عروة. (¬2) كما في رواية مسلم من حديث الهجرة المخرج في الصحيحين من حديث البراء عن أبي بكر (رضي الله عنهما)، وقد تقدم تخريجه عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال. (¬3) انظر: البداية والنهاية (3/ 196)، فتح الباري (7/ 244). (¬4) انظر: تاريخ ابن كثير (3/ 198)، فتح الباري (7/ 244). (¬5) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

يومَ الإثنينِ ويومَ الثلاثاءِ والأربعاءَ والخميسَ (¬1)، ثم سار يومَ الجمعةِ إلى المدينةِ. وهذا قولُ ابنِ إسحاقَ. وروى البخاريُّ عن طريقِ الزهريِّ ما يقتضي أنه مَكَثَ في بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بضعَ عشرةَ ليلةً (¬2). فَلَمَّا خَرَجَ من بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ ذاهبًا إلى المدينةِ، قال ابنُ إسحاقَ وغيرُه (¬3): وَافَتْهُ الجمعةُ حذاءَ مسجدِ بَنِي سالمِ بنِ عوفٍ، المسجدِ الذي في الوادِي بَيْنَ قباء والمدينة، فَصَلَّى فيه الجمعةَ. قالوا: وهي أولُ جمعةٍ صَلاَّهَا بالمدينةِ، فجاءه عتبانُ بنُ مالكٍ (رضي الله عنه) وعباسُ بنُ عبادةَ بنِ نضلةَ في رجالٍ من بَنِي سالمِ بنِ عوفٍ، وقالوا: يا نَبِيَّ الله: أَقِمْ عندنا في العزةِ والعددِ والمنعةِ. فقال يعني ناقتَه: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فخرجت ذاهبةً إلى المدينةِ، فَلَمَّا وَازَى دُورَ بَنِي بياضةَ تَلَقَّاهُ زيادُ بنُ لبيدٍ وفروةُ بنُ عمرٍو في رجالٍ من بَنِي بياضةَ فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ هَلُمَّ إلينا في العدةِ والعددِ والمنعةِ. قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فلما مَرَّتْ ¬

(¬1) نقله ابن هشام ص520. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬3) نقله ابن هشام ص520.

بديارِ بَنِي ساعدةَ من الخزرجِ تلقاه سعدُ بنُ عبادةَ (رضي الله عنه) والمنذرُ بنُ عمرٍو (رضي الله عنهم) وقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَلُمَّ إلينا في العدةِ والعددِ والمنعةِ. قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فلما مَرَّتْ ببني عديِّ بنِ النجارِ وهم أخوالُه الأقربونَ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّ جدَّه عبدَ المطلبِ أُمُّهُ سلمى بنتُ عمرِو بنِ زيدٍ من بَنِي عديِّ بنِ النجارِ، تلقاه منهم رجالٌ منهم سليطُ بنُ قيسٍ وأبو سليطٍ. فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ هَلُمَّ إلى أخوالِك في العددِ والعدةِ والمنعةِ. قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فلما مَرَّتْ بديارِ بَنِي الحارثِ بنِ الخزرجِ (¬1) تَلَقَّاهُ جماعةٌ منهم، منهم سعدُ بنُ الربيعِ، وعبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ، وخارجةُ بنُ زيدٍ (رضي الله عنهم)، في رجالٍ من بَنِي الحارثِ بنِ الخزرجِ، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ هَلُمَّ إلينا في العددِ والعدةِ والمنعةِ. قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» حتى بَلَغَتْ ديارَ بني مالكِ بنِ النجارِ فَبَرَكَتْ بجنبِ هذا المسجدِ. وكان إذ ذلك الوقتِ مربدًا، والمربدُ موضعُ إصلاحِ التمرِ، وكان لِيَتِيمَيْنِ من بَنِي مالكِ بنِ النجارِ، هُمَا سهلٌ وسهيلٌ ابْنَا عمرٍو، وابنُ إسحاقَ يقول (¬2): إنهما في حجرِ معاذِ بنِ عفراءَ. وجاء في صحيحِ البخاريِّ من طريقِ الزهريِّ ما يقتضي أنهما في حجرِ أسعدَ بنِ زرارةَ (رضي الله عنه) (¬3). فبركت الناقةُ، فلما بركت قال ابنُ إسحاقَ (¬4): لم ينزل عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى قَامَتْ وَمَشَتْ قليلاً ثم التفتت وَرَجَعَتْ إلى مبركِها الأولِ. وتحلحلت فيه ووضعت جِرَانَهَا في الأرضِ. والجرانُ: بَاطِنُ عنقِ البعيرِ، وكان أقربُ بيتٍ لذلك بيتُ أبِي أيوب الأنصاريِّ - خالدِ بنِ زيدٍ (رضي الله عنه) - فَأَخَذَ رحلَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى بيتِه، ولم يَزَلْ صلى الله عليه وسلم في بيتِ أبِي أيوب حتى بَنَى هذا المسجدَ، وَبَنَى مساكنَه وَحُجَرَهُ التي بجنبِه فانتقلَ إليها. هذا ملخصٌ عَمَّا جاء في هذا السِّفْرِ المباركِ، سِفْرِ الهجرةِ، فيه بعضُ رواياتٍ ثابتةٍ في الصحيحِ، وفيه كثيرٌ منه في السيرةِ والأخبارِ، ¬

(¬1) كان مروره صلى الله عليه وسلم بديار بني الحارث بن الخزرج في مروره ببني عدي بن النجار كما في رواية ابن إسحاق. (¬2) نقله ابن هشام ص521. (¬3) تقدم تخريجها قريبًا. (¬4) وعنه ابن هشام ص521.

والسيرُ والأخبارُ تُحكى، وإنما يُحْتَاجُ إلى التصحيحِ فيها لِمَا يتوقفُ عليه بعضُ الأحكامِ الشرعيةِ، وهذه القصةُ ذَكَرَ بعضُ العلماءِ فيها أحكامًا مفيدةً كثيرةً منها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْمَنَ كافرًا على سِرِّهِ وَأَمْنِهِ، وانتفعَ بخبرةِ كافرٍ، ومثل هذا يحتاجُ إلى التنبيهِ عليه اليومَ؛ لأن الناسَ اليومَ بين مُفْرِطٍ ومفرِّط في الانتفاعِ من الكفارِ، فبين مُفْرِطٍ يزعمُ أن تقليدَ الكفارِ يلزمُ في كُلِّ شيء، حتى ولو كان الانسلاخَ من دينِ اللَّهِ، ومنهم مُفَرِّطُونَ يقولونَ: لاَ تأخذوا عنهم شيئًا ولو من أمورِ الدنيا البحتةِ. والتحقيقُ أنه يُؤْخَذُ عنهم ما يجوزُ أخذُه، ولا يؤخذُ عنهم ما لا يجوزُ أخذُه. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم علَّم أُمَّتَهُ ذلك في وقائعَ كثيرةٍ، من ذلك أنه لَمَّا لم يَجِدْ إلا أمينًا كافرًا ائتمن هذا الأمينَ الكافرَ وعاملَه وانتفعَ بخبرتِه العظيمةِ في الطرقِ على حَدِّ قولهم: «اجْتَنِ الثمارَ وَأَلْقِ الخشبةَ في النارِ» (¬1) ولم يكن جامدًا، ولم يَقُلْ: هذا كافرٌ، والكافرُ خبيثٌ، والانتفاعُ بالخبيثِ خبيثٌ. بل تَبَرَّأَ منه. لا، بل انتفعَ بخبرتِه واستأجرَه؛ ولهذا نظائرُ كثيرةٌ، من ذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَمِعَ بقدومِ الأحزابِ مع كثرتِهم وقلةِ المؤمنينَ قال له سلمانُ الفارسيُّ: كُنَّا إذا خِفْنَا خَنْدَقْنَا (¬2). فالخندقُ خطةٌ عسكريةٌ ابْتَدَعَتْهَا أذهانُ فارسَ، وهم كفارٌ يعبدونَ النارَ، فلم يَقُلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هذه خطةٌ نجسةٌ؛ لأَنَّ الكفارَ ابتدعوها. بل أخذ بها وانتفعَ بها وهو متمسكٌ بدينِه، وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ ما يقتضي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بمنعِ الغيلةِ، وهي وطأُ المرضعِ؛ لأَنَّ العربَ كانوا يعتقدونَ أن المرأةَ إذا ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام. (¬2) السابق.

كانت تُرْضِعُ وَلَدَهَا إذا جَامَعَهَا زوجُها وهي ترضعُ ولدَها أن ذلك يُضْعِفُ ولدَها ويضعفُ عظمَه وَيَضُرُّهُ، وكانوا إذا ضَرَبَ الرجلُ فَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ قالوا: هذا من آثارِ الغيلةِ عليه، وُطِئَتْ أُمُّهُ وهو يرضعُها حتى كان شاعرُهم يقول (¬1): فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ ... فَتَنبُوا فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ فَسَمِعَ صلى الله عليه وسلم عن الرومِ وفارسَ أنهم يفعلونَ هذا ولا يضرُّ أولادَهم فأخذ هذه الخطةَ الطبيةَ عن الرومِ وفارسَ (¬2). وهذه الخطةُ العسكريةُ عن فارسَ والانتفاعِ بهذه الخبرةِ عن هذا الرجلِ الكافرِ الذي يعبدُ الوثنَ ليعلِّم أمتَه أنهم يأخذون من الكفارِ أمورَهم الدنيويةَ البحتةَ، ولا يُقَلِّدُوهُمْ في كفرِهم وضلالِهم، وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيه. ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن اللَّهَ (جل وعلا) يقولُ: إلا تَنْصُرُوا نَبِيَّ اللَّهِ وتتقاعسوا وتتباطؤوا عنه في غزوةِ تبوكَ فالله يَكْفِيهِ ولا يحتاجُ إليكم وقد نَصَرَهُ في مواضعَ أعسرَ وأشدَّ من هذا، فقد نَصَرَهُ اللَّهُ حين أَخْرَجَهُ الذين كفروا بما ذَكَرْنَا من تواطئِهم عليه وإلجائِهم إلى الخروجِ. كان بعضُ العلماءِ يقولُ (¬3): يُؤْخَذُ من هذه الآيةِ من سورةِ براءة بعضُ الأحكامِ الفقهيةِ، وأن الإنسانَ إذا أَكْرَهَ إنسانًا على الاعتداءِ، كَأَنْ أكرهَه على أن يقتلَ أو يتلفَ مالاً، أن المكرِه (بكسرِ الراءِ) أعنِي باسمِ الفاعلِ، يلزمُه غُرْمُ ذلك والقصاصُ فيه، لأَنَّ [الله] (¬4) نَسَبَ الإخراجَ إليهم؛ لأنهم أَلْجَؤُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إليه. فَسَمَّى ¬

(¬1) السابق. (¬2) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام. (¬3) انظر: القرطبي (8/ 143). (¬4) في الأصل: «النبي». وهو سبق لسان.

الْمُكْرِهَ فاعلاً، فهذا له وجهٌ من النظرِ ظاهرٌ. وهذا معنَى قولِه: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: آية 40] كقولِه: {وَكَأَيِّن مِّنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ (13)} [محمد: آية 13] {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: آية 13] {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: آية 1]. وقولُه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في حالِه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي: واحدًا من اثنينِ ليس معه إلا رجلٌ واحدٌ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} بدلٌ من قولِه: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فـ (إذْ) الثانيةُ بَدَلٌ من (إذ) الأُولَى، {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} الغارُ هو الثقبُ في الجبلِ، والمرادُ به الغارُ المذكورُ في جبلِ ثورٍ من جبالِ مكةَ {إِذْ يَقُولُ} النبيُّ صلى الله عليه وسلم {لِصَاحِبِهِ} وقد أَجْمَعَ جميعُ المسلمينَ أنه أبو بكرٍ (رضي الله عنه). وفي هذه الآيةِ من سورةِ براءة أعظمُ منقبةٍ لأَبِي بكرٍ (رضي الله عنه)، فما يحاولُ به الإماميةُ وغيرُهم من الشيعةِ من الكلامِ في أبِي بكرٍ (رضي الله عنه) وتفنيدِ ما دَلَّتْ عليه هذه الآيةُ من فضلِه وعظمتِه، كُلُّهُ باطلٌ لاَ يُلْتَفَتُ إليه، وقد قال بعضُ العلماءِ (¬1): مَنْ أَنْكَرَ أن أبا بكر صاحبُ رسول الله كَفَرَ لتكذيبِه بهذه الآيةِ الكريمةِ. {لاَ تَحْزَنْ} الحزنُ في لغةِ العربِ (¬2) هو الغمُّ من أمرٍ فائتٍ، وربما تُطْلِقُهُ العربُ على الغمِّ مِنْ أَمْرٍ مستقبلٍ نادرًا، كما هنا. والخوفُ: الغمُّ من أمرٍ مستقبلٍ، وربما أَطْلَقَتْهُ العربُ على الغمِّ من أمرٍ فائتٍ، أي: لاَ يُدَاخِلْكَ حزنٌ من الخوفِ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 146). (¬2) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: آية 40] وقد قال أبو بكر في قصةِ الغارِ قصيدتَه الرائيةَ المشهورةَ التي يُبَيِّنُ فيها قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هذا له حيث يقول (¬1): قَالَ الرَّسُولُ وَلَمْ يَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي ... وَنَحْنُ فِي سُدْفَةٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ ... لاَ تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا ... وَقَدْ تَكَفَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ إلى آخِرِ القصيدةِ المشهورةِ، وهذا معنَى قولِه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} العربُ تقولُ: (حَزِن) بكسرِ الزاءِ (يحزَن) بفتحِها (حَزَنًا) على القياسِ و (حُزْنا) إذا أصابَه الحَزَنُ، وأكثرُ ما يُسْتَعْمَلُ الحزنُ في الغمِّ من أمرٍ فائتٍ، وقد يُطْلَقُ على الغمِّ من أمرٍ مستقبلٍ كما هنا. {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هذه معيةٌ خاصةٌ، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) بَيَّنَ في كتابِه أن له مع خلقِه معيةً خاصةً ومعيةً عَامَّةً. أما المعيةُ الخاصةُ كقولِه هنا: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: آية 62]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: آية 46]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا}، فمعنَى هذه المعيةِ: أن اللَّهَ ناصرُهم وحافظُهم وكالئُهم وَمُعِينُهُمْ، هذه هي المعيةُ المذكورةُ هنا. {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} السكينةُ: (فعيلةٌ) من السكونِ، وهي الطمأنينةُ وثبوتُ الْجَأْشِ حتى لا يكونَ فيه خوفٌ ولا حَزَنٌ. {عَلَيْهِ} التحقيقُ أن الضميرَ عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال ¬

(¬1) البيتان ذكرهما ابن كثير في تاريخه (3/ 183) ولفظهما هناك: قال النبي - ولم أجزع - يوقرني ... ونحن في سُدُف من ظلمة الغار ... لا تخش شيئًا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لي منه بإظهار

بعضُهم: هو إلى أَبِي بكر (¬1)؛ لأنه هو الحزينُ الذي يتشوشُ ضميرُه {وَأَيَّدَهُ} [التوبة: آية 40] أي: أَيَّدَ نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي: قَوَّاهُ {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ أن وقتَ إتيانِ الكفارِ إلى الغارِ أن اللَّهَ (جلَّ وعلا) جَعَلَ عِنْدَ النبيِّ في ذلك الوقتِ جنودًا من الملائكةِ لم يَرَهَا الناسُ، لو أَرَادَ الكفارُ أن يفعلوا به شيئًا لأَهْلَكُوهُمْ، وهذا هو ظاهرُ الآيةِ، وأكثرُ المفسرينَ يقولونَ: إن معنَى {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} يعني: مَا وَقَعَ من نزولِ الملائكةِ يومَ بدرٍ، ويومَ الأحزابِ، ويومَ حنينٍ كما تَقَدَّمَ إيضاحُه. وظاهرُ القرآنِ أن جنودَ الملائكةِ تحيطُ به في ذلك الوقتِ، وَاللَّهُ الذي هو أعظمُ معه بنصرِه وعزِّه وقوتِه في ذلك الوقتِ لاَ يخافُ شيئًا، ولكن اللَّهَ (جلَّ وعلا) يُشَرِّعُ بأفعالِ رسلِه وأقوالِهم لخلقِه، فالله (جلَّ وعلا) مع عظمتِه وجلالِه وتصريحِ النبيِّ بأنه معه، وأن اللَّهَ أَيَّدَهُ بجنودِ الملائكةِ، مع هذا يدخلُ في غارٍ في ظلمةِ الليلِ، والغارُ فيه الحياتُ وخشاشُ الأرضِ؛ لِيَسُنَّ للناسِ ويشرعَ لهم حَمْلَ أعباءِ تبليغِ الرسالةِ والدعوةِ، وأن يتحملوا في شأنِ الدعوةِ إلى [8/أ] اللَّهِ كُلَّ البلايا والمشاقِّ، ويستهينوا فيها بكلِّ عظيمٍ، هذا هو السرُّ في ذلك، / وهذا معنَى قولِه: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} السفلى: تأنيثُ الأسفلِ، وهو الذي يَفْضُلُ غيرَه في السفالةِ والخساسةِ والانحطاطِ، كلمةُ الكفارِ جَعَلَهَا اللَّهُ هي السفلى، وكلمةُ الكفارِ هي كلمةُ الكفرِ، وعبادةُ الأصنامِ، وعبادةُ غيرِ اللَّهِ (جلَّ وعلا). ومعنَى كونِها هي السفلى: اندحارُ أهلِها وقمعُهم وإظهارُ كلمةِ اللَّهِ. ¬

(¬1) انظر: هذه الأقوال في ابن جرير (14/ 261)، القرطبي (8/ 148).

{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} كلمةُ اللَّهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وما تَضَمَّنَتْهُ، صارت هي العليا، وصار الْحُكْمُ لها، وصار صناديدُ الكفَرَةِ بينَ مقتولٍ ومأسورٍ وَمُسْلِمٍ، وصارت أحكامُ اللَّهِ هي التي تَنْفُذُ، وكلمتُه هي التي يُعْمَلُ بها في أرضِه، ودحض اللَّهُ الكفارَ وأهلَكهم. وهذا معنَى قولِه: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} العزيزُ: الغالبُ الذي لاَ يغلبُه شيءٌ. والعزةُ: الغلبةُ، ومنه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: آية 8] أي: لله الغلبةُ ولرسولِه وللمؤمنينَ، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: آية 23] أي: غَلَبَنِي في الخصامِ. ومن أمثالِ العربِ: «مَنْ عَزَّ بَزَّ» (¬1) يعنونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. ومنه قولُ الخنساءِ بنتِ عمرِو بنِ الشريدِ السلميةِ الشاعرةِ (¬2): كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا والحكيمُ (¬3): هو مَنْ يضعُ الأمورَ في مواضعِها وَيُوقِعُهَا في مَوَاقِعِهَا. وهذانِ الاسمانِ من أسماءِ اللَّهِ (العزيزُ الحكيمُ) المتضمنانِ هاتينِ الصفتينِ من صفاتِ اللَّهِ، وهي عِزُّهُ وحكمتُه وحكمه هما أبلغُ شيءٍ في امتثالِ أمرِه وطاعتِه (جلَّ وعلا)؛ لأن عزتَه أَيْ غلبتَه وقوتَه وقهرَه وسلطانَه يجعلُك أيها المسكينُ العظيمُ تَخَافُهُ وتخضعُ لأمرِه ونهيِه، وكونُه (جلَّ وعلا) حكيمًا لا يأمرُك إلا بما فيه لكَ الخيرُ، ولا ينهاكَ إلا عَمَّا فيه لكَ الشرُّ، ذلك يقتضِي أيضًا أن تطيعَه وتخضعَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

لأمرِه ونهيِه. وهذا معنَى قولِه: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: آية 40]. قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: الآيات 41 - 43]. يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}. قال جماعةٌ من العلماءِ: هذه الآيةُ الكريمةُ هي أولُ آيةٍ نَزَلَتْ من سورة براءة. قالوا: أولُ ما نَزَلَ منها: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} الآية ... ثم بعدَ ذلك نَزَلَ أولُها وآخِرُها (¬1). وقولُه: {انْفِرُوا} أمرٌ بالنفرِ، والنفرُ المرادُ به هنا: التهيؤُ والحركةُ للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، وَكُلُّ متحركٍ بسرعةٍ لأَمْرٍ من الأمورِ تقولُ العربُ: نَفَرَ له، كقولِهم: النَّفْرُ غداةَ كذا. يعنونَ: تَفَرُّقَ الناسِ من مِنًى ذاهبينَ إلى أوطانِهم؛ لأنهم تَنْقَضِي مهمةُ حَجِّهِمْ فيسرعونَ الحركةَ متفرقينَ إلى أوطانِهم. كما قال ابنُ أبِي ربيعةَ (¬2): لاَ نَلْتَقِي إِلاَّ ثَلاَثَ مِنًى ... حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ ¬

(¬1) ذكره ابن جرير بسنده عن أبي الضحى (14/ 269، 270) وعزاه القرطبي (8/ 149) لأبي مالك الغفاري. (¬2) البيت في ديوانه ص190.

فمعنَى قولِه: {انْفِرُوا} تَحَرَّكُوا مُسْرِعِينَ للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ. وقولُه: {خِفَافًا وَثِقَالاً} حالانِ، والخِفَافُ جمعُ خفيفٍ. والثقالُ: جمعُ ثقيلٍ. و «الفَعِيلُ» إذا كان وَصْفًا يَكْثُرُ جمعُه على (الفِعَالِ) جمعَ كثرةٍ كما هو معروفٌ في مَحَلِّهِ. والمرادُ بقولِه: {خِفَافًا وَثِقَالاً} جاء فيه لأهلِ العلمِ ما يقرُب من خمسةَ عشرَ قولاً أو أكثرَ (¬1)، والمرادُ بها كُلِّهَا: إنما هو تمثيلُ الخفةِ والثقلِ. والمعنَى الجامعُ لذلك كلِّه: {انْفِرُوا} تَحَرَّكُوا مسرعينَ إلى جهادِ الرومِ إلى تبوكَ في حالِ كونِكم خفافًا أو ثقالاً. والمرادُ بالخفافِ: الذين تَخِفُّ عليهم الحركةُ لتهيؤِ أسبابِ القوةِ والحركةِ عندَهم. والثقالُ: الذين يثقلُ عليهم ذلك لسببٍ من الأسبابِ. وأقوالُ العلماءِ في هذا كالأمثلةِ لذلك، كقولِ مَنْ قال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} شبابًا وشيوخًا. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} مراضًا وصحاحًا. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} نشاطًا وغير نشاط. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} أصحاب عيال وغير أصحاب عيال. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} أي: أصحاب ضِياع وبساتينَ أو غير أصحابها. فهذه أقوالٌ كثيرةٌ. كقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} مشاغيل وغير مشاغيل. إلى ذلك ( ... ) (¬2). يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ¬

(¬1) انظر ابن جرير (14/ 262 - 269)، القرطبي (8/ 150). (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل.

الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: الآيتان 44، 45]. لَمَّا دَعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ إلى النفرِ في غزوةِ تبوكَ جاءَ رؤساءُ المنافقينَ كعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولَ، والجدُّ بنُ قيسٍ، وهؤلاء أعظمُ المنافقينَ، وَمَنْ سَارَ في ركابِهم، جاؤوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذنونَه في الجلوسِ والتخلفِ عن غزوةِ تبوكَ؛ لأنهم أعداءُ للإسلامِ في باطنِ أمرِهم، فَبَيَّنَ اللَّهُ أن ذلك الاستئذانَ رغبةٌ في التخلفِ ليس من فِعَالِ المسلمينَ، وأنه من فِعَالِ الذين لاَ يؤمنونَ بِاللَّهِ ولاَ باليومِ الآخِرِ. قال: {لاَ يَسْتَئذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ .. }. الجمهورُ يقرؤون: {يَسْتَئذِنُكَ} والسوسيُّ: {يستاذنك} بإبدال الهمزةِ (¬1). {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} يصدقون بالله (جلَّ وعلا)، وإيمانُهم بالله، الإيمانُ بالله إذا أُطْلِقَ شملَ الإيمانَ من الجهاتِ الثلاثِ، وهو تصديقُ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ. فالمؤمنُ بمعنَى الإيمانِ الصحيحِ هو مَنْ آمَنَ قلبُه ولسانُه وجوارحُه. وهذا الاستئذانُ ليس من أفعالِ المسلمينَ {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الإيمانُ باليومِ الآخِرِ كثيرًا ما يجعلُه اللَّهُ مذكورًا مع الإيمانِ به؛ لأَنَّ مَنْ لَمْ يؤمن باليومِ الآخِرِ لاَ يخافُ بَأْسًا يومَ القيامةِ ولا يطمعُ في خيرٍ، فهو يفعلُ ما يشاءُ، فالكفرُ باليومِ الآخِرِ رأسُ كُلِّ شَرٍّ، والإيمانُ به رأسُ كُلِّ خَيْرٍ. ¬

(¬1) انظر: الإقناع لابن الباذش (1/ 412)، النشر لابن الجزري (1/ 390).

{أَنْ يُجَاهِدُوا} (أنْ) هذه كلامُ العلماءِ فيها راجعٌ إلى قَوْلَيْنِ (¬1): أحدُهما: أنها هذه التي يُحْذَفُ قبلَها حرفُ الجرِّ. والمعنَى على هذا: «لاَ يستأذنك الذين يؤمنون بِاللَّهِ في أَنْ يُجَاهِدُوا» أي: في الجهادِ وَتَرْكِ الجهادِ؛ لأن المؤمنينَ بالله مسارعون إلى مرضاةِ اللَّهِ، منقادونَ إلى الجهادِ، سائرونَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم. لاَ يستأذنونَ لأَجْلِ أن يُؤْذَنَ لهم في التخلفِ، وقد تقررَ في علمِ العربيةِ أن حذفَ حرفِ الجرِّ قبلَ المصدرِ المنسبكِ من (أنَّ) وصلتِها و (أنْ) وصلتِها مطردٌ لا نزاعَ في اطرادِه (¬2)، ومحلُّ المصدرِ بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ أَكْثَرُ علماءِ العربيةِ يقولونَ منصوبٌ، وهو الذي عليه كبراؤهم. وقال قومٌ: هو مخفوضٌ. واستدلوا على خفضِه بقولِ الشاعرِ (¬3): فَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً ... إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ قالوا: خَفَضَ «وَلاَ دَيْنٍ» عطفًا على المصدرِ المنسبكِ من (أن) وصلتِها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ. قالوا: والأصلُ: «وما زرتُ ليلى لكونِها حبيبةً، ولا لِدَيْنٍ» والمحققونَ منهم يقولونَ: محلُّه النصبُ. وهذا الذي عليه جمهورُهم، قالوا: ولا شاهدَ في البيتِ لأنه مِمَّا يُسَمَّى عند النحويين عطفَ التوهمِ. وحاصلُ عطفِ التوهمِ عند النحويينَ أنه تكونُ الكلمةُ يجوزُ فيها الخفضُ وليست بمخفوضةٍ، ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (6/ 57). (¬2) مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

فيعطفون عليها المخفوضِ نظرًا إلى جوازِ خفضِها، وإن كانت غيرَ مخفوضةٍ في الواقعِ (¬1). ومن شواهدِه المشهورةِ قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى (¬2): بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... وَلاَ سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا فقولُه: (ولا سابق) بالخفضِ في روايةِ بيتِ زهيرِ عطفًا على «مدرك» وهو منصوبٌ، إلا أنه يجوزُ جَرُّهُ بالباءِ، فيجوزُ: لستُ بِمُدْرِكٍ ولا سابقٍ. ونظيرُه قولُ الآخَرِ (¬3): مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إِلاَّ بِيَيْنٍ غُرَابُهَا كما هو معلومٌ في محلِّه. ونحنُ نذكرُ هذه الأشياءَ العربيةَ وإن كان أكثرُ المستمعينَ لاَ يفهمونَها لأنا نريدُ أن تكونَ هذه الدروسُ القرآنيةُ يستفيدُ منها كُلُّ الحاضرينَ على قَدْرِ استعداداتِهم، وَاللَّهُ يوفقُ الجميعَ للخيرِ. الوجهُ الثانِي: أن (أن) هذه هي التي تُحْذَفُ قبلَها (لا) أو مضاف كقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: آية 176] ففي قولِه: {أَنْ تَضِلُّوا} ونحوِه وجهانِ. أي: يُبَيِّنُ اللَّهُ لكم لئلاَّ تضلوا، أو كراهةَ أن تضلوا. هذانِ الوجهانِ في (أن) في القرآنِ فيما يماثلُ هذا كقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} وقولِه: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} [الحجرات: آية 6] أي: لئلاَّ تصيبوا، أو كراهةَ أن تصيبوا. وهذانِ الوجهانِ في قولِه: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة. (¬2) تقدم هذا الشاهد في الوضع السابق. (¬3) تقدم هذا الشاهد في الوضع السابق.

الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} [التوبة: الآية 44] بل إذا أَمَرْتَ بالجهادِ قاموا مُسْرِعِينَ ممتثلين أمرَ اللَّهِ، راغبينَ في غزوِ الكفرةِ لأن تكونَ كلمةُ اللَّهِ هي العليا. وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أن المؤمنَ بمعنَى المؤمنِ الصحيحِ من صفاتِه الكاشفةِ أن يكونَ مُبَادِرًا للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ مُضَحِّيًا بالنفيسِ والغالِي من نفسِه ومالِه للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ لإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ (جلَّ وعلا). وهذا معنَى قولِه: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} [التوبة: آية 44] التقوى في قلوبِ الناسِ لاَ تَخْفَى على اللَّهِ، فَاللَّهُ يعلمُ ما في قلوبِ الناسِ، لا يَخْفَى عليه بَرٌّ مِنْ فَاجِرٍ، ولا مُتَّقٍ من عَاصٍ. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: آية 235] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: آية 16] {عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} لاَ يَخْفَى عليه الْمُتَّقِي من العاصِي، فَمَنْ زَعَمَ للنبيِّ أنه معه، وأنه يحبُّ الإسلامَ والجهادَ، إلا أنه معذورٌ بكذا وكذا لأعذارٍ كاذبةٍ فَاللَّهُ عَالِمٌ بكذبِه، عَالِمٌ بِالْمُتَّقِي حقًّا وبغيرِه، لا يَخْفَى عليه شيءٌ من ذلك. وفي هذا تهديدٌ للمنافقينَ الذين يَدَّعُونَ التقوى ويضمرونَ غيرَها، ووعدٌ عظيمٌ للمؤمنينَ الذين تنطوي قلوبُهم على تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا. وهذا معنَى قولِه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 44]. {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: آية 45] قد تَقَرَّرَ عندَ جماهيرِ العلماءِ أن (إنما) أداةُ حصرٍ، والصحيحُ أن (إنما) أداةُ حصرٍ كما حَرَّرَهُ علماءُ الأصولِ في مبحثِ (دليلِ الخطابِ) أعنِي (مفهومَ المخالفةِ) والبلاغيونَ في مبحثِ

(القصرِ) (¬1) فـ (إنما) أداةُ حَصْرٍ. يعنِي: لاَ يستئذنك هذا الاستئذانَ الذي يُرَادُ به التخلف عن الجهادِ والقعودِ لأعذارٍ كاذبةٍ. {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الذين لاَ يُصَدِّقُونَ بالله ولا يؤمنون باليومِ الآخِرِ فلا يرغبون فيما عِنْدَ اللَّهِ، ولا يخافون عذابَ اللَّهِ. وقولُه: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} شَكَّتْ قلوبُهم. فـ {وَارْتَابَتْ} معناه: شَكَّتْ. والتاءُ فيه تاءُ الافتعالِ. وأصلُ حروفِه الأصليةِ: الراءُ في محلِّ الفاءِ، والياءُ في مَحَلِّ العينِ، والباءُ في محلِّ اللامِ، أصلُ المادةِ (رَيَبَ) بـ (راءٍ) فـ (ياء) فـ (باء) والتاءُ تاءُ الافتعالِ، وأصلُها (وَارْتِيبَتْ قلوبُهم) (¬2) أي: دَاخَلَهَا الرَّيْبُ. أصلُ الريبِ في لغةِ العربِ معناه الإزعاجُ والإقلاقُ. هذا أصلُ معناه الأصليِّ، تقولُ العربُ: رَابَهُ الأمرُ. إذا أَزْعَجَهُ وَأَقْلَقَهُ. وهذا هو معناه الحقيقيُّ، ومنه قولُ توبةَ بنِ الْحُمَيِّرِ الخفاجيِّ (¬3): وَكُنْتُ إِذَا مَا زُرْتُ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ ... وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاةَ سُفُورُهَا أي: أَزْعَجَنِي وَأَقْلَقَنِي، وكلما جاء الريبُ في القرآنِ والارتيابِ فمعناه الشكُّ على كُلِّ حالٍ. وإنما سُمِّيَ الشاكُّ مُرْتَابًا وَأُطْلِقَ اسمُ الريبِ على الشكِّ لأَنَّ الشاكَّ لاَ تطمئنُّ نفسُه إلى طرفِ الإيجابِ، ولا إلى طرفِ السلبِ، فهو تارةً يميلُ إلى الإيجابِ، وتارةً يميلُ إلى السلبِ، فنفسُه مُنْزَعِجَةٌ قلقةٌ ليست مطمئنةً إلى الثبوتِ ولا إلى ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (65) من سورة الأعراف. (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص133، 391، 393. (¬3) مضى عند تفسير الآية (2) من سورة الأعراف.

النفيِ. ومعنَى {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} شَكَّتْ قلوبُهم والعياذُ بِاللَّهِ. وَأَسْنَدَ الارتيابَ إلى القلوبِ لأَنَّ القلبَ هو مَحَلُّ الإدراكِ الذي يكونُ فيه الشكُّ، ويكونُ فيه اليقينُ، ويكونُ فيه العلمُ والإدراكُ. وهذا الارتيابُ سَيُبَيِّنُهُ لهم المؤمنونَ يومَ القيامةِ كما يأتِي بيانُه في سورةِ الحديدِ؛ لأنه سيأتِي في سورةِ الحديدِ - إن شاء الله - أَنَّ كُلَّ مَنْ كان يقولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ في دارِ الدنيا يُعْطِيهِ اللَّهُ نورًا، فيكونُ عندَ المنافقينَ نُورٌ، وعندَ المؤمنينَ نورٌ، فإذا - مثلاً - اشْتَدَّ الأمرُ وصارَ الناسُ في فصلِ الخطابِ انْطَفَأَ نورُ المنافقينَ وَبَقُوا في ظلامٍ دامسٍ، وعند ذلك يقولُ المؤمنونَ: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: آية 8] ويقولُ المنافقونَ للمؤمنينَ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: آية 13] فإذا ضُرِبَ ذلك السورُ بَيْنَ المنافقينَ والمؤمنينَ قال المنافقونَ للمؤمنينَ: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} [الحديد: آية 14] أَلَمْ نكن معكم في دارِ الدنيا؟ وكنا نحضرُ معكم المساجدَ والغزواتِ، ونأتِي معكم المواطنَ؟ {قَالُوا بَلَى} كنتُم معنا {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} وهذا محلُّ الشاهدِ. ذلك الارتيابُ الذي قال عنهم هنا: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: آية 45] هو من الأسبابِ التي تجعلُهم يومَ القيامةِ وراءَ السورِ، والعياذُ بالله. وقولُه: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ} أي: فَهُمْ في شَكِّهِمْ {يَتَرَدَّدُونَ} أي: يذهبونَ حائرينَ تارةً يُقَدِّمُونَ رِجلاً ويؤخرونَ أخرى، يذهبون ويرجعون، يتوجهون إلى الإيمان مرة ويكفرون مرة (والعياذ بالله جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}.

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: الآيتان 46، 47]. {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} هؤلاء المنافقون الذين جاؤوا يستأذنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في القعودِ كعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ، والجدِّ بنِ قيسٍ، وأضرابِهم، قال الله لِنَبِيِّهِ إنهم يستأذنون ويعتذرون الأعذارَ الكاذبةَ وهم في باطنِ أمرِهم مُصِرُّونَ على القعودِ وعدمِ الخروجِ، وَبَيَّنَ دليلَ ذلك في قولِه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} لو أراد هؤلاءِ المنافقون المستأذنون الخروجَ معكَ إلى غزوةِ تبوكَ {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} معكَ {لأَعَدُّوا لَهُ} أي: للخروجِ {عُدَّةً} أي: لَتَأَهَّبُوا للخروجِ وتهيؤوا له؛ لأن مَنْ يعزمُ على الخروجِ إلى قتالِ العدوِّ يتهيأُ قبلَ ذلك ويستعدُّ لذلك بإحضارِ العدةِ اللازمةِ لذلك، ولكن هؤلاء لم يَعُدُّوا شيئًا، ولم يُبالوا بشيءٍ، فَدَلَّ على أنهم مصرونَ عازمونَ على التخلفِ. وهذا معنَى قولِه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ} [التوبة: آية 46] أي: للخروجِ {عُدَّةً} أي: لَتَأَهَّبُوا له أُهْبَتَهُ وتهيؤوا له بإعدادِ ما يَلْزَمُهُ. {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} كَرِهَ اللَّهُ انبعاثَهم كَوْنًا وقدرًا؛ لأن اللَّهَ يعلمُ أنهم لو خرجوا مع رسولِه ما كان في خروجِهم له إلا الشرُّ، فلا يجدُ منهم إلا الضررَّ والشرَّ، فَثَبَّطَهُمْ عنه بحكمتِه لُطْفًا برسولِه صلى الله عليه وسلم {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} الانبعاثُ مصدرُ انبعثَ ينبعثُ إذا ذَهَبَ إلى الشيءِ. ومنه: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)} [الشمس: آية 12] ومعنَى {انْبِعَاثَهُمْ} أي: خروجهم غَازِينَ معكَ إلى تبوكَ،

كَرِهَ اللَّهُ خروجَهم معكَ لضررِ ذلك عليكَ، {فَثَبَّطَهُمْ} عن ذلك الخروجِ مراعاةً لمصلحتكَ. والتثبيطُ: التبطئةُ والتعويقُ وعدمُ الخروجِ، فَثَبَّطَهُمْ عنكَ مراعاةً لمصلحتكَ ومصلحةِ مَنْ مَعَكَ مِنَ المسلمينَ، وهذا معنَى قولِه: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}. {قِيلَ} هنا مَبْنِيٌّ للمفعولِ حُذِفَ فاعلُه، واختلفَ العلماءُ في فاعلِه المحذوفِ (¬1)، فقال بعضُ العلماءِ: قال بعضُهم لبعضٍ في سِرِّهِمْ وباطنِ أمرِهم: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} وَاسْتَأْذِنُوهُ لتقعدوا. وقال بعضُهم: أَذِنَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} وعلى هذا القولِ فـ (اقعدوا) هو الإذنُ. وبعضُهم يقول: قولُه: {مَعَ الْقَاعِدِينَ} أَذِنَ لهم إِذْنًا صاحبُه لاَ يرضى عنهم. والمرادُ بالقاعدينَ: الذين ليس من شأنِهم الحضورُ، كالصبيانِ والزَّمْنَى والنساءِ، ونحو ذلك ممن ليس من شأنِه الخروجُ للقتالِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ، الله يقولُ للشيءِ: «كُنْ فَيَكُونُ «، فقال: «اقْعُدُوا». فكان قعودُهم، واختار هذا بعضُ العلماءِ. ثم إن الله قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: آية 47] لو خرج فيكم رؤساءُ هؤلاء المنافقينَ الذين يحركونَهم ويرأسونَهم في الشرِّ كابْنِ أُبَيِّ بنِ سلولَ والجدِّ بنِ قيسٍ - قبحهما الله - وأمثالهم {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم} غازينَ إلى تبوكَ {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} ما حصلتُم منهم على فائدة ولم يزيدوكم إلا خبالاً. والخبالُ معناه: الفسادُ. أي: ما زَادُوكُمْ إلا فَسَادًا؛ لأنهم يفسدونَ عليكم. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 156)، البحر المحيط (5/ 48).

وقولُه: {ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} العربُ تقولُ: أَوْضَعَ يُوضِعُ إيضاعًا. إذا أَسْرَعَ في سيرِه. فالإيضاعُ: الإسراعُ في السيرِ. وَاسْمُ فاعلِه (موضِع) ومنه قولُ امرئِ القيسِ (¬1): أَرَانَا مُوْضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ و {خِلالَكُمْ} معناه: بينكَم، يعنِي: لاَ يزيدونَكم إلا فسادًا على فسادٍ، ولأَسْرَعُوا فيما بينَكم بالمشيِ بالنميمةِ وإلقاءِ المخالفاتِ والأراجيفِ والأكاذيبِ التي تضرُّ المسلمينَ ولا تنفعُهم. وهذا معنَى قولِه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} لأن العدوَّ إذا كان في ثيابِ صديقٍ يفعلُ كُلَّ شَرٍّ ويضرُّ كُلَّ مضرةٍ من حيث لا يشعرُ به، فَهُمْ لاَ يزيدونَكم إلا الفسادَ. أي: لا يزيدونَكم شيئًا كائنًا ما كان إلا الفسادَ والخبالَ، فإنهم يفسدون عليكم وكأنهم يفسدون وهم في المدينةِ، فإذا سافروا كان خبالُهم وفسادُهم أكثرَ؛ لأنهم يُلْقُونَ بينهم بالنمائمِ ويلقونَ الأراجيفَ والتخويفَ من المشركينَ وإلقاءِ التشاويشِ كي يخافَ المسلمونَ، ولتفسد ذاتُ بينهم، وهم أعداءُ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - وهذا معنَى قولِه تعالى: {ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} معناه يطلبونَ لكم الفتنةَ. {الْفِتْنَةَ} هي ما يُوقِعُونَ بكم من الشرِّ، من المعاداةِ بينَكم بإلقاءِ النميمةِ والخوفِ من الأعداءِ بإلقاءِ الأراجيفِ الكاذبةِ ونحوِ ذلك. وقولُه: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} في هذا الحرفِ وجهانِ من التفسيرِ للعلماءِ (¬2): ¬

(¬1) ديوانه ص 43. (¬2) انظر: ابن جرير (14/ 281)، القرطبي (8/ 157)، ابن كثير (2/ 361).

قال بعضُ العلماءِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: عيونٌ يسمعونَ الأخبارَ ويأتونَهم بها لِيَقْدِرُوا بذلك على ما شاؤوا من الفسادِ والخبالِ. وقال بعضُ العلماءِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} هم ساداتٌ وأشرافٌ في قومِهم، وفيكم مَنْ يسمعُ لهم لمكانتِهم وشرفِهم في قبيلتِه كابنِ أُبَيٍّ والجدِّ بنِ قيسٍ وَمَنْ يكونُ له شرفٌ وسيادةٌ في قومِه يسمعونَ منه وَتُؤَثِّرُ دعايتُه السيئةُ عليهم بإلقاءِ الفتنِ والأراجيفِ. وهذا معنى قولِه: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} وهذه الآيةُ الكريمةُ نَصَّ اللَّهُ (جلَّ وعلا) فيها على إحاطةِ عِلْمِهِ، وأنه (جلَّ وعلا) من شدةِ إحاطةِ علمِه بالأشياءِ يعلمُ الأشياءَ الذي سَبَقَ في علمِه أنها لا تكونُ (¬1)، هو يعلمُ أن لو كانت كيف تكونُ؛ لأن هؤلاء المتخلفينَ عن غزوةِ تبوكَ كالجدِّ بنِ قيسٍ وعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سلولَ لا يحضرونَها أبدًا؛ لأن اللَّهَ كَرِهَ انبعاثَهم فَثَبَّطَهُمْ عنها لحكمةٍ إلهيةٍ، ومصلحةً للمسلمينَ، فَهُمْ لا يحضرونَها أبدًا، وقد سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ الأزليِّ أنهم لا يحضرونَها أبدًا، وأنهم لا يخرجونَ معه أبدًا، وخروجُهم هذا الذي سَبَقَ في سابقِ عِلْمِهِ أنه لا يكونُ صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيف يكونُ، فَعَرِفْنَا من هذا أنه (جلَّ وعلا) يعلم الموجوداتِ والمستحيلاتِ والمعدوماتِ والجائزاتِ، حتى إنه من إحاطةِ علمِه ليعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في سابقِ علمِه أنه لا يوجدُ يعلمُ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ لشدةِ إحاطةِ علمِه بالأشياءِ، فخروجُ هؤلاءِ لا يكونُ، وهو عَالِمٌ ذلك الخروجَ الذي لا يكونُ أن لو كان كيف يكونُ، كما قال هنا: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} الآيةَ [التوبة: آية 47] والآياتُ الدالةُ على ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام ..

هذا المعنَى كثيرةٌ جِدًّا، من ذلك ما قدَّمنا في سورةِ الأنعامِ من أن الكفارَ يومَ القيامةِ إذا رأوا القيامةَ وَعَايَنُوا الحقيقةَ تَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا مرةً أخرى ليصدقوا الرسلَ ويؤمنوا بِاللَّهِ، وهذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ عَلِمَ اللَّهُ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيف يكونُ، وذلك في قولِه: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} [الأنعام: آية 27] هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ هو عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صرَّح بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيفَ يكونُ حيثُ قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ كقولِه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنْ ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: آية 75] وقولِه تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [النساء: آية 66]. فهذه الآياتُ من كتابِ اللَّهِ دَلَّتْ على إحاطةِ عِلْمِ اللَّهِ (جلَّ وعلا) بِكُلِّ شيءٍ، حتى بالمعدوماتِ التي سَبَقَ في علمِه أنها لا توجدُ، فهو عَالِمٌ أن لو وُجِدَتْ كيف يكونُ، فهو عَالِمٌ بأن أبا لهب لن يُؤْمِنَ، وهو يعلمُ لو آمَنَ أبو لهبٍ أيكونُ إيمانُه تَامًّا أو نَاقِصًا، وهكذا. وهذا يدلُّ على أن المحيطَ بالعلمِ هو اللَّهُ (جلَّ وعلا) وحدَه، وَخَلْقُ اللَّهِ لا يعلمونَ من العلمِ إلا ما علَّمهم العليمُ الخبيرُ الأعظمُ كما دَلَّ عليه هذا القرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ، وإيضاحُ ذلك أن أَعْلَمَ المخلوقينَ الملائكةُ والرسلُ - على جميعِهم صلواتُ اللَّهِ وسلامُه - فالملائكةُ لَمَّا قال لهم اللَّهُ: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا} [البقرة: الآيتان 31، 32] قولُهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا} (لا) فيه، هي (لا) التي لنفيِ

الجنسِ، فَنَفَوْا جنسَ العلمِ من أصلِه عن أنفسِهم إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}. وكذلك الرسلُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم) مع علمِهم وفضلِهمٍ وجلالتِهم لاَ يعلمونَ من أمرِ اللَّهِ إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: آية 85]. هذا سيدُ الرسلِ وأكملُ الخلقِ نَبِيُّنَا محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) - وهو هو - رُمِيَتْ أحبُّ أزواجِه إليه بفريةٍ وإفكٍ، حيث رُمِيَتْ بصفوانَ بنِ المعطلِ السلميِّ في غزوةِ المريسيعِ، وهو لا يدرِي ما قيل عنها أَحَقٌّ أو كَذِبٌ، وكان يقولُ لها: «يَا عَائِشَةُ، إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْكِ» (¬1). ولم يَدْرِ هل ما قيل عنها حَقٌّ أو كَذِبٌ حتى أخبرَه العليمُ الخبيرُ (جلَّ وعلا) قال: {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: آية 26]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ إمامُ الأنبياءِ (صلواتُ اللَّهِ عليهم جميعًا) ذَبَحَ عِجْلَهُ وتعب هو وامرأتُه في إنضاجِ العجلِ يَظُنُّ أن الملائكةَ يأكلون، لا يدرِي مَنْ هُمْ، حتى إنه لَمَّا رآهم لم يأكلوا خَافَ منهم كما في قولِه: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود: آية 70] وَصَرَّحَ لهم بأنه خائفٌ منهم حيث قال: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: آية 52] حتى ضَحِكَتِ امرأتُه، وَلَمَّا ارتحلوا عنه ونزلوا بنبيِّ اللَّهِ لوطٍ - وهو هو - ضَاقَ بهم ذَرْعًا وقال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77] وَلَمْ يَدْرِ أنهم ملائكةٌ حتى قال كلامَه المحزنَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: آية 80] ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

وما عَلِمَ أنهم ملائكةٌ حتى قالوا له: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} الآيات [هود: آية 81]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ - وهو هو - يقولُ لربِّه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: آية 45] ولا يدرِي أن ذلك الولدَ الذي يطلبُ رَبَّهُ أن ينجيَه أنه كافرٌ ليس من أهلِه الموعودِ بنجاتِهم حتى قال له العليمُ الخبيرُ: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: آية 46] فما قال نوحٌ إلا أن قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: آية 47]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ يعقوبُ - وهو هو - قال الله فيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] ابْيَضَّتْ عيناه من الحزنِ فهو كَظِيمٌ، وولدُه في مصرَ بينَه وبينَه مراحلُ لاَ يدرِي ما شَأْنُهُ {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ} الآيةَ [يوسف: آية 87]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ سليمانُ - وهو هو - أعطاه اللَّهُ الرياحَ غُدُوُّهَا شهرٌ ورواحُها شهرٌ، وَسَخَّرَ له مردةَ الشياطينِ والجنِّ، ما كان يدرِي عن مأرب وجماعةِ بلقيسَ حتى ذَهَبَ إليهم الضعيفُ المسكينُ الهدهدُ، وَلَمَّا تَوَعَّدَ الهدهدَ، وكان الهدهدُ حَصَّل منهم بعضَ عِلْمِ الجغرافيا والتاريخِ، وهذا العلمُ لم يكن عِنْدَ سليمانَ في ذلك الوقتِ، وكان سليمانُ يُهَدِّدُ الهدهدَ ويقولُ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21)} [النمل: آية 21] فجاء الهدهدُ لَمَّا عرف بعضَ عِلْمِ جغرافيةِ اليمنِ وتاريخِها، وسليمانُ لا يدرِي عنه، أفادَه هذا العلمُ قوةً وَوَقَفَ أمامَ سليمانَ وقفَة الرجلِ الصامدِ،

وَنَسَبَ الإحاطةَ لنفسِه ونفاها عن سليمانَ وقال: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا} الآياتِ [النمل: الآيات 22 - 24]. فسليمانُ ما كان يدرِي عن هذا، ولم يَقُلْ له إلا أن قال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} وأمثالُ هذا كثيرٌ. فَاللَّهُ (جلَّ وعلا) هو العليمُ الأعظمُ، والملائكةُ والرسلُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم) يعلمونَ من عِلْمِ اللَّهِ ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ من غيبِه وما لم يعلمهم لم يعلموه، وهو (جلَّ وعلا) وحدَه هو المحيطُ علمُه بكلِّ شيءٍ، العالِم بما كان وما يكون، وبالمعدومِ والموجودِ، والمعدومِ الذي لا يوجدُ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: آية 65] وهذا معنَى قولِه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: آية 47]. وقولُه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} كقولِه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 44] فقال في الأُولَى: إن تقوَى المتقينَ لاَ تَخْفَى عليه، وأن ظلمَ الظالمينَ لاَ يَخْفَى عليه. وقد قدَّمنا في هذه الدروسِ مرارًا (¬1) أن أصلَ معنَى الظلمِ في لغةِ العربِ هو: وَضْعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه، مادةُ الظاءِ واللامِ والميمِ (ظَلَمَ) معناها: وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه. هذا هو أصلُ معنَى هذه المادةِ، وأعظمُ أنواعِها هو الشركُ بِاللَّهِ؛ لأَنَّ الشركَ بالله وضعٌ للعبادةِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

في غيرِ موضعِها؛ لأَنَّ مَنْ يأكلُ نِعَمَ اللَّهِ ويتقلبُ في رِزْقِهِ وعافيتِه إذا كان يعبدُ غيرَه فقد ظَلَمَ، أي: وَضَعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها، كما قال تعالَى عن لقمانَ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] وقال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: آية 106] ولأَجْلِ هذا كان الظلمُ في القرآنِ يُطْلَقُ على الشركِ وعلى غيرِه من المعاصِي والمخالفاتِ، وَثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن قولَه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82] قال: ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بِشِرْكٍ (¬1). هذا أصلُ الظلم في لغةِ العربِ. وهو في الشرعِ على نَوْعَيْنِ: ظلمٌ أكبرُ، وظلمٌ دونَ ظلمٍ، فالظلمُ الأكبرُ هو وضعُ العبادةِ في غيرِ موضعِها، وهو الشركُ بالله. وظلمٌ دونَ ظلمٍ وهو أن يُطِيعَ عدوَّه إبليسَ ويعصيَ رَبَّهُ، فالذي أَطَاعَ الشيطانَ وعصى اللَّهَ قد ظَلَمَ نفسَه؛ لأنه عَرَّضَهَا لسخطِ اللَّهِ وَوَضَعَ الطاعةَ في غيرِ موضعِها، والمعصيةَ في غيرِ موضعِها. وهذا معنَى قولِه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 47] وهذا المعنَى مشهورٌ في كلامِ العربِ، أن الظلمَ هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، ومنه قد تقولُ العربُ للذي يضربُ لَبَنَهُ قبلَ أن يَرُوبَ: هو ظَالِمٌ؛ لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ موضعِه؛ لأن ضربَه قبل أن يروبَ يُضَيِّعُ زبدَه، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة. (¬2) السابق.

«ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي» تعنِي: ضربتُه لكم قبل أن يروبَ. والعَكَد: عصبُ اللسانِ. يعنِي: أن اللسانَ لاَ يَخْفَى عليه الظليمُ وغيرُ الظليمِ، أي الذي ضُرِبَ قبل أن يروبَ وغيرُه، ومن هذا المعنَى قولُ الآخَرِ (¬1): وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِدْنِي شَكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ ومن هنا قالت العربُ للأرضِ الذي حُفِرَ فيها وليست محلاًّ للحفرِ: «مظلومةٌ» ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ (¬2): إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ وقالوا للترابِ المنزوعِ من القبرِ «ظليمٌ» لأن أصلَ القبرِ يُحْفَرُ في محلٍّ لم يُحْفَرْ قبلَ ذلك عادةً، فهو حَفْرٌ في محلٍّ ليس موضعًا للحفرِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬3): فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ ... مِنَ الْعَيْشِ مَرْدُودٌ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا وجاء الظلمُ في القرآنِ الكريمِ بمعنَى النقصِ في آيةٍ واحدةٍ في سورةِ الكهفِ، وهي قولُه: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: آية 33] أي: لم تَنْقُصْ منه شيئًا. هذه وحدَها في القرآنِ جاء فيها الظلمُ بمعنَى النقصِ. والعلماءُ يقولونَ: إن أصلَها من المادةِ التي ذَكَرْنَا؛ لأن صاحبَ البستانِ ينفقُ ويصرفُ عليه المالَ، فإذا جاء بِغَلَّةٍ وثمرةٍ طيبةٍ فكأنه جاء بشيءٍ في موضعِه حيث رَدَّ لصاحبِه المالَ ووجدَ منه رِبْحًا، أما إذا صَرَفَ فيه المالَ ولم يَأْتِ بشيءٍ فقد ضَاعَ ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

المالُ المصروفُ فيه، ولم يأتِ شيءٌ بخلفٍ منه، فكأن هذا وَضْعٌ للشيءِ في غيرِ موضعِه للضياعِ والرزيةِ. وهذا معنَى قولِه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 47]. قال تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: الآيات 48 - 52]. يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)} [التوبة: آية 48]. لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) للنبيِّ والمسلمينَ أنه ثَبَّطَ عنهم عظماءَ المنافقينَ للمصلحةِ، وأنهم لو خَرَجُوا فيهم ما زادوهم إلا خبالاً، أي: فسادًا ومشيًا بالنميمةِ وتثبيطًا وإلقاءً للأراجيفِ، بَيَّنَ أن هذا الذي ينطوي عليه المنافقونَ من الشرِّ كان موجودًا فيهم قبلَ ذلك، قبل أن يُنْزِلَ القرآنَ في شأنِهم وأن تَطَّلِعُوا عليهم؛ لأن عظماءَ المنافقينَ بالمدينةِ كعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سلولَ، والجدِّ بنِ قيسٍ أخي بني سلمةَ، عندما جاء رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وَآمَنَ الأنصارُ شَقَّ ذلك عليهم وَعَظُمَ، وَأَبَوْا أن يؤمنوا، وصاروا يفكرونَ في الحالةِ التي

يبطلونَ بها دعوةَ دينِ الإسلامِ ويخرجوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويمنعونَ الناسَ من الإيمانِ، فلما جاءت غزوةُ بدرٍ عرفوا قوةَ المسلمينَ. قال لهم ابنُ أُبَيٍّ: هذا أَمْرٌ مُستَقبِلٌ فَآمِنُوا ظاهرًا (¬1). وَهُمْ في الباطنِ يتربصونَ بهم الدوائرَ، يُجِيلُونَ أفكارَهم في الحالةِ التي يَضُرُّونَهُمْ بها. {لَقَدِ ابْتَغَوُا} أي: طَلَبُوا الفتنةَ، طلبوا لكم الفتنةَ قبلَ هذا من رَدِّ الناسِ عن الدينِ، وإبطالِ الدينِ، وعدمِ اتباعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والإفسادِ بينَ المسلمينَ. {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} العربُ تقولُ: قَلَّبَ الأمورَ، وَقَلَّبَ الأمرَ. معناه: أن يتفكرَ بدقةٍ ويدبِّر في الأمور ويقلبَها وَجْهًا إلى ظَهْرٍ، وظهرًا إلى وجهٍ ليتأملَ في الحالةِ التي يحصِّل بها مقصودَه. فمعنَى قَلَّبُوا الأمورَ: أَجَالُوا الأفكارَ ونظروا في الدهرِ جنبًا إلى جنبٍ من هذا الأمر إلى هذا، واحتمال هذا وهذا لِيَصِلُوا بذلك إلى رَدِّ الناس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والقعودِ في وجهِ الدعوةِ إلى اللَّه (جلَّ وعلا)، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ العربُ: قَلَّبْتُ أمري، وَقَلَّبْتُ أموري، إذا أجلتُ فِكْرِي في المسائلِ ونظرتُ فيها وفي احتمالاتِها لنعلمَ أَيَّ الأمورِ هو الذي يُعِينِنُي على قصدِي. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ مشهورٌ نَزَلَ به القرآنُ العظيمُ، منه قولُ هبيرةَ بنِ أبِي وهبٍ المخزوميِّ زوجِ أُمِّ هانئٍ بنتِ أبِي طالبٍ (رضي الله عنها)، فإن زوجَها هبيرةَ لَمَّا فَتَحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ فَرَّ كافرًا إلى نجرانَ، ولم يَزَلْ بها حتى مَاتَ - والعياذُ بالله - وقد أَرْسَلَ إلى ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 361).

أُمِّ هانئٍ مِنْ هناك من نجرانَ هذه الأبياتِ - وفيها محلُّ الشاهدِ - وهو قولُه لها (¬1): لعَمْرُكِ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّدًا ... وَأَصْحَابَهُ جَفْلاً وَلاَ خِيفَةَ الْقَتْلِ ... وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي غَنَاءٌ إِنْ ضَرَبْتُ وَلاَ نَبْلِي ... وَقَفْتُ فَلَمَّا خِفْتُ ضَيْعَةَ مَوْقِفِي ... رَجَعْتُ لِعُودٍ كَالْهِزَبْرِ أَبَيِّ الشِّبْلِ ومحلُّ الشاهدِ منه قولُه «قلَّبتُ أمري» أي: أَجَلْتُ فكري ونظرتُ وتأملتُ في الأمورِ فوجدتُ ثباتِي وعدمَ فرارِي يؤدِي إلى قتلي ولا نتيجةَ بعدَه. وهذا معنَى قولِه: {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} أي: أَجَالُوا أفكارَهم وَقَلَّبُوا الأمورَ ونظروا في احتمالاتِها لينالوا كيدًا يكيدونَك به من تثبيطٍ عن الدينِ، أو إلقاءِ شَرٍّ بينَ المسلمينَ، أو إعانة عدوٍّ عليكَ حتى يظفرَ بكَ، قبَّحهم اللَّهُ. {حَتَّى جَاء الْحَقُّ} جاء الحقُّ وهو نصرُ اللَّهِ لنبيِّه بدينِ الإسلامِ، وقتلِ صناديدِ قريشٍ يومَ بَدْرٍ. {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} معناها: غَلَبَ دينُ اللَّهِ وظهرَ انتصارُه واستقبالُه، فعند ذلك أَسْلَمُوا إسلامًا غيرَ حقيقيٍّ، وهم يتربصونَ الدوائرَ بالمؤمنينَ في باطنِهم. وقولُه: {وَهُمْ كَارِهُونَ} والحالُ هم كارهونَ - قبحهم اللَّهُ - لأن كُلَّ ما ينالُه المسلمونَ من نصرٍ وفتحٍ وخيرٍ يكرهونَه ويسوؤهم، وكلّ ما جاءهم من شَرٍّ يفرحونَ به، وهذه عادةُ الكفارِ، لاَ يزالونَ يحاولونَ رَدَّ المؤمنينَ عن الدينِ حتى يُقَنِّّطَهُمُ اللَّهُ من ذلك، كما قال اللَّهُ في الكفارِ: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأعراف.

اسْتَطَاعُوا} [البقرة: آية 217] وَبَيَّنَ أنهم لم يستطيعوا في قولِه: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: آية 3] كذلك المنافقونَ كانوا يطمعونَ في ضياعِ الدعوةِ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يضمحلُ أمرُه حتى جاء الحقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارهونَ ذلك - قبحهم الله - وهذه من خسائسِ المنافقينَ يُظْهِرُهَا اللَّهُ لنبيه صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ أسماءِ هذه السورةِ العظيمةِ: (الفاضحةُ) لأنها فَضَحَتْ أسرارَ المنافقينَ كما تَقَدَّمَ، وسيأتِي فيها كثيرًا. وهذا معنَى قولِه: {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}. [8/ب] / وقوله: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} [التوبة: آية 49] قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غيرَ ورشٍ عن نافعٍ والسوسيِّ عن أَبِي عمرٍو: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} بهمزةٍ مُحَقَّقَةٍ، وقرأه ورشٌ والسوسيُّ بإبدالِ الهمزةِ واوًا مادةً للاَّمِ {ومنهم من يقول وذن لي} أما عندَ الوقفِ فقد أَجْمَعَ جميعُ القراءِ على أنك إن وقفتَ على {يَقُولُ} ابتدأتَ فقلتَ: (ايذن لي} (¬1) وهو الأمرُ مِنْ أَذِنَ له يأذنُ له. تقولُ العربُ: أذِن له يأذنُ له. وإذا جاء منها أَمْرٌ تقول: ائْذَنْ لِي. أصلُه: إئذن لي. ولكن القاعدةَ المقررةَ في العربيةِ: أن كُلَّ همزتين اجْتَمَعَتَا في كلمةٍ أُخْرَاهُمَا ساكنةٌ وَجَبَ إبدالُها حرفَ مَدٍّ مُجَانِسًا للشكلةِ التي قبلَها سواءً أكانت التي قبلَها همزةَ وصلٍ أو همزةَ قَطْعٍ، وهذا حكمٌ لا خِلاَفَ فيه بَيْنَ القراءِ ولاَ بَيْنَ علماءِ العربيةِ {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} أي: ائْذَنْ لي في القعودِ ولا تُكَلِّفْنِي بالشخوصِ إلى غزوةِ تبوكَ. وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في الجدِّ بنِ قيسٍ الخبيثِ المنافقِ أخِي بَنِي ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 92).

سلمةَ، كان رجلاً سَيِّدًا فيهم، وَلَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال لِبَنِي سلمةَ: مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سلمةَ؟ قالوا: الجدُّ بنُ قَيْسٍ على أَنَّا نُبَخِّلُهُ؛ لأنه بخيلٌ لا يجودُ بالمالِ. فقال: وَأَيُّ داءٍ أدوأُ من البخلِ؟ إنما سيدُكم هذا الشابُّ الأبيضُ الجعدُ (¬1). يعني بشرَ بنَ البراءِ بنِ معرورٍ. وكان حسانُ (رضي الله عنه) يمدحُ بشرَ بنَ البراءِ بتسويدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياه ويقولُ (¬2): وَسُوِّدَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بِجُودِهِ ... وَحُقَّ لِبِشْرِ بْنِ الْبَرَا أَنْ يُسَوَّدَا فَتًى إِنْ أَتَاهُ الْوَفْدُ أَتْلَفَ مَالَهُ ... وَقَالَ خُذُوهُ إِنَّنِي عَائِدٌ غَدَا ¬

(¬1) في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في عمرو بن الجموح (رضي الله عنه)، كما في الأدب المفرد رقم (297) من حديث جابر (رضي الله عنه). وهو في صحيح الأدب المفرد رقم: (227). وأخرجه الحاكم (3/ 219) - وصححه ووافقه الذهبي- من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) بنحو حديث جابر. وأورده الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 146) وعزاه لابن إسحاق. كما أورده الحافظ في الإصابة (1/ 150)، وفي الفتح (5/ 178). أما الرواية التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في بشر بن البراء (رضي الله عنه) فقد ذكرها الواحدي في أسباب النزول ص247 _ 248، وأوردها الحافظ في الفتح (5/ 179) وعزاه للوليد بن أبان في كتاب الجود من حديث كعب بن مالك (رضي الله عنه). وقد صحح الحافظ هذه الرواية وجمع بينها وبين الرواية الأخرى. بيد أن الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 146)، وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 218) رجحا أنها في بشر بن البراء. والله أعلم. (¬2) البيتان عند الواحدي في أسباب النزول ص 248، القرطبي (8/ 159) ونص البيت الثاني هناك: إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله ... وقال خذوه إنني عائد غدا

فنزلت هذه الآيةُ في الجدِّ بنِ قيسٍ على ما عليه جماعةُ المفسرينَ {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} هو الجدُّ بنُ قيسٍ أخو بني سلمة. ذكر ابن إسحاق وغيره (¬1) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في وقتِ تجهيزِه لغزوةِ تبوكَ قال له: «يَا جَدُّ هَلْ لَكَ فِي جِلاَدِ بَنِي الأَصْفَرِ؟» يعنِي الرومَ. فقال له الجَدُّ: يَا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ائْذَنْ لِي في الجلوسِ فإنِّي رجلٌ قد عَلِمَ قومي أنني لا صبرَ لي عن النساءِ، وإن نساءَ بَنِي الأصفرِ فيهن جمالُ ووضاءةُ وجوهٍ أخافُ إن رأيتهن أن لا أصبرَ عنهن، فَائْذَنْ لِي ولا تفتنِّي بصباحةِ وجوهِهن إذا خَرَجْتُ إليهن. وهذا عذرٌ باردٌ وليس قصدُه إلا النفاقَ، فأنزل اللَّهُ فيه: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} أي: بصباحةِ وجوهِ نسائِهم على ما قاله غيرُ واحدٍ. وقال بعضُ العلماءِ وأسندَه ابنُ جريرٍ (¬2) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يَا جَدُّ بْنَ قَيْسٍ هَلْ لَكَ فِي جِلاَدِ بَنِي الأَصْفَرِ لِتَغْنَمَ مِنْهُمْ سَرَارِيَ وَوُصَفَاءَ؟» فقال: ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي بالنساءِ. هذا منزعٌ آخَرُ ووجهٌ في الآيةِ. وجمهورُ العلماءِ يقولون: هي في الجَدُّ بنُ قيسٍ، وهو عذرُ نفاقٍ لا شَكَّ فيه، وهو لاَ عذرَ له، وإنما يتلمسُ الأعذارَ الكاذبةَ ليجلسَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 287) من طريق ابن إسحاق. وأخرجه الطبراني في الكبير (12/ 122) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 30): «فيه يحيى الحماني وهو ضعيف» اهـ وأورده أيضًا الواحدي في أسباب النزول ص247، ولم يذكر السند. (¬2) ابن جرير (14/ 288) عن ابن زيد مرسلاً.

ثم إن اللَّهَ قال: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} الفتنةُ التي يزعمُ أنه يَتَوَقَّاهَا وهي خوفُه أن يُفْتَتَنَ بجمالِ نساءِ بَنِي الأصفرِ هذه ليست هي الفتنة، ولكنَّ الفتنةَ العظيمةَ هذه التي سَقَطَ فيها ووقع فيها وهي تَخَلُّفُهُ عن الجهادِ واعتذارُه الكاذبُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونفاقُه، هذه هي الفتنةُ والضلالُ. فالمعنَى: هذا الذي سقط فيه باعتذارِه هو عينُ الفتنةِ العظيمةِ لاَ فتنةَ جمالٍ نسائِهم الذي يزعم أنه هو الذي يخافُ فتنتَه. وهذا معنَى قولِه: {وَلاَ تَفْتِنِّي}. {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 49] في هذه الآيةِ الكريمةِ وعيدٌ شديدٌ للمنافقين، وجهنمُ طبقةٌ من طبقاتِ النارِ، وَتُطْلَقُ على النارِ. وقولُه: {لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لأنها تُهْلِكُهُمْ وتغشاهم فتحتوي عليهم من جميعِ الجهاتِ، وتُغَلَّقُ أبوابُها عليهم، وُيضَيَّق عليهم فيها كما بَيَّنَ تعالى ذلك في آياتٍ كثيرةٍ، فَبَيَّنَ إحاطةَ النارِ بهم في قولِه في العنكبوتِ: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)} [العنكبوت: الآيتانِ 54، 55] وقولُه تعالى في الكهفِ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ... } الآيةَ [الكهف: آية 29]. وقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: آية 39] {لَهُم مِّنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: آية 41] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الدالةِ على إحاطتِها بِهِمْ. وَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) أنها تُطَبَّقُ عليهم وتغلَّق أبوابُها، وهو قولُه: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: الآيتانِ 8، 9] وأنها تُضَيَّقُ عليهم ضيقًا شديدًا كما قال تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا

مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)} [الفرقان: آية 13] أَعَاذَنَا اللَّهُ وإخوانَنا المؤمنينَ منها. وهذا معنَى قولِه: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 49]. {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50)} [التوبة: آية 50]. {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} هذا مِمَّا أبداه اللَّهُ لِنَبِيِّهِ من أسرارِ المنافقينَ القبيحةِ {إِنْ تُصِبْكَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ {حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} المرادُ بالحسنةِ هنا: غلبةُ الأعداءِ والظفرُ والنصرُ. يعني: إن ظَفِرْتُمْ بأعدائِكم وغلبتموهم وَنَصَرَكُمُ اللَّهُ عليهم تسؤهم تلك الحسنةُ، ساءهم ذلك لأن العدوَّ الشديدَ العداوةِ يسوؤه ما ينال عدوَّه من الخيرِ، معناه: إن غَزَوْتُمْ وَنَصَرَكُمُ اللَّهُ وغلبتُم وظفرتُم ساءهم ذلك وحزنوا من أجلِه {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} كأن يُقْتَلَ قومُك، أو لا يُنْصَرُوا، أو يأتيَك شيءٌ يؤذيك ويؤذي قومَك {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} إذا سَمِعُوا أن سريةً من السرايا أو جيشًا من الجيوشِ وَقَعَ فيهم قتلٌ أو جِرَاحٌ قالوا: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} نحن خِفْنَا من هذا وَأَخَذْنَا لأنفسِنا بالاحتياطِ فَاسْتَأْذَنَّا حتى جَلَسْنَا وَسَلِمْنَا من تلك البلايا التي نالتهم من القتلِ والجراحِ {وَتَوَلَّوا} عن دينِ اللَّهِ {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورونَ من جهتينِ: أنكم أصابكم ذلك السوءُ، وأنهم هم ما كانوا معكم - سَلِمُوا منه - كما تقدَّم إيضاحُ هذا المعنَى في سورةِ النساءِ؛ لأن اللَّهَ أَوْضَحَهُ فيها بقولِه: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72)} [النساء: آية 72] معنى قولِه: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} حاضرًا معهم فيصيبَني

ما أصابَهم من القتلِ والجراحِ، وهو السببُ الذي تَوَلَّوْا به وَهُمْ فَرِحُونَ الآنَ. فالآيةُ معناها: {إِنْ تُصِبْكَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ {حَسَنَةٌ} أي: يُعْطِكَ اللَّهُ ظفرًا ونصرًا {تَسُؤْهُمْ} تلك الحسنةُ {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} سيئةٌ كقتلِ قومِك وجراحِهم وإدالةِ الكفارِ منهم {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أَخَذْنَا لأنفسِنا بالاحتياطِ وتخلفَنا عن هذا الذي وَقَعُوا فيه حذرًا مِنَّا واحتياطًا أن يصيبَنا مثلُ ما أصابَهم {وَيَتَوَلَّوا} عن دينِ الإسلامِ، ونصرةِ رسولِ اللَّهِ، أو يتولَى بعضُهم راجعًا إلى بعضٍ، والحالُ {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورونَ بالسوءِ الذي أصابَكم وسلامتِهم منه، وأنهم لم يَحْضُرُوهُ معكم. هذا معنَى قولِه: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50)}. ثم إن اللَّهَ (جلَّ وعلا) أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم: {قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا} [التوبة: آية 51] لن يصيبَنا أَذًى من الأَذَى لا قتل ولا جراح ولا مصيبة كائنة ما كانت إلا ما كَتَبَهُ لنا ربُّنا في أَزَلِهِ. وقولُه: {مَوْلانَا} أي سَيِّدُنَا وناصرُنا. والمولَى: أصلُه (مَفْعَل) من الولايةِ. والمولَى في لغةِ العربِ يُطْلَقُ على كُلِّ مَنْ يَنْعَقِدُ بَيْنَكَ وبينَه معنًى تكونُ تواليه ويواليكَ به (¬1)؛ ولذا كَثُرَ إطلاقُ المولَى على ابنِ العمِّ؛ لأن بَنِي العمِّ يُوَالُونَكَ بعصبيةِ القرابةِ وَتُوَالِيهِمْ، ويُطلق على المعتِق؛ لأن العتقَ ولايةٌ حصلت بينَه وبينَ المعتَق، فهو يُطلق على المعتِق وعلى المعتَق. ويُطلق المولَى على الصديقِ، وعلى كُلِّ مَنْ بينَك وبينَه ولايةٌ كائنةٌ ما كانت (¬2). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (40) من سورة الأنعام.

وقولُه تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: آية 33] أي: عصبةً يرثونَ المالَ، كَبَنِي العمِّ ونحوِهم من العصباتِ، ومن هذا المعنَى قولُ الفضلِ بنِ العباسِ من أولادِ أبِي لَهَبٍ (¬1): مَهْلاً بَنِي عَمِّنَا مَهْلاً مَوَالِينَا ... لاَ تُظْهِرُوا لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا وإطلاقُ المولَى على ابنِ العمِّ مشهورٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ (¬2): وأَعْلَمُ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِ أَنَّهُ ... إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهْوَ ذَلِيلُ واللَّهُ (جلَّ وعلا) مولَى المؤمنينَ؛ لأنه يُوَالِيهِمْ بالنصرِ والثوابِ والرحمةِ وهم مَوَالِيهِ؛ لأنهم يُوَالُونَهُ بالطاعةِ، حتى إن كُلَّ شيءٍ يوالِي شيئًا يقال له: (مولًى) ولذا جَعَلَ اللَّهُ النارَ مولاَهم كما قال: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: آية 15] لأنها تُوَالِيهِمْ لِمَا عَمِلُوا من الأعمالِ السيئةِ المؤديةِ لها. وهذا معنَى قولِه: {لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: آية 51] في أَزَلِهِ {هُوَ مَوْلانَا} سَيِّدُنَا ومدبرُ شؤونِنا ونحنُ متوكلونَ عليه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تقديمُ المعمولِ هنا في قولِه: {وَعَلَى اللَّهِ} يدلُّ على الحصرِ، أي: لاَ يُتوكَّلُ إلا على اللَّهِ وحدَه. والتوكلُ معناه: تفويضُ الأمورِ، وَكَّلْتُ الأمرَ إليه: فَوَّضْتُهَا إليه. وعلى العبدِ أن يفوضَ أمورَه إلى ربه (جلَّ وعلا) ويعلم أن ما أصابَه لم يكن لِيُخْطِئَهُ، وما أخطأه لم يكن لِيُصِيبَهُ. والتوكلُ على اللَّهِ والتفويضُ عليه لا ينافِي الأسبابَ، فيجبُ على المسلمِ أن يأخذَ ¬

(¬1) السابق. (¬2) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

بالأسبابِ كما جاء به الشرعُ الكريمُ، ويكون في قرارةِ نفسِه متوكلاً على اللَّهِ، وهذا سيدُ المتوكلينَ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) مَرَّ عليكم أنه مع شدةِ توكلِه على الله وثقتِه بالله يتسببُ بالمحافظةِ من أعدائِه بأن يَدْخُلَ في غارٍ مظلمٍ في جبلِ ثورٍ لِيَسُنَّ لأُمَّتِهِ التوكلَ على اللَّهِ والأخذَ بالأسبابِ مع التوكلِ على ضوءِ الشرعِ الكريمِ، وهذا هو الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه، فَتَرْكُ الأسبابِ من الضلالِ، والاعتمادُ بالكليةِ عليها من الضلالِ، والحقُّ هو أن يأخذَ الإنسانُ بالأسبابِ حسبَ ما جاء به الشرعُ الكريمُ متوكلاً قلبُه على اللَّهِ، مُفَوِّضًا أمرَه إليه، عَالِمًا بأن ما أَخْطَأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ، وما أَصَابَهُ لم يكن لِيُخْطِئَهُ كما قال هنا: {قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: آية 51] وقد أَوْضَحَ اللَّهُ لنا في سورةِ الحديدِ أن جميعَ المصائبِ وجميعَ الأمورِ لاَ يصيبُ الإنسانَ منها إلا شيءٌ كان مُقَدَّرًا قبل أن يَخْلُقَ الخلقَ، وقبلَ أن توجدَ المصيبةُ، وربُّنا يقولُ لنا في آيةِ الحديدِ الآتيةِ ما معناه: بَيَّنْتُ لكم أن جميعَ الأمورِ كتبتُها وحسمتُها عندي لِتَتَحَصَّلُوا على أَمْرَيْنِ: أحدُهما: أن لا تَفْرَحُوا بشيءٍ أَتَاكُمْ فإنه آتِيكُمْ لاَ محالةَ، ولا تَحْزَنُوا على شيءٍ فَاتَكُمْ لأنه فائتٌ لا محالةَ، وهذا نَصَّ عليه تعالى بقولِه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّنْ قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} أي: أن نَخْلُقَهَا {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: آية 22] إنما بَيَّنَّا لكم هذا القَدَرَ السابقَ الأَزَلِيَّ {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: آية 23] لاَ تَحْزَنُوا على شيءٍ فاتكم فهو فائتٌ لا محالةَ؛ لأن اللَّهَ كَتَبَ ذلك وَقَدَّرَهُ {وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فهو آتٍ لاَ محالةَ. هذه الآياتُ القرآنيةُ إذا تَأَمَّلَهَا

المسلمُ وَتَدَبَّرَ معانيَها فَهِمَ عن اللَّهِ، وَهَانَتْ عليه أمورُ الدنيا فلم تَعْظُمْ في قلبِه، وهذا معنَى قولِه: {قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: آية 51]. {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: آية 52]. {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} كان المنافقونَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - في المدينةِ يَدًا مع الكفارِ واليهودِ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه يُفْشُونَ إليهم أسرارَه، وَيُلْقُونَ الأراجيفَ في قلوبِ المؤمنينَ، فهم يدٌ مع الكفارِ والمنافقينَ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَلِذَا كان المنافقونَ والكفارُ واليهودُ كأنهم طائفةٌ واحدةٌ ضِدَّ الإسلامِ والمسلمينَ؛ ولذا قال هنا: أنتم أيها المنافقونَ المتعاونونَ مع إخوانِكم من الكفارِ واليهودِ الذين تتربصونَ الدوائرَ بنا. التربصُ في لغةِ العربِ: الانتظارُ، العربُ تقولُ: «تَرَبَّصَ»: إذا انْتَظَرَ، وَتَرَبَّصَ بالسلعةِ إلى وقتِ الغلاءِ: انْتَظَرَ بها. وهذا معروفٌ، وهو مشهورٌ جِدًّا في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا فالتربصُ الانتظارُ. ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أنتم أيها المتربصونَ بنا عواقبَ الدهرِ ونوائبَه رَاجِينَ أن تدورَ علينا الدوائرُ فَتُهْلِكَنَا لاَ تتربصونَ بنا إلا واحدةً من اثنتين كلتاهما أحسنُ من الأُخْرَى. {هَلْ تَرَبَّصُونَ} أصلُه: (هل تَتَرَبَّصُونَ) حُذِفَتْ فيه إحدى التاءينِ. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (24) من سورة التوبة.

(هل) استفهامٌ بمعنَى النفيِ، ما تنتظرونَ بنا عاقبةً إلا عاقبةً هي إحدى الْحُسْنَيَيْنِ. الْحُسْنَى: تأنيثُ الأحسنِ، وَتُجْمَعُ على الحُسَنِ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، تقول: هذه الأُنْثَى هي الْحُسْنَى، أي: الأحسنُ من غيرِها. وَتَجْمَعُهَا على الحُسَنِ بضمٍّ فَفَتْحٍ كما هو معروفٌ في محلِّه. فَالْحُسْنَى صيغةُ تفضيلٍ، وَالْحُسْنَيَيْنِ تأنيثُ الْحُسْنَى، وهي صيغةُ تفضيلٍ. والمعنَى لاَ تنتظرونَ بنا إلا إحدى خصلتينِ كلتاهما أحسنُ من غيرها: إحداهما: أن نغلبَ أعداءَنا وينصرَنا اللَّهُ عليهم فَنَظْفَرَ بالنصرِ والغنيمةِ وَرِضَى اللَّهِ (جلَّ وعلا)، وهذه الخلةُ لا يوجدُ أحسنُ منها، فَعَاقِبَتُنَا إن صارت إليها عاقبةٌ كريمةٌ محمودةٌ. والثانيةُ: أن يَقْتُلَنَا أعداؤُنا فنموتَ فننالَ الشهادةَ، والشهادةُ هي أعظمُ فوزٍ ينالُه المسلمُ في دارِ الدنيا، فهي أيضا حُسْنَى؛ لأنها أحسنُ مِنْ كُلِّ شيءٍ. وهذه الآيةُ الكريمةُ من أعظمِ الآياتِ التي تجعلُ المسلمَ يشتاقُ إلى الجهادِ غايةَ الاشتياقِ؛ لأنك لا تجدُ في الدنيا رَجُلاً مآلُه إلى خيرٍ عظيمٍ على كُلِّ التقديراتِ إلا المجاهدَ في سبيلِ اللَّهِ؛ لأنه إن مَاتَ نَالَ أمنيةَ الدنيا والآخرةِ، وَنَالَ الفوزَ والحياةَ الأبديةَ، والكرامةُ التي لاَ نظيرَ لها، وَإِنْ نَصَرَهُ اللَّهُ على عَدُوِّهِ فرجعَ ظَافِرًا غَانِمًا فائزًا فهذا أيضًا حَسَنٌ، وهذا لاَ يكونُ لأحدٍ إلا للمجاهدِ في سبيلِ اللَّهِ، فَمَنْ تَأَمَّلَ معنَى هذه الآيةِ الكريمةِ اشتاقَ لاَ محالةَ إلى الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ. وقد ذَكَرَ أصحابُ المغازِي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ الخروجَ إلى المشركينَ في غزوةِ أُحُدٍ كان جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ أَبُوهُ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ حرامٍ له بناتٌ سبعٌ، فجابرٌ أخواتُه سبعٌ، ذَكَرُوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم

أَشَارَ عليهم أن يَبْقَى مع البناتِ واحدٌ، الابنُ أو الأبُ لئلاَّ يموتَا فتبقَى الإناثُ لا قَيِّمَ عليهن، فقال الوالدُ وهو عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ حرامٍ (رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ): يا بُنَيَّ كُلُّ شيءٍ أُوثِرُكَ فيه على نفسِي إلا الشهادةَ في سبيلِ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ لاَ أُوثِرُ على نفسِي بها أَحَدًا، وَاسْتُشْهِدَ يومَ أُحُدٍ (رضي الله عنه). ولا خلافَ بَيْنَ العلماءِ بأنه من الذين أنزلَ اللَّهُ فيهم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} إلى آخِرِ الآياتِ [آل عمران: آية 169] وهذا معنَى قولِه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} [التوبة: آية 52] أي: ما تَتَرَبَّصُونَ وتنتظرونَ بنا إلا واحدةً من إحدى مَسْأَلَتَيْنِ كلتاهما أحسنُ من كُلِّ شيءٍ {إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} ظَفْرٌ ونصرٌ وفوزٌ بالظفرِ والنصرِ، أو شهادةٌ في سبيلِ اللَّهِ. وهذا كُلُّهُ خيرٌ، فَكُلُّ احتمالٍ صِرْنَا إليه هو احتمالٌ كريمٌ، وهو أحسنُ من غيرِه. وهذا معنَى قولِه: {إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} ننتظرُ بكم خلافَ ذلك: إحدى السَّوْأَيَيْنِ، نحن ننتظرُ بكم إحدى السوأيين، كلتاهما أسوأُ من الأُخْرَى: أحدُهما: أن يصيبَكم اللَّهُ بعذابٍ من عنده، كأن يُنْزِلَ عليكم عقوبةً فيهلككم لكفركم وتمردِكم وتصيرونَ إلى النارِ، أو يسلطنا عليكم ويأمرنا بقتلِكم فنقتلكم كما قال في إخوانِهم الكفارِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: آية 14] وهذا معنَى قولِه: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} إذا عرفتُم أنكم لا تتربصونَ بنا إلا الخيرَ ونحنُ لا نتربصُ بكم إلا الشرَّ إِذَنْ فتربصوا ونحنُ متربصونَ أيضًا، فَكُلُّنَا يصيرُ إلى ما يتربصُ به الآخَرُ إليه.

وهذا معنَى قولِه: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: آية 52]. يقول اللَّهُ (جل وعلا): {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: آية 53 - 57]. قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ السبعةِ غيرَ حمزةَ والكسائيِّ: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} بفتحِ الكافِ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: {أَوْ كُرْهًا} بِضَمِّ الكافِ (¬1). وَقَرَأَ عامةُ السبعةِ أيضًا غيرَ حمزةَ والكسائيِّ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} بالتاءِ. وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: {وما منعهم أن يُقْبَل منهم نفقاتهم} بالياء (¬2). وهذه الآيةُ الكريمةُ من الآياتِ النازلةِ في الجَدِّ بنِ قيسٍ أَخِي بَنِي سلمةَ؛ لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَاهُ إلى الخروجِ في غزوةِ تبوكَ واعتذرَ له أعذارَ المنافقينَ المتقدمةَ قال له: ائْذَنْ لِي في القعودِ، وهذا مَالِي أُعِينُكَ به، خُذْ مَالِي نفقةً مِنِّي في سبيلِ اللَّهِ وَاتْرُكْنِي أنا أَتَخَلَّفْ (¬3). فأنزلَ اللَّهُ في إنفاقِه الذي عَرَضَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} ¬

(¬1) انظر: الإتحاف (2/ 93). (¬2) انظر: السبعة ص314 - 315. (¬3) أخرجه ابن جرير (14/ 294)، والواحدي في أسباب النزول ص247 - 248.

يا نَبِيَّ الله لهؤلاءِ المنافقينَ {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي: في كونِكم طائعينَ أو كارهينَ لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ منكم نفقةً؛ لأنه يعلمُ أنكم كفارٌ في الباطنِ، وصيغةُ الأمرِ في قولِه: {قُلْ أَنْفِقُوا} تقررَ في الأصولِ (¬1) أن مِنَ الصيغِ التي تَرِدُ لها (افعل) قَصْدَ التسويةِ بينَ الأَمْرَيْنِ، فَمِنْ أساليبِ اللغةِ أن تأتيَ بصيغةِ (افعل) تقصدُ بذلك أن تسويَ بين الأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بعدَ ذلك، ونظيرُه في القرآنِ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: آية 16] يعني: صبرُكم وعدمُه سواء لا ينفعُكم ذلك. {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: آية 80] يعني: استغفارُك وعدمُه سواءٌ، لاَ ينفعُ استغفارُك ولاَ عدمُه، كذلك قولُه هنا: أَنْفِقُوا طَائِعِينَ أو مُكْرَهِينَ لاَ ينفعُكم ذلك الإنفاقُ؛ لأن اللَّهَ لاَ يقبلُ أعمالَ الكفرةِ. وهذا معنَى قولِه: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: آية 53] طوعًا أو كرهًا: مصدرانِ مُنَكَّرَانِ في موضعِ الحالِ. أي: في حالِ كونِكم طائعينَ أو مكرهينَ. وإتيانُ التسويةِ بين الأمرينِ بصيغةِ (افعل) معروفٌ في كلامِ العربِ، ذَكَرْنَا له أمثلةً في القرآنِ العظيمِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ كُثَيِّرِ عزةَ (¬2): أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلاَ مَقْليَّةً إِنْ تَقَلَّتِ يعني: إن أَسَأْتِ أو أَحْسَنْتِ إلينا فَكُلُّ ذلك سواءٌ لاَ يُغَيِّرُ وُدَّنَا القديمَ بالنسبةِ إليكِ. وقولُه: {لَّنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} لن يقبلَ اللَّهُ نفقتَكم. قال بعضُ ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 27). (¬2) البيت في ابن حرير (14/ 293)، القرطبي (8/ 161).

العلماءِ: لم يَقْبَلْهَا رسولُ اللَّهِ فَرَدَّهَا عليهم. وقال بعضُهم: لا يَقْبَلُهَا اللَّهُ، أي: لا يُؤْتِيهِمْ عليها أَجْرًا؛ لأنها لاَ يُرَادُ بها وَجْهُ اللَّهِ. ثم قال: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي: خارجينَ عن طاعةِ اللَّهِ. والفسقُ في لغةِ العربِ (¬1) معناه الخروجُ. وفي اصطلاحِ الشرعِ (¬2): الفسقُ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ. تارةً يَعْظُمُ ذلك الخروجُ فيكونُ كفرًا، وتارةً يكونُ خروجًا دونَ خروجٍ، وَفِسْقًا دونَ فِسْقٍ، فيكونُ بارتكابِ كبيرةٍ؛ ولأَجْلِ هذا كانَ الفسقُ يُطْلَقُ في القرآنِ على الكفرِ كقولِه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: آية 20] وتارةً يُطْلَقُ على ارتكابِ المحرمِ الكبيرِ كقولِه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: آية 6] وقولِه فِي القاذفينَ: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: آية 4]. وهذه الآيةُ معلومٌ تعلقُ المعتزلةِ بها في أن السيئاتِ تُبْطِلُ الحسناتِ، قالوا: لأن اللَّهَ صَرَّحَ بأن فسقَهم أَبْطَلَ نفقتَهم. وَمِنْ هنا زَعَمُوا أن كبائرَ الذنوبِ تُبْطِلُ الأعمالَ. وهذا مذهبٌ باطلٌ لا شَكَّ في بُطْلاَنِهِ، وهذه الآيةُ التي تَعَلَّقُوا بها بَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بُطْلاَنَ حجتِهم منها في قولِه بعدَه - يليه -: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا} فَصَرَّحَ بأن المبطلَ للأعمالِ هو صريحُ الكفرِ. وهذا معنَى قولِه: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ}. ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة. (¬2) راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

والضميرُ في قولِه: {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} منصوبٌ في مَحَلِّ المفعولِ. أعنِي بقولِي: (الضمير) المصدرَ المنسبكَ من (أَنْ) وصلتِها في قولِه: {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} المصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه: {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} في محلِّ نصبٍ مفعولٌ به لـ (منع) - أي ما مَنَعَهُمْ قبولَ نفقاتِهم - بناء على أن (مَنَعَ) تَتَعَدَّى للمفعولِ الثانِي بنفسِها، كَمَنَعْتُ زيدًا كذا وكذا. وهو الصحيحُ (¬1). وأما المصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه: {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} فالتحقيقُ فيه أنه في محلِّ رفعٍ، وهو فاعلُ (مَنَعَ) وتقريرُ المعنَى: ما منعَ قبولَ نفقاتِهم إلا أنهم كفروا، أي: إلا كفرُهم بالله. فإيضاحُ المعنَى: ما مَنَعَ قبولَ النفقاتِ منهم إلا كفرُهم بِاللَّهِ. وقال بعضُ العلماءِ: إن فاعلَ (مَنَعَ) ليس المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتِها، وأنه ضميرٌ يعودُ إلى اللَّهِ. أي: وما مَنَعَ اللَّهُ قبولَ نفقاتِهم إلا أنهم كَفَرُوا، إلا لأَجْلِ أنهم كَفَرُوا. والأولُ هو الأظهرُ (¬2). وقولُه: {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} لأن المنافقينَ وإن كانوا يُظْهِرُونَ الإيمانَ ظاهرًا فَهُمْ في باطنِ الأمرِ كفَرَةٌ فجَرَةٌ، فهم كافرونَ في باطنِ الأمرِ، والكافرُ لا يُقْبَلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ، ولا خلافَ بين العلماءِ أن الكفرَ سيئةٌ لا تنفعُ معها حسنةٌ، فلا ينتفعُ الإنسانُ بعملٍ إلا إذا كان مَبْنِيًّا على أساسِ العقيدةِ الصحيحةِ. ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (6/ 66). (¬2) انظر: المصدر السابق (6/ 66).

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬1) أن العملَ الصالحَ الذي يُثَابُ به صاحبُه يومَ القيامةِ هو ما اسْتَكْمَلَ ثلاثةَ أمورٍ: الأول: منهما أن يكونَ مُطَابِقًا لِمَا جاء به النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّ اللَّهَ لاَ يقبلُ أن يُتَقَرَّبَ إليه إلا بما شَرَعَ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ تَقَرَّبَ إليه بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ لم يَقْبَلْهُ منه {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: آية 21]. الثانِي: أن يكونَ العبدُ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ في نيتِه التي لا يعلمُها إلا اللَّهُ مُخْلِصًا في عملِه لله؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11)} [الزمر: آية 11]. الثالثُ: هو هذا الذي نحنُ بصددِه: أن يكونَ العملُ مَبْنِيًّا على أساسِ الإيمانِ بِاللَّهِ والعقيدةِ الصحيحةِ؛ لأَنَّ العملَ كالسقفِ، والعقيدةُ الصحيحةُ والإيمانُ بِاللَّهِ كالأساسِ، والسقفُ لا يستقيمُ إلا على أساسٍ؛ وَلِذَا مَنْ عَمِلَ أعمالاً صالحةً ليست مَبْنِيَّةً على أساسِ الإيمانِ فَهِيَ باطلةٌ منهارةٌ لاَ ينتفعُ بها، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: آية 124] فَقُيِّدَ بقولِه: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهذا لا نزاعَ فيه؛ لأَنَّ كُلَّ عملٍ يعملُه الكافرُ ولو كان مُطَابِقًا للشرعِ، والكافرُ مخلصٌ فيه لِلَّهِ، فإن بعضَ الكفارِ يَبَرُّ وَالِدَيْهِ، ويصلُ رَحِمَهُ، وَيُقْرِي الضيفَ، ويعينُ المظلومَ، وينفسُ عن المكروبِ، كُلُّ ذلك يقصدُ به وجهَ اللَّهِ، فهذه قُرَبٌ صحيحةٌ موافقةٌ للشرعِ هو مخلصٌ فيها لله، لا ينفعُه اللَّهُ بها يومَ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

القيامةِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (23)} [الفرقان: آية 23] وقال (جلَّ وعلا): {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: آية 16] {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ... } [النور: آية 39] {كَرَمَادٍ} [إبراهيم: الآية 18] ونحو ذلك من الآياتِ، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَمَلَ الكافرِ الصالحِ - كأن يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وينفِّس عن المكروبِ، وَيُقْرِيَ الضيفَ، ويعينَ المظلومَ، ويصلَ الرحمَ - يَقْصِدُ بذلك وجهَ اللَّهِ، فمثلُ هذا من الأعمالِ الصالحةِ إذا فَعَلَهُ الكفارُ أَثَابَهُمُ اللَّهُ به في دارِ الدنيا فَأَعْطَاهُمْ عرضَ الدنيا من المالِ وَأَطْعَمَهُمْ وسقاهم ورزقَهم العافيةَ، ولا يكونُ لهم عِنْدَ اللَّهِ جزاءٌ، وقد ثَبَتَ هذا المعنَى من حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي رَوَاهُ عنه أنسٌ، ورواه مسلمٌ في صحيحِه من حديثِ أنسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ يُطْعِمُ الكافرَ بعملِه الصالحِ في الدنيا، وَيُثِيبُهُ في الدنيا، فإذا جاء الآخرةَ لم يكن له عملٌ يُجَازَى عليه، أما المسلمُ فَاللَّهُ يُثِيبُهُ بعملِه في الدنيا وَيَدَّخِرُ له في الآخرةِ (¬1). والآياتُ الدالةُ على أن الكفارَ ينتفعونَ بأعمالِهم في الدنيا جاءت في القرآنِ، كقولِه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20)} [الشورى آية: 20] وما دَلَّ عليه هذا الحديثُ الصحيحُ من أن الكافرَ يُجَازَى بِعَمَلِهِ في الدنيا ولا يُجَازَى به في الآخرةِ، وما دَلَّ عليه بعضُ ¬

(¬1) مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا. حديث رقم: (2808) (4/ 2162).

الآياتِ. وقال بعضُهم: إن منه قولَه تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: آية 39] قال بعضُ العلماءِ: وَفَّاهُ حسابَه فِي دارِ الدنيا بما رَزَقَهُ على عملِه الصالحِ من العافيةِ. وإن كان الوجهُ الآخَرُ أصحَّ في الآيةِ، كُلُّ هذا الذي هو إثابةُ الكافرِ من عَمَلِهِ فِي الدنيا لا شَكَّ مُقَيَّدٌ بمشيئةِ اللَّهِ؛ لأن ذلك دَلَّتْ عليه آيةُ سورةِ بَنِي إسرائيلَ، وهي قاضيةٌ على كُلِّ شيءٍ في هذا البابِ. أعنِي قولَه تعالى: {مَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} [الإسراء: آية 18] فقولُه: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} قَيَّدَ بالمشيئةِ للجزاءِ الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وهذا معنَى قولِه: {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: آية 54]. قَدْ قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (¬1) أن أصلَ مادةِ الكافِ والفاءِ والراءِ معناها التغطيةُ وَالسَّتْرُ، فَكُلُّ شيءٍ غَطَّيْتَهُ وَسَتَرْتَهُ فقد كَفَرْتَهُ، ومنه قيل لِلزُّرَّاعِ: (كُفَّارٌ)؛ لأنهم يكفرون البذرَ في بطنِ الأرضِ، وقيل لليلِ: (كَافِرٌ) والعربُ تُسَمِّي الليلَ كَافِرًا؛ لأنه يكفر الأجرامَ ويغطيها بظلامِه. وَكَفَرَ الشيءَ إذا غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، ومن هذا المعنَى قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ فِي معلقتِه (¬2): يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرٌ ... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا أَيْ: سَتَرَ النجومَ وَغَطَّاهَا غمامُ تلك الليلةِ. وقولُه أيضًا في معلقتِه هذه في تسميةِ الليلِ كافرًا (¬3): ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف. (¬2) السابق. (¬3) السابق.

حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا هذا أصلُ معنَى المادةِ في لغةِ العربِ، ومنه قِيلَ لتكفيرِ الذنوبِ تكفيرُ الذنوبِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يسترُها وَيُغَطِّيهَا بِحِلْمِهِ حتى لا يظهرَ لها أَثَرٌ، مِنْ (كَفَرْتُهُ) إذا سَتَرْتَهُ. والكافرُ يُغَطِّي أدلةَ التوحيدِ ويحاولُ جحدَها وتغطيتَها وهي كالشمسِ في رابعةِ النهارِ، أو يحاولُ تغطيةَ نِعَمِ اللَّهِ عليه بِأَكْلِهِ رزقَه وعبادتِه غيرَه. قولُه: {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: آية 54] هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والرسولُ بِمَعْنَى مُرْسَلٍ، أي: بالإنسانِ الذي أَرْسَلَهُ اللَّهُ (تبارك وتعالى)، وهو نَبِيُّنَا. والرسولُ (فعول) بمعنَى (مُفْعَلٍ) وأصلُه مصدرٌ، وإتيانُ المصادرِ على وزنِ (فَعُول) بفتحِ الفاءِ نادرٌ موجودٌ في كلماتٍ معدودةٍ (¬1) كالقبولِ، والولوعِ، والرسولُ بمعنَى الإرسالِ والرسالةِ. والتحقيقُ أن أصلَ الرسولِ مصدرٌ، والعربُ تُطْلِقُ الرسولَ وتريدُ المصدرَ الذي هو الرسالةُ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬2): لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمُ ... بِقَوْلٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أي: وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرِسَالَةٍ، وقول الآخر (¬3). أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولاً ... بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ أَبْلِغْ بَنِي عمرٍو رسالةً. وإنما قُلْنَا: إن الرسولَ أصلُه مصدرٌ لِنُبَيِّنَ بذلك أن في ذلك حَلاًّ لبعضِ الإشكالاتِ في القرآنِ العظيمِ؛ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (78) من سورة البقرة.

لأن الأشياءَ التي أصلُها مصادر إذا تُنُوسِيَتْ فيها المصدريةُ واستعملت استعمالَ الأوصافِ جَازَ أن يُرَاعَى فيها أصلُها وهو المصدرُ، والعربُ إذا نَعَتَتْ بالمصدرِ الْتَزَمَتِ الإفرادَ والتذكيرَ، ومن هنا كان الرسولُ يجوزُ إفرادُه مُرَادًا به الجمعُ أو التثنيةُ؛ لأَنَّ أصلَه مصدر؛ ولذلك جاء مُفْرَدًا في سورةِ الشعراءِ في قولِه: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 16] نظرًا إلى أصلِ مصدريتِه. وجاء مُثَنًّى في سورةِ طه: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: آية 47] اعتدادًا بالوصفيةِ العارضةِ وإلغاءً للمصدريةِ الأصليةِ؛ ولذلك كانت العربُ تُطْلِقُ الرسولَ وتريدُ به الجمعَ على عادتِها إذا نَعَتَتْ بالمصادرِ، ومنه قولُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ (¬1): أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو ... لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ يعنِي: وخيرُ الرسلِ. وهذا معنَى قولِه: {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم. {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ} هي هذه الصلاةُ المكتوبةُ، أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا {إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} إلا والحالُ هم كُسَالَى، وَالْكُسَالَى جمعُ الكسلانِ: المتكاسلُ عنها الذي هي ثقيلةٌ عليه؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: آية 45] لأَنَّ الصلاةَ لاَ تَخِفُّ إلا على مَنْ يريدُ جزاءَ اللَّهِ وثوابَه، أما المنافقونَ والذين لا إيمانَ لهم، فَهِيَ أثقلُ شيءٍ عليهم؛ وَلِذَا لا يأتونَها إلا متكاسلينَ في غايةِ الكسلِ يُرَاؤُونَ الناسَ ولو كانوا بانفرادِهم لاَ يَطَّلِعُ عليهم الناسُ لَمَّا صَلَّوْهَا كما تَقَدَّمَ في قولِه تعالى في سورةِ النساءِ: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء: آية 142] هذه حالةُ المنافقينَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. {وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: آية 54] فقولُه: {وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} معناه: أن المنافقينَ لا يُخْرِجُونَ نفقةً طيبةً بها أنفسُهم، ولا يخرجونَها إلا كُرْهًا لئلا يطلعَ المسلمونَ على نِفَاقِهِمْ فَيُجْرُوا عليهم أحكامَ الكفرةِ - وبهذا تَعْلَمُ أن قولَه: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: آية 53] أنهم كارهونَ على كُلِّ حالٍ، وأن المرادَ بالآيةِ تسويةُ جميعِ الحالاتِ، الحالةُ الواقعةُ وغيرُها أنهم لا فائدةَ لهم في ذلك. وهذا معنَى قولِه: {وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} أَيْ: كَارِهُونَ ذلك الإنفاقَ؛ لأنهم لا يطلبونَ ما عِنْدَ اللَّهِ ولاَ يَرْجُونَ عاقبةً ولا جزاءً مِنَ اللَّهِ، فالإنفاقُ في سبيلِ اللَّهِ يَعُدُّونَهُ مَغْرَمًا ويكرهونَه غايةَ الْكُرْهِ كما سيأتِي في قولِه: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: آية 98]. {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُم مِّنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)} [التوبة: الآيتان 55، 56]. {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: آية 55]. نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عن أن يستحسنَ ما أَعْطَى للمنافقينَ من متاعِ الدنيا من الأموالِ والأولادِ، لا يُعْجِبْكَ ما أَعْطَيْنَاهُمْ من الأموالِ والأولادِ فإنا أَعْطَيْنَاهُمْ إياه استدراجًا منا وعاقبتُه سيئةٌ ووخيمةٌ عليهم

في الدنيا والآخرةِ، لا تَسْتَحْسِنْ ذلك ولا تُعْجَبْ به؛ ولا تَمُدَّنْ إليه عَيْنَيْكَ كما قال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: آية 131] وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: الآيتان 55، 56] {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: آية 37] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد: آية 2] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآياتِ من سورةِ براءةٍ أن المنافقينَ لاَ حَظَّ لهم من اللَّهِ في الآخرةِ بَيَّنَ أن ما أعطاهم من زينةِ الحياةِ الدنيا من متاعِها من الأموالِ والأولادِ أيضًا لا يَنْبَغِي أن يستحسنَ، ولا أن يعجبَ به؛ لأنه تَافِهٌ أُعْطُوهُ استدراجًا وعاقبتُه سيئةٌ عليهم {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: آية 178] هذا معنَى قولِه: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} العربُ تقولُ: أَعْجَبَهُ الشيءُ يُعْجِبُهُ إذا اسْتَحْسَنَهُ استحسانًا يَسُرُّهُ، فكلُّ مَنِ اسْتَحْسَنَ الشيءَ استحسانًا يُسرُّ به تقولُ العربُ: أَعْجَبَهُ، أي: لا تَسْتَحْسِنْ ما أعطيناهم من متاعِ الدنيا استحسانَ سرورٍ {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} بإعطائِه إياهم ليعذبَهم، هذه اللامُ التي تأتِي في القرآنِ بكثرةٍ وفي كلامِ العربِ بعدَ فِعْلِ الإرادةِ فيها خلافٌ للعلماءِ؛ لأنه يكثرُ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ إتيانُ هذه اللامِ بَعْدَ فِعْلِ الإرادةِ كقولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: آية 26] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: آية 8] ونحو ذلك من الآياتِ، وقولُه هنا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: آية 55] تَكْثُرُ هذه اللامُ بعدَ فعلِ الإرادةِ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: آية 8] {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:

آية 26] وهي موجودةٌ في كلامِ العربِ نحو هذا، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1): أُرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ هذه اللامُ التي تأتِي في القرآنِ وفي كلامِ العربِ بعدَ فعلِ الإرادةِ اختلفَ العلماءُ في معناها، وأظهرُ أقوالِهم فيها قولانِ: أحدُهما: أنها لامٌ نادرةُ المعنَى تأتِي بمعنَى (أن)، وأنها لامُ مصدريةٍ، وإن لم يكن علماءُ العربيةِ عَدُّوا حرفَ اللامِ من الموصولاتِ الحرفيةِ المصدريةِ، قالوا: فهذه اللامُ بمعنَى (أن) والدليلُ على هذا القولِ تعاقبُ هذه اللامِ و (أن) في قولِه {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [التوبة: آية 32] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: آية 8] {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [التوبة: آية 55] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} في الآيةِ الآتيةِ. وعلى هذا القولِ فاللامُ المصدريةُ بمعنَى (أن)، وهو قولٌ يَقِلُّ مَنْ يقولُه من علماءِ العربيةِ. القولُ الثانِي: أن المفعولَ محذوفٌ، واللامُ لامُ تعليلٍ لمحذوفٍ، والمعنَى على هذا القولِ: إنما يريدُ اللَّهُ إعطاءَهم ومتاعَهم بها لأَجْلِ أن يعذبَهم بها في الحياةِ الدنيا. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا} قال بعضُ العلماءِ: الضميرُ عائدٌ إلى الأموالِ. وفي هذه الآيةِ وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ عند العلماءِ (¬2): قالت جماعةٌ من العلماءِ: فِي الآيةِ الكريمةِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنَى: فلاَ تُعْجِبْكَ أموالُهم ولا أولادُهم في الحياةِ الدنيا إنما يريدُ اللَّهُ ¬

(¬1) البيت لكُثَيِّر عزة وهو في تاريخ دمشق (50/ 80). (¬2) انظر: القرطبي (8/ 164)، البحر المحيط (5/ 54)، الدر المصون (6/ 67).

ليعذبَهم بها - أي في الآخرةِ - وعلى أن في الآيةِ تقديمًا وتأخيرًا فَلاَ إشكالَ في المعنَى. وهذا القولُ مَرْوِيٌّ عن ابنِ عباسٍ (¬1) وجماعةٍ مِنَ السلفِ. وقال جماعةٌ من العلماءِ منهم الحسنُ البصريُّ وغيرُه (¬2): إن الآيةَ لاَ تقديمَ فيها ولاَ تأخيرَ، وأن اللَّهَ يعذبُ المنافقينَ بالأموالِ في الحياةِ الدنيا. وعلى قولِهم فالضميرُ راجعٌ إلى الأموالِ فقط دونَ الأولادِ، ومعنَى كونِ اللَّهِ يعذبُهم بأموالِهم في الحياةِ الدنيا أن اللَّهَ يفرضُ عليهم فيها الزكاةَ ويفرضُ عليهم فيها الحقوقَ الواجبةَ فَتُؤْخَذُ قَهْرًا منهم رغم أنوفِهم، وأعظمُ ما يعظم على الإنسان إذا كان يُؤْخَذُ الشيءُ من تحتِ يدِه وهو مُحِبٌّ له كُرْهًا رغم أنفِه لا يريدُ به وجهَ اللَّهِ، وأن اللَّهَ أيضًا يسلطُ عليها المصائبَ والبلايا فتحزنُ قلوبُهم وتتعذبُ، ولأنه يُتْعِبُهُمْ في جَمْعِهَا أَوَّلاً فتأتيهم بمتاعبَ من جهاتٍ متعددةٍ، منها: تَعَبُهُمْ ونصبُهم في جَمْعِهَا أولاً وما ينزلُ بها مِنَ المصائبِ، وتكليفُهم دفعَ الزكاةِ فيها، وإنفاقُها في سبيلِ اللَّهِ للجهادِ ونحو ذلك، فهذا تعذيبٌ لهم؛ لأن أَشَدَّ ما يُؤْلِمُ المنافقَ أخذُ مالِه من تحتِ يدِه قَهْرًا لِعِزَّةِ المسلمينَ ونصرِ دينِ الإسلامِ، هذا أمرٌ يُؤْلِمُ قلوبَهم جِدًّا، وَكُلُّ ما يُؤْلِمُ الإنسانَ يُسَمَّى تعذيبًا له. وعلى هذا القولِ فلاَ تقديمَ ولا تأخيرَ في الآيةِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: ويجمعَ لهم مع ذلك عذابَ الآخرةِ {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} أي: يموتوا {وَهُمْ كَافِرُونَ} فيتصلُ لَهُمْ عذابُ الآخرةِ الذي لاَ ينقطعُ بعذابِ الدنيا. وهذا معنَى قولِه: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 296) من طريق علي بن أبي طلحة. (¬2) أورد هذه الروايات ابن جرير (14/ 296).

وقولُه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: آية 56] هذه عادةُ المنافقينَ يتقونَ بِالأَيْمَانِ الكاذبةِ {وَيَحْلِفُونَ} للنبيِّ والمسلمينَ {بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} في الباطنِ والظاهرِ، وَاللَّهُ يقولُ: {وَمَا هُم مِّنْكُمْ} بل هم أعداؤُكم ولا عَاشَرُوكُمْ إلا مُرْغَمِينَ على ذلك لاَ يجدونَ عنه مَفَرًّا، كما يأتِي في الآيةِ الآتيةِ بعدَ هذا {وَيَحْلِفُونَ} للنبيِّ وأصحابِه قائلينَ {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاللَّهُ يقولُ: {وَمَا هُم مِّنْكُمْ} هم كفرةٌ أعداءُ ليسوا منكم {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يَفْرَقُونَ معناه: يَخَافُونَ. العربُ تقولُ: فَرِقَ الرجلُ بكسرِ الراءِ يَفْرَقُ بفتحِها على القياسِ فَرَقًا بفتحتينِ فهو فَرِقَ إذا كان خَائِفًا شديدَ الخوفِ (¬1). وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أبِي مِحْجَنٍ الهذليِّ في أبياتِه المشهورةِ (¬2): الْقَوْمُ أَعْلَمُ أَنِّي من سَرَاتِهِمُ ... إِذَا تَطِيشُ يَدُ الرِّعْدِيدَةِ الْفَرِقِ الذي يرتعدُ إذا أرادَ أن يرميَ فترتعدُ يدُه من الفرقِ وهو الخوفُ. أي: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: يخافونَ منكم فَيَتَوَدَّدُونَ ويحلفونَ لكم الأيمانَ الكاذبةَ أنهم منكم في الباطنِ وليسوا منكم في الباطنِ، بل هم أعداءُ كفَرَةٌ فَجَرَةٌ، هم أَعْدَى الناسِ لكم كما سيأتِي قريبًا. وهذا معنَى قولِه: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} ثم بَيَّنَ شدةَ عداوتِهم لهم فقال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [التوبة: آية 57] لو كانوا يَجِدُونَ مَلْجَأً يلجؤون إليه ويعتصمونَ به دونَكم للجؤوا إليه. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة فرق) (634). (¬2) البيت لأبي محجن الثقفي. وهو في الشعر والشعراء لابن قتيبةص277، تاريخ دمشق (68/ 46، 47).

{أَوْ مَغَارَاتٍ} المغاراتُ جمع مغارةٍ، والمغارةُ: هي الغيرانُ في الجبالِ. المغارةُ: الغارُ في الجبلِ، وهو بفتحِ الميمِ. والتحقيقُ أن أصلَ أَلِفِهِ منقلبةٌ عن واوٍ؛ لأن المغارةَ من غَارَ يَغُورُ إذا انْحَدَرَ في أسفلَ، ومنه {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: آية 30] أي: غَائِرًا. وَكُلُّ غائرٍ مُنْسَفِلٍ فهو غَوْرٌ. ومعنى مغارةٍ: أي: غارًا منسفلاً ينحدرونَ في أسفلِه ويختفونَ فيه عنكم. {أَوْ مُدَّخَلاً} قراءةُ السبعةِ وجمهورِ القراءِ غيرِهم: {مُدَّخَلاً} والمُدَّخَلُ أصلُ وزنِه [مفتعلاً] من دَخَلَ، أصلُه {مُدْتَخَل} بِالتَّاءِ، أُبْدِلَتِ التاءُ دَالاً وَأُدْغِمَتِ الدالُ في الدالِ (¬1). والمُدَّخَلُ هو المكانُ الذي يُدْخَلُ فيه كالسَّرَبِ والنفقِ في باطنِ الأرضِ. أي: لو يَجِدُونَ غيرانًا في الجبالِ أو أَنْفَاقًا وسروبًا في داخلِ الأرضِ يدخلونَ فيها، أو مَلْجَأً يعتصمونَ به لَوَلَّوْا [9/أ] رَاجِعِينَ إليه عنكم / {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يجمحونَ مضارعُ جَمَحَ يجمحُ إذا أَسْرَعَ في سيرِه إِسْرَاعًا لاَ يَرُدُّ وجهَه شيءٌ، ومنه: فَرَسٌ جموحٌ إذا كان اللجامُ لا يمسكُه ولا يردُّه عن وجهتِه شيءٌ، فَكُلُّ مسرعٍ في جَرْيِهِ لاَ يَرُدُّهُ عن وجهه شيءٌ تُسَمِّيهِ العربُ جموحًا وجامحًا. أي: لو وَجَدُوا أَيَّ موضعٍ يذهبونَ فيه إليكم ولا يَصْحَبُونَكُمْ لَوَلَّوْا إليه في غايةِ الإسراعِ لا يردُّهم عنه شيءٌ، ولكنهم لا يجدونَ طريقًا أبدًا غيرَ معاشرتِكم فَهُمْ مُلْجَؤُونَ إليها يعاشرونَكم مُكْرَهِينَ لا مَفَرَّ ولاَ ملجأَ لهم، ولو وَجَدُوا أي مَفَرٍّ للجؤوا إليه، وهذا غايةُ العداوةِ، بَيَّنَ اللَّهُ أسرارَهم وشدةَ عداوتِهم لِنَبِيِّهِ ليتحرزَ منهم؛ لأَنَّ العدوَّ إذا كان في ثيابِ صديقٍ هو أَشَدُّ الأعداءِ: ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 165)، الدر المصون (6/ 68 - 69)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص107.

احْذَرْ عَدُوَّكَ مَرَّةً ... وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفَ مَرَّةْ (¬1) وهذا معنَى قولِه: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: آية 57]. يقولُ اللَّهُ (جلَّ وعلا): {وَمِنْهُم مَّنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: الآيات 58 - 60]، ذَكَرَ كثيرٌ من أهلِ العلمِ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في حرقوصَ بنِ زهيرٍ ذِي الخويصرةِ التميميِّ رأسِ المنافقينَ. قالوا: وَجَدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُ مالاً فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ اعْدِلْ؛ فإنك لَمْ تَعْدِلْ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَقِصَّةُ ذِي الخويصرةِ معروفةٌ ثابتةٌ في الصحيحِ (¬2)، ولكن الذي يظهرُ أن هذه الآيةَ ليست نازلةً فيه، وإن زَعَمَ كثيرٌ من كبراءِ المفسرينَ أنها نازلةٌ في ذِي الخويصرةِ، وإنما قُلْنَا إن الأظهرَ أنها نازلةٌ في غيرِه أن المعروفَ أن القسمةَ التي قال فيها حرقوصُ بنُ زهيرٍ التميميُّ المعروفُ بذي الخويصرةِ أصلُ الخوارجِ - قَبَّحَهُ وَقَبَّحَهُمُ اللَّهُ - أن ذلك في قَسْمِ ¬

(¬1) نسبه في قرى الضيف (3/ 127) إلى ابن حجاج، وفي محاضرات الأدباء للراغب (3/ 21) نسبه إلى علي بن عيسى. (¬2) أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. حديت رقم: (3610) (6/ 217) وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث (4351، 6931)، ومسلم في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. حديث رقم: (1064) (2/ 741) من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه).

النبيِّ لغنائمِ حنينٍ، قال ذلك فيه، وهذه الآيةُ يُصَرِّحُ اللَّهُ فيها بأنهم لَمَزُوهُ في قسمِ الصدقاتِ وهي الزكواتُ والصدقاتُ غير الغنائم (¬1)، فالأظهرُ أن الأصوبَ فيها هو ما قاله ابنُ جريجٍ (رحمه الله) وغيرُه أنها نَزَلَتْ في رجلٍ من الأنصارِ من المنافقينَ حَضَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُ مالاً من الصدقاتِ فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، اعْدِلْ فإنك لم تَعْدِلْ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ فيه (¬2). وهذه الآياتُ من سورةِ براءة يُبَيِّنُ اللَّهُ فيها أصنافًا مِنَ المنافقينَ يقولُ: ومنهم مَنْ هو كذا، ومنهم مَنْ هو كذا، كما تَقَدَّمَ في قولِه: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} [التوبة: آية 49] وقال هنا: {وَمِنْهُم مَّنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} وسيأتِي قولُه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ ¬

(¬1) الذي يظهر أنهما واقعتان متشابهتان: الأولى: في قسم غنائم حنين، وذلك في الجعرانة حيث قال له رجل: «يا محمد اعدل» كما في حديث جابر (رضي الله عنه) عند البخاري (3138) ومسلم (1063). الثانية: في قَسْمِ ذُهيبة بعث بها علي (رضي الله عنه) من اليمن والنبيُّ صلى الله عليه وسلم في المدينة. وقد قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، فقال رجل: يا رسول الله: اتق الله ... الحديث. كما في حديث أبي سعيد الذي تقدم تخريجه قريبًا. وقد جاء في بعض الروايات عند البخاري ومسلم التصريح باسمه وهو ذو الخويصرة التميمي. وكذا في رواية ابن جرير (14/ 303) والواحدي في أسباب النزول ص249، وفيهما أيضًا التصريح بأن هذه الحادثة كانت سبب نزول الآية. قال الحافظ في الفتح (8/ 68): «تنبيه: هذه القصة غير القصة المتقدمة في غزوة حنين ووهم من خلطها بها» اهـ. وقال في (12/ 293) «وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحد» اهـ. (¬2) أخرجه ابن جرير (14/ 302) وقد رواه ابن جريج عن داود بن أبي عاصم، ولا يخفى أن هذا له حكم الإرسال.

النَّبِيَّ} [التوبة: آية 61] هذه طوائفُ من المنافقينَ تعملُ قبائحَ مختلفةَ الأصنافِ بَيَّنَهَا اللَّهُ في هذه السورةِ {وَمِنْهُم} أي: مِنَ المنافقينَ {مَّنْ يَلْمِزُكَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ، واللمزُ معناه: العيبُ والطعنُ. تقولُ العربُ: لَمَزَهُ. إذا عَابَهُ وَطَعَنَ فيه، ومنه قولُه: {يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 79] {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: آية 11] أي: لا يَعِبْ أحدُكم أخاه ويطعنُ فيه، ومنه: {وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} لأَنَّ اللُّمزةَ فُعَلة تدلُّ على المبالغةِ، أي: كثيرُ لَمْزِ الناسِ، أي: عيبهم والطعنِ فيهم. ومن هؤلاء المنافقينَ صنفٌ آخَرُ يلمزكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ، يطعنُ عليكَ ويعيبكَ في قسمِ الصدقاتِ ويقولونَ: هذه قسمةٌ ما أُرِيدَ بها وجهُ اللَّهِ، ولم يُرَاعَ فيها العدلُ كما ينبغي. ثم إن اللَّهَ بَيَّنَ قبائحَهم وَفَضَحَهُمْ بأن هذا القولَ الذي تَجَرَّؤُوا عليه ما حَمَلَهُمْ عليه إلا الطمعُ والشرهُ ومحبةُ شيءٍ يُعْطَوْنَهُ في خصوصِ أنفسِهم؛ وَلِذَا قال: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} فإن أُعْطُوا من الصدقاتِ رَضُوا ذلك العطاءَ وَسَكَتُوا وَفَرِحُوا {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا} (إذا) حرفُ مفاجأةٍ، وقد قَدَّمْنَا فِي هذه الدروسِ أن (إذا) الفجائيةَ فيها لعلماءِ العربيةِ ثلاثةَ أقوالٍ: قيل: هي حرفٌ، وقيل: ظرفُ مكانٍ، وقيل: ظرفُ زمانٍ، كما هو مُقَرَّرٌ في مَحَلِّهِ (¬1). والمعنَى: إذا لم يُعْطَوْا من الصدقاتِ شيئًا فَاجَأَ ذلك سخطهم، أي: غضبهم وعدم رضاهم. فَبَيَّنَ اللَّهُ أن سخطهم ورضاهم منوطانِ بمصلحتِهم الخاصةِ إذا أُعْطُوا شيئًا رَضُوا وَفَرِحُوا، وإذا لم يُعْطَوْا شيئًا غَضِبُوا وَسَخِطُوا. وهذه ليست حالةَ مَنْ يريدُ وجهَ اللَّهِ ولاَ المصلحةَ العامةَ؛ وَلِذَا قال: ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (201) من سورة الأعراف.

{فإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} يسخطونَ مضارعُ (سَخِطَ الأمرَ) بكسرِ الخاءِ (يسخَطه) بفتحِها (سَخَطًا) على القياسِ، وسُخْطًا إذا كَرِهَهُ، وسَخِطَ الرجلُ بمعنَى غَضِبَ، ومنه: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: آية 80] أي: غَضِبَ عليهم، والعياذُ بالله-. ثم إِنَّ اللَّهَ قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: آية 59] معروفٌ في عِلْمِ العربيةِ أن (لو) حرفُ شرطٍ في الْمَاضِي، وأن حروفَ الشرطِ إنما تَتَوَلَّى الجملَ الفعليةَ، ومعلومٌ أن (أن) في قولِه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا} في مَحَلِّ مصدرٍ، والمصدرُ الذي هي في محلِّه اسمٌ. والعلماءُ يُجِيبُونَ عن هذا بأن متعلقَ (لو) محذوفٌ (¬1) عاملٌ في قولِه: {أَنَّهُم} والمعنَى: ولو ثَبَتَ، أو لو وَقَعَ أنهم فَعَلُوا كذا لكان خيرًا لهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} رَضُوا أصلُه: (رَضِيُوا) أصلُه (فِعْل) وأصلُ لامِه واوٌ؛ لأن أصلَ رضي (رَضِوَ) بالواوِ؛ لأنك تقولُ منها: الرضوانُ بالواوِ، ولا تقولُ: الرضيانُ بالياءِ. أصلُها (رَضِوَ)، بالواوِ فتطرفتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فوجبَ إبدالُها ياءً، فقيل فيها (رضي) بالياءِ مبدلةً من الواو (¬2) ومن المعروفِ في علمِ التصريفِ أن كُلَّ فعلٍ ناقصٍ - أَعْنِي معتلَّ الآخِرِ - إذا أُسْنِدَ إلى واوِ الجمعِ حُذِفَتْ لاَمُهُ، أصلُه (رضيو) والياءُ مبدلةٌ من واوٍ، فَحُذِفَتِ اللامُ التي هي ياءٌ أصلُها واوٌ وجُعلت كسرتُها ضمةً لمجانسةِ الواوِ، فَلِذَا قيل فيه: (رضوا) وأصلُ وزنِ الكلمةِ بالميزانِ الصرفيِّ (فَعِلُوا) ووزنُها الحاضرُ الآنَ (فَعُوا) لأنها محذوفةُ اللامِ. وهذا معنَى ¬

(¬1) انظر: البحر المحيط (5/ 56)، الدر المصون (6/ 72). (¬2) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص388 - 389.

قولِه: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا} شيئًا {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (إذا) الفجائيةُ تأتِي جوابًا للشرطِ كما هو معروفٌ في محلِّه. ثم إن اللَّهَ قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} لو رَضُوا بنصيبِ اللَّهِ الذي قَسَمَ لهم كما يُعْطَى لسائرِ المسلمينَ من الصدقاتِ وغيرِها {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} حَسْبُنَا معناه: يَكْفِينَا اللَّهُ (جلَّ وعلا)؛ لأَنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ شيءٍ، وكفايةٌ مِنْ كُلِّ شيءٍ، فمعنَى {حَسْبُنَا اللَّهُ} يَكْفِينَا اللَّهُ {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ} سَيُعْطِينَا اللَّهُ من فَضْلِهِ، أي: مِنْ فضلِ اللَّهِ على يدِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وَسَيُؤْتِينَا رسولُه ما أَمَرَهُ اللَّهُ به أن يُؤْتِينَا، لو حَسَّنُوا الظنَّ بِاللَّهِ، وتوكلوا على الله، ورغبوا فيما عند الله، وقالوا: إنا إلى ربنا راغبون. أي: رَغْبَتُنَا إليه، ورهبتُنا إليه؛ لأن طَمَعَنَا وَأَمَلَنَا كُلَّهُ فيه؛ لأن المؤمنَ بمعناه الصحيحِ رغبتُه إلى اللَّهِ؛ لأنه يطيعُ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ وَيَرْغَبُ فيما عند الله (جلَّ وعلا) من الخيرِ، كما قال تعالى مَادِحًا للأنبياءِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: آية 90] وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: الآيتان 7، 8] لأن الرغباتِ كُلَّهَا إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا)؛ لأنه هو الذي بيدِه الخيرُ، وَكُلُّ شيءٍ بيدِه، فرغبةُ المؤمنِ إليه (جلَّ وعلا) يستنزلُ رحماتِ اللَّهِ وَمَا يرجو من اللَّهِ بطاعةِ اللَّهِ (جلَّ وعلا) وَتَقْوَاهُ. وهذا معنَى قولِه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: آية 59] جوابُ (لو) محذوفٌ دَلَّ المقامُ عليه، والتقديرُ: لو أنهم فَعَلُوا ذلك لكانَ خَيْرًا لهم. وقد جاء في القرآنِ وَفِي كلامِ العربِ حذفُ جوابِ (لو) إذا دَلَّ المقامُ عليه، فهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ فَمِنْ أمثلةِ حذفِ جوابِ (لو) في

القرآنِ مع دلالةِ المقامِ عليه قولُه تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر: آية 5] أي: لو تعلمونَ علمَ اليقينِ لَمَا أَلْهَاكُمُ التكاثرُ حتى زُرْتُمُ المقابرَ، ومنه قولُه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: آية 31] فجوابُ (لو) محذوفٌ، واختلف العلماءُ في تقديرِه على قَوْلَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ (¬1): قال بعضُهم: تقديرُ جوابِ (لو) في آيةِ الرعدِ هذه {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} لكان هذا القرآنُ على حَدِّ قولِه (¬2): وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ وقال بعضُ العلماءِ: تقديرُه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} لَكَفَرُوا بالرحمنِ. ويدلُّ لهذا قولُه بعدَه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [الرعد: آية 30] وَمِنْ حَذْفِ جوابِ (لو) في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (¬3): فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا يعني: لو شيءٌ أتانا رسولُه سواك لَدَفَعْنَاهُ. وهذا معنَى قولِه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} إلى قولِه: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: آية 59]. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: آية 60]. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنفال وراجع ما تقدم عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام. (¬2) السابق. (¬3) مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنفال.

لَمَّا كان من المنافقينَ طائفةٌ يلمزونَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قَسْمِ الصدقاتِ ويفترونَ عليه أنه لم يَعْدِلْ في قَسْمِهَا بَيَّنَ اللَّهُ لهم أن اللَّهَ تَوَلَّى قسمتَها وَبَيَّنَهَا وهو صلى الله عليه وسلم مُنَفِّذٌ لِمَا أَوْضَحَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} المرادُ بالصدقاتِ هنا: زكواتُ المالِ الواجبةُ، فَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ في هذه الآيةِ من سورةِ براءة مصارفَ زكاةِ المالِ التي هي إحدى دعائمِ الإسلامِ الخمسِ، جَعَلَهَا ثمانيةً، وهي: الفقراءُ، والمساكينُ، والعاملونَ عليها، والمؤلفةُ قلوبُهم، وفي الرقابِ، والغارمونَ، وفي سبيلِ اللَّهِ، وابنُ السبيلِ، هي ثمانيةٌ، و (إنما): أداةُ حصرٍ وإثباتٍ، يعنِي: لاَ يَثْبُتُ استحقاقُ الزكاةِ لشيءٍ غيرِ واحدٍ من هذه المصارفِ الثمانيةِ بإجماعِ العلماءِ. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الفقراءُ: جَمْعُ فقيرٍ، والفعيلُ إذا كان وَصْفًا ينقاسُ جمعُه جمعَ كثرةٍ على (فُعَلاَءَ) على العادةِ ما لم يكن معتلَّ اللامِ أو مُضَعَّفًا. وهذا معروفٌ (¬1)، كُلُّ (فعيلٍ) في القرآنِ وفي كلامِ العربِ بمعنَى (فاعلٍ) لم يكن معتلَّ اللامِ ولا مُضَعَّفًا ينقاسُ تكسيرُه جمعُ كثرةٍ على (فُعَلاَءَ) ككريمٍ وكرماءَ، وأديبٍ وأدباءَ، وشريفٍ وشرفاءَ، وعليمٍ وعلماءَ، وفقيرٍ وفقراءَ. أما إذا كان معتلَّ اللامِ أو مُضَعَّفًا فالقياسُ أن يُكَسَّرَ على (أَفْعِلاَءَ) فمثالُ معتلِّ اللامِ: كَتَقِيٍّ وأتقياءَ، وَسَخِيٍّ وأسخياءَ، وَنَبِيٍّ وأنبياءَ. وكذلك الْمُضَعَّفُ: كحبيبٍ وأحباءَ، وشديدٍ وأشداءَ. كما هو معلومٌ في محلِّه. فالفقراءُ جمعُ فقيرٍ، وهو جَمْعٌ على القياسِ. والمساكينُ: جَمْعُ مسكينٍ كذلك. ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف.

واختلفَ العلماءُ في الفقيرِ والمسكينِ أيهما أحوجُ وأسوأُ حالاً (¬1)؟! والقاعدةُ المقررةُ عند علماءِ التفسيرِ كما قَالَهَا غيرُ واحدٍ من المتأخرينَ ويكادونَ يُطْبِقُونَ عليها: أن الفقيرَ والمسكينَ إذا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وإذا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا. ومعنَى هذا الكلامِ: أنهما إذا افْتَرَقَا بأن جاءَ في آيةٍ من كتابِ اللَّهِ أو حديثٍ من سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ اسمُ الفقيرِ وحدَه، أو المسكينِ وحدَه، شَمِلَهُمَا معًا، دخلَ الفقيرُ في المسكينِ، والمسكينُ في الفقيرِ؛ لأَنَّ كونَهما مُحْتَاجَيْنِ يشمل كُلاًّ منهما وإن كان أحدُهما أَشَدَّ فقرًا من الآخَرِ، وإن اجْتَمَعَا كما نُصَّ عليهما موجودينِ كقولِه هنا: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} فقد اجْتَمَعَا، فيلزمُ إذا اجتمعا أن يفترقَا، فيكونُ للفقيرِ معنًى خاصٌّ به، وللمسكينِ معنًى خاصٌّ به. والحاصلُ أنه إذا ذُكِرَ الفقيرُ وحدَه أو المسكينُ وحدَه دَخَلَ الفقيرُ في المسكينِ والمسكينُ في الفقيرِ، وإذا ذُكِرَا معًا في مَحَلٍّ واحدٍ كهذِه الآيةِ وَكَمَنْ أَوْصَى للفقراءِ والمساكينِ كان لكلٍّ منهما مَعْنًى يَخُصُّهُ. والعلماءُ مختلفونَ في الفقيرِ والمسكينِ أيهما أسوأُ حالاً؟ فَذَهَبَ جماعةٌ من فقهاءِ الأمصارِ وأهلِ اللغةِ إلى أن الفقيرَ أسوأُ حالاً من المسكينِ، وهذا مذهبُ الشافعيِّ (رحمه الله)، وروايةٌ قويةٌ عن أحمدَ (رحمه الله)، وبه قال جماعةٌ من السلفِ، أن الفقيرَ أحوجُ من المسكينِ. وقالت طائفةٌ: إن المسكينَ أحوجُ من الفقيرِ، وهو مذهبُ مالكٍ وأصحابِه، ومذهبُ أبِي حنيفةَ (رحمه الله). وَكُلٌّ منهما يُوَجِّهُ قولَه، أما مالكٌ فقال: إن المسكينَ أحوجُ من الفقيرِ لأَنَّ اللَّهَ قال: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: آية 16] فَوَصَفَ المسكينَ بأنه لاصقٌ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

بالترابِ لاَ شيءَ عندَه، والعربُ تُطْلِقُ الفقيرَ على مَنْ عندَه شيءٌ لاَ يُغْنِيهِ، فعنده بُلْغَةٌ ولكنها لا تغنيه، قال: ويدلُّ لذلك قولُ راعِي نمير وهو عربيٌّ قُحٌّ (¬1): أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... رَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فَسَمَّاهُ فقيرًا وعندَه حلوبةٌ قدرَ عيالِه. وأما الذين قالوا: الفقيرُ أحوجُ فإنهم قالوا: إن الفقيرَ مُشْتَقٌّ من فقراتِ الظهرِ؛ لأَنَّ الفاقةَ كأنها فَقَرَتْ ظَهْرَهُ، أي: قَصَمَتْهُ. وقالوا: المسكينُ: اللَّهُ قال في سفينةِ الخضرِ وموسى: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: آية 79] فَسَمَّى أهلَها مساكينَ مع أن عندَهم سفينةً عاملةً في البحرِ بالإيجارِ، فَدَلَّ على أن الفقيرَ أسوأُ حالاً. وهذا خلافٌ بَيْنَ أهلِ اللغةِ والعلماءِ معروفٌ، جماعةٌ يقولونَ: الفقيرُ أسوأُ حالاً، وجماعةٌ يعكسونَ. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}. {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: آية 60] معناه: أن السهمَ [الثالث] (¬2) يُعْطَى للعاملينَ عليها، وهم الذين يَتْعَبُونَ في تحصيلِ الزكاةِ، كَالْجُبَاةِ الذين يُرْسِلُهُمُ الإمامُ ليجمعوا الزكاةَ من أقطارِ الناسِ وَيَأْتُوا بها ويذهبوا بها لِيُفَرِّقُوهَا. فالعاملونَ عليها كالجباةِ للزكاةِ من خارج، والمفرقينَ لها على الناس، فهؤلاء لهم سَهْمٌ في الزكواتِ وهو قَدْرُ أُجْرَتِهِمْ. وأظهرُ الأقوالِ أنه لا يتقدرُ فيه شيءٌ مُعَيَّنٌ إلا بقدرِ أجرتِهم، وكلُّ مَا يُعْطَى أحدٌ من هؤلاء فيه خلافٌ كثيرٌ (¬3)، وأظهرُها أنه كله يُوكَلُ إلى اجتهادِ الإمامِ، ونصيبُ العاملين عليها يكونُ بقدرِ أجرةِ مثلِهم بحسبِ ما عَانَوْهُ من التعبِ، يُعْطَوْنَ على قدرِ ¬

(¬1) السابق. (¬2) في الأصل: الثاني. (¬3) انظر: ابن جرير (14/ 311)، القرطبي (8/ 177).

ذلك، سواء كانوا فقراءَ أو أغنياءَ. وهذا معنَى قولِه: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}. والسهمُ [الرابع] (¬1) للمؤلفةِ قلوبُهم، والمؤلفةُ قلوبُهم المرادُ بهم قومٌ كانوا في زَمَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عندَهم إيمانٌ إلا أن إيمانَهم ليس بقويٍّ ولهم مكانةٌ وشوكةٌ إذا حَسُنَ إسلامُهم اعْتَزَّ بهم الإسلامُ والمسلمونَ وَقَوِيَتْ شوكةُ المسلمينَ، أو ناسٌ لهم شَرَفٌ إذا كانوا في الإسلامِ تَابَعَهُمْ غيرُهم، فالمرادُ أنه يكونُ رجالٌ دخلوا في الإسلامِ لهم مكانةٌ وقوةٌ وفائدةٌ للإسلامِ فيهم، وإيمانُهم ليس بقويٍّ، فَتُجْبَرُ خواطرُهم وَتُؤَلَّفُ قلوبُهم بالمالِ ليستحسنوا الإيمانَ ويتمكنَ الإسلامُ من قلوبِهم فتكون في ذلك المصلحةُ العامةُ للإسلامِ والمسلمينَ، ومعلومٌ أن المؤلفةَ قلوبُهم يُقَسِّمُهُمْ كتبُ الفروعِ إلى أقسامٍ متعددةٍ (¬2) وقصدنا هناك أن نذكرَ ما يكونُ مُصَرَّفًا للزكاةِ، وهو الإنسانُ الذي يكونُ في إسلامِه خيرٌ للمؤمنينَ، والظاهرُ أنه لا بد أن يكونَ مُسْلِمًا؛ لأَنَّ الزكاةَ لاَ تُدْفَعُ للكافرِ وهي قربةٌ لاَ يستحقُّها إلا المسلمونَ، فَمَنْ قال: إنها تُدْفَعُ للكافرِ لِيُسْلِمَ فالظاهرُ أنه خلافُ الظاهرِ. وَاعْلَمْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في زمنِه نصيبُ المؤلفةِ قلوبُهم، وَأَلْغَى عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) نصيبَ المؤلفةِ قلوبُهم، وَلَمْ يكن بعدَ ذلك مَعْرُوفًا فِي صدقاتِ المسلمينَ وزكواتِهم (¬3). وهذه الفقرةُ دَخَلَ منها كثيرٌ من الذينَ ينتصرونَ للقوانينِ بِشَيْطَنَةٍ وخفيةٍ وراءَ الستارِ، ويزعمونَ أن الشرعَ يتغيرُ بتغيرِ الأوضاعِ، قالوا: لأَنَّ النبيَّ دَفَعَ نصيبَ المؤلفةِ قلوبُهم وعمرُ لَمَّا رَأَى المصلحةَ لاَ تحتاجُ إلى ¬

(¬1) في الأصل: الثالث. (¬2) انظر: ابن كثير (2/ 365). (¬3) انظر: ابن جرير (14/ 315)، القرطبي (8/ 181)، ابن كثير (2/ 365).

ذلك لم يَدْفَعْهُ لهم؛ ليتصلوا بذلك إلى أن الشرعَ تابعٌ للمصالحِ، وأنه قَابِلٌ للتغييرِ في كُلِّ وقتٍ وزمانٍ تَبَعَ المصالحِ والتطوراتِ الراهنةِ، وهذا باطلٌ؛ لأن الشرعَ أَنْزَلَهُ الحكيمُ الخبيرُ العظيمُ الجليلُ الْعَالِمُ بِكُلِّ ما كان وما يكونُ، فَجَعَلَهُ شرعًا خالدًا إلى يومِ القيامةِ، مُسَايِرًا لجميعِ التطوراتِ، تَمْكُنُ مجابهتُه لكلِّ الأحداثِ مهما كانت، ولا إشكالَ في إلغاءِ عمرَ لنصيبِ المؤلفةِ قلوبُهم؛ لأن هذه الأصنافَ الثمانيةَ لاَ يُعْطَى منها إلا شيءٌ موجودٌ فإذا عُدِمَ الشيءُ فإنما لم يُجْعَلْ له سهمٌ لعدمِه، فالإنسانُ إذا قُطِعَتْ يدُه مثلاً والله يقولُ في الوضوءِ: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: آية 6] لا نقولُ: هذا لم يَغْسِلْ يدَه لأن يدَه سَقَطَتْ!! فالإسلامُ لَمَّا عَزَّ وتمكنَ من قلوبِ المسلمينَ وقويت شوكةُ الإسلامِ لم يَبْقَ هنالك مؤلفٌ، فلما ذَهَبَ هذا الصنفُ ذهبَ نصيبُه بذهابِه، وقد أجمعَ العلماءُ أن كُلَّ ما ذَهَبَ من هذه الأصنافِ الثمانيةِ يذهبُ نصيبُه معه، إذا لم يوجد ابنُ السبيلِ فلا نصيبَ لابنِ السبيلِ، فكلُّ ما ذهب منها ذَهَبَ نصيبُه معه، فعدمُ إعطاءِ عمرَ نصيبَ المؤلفةِ نظرًا لعدمِ وجودِ المؤلفةِ بالكليةِ؛ لأن الإسلامَ قَوِيٌّ وَتَمَكَّنَتْ شوكتُه وصارَ لاَ تأليفَ لأَحَدٍ. وهذا معنَى قولِه: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}. وعلى كُلِّ حالٍ فالتحقيقُ في هذه المسألةِ أن حكمَ المؤلفةِ قلوبُهم بَاقٍ إذا وُجِدُوا وكان رجالٌ لهم مكانتُهم وقوتُهم في دينِ الإسلامِ، والإسلامُ محتاجٌ إليهم، والمسلمونَ محتاجونَ إليهم، فإنه يرجعُ نصيبُهم لِتَأَلُّفِهِمْ للمصلحةِ العامةِ كما فَعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجاء به القرآنُ العظيمُ، وإن كان لا تأليفَ هنالك، ولا حاجةَ ولا ضعفَ في الإسلامِ ولاَ ضعفَ في الإيمانِ، بل المسلمونَ في قوةٍ

ونشاطٍ وفي عزةٍ وقوةٍ ومنعةٍ فالمؤلفةُ غيرُ موجودينَ فيسقطُ نصيبُهم لعدمِهم، وكذلك هذه الأصنافُ الثمانيةُ كُلُّ ما عُدِمَ منها سَقَطَ نصيبُه معه. وَاعْلَمْ أن العلماءَ مختلفون في هذه الأصنافِ الثمانيةِ هل يجبُ أن تكون الزكاةُ موزعةً بينَها ثمانيةَ أجزاءٍ ولا يجوزُ أن يُحْرَمَ واحدٌ منها، أو يجوزُ أن تعطَى الزكاةُ لواحدٍ منها، أو لاثْنَيْنِ، أو ثلاثةٍ دونَ تعميمِ الآخَرِينَ (¬1)؟ هذا خلافٌ معروفٌ بينَ العلماءِ، فذهبت جماعةٌ من العلماءِ منهم مالكٌ وأبو حنيفةَ (رحمه الله) وجماعةٌ كثيرةٌ من فقهاءِ الأمصارِ إلى أنه لا يلزمُ تعميمُ هذه الأصنافِ، بل يجوزُ أن تُعْطَى الزكاةُ لصنفٍ واحدٍ منها، وأن كُلَّ ذلك موكولٌ إلى نظرِ الإمامِ يرى الأصلحَ فالأصلحَ فَيُؤْثِرُ أفقرَها وأحوجَها وأشدَّها مصلحةً للعامةِ. هذا قولُ مالكٍ وأبِي حنيفةَ وجماعةٍ كثيرةٍ من العلماءِ، قالوا: والآيةُ إنما بَيَّنَتِ المصارفَ الذي لا يجوزُ أن تُتَعَدَّى بها الزكاةُ إلى غيرِها، وصنفٌ واحدٌ منها يكفي. وكان بعضُ علماءِ المالكيةِ يقول: أكبرُ دليلٍ على عدمِ وجوبِ تعميمِ الأصنافِ أنا لو أَعْطَيْنَا الفقراءَ جزءًا فإنا لا يقولُ أحدٌ إننا نُعَمِّمُ جميعَ الفقراءِ، وإذا أَعْطَيْنَا المساكينَ جزءًا فلا يمكنُنا أن نعممَ جميعَ المساكينِ، فإذا كان الصنفُ الواحدُ لا يمكنُ تعميمُه فلا يلزمُ تعميمُ الأصنافِ جميعِها؛ لأنا لو مَشَيْنَا مع التعميمِ لَزِمَنَا أن نُعَمِّمَ نصيبَ الفقراءِ على جميعِ الفقراءِ ولا نتركَ فقيرًا واحدًا، ونصيبُ المساكينِ على جميعِ المساكينِ ولا نتركُ مسكينًا واحدًا. والحاصلُ أن هذا خلافٌ قديمٌ اخْتَلَفَتْ فيه أنظارُ العلماءِ، فمنهم مَنْ يقولُ: إن المرادَ بـ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 322)، القرطبي (8/ 167)، المغني (4/ 127).

أنها لامُ التمليكِ، واستدلوا بحديثٍ جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن الله لم يَكِلْ قسمَها إلى نَبِيٍّ وإنما جَزَّأَهَا ثمانيةَ أجزاءٍ، قالوا: واللامُ للتمليكِ، فَهِيَ شركةٌ بَيْنَ هؤلاء الثمانيةِ، ومن حَرَمَ واحدًا من هؤلاء الثمانيةِ فقد ضَمِنَ له نصيبَه؛ لأنه حَرَمَهُ ما أعطاه اللَّهُ إياه. وقالت جماعةٌ من العلماءِ: المرادُ بالآيةِ: أن هذه هي المصارفُ الذي لا يجوزُ تَعَدِّيهَا إلى غيرِها، ولم يلزم تعميمُها، بل يُوكَلُ إلى نظرِ الإمامِ، فما رآه الإمامُ أحسنَ للمصلحةِ العامةِ فَعَلَهُ للمسلمينَ، فلو اقتضى نظرُه أن يصرفَها لواحدٍ من هذه الثمانيةِ دونَ غيرِها لِيَفْعَلْ. هذا ملخصُ كلامِ العلماءِ في هذا الموضوعِ. وقولُه: {وَالْغَارِمِينَ} الغارمونَ معناه: أصحابُ الديونِ الذين يُطْلَبُونَ بالدَّيْنِ، والغارمونَ عندَ العلماءِ فيهم تفصيلٌ (¬1): منهم مَنْ يكونُ غارمًا لمصلحةٍ عامةٍ للمسلمينَ، كالذي يجدُ بعضَ القبائلِ بينها شحناءُ وفتنٌ وستقعُ بينها قتلى وبلايا ثم يتحملُ الدياتِ ويكون غارمًا لتلك الدياتِ للمصلحةِ العامةِ، فمثلُ هذا النوعِ لم يختلف العلماءُ في أنه يُعْطَى من زكاةِ المسلمينَ ويغرمُ عنه ما تَحَمَّلَ للمصلحةِ العامةِ للمسلمينَ من زكواتِ المسلمينَ ولو كان غَنِيًّا. وبعضُهم يقولُ: لاَ يُعْطَى عنه إلا إذا كان فقيرًا. وأما إذا كان الإنسانُ تَحَمَّلَ الديونَ في خاصةِ نفسِه، كالذي يتحملُ لينفقَ [على] (¬2) أهلِه وأولادِه، وينفقَ في تجارتِه ثم يخسر، ونحو ذلك من الأمور فأكثرُ العلماءِ على أن هذا إذا كان لَمْ يَسْتَدِنْ في سَرَفٍ، ولم يَسْتَدِنْ في معصيةٍ، ولم يَبْدُرِ المالَ في المعاصِي أنه يدخلُ في الغارمينَ، وأنه يُقْضَى عنه قدرَ دَيْنِهِ من ¬

(¬1) انظر ابن جرير (14/ 317)، القرطبي (8/ 183)، ابن كثير (2/ 365). (¬2) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

الزكاةِ، وبعضُ العلماءِ يقولُ: ولو عندَه مالٌ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: لاَ يُعْطَى هذا الغارمُ من الزكاةِ إلا إذا كان لا شيءَ عندَه، أو عندَه شيءٌ إذا أعطاه للغرماءِ بَقِيَ فقيرًا لا شيءَ عندَه. وأظهرُ القولينِ في هذا: أنه يُقْضَى عنه الدَّيْنُ إلا إذا كان مَلِيًّا يقدرُ على قضاءِ الدَّيْنِ ويبقى عندَه ما يكفيه. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هو غارمٌ على كُلِّ حالٍ، يُقْضَى عنه سواء كان غَنِيًّا أو فقيرًا. والأولُ أظهرُ. وهذا معنَى قولِه: {وَالْغَارِمِينَ} {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ}. قولُه: {وَفِي الرِّقَابِ} اختلفَ العلماءُ في المرادِ به (¬1)، فَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أن المرادَ بالرقابِ: إعانةُ الْمُكَاتَبِينَ خاصةً. وذهب إلى هذا الشافعيُّ في طائفةٍ من العلماءِ، واستدلُّوا لهذا بقولِه تعالى في سورةِ النورِ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: آية 33] قالوا: {مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} هو المذكورُ في قولِه هنا: {وَفِي الرِّقَابِ} وعلى هذا القولِ الذي قاله الشافعيُّ وجماعةٌ من فقهاءِ الأمصارِ إذا كان المكاتبُ عليه نجومٌ من كتابتِه فإنه يُعَانُ بما عَسُرَ عليه من نجومِ كتابتِه من زكاةِ المسلمينَ ليتخلصَ حُرًّا. وذهبت جماعةٌ من العلماءِ منهم مالكُ بنُ أنسٍ وأصحابُه في طائفةٍ من فقهاءِ الأمصارِ إلى أن معنَى قولِه: {وَفِي الرِّقَابِ} أنه ليس معناه الْمُكَاتَبِينَ، قالوا: المكاتبونَ داخلونَ في قولِه: {وَالغَارِمِينَ} لأن المكاتبَ غارمٌ لسيدِه نجومَ كتابتِه. قالوا: أما معنَى قولِه: {وَفِي الرِّقَابِ} فهو أنه يُشْتَرَى من زكاةِ المسلمينَ عبيدٌ ويكونونَ ¬

(¬1) انظر ابن جرير (14/ 316)، القرطبي (8/ 182)، الأضواء (2/ 470).

أحرارًا ولاؤهم للمسلمينَ. قالوا: وهذا هو معنَى قولِه: {وَفِي الرِّقَابِ}. و {وَالغَارِمِينَ} تَكَلَّمْنَا الآنَ عليه. وقولُه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} لاَ خلافَ بَيْنَ العلماءِ أن الغزاةَ الذين ليسوا في الديوانِ داخلينَ في سبيلِ اللَّهِ، وإيضاحُ هذا أن عمرَ بنَ الخطابِ (رضي الله عنه) لَمَّا جَعَلَ مسألةَ الديوانِ كَتَبَ أسماءَ الجندِ في ديوانٍ قَيَّدَ أسماءَهم فيه، وَكُلُّ قُطْرٍ من الأقطارِ عَدَّدَ ما فيه من المُقَاتِلَةِ وَكَتَبَهُمْ في ديوانٍ ليحفظوا الثغورَ وَيُعِينُوا على الجهادِ، وكانت لهم أرزاقٌ معروفةٌ في بيتِ مالِ المسلمينَ، وهؤلاء إذا قُتِلَ واحدٌ منهم عَقَلَ عنه الآخَرُونَ قبلَ عصبتِه، فهؤلاء قال العلماءُ: ليسوا هم المرادَ هنا؛ لأن لهم أرزاقًا من بيتِ مالِ المسلمينَ وهم مُدَوَّنُونَ مَعْرُوفُونَ، وأن المرادَ بهؤلاءِ الغزاةِ: هم الذين يتطوعونَ لِيُقَاتِلُوا وَيُسَدِّوا الثغورَ مع المسلمينَ، مع أنهم لم تكن لهم أرزاقٌ مكتوبةٌ، ولم يكونوا مكتوبينَ في الديوانِ، فهؤلاءِ يُعْطَوْنَ من زكاةِ المسلمينَ وإن كانوا أغنياءَ، وَيُعْطَوْنَ ما يشترون به السلاحَ والمراكبَ ليسدوا ثغورَ المسلمينَ فيجاهدوا في سبيلِ اللَّهِ، وكونُ المرادِ في سبيلِ اللَّهِ الغزاة هو قولُ الشافعيِّ (رحمه الله) في طائفةٍ من العلماءِ. وقال الإمامُ مالكٌ وأصحابُه: إن المرادَ بسبيلِ اللَّهِ كُلُّ ما يتعلقُ بالغزوِ والرباطِ فيدخلُ فيه جميعُ ما يتعلقُ بالغزوِ كشراءِ السلاحِ والكراعِ، والرباطِ في سَدِّ الثغورِ المخوفةِ التي يُخْشَى أن تدخلَ منها الكفارُ للمسلمينَ، أن هذا كُلَّهُ يدخلُ في سَبِيلِ اللَّهِ. وذهبت جماعةٌ من العلماءِ وهو مَرْوِيٌّ عن الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ أن (في سَبِيلِ اللَّهِ) الحُجاج والعُمَّار، أنه يُعْطَى من بيتِ مالِ المسلمينَ للعاجزِ عن الحجِّ والعمرةِ ما يحجُّ به ويعتمرُ. قالوا:

والحجُّ والعمرةُ في سبيلِ اللَّهِ. هذا ملخصُ عيونِ كلامِ العلماءِ في هذه المصارفِ. وهذا معنَى قولِه: {وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {وَابْنِ السَّبِيلِ} السبيلُ في لغةِ العربِ (¬1): الطريقُ. ومعنَى (ابنِ السبيلِ) ولدُ الطريقِ، وإنما قيل للمسافرِ الغريبِ: (ابنُ السبيلِ) لأحدِ أَمْرَيْنِ: قال بعضُ العلماءِ: لأنه مُلاَزِمٌ للطريقِ لذهابِه معها، وَكُلُّ ملازمٍ لشيءٍ تقولُ له العربُ ابنُه، ومنه سَمَّتِ الطيرَ الملازمَ للماءِ (ابنَ الماءِ) كما هو معروفٌ، ومنه قولُ غيلانَ ذي الرمةِ (¬2): وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ فسماه ابنَ الماءِ لملازمتِه للماءِ. وقالت طائفةٌ من علماءِ العربيةِ: إنه إنما قيل له (ابنُ السبيلِ) لأن السبيلَ وهي الطريقُ كأنها تَمَخَّضَتْ لنا عنه وَرَمَتْنَا به كما ترمي النفساءُ الناسَ بولدِها، كان غَائِبًا في بطنِ الطريقِ فَرَمَتْنَا به، كما تكونُ النفساءُ ولدُها غائبٌ في بطنِها فترمينا به. وهذا المعنَى يوجدُ في كلامِهم، وقد أَوْضَحَهُ مسلمُ بنُ الوليدِ الأنصاريُّ - وإن كان كلامُه إنما يُذْكَرُ مثالاً لا استدلالاً، لأنه في زمنِ الدولةِ العباسيةِ، ولكنه أَوْضَحَ هذا المعنَى - بقولِه حيث يقولُ يذكرُ رجلاً سَافَرَ في فلاةٍ من الأرضِ شَهْرَيْنِ إلى أميرٍ ليمدحَه قال له (¬3): تَمَخَّضَتْ عَنْهُ تِمًّا بَعْدَ مَحْمَلِهِ ... شَهْرَيْنِ بَيْدَاءُ لَمْ تُضْرَبْ وَلَمْ تَلِدِ أَلْقَتْهُ كَالنَّصْلِ مَعْطُوفًا عَلَى هِمَمٍ ... يَعْمِدْنَ مُنْتَجِعَاتٍ خَيْرَ مُعْتَمَدِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام. (¬2) مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال. (¬3) هذان البيتان سبق ذكرهما في الموضع السابق.

فَصَرَّحَ بأن هذه الفلاةَ تَخَمَّضَتْ عن هذا وولدته وأنتجته، فكذلك الطريقُ كأنها تتمخضُ عنه وترميهم به. وأكثرُ العلماءِ يقولونَ: سُمِّيَ (ابنَ السبيلِ) لملازمتِه للطريقِ، وابنُ السبيلِ هو الإنسانُ الذي فَنِيَتْ نفقتُه وانقطعَ زادُه وهو متغربٌ عن أوطانِه يُعْطَى من زكاةِ المسلمينَ زَادًا وما يُبَلِّغُهُ إلى وطنِه ولو كان غَنِيًّا في محلِّه، ولا تتبع ذمتَه ولو كان غَنِيًّا في محلِّه؛ لأنه مصرفٌ للزكاةِ في ذلك الوقتِ وإن كان غَنِيًّا في بلدِه، وهذا من محاسنِ دينِ الإسلامِ وما فيه من مكارمِ الأخلاقِ. قال بعضُ العلماءِ: ويدخلُ في ابنِ السبيلِ ما لو كان له سَفَرٍ يُضْطَرُّ إليه، كما لو كانت له أولادٌ في دارِ حربٍ أو في ضيعةٍ وهو مُضْطَرٌّ إلى الإتيانِ بهم ولا مالَ عنده فإنه يُعْطَى ليذهبَ ويجيءَ ويكونَ داخلاً في ابنِ السبيلِ. وقد أجمعَ العلماءُ على أن ابنَ السبيلِ إذا كان مُسَافِرًا في معصيةٍ لاَ يجوزُ أن يُعْطَى من الزكاةِ شيئًا لأنه إعانةٌ له على معصيتِه، وَاللَّهُ يقولُ: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: آية 2] وإن كان سفرُه في قُرْبَةٍ فلا خلافَ في أنه يُعْطَى. وإن كان في مباحٍ فقد اختلفَ العلماءُ في ذلك، فقالوا: لا يُعْطَى؛ لأن المباحَ لا يلزمُ. وقال بعضُ العلماءِ: يُعْطَى؛ لأن السفرَ المباحَ فيه جميعُ التسهيلاتِ التي في السفرِ الواجبِ، فالسفرُ المباحُ تُقْصَرُ فيه الصلاةُ، وَيُفْطِرُ فيه المسافرُ، ويفعل فيه كلُّ الترخصاتِ، فكذلك يُعَانُ صاحبُه عليه. هكذا قال بعضُهم واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. وقولُه تعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} مصدرٌ، أي: فَرَضَ اللَّهُ هذا فريضةً عليكم {وَاللَّهُ} جلَّ وعلا {عَلِيمٌ} لا يَخْفَى عليه شيءٌ {حَكِيمٌ} يضعُ الأمورَ في مواضعِها ويوقعُها في مواقعِها.

[9/ب] / يقولُ اللَّهُ (جلَّ وعلا): {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} [التوبة: آية 61]. قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ غيرَ نافعٍ: {يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بياءٍ مشددةٍ، وقرأه نافعٌ وحدَه: {يُؤْذُونَ النَّبِئ} بهمزةٍ (¬1). وأبدل ورشٌ وَمَنْ وَافَقَهُ همزةً {يُؤْذُونَ} فقرأَ: {يوذون} وقرأ عامةُ السبعةِ غيرَ نافعٍ وحدَه: {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} بِضَمِّ الذالِ في الحرفينِ، وقرأه نافعٌ وحدَه: {أُذْن} بسكونِ الذالِ (¬2). وقرأ عامةُ السبعةِ غيرَ الكسائيِّ: {وَرَحْمَةٌ} بالرفعِ، وقرأ الكسائيُّ وحدَه {ورحمةٍ} بالخفضِ (¬3). فعلى قراءةِ الجمهورِ فهو عطفٌ على المضافِ في قولِه: (أذُنُ خيرٍ لكم ورحمةٌ) وعلى قراءة الكسائي (¬4) فهو عطف على المضاف إليه. أي: (أُذُنُ خيرٍ ورحمةٍ لكم) (¬5). ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام، وانظر: الإتحاف (2/ 94). (¬2) انظر: السبعة ص315، المبسوط لابن مهران ص227. (¬3) قراءة الخفض إنما هي لحمزة وليست للكسائي. انظر: السبعة ص315، المبسوط لابن مهران ص227، وقد استدرك الشيخ ذلك فنبّه على الصواب كما سيأتي قريبًا. (¬4) الصواب: حمزة كما سبق. (¬5) انظر: حجة القراءات ص320، الدر المصون (6/ 74).

وقولُه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} هذا صِنْفٌ آخَرُ من أصنافِ المنافقينَ؟ لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أصنافَ المنافقينَ، قال: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} [التوبة: آية 49] {وَمِنْهُم مَّنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: آية 58] {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: آية 61] كان في المنافقينَ طائفةٌ يبسطون ألسنتَهم إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالكلامِ السيئِ فيعيبونَه ويقولونَ فيه ما لا ينبغِي، وهذا هو قولُه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: آية 61] أي: ومن المنافقينَ الطائفةُ الذين يُؤْذُونَ النبيَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاستطالةِ في عَرْضِهِ. {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} معنَى هذا أنه إذا قيل لهم: كيف تقدحونَ في نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وتعيبونَه وهو إن علم بذلك فَعَلَ بكم وَفَعَلَ بكم؟ فيقولونَ: لاَ يَهُمُّنَا ذلك، لأنه أُذُنٌ!! العربُ تقولُ: فلان أُذُنٌ. وَأُذْنٌ بالسكونِ لغةٌ فيه، إذا كان يسمعُ مِنْ كُلِّ مَنْ جاءه، فإذا كان الرجلُ كلما جاءَه أحدٌ وأخبرَه سَمِعَ منه وَصَدَّقَهُ قالت العربُ: هذا الرجلُ أُذُنٌ. يعنونَ: هو كلما جاءه أحدٌ بِخَبَرٍ صَدَّقَهُ، ونحنُ إن قيل عنا إننا آذَيْنَاهُ جئناه وكذبنا له وحلفنا له فيصدقنا، فنحن نُؤْذِيهِ ولا تَضُرُّنَا عاقبةُ ذلك؛ لأن مَآلَنَا أن نكذبَ الحديثَ ونحلفَ له عليه، وهو أُذُنٌ يُصَدِّقُ كُلَّ مَنْ جاءه بخبرٍ، فيصدقُنا ولا ينشأُ لنا من ذلك سوءٌ. وهذا معنَى قولِه: {يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} لَمَّا عابوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم آذَوْهُ وعابوه بأنه أُذُنٌ فِي زعمهم الباطلِ - قبَّحهم اللَّهُ - يعنونَ: يسمعُ مِنْ كُلِّ مَنْ حَدَّثَهُ، بَيَّنَ اللَّهُ أنه أُذُنٌ ولكنه أُذُنُ خيرٍ خاصةً، لا أذن شَرٍّ، فإذا جاءه الناسُ بالخيرِ وبالحقِّ صَدَّقَهُمْ في الخيرِ والشرِّ، أما الباطلُ فليس بأذنٍ فيه ولا بمصدقٍ أحدًا فيه، ولا ينفعُكم اعتذارُكم الباطلُ. وهذا معنَى قولِه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} هو أُذُنُ خيرٍ لكم، أي: يسمعُ - هو سامعٌ - ولكنه سامعُ خيرٍ، سامعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ جاءه بخيرٍ وبحقٍّ لاَ من كُلِّ مَنْ جَاءَهُ بِشَرٍّ وبباطلٍ مثلكم فليس بِأُذُنٍ له. وهذا

معنَى قولِه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} يُصَدِّقُ بِاللَّهِ (جلَّ وعلا) التصديقَ الكاملَ من الجهاتِ الثلاثِ، يؤمنُ بالله تصديقًا صحيحًا من قلبِه ولسانِه وجوارحِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يصدقُ المؤمنينَ العدولَ الأتقياءَ إذا جاؤوه بمقالةٍ، أما الكفَرَةُ الْكَذَبَةُ أمثالُكم فلا يُصَدِّقُهُمْ. وجرت العادةُ باستقراءِ القرآنِ أن اللَّهَ تبارك وتعالى إذا كان الإيمانُ بِاللَّهِ عَدَّاهُ بالباءِ، كَأَنْ يقولَ: {ءَامَنُوا بِاللَّهِ} [الحجرات: آية 15، النساء: آية 136] {يُؤمِنُونَ باللَّهِ} [آل عمران: آية 114] وإذا كان الإيمانُ معناه تصديقَ مخلوقٍ فإنه يُعَدِّيهِ باللامِ دائمًا؛ وَلِذَا قال هنا: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} معناه: ويصدقُ المؤمنينَ. ولا يكادُ هذا التصديقُ المتعلقُ بالآدميينَ يوجدُ في القرآنِ إلا مجرورًا باللامِ، كقولِه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: آية 26] {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: آية 17] وقولِه هنا: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: ويصدقُ المؤمنينَ الأتقياءَ في الخيرِ الذي جاءه به، ولكن ليس بأُذُنٍ للكفرةِ الفجرةِ أمثالِكم. فقولُه: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} على قراءةِ الجمهورِ هو أُذُُنُ خيرٍ، وهو أيضًا رحمةٌ للمؤمنينَ، وقد أَرْسَلَهُ اللَّهُ رحمةً للعالمينَ. وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ؛ لأن طالبَ العلمِ يقولُ: اللَّهُ قال في آيةِ براءة هذه: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا} فَقَيَّدَ كونَه رحمةً للذين آمنوا، وفي سورةِ الأنبياءِ قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: آية 107] فلم يُقَيِّدْ كونَه رحمةً بالإيمانِ، بل قال لجميعِ العالمينَ، وهذا وجهُ السؤالِ. والجوابُ عنه: أن الله (جلَّ وعلا) أَرْسَلَهُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)

رحمةً لجميعِ الخلائقِ، إلا أن بعضَهم قَبِلَ من اللَّهِ التفضلَ بتلك الرحمةِ فَحَازَهَا، فَخَصَّ في قولِه: {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وبعضُهم لم يَقْبَلْهَا ولم يَحُزْهَا، ولا يُنَافِي ذلك أن اللَّهَ أعطاه تلك الرحمةَ إلا أنه لم يَقْبَلْهَا ولم يَحُزْهَا. وَضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا: لو أن سلطانَ البلدِ مثلاً - وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى - أَرْسَلَ لجميعِ سكانِ البلدِ إنعامًا كثيرًا كأن أَجْرَى لهم المياهَ تأتيهم، وأجرى عليهم الأرزاقَ وَالنِّعَمَ، وبعضُهم امتنعَ أن يأخذَ، وبعضُهم أَخَذَ فلا ينافِي أنه أَنْعَمَ على الجميعِ. فَاللَّهُ أَرْسَلَهُ رحمةً للعالمينَ، بعضُ الناسِ قَبِلَ من اللَّهِ فضلَه وبعضُهم لم يَقْبَلْ فضلَه، ولاَ ينافِي ذلك أنه تفضلَ عليه ببعثِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). وأما على قراءةِ حمزةَ الذي قَرَأَ: {ورحمةٍ} بالخفضِ - هو حمزةُ لا الكسائي (¬1) - أما على قراءةِ حمزةَ {ورحمةٍ للذين آمنوا} هو أُذُنُ خيرٍ ورحمةٍ. معطوفٌ على الخيرِ؛ لأَنَّ اللَّهَ (جل وعلا) جَعَلَ فيه الخيرَ والرحمةَ فإذا كان سَامِعًا من أحدٍ فهو سماعٌ لا يقودُ إلا إلى خيرٍ من خيرٍ ورحمةٍ لا سماع شَرٍّ. ولا يَخْفَى ما في قراءةِ حمزةَ من عدمِ ظهورِ المعنَى، وظهورُ المعنَى على قراءةِ الجمهورِ. وهذا معنَى قولِه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} بالاستطالةِ في عرضِه بكلامِ السوءِ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من الله (جلَّ وعلا)، وقد بَيَّنَ في الأحزابِ أن ذلك العذابَ مصحوبٌ باللعنةِ أيضًا في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ¬

(¬1) سبق التنبيه على ذلك قريبًا.

لَعَنَهُمُ اللَّهُ} إلى آخِرِ الآيةِ [الأحزاب: آية 57]. وهذا معنَى قولِه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} [التوبة: آية 62] قال بعضُ العلماءِ: كانت جماعةٌ من المنافقينَ ومعهم غلامٌ حَدَثٌ من الأنصارِ يُسَمَّى عامرَ بنَ قيسٍ، فقال بعضُ المنافقينَ لبعضٍ: وَاللَّهِ إِنْ كان ما يقولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ من الحميرِ، فغضبَ ذلك الغلامُ وقال: أَتَشُكُّونَ في حَقِّ ما يقوله، وَاللَّهِ إِنَّ ما يقولُه لَحَقٌّ، وإنكم لشرٌّ من الحميرِ، ثم نَمَا الحديثُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ: ما حَمَلَكُمْ على أن تقولوا ما قلتُم، حلفوا بالله ما قُلْنَاهُ، قال مَنْ رَوَى هذه القصةَ في سببِ هذا النزولِ: وكان ذلك الغلامُ الأنصاريُّ يدعو اللَّهَ ويقولُ: اللهم بَيِّنِ الْمُحِقَّ منا مِنَ الكاذبِ، فأنزلَ اللَّهُ هذه الآيةَ من سورةِ براءةٍ تصديقًا لذلك الرجلِ وتكذيبًا لأولئك المنافقين (¬1) {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} أنما قيل عنَّا لَكَذِبٌ، ولا نقول إلا خيرًا، ولا نظهر إلا الخيرَ {لِيُرْضُوكُمْ} بذلك {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} في باطنِ الأمرِ، ولم يكونوا منافقينَ، ولم يقعوا في نبيِه صلى الله عليه وسلم بما لا يَنْبَغِي. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 329) وابن أبي حاتم (6/ 1828) عن قتادة مرسلاً، وليس فيه تسمية الذي نقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعزاه في الدر (3/ 253)، لابن المنذر وابن أبي حاتم. وقد ساق رواية عند ابن أبي حاتم عن السدي مرسلاً وفيها تسمية الأنصاري. وفي المطبوع من ابن أبي حاتم رواية عن السدي تتعلق بتفسير الآية لكن لا علاقة لها بسبب النزول أو تسمية الأنصاري.

وقد رَدَّ الضميرَ هنا على الرسولِ وحدَه قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} مِنْ أن يُعِيبُوهُ. قال بعضُ العلماءِ (¬1): إنما اكْتَفَى بالضميرِ الواحدِ لأَنَّ إرضاءَ اللَّهِ إرضاءٌ لرسولِه، وإرضاءُ الرسولِ إرضاءُ اللَّهِ {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: آية 80] فلما تَلاَزَمَا صارا كأنهما شيءٌ واحدٌ. وَذَهَبَ غيرُ واحدٍ من علماءِ العربيةِ وعلماءِ التفسيرِ (¬2) إلى أن رجوعَ الضميرِ على أحدِ المتعاطفينِ اكتفاءً به لأَنَّ الآخَرَ مفهومٌ منه أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ كثيرٌ في القرآنِ العظيمِ وفي كلامِ العربِ وهو كثيرٌ، أن العربَ ربما حَذَفَتْ بعضَ الأمرينِ وَاسْتَغْنَتْ عنه بالآخَرِ، سواء كان في ضميرٍ أو غيرِ ضميرٍ، فَمِنْ أمثلتِه في غيرِ الضميرِ قولُ قيسِ بنِ الخطيمِ (¬3): نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ ... رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ فحذفَ «راضون» لدلالةِ «راضٍ» عليها، وقد أَنْشَدَ هذا لهذا المعنَى سيبويه في كتابِه، وأنشدَ سيبويه لهذا المعنَى أيضًا قولَ عمرِو بنِ أحمرَ الباهليِّ (¬4): رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي أَيْ: كنتُ بريئًا وكان والدِي بريئًا، فَحَذَفَ أحدَهما لدلالةِ الآخَرِ عليه، وأنشدَ له سيبويه في كتابِه أيضًا: قولَ ضابئِ بنِ ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 194)، الدر المصون (6/ 75). (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬3) البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 75). (¬4) السابق.

الحارثِ البرجميِّ (¬1): فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارًا بِهَا لَغَرِيبُ فإني لغريبٌ وقيارٌ لغريبٌ. هذا من أمثلتِه في غيرِ الضميرِ، وأمثلةُ حذفِ أحدِ الضميرينِ اكتفاءً عنه بالآخَرِ كثيرةٌ في كلامِ العربِ وفي القرآنِ العظيمِ، فَمِنْ أمثلتِها في القرآنِ في المتعاطفاتِ بالواوِ كما هنا: قولُه: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: آية 34] {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإنَّهَا} [البقرة: آية 45] {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: آية 20] وأمثالُ ذلك كثيرةٌ في القرآنِ. ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغة ذبيانَ وهو شاهدُه المشهورُ (¬2): وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لاَهِيَيْنِ بِهَا ... وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ يعنِي: لم يَهْمِمَا. فَرَدَّ الضميرَ على واحدٍ من العيشِ أو الدهرِ؛ لأَنَّ الآخَرَ مفهومٌ منه، ومنه قولُ حسانَ رضي اللَّهُ عنه (¬3): إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأَ ... سْوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا فلم يَقُلْ: ما لم يُعَاصَيَا. وهو كثيرٌ. وأما في المعطوفِ بـ (أو) فالقياسُ أن يرجعَ الضميرُ بالإفرادِ؛ لأن الضميرَ في المتعاطفاتِ بـ (أو) يرجع إلى الأحدِ الدائرِ بينها، وهو القياسُ كقولِه: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} [النساء: آية 112] وقد رَدَّهُ إلى أحدِهما بعينِه تعالى في قولِه: ¬

(¬1) الكتاب (1/ 75). (¬2) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة. (¬3) السابق.

{وَإِذَا (¬1) [رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: آية 11]. وقد يرجع إلى أحدهما في المتعاطفاتِ بالفاءِ، ومن أمثلةِ رجوعِه إلى أحدِهما في المتعاطفينِ بالفاءِ قولُ امرئِ القيسِ في معلقتِه (¬2): فَتُوضَحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ فَرَدَّهُ لإحداهما. وعلى كُلِّ حالٍ فالمعنَى: يحلفونَ بِاللَّهِ لكم ليرضوكم وَاللَّهُ أحقُّ أن يرضوه ورسولُه أحقُّ أن يرضوه إن كانوا مؤمنينَ، ولكنهم لم يكونوا مؤمنينَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. وهذا معنَى قولِه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 62]. {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)} [التوبة: آية 63]. قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مرارًا (¬3) أن كُلَّ فعلٍ مضارعٍ مجزومٍ بـ (لم) إذا تَقَدَّمَتْهُ همزةُ استفهامٍ بأن قيل فيه (أَلَمْ) كل فعل مضارع مسبوق بـ (ألم) فيه لعلماءِ التفسيرِ وجهانِ في جميعِ القرآنِ: أحدُهما: أن تصيرَ مُضَارَعَتُهُ ماضويةً، ويصيرَ نفيُه إثباتًا، فأصلُه مضارعٌ منفيٌّ بـ (لم) فتصيرُ حقيقةُ معناه أنه مَاضٍ مُثْبَتٌ فتنقلب المضارعةُ ماضويةً، وينقلبُ النفيُ إثباتًا، وهذا مطردٌ كقولِه: ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وقد أَثْبَتُّ تمام الآية وجعلت ذلك بين معقوفين. (¬2) ديوانه ص110. (¬3) مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

{أَلَمْ يَعْلَمُوا} معناه: عَلِمُوا أن مَنْ حَادَّ اللَّهَ {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)} [البلد: آية 8] جَعَلْنَا له عَيْنَيْنِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: آية 1] شَرَحْنَا لكَ صدركَ. فإن قِيلَ: بأيِّ وجهٍ انقلبت المضارعةُ ماضويةً، وانقلب النفيُ إثباتًا، مع أن النفيَ والإثباتَ، نقيضانِ؟ فالجوابُ: أن انقلابَ المضارعةِ ماضويةً أَمْرٌ واضحٌ لاَ إشكالَ فيه؛ لأن (لم) حرفُ قَلْبٍ، تقلبُ المضارعَ من معنَى الاستقبالِ إلى معنَى الماضِي، وهذا أمرٌ معروفٌ لا نزاعَ فيه ولاَ إشكالَ، أما انقلابُ النفيِ إثباتًا فوجهُه أن همزةَ الاستفهامِ التي قبلَ حرفِ (لم) هي استفهامُ إنكارٍ، والإنكارُ مُضَمَّنُ معنَى النفيِ، فيتسلط النفيُ الكامنُ في الهمزةِ على النفيِ الصريحِ في (لم) فَيَنْفِيهِ، ونفيُ النفيِ إثباتٌ. هذا وجهُ مَنْ قال هذا القولَ. القولُ الثانِي: أن كُلَّ فعلٍ مضارعٍ مسبوقٍ بـ (ألم) في جميعِ القرآنِ هو استفهامُ تقريرٍ، والمرادُ باستفهامِ التقريرِ هو حَمْلُ المخاطَب على أن يُقِرَّ فيقول: بَلَى، وليس المرادُ منه طلبَ فَهْمٍ ألبتةَ. فالمرادُ بهذا على هذا القولِ أن يقولوا: بَلَى نعلمُ أنه من يُحَادِدِ اللَّهَ ورسولَه فأن له نارَ جهنمَ {أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} إنما فُكَّ الإدغامُ هاهنا لأن الفعلَ مجزومٌ، ومعلومٌ أن المضعَّفَ إذا جُزِمَ أو صار أمرًا جَازَ فيه الإدغامُ وفَكُّ الإدغامِ كما هو معروفٌ في محلِّه. ومعنَى قولِه: {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} أي: يُشَاقِّ اللَّهَ ويخالفه ويعاصيه. وأصلُ المحادَّةِ: من الحدِّ؛ لأن المحادَّ يكونُ في الحدِّ الذي ليس فيه من حاده، تقول: زيد مُحَادٌّ لعمرو. أي: مشاقٌّ له ومعادٍ له ومعاندٌ؛ لأنه في الحدِّ الذي ليس فيه، فهذا في الحدِّ الذي ليس فيه هذا وذلك بعكس ذلك أيضًا. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، وأعظمُ

محادةٍ لله هي إيذاءُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم والتجرؤُ على ذلك بالأيمانِ الباطلةِ الكاذبةِ. {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} إذا كانت (أَنَّ) مثلاً في جزاءِ الشرطِ بعد فاءٍ جَازَ فيها الفتحُ كما هنا وجاز فيها الخفضُ أيضًا، وهما لغتانِ عربيتانِ. وقراءةُ الجمهورِ منهم السبعةُ هنا: {فَأَنَّ لَهُ} بفتحِ الهمزةِ، ولو كُسِرَتْ لَجَازَ لغةً لا قراءةً؛ لأن القراءةَ الصحيحةَ بعكسِه {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} أضافَ النارَ إلى جهنمَ لأن جهنمَ طبقةٌ من طبقاتِها. {خَالِدًا فِيهَا} في حالِ كونه خالدًا فيها، وهي حال مقدرة كما هو معلومٌ. {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أي: الخلودُ في النار- عياذا بالله - بسببِ مُحَادَّةِ اللَّهِ ومشاقتِه، والخزيُ العظيمُ أي: الذلُّ الأكبرُ والهوانُ الأعظمُ. فالخزيُ في لغةِ العربِ: غايةُ الذلِّ والهوانِ والانسفالِ. وقد صَرَّحَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بأن مَنْ حَادَّ اللَّهَ في غايةِ الذلِّ والمهانةِ والسفالةِ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20)} [المجادلة: آية 20] فقولُه: {أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} يُبَيِّنُ أن الخزيَ هنا - عياذًا بالله - يتضمنُ أعلى الذلِّ والحقارِ والصغارِ، وقال تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: آية 5] وذلك الكبتُ ملتزمٌ لأصنافِ الذلِّ والمهانةِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) يقولُ: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: آية 192] أي: أَذْلَلْتَهُ وأهنتَه - والعياذُ بالله أَجَارَنَا اللَّهُ منها وإخوانَنا المسلمينَ - وهذا معنى قولِه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الضميرُ ضميرُ الشأنِ، والجملةُ هي اسم (أن)، و (أن) الثانيةُ فيها

للعلماءِ أَوْجُهٌ (¬1) متعددةٌ أصحُّها وأقربُها للصوابِ أنها هي (أن) الأُولَى كُرِّرَتْ لَمَّا طال الفصلُ بينَهما، وتكريرُ (أن) إذا طالَ الفصلُ أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه هذه الآيةُ على الصحيحِ: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}. {خَالِدًا فِيهَا} الخلودُ معناه: المكثُ الطويلُ، والمرادُ بخلودِ أهلِ النارِ خلودٌ لاَ انقطاعَ فيه البتةَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدنَهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97] فليس للنارِ خبوةٌ نهائيةٌ ليس بعدَها زيادةُ سعيرٍ، وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ (¬2) أن جماعةً من العلماءِ زعموا أن النارَ تَفْنَى، وأنهم يخرجونَ منها، واستدلُّوا بقولِه: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: آية 23] وبقولِه: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} في سورة هود [هود: آية 107] وبقوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ} [الأنعام: آية 128] وَبَيَّنَّا مرارًا أن التحقيقَ في خلودُ أهل الجنةِ وخلودُ أهلِ النارِ أنه خلودٌ أبديٌّ لاَ انقطاعَ له أبدًا لا يزولُ ولا يحولُ فهو باقٍ بقاءً سرمديًّا لا انقطاعَ له، أما خلودُ أهلِ الجنةِ فقد صَرَّحَ الله به في آياتٍ من كتابِه كقولِه: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: آية 108] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54)} [ص: آية 54] وقولُه (جلَّ وعلا): {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: آية 96] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وأما خلودُ أهلِ النارِ فجاءت فيه آياتٌ كثيرةٌ كقولِه: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: آية 36] {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ ¬

(¬1) انظر: ابن جرير (14/ 330)، القرطبي (8/ 194)، الدر المصون (6/ 77). (¬2) مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام، والآية (36) من سورة الأعراف.

فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} [طه: آية 74] {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: آية 36] {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97] والحاصلُ أن مَنْ قال من السلفِ: «إن النار تَفْنَى ويبقى محلُّها لا أحدَ فيه» يجبُ حملُها كما صَرَّحَ به البغويُّ في تفسيرِه (¬1) على الطبقةِ التي كان فيها عصاةُ المسلمينَ؛ لأن اللَّهَ يخرجُهم بعد أن تطهرهم النارُ فيؤولون إلى الجنةِ فتبقى طبقتُهم التي كانوا فيها خاويةً، أما الكفارُ فهم باقونَ معذبونَ لا يموتونَ ولا يخففُ عنهم العذابُ ولا تفنى النارُ عنهم، وقد نفى اللَّهُ فناءَها بقولِه: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} فَمَنْ يَدَّعِي أن لها خبوةً نهائيةً ليس بعدَها زيادةُ سعيرٍ رُدَّ عليه بهذه الآيةِ الكريمةِ، وكذلك لا يخرجون منها؛ لأن اللَّهَ يقول: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: آية 20] {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: آية 22] {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: آية 167] {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: الآية 37] وكذلك لا يموتونَ فيها كما قال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: آية 17] {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: آية 36] إلى غير ذلك من الآيات كما أوضحناه في هذه الدروس. [10/ب] / (¬2) [أما آيةُ النبأِ، وهي قولُه: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: آية 23] فقد بَيَّنَتْهَا غايةَ البيانِ آيةُ سورةِ (ص)، وإيضاح ذلك أن ¬

(¬1) تفسير البغوي (2/ 403) .. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتم استيفاء النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة عند تفسير الآية (36) من سورة الأعراف. وجعلت ذلك بين معقوفين.

المعنَى: {لاَبِثِينَ فِيهَا} أي: في النار {أَحْقَابًا} في حالِ كونِهم في تلك الأحقابِ {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا (24) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: الآيتانِ: 24، 25] فإذا انقضت أحقابُ] الحميمِ والغسَّاق، عُذِّبُوا بأنواعٍ أُخَرَ من أنواعِ العذابِ لا نهايةَ لها ولا يعلمُها إلا اللَّهُ. وإنما قُلْنَا: إن هذه الأحقابَ، مختصةٌ بأحقابِ الحميمِ والغساقِ لأن اللَّهَ بَيَّنَ ذلك وَصَرَّحَ به في سورةِ (ص) وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ؛ لأن الله يقول في (ص): {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص: الآيات 55 - 58] فَبَيَّنَ أن هنالك أصنافًا أُخَرَ وأشكالاً من أنواعِ العذابِ غير الحميمِ والغسَّاقِ. فَبَيَّنَتْ آيةُ (ص) هذه آيةَ النبأ، بيانًا واضحًا، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ. وذكرنا (¬1) أن بعضَ الملحدين يقولُ: أين الإنصافُ والحكمةُ في أن تكونَ أيامُ المعصيةِ في دارِ الدنيا وأيامُ الكفرِ مدةً محدودةً والجزاءُ في مدةٍ لاَ تنقضي، فأين العدلُ والميزانُ، في عملٍ في مدةٍ معينةٍ مع جزاءٍ في مُدَدٍ لاَ تنقضي ولا تنتهي؟! والجوابُ عن هذا: أن خبثَ الكافرِ الذي عُذِّبَ بسببِه هو باقٍ دائمٌ لا يزولُ في جميعِ الْمُدَدِ، فكان العذابُ دائمًا لا يزولُ؛ لأن سببَه باقٍ لا يزولُ، والدليلُ على أن خبثَ الكفارِ باقٍ لا يزولُ أبدًا فكان جزاؤه دائمًا لا يزول أبدًا لأنهم لَمَّا رأوا النارَ وعاينوا الحقائقَ يومَ القيامةِ وَنَدِمُوا على تكذيبِ الرسلِ فتمنوا الردَّ إلى الدنيا ليتوبوا {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] قال اللَّهُ فيهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: آية 28] ¬

(¬1) راجع ما سبق عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

فصرَّح (جلَّ وعلا) بأنهم لو رُدُّوا إلى الدنيا بعد معاينةِ النارِ والعذابِ وبلايا القيامةِ لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عنه. وهو تصريحٌ بأن خبثَهم الطبيعيَّ منطبعٌ فيهم دائمٌ لا يزولُ، فلذلك كان جزاؤه دائمًا لا يزولُ. والجزاءُ بحسبِ العملِ؛ ولذا قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: آية 26] موافقًا لأعمالِهم فخبثُهم لا يزولُ وجزاؤهم لاَ يزولُ، وقد قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: آية 23] فـ (خيرًا) نكرةٌ في (¬1) سياقِ الشرطِ وهي تعمُّ، فعرفنا أن اللَّهَ لم يعلم فيهم خيرًا ما في وقتٍ ما كائنًا ما كان، وَلَمَّا كان الخيرُ منتفٍ عنهم أبدًا والشرُّ ملازمٌ لهم أبدًا، كان جزاؤهم لازمًا أبدًا. وهذا معنَى قولِه: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ} [التوبة: آية 63]- والعياذُ بالله - {الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} الهوانُ والخزيُ الكبيرُ. والعظيمُ صفةٌ مشبهةٌ مِنْ عَظُمَ الشيءُ يعظمُ فهو عظيمٌ، وهو معنًى معروفٌ لا خفاءَ به. قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)} [التوبة: الآيات 64 - 68]. ¬

(¬1) السابق.

يقول الله (جلَّ وعلا): {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64)} [التوبة: آية 64]. قرأ هذا الحرفَ عامةُ القرَّاءِ، غير ابن كثير وأبي عمرو: {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} بفتحِ النونِ وتشديدِ الزايِ، وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو: {أنْ تُنْزل عليهم سورة} ومعنَى القراءتين واحدٌ، فالله (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ يفضحُ ما تنطوي عليه ضمائرُ المنافقينَ، فَبَيَّنَ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ الكريمةِ أن المنافقينَ في غايةِ الخوفِ والقلقِ والحذرِ من أن ينزلَ اللَّهُ على نَبِيِّهِ قرآنًا يكشفُ به أسرارَهم، ويوضحُ ما تنطوي عليه ضمائرُهم من الكفرِ والسوءِ فقال: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} مضارعُ حَذِرَ الأمرَ يَحْذَرُهُ إذا كان يخافُ وقوعَه خوفًا شديدًا. قولُه: {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} التحقيقُ أن المصدرَ المنسبكَ من (أنْ) وصلتِها في محلِّ نصبٍ مفعولٌ به ليحذر (¬1)؛ لأنه (يحذر) تتعدى بنفسها دونَ حرفٍ، وأنشد سيبويه لتعدي (حذر) بنفسها قولَ الشاعر (¬2): حَذِرٌ أُمُورًا لاَ تُضِيرُ وَآمِنٌ ... مَا لَيْسَ يُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ فقولُه: «أمورًا» مفعولٌ به لـ (حَذِر) وهو الوصفُ من حَذِرَ يحذرُ فهو حَذِرٌ {أَنْ تُنَزَّلَ} يعني: يحذرُ المنافقونَ تنزيلَ سورةٍ من الله عليهم. أي: على النبيِّ وأصحابِه تفضحُ المنافقينَ، وقال بعضُ ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (6/ 79). (¬2) الكتاب (1/ 113).

العلماءِ: {عَلَيْهِمْ} أي: على المنافقينَ؛ لأنها إذا نزلت في شأنهم مُبَيِّنَةً فضائحَهم وما تنطوي عليه أسرارُهم فكأنها نُزلت عليهم {قُلِ} لهم يا نَبِيَّ الله {اسْتَهْزِئُوا} صيغةُ الأمرِ هنا للتهديدِ، يعني: دُومُوا على ما أنتم عليه من الاستهزاءِ بآياتِ اللَّهِ وبالله وبرسولِه فَسَتَلْقَوْنَ جزاءَ ذلك {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} أي: مظهرٌ لنبيه بما يُوحي إليه ما أنتم تُسِرُّونَهُ وَتُبْطِنُونَهُ، ذلك الذي تحذرون أن يفضحَكم الله فيه، إن الله مخرجُه ومظهرُه، وقد أَطْلَعَ اللَّهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم على حقائقِهم بعدَ أن لم يكن يعلمُها؛ لأن قولَه هنا: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} يدلُّ على أن النبيَّ في هذا الوقتِ لم يكن يعلمُه كما يأتِي في قولِه: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: آية 101] وقد بَيَّنَ اللَّهُ لنبيِّه المنافقينَ، أشار له إلى معرفتَهم بقولِه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: الآيتان 29، 30] وقد أَطْلَعَ اللَّهُ نبيَّه عليهم في غزوةِ تبوكَ، وأطلع النبيُّ حذيفةَ بنَ اليمانِ على جماعةٍ منهم بأسمائِها. وهذا معنَى قولِه: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: آية 64]. قولُه: {مَّا} في محلِّ المفعولِ به لاسمِ الفاعلِ الذي هو (مخرج) والسؤالُ الذي يتبادرُ في هذا جوابُه ظاهرٌ، لأن (مخرج) هنا قد وقع وتعلق بالماضِي، والمقررُ في علمِ العربيةِ أن اسمَ الفاعلِ إذا كان نكرةً لا يعملُ إلا بمسوِّغ، ولا يعملُ في الماضِي، وهنا كأنه عمل في الماضي. والجوابُ واضحٌ؛ لأن هذه الآيةَ تَحْكِي ما كان في ذلك الوقتِ مستقبلاً؛ لأن وقتَ نزولِ هذه الآيةِ يحكي اللَّهُ (جلَّ وعلا)

فيها أنه سيفعلُ ذلك في المستقبلِ، فإذًا لم يتعلق اسمُ الفاعلِ بأمرٍ ماضٍ كما لا يَخْفَى. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}. ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: آية 65] نزلت هذه الآيةُ في غزوةِ تبوكَ بإطباقِ المفسرينَ في قومٍ استهزؤوا بالله وآياتِه ورسولِه. قال بعضُ العلماءِ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسيرُ في غزوةِ تبوكَ وأمامُه ركبٌ من المنافقينَ، فكان بعضُهم يقولُ لبعضٍ: «يَظُنُّ هذا أنه يفتحُ قصورَ الشامِ ويقدرُ على بلادِ بنِي الأصفرِ، هيهاتَ هيهاتَ" فَأَطْلَعَ اللَّهُ نبيَّه على ذلك فاستوقفهم فسألَهم: «لِمَ قُلْتُمْ هَذَا؟» قالوا: كنا نخوضُ ونلعبُ، لم نقل هذا عن طريقِ الجدِّ، وإنما قلناه عن طريقِ الهزلِ واللعبِ. فأجابهم اللَّهُ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم} (¬1) [التوبة: آية 65]. وذكر بعضُ العلماءِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضَلَّتْ راحلتُه في غزوةِ تبوكَ فقال جماعةٌ من المنافقينَ: انْظُرُوا إلى هذا الرجلِ يَدَّعِي أنه يعلمُ علمَ الغيبِ، وأنه ينزلُ عليه الوحيُ وهو لا يدرِي أينَ ذَهَبَتْ ناقتُه!! وأن جبريلَ أتاه فأخبرَه بموضعِها، أَمْسَكَتْهَا شجرةُ كذا بِزِمَامِهَا، فناداهم وقال: «لِمَ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ؟» قالوا: كنا نخوضُ ونلعبُ (¬2). وعلى كُلِّ حالٍ فلا خلافَ بين العلماءِ أن هذه الآيةَ من سورةِ براءة نَزَلَتْ في غزوةِ تبوكَ في قومٍ استهزؤوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم واستَخَفُّوا به، فسألهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأجابوا معتذرينَ اعتذارًا كاذبًا قالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} في الحديثِ {وَنَلْعَبُ} نهزأُ ونضحكُ فيما بينَنا لا نقولُ ذلك عن جِدٍّ وَقَصْدٍ. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 334)، وابن أبي حاتم (6/ 1830)، والواحدي في أسباب النزول ص250، عن قتادة مرسلاً. وعزاه في الدر (3/ 254) لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (¬2) أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 232)، وذكره ابن هشام في السيرة ص1375، من طريق ابن إسحاق. وانظر: الذهب المسبوك ص249، وليس للآية ذكر في الرواية التي وقفت عليها. وقد أخرج ابن أبي حاتم (6/ 1830) وكذا أورده السيوطي في الدر (3/ 254) عن مجاهد في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب»؟! وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

{قُلْ} لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} يعني تستهزئونَ بالله وبرسوله وبآياته؟! فالاستهزاءُ بالله وبآياتِه وبرسولِه كفرٌ بواحٌ لاَ عذرَ لصاحبِه البتَّة. قال بعضُ العلماء (¬1): يؤخذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ أن مَنِ استهزأَ بِاللَّهِ وبرسولِه وبآياتِه ولو كان هازلاً مازحًا أنه يكون كافرًا؛ لأنه لا هَزْلَ في الكفرِ، وقد جاء في الحديثِ أن بعضَ المسائلِ هَزْلُهَا كجدِّها، كالطلاقِ، والعتاقِ، وهي ثلاثُ مسائلَ معدودةٌ في الحديثِ:» ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ [جِدٌّ] (¬2): الطَّلاَقُ وَالْعِتَاقُ ... » ونسيت الثالثة (¬3) مع أنها مختلفٌ فيها: ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 197). (¬2) في الأصل: «هزل». وهذا سبق لسان، والصواب: جدهن جد وهزلهن جد. (¬3) الثلاث في أشهر الروايات هي: النكاح والطلاق والرجعة. والحديث أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل، حديت رقم: (2180) (6/ 262)، والترمذي في الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق. حديث رقم: (1184) (3/ 481)، وابن ماجه في الطلاق، باب من طلّق أو نكح أو رجع لاعبًا. حديت رقم: (2039) (1/ 658)، والدارقطني (4/ 18، 19)، والحاكم (2/ 198)، وابن الجارود (3/ 44). وللوقوف على روايات الحديث وألفاظه انظر: التعليق المغني على الدارقطني (4/ 19)، إرواء الغليل (6/ 224).

هَلْ هي الرجعةُ أو غيرُها. وهذا معنَى قولِه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا} الاستهزاءُ: الاستخفافُ، ولا تعتذروا هذا الاعتذارَ الباردَ الكاذبَ، ليس مقبولاً منكم حتى تتوبوا توبةً نصوحًا: {قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي: بعدَ إظهارِكم الإيمانَ وإعلانِكم إياه. ثم قال: {إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: آية 66] قَرَأَ هذا الحرفَ عامَّةُ القراءِ السبعةِ، غيرَ عاصمٍ وحدَه: {إن يُعف عن طائفةٍ منكم تُعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} بقولة: {يُعف} بالياءِ وبناءِ الفعلِ للمفعولِ، و {تُعذب} طائفةٌ بالتاءِ، وضم طائفة على أنه نائبُ الفاعلِ، وقرأ عاصمٌ وحدَه من السبعةِ: {إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} (¬1) بنونِ العظمةِ ونصبِ طائفةٍ الثانيةِ. وفي نَظْمِ ابنِ المرحَّل (¬2): لِعَاصِمٍ قِرَاءَةْ ... لِغَيْرِهَا مُخَالِفَةْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةْ ... مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةْ فهذه قراءةُ عاصمٍ وحدَه، بروايةِ حفصٍ وشعبةَ عنه معًا. ¬

(¬1) مضت عند تفسير الآية (51) من سورة الأعراف. (¬2) السابق.

وهذا معنَى قولِه: {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ}. قال بعضُ العلماءِ (¬1): هذا العفوُ نزل في [مَخْشِيِّ بن الحميّر] لأنه كان من الذين خَاضُوا في الاستهزاءِ. قال بعضُ العلماءِ (¬2): كانوا ثلاثةَ نفرٍ اثنانِ استهزؤوا وواحدٌ ضَحِكَ لهما من كلامِهما، ثم إن الثالثَ الذي هو مخشي بن الحميرِ (رضي الله عنه) تَابَ إلى اللَّهِ، وَحَسُنَ إسلامُه، وعفى الله عنه، وأنزل الله فيه: {إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}. وقال غيرُ واحدٍ إن مخشيًّا (رضي الله عنه) تابَ من نفاقِه، وحسُن إسلامُه، وأناب إلى الله، ودعا اللَّهَ أن يموتَ شهيدًا، وأن لا يطلعَ أحدٌ على قبرِه، وقال مَنْ قال هذا: قُتِلَ باليمامةِ شهيدًا. ولم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ، ولم يُعْثَرْ عليه (رضي الله عنه)، هكذا قال بعضُهم (¬3). {إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ} تَابَتْ إلى اللَّهِ وَأَنَابَتْ إليه ورجعت عن النفاقِ إلى الإيمانِ الخالصِ والتوبةِ النصوحِ {نُعَذِّبْ طَائِفَةً} أخرى لم يتوبوا بل كانوا مُصِرِّينَ على النفاقِ والاستهزاءِ باللَّهِ وآياتِه ورسولِه بسبب أنهم {كَانُوا مُجْرِمِينَ} مُرْتَكِبِينَ الجريمةَ، ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (14/ 336) عن ابن إسحاق مرسلاً. وقد أخرج ابن أبي حاتم (6/ 1831) كما أورد السيوطي في الدر (3/ 254) شاهدًا له عن كعب بن مالك (رضي الله عنه). وعزاه لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأورده أيضًا عن ابن عباس وعزاه لابن مردويه. (¬2) انظر: القرطبي (8/ 199). (¬3) جاء ذلك في أثر كعب بن مالك وابن عباس اللذين أشرنا إليهما قريبًا.

وهي الإصرارُ على الكفرِ والنفاقِ من غيرِ إقلاعٍ ولا توبةٍ عنه، والمجرمون (¬1) جَمْعُ المجرمِ، والمجرمُ مرتكبُ الجريمةِ، والجريمةُ هي الذنبُ العظيمُ الذي يستحقُّ صاحبُه النكالَ العظيمَ و (مجرمون) هنا اسمُ فاعلِ (أَجْرَمَ) بصيغةِ (أفعل) بالهمزةِ التي صار بها رُبَاعِيًّا، ويستعملُ هذا الفعلُ استعمالينِ: أَجْرَمَ رباعيًّا بصيغةِ (أفعل) وجرم ثلاثيًّا مجردًا. وما جاء مستعملاً في القرآنِ إلا بصيغةِ الرباعيِّ فقط (مجرمون). {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: آية 29] ولم يَأْتِ بصيغةِ الثلاثيِّ المجردِ في القرآنِ ولكنه جاء بذلك في لغةِ العربِ، ومن ذلك قولُ الشاعرِ: وَنَنْصُرُ مَوْلاَنَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ ... كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ (¬2) لأن المجرومَ اسمُ مفعولِ جَرَمَهُ الثلاثيِّ المجردِ بلا نزاعٍ، وهذا معنَى قولِه: {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}. {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)} [التوبة: الآيتان 67، 68]. {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ} [التوبة: آية 67] المنافقُ هو مَنْ يُظْهِرُ الإيمانَ، ويُسِرُّ الكفرَ، وهو المسمَّى في عرفِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

الفقهاءِ بالزنديقِ. قال بعضُ العلماءِ: اشتقاقُه من النافقاء وهي جحرُ اليربوعِ؛ لأَنَّ جحرَ اليربوعِ يكونُ له أبوابٌ مختلفةٌ يدخلُ من بابٍ ويخرجُ من آخَرَ، فالمنافقُ يخرجُ بغيرِ ما دخل به، هكذا قيل. {الْمُنَافِقُونَ} الذكورُ {وَالْمُنَافِقَاتُ} الإناثُ، هذه الآيةُ الكريمةُ وأمثالُها في القرآنِ مما استدل به جماعةٌ من [أهلِ] (¬1) الأصولِ على مسألةٍ أصوليةٍ مختلفٍ فيها وإيضاحُها أن الصفاتِ التي يشتركُ فيها الذكورُ والإناثُ إذا جاءت في كتابِ اللَّهِ أو سنةِ رسولِه بصيغةٍ خاصةٍ بالذكورِ فهل يدخلُ فيها الإناثُ نَظَرًا إلى اشتراكِهن مع الذكورِ في أصلِ الوصفِ، أو يختصُّ بها الذكورُ لأن البناءَ مختصٌّ بالذكورِ؟! وإيضاحُ هذا، أن النفاقَ هو صفةٌ تتصفُ بها الأُنْثَى والذكرُ، ولكن قولَه: {الْمُنَافِقُونَ} اختصَّ بالذكورِ، فإذا جاء في كتابِ اللَّهِ جمعُ مذكرٍ سالمٌ أصلُ معناه يشتركُ فيه الذكورُ والإناثُ، هل يُحْكَمُ بدخولِ الإناثِ أو لا يُحْكَمُ بدخولهنَّ إلا بدليلٍ منفصلٍ؟! هذا خلافٌ مشهورٌ في الأصولِ (¬2)، قال أكثرُ أهلِ الأصولِ: إن الجموعَ المذكرةَ السالمةَ ونحوَها مما يختصُّ بجماعةِ الذكورِ، إذا وَرَدَ في كتابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم لا يدخلُ فيه النساءُ إلا بدليلٍ خَاصٍّ، لاختصاصِ الصيغةِ بالذكورِ، وإن كان الوصفُ شاملاً للجميعِ، واستدلُّوا على أن النساءَ لاَ يَدْخُلْنَ في الجموعِ المذكرةِ بمثلِ هذه الآيةِ في القرآنِ، قالوا: لو كانت المنافقاتُ الإناثُ يَدْخُلْنَ في اسمِ المنافقينَ بصيغةِ الجمعِ المذكرِ السالمِ لَكَفَى ذلك عن عطفِهن عليهم، قالوا: والعطفُ دليلُ المغايرةِ وعدمِ الدخولِ، واستدلوا لهذا بكثرةِ نَحْوِهِ في القرآنِ كقولِه: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: آية 73] وقولِه: ¬

(¬1) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 235).

{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: آية 31] ثم قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} [النور: آية 31] فقالوا: فَعَطْفُ النساءِ على الذكورِ المجموعينَ بصيغةِ الجمعِ الْمُذَكَّرِ يدلُّ على عدمِ دخولِهن فيه لاختصاصِ الصيغةِ بالذكورِ، وإن كان الوصفُ شاملاً للجميعِ وكتابِه. وذهبت طائفةٌ أخرى إلى أن النساءَ يدخلن في الجموعِ المذكرةِ وما جَرَى مَجْرَاهَا؛ لأن الجميعَ سواءٌ في التكاليفِ، واستدلوا بآياتٍ من كتابِ اللَّهِ جاء مصرَّحًا فيها بدخولِ الأُنْثَى في صيغةِ الجمعِ المذكرِ السالمِ، كقولِه تعالى في [بلقيس] (¬1): {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43] فَأَدْخَلَ هذه المرأةَ في (الكافرينَ) وهو جمعُ مذكرٍ سَالِمٌ. وقولُه في مريمَ ابنةِ عمرانَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكِتَابِهِ} [التحريم: آية 12] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (¬2) فَأَدْخَلَ مريمَ وهي امرأةٌ في اسمِ (القانتينَ) وهو جمعُ مذكرٍ سَالِمٌ، قالوا: ونظيرُه قولُه في امرأةِ العزيزِ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: آية 29] وهذا خلافٌ معروفٌ في الأصولِ. وأكثرُ الأُصُولِيِّينَ يقولونَ: إنهنَّ لا يدخلنَ. وأجمعَ العلماءُ على عدمِ دخولِ النساءِ في صيغةِ الذكورِ في قولِه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: الآيتانِ 5، 6] فلا يجوزُ للمرأةِ أن تتخذَ عبدَها وَتَتَسَرَّاهُ؛ لأن الإناثَ لم يَدْخُلْنَ في هذه الصيغةِ المختصةِ بالذكورِ، وعلى كُلِّ حالٍ فأظهرُ قَوْلَيِ الأصوليينَ - وعليه أكثرُهم - أن أصلَ اللغةِ يقتضي تغليبَ الذكورِ على الإناثِ، وهذا لا نزاعَ فيه، أمَّا التبادرُ عند ¬

(¬1) وقع في الأصل: «امرأة العزيز»، وهو سبق لسان. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص440.

الإطلاقِ، فهل يتبادرُ دخولُ النساءِ في الجموعِ المذكرةِ أو لا؟ فالظاهرُ أنه ما دَخَلْنَ في جمعٍ مذكرٍ سَالِمٍ إلا بقرينةٍ زائدةٍ دالةٍ على ذلك، وأنه إذا تَجَرَّدَ من القرائنِ لم يَدْخُلْنَ فيه، وعلى هذا أكثرُ علماءِ الأصولِ. وقولُه: {بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ} [التوبة: آية 67] هذه الآيةُ تَضَمَّنَتْ تكذيبَ المنافقينَ المذكورَ في قولِه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: آية 56] وَصَدَّقَتْ قولَه: {وَمَا هُم مِّنْكُمْ} [التوبة: آية 56] كأن اللَّهَ يقول: المنافقونَ يحلفون بالله إنهم لَمِنْكُمْ وما هم منكم. الحقيقةُ هم ليسوا مِنْكُمْ ولكن بعضَهم من بعضٍ، وليسوا منكم ولستُم منهم، بل هم بعضُهم من بعضٍ؛ لأنهم هم المتشابهون في الأخلاقِ والأهدافِ، أخلاقُهم واحدةٌ وغرضٌهم واحدٌ، فبعضُهم مِنْ بعضٍ وبعضُهم أولياءُ بعضٍ، وليسوا منكم ولستُم منهم، فهذا معنَى قولِه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ} ثم بَيَّنَ صفاتِهم التي يجتمعون فيها وهي ضدُّ صفاتِ المؤمنينَ، على خَطٍّ مستقيمٍ، وهي قولُه: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} والمؤمنون يأمرون بالمعروفِ {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} والمؤمنون ينهونَ عن المنكرِ. وَالْمُنْكَرُ: اسمُ مفعولِ أَنْكَرَهُ، والمرادُ به كُلُّ ما أنكره الشرعُ ولم يَأْذَنْ فيه. والمعروفُ: اسمُ مفعولِ (عَرَفَهُ) وهو كُلُّ ما عَرَفَهُ الشرعُ ودعا إليه وَأَمَرَ به. {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} المرادُ بقبضِ اليدِ هنا كناية عن البخلِ وعدمِ مَدِّ الأيدي بما أَلْزَمَ اللَّهُ بإعطائِه، فَهُمْ لاَ يُزَكُّونَ ولاَ ينفقونَ، فالعربُ تقولُ: فلانٌ يَتَعَوَّدُ قبضَ اليدِ، ويدُه مقبوضةٌ، ويقبضُ يدَه يُكَنُّونَ بذلك عن

البخلِ. يعنونَ: لا يجودُ. فَبَسْطُ اليدِ معناه الجودُ، وقبضُ اليدِ معناه البخلُ، قال بعضُ العلماءِ: قَبْضُهُمْ أيديَهم: بخلُهم بما يلزمهم من الزكواتِ وسائرِ الإنفاقِ. وقال ( ... ) (¬1). ( .... ) وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ زهيرٍ (¬2): تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ ... دَعَاهَا لِقَْبضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهْ وهذا معنَى قولِه: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}. {نَسُوا اللَّهَ} المرادُ بالنسيانِ هنا: التركُ عمدًا، معناها: تَرَكُوا أوامرَ اللَّهِ وجعلوها وراءَ ظهورهم. {فَنَسِيَهُمْ} اللَّهُ، تَرَكَهُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ خيرٍ ومن كلِّ ثوابٍ. والعربُ تُطْلِقُ النسيانَ على الترك عمدًا (¬3)، ومنه قولُه: {نسيهم} أي: الله تركَهم من كلِّ خيرٍ، ومن كلِّ ثوابٍ. وَاللَّهُ (جل وعلا) يستحيلُ في حقِّه النسيانُ الذي هو ذهابُ الشيءِ عن العلمِ، فمعنَى {نسيهم}: تَرَكَهُمْ عمدًا وإرادةً؛ لأن الله (جل وعلا) لا يَنْسَى كما قال تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى (52)} [طه: الآية 52]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: الآية 64]، وهذا معنَى قولِه: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}. ¬

(¬1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وهو آخر ما وُجد من دروس الشيخ (رحمه الله) في التفسير. (¬2) البيت لأبي تمام، وهو في ديوانه (3/ 29)، البحر المحيط (2/ 248)، الدر المصون (4/ 343). (¬3) تقدم عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام.

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} قَبَّحَهُمُ اللَّهُ {هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} الخارجونَ عن طاعةِ اللَّهِ خروجًا عظيمًا وإن زعموا أنهم مؤمنون، وَحَلَفُوا للنبيِّ وأصحابِه على أنهم مؤمنون مطيعون لله ولرسولِه. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: الآية 67]. ثم قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} [التوبة: الآية 68]، المرادُ بـ {الْمُنَافِقِينَ} مَنْ يُظهرون الإسلامَ ويُبطنون الكفرَ. {وَالْكُفَّارَ} أعلنوا كفرَهم فهم كُلُّهُمْ كفارٌ، والفرقُ بينَهم: أن بعضَهم يتظاهرُ بِكُفْرِهِ وبعضُهم يُخْفِي كفرَه، فهؤلاء الكفارُ جميعًا الْمُتَعالِنُونَ بكفرهم والجاحدونَ له وَعَدَهُمُ اللَّهُ جميعًا نارَ جهنمَ، كما تَقَدَّمَ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: الآية140]، وقال هنا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ}. {وَعَدَ} تأتِي بلا نزاعٍ في الخيرِ والشرِّ، إلاَّ أن مصدرَ ذاتِ الشرِّ: (وَعَدَهُ وَعِيدًا) ومصدرَ ذاتِ الخيرِ: (وَعَدَهُ وَعْدًا). وأما (أَوْعَدَ) بزيادةِ (الهمزةِ) فلا تكادُ العربُ تُطْلِقُهَا إلاَّ بالوعيدِ بالشرِّ خاصةً (¬1). وهذا معنَى قولِه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ}. {نَارَ جَهَنَّمَ} هو المفعولُ الثانِي لِوَعَدَ، ونارُ جهنمَ معروفةٌ، وجهنمُ طبقةٌ من طبقاتِها، وربما أُطلقت على جميعِ طبقاتِ النارِ (¬2). ¬

(¬1) تقدم عند تفسير الآية (134) من سورة الأنعام. (¬2) تقدم عند تفسير الآية (179) من سورة الأعراف.

واختلف علماءُ العربيةِ في لفظةِ جهنمَ هل هي عربيةٌ أصلاً أو مُعَرَّبَةٌ (¬1)؟ والتحقيقُ أن القرآنَ العظيمَ ليس فيه عجميٌّ أصلاً (¬2) إلاَّ الأعلام، وإن كان بعضُ الكلماتِ معروفةً في كلامِ العجمِ، فبدلاً من أن نقولَ: إن العربَ أخذوها من العجمِ نقولُ: إن العجمَ أخذوها من العربِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ في القرآنِ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} [الشعراء: الآية 195]. ولا يمكنُ أن نحكمَ بأن شيئًا منه غيرُ عربيٍّ إلاَّ بدليلٍ قاطعٍ كالأعلامِ، فإن الأعلامَ تُذَكَّرُ في جميعِ اللغاتِ حسب ما وُضِعَتْ بوضعِها الأولِ. وعلى أن {جَهَنَّمَ} أصلُها عربيةٌ وأصلُها من كلامِ العربِ لا معرَّبة: فأصلُ مادتِها (الجيم، والهاء، والميم) والنونُ المشددةُ فيها زائدةٌ - فعلى هذا القولِ يكونُ وزنُها بالميزانِ الصرفيِّ: (فعنَّل) (¬3) بزيادة النون المشددة بين العين واللام، وعليه فحروفُها الصحيحةُ هي: (الجيم) في محلِّ (الفاء)، و (الهاء) في محلِّ (العين) و (الميم) في محل (اللام) من (جَهَمَهُ يَجْهَمُه) إذا لقيه بوجهٍ عابسٍ مقطَّبٍ كَرِيهٍ؛ لأن أصحابَها إذا دخلوا فيها تَلَقَّتْهُمْ بوجهٍ عابسٍ كريهٍ وتقطَّبت وَعَبَسَتْ وجوهُهم فيها، والعربُ تقولُ: (جَهَمَه) (يَجْهَمُه) إذا تَلَقَّاهُ بوجهٍ عابسٍ كريهٍ، ومنه قولُ عمرِو بنِ الفضفاضِ الجهنيِّ (¬4): وَلاَ تَجْهَمِينَا أُمَّ عَمْرٍو، فَإِنَّمَا ... بنَِا دَاءُ ظَبْيٍ لَمْ تَخُنْهُ عَوَامِلُهْ ¬

(¬1) السابق. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) السابق.

وقال بعضُ العلماءِ: هذه أصلُها فارسيةٌ مُعَرَّبةٌ، وزعم مَنْ قال هذا؛ أن في الفارسية القديمةِ (كَهَنَّام) (¬1) يطلقُ على النارِ، وأن العربَ عرَّبتها وأبدلت كافَها جيمًا فقالت فيها: (جهنم) (¬2)، والله تعالى أعلم. وهذا معنَى قولِه: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي [مَاكِثِينَ] (¬3) فيها على الدوامِ {خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ}، أي: مقدِّرين الخلودَ فيها على الدوامِ {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي: كفايتُهم من العقابِ. معناه: أن الجرائمَ التي ارتكبوها إذا جُوزُوا بالنارِ ففي النارِ كفايةٌ تامةٌ لجزاءِ ذلك السوءِ الذي ارْتَكَبُوهُ؛ لأنها جزاءٌ فظيعٌ {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: الآية 26] فَمَنْ عُذِّبَ بالنارِ فقد جُوزِيَ جزاءً بالغًا وافيًا وهو حَسْبُهُ: أي يكفيه؛ لأنه لاَ جزاءَ أعظم منه ولا أشد، وهذا معنَى قولِه: {هِيَ حَسْبُهُمْ}. {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي: طَرَدَهُمْ وأبعدَهم عن رحمتِه. واللعنُ في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ: معناه الطردُ والإبعادُ (¬4)، فالرجلُ إذا كان صاحبَ جناياتٍ: قَتَلَ مِنْ هؤلاء، وَقَتَلَ مِنْ هؤلاء، وَخَافَ قومُه أن يَجُرَّ لهم حروبَ القبائلِ وذحولَ الدماءِ (¬5)، إذا تبرؤوا منه، وأعلنوا البراءةَ منه، وَطَرَدُوهُ وأبعدوه سُمِّيَ رَجُلاً لَعِينًا؛ لأن قومَه ¬

(¬1) وبعضهم يضبطها بكسر الكاف والهاء. (¬2) السابق. (¬3) في الأصل: "ماكثًا" وذلك أن الشيخ (رحمه الله) ذهب إلى قوله تعالى: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا} فجرى التعديل. (¬4) تقدم في الأعراف عند تفسير الآية (44). (¬5) أي: ثارات الدماء. انظر: القاموس (فصل الذال من باب اللام) ص1294.

طَرَدُوهُ وَأَبْعَدُوهُ، ومن هذا المعنَى قولُ الشماخِ (¬1): ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّيبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِين واللعنةُ في اصطلاحِ الشرعِ (¬2): هي الطردُ والإبعادُ عن رحمةِ اللَّهِ (جل وعلا) أعاذَنا اللَّهُ وإخوانَنا المؤمنينَ منها. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)} أي: دائمٌ أبدًا لا يزولُ ولا يحولُ ولا ينقطعُ كما أَوْضَحْنَاهُ. قال تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} [التوبة: الآيتان 69_ 70]. يقول اللَّهُ (جل وعلا): {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} [التوبة: الآية 69]. اعْلَمْ أولاً أن تفسيرَ هذه الآيةِ الإجماليَّ قبلَ أن نشرعَ في تحليلِ ألفاظِها أن مضمونَها أن الله يُهَدِّدُ الكفرةَ والمنافقينَ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) تقدم في الأعراف عند تفسير الآية (44). (¬2) السابق.

بأن الأُمَمَ التي كانت قبلَهم كانت أشدَّ منهم وأكثرَ قوةً وعتادًا وأموالاً وأولادًا لَمَّا عَتَوْا على اللَّهِ وَتَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رسلَه أهلكهم اللَّهُ الإهلاكَ المستأصلَ، فكأنه يقول لهم: إذا كنا أهلكنا الأممَ قبلَكم التي هي أَقْوَى منكم وأشدُّ تَمَكُّنًا في الدنيا من جميعِ النواحِي، فعليكم أن تَخَافُوا، ولا تُكَذِّبُوا نَبِيَّنَا لئلا نُنْزِلَ بكم ما أَنْزَلْنَا بِمَنْ هو أقوى وأعظمُ منكم. والآياتُ القرآنيةُ في هذا المعنَى كثيرةٌ جِدًّا، كقولِه: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} [الزخرف: الآية 8]، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} [الدخان: الآية 37] فكيف لاَ يخافونَ أن نهلكهم؟ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: الآية 9]، يعني: إن كُنَّا أهلكنا هؤلاء الذين هُمْ أقوى منكم بأضعافٍ لَمَّا كذبوا رسلَنا فعليكم أن تَحْذَرُوا لئلاَّ ننزلَ بكم ما أَنْزَلْنَا بمن هو أقوى منكم. فهذا المعنَى الإجماليُّ للآيةِ الكريمةِ والآياتِ الموضحةِ في القرآنِ كثيرةٌ جِدًّا. وَاعْلَمْ أن علماءَ التفسيرِ اختلفوا في محلِّ الكافِ من قولِه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هَلْ هِيَ في مَحَلِّ نَصْبٍ؟ أو مَحَلِّ رَفْعٍ (¬1)؟ قال بعضُهم: هي فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. والذين قالوا: الكافُ في مَحَلِّ نصبٍ اختلفوا على قَوْلَيْنِ: قال بعضُهم: هو يتعلقُ بقولِه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: الآية 68]، {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: سَيَعِدُكُمُ اللَّهُ كما وَعَدَ الذين مِنْ قَبْلِكُمْ، وَاسْتَبْعَدَ بعضُهم هذا القولَ. وقال بعضُ العلماءِ: هو في ¬

(¬1) الدر المصون (6/ 82).

مَحَلِّ نصبٍ على أن المعنَى: فَعَلْتُمْ {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: كفعلِ الذين مِنْ قبلِكم فسينزلُ بكم من العقوباتِ مثلُ ما نَزَلَ بهم. واختارَ بعضُ الْمُحَقِّقِينَ من العلماءِ أن الكافَ في مَحَلِّ رفعٍ. والمعنَى: أنتم أيها الكفرةُ والمنافقونَ كالذين كانوا مِنْ قبلكم، أنتم مثلُهم، كقولِه: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [آل عمران: الآية 11] أنتم كالذين مِنْ قبلكم كفروا وتمتعوا بخلاقِهم في الدنيا، وَآثَرُوا الدنيا على الآخرةِ، وَتَمَرَّدُوا على اللَّهِ وَكَذَّبُوا رسلَه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بهم نِقَمَهُ في الدنيا، وَعَذَّبَهُمْ العذابَ الأبديَّ في الآخرةِ. {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهؤلاء الذين مِنْ قبلهم سيأتِي إيضاحُ إجمالِهم في قولِه بعدَ هذا: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} إلى آخِرِ المذكوراتِ الآتيةِ. {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} {قُوَّةً} تمييزٌ محولٌ عن الفاعلِ، ومعلومٌ أن فاعلَ صيغةِ التفضيلِ قد يكونُ تمييزًا كثيرًا محولاً عن الفاعلِ (¬1)، أي: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} لقوةِ أبدانِهم وعتادِهم وكثرةِ أموالِهم. {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً} منكم وأكثرَ أولادًا. {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} وَكَذَّبُوا الرسلَ وَآثَرُوا الحياةَ الدنيا على الآخرةِ فأهلكناهم. والخلاقُ في لغةِ العربِ: النصيبُ (¬2). يعنِي: اسْتَمْتَعُوا بنصيبِهم في الدنيا مُؤْثِرِينَ الدنيا على الآخرةِ، مُغْتَرِّينَ بزخارفِ ¬

(¬1) انظر: التوضيح والتكميل (1/ 497). (¬2) انظر: المفردات (مادة: خلق) ص297.

الدنيا، مُعْرِضِينَ عن اللَّهِ، مكذبينَ رسلَه صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم. وقال بعضُ العلماءِ (¬1): الخلاقُ: الدِّينُ، قالوا: لأن كُلَّ فرقةٍ تَنْتَحِلُ دِينًا وهي تفرحُ بذلك الدينِ وتتمتعُ به وتزعمُ أنها على هُدًى، وهو الْهُدَى الذي كان عليه آباؤها في زَعْمِهَا، كما ذَكَرْنَا مِرَارًا، وكما في قولِه: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي: دينٍ وملةٍ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: الآية 23] وقال (جل وعلا) في أُخْرَيَاتِ سورةِ المؤمنِ: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وزعموا أنهم على دِينٍ {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (83)} [غافر: الآية 83]. فالحاصلُ أن الأظهرَ المعروفَ في اللغةِ أن معنَى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} تَمَتَّعُوا بنصيبِهم وحظِّهم الدنيويِّ الذي أعطاهم اللَّهُ إياه استدراجًا. وقال بعضٌ مِنَ الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم: {بِخَلاقِهِمْ} أي: دينِهم كما بَيَّنَّا. {فَاسْتَمْتَعتمُ} أيها الكفارُ والمنافقونَ (بخلاقِكم) أي: بنصيبِكم الدنيويِّ مُؤْثِرِينَ الدنيا على الآخرةِ، أو فَرِحِينَ بما عِنْدَكُمْ مِنَ الدينِ زَاعِمِينَ أن ما كان عليه آباؤُكم حَقٌّ، كما قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: الآية 104]. {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} وخضتُم في الباطلِ والكفرِ وتكذيبِ الرسلِ. ¬

(¬1) انظر: القرطبي (8/ 201).

{كَالَّذِي خَاضُوا} قال بعضُ العلماءِ (¬1): (الذي) هنا حرفٌ مصدريٌّ، والمعنَى: كالخوضِ الذي خَاضُوهُ. وعلى هذا فَلاَ إشكالَ في الآيةِ، وعليه فالتشبيهُ في نفسِ الخوضِ، لا بَيْنَ الخائضينَ والخائضينَ. وقالت جماعةٌ من العلماءِ: التشبيهُ بَيْنَ الخائضينَ والخائضينَ، و (الذي) بمعنَى (الذين) أي: وخضتُم في الباطلِ والكفرِ وتكذيبِ الرسلِ كخوضِ الذين خَاضُوا في ذلك مِنْ قَبْلِكُمْ. وقد تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ (¬2) أن لفظةَ (الذي) تأتِي بمعنَى (الذين)، وإتيانُ (الذي) بمعنَى (الذين) أَمْرٌ لاَ شَكَّ فيه، وهو كثيرٌ في القرآنِ. وفي كلامِ العربِ، وإيضاحُه: أن لفظَ (الذي) مُفْرَدٌ، وأن معناها جَمْعٌ؛ لأنه اسمٌ موصولٌ، والموصولاتُ صيغُ عمومٍ. تَعُمُّ كلَّ ما تشملُه صلاتُها فقد يُرَاعَى لفظُ (الذي) فيفردُ، وقد يراعى معناه، وهو شاملٌ لِكُلِّ ما تشملُه صلتُه فيعم، ويكونُ بمعنَى الجمعِ. وإتيانُ (الذي) بمعنَى (الذين) في القرآنِ العظيمِ وفي كلامِ العربِ كثيرٌ جِدًّا، فَمِنْ أمثلتِه في القرآنِ العظيمِ {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة: الآية 17] أي: كمثلِ الذينَ اسْتَوْقَدُوا، بدليلِ قولِه بعدَه يَلِيهِ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)} [البقرة: الآية 17] وكقولِه تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: الآية 33] لأَنَّ معناه: والذين جاؤوا بالصدقِ وَصَدَّقُوا به، بدليلِ قولِه بعدَه: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)}، وكقولِه تعالى: ¬

(¬1) انظر: الدر المصون (6/ 83). (¬2) السابق (1/ 156) وراجع ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (7/ 54، 387)، دفع إيهام الاضطراب ص11.

{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: الآية 264] أي: كالذين ينفقون أموالَهم رئاءَ الناسِ بدليلِ قولِه في آخِرِ الآيةِ: {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا} [البقرة: الآية 264] فَدَلَّ قولُه: {لاَّ يَقْدِرُونَ} أن (الذي) بمعنَى (الذين) ونحو هذا من الآياتِ. وورودُ هذا في كلامِ العربِ معروفٌ، وأنشدَ له سيبويه قولَ الأشهبِ بنِ رميلةَ (¬1): وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِد فقولُه: (الذي حَانَتْ) يعنِي: الذين حَانَتْ دماؤُهم. ومنه قولُ عديلِ بنِ الفرخِ العجليِّ (¬2): وَبِتُّ أُسَاقِي الْمَوْتَ إِخْوَتِي الَّذِي ... غَوَايَتُهُمْ غَيِّي وَرُشْدُهُمْ رُشْدِي وقولُ الراجزِ (¬3): يَا رَبِّ عَبْسٍ لاَ تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلاَ فِي مَنْ قَعَدْ إِلاَّ الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ يعنِي: إلاَّ الذين قاموا. ¬

(¬1) البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 187)، المحتسب (1/ 185)، رصف المباني ص341، دفع إيهام الاضطراب ص11، أضواء البيان (7/ 55، 388). (¬2) البيت في سر صناعة الإعراب (2/ 537)، المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية (1/ 259)، دفع إيهام الاضطراب ص12، أضواء البيان (7/ 55، 388). (¬3) رصف المباني ص270، اللسان (مادة: ذا)، المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية (3/ 1140)، مع شيء من المغايرة في اللفظ، وقد أثبته الشيخ (رحمه الله) كما هنا في الأضواء (7/ 55، 388)، دفع الإيهام ص11.

والخوضُ لا تكادُ العربُ تُطْلِقُهُ إلاَّ على الخوضِ في الباطلِ (¬1). وأصلُه الخوضُ في الماءِ؛ لأن الخائضَ في الماءِ يتخبطُ فيه بغيرِ انتظامٍ، ليس كالماشِي على الأرضِ. ثم قال: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَيْ: بَطَلَتْ وَاضْمَحَلَّتْ في الدنيا حيثُ لم يكن مُعْتَدًّا بها عند الله، وكذلك هي باطلةٌ في الآخرةِ، وعكسُ هذا قولُه في إبراهيمَ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [العنكبوت: الآية 27]. وقد قَدَّمْنَا انتفاعَ الكفارِ بأعمالِهم فِي الدنيا خاصةً (¬2)، وأن ذلك مُقَيَّدٌ بمشيئةِ اللَّهِ كما دَلَّ عليه قولُه: {مَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: الآية 18]. وقولُه: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بَطَلَتْ وَاضْمَحَلَّتْ حتى لاَ يظهرَ لها أثرٌ ينتفعون به يومَ القيامةِ. قال بعضُ العلماءِ: أصلُ اشتقاقِ {حَبِطَتْ} من الْحَبَطِ بفتحتينِ، وهو نَبْتٌ في الباديةِ إذا أَكَلَتْهُ الدوابُّ انتفخت بطونُها فماتت (¬3)، كانوا يقولون: «حبطت الماشيةُ» إذا أَكَلَتِ الحَبَطَ فَهَلَكَتْ، وصارت العربُ تستعملُه في الهلاكِ حتى كان أغلبُ استعمالِه في هلاكِ الأعمالِ واضمحلالِها وعدمِ الاعتدادِ بها. ¬

(¬1) انظر: المفردات (مادة: خوض) ص302. (¬2) راجع كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة في الأضواء (3/ 493)، دفع إيهام الاضطراب ص151، معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص69. (¬3) انظر: المفردات (مادة: حبط) ص216، معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص71.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} أي: المغبونون حظوظُهم من الله (جل وعلا). وَمَنْ غُبِنَ في حظِّه مِنْ خالقِه فهو الذي خَسِرَ الخسرانَ المبينَ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - وهذا الخسرانُ أَقْسَمَ اللَّهُ في آياتٍ من كتابِه أنه لا ينجو منه إنسان إلاَّ بالإيمانِ بالعملِ الصالحِ، والتواصِي بالحقِّ والتواصِي بالصبرِ، حيث قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} {إِنَّ الْإِنْسَانَ} معناه: أن كُلَّ إنسانٍ كائنًا مَنْ كان لَفِي خُسْرٍ {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: الآيات 1_ 3]. وقد قدَّمنا (¬1) أن بعضَ العلماءِ ضربوا لهذا الخسرانِ المذكورِ في القرآنِ بكثرةٍ، ضربوا له مَثَلَيْنِ: أحدُهما: أنكم تعلمون أولاً أن الخسرانَ نقصانُ مالِ التاجرِ الذي يُحَرِّكُهُ لإرادةِ الربحِ، سواءً كان النقصُ في الربحِ أو في رأسِ المالِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) أَعْطَى كُلَّ إنسانٍ كائنًا مَنْ كان أعطاه رأسَ مالٍ، وَأَمَرَهُ بالتجارةِ مع الله فيه، ورأسُ المالِ هذا هو الجواهرُ النفيسةُ التي لا مثيلَ لها في الدنيا يشبُهها ألبتةَ، ألا وهي ساعاتُ العمرِ، فالجواهرُ العظيمةُ هي أصلُ مالِ كُلِّ إنسانٍ هي دقائقُ عمرِه وثوانيه وساعاتُه، هذا رأسُ المالِ، أعطاه كُلَّ معمَّر، أعطاه عمرًا في الدنيا وَأَمَرَهُ أن يحركَ رأسَ هذا المالِ مع عظيمٍ كريمٍ شديدِ الوفاءِ، وَسَمَّى معاملةَ العبدِ لربِّه بالتجارةِ معه برأسِ هذا المالِ الذي هو ساعاتُ العمرِ وأيامُه سَمَّاهَا بَيْعًا، وَسَمَّاهَا شراءً، وسماها تجارةً، وسماها قَرْضًا، أما تسميتُها بيعًا وشراءً فقد نَصَّ اللَّهُ عليه في هذه السورةِ الكريمةِ ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف.

-سورةِ براءة - في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} إلى قولِه: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: الآية111] وسماه تجارةً في قولِه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } الآية [الصف: الآيتان10، 11] {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: الآية 29]، وَسَمَّاهُ قَرْضًا في آياتٍ كثيرةٍ {مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: الآية 245] ونحوها من الآيات. فإذا كان الإنسانُ عاقلاً لَبِقًا كَيِّسًا، يفهمُ عن اللَّهِ استعملَ رأسَ هذا المالِ وَحَرَّكَهُ تحريكًا سديدًا بانتظامٍ على ضوءِ ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم فإذا اتَّجَرَ مع اللَّهِ في ساعاتِ عمرِه وأيامِه ولياليه ودقائقِه وثوانيه، نَظَرَ في الأوقاتِ التي تتوجَّه إليه فيها أوامرُ من السماءِ من رَبِّ العالمينَ فاشترى نفسَه وما عند اللَّهِ من الجزاءِ بامتثالِ تلك الأوامرِ وتلك النواهِي، وَنَظَرَ في الأوقاتِ التي لم تَجِبْ فيها أوامرُ معينةٌ فاستكثرَ من الخيرِ بحسبِ استطاعتِه، وَكَفَّ أَذَاهُ وشرَّه، وَكَفَّ جوارحَه عن معاصِي اللَّهِ، فإذا حَرَّكَ رأسَ هذا المالِ وهي ساعاتُ هذا العمرِ وأيامُه تحريكًا سديدًا فيما يُرْضِي اللَّهَ ربح من رأسِ هذا المالِ مجاورةَ رَبٍّ غيرِ غضبانَ، والحورَ والجنان، ونعيمًا لا ينفدُ، ومجاورةَ ربٍّ غيرِ غضبانَ، والنظرَ إلى وجهِ اللَّهِ الكريمِ، فهذا هو الرابحُ حقًّا، فهي التجارةُ الرابحةُ، وإذا كان المسكينُ سَفِيهًا لا يدري ما قيمةُ رأسِ هذا المالِ الذي عندَه كالجاهلِ الذي يجدُ الياقوتةَ فَيُلْقِيهَا في المزبلةِ لاَ يُلْقِي لَهَا بالاً، وَضَيَّعَ رأسَ هذا المالِ، وَضَيَّعَ أوقاتَه وقيل وقال، وألعاب وملاهي، وربما كان في معصيةِ اللَّهِ، حتى انتهى رأسُ المالِ والساعاتُ المقررةُ له، وَفَاتَتِ الفرصةُ، وَضَاعَ الأوانُ، جاء الندمُ حيث لا ينفعُ الندمُ، وجُرَّ إلى

القبرِ وقد ضَيَّعَ رأسَ المالِ، وَمَنْ ضَيَّعَ رأسَ المالِ فالتجارةُ أضيعُ، وهذا هو الخاسرُ الخسرانَ المبينَ تَمَامًا؛ لأن الآخرةَ دارٌ لا تصلحُ للفقراءِ ولا للمفاليسِ من الحسناتِ؛ لأنها دارٌ لا إرفاقَ فيها ولا خُلَّةَ ولا شفاعةَ ولا بيعَ، ليس للإنسانِ فيها إلاَّ ما قَدَّمَ، فالمضيعُ لرأسِ هذا المالِ - أيامَ الدنيا في إمكانِ الفرصةِ - هو الخاسرُ كُلَّ الخسرانِ - والعياذُ بالله - ولا سيما الذي يُضَيِّعُهَا ويفنيها في معاصِي اللَّهِ (جل وعلا) وفي محادَّة خالقِه، ويستعملُ نِعَمَهُ في ما يُسْخِطُهُ ويغضبه (جل وعلا). هذا أحدُ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُمَا العلماءُ للخسرانِ المذكورِ بالقرآنِ. الثاني: قال بعضُ العلماءِ: إنه جاء حديثٌ (¬1) عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم [أن لكلِّ إنسانٍ] (¬2) منزلاً بالجنةِ ومنزلاً بالنارِ، فإذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ أَطْلَعَ أهلَ الجنةِ على مساكنِهم في النارِ لو كانوا كَفَرُوا وَعَصَوُا اللَّهَ ليزدادَ بذلك سرورُهم وغبطتُهم، وعند ذلك يقولُ الواحدُ منهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: الآية 43]. ويطلع الكفارُ على مساكنِهم في الجنةِ لو أنهم أَطَاعُوا اللَّهَ وآمنوا بالله ورسولِه لتزدادَ ندامتُهم وحسرتُهم - والعياذُ بِاللَّهِ - وبعدَ ذلك تصيرُ منازلُ أهلِ الجنةِ في النارِ لأهلِ النارِ، ومنازلُ أهلِ النارِ في الجنةِ لأهلِ الجنةِ، وَمَنِ اسْتُبْدِلَ منزلُه في الجنةِ بمنزلِ غيرِه في النارِ فصفقتُه خاسرةٌ كما ترى، قال هذا بعضُ العلماءِ. وهذا معنَى قولِه: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} [التوبة: الآية 69]. ¬

(¬1) مضى تخريجه عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف. (¬2) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} [التوبة: الآية 70] لَمَّا قال (جل وعلا): {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا} وَبَيَّنَ أن الكفارَ بأنواعِهم في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَلُوا كما فَعَلَ كفارُ الأممِ الماضيةِ، وَهَدَّدَهُمْ أن يُنْزِلَ بهم مثلَ ما أنزلَ بهم ذَكَرَ بعضًا من تلك الأممِ الماضيةِ التي أُجْمِلَتْ في قولِه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ذَكَرَ منها أمثلةً يَكْثُرُ ذِكْرُهَا في القرآنِ العظيمِ؛ لأن الرسلَ كثيرٌ منها ذَكَرَهُ اللَّهُ وَقَصَّ خَبَرَهُ، وبعضُه لم يُذْكَرْ ولم يُقَصَّ خَبَرُهُ، وبعضُ الأممِ لا يعلمُ تاريخَه إلاَّ اللَّهُ وحدَه؛ لأن اللَّهَ يقولُ في الرسلِ: {مِنْهُم مَّنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: الآية 78]، ويقول في الأمم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية [إبراهيم: الآية 9]. {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} قدَّمنا قريبًا الوجهينِ المذكورينِ في {أَلَمْ} إذا جاءت مع المضارعِ. ألم يأتِ هؤلاء الكفرةَ الفاعلينَ مثلَ ما فَعَلَتِ الأُممُ المتقدمةُ؟ ألم يَبْلُغْهُمْ ما فَعَلْنَا بهم من النكالِ والعذابِ المستأصلِ ليكونَ ذلك رَادِعًا لهم وزاجرًا عن أن يعملوا مثل عملِهم؟ {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. النَّبَأُ في لغةِ العربِ أخصُّ من الخبرِ، فكلُّ نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خبرٍ نبأً؛ لأن العربَ لاَ تكادُ تُطْلِقُ في لغتِها النبأَ إلاِّ على الخبرِ

الذي له خَطْبٌ وشأنٌ (¬1)، فالنبأُ ليس كُلُّ خبرٍ يُسَمَّى نبأً، وإنما النبأُ الخبرُ الذي له أهميةٌ، وله خَطْبٌ وشأنٌ، فلو قلتَ: «جاءنا نبأُ الجيوشِ، وجاءنا نبأُ ما وَقَعَ من الزلازلِ والبلايا، أو كذا من الأمورِ العِظَامِ»، لكان ذلك من لغةِ العربِ، ولو قلتَ: «جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ» لَمَا كان هذا من كلامِ العربِ، لأَنَّ هذا لا أهميةَ له، أي: خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. {قَوْمِ نُوحٍ} لم يُذكر في القرآنِ اسمُ قومِ نوحٍ إلاَّ بقولِه: {قَوْمِ نُوحٍ} وقد بَيَّنَ اللَّهُ قصةَ قومِ نوحٍ وَشَرَحَهَا في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه، ذَكَرَ طغيانَهم وتمردَهم، وشدةَ عصيانِهم لنبيِّ اللَّهِ، وطولَ مكثِه فيهم وَهُمْ لاَ يزدادونَ إلا عُتُوًّا، فأهلكهم اللَّهُ هلاكًا مستأصِلاً، وهذا ذَكَرَهُ اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ مشهورةٍ، كقولِه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان: الآية 37]. وكقولِه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)} [العنكبوت: الآية 14]. وكقولِه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} [القمر: الآيات 10 _12]. والآيات بمثلِ ذلك كثيرةٌ، وقد بَيَّنَ تعالى في سورةِ نوحٍ شدةَ عنادِ قومِه، وشدةَ معالجتِه لهم وصبرِه عليهم في قولِه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)} [نوح: الآيات 5 - 7]. حتى دعا عليهم نبيُّ اللَّهِ نوحٌ، ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

وطلب ربَّه والتجأَ إليه في أهلاكِهم فَأَهْلَكَهُمْ {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} [الصافات: الآية 75]، {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)} [الشعراء: الآية 170] ونحوها من الآياتِ، وقد قال نوحٌ: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} الآيات [نوح: الآيتان 26، 27]، وما دعا عليهم نوحٌ حتى أَوْحَى اللَّهُ إليه أنه لا يؤمنُ منهم أحدٌ، وأن الأملَ في الخيرِ منهم انقطعَ في قولِه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: الآية 36] فعندَ ذلك دعا عليهم. {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} أُرْسِلَ إبراهيمُ إلى نمرود وقومِه في سوادِ العراقِ، وقد صَرَّحَ اللَّهُ بأنه أرسل إبراهيمَ كما صَرَّحَ بذلك في قولِه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: الآية 26]، وَذَكَرَ اللَّهُ تفاصيلَ قصتِه مع قومِه في آياتٍ كثيرةٍ، وَبَيَّنَ أنه جاء إلى قومٍ يدعوهم إلى التوحيدِ في سورةِ العنكبوتِ في قولِه مصحوبًا بقصةِ نوحٍ: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15)} [العنكبوت: الآيتان 14، 15]، {وَإِبْرَاهِيمَ} أي: وَأَرْسَلْنَا إبراهيمَ {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} إلى قولِه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: الآيات 16 - 24] وقد أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يتلوَ على هذه الأمةِ قصةَ إبراهيمَ مع قومِه في سورةِ الشعراءِ في قولِه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ

وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: الآيات 69 - 77] وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) ... } إلى قولِه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: الآيات 51_70]، وهؤلاء قومُ إبراهيمَ كَذَّبُوهُ وأهلكهم اللَّهُ (جل وعلا) قال بعضُ العلماءِ: أشارَ اللَّهُ إلى إهلاكِهم في سورةِ النحلِ بقولِه: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26)} [النحل: الآية 26] كما سيأتِي بيانِه في سورةِ النحلِ إن شاء الله تعالى. وقولُه: {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} هُمْ قومُ شعيبٍ، وَاعْلَمْ أن العلماءَ اختلفوا في أصحابِ مدينَ: هَلْ هُمْ أصحابُ الأيكةِ؟ وعليه فشعيبٌ أُرْسِلَ لأمةٍ واحدةٍ، أو أصحاب مدينَ غير أصحابِ الظلةِ؟ فيكونُ شعيبٌ أُرْسِلَ إلى أُمَّتَيْنِ (¬1). {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} بَيَّنَ اللَّهُ تمردَهم وَكَذِبَهُمْ، ونقصَهم في المكيالِ والميزانِ، وتمردَهم على شعيبٍ، وقولُهم له: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: الآية 88] وَبَيَّنَ طغيانَهم وكفرَهم، وقطعَهم للطريقِ، ونقصَهم المكيالَ والميزانَ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِ اللَّهِ، وَبَيَّنَ مصيرَهم ¬

(¬1) مضى عند تفسير الآية (85) من سورة الأعراف.

في آياتٍ، كقولِه في سورةِ هودٍ فيهم: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94] وهم مدينُ بِلاَ نزاعٍ {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)} [هود: الآيتان 94، 95] والآياتُ في مثلِ هذا معروفةٌ، وهذا معنَى قولِه: {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ}. {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} المؤتفكاتُ: هي قُرَى قومِ لوطٍ، وهي المذكورةُ في قولِه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: الآية 53] وقد قدَّمنا (¬1) أن (الأفكَ) في لغةِ العربِ معناه قلبُ الشيءِ، وسُمِّيَ أسوأُ الكذبِ إِفْكًا لأنه قَلْبٌ للحقيقةِ عَنْ وَجْهِهَا الصحيحِ إلى وجهِها الباطلِ، وإنما قيل لِقُرَى قومِه {الْمُؤْتَفِكَاتِ} وَسُمِّيَتِ (المُؤْتَفَكَةَ) لأَنَّ جبريلَ - عليه السلامُ - أَفِكَهَا أي قَلَبَهَا حيث اقْتَلَعَهَا من الأرضِ وَرَفَعَهَا إلى السماءِ، وَجَعَلَ أعلاها أسفلَها، فمعنَى ائتفاكِها أَوْضَحَهُ اللَّهُ بقولِه: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: الآية 74] فما جُعِلَ عاليه سافلَه فقد أُفِكَ {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} أي: المجعول أعلاَها أسفلَها؛ لأن الْمَلَكَ قَلَبَهَا، كما صَرَّحَ به بقولِه: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وهذا معنَى قولِه: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}. {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} ورسلُهم معروفون، فكذَّبوا الرسلَ فأهلكَهم اللَّهُ ودمرَهم بالإهلاكِ المستأصلِ، وعذبَّهم في الآخرةِ. {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} هذه اللامُ هي التي يُسَمِّيهَا علماءُ العربيةِ (لامَ الجحودِ)، وهي بعدَ الكونِ المنفيِّ خاصةً، والمضارعُ ¬

(¬1) راجع تفسير الآية (80، 117) من سورة الأعراف، والآية (54) من سورة الأنفال، والآية (30) من سورة التوبة.

بعدَها منصوبٌ بـ (أن) مضمرة (¬1)، يعني: ما كان اللَّهُ مُرِيدًا لأَنْ يَظْلِمَهُمْ، أو مُقَدِّرًا لأَنْ يَظْلِمَهُمْ، أو نحو ذلك. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} [التوبة: الآية 70] لأن اللَّهَ لاَ يظلمُ مثقالَ ذرةٍ {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: الآية 40]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: الآية 44]، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} وفي القراءةِ الأخرى (¬2): {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} {أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: الآية 47] وهذا معنَى قولِه: {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} (¬3). ¬

(¬1) انظر: مغني اللبيب (1/ 177)، معجم مفردات الإعراب والإملاء ص354. (¬2) انظر: المبسوط لابن مهران ص302. (¬3) هذا آخر ما وُجد من دروس التفسير المسجلة، والحمد لله رب العالمين.

ثبت مصادر التعليق

ثبت مصادر التعليق - الآحاد والمثاني: ابن أبي عاصم. تحقيق: باسم الجوابرة. ط: دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - آداب البحث والمناظرة: محمد الأمين الشنقيطي. من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. - آداب الزفاف في السنة المطهرة: محمد ناصر الدين الألباني. المكتبة الإسلامية، الأردن - عمان، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - الآداب الشرعية والمنح المرعية: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي. ط: مؤسسة قرطبة، القاهرة. - الآيات البينات: أحمد بن قاسم العبادي الشافعي. تحقيق: زكريا عميرات. ط: دار الكتب العلمية، بيروت. - الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير: الحسين بن إبراهيم الجوزقاني. تحقيق: عبد الرحمن الفيروائي. ط: المطبعة السلفية بنارس. الناشر: إدارة البحوث الإسلامية, بالجامعة السلفية بنارس؛ الطبعة الأولى، (1403 هـ). - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة: عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري. تحقيق: رضا نعسان معطي، دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، (1409هـ).

- إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة: حمود بن عبد الله التويجري. دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى، (1414 هـ). - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: أبو العباس شهاب الدين البوصيري. تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي بإشراف أبو تميم ياسر بن إبراهيم. ط: دار الوطن للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، (1420 هـ - 1999 م). - إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر: أحمد بن محمد البنا. تحقيق: شعبان محمد إسماعيل. عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة: أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني. ط: مجمع الملك فهد ومركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، (1415 هـ). - الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين السيوطي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. ط: المكتبة العصرية، بيروت، (1407 هـ). - الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي: إبراهيم الفايز. ط: الكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، (1403 هـ). - أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء: مصطفى سعيد الخِنّ. ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، بيروت، (1402 هـ). - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: بدر الدين الزركشي. تحقيق: سعيد الأفغاني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، (1400 هـ). - الأحاديث المختارة: ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي. تحقيق: عبد الملك بن دهيش. ط: مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر: حمود بن عبد الله التويجري. ط: مكتبة دار العليان بريدة، الطبعة الثانية، (1406 هـ). - الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: علاء الدين علي بن بلبان الفارسي. قدم له وضبط نصه: كمال يوسف الحوت. ط: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، (1407 هـ).

- أحسن ما سمعت: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي. وضع حواشيه: خليل عمران المنصور. ط: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، (1421 هـ - 2000 م). - أحكام أهل الذمة: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية. تحقيق: صبحي الصالح. ط: دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، بيروت، (1983 م). - أحكام الجنائز وبدعها: محمد ناصر الدين الألباني. مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - إحكام الفصول في أحكام الأصول: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي. تحقيق: عبد الله محمد الجبوري. ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، بيروت، (1409 هـ). - الإحكام في أصول الأحكام: أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري. تحقيق: أحمد شاكر. مطبعة العاصمة، القاهرة. - أحكام القرآن: محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي. تحقيق: علي محمد البجاوي. ط: دار المعرفة، لبنان. - أخبار مكة: الأزرقي. تحقيق: رشدي الصالح. ط: دار الثقافة, الطبعة الثامنة, (1416 هـ). - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه: أبو عبد الله محمد بن إسحاق المكي الفاكهي. تحقيق: عبد الملك عبد الله دهيش. ط: دار خضر- بيروت، الطبعة الثانية، (1414هـ). - أخلاق أهل القرآن: أبو بكر محمد الآجُرِّيُّ. تحقيق: محمد عمرو عبد اللطيف. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، (1424هـ- 2003م.) - أدب الكاتب: عبد الله بن مسلم بن قتيبة. تحقيق: محمد الدالي. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، (1405 هـ). - الأدب المفرد: محمد بن إسماعيل البخاري. ترتيب: كمال يوسف الحوت. ط: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - الأذكار: يحيى بن شرف النووي. تحقيق: بشر بن محمد بن عيون. ط: مكتبة المؤيد، الطائف، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق: يحيى بن شرف النووي. تحقيق: عبد الباري السلفي. ط: مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: محمد بن علي الشَّوكاني. توزيع: دار الباز, مكة المكرمة, ط: دار المعرفة, بيروت، (1399 هـ). - إرواء الغليل: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1399 هـ).

- الأزمنة والأمكنة: أبو على أحمد بن محمد المرزوقي الأصفهاني. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1417هـ). - أسباب النزول: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري. تحقيق: عصام الحميدان. دار الإصلاح، الدمام، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - أسباب النزول: جلال الدين السيوطي. ط: دار ابن قتيبة، دمشق، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - الاستذكار: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر. تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي. ط: دار قتيبة للطباعة والنشر ودار الوعي، القاهرة، الطبعة الأولى، (1413 هـ). - الاستيعاب في بيان الأسباب: سليم الهلالي، موسى نصر. ط: دار ابن الجوزي- الدمام، الطبعة الأولى، (1425هـ). - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: يوسف بن عبد الله بن عبد البر. (في هامش الإصابة). ط: دار إحياء التُّراث العربي، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - أُسد الغابة في معرفة الصحابة: عز الدين بن الأثير. تحقيق: محمد إبراهيم البنا، ومحمد أحمد عاشور. ط: دار الشعب. - أسرار البلاغة في علم البيان: عبد القاهر الجرجاني. تحقيق: محمد رشيد رضا. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - الأسماء والصفات: البيهقي. ط: دار الكتب العلمية، لبنان. - أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: محمد درويش الحوت. دار الكتاب العربي، بيروت، (1403 هـ). - الأشباه والنظائر: جلال الدين السيوطي. تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد. ط: مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، (1395 هـ). - أشراط الساعة: يوسف بن عبد الله الوابل. ط: دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1409 هـ).

- الإصابة في تمييز الصحابة: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر. ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (1328 هـ). - إصلاح المنطق: أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ابن السكيت. تحقيق: محمد مرعب. ط: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، (1423 هـ , 2002 م). - إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم: الحسين بن محمد الدامغاني. تحقيق: عبد العزيز سيد الأهل. ط: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، بيروت، (1985 م). - الأصمعيات: أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي. تحقيق: أحمد محمد شاكر- عبد السلام محمد هارون. ط: دار المعارف - مصر، الطبعة السابعة، (1993م). - الأصنام: هشام بن محمد الكلبي. تحقيق: أحمد زكي. مصورة عن طبعة دار الكتب سنة (1343 هـ). الناشر: الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة. - إضاءة الراموس وإضافة الناموس على إضاءة الراموس: ابن الطيب الفاسي. تحقيق: عبد السلام الفاسي والتهامي الهاشمي. ط: فضالة -بأمر الملك الحسن الثاني-، المغرب, (1403 هـ). - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي. عالم الكتب، بيروت. إعتاب الكتاب: ابن الأبار، محمد بن عبد الله القضاعي البلنسي. تحقيق: صالح الأشتر. ط: مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، الطبعة الأولى، (1380 هـ- 1961 م). - الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. صححه: أحمد محمد مرسى. ط: المطبعة العربية، باكستان. - الأعلام: خير الدين الزركلي. دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، (1980 م). - إعلام الساجد بأحكام المساجد: محمد بن عبد الله الزركشي. تحقيق: مصطفى المراغي. الطبعة الثانية، (1403 هـ). - إعلام الموقعين عن رب العالمين: شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية. تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، (1973م). أعلام النساء: عمر رضا كحالة. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، (1397 هـ). - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر - ابن القيم الجوزية -. تحقيق: محمد حامد الفقي. دار المعرفة، بيروت. - الأغاني: عبد الستار أحمد فراج. ط: دار الثقافة، بيروت.

- الاقتصاد في الاعتقاد: الغزالي. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - اقتضاء الصراط المستقيم: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. تحقيق: ناصر العقل. توزيع: وزارة الشؤون الإسلامية. الطبعة السابعة، (1419 هـ). - الإقناع في القراءات السبع: أبو جعفر أحمد بن علي ابن الباذش. تحقيق: عبد المجيد قطامش. ط: دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - الإكسير في علم التفسير: سليمان بن عبد القوي الصرصري البغدادي. تحقيق: عبد القادر حسين. مكتبة الآداب، القاهرة. - إكمال الإعلام بتثليث الكلام: محمد بن عبد الله بن مالك الجياني. تحقيق: سعد بن حمدان الغامدي. ط: مكتبة المدني، الطبعة الأولى، جدة، (1404 هـ). - إكمال إكمال المعلم: أبو عبد الله الأبي. ط: مكتبة طبرية، الرياض. - ألفية ابن مالك (الخلاصة): محمد بن عبد الله بن مالك. ط: دار طيبة للنشر، الطبعة الثانية، (1409 هـ). - الأم: محمد بن إدريس الشافعي. ط: دار المعرفة، لبنان. - الأمالي: أبو علي القالي. ط: دار الكتاب العربي، لبنان. - الأمثال: أبو عبيد القاسم بن سلام. تحقيق: عبد المجيد قطامش. ط: دار المأمون، دمشق، الطبعة الأولى، (1400 هـ). - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه وآدابه: خالد بن عثمان السبت. ط: المنتدى الإسلامي، الطبعة الأولى، لندن، (1415 هـ).

- الأموال: أبو عبيد القاسم بن سلام. تحقيق: محمد خليل هراس. ط: مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة الثالثة، (1401 هـ). - الأنساب: عبد الكريم بن محمد السمعاني. تحقيق: عبد الله البارودي. ط: الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - الإنصاف: علاء الدين أبو الحسن بن سليمان المرداوي. تحقيق: محمد حامد الفقي. ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (1376 هـ). - أهل الفترة ومن في حكمهم: موفق أحمد شكري. ط: مؤسسة علوم القرآن، عجمان، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: محمد بن إبراهيم بن المنذر. ط: دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: ابن هشام الأنصاري. تحقيق: مصطفى السقا وزملائه. ط: دار إحياء التُّراث العربي، بيروت, الطبعة السادسة, (1980م). - إيثار الحق على الخلق: أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني. ط: دار الكتب العلمية، بيروت. - الإيضاح في علوم البلاغة: الخطيب القزويني. ط: الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1405هـ). - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: مكي بن أبي طالب القيسي. تحقيق: أحمد حسن فرحات. ط: دار المنارة، جدة، الطبعة الأولى، (1406هـ). - إيضاح المبهم من معاني السلم: أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري. تحقيق: عبد الجليل العطا البكري. ط: مكتبة البيروتي، دمشق، الطبعة الأولى، (1413 هـ). - الإيمان: أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبى شيبة. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. ط: دار الأرقم، الكويت.

- الإيمان: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. ط: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، (1401 هـ). - الإيمان: محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده. تحقيق: علي بن ناصر الفقيهي. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، (1406 هـ). - الإيمان: محمد بن يحيى العدني. تحقيق: حمد الحربي. ط: الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - الإيمان الأوسط: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. توزيع: مكتبة الفرقان ومكتبة الإيمان. - الإيمان ومعالمه وسننه: أبو عبيد القاسم بن سلاّم. تحقيق: الألباني. مطبعة المدني، مصر. - البحر المحيط: محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي الغرناطي. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الطبعة الثانية، (1413 هـ). - البحر المحيط في أصول الفقه: بدر الدين محمد بن بهادر الشافعي الزركشي. تحقيق: عبد الستار أبو غدة. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الطبعة الثانية، (1413 هـ). - بدائع الصنائع: أبو بكر بن مسعود الكاساني. ط: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، (1402 هـ). - بدائع الفوائد: شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية. دار الفكر، بيروت. - البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير. مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، (1401 هـ). - البدع والنهي عنها: محمد بن وضَّاح القرطبي. تحقيق: محمد أحمد دهمان. دار الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، (1411 هـ).

- البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة: عبد الفتاح بن عبد الغني القاضي. ط: مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - البرهان في أصول الفقه: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني. تحقيق: عبد العظيم محمود الديب. ط: دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، المنصورة، (1412 هـ). - البرهان في توجيه متشابه القرآن: محمود بن حمزة الكرماني. تحقيق: عبد القادر عطا. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - البرهان في علوم القرآن: محمد عبد الله الزركشي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. ط: دار المعرفة، لبنان، الطبعة الثانية، (1391 هـ). - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي. تحقيق: محمد علي النجار. المكتبة العلمية، بيروت. - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: محمود شكري الألوسي. تحقيق: محمد الأثري. ط: دار الكتب العلمية، لبنان. - بلوغ المرام من أدلة الأحكام: ابن حجر العسقلاني. تحقيق: محمد حامد الفقي. ط: دار الكتب العلمية، لبنان. - البهجة في شرح التحفة: أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي. ط: مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، (1370 هـ). وكذا: طبعة دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة، (1397 هـ).

- بهجة المجالس وأُنس المُجالس: أبو عمرو يوسف بن عبد البر. تحقيق: محمد مرسي الخولي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت. - البيان والتبيين: أبو عثمان الجاحظ. تحقيق: عبد السلام هارون. ط: دار الجيل، بيروت. - تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الزبيدي. دار مكتبة الحياة، بيروت. - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: شمس الدين الذهبي. تحقيق: عمر عبد السلام تدمري. ط: دار الكتاب العربي، بيروت, الطبعة الأولى, (1407 هـ). - تاريخ أصبهان = أخبار أصبهان: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. تحقيق: سيد كسروي حسن. ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، (1410 هـ-1990م). - تاريخ الأمم والملوك: ابن جرير الطبري. ط: دار الفكر، (1399 هـ). - تاريخ بغداد: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي. ط: دار الكتاب العربي، بيروت. - تاريخ دمشق: ابن عساكر. تحقيق: علي شيري. ط: دار الفكر، بيروت, الطبعة الأولى, (1419 هـ). - التاريخ الكبير: إسماعيل بن إبراهيم البخاري. ط: دار الكتب العلمية، لبنان. - تأويل مشكل القرآن: ابن قتيبة. تحقيق: السيد أحمد صقر. المكتبة العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، (1401 هـ). - التبصرة في أصول الفقه: إبراهيم بن علي الشيرازي. تحقيق: محمد حسن هيتو. ط: دار الفكر، دمشق، (1400 هـ). - التبيان في أقسام القرآن: شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية. صححه وعلق عليه: محمد حامد الفقي. ط: دار المعرفة، بيروت. - التبيان في شرح الديوان: أبو البقاء العكبري. تحقيق: مصطفى السقا، وإبراهيم الأنباري، وعبد الحفيظ شلبي. دار المعرفة، بيروت. - التحرير والتنوير: محمد الطاهر ابن عاشور. ط: الدار التونسية للنشر. - تُحْفَةُ الأَقْرَانِ في مَا قُرِئ بِالتَّثْلِيثِ مِنْ حُرُوفِ القُرْآنِ: أحمد بن يوسف الرعيني الغرناطي، أبو جعفر الأندلسي. ط: كنوز أشبيليا - المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، (1482 هـ - 2007 م). - تحفة القادم: ابن الأبار، محمد بن عبد الله القضاعي البلنسي. أعاد بناءه وعلّق عليه: إحسان عباس. ط: دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، (1406 هـ - 1986م). - تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج: عمر بن علي المعروف بابن الملقن. تحقيق: عبد الله بن سعاف اللحياني. ط: دار حراء للنشر، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، (1406 هـ).

- تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني: أبو محمد عبد الله بن يحيى الغساني. تحقيق: أشرف بن عبد المقصود بن عبد الرحيم. ط: دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد: فريح بن صالح البهلال. دار الأثر، الرياض، الطبعة الأولى، (1415 هـ). - تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري: أبو محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي. تحقيق: سلطان بن فهد الطبيشي. ط: دار ابن خزيمة، الرياض، الطبعة الأولى، (1414 هـ). - تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد: عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري. تحقيق: عباس مصطفى الصالحي. ط: دار الكتاب العربي، لبنان، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. تحقيق: عبد الوهاب بن عبد اللطيف. ط: المكتبة السلفية. - تذكرة الأريب في تفسير الغريب: أبو الفرج ابن الجوزي. تحقيق: علي حسين البواب. ط: مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، الرياض، (1407 هـ). - تذكرة الحفاظ (أطراف أحاديث كتاب المجروحين لابن حبان): أبو الفضل محمد بن طاهر المعروف بابن القيسراني. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. ط: دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى، (1415 هـ - 1994 م). - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. ط: دار الفكر، لبنان. - التراتيب الإدارية: عبد الحي الكتاني. ط: دار الكتاب العربي، بيروت. - ترتيب الأمالي الخميسية للشجري: مؤلف الأمالي: يحيى بن الحسين الشجري الجرجاني. رتبها: القاضي محيي الدين محمد بن أحمد القرشي العبشمي. تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل. ط: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، (1422 هـ - 2001 م). - الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك: أبو حفص عمر بن أحمد البغدادي المعروف بـ ابن شاهين. تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل. ط: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، (1424 هـ - 2004 م). - التسهيل لعلوم التنزيل: محمد بن أحمد بن جزي الكلبي. الدار العربية للكتاب. - تسهيل المنطق: عبد الكريم بن مراد الأثري. ط: سجل العرب، الطبعة الثانية، (1984 م).

- التعريفات: علي بن محمد الجرجاني. تحقيق: عبد الرحمن عميرة. ط: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - تعظيم قدر الصلاة: محمد بن نصر المروزي. تحقيق: عبد الرحمن الفيروزآبادي. مكتبة الدار، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - تغليق التعليق على صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تحقيق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، دار عمار، الأردن, الطبعة الأولى، (1405 هـ). - تفسير أبي السعود: محمد بن محمد العمادي. ط: دار إحياء التُّراث العربي، بيروت, نشر: دار المصحف, القاهرة. - تفسير سورة النور: محمد الأمين بن محمد الشنقيطي. عناية: عبد الله بن أحمد الأهدل. ط: دار المجتمع للنشر، جدة، الطبعة الأولى، (1410 هـ). - التفسير الصحيح: حكمت بشير. ط: دار المآثر، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، (1420 هـ). - تفسير القرآن: عبد الرزاق الصنعاني. تحقيق: مصطفى مسلم. ط: مكتبة الرشد, الرياض, الطبعة الأولى, (1410 هـ). - تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن أبي حاتم): عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس (ابن أبي حاتم). تحقيق: أسعد محمد الطيب. ط: مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، (1417 هـ). - تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير. ط: دار المعرفة، بيروت، (1402 هـ). - التفسير الكبير: فخر الدِّين الرازي. ط: دار إحياء التُّراث العربي. بيروت، الطبعة الثالثة. - تفسير مبهمات القرآن: أبو عبد الله محمد بن علي البلنسي. تحقيق: حنيف بن حسن القاسمي. ط: دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، (1411 هـ). - تفسير المشكل من غريب القرآن: مكي بن أبي طالب القيسي. تحقيق: علي حسين البواب. ط: مكتبة المعارف، الرياض، (1406 هـ). - تفسير مقاتل بن سليمان: أبو الحسن مقاتل بن سليمان البلخى. تحقيق: عبد الله محمود شحاته. ط: دار إحياء التراث - بيروت، الطبعة الأولى، (1423 هـ).

- تفسير المنار: محمد رشيد رضا. دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية. - تفسير النصوص في الفقه الإسلامي: محمد أديب صالح. ط: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، (1404 هـ). - تقريب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تحقيق: صغير أحمد شاغف الباكستاني. ط: دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر. تحقيق: عبد الله هاشم اليماني المدني. - تلخيص الشواهد وتلخيص الفوائد: عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري. تحقيق: عباس مصطفى الصالحي. ط: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - التلخيص في علوم البلاغة: جلال الدين القزويني الخطيب. شرح: عبد الرحمن البرقوقي. الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، (1350 هـ). - تلخيص كتاب الاستغاثة: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية. ط: الدار العلمية، الهند، الطبعة الثانية، (1405 هـ). - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي. تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد بن عبد الكبير البكري. ط: المملكة المغربية، وزارة الأوقات والشؤون الإسلامية، الطبعة الثانية، (1402 هـ). - تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق: محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي. تحقيق: عامر حسن صبري. ط: المكتبة الحديثة، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني. ط: حديث أكادمي، فيصل أباد، باكستان، الطبعة الأولى، (1401 هـ). - تهذيب الأسماء واللغات: أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت.

- تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - تهذيب سنن أبي داود: ابن القيم الجوزية. تعليق: محمد حامد الفقي. ط: دار المعرفة، بيروت، (1400 هـ). - تهذيب الكمال في أسماء الرجال: أبو الحجاج يوسف المزي. تحقيق: بشار عواد معروف. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، (1403 هـ). - تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. دار القومية العربية للطباعة، (1384 هـ). - توضيح النحو: عبد العزيز محمد فاخر. - التوضيح والتكميل لشرح ابن عقيل: محمد بن عبد العزيز النجار. الطبعة الثانية، (1399 هـ). - تيسير التحرير: محمد أمين المعروف بأمير بادشاه. ط: دار الكتب العلمية، لبنان. الناشر: دار الباز، مكة المكرمة. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن بن ناصر السعدي. ط: المطبعة السلفية. - جامع الأصول في أحاديث الرسول: المبارك بن محمد بن الأثير الجزري. تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط. ط: دار الفكر، الطبعة الثانية، بيروت، (1403 هـ). - جامع البيان عن تأويل آي القرآن: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. تحقيق: محمود وأحمد شاكر. دار المعارف، القاهرة، ومكتبة البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثالثة، (1388 هـ).

- جامع بيان العلم وفضله: أبو عمر يوسف بن عبد البر. تحقيق: أبو الأشبال الزهيري. دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1414 هـ). - جامع التحصيل في أحكام المراسيل: خليل العلائي. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. ط: الدار العربية، الطبعة الأولى، (1398 هـ). - جامع التفسير من كتب الأحاديث: أشرف على إخراجه: خالد آل عقدة. ط: دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، (1421 هـ). - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم: أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن رجب الحنبلي. تحقيق: طارق عوض الله. دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1415 هـ). - الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. دار إحياء التراث العربي، بيروت, (1965 م). - الجامع لأخلاق الرَّاوي وآداب السَّامع: الخطيب البغدادي. تحقيق: محمود الطحان. مكتبة المعارف, الرياض, (1403هـ). - الجامع لشعب الإيمان: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. تحقيق: مختار أحمد الندوي. الدار السلفية، بومباي، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - الجدل على طريقة الفقهاء: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي. الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر. - جمل من أنساب الأشراف: أحمد بن يحيى البَلاَذُري. تحقيق: سهيل زكار، ورياض الزركلي. ط: دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى، (1417 هـ - 1996م). - جمهرة أشعار العرب: أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي. حققه وضبطه: علي محمد البجاوي. ط: نهضة مصر. - جمهرة الأمثال: أبو هلال العسكري. اعتنى به: أحمد عبد السلام, وزميله. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه: عبد الرزاق بن طاهر بن أحمد معاش. ط: دار الوطن، الطبعة الأولى، الرياض، (1417 هـ). - الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم: محمد بن إبراهيم آل الشيخ. مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، (1369 هـ).

- جواهر البلاغة في المعاني والبيان البديع: السيد أحمد الهاشمي. ط: دار الكتب، بيروت. - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية الزرعي الدمشقي. دار الفكر، بيروت. - حاشية البناني على جمع الجوامع: ط: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية، (1356 هـ). - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: شمس الدين الدسوقي. ط: دار إحياء الكتب العربية عيسى الباري الحلبي وشركائه. - حاشية الروض المربع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم. ط: المطابع الأهلية، الرياض، الطبعة الثانية، (1403 هـ). - حاشية محمد علي الصبان على شرح علي بن محمد الأشموني لألفية ابن مالك. دار الفكر، بيروت. - حاشية المحلي على جمع الجوامع: الجلال شمس الدين محمد بن أحمد المحلي. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه، مصر، الطبعة الثانية، (1356 هـ). - الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة: إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني. تحقيق: محمد بن ربيع. دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - حجة القراءات: أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة. تحقيق: سعيد الأفغاني. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، (1404 هـ). - حجج القرآن: أحمد بن محمد الرازي. ط: دار الرائد العربي، بيروت، الطبعة الثانية، (1402 هـ). - الحروف العاملة في القرآن الكريم بين النحويين والبلاغيِّين: هادي عطية مطر الهلالي. ط: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - حصول الأجر في أحكام وفضائل العمل في أيام العشر: سعود الخماس. ط: دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1421 هـ).

- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني. ط: دار الكتب العلمية، بيروت. - حلية الفقهاء: أبو الحسين أحمد بن فارس. تحقيق: عبد الله التركي. ط: الشركة المتحدة، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - الحماسة: الوليد بن عبيد البحتري. ط: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، (1387 هـ). - حماسة الخالديين: الخالديان أبو بكر محمد بن هاشم الخالدي، وأبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي. تحقيق: الدكتور محمد علي دقة. ط: وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية، (1995م). - حياة الحيوان الكبرى: كمال الدين الدميري. المكتبة الإسلامية، بيروت. - الحيوان: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. ط: مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية. - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: عبد القادر بن عمر البغدادي. ط: دار صادر، بيروت. - الخصائص: أبو الفتح عثمان بن جني. تحقيق: محمد علي النجار. دار الكتاب العربي، بيروت. - الخصائص الكبرى: جلال الدين السيوطي. تحقيق: محمد خليل الهراس. مطبعة المدين، مصر، دار الكتب الحديثة، مصر. - خلاصة البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير: سراج الدين عمر بن علي بن الملقن. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، (1410 هـ). - درء تعارض العقل والنقل: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. تحقيق: محمد رشاد سالم. ط: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، (1399 هـ).

- الدراية في تخريج أحاديث الهداية: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر. تحقيق: عبد الله هاشم اليماني المدني. ط: دار المعرفة، بيروت. - درة التنزيل وغرة التأويل: محمد بن عبد الله الإسكافي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - الدرر السنية في الأجوبة النجدية: علماء نجد الأعلام. تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم. الطبعة السادسة، 1417هـ- 1996م). - الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: جلال الدين السيوطي. تحقيق: خليل محيي الدين الميس. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون: أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي. تحقيق: أحمد محمد الخراط. دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى، (1414 هـ). - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي. دار المعرفة، بيروت. - الدعاء المأثور وآدابه وما يجب على الداعي اتباعه واجتنابه: أبو بكر الطرطوشي الأندلسي. تحقيق: محمد رضوان الداية. ط: دار الفكر، لبنان، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب: محمد الأمين الشنقيطي (مطبوع في آخر أضواء البيان). - دلائل النبوة: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. تحقيق: عبد المعطي قلعجي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - ديوان الأخطل: شرح: مهدي ناصر الدين. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى, (1406 هـ). - ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس: تحقيق: مهدي محمد ناصر الدين. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1407 هـ).

- ديوان الأقيشر الأسدي: تحقيق: محمد علي دقه. ط: دار صادر، الطبعة الأولى، (1997م). - ديوان الإمام الشافعي: محمد بن إدريس الشافعي. تعليق: محمد عفيف الزعبي. الناشر: مؤسسة الزعبي, بيروت, الطبعة الثالثة, (1398هـ). - ديوان امرئ القيس: تحقيق: مصطفى عبد الشافي. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - ديوان أوس بن حجر: شرح: محمد بن يوسف نجم. الطبعة الثالثة، (1399 هـ). - ديوان البحتري: ط: دار بيروت للطباعة والنشر، (1408 هـ). - ديوان بشار بن برد: شرح وتكميل: محمد الطاهر بن عاشور. ط: لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، (1386 هـ). - ديوان تأبط شراً: تحقيق: طلال حرب. ط: دار صادر، الطبعة الأولى، (1996 م). - ديوان جميل بن معمر: تحقيق وشرح: عدنان درويش. ط: الفكر العربي, الطبعة الأولى, (1415 هـ). - ديوان حاتم الطائي: شرحه: أحمد رشاد. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - ديوان حسان بن ثابت: تحقيق: عبد الأمير مهنا. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت: تحقيق: نعمان محمد أمين طه. ط: مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولى، (1407 هـ). وكذا: بشرح أبي سعيد السكري. ط: دار صادر. - ديوان حميد بن ثور الهلالي: صنعه: عبد العزيز الميمني. ط: دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، (1371 هـ). - ديوان ابن دريد: تحقيق: عمر بن سالم. ط: الدار التونسية، (1973م). - ديوان أبي دلامة الأسدي: إعداد: رشدي علي حسن. ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، بيروت، (1406 هـ).

- ديوان الراعي النميري: شرح واضح الصمد. ط: دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - ديوان ابن الرومي: شرح وتحقيق: عبد الأمير علي مهنا. ط: دار مكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - ديوان ابن الرومي: تحقيق: حسين نصار. - ديوان زهير بن أبي سلمى: ط: دار صادر. - ديوان شعر ذي الرمة: تعليق: زهير فتح الله. ط: دار صادر، الطبعة الأولى، (1995م). - ديوان الشنفرى: ط: دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، (1996م). - ديوان طرفة بن العبد: تحقيق: درية الخطيب. مطبوعات مجمع اللغة العربية، مطبعة دار الكتاب، (1395 هـ). - ديوان الطرماح: تحقيق: عزة حسن. ط: دار الشرق العربي، بيروت، الطبعة الثانية، (1414 هـ). - ديوان العباس بن مرداس: تحقيق: يحيى الجبوري. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - ديوان عبيد بن الأبرص: تحقيق: حسين نصار. القاهرة، الطبعة الأولى، (1377 هـ). - ديوان عروة بن حزام: تحقيق: أنطوان محسن القوال. دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - ديوان علقمة بن عبدة: شرح: سعيد نسيب مكارم. ط: دار صادر، الطبعة الأولى، (1996م). - ديوان علي بن أبي طالب: جمعه: حسين الأعلمي. الناشر: مؤسسة النور للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولى، (1419 هـ).

- ديوان عمر بن أبي ربيعة: ط: الهيئة المصرية العامة، (1978م). وكذا: ط: دار صادر، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - ديوان أبي فراس: ط: دار صادر، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - ديوان قيس بن الخطيم: تحقيق: ناصر الدين الأسد. ط: دار صادر، الطبعة الثالثة، (1411 هـ). - ديوان كثير عزة: شرح: قدري مايو. ط: دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - ديوان لبيد بن ربيعة: ط: دار صادر، بيروت، (1386 هـ). - ديوان المثقب العبدي: شرح: حسن حمد. ط: دار صادر، الطبعة الأولى، (1996م). - ديوان مجنون ليلى: شرح: عدنان زكي درويش. ط: دار صادر، (1414 هـ). - ديوان المخبل السعدي: تحقيق: نبيل الطريفي. ط: دار صادر, الطبعة الأولى, (1428 هـ). - ديوان المعاني: أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري. ط: دار الجيل - بيروت. - ديوان مهلهل بن ربيعة: عناية: طلال بن حرب. ط: الدار العالمية للطباعة والنشر، بيروت، (1413 هـ). - ديوان النَّابغة الجعدي: تحقيق: عباس عبد الساتر. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - ديوان النَّابغة الذبياني: شرح: عباس عبد الساتر. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - ديوان أبي نواس: شرح: عمر فاروق الطباع. ط: شركة دار الأرقم، بيروت، (1418 هـ). - ديوان أبي الوليد مسلم بن الوليد: ط: بريل، ليدن، (1875م). - ديوان يزيد ين معاوية: ط: المجمع العلمي بدمشق. تحقيق: سامي الدهان. - الرؤية: علي بن عمر الدارقطني. تحقيق: إبراهيم العلي وزميله. ط: مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، (1411 هـ).

- الرد على الجهمية: عثمان بن سعيد الدارمي. تحقيق: زهير الشاويش, وتخريج: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، (1402 هـ). - الرد على الزنادقة والجهمية: أحمد بن حنبل. ط: المطبعة السلفية، القاهرة، الطبعة الثانية، (1399 هـ). - الرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك: أبو العباس ابن تيمية الدمشقي. تحقيق: محمد بن عبد الله السمهري. دار بلنسية، الرياض، الطبعة الأولى، (1415 هـ). - الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي: عبد المحسن العباد. ط: مطابع الرشيد، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، (1402 هـ). - الرد على من يقول الم حرف لينفي الألف واللام والميم عن كلام الله عز وجل: عبد الرحمن بن محمد ابن مندة. تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع. ط: دار العاصمة - الرياض، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - الرسالة: محمد بن إدريس الشافعي. تحقيق: أحمد شاكر. - الرسل والرسالات: عمر سليمان الأشقر. ط: مكتبة الفلاح، الطبعة الثالثة، الكويت، (1405 هـ). - رصف المباني في شرح حروف المعاني: أحمد بن عبد النور المالقي. تحقيق: أحمد محمد الخراط، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. - رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - الروح: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية. تحقيق: السيد الجميلي. ط: دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، بيروت، (1408 هـ). - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: شهاب الدين الألوسي. ط: دار الفكر، بيروت.

- روضة المحبين ونزهة المشتاقين: شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية. دار الكتب العلمية، بيروت. - روضة الناظر وجنة المناظر: موفق الدِّين بن قدامة المقدسي. وشرحها: نزهة الخاطر العاطر: عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بدران. مكتبة المعارف, الرياض, الطبعة الثانية, (1404هـ). - رياض الجنة بتخريج أصول السنة: محمد بن عبد الله الأندلسي (ابن أبي زمنين). تحقيق: عبد الله البخاري. ط: مكتبة الغرباء، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، (1415 هـ). - زاد المسير في علم التفسير: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، (1404 هـ). - زاد المعاد في هدي خير العباد: ابن قيم الجوزية. تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط. ط: مؤسسة الرسالة، سوريا، الطبعة الثانية، (1401 هـ). - الزهد: عبد الله بن المبارك المروزي. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط: دار الكتب العلمية. - زهر الآداب وثمر الألباب: إبراهيم بن علي القيرواني. تحقيق: علي محمد البجاوي. ط: عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الثانية. - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد. ط: مكتبة دار القلم والكتاب، الرياض، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - السبعة في القراءات: ابن مجاهد. تحقيق: شوقي ضيف. دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية. - سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام: محمد بن إسماعيل الصنعاني. تحقيق: محمد صبحي حلاق. ط: دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الثانية، (1421 هـ).

- سبل الهدى والرشاد: محمد بن يوسف الصالحي. تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي معوض. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1414 هـ). - سلسلة الأحاديث الصحيحة: محمد ناصر الدين الألباني. (المجلد الأول والثاني) المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، (1405 هـ)، (المجلد الثالث) نشر: الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، (1399 هـ)، (المجلد الرابع) نشر: المكتبة الإسلامية، الأردن، الطبعة الأولى، (1403 هـ) (المجلد الخامس) مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء على الأمة: محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، (1398 هـ)، دار المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، (1412 هـ / 1992 م). - السنَّة: عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني. تحقيق: الألباني. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1400 هـ). - السنَّة: محمد بن نصر المروزي. تحقيق: أبو محمد سالم بن أحمد السلفي. ط: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - السنة: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. تحقيق: محمد سعيد القحطاني. ط: دار ابن القيم - الدمام، الطبعة الأولى، (1406هـ). - سنن الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. تحقيق: إبراهيم عطوة عوض. مطبعة البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية، (1395 هـ). - سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني. ط: حديث أكادمي، نشاط أباد، فيصل أباد، باكستان. - سنن الدارمي: الدارمي. تخريج وتحقيق: السيد عبد الله بن هاشم اليماني. ط: حديث أكادمي للنشر والتوزيع. باكستان، (1404 هـ).

- سنن سعيد بن منصور: سعيد بن منصور. تحقيق: سعد بن عبد الله آل حميد. ط: دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى، (1417 هـ). - - السنن الصغير للبيهقي: أحمد بن الحسين، أبو بكر البيهقي. تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي. ط: جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي ـ باكستان، الطبعة الأولى، (1410هـ - 1989م). - السنن الكبرى: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي. تحقيق: عبد الغفار البنداري، وسيد كسروي. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. ط: دار المعرفة، بيروت. - سنن النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي. تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة. دار البشائر، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد الذهبي. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وزملائه. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1401 هـ). - السيرة النبوية: أبو محمد عبد الملك بن هشام. تعليق جماعة من العلماء. ط: دار الفكر، القاهرة. - شذور الذهب في معرفة كلام العرب: أبو محمد ابن هشام الأنصاري. تعليق: محمد محي الدِّين عبد الحميد. (لا توجد معلومات عن الطبعة). - شرح الأشموني على ألفية ابن مالك: دار إحياء الكتب العربية، ط: مطبعة البابي الحلبي. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصَّحبة والتَّابعين من بعدهم: أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي. تحقيق: أحمد سعد حمدان. الناشر: دار طيبة, الرياض. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي. تحقيق: أحمد سعد حمدان. ط: دار طيبة، الرياض. - شرح تنقيح الفصول: شهاب الدين أبو العباس القرافي. تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد. ط: مكتبة الكليات الأزهرية، دار الفكر، الطبعة الأولى، (1393 هـ). - شرح الجلال شمس الدين محمد بن أحمد المحلي على متن جمع الجوامع: ط: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية.

- شرح ديوان أبي تمام: شاهين عطية. ط: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - شرح ديوان جرير: مهدي محمد ناصر الدين. ط: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، (1412 هـ). - شرح ديوان الخنساء: تحقيق: عبد السلام الحوفي. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - شرح ديوان زهير: أبو العباس ثعلب. تحقيق: فخر الدين قباة. ط: دار الآفاق، بيروت، الطبعة الأولى، (1402 هـ). - شرح ديوان صريع الغواني: مسلم بن الوليد الأنصاري. تحقيق: سامي الدهان. ط: دار المعارف بمصر. - شرح ديوان أبي العتاهية: دار الكتب العلمية، بيروت. - شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة: عبد الأمير علي مهنا. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الثانية، (1412 هـ). - شرح ديوان عنترة: (بدون مؤلف). ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - شرح ديوان المتنبي: عبد الرحمن البرقوقي. ط: دار الكتاب العربي, بيروت, الطبعة الثانية، (1400 هـ). - شرح السنة: البغوي. تحقيق: زهير الشاويش، وشعيب الأرناؤوط. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1390 هـ). - شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب: عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصاري. - شرح الشفا: الملا علي القاري. ط: الكتب العلمية، بيروت. - شرح صحيح مسلم: محيي الدين النووي. تحقيق: عبد الله أحمد أبو زينة. ط: الشعب، القاهرة.

- شرح العقيدة الطحاوية: علي بن علي بن محمد بن أبي العز. تحقيق: عبد الله التركي، شعيب الأرناؤوط. ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، (1413 هـ). - شرح القصائد المشهورات الموسومة بالمعلقات: ابن النحاس، أحمد بن محمد المرادي. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - شرح قصيدة كعب بن زهير: جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري. تحقيق: محمود حسن أبو ناجي. ط: مؤسسة علوم القرآن، الطبعة الثالثة، دمشق، (1404 هـ). - شرح القصيدة الميمية: مصطفى عراقي. ط: مكتبة ابن تيمية، القاهرة. - شرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام: محمد محيي الدين عبد الحميد. ط: إحياء التراث، لبنان، (1383 هـ). - شرح القواعد الفقهية: أحمد الزرقاء. صححه وراجعه: عبد الستار أبو غدة. ط: دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - شرح الكافية الشافية: جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني. تحقيق: عبد المنعم أحمد هريدي. ط: دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى، (1402 هـ). - الشرح الكبير: شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة. دار الكتاب العربي، (1392 هـ). - شرح الكوكب المنير: محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي. تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، دار الفكر، بيروت، (1400 هـ).

- شرح مختصر الروضة: نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي. تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - شرح معاني الآثار: أبو جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي. تحقيق: محمد سيد جاد الحق. ط: الأنوار المحمدية، القاهرة. - شرح مقامات الحريري: يوسف بقاعي. ط: دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، (1981م). - شرح منتهى الإرادات: منصور بن يونس البهوتي. ط: دار الفكر، بيروت. - شرح المواقف في علم الكلام: علي بن محمد الجرجاني. تحقيق: أحمد المهدي، مكتبة الأزهر. - الشرك الجاهلي وآلهة العرب المعبودة قبل الإسلام: يحيى الشامي. دار الفكر العربي، بيروت، (1993م). - الشريعة: أبو بكر محمد بن الحسين الآجري. تحقيق: محمد حامد الفقي. ط: حديث أكادمي، باكستان، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - شعر الدعوة الإسلامي في عهد النبوة والخلفاء الراشدين: جمعه وحققه: عبد الله الحامد. ط: دار الأصالة للثقافة والنشر، الطبعة الثانية، الرياض، (1405 هـ). - الشعر والشعراء: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة. تحقيق: محمد عبد المنعم العمران، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الثالثة، (1407 هـ). - شعراء مقلون: حاتم صالح الضامن. عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، الطبعة الأولى، (1407 هـ).

- شعراء النصرانية قبل الإسلام: لويس شيخو. دار المشرق، الطبعة الثالثة، (1967م)، المطبعة الكاثوليكية، (1982م). - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: ابن القيم الجوزية. دار المعرفة، بيروت، (1398 هـ). - شمائل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ابن كثير. تحقيق: مصطفى عبد الواحد. دار القبلة، جدة، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، الطبعة الثانية، (1409 هـ). - الصاحبي: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. تحقيق: السيد أحمد صقر. مطبعة البابي الحلبي، القاهرة. - صبح الأعشى في صناعة الإنشا: أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي. ط: كوستانتسوماس، القاهرة. - صحيح الجامع الصغير وزيادته: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، (1402 هـ). - صحيح ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة. تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1399 هـ). - صحيح سنن الترمذي باختصار السند: محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - صحيح سنن أبي داود باختصار السند: محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - صحيح سنن ابن ماجه: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - صحيح سنن النسائي باختصار السند: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1409 هـ).

- صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. المكتبة الإسلامية، استانبول. - الصواعق المرسلة: شمس الدين ابن قيم الجوزية. تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله. ط: دار العاصمة، الطبعة الأولى، الرياض، (1408 هـ). - الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة: أحمد بن حجر الهيتمي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - الضعفاء الكبير: محمد بن عمرو العقيلي. تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي. توزيع: دار الباز، مكة المكرمة، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. - ضعيف الترغيب والترهيب: محمد ناصر الدين الألباني. ط: مكتبة المعارف - الرياض. - ضعيف الجامع الصغير وزيادته: تأليف: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، بيروت، (1399 هـ). - ضعيف سنن ابن ماجه: محمد ناصر الدين الألباني. إشراف: زهير الشاويش. المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - ضعيف سنن أبي داود: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - ضعيف سنن النسائي: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - ضياء السالك إلى أوضح المسالك: محمد عبد العزيز النجار. - طبقات الشَّافعيَّة الكبرى: تاج الدِّين عبد الوهاب السبكي. تحقيق: عبد الفتاح محمود الطناجي. ط: دار إحياء الكتب العربية. - الطبقات الكبرى: محمد بن سعد (كاتب الواقدي). ط: دار التحرير، القاهرة، (1388 هـ). - طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها: أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني. تحقيق: عبد الغفور البلوشي. ط: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية، (1412 - 1992م). - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي المشهور بابن قيم الجوزية. راجعه: أحمد عبد الحليم العسكري. ط: دار الفكر، بيروت. - طريق الهجرتين وباب السعادتين: شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن القيم. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1402 هـ). - ظلال الجنة في تخريج السنة: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1400 هـ).

- العُجاب في بيان الأسباب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تحقيق: عبد الحكيم محمد الأنيس. ط: دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1418 هـ). - العذب الفائض شرح عمدة الفارض: إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الفرضي. ط: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الأولى، (1372 هـ). - العرف وأثره في التشريع الإسلامي: مصطفى عبد الرحيم أبو عجيلة. ط: المنشأة العامة، طرابلس، الطبعة الأولى، (1395 هـ). - عقد الدرر في أخبار المنتظر: يوسف بن يحيى المقدسي. تحقيق: مهيب بن صالح البوريني. مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: عبد الرحمن بن الجوزي. تحقيق: إرشاد الحق الأثري. إدارة ترجمان السنة، لاهور. - العلل الواردة في الأحاديث النبوية: أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني. تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله السلفي. ط: دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - علماء ومفكرون عرفتهم: المؤلف: محمد المجذوب. ط: دار الاعتصام، الطبعة الثالثة، القاهرة. - العلو للعلي الغفار: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي. تحقيق: أشرف بن عبد المقصود. ط: مكتبة أضواء السلف - الرياض، الطبعة الأولى، (1416هـ - 1995م). - عمدة التفسير: أحمد محمد شاكر. (لا يوجد معلومات عن الطبعة). - عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ: شهاب الدين أحمد بن يوسف الحلبي الشافعي. تحقيق: محمود السيد الدغيم. ط: دار السيد، تركيا، الطبعة الأولى، (407 اهـ). - عمل اليوم والليلة: أبو بكر بن السني. تحقيق: عبد القادر أحمد عطا. ط: دار المعرفة، لبنان، (1399 هـ).

- عون المعبود شرح سنن أبي داود: أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، (1399 هـ). - عيار الشعر: محمد بن أحمد الحسني العلوي. تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع. ط: مكتبة الخانجي - القاهرة. - عيون الأخبار: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري. ط: دار الكتاب الإسلامي. - عيون الأنباء في طبقات الأطباء: أحمد بن القاسم الخزرجي، أبو العباس ابن أبي أصيبعة. تحقيق: الدكتور نزار رضا. ط: دار مكتبة الحياة - بيروت. - غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، (1402 هـ). - غريب الحديث: أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي. ط: دار الكتاب العربي، الهند، الطبعة الأولى، (1384 هـ). - غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود: أبو إسحاق الجويني الأثري. ط: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ. جمع وترتيب وتحقيق: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم. ط: مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، (1399 هـ). - فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. ط: دار المعرفة، لبنان. - فتح البيان في مقاصد القرآن: صديق حسن خان. (لا يوجد معلومات عن الطبعة). - الفتح الرَّباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشَّيباني: أحمد عبد الرَّحمن البنا. ط: دار الشهاب، القاهرة. - فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن: زكريا الأنصاري. تحقيق: محمد الصابوني. ط: دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - الفتح السماوي بتخريج أحاديث تفسير القاضي البيضاوي: زين الدين عبد الرؤوف المناوي. تحقيق: أحمد مجتبي بن نذير عالم السلفي. ط: دار العاصمة، الرياض، النشرة الأولى، (1409 هـ). - فتح القدير: محمد بن علي الشوكاني. ط. دار الفكر. - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط. ط: مكتبة دار البيان، دمشق، الطبعة الأولى، (1402 هـ).

- الفروع: محمد بن مفلح. ط: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، (1402 هـ). - الفروق: شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي. ط: عالم الكتب، بيروت. - الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري. تحقيق: حسام الدين القدسي. ط: دار الباز، مكة المكرمة، (1401 هـ). - فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل. تحقيق: وصي الله عباس. ط: مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - فضائل القرآن: أبو بكر جعفر بن محمد الفِرْيابِي. تحقيق: يوسف عثمان فضل الله جبريل. ط: مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، (1409 هـ-1989 م). - فضائل القرآن: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير. ط: مكتبة ابن تيمية، الطبعة الأولى - (1416 هـ). - فضائل القرآن وتلاوته: أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمدالرازي. تحقيق: عامر حسن صبري. ط: دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى، (1415 هـ- 1994م). - فضائل القرآن ومعالمه وآدابه: أبو عبيد القاسم بن سلام. دراسة وتحقيق: أحمد بن عبد الواحد الخياطي. ط: مطبعة فضالة، المغرب، (1415 هـ). - فقه السيرة: محمد الغزالي، بتخريجات الشيخ ناصر الدين الألباني. دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة السادسة، (1976م). - فقه اللغة وسر العربية: أبو منصور الثعالبي. تحقيق: فائز محمد، وإميل يعقوب. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (1413 هـ). - فقه النوازل: بكر أبو زيد. طبع مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - الفقيه والمتفقه: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي. تحقيق: عادل بن يوسف العزازي. ط: دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، الدمام، (1417 هـ). - فيض القدير شرح الجامع الصغير: محمد عبد الرؤوف المناوي. ط: دار المعرفة، الطبعة الثانية، بيروت، (1391 هـ). - القاديانية: إحسان إلهي ظهير. الناشر: إدارة ترجمان السنة، باكستان، الطبعة الخامسة عشر، (1401 هـ).

- القاموس الفقهي لغة واصطلاحا: سعدي أبو حبيب. ط: دار الفكر، الطبعة الثانية، (1408 هـ). - القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي. تحقيق: مكتب تحقيق التراث. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس: أبو بكر ابن العربي. تحقيق: محمد عبد الله ولد كريم. ط: دار الغرب الإسلامي, بيروت، الطبعة الأولى، (1992م). - القراءة خلف الإمام: أحمد بن الحسين البيهقي. تحقيق: محمد السعيد زغلول. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - القراءة خلف الإمام: محمد بن إسماعيل البخاري. ط: مكتبة الإيمان, المدينة المنورة, الطبعة الثانية, (1405هـ). - قصص العرب: محمد أبو الفضل إبراهيم وزملاؤه. ط: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، الطبعة الرابعة، (1382 هـ). - القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة: عبد الرحمن المحمود. دار النشر الدولي، الرياض، الطبعة الأولى, (1414 هـ). - القطع والائتناف: أبو جعفر النحاس. تحقيق: أحمد خطاب العمر. مطبعة العاني، بغداد (1398 هـ). - القواعد: محمد بن محمد المقري. تحقيق: أحمد عبد الله بن حميد. مطبوعات جامعة أم القرى. - قواعد الأحكام في مصالح الأنام: عز الدين عبد العزيز عبد السلام. تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد. ط: مكتبة ابن تيمية، مصر. - قواعد الترجيح عند المفسرين: حسين بن علي الحربي. ط: دار القاسم، الرياض، الطبعة الأولى، (1417 هـ). - قواعد التفسير جمعاً ودراسةً: خالد بن عثمان السبت. ط: ابن عفان، الخبر، الطبعة الأولى، (1417 هـ). - القواعد الحسان لتفسير القرآن: عبد الرحمن بن ناصر السعدي. ط: دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، الدمام، (1413 هـ). - قواعد الشعر: أحمد بن يحيى أبو العباس، المعروف بثعلب. تحقيق: رمضان عبد التواب. ط: مكتبة الخانجي - القاهرة، الطبعة الثانية، (1995م).

- القواعد الفقهية الخمس الكبرى من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: إعداد: إسماعيل بن حسن علوان. ط: دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1420 هـ). - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى: محمد صالح العثيمين. دار ابن القيم، ومكتبة ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - القواعد والفوائد الأصولية: أبو الحسن علاء الدين ابن اللحام. تحقيق: محمد حامد الفقي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - قواعد وفوائد لفقه كتاب الله: عبد الله بن محمد الجوعي. ط: دار الوطن، الطبعة الأولى، الرياض، (1414 هـ). - الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. [ملحق بتفسير الكشاف] دار المعرفة، بيروت. - الكافي في فقه أهل المدينة المالكي: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - الكافية في الجدل: عبد الملك عبد الله بن يوسف الجويني. تحقيق: فوقية حسين محمود. ط: عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، (1399 هـ). - الكامل: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد. تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - الكامل في التاريخ: عز الدين بن الأثير، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، (1405 هـ).

- الكامل في ضعفاء الرجال: عبد الله بن عدي الجرجاني. ط: دار الفكر، لبنان، الطبعة الثانية، (1405 هـ). - الكتاب: أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (سيبويه). تحقيق: عبد السلام هارون. ط: عالم الكتب، الطبعة الثالثة، (1403 هـ). - كتاب مناهل العرفان للزرقاني دراسة وتقويم: خالد بن عثمان السبت، دار ابن عفان، الخبر، الطبعة الأولى، (1418 هـ). - الكتاب الموضح في وجوه القراءات وعللها: نصر بن علي بن محمد الشيرازي الفارسي الفسوي. تحقيق: عمر حمدان الكبيسي. ط: الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة، الطبعة الأولى، (1414 هـ). - كتاب الوقوف من مسائل الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: أحمد بن محمد الخلال. تحقيق: عبد الله بن أحمد الزيد. ط: مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، (1410 هـ). - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: محمود بن عمر الزمخشري. ط: دار المعرفة، لبنان. - كشاف القناع عن متن الإقناع: منصور بن يونس البهوتي. ط: عالم الكتب، بيروت، (1403 هـ). - كشف الأستار عن زوائد البزار: علي بن أبي بكر الهيثمي. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط: مؤسسة الرسالة، سوريا، الطبعة الثانية، (1404 هـ). - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: إسماعيل بن محمد العجلوني. تحقيق: أحمد القلاش. ط: مؤسسة الرسالة، سوريا، الطبعة الثالثة، (1403 هـ).

- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، (1413 هـ). - الكشف عن وجوه القراءات السبع: مكي بن أبي طالب القيسي. تحقيق: محيي الدين رمضان. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، (1407 هـ). - الكشف والبيان عن تفسير القرآن: أحمد بن محمد الثعلبي. تحقيق: أبو محمد بن عاشور. مراجعة وتدقيق: نظير الساعدي. ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، (1422هـ - 2002 م). - كفاية الإنسان من القصائد الغرر الحسان: جمع: محمد بن أحمد سيد أحمد. ط: دار ابن القيم، الدمام، (1409 هـ). - الكفاية في علم الرواية: الخطيب البغدادي. ط: المكتبة العلمية، المدينة المنورة. - كلمة الحق: أحمد شاكر، دار الكتب السلفية، القاهرة، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - الكليات: أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي. تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علي بن حسام الدين الهندي. تحقيق: بكري حياني. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الخامسة، (1405 هـ). - الكنى والأسماء: أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي. ط: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، بيروت، (1403 هـ). - الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية: جمال الدين الأسنوي. تحقيق: محمد حسن عواد. ط: دار عمان، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - لامية الشنفرى: عناية: عبد المعين الملوحي. ط: مديرية إحياء التراث القديم، دمشق.

- لباب النقول في أسباب النزول: جلال الدين السيوطي. ط: دار قتيبة، دمشق، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - لسان العرب المحيط: ابن منظور. إعداد وتصنيف: يوسف الخياط. ط: دار لسان العرب، بيروت. - لسان الميزان: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، (1390 هـ - 1971م). - اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب: سليمان اللاحم. ط: دار المسلم، الرياض، الطبعة الأولى، (1420 هـ). - اللمع في أصول الفقه: إبراهيم بن علي الشيرازي. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية: محمد بن أحمد السفاريني. ط: المكتب الإسلامي، مكتبة أسامة. - المبسوط: السرخسي. ط: دار المعرفة، بيروت، (1406 هـ). - المبسوط في القراءات العشر: أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني. تحقيق: سبيع حمزة حاكمي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، دمشق. - مجالس ثعلب: تحقيق: عبد السلام هارون. ط: دار المعارف، مصر. - مجاز القرآن: أبو عبيدة معمر بن المثنى. تحقيق: محمد فواد سزگين. ط: مكتبة الخانجى - القاهرة، الطبعة، (1381 هـ). - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين: محمد بن حبان البستي. تحقيق: محمود إبراهيم زايد. نشر: دار الوعي، حلب، الطبعة الثانية، (1402 هـ). - مجلة الحكمة: مجلة بحثية علمية شرعية ثقافية. تصدر من بريطانيا. - مجمع الأمثال: أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني. تحقيق: أبو الفضل إبراهيم. ط: البابي الحلبي. - مجمع بحار الأنوار: محمد طاهر الفتني. ط: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الطبعة الثانية، (1413 هـ). - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي. ط: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، (1402 هـ). - مجمل اللغة: أحمد بن فارس الرازي. تحقيق: شهاب الدين أبي عمرو. ط: دار الفكر، بيروت، (1414 هـ).

- المجموع شرح المهذب: أبو زكريا محيي الدين النووي. ط: دار الفكر. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام: أحمد ابن تيمية. جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وساعده ابنه محمد. طبع بإشراف الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين. - محاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي. ط: دار الفكر، لبنان، الطبعة الثانية، (1398 هـ). - المحاسن والأضداد: عمرو بن بحر، الشهير بالجاحظ. ط: دار ومكتبة الهلال، بيروت، (1423 هـ). - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها: أبو الفتح عثمان بن جني. تحقيق: علي النجدي وزملاؤه. يشرف على إصدارها محمد توفيق عويضة، القاهرة. - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: عبد الحق بن غالب بن عطية. تحقيق: المجلس العلمي بفاس، ط: دار الكتاب الإسلامي, القاهرة, (1395 هـ). - المحكم والمحيط الأعظم: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي. تحقيق: عبد الحميد هنداوي. ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، (1421 هـ - 2000 م). - المحلى: أبو محمد علي بن أحمد بن حزم. ط: دار الفكر. - محنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل: تقي الدين عبد الغني المقدسي. تحقيق: عبد الله التركي. ط: هجر للطباعة والنشر، والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، (1407 هـ). - مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر: محمد بن مكرم المعروف بابن منظور. تحقيق: رياض عبد الحميد مراد وزملاؤه. ط: دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم: محمد بن الموصلي. ط: مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. - مختصر العلو لعلي الغفار: شمس الدين الذهبي. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، (1401 هـ).

- مختصر الفتاوى المصرية: بدر الدين أبو عبد الله محمد بن علي الحنبلي البعلي. صححه: محمد حامد الفقي. ط: دار ابن القيم، الطبعة الثانية، الدمام، (1406 هـ). - مختصر قيام الليل: أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي. ط: المطبعة العربية، الطبعة الأولى، باكستان، (1402 هـ). - مختصر المزني: ط: دار المعرفة، لبنان. - مختصر المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: الزرقاني. تحقيق: محمد الصباغ. ط: مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، الطبعة الأولى، (1401 هـ). - مختصر من قواعد العلائي وكلام الأسنوي: محمود بن أحمد الحمودي (ابن خطيب الدهشة). تحقيق: مصطفى محمود البنجويني، (1980م). - المخلصيات وأجزاء أخرى: لأبي طاهر المخلص، محمد بن عبد الرحمن البغدادي المخَلِّص. تحقيق: نبيل سعد الدين جرار. ط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لدولة قطر، الطبعة الأولى، (1429 هـ - 2008 م). - مدراج السالكين بين منازل {إياك نعبد وإياك نستعين}: محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية الدمشقي. تحقيق: محمد حامد الفقي. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (1392 هـ). - المدخل إلى الصحيح: الحاكم أبو عبد الله النيسابوري. تحقيق: ربيع بن هادي. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى: أبو النصر أحمد بن محمد بن أحمد السمرقندي المعروف بالحدادي. تحقيق: صفوان عدنان داوودي. ط: دار القلم بدمشق، دار العلوم، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - المدهش: أبو الفرج جمال الدين ابن الجوزي. تعليق: مروان قباني. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، (1405 هـ).

- المدونة الكبرى: للإمام مالك التي رواها سحنون بن سعيد التنوخي عن ابن القاسم عن الإمام مالك. ط: مطبعة السعادة. - مذكرة أصول الفقه: محمد الأمين بن المختار الشنقيطي. ط: المكتبة السلفية، المدينة المنورة. - المراسيل: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني. تحقيق: شعيب الأرناؤوط. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - مرويات غزوة حنين وحصار الطائف: إبراهيم بن إبراهيم قريبي. مطبوعات: مركز البحث العلمي في الجامعة الإسلامية. - المزهر في علوم اللغة وأنواعها: عبد الرحمن جلال الدين السيوطي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وزملاؤه. ط: دار التراث، القاهرة، الطبعة الثالثة. - مسائل الإمام أحمد بن حنبل: رواية صالح. تحقيق: فضل الرحمن دين محمد. ط: الدار العلمية، الهند، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - مسائل الإنتقاد: محمد بن سعيد الجذامي القيرواني. - المساعد على تسهيل الفوائد: بهاء الدين بن عقيل. تحقيق: محمد كامل بركات. ط: دار الفكر بدمشق، (1400 هـ). - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: أحمد بن يحيى القرشي العدوي العمري. ط: المجمع الثقافي، أبو ظبي، الطبعة الأولى، (1423 هـ). - المستدرك: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم. ط: دار الباز، مكة المكرمة. - المستصفى من علوم الأصول: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي. ط: دار العلوم الحديثة، بيروت. - المستطرف في كل فن مستظرف: شهاب الدين الأبهيشي. تحقيق: مفيد محمد قمحية. ط: دار الكتب العلمية، بيروت, الطبعة الثانية, (1986 م). - المستقصى في أمثال العرب: محمود بن عمر الزمخشري. ط: دار الكتب العلمية، بيروت, الطبعة الثانية, (1987 م). - المستصفى من علوم الأصول: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي. ط: دار العلوم الحديثة، بيروت. - المسند: أبو عبد الله أحمد بن حنبل. ط: المكتب الإسلامي، دار المعارف بمصر عام (1373هـ)، بتحقيق: أحمد شاكر. - المسند: أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط: عالم الكتب، بيروت، ومكتبة المتنبي، القاهرة. - مسند ابن الجعد: علي بن عبيد الجوهري. تحقيق: عبد المهدي, عبد القادر عبد الهادي. مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - مسند البزار (البحر الزخار): أبو بكر أحمد بن عمرو المعروف بالبزار. حققه: محفوظ الرحمن زين الله، وآخرون. ط: مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، الطبعة الأولى، (بدأت 1988م، وانتهت 2009م). - مسند ابن أبي شيبة: أبو بكر بن أبي شيبة. تحقيق: عادل بن يوسف العزازي وأحمد بن فريد المزيدي. ط: دار الوطن - الرياض، الطبعة الأولى، 1997م. - مسند أبي داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود. ط: دار المعرفة، لبنان.

- مسند أبي يعلى: أحمد بن علي بن المثنى التميمي. تحقيق: حسين سليم أسد. ط: دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - المسودة في أصول الفقه: أبو العباس الحنبلي الحراني. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. ط: دار الكتاب العربي، لبنان. - مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف: محمد عليان المرزوقي الشافعي. [ملحق بتفسير الكشاف]، دار المعرفة، بيروت. - مشكاة المصابيح: محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، (1405 هـ). - مشكل الآثار: أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي. ط: مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند، الطبعة الأولى، (1333 هـ). - مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور: برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي. تحقيق: عبد السميع محمد أحمد حسنين. مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - المصباح المنير: أحمد بن محمد الفيومي المقرئ. ط: مكتبة لبنان. - المصنف: أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، (1403 هـ). - مصنف ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي. تحقيق: مختار الندوي. إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي، (1406 هـ). - مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس: الفتح بن محمد القيسي. تحقيق: محمد علي شوابكة. ط: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، (1983م).

- معارج الصعود إلى تفسير سورة هود: محمد الأمين بن المختار الجكني الشنقيطي. ط: دار المجتمع للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، جدة، (1408 هـ). - معارج القبول: حافظ بن أحمد حكمي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - المعارف: ابن قتيبة. تحقيق: ثروت عكاشة. ط: دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية. - معالم التنزيل: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي. تحقيق: خالد العك، ومروان سوار. دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - معالم السنن: أبو سليمان الخطابي. تحقيق: أحمد شاكر، ومحمد الفقي. دار المعرفة، لبنان. - معاني القرآن: يحيى بن زياد الفراء. تحقيق: أحمد يوسف نجاتي وزميله. ط: دار السرور. - معاني القرآن وإعرابه: إبراهيم بن السري الزجاج. تحقيق: عبد الجليل شلبي. ط: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - معجم الأدباء: ياقوت الحموي. دار الفكر، الطبعة الثالثة، (1400 هـ). - معجم الإعراب والإملاء: إميل بديع يعقوب. ط: دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، (1988م). - معجم الأمثال العربية: رياض عبد الحميد مراد. ط: جامعة الإمام، (1407 هـ).

- المعجم الأوسط: سليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق: أبو معاذ طارق عوض الله وزميله. ط: دار الحرمين، مصر، (1415 هـ). - معجم البلدان: ياقوت بن عبد الله الحموي. ط: إحياء التراث العربي، بيروت، (1399 هـ). معجم الشعراء: أبوعبيد الله محمد بن عمران المرزباني. بتصحيح وتعليق: ف. كرنكو. ط: مكتبة القدسي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية، (1402 هـ - 1982 م). - المعجم الصغير: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان. المكتبة السلفية، المدينة المنورة، (1388 هـ). - المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية: ط: دار الكتاب اللبناني, بيروت, الطبعة الأولى, (1973م). - المعجم الكبير: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. ط: مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية. - معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع: عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي. تحقيق: مصطفى السقا. ط: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، (1403 هـ). - معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن الكريم: أحمد محمد الخراط. دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، (1409 هـ). - المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية: إميل بديع يعقوب. ط: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، (1413 هـ). - المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية. ط: المكتبة الإسلامية، استانبول، الطبعة الثانية، (1392 هـ). - معرفة الصحابة: أبو نعيم الأصفهاني. تحقيق: محمد راضي بن حاج عثمان. ط: مكتبة الدار بالمدينة المنورة، مكتبة الحرمين بالرياض، الطبعة الأولى، (1408 هـ). - المعرفة والتاريخ: يعقوب بن سفيان البسوي. تحقيق: أكرم العمري. ط: مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، (1410 هـ).

- المغازي: محمد بن عمر بن واقد. تحقيق: مارسون جونس. ط: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، (1404 هـ). - المغني: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة. تحقيق: عبد الله التركي، وعبد الفتاح الحلو. ط: دار هجر، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - مغني اللبيب: جمال الدين بن هشام الأنصاري. ط: دار إحياء الكتب العربية. - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة: محمد بن أبي بكر ابن القيم. تحقيق: علي حسن عبد الحميد. ط: دار ابن عفان، الخبر، الطبعة الأولى، (1416 هـ). - مفحمات الأقران في مبهمات القرآن: جلال الدين السيوطي. تحقيق: إياد خالد الطباع. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1406 هـ). - مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني. تحقيق: صفوان عدنان داوودي. دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: جواد علي. الطبعة الثانية، (1413 هـ). - المفضليات: المفضل بن محمد بن يعلى الضبي. تحقيق: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون. ط: دار المعارف، القاهرة، الطبعة السابعة. - المقاصد النحوية في شرح شواهد الألفية: بدر الدين العيني. ط: دار صادر، القاهرة، الطبعة الأميرية ببولاق -مصورة (لم تذكر بيانات الطبع) -, (1299 م). - المقاييس في اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. تحقيق: عبد السلام هارون. دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، (1411 هـ).

- المقتصد في شرح الإيضاح: عبد القاهر الجرجاني. تحقيق: كاظم بحر المرجان. - مقدمة أصول التفسير: أحمد بن تيمية. نشرها: قصي محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية, القاهرة, الطبعة الرابعة، (1399 هـ). - ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي الغرناطي. تحقيق: سعيد الفلاح. ط: دار الغرب، لبنان، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - مناقب الإمام أحمد: ابن الجوزي. تحقيق: عبد الله التركي. ط: دار الهجرة. - المنتخب: عبد بن حميد. تحقيق: أبو عبد الله مصطفى بن العدوي. ط: دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - المنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء: أحمد بن محمد الجرجاني. تحقيق: محمد شمس الحق شمسي. ط: بإعانة وزارة المعارف والشؤون الثقافية للحكومة العالية الهندية، الهند، الطبعة الأولى، (1403 هـ). - المنتخب من معجم شيوخ السمعاني: عبد الكريم بن محمد التميمي السمعاني. تحقيق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر. ط: دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الأولى، (1417 هـ - 1996م). - المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي. تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1412 هـ - 1992م). - المنتقى من السنن المسندة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن علي بن الجارود. تخريج: السيد عبد الله هاشم اليماني. مطبعة الفجالة الجديدة, القاهرة, (1382 هـ). - المنهاج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى: زين محمد شحاته. ط: مكتبة العواصم، دار بلنسية، الرياض، الطبعة العاشرة، (1422 هـ). - منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد: عثمان علي حسن. ط: دار إشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى، (1420 هـ). - منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: محمد الأمين الشنقيطي. الدار السلفية، الكويت، الطبعة الرابعة، (1404 هـ). - الموافقات: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي. تحقيق: مشهور حسن سلمان. ط: دار ابن عفان، الطبعة الأولى، الخبر، (1417 هـ). - الموسوعة الفقهية: إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت.

- الموضح في وجوه القراءات وعللها: نصر بن علي بن محمد المعروف بابن أبي مريم. تحقيق: عمر حمدان الكبيسي. ط: بإشراف الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة، الطبعة الأولى، (1414 هـ). - الموضوعات: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن عثمان. ط: دار الفكر، الطبعة الثانية، (1403 هـ). - موطأ الإمام مالك: رواية يحيى بن يحيى الليثي. ط: دار النفائس، بيروت، الطبعة الخامسة، (1401 هـ). - موقف ابن تيمية من الأشاعرة: عبد الرحمن صالح المحمود. ط: مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، (1415 هـ). - ميزان الاعتدال: أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي. تحقيق: علي بن محمد البجاوي. ط: دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، (1382 هـ). - الناسخ والمنسوخ: أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس. تحقيق: سليمان بن إبراهيم اللاحم. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز: أبو عبيد القاسم بن سلاَّم. تحقيق: محمد المديفر. ط: مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، (1411 هـ). - النبوات: أحمد ابن تيمية. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، (1402 هـ). - نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار: ابن حجر العسقلاني. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. ط: مكتبة المثنى، بغداد، (1406 هـ).

- نثر الورود على مراقي السعود: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. تحقيق: محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي. ط: دار المنارة، الطبعة الأولى، جدة، (1415 هـ). - النحو الوافي: عباس حسن. ط: دار المعارف بمصر، الطبعة الخامسة. - نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي. تحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي. ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - نشر البنود على مراقي السعود: سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي. إشراف اللجنة المشتركة لنشر التُّراث الإسلامي بين حكومة المغرب والإمارات, (صندوق إحياء التُّراث الإسلامي). - النشر في القراءات العشر: أبو الخير محمد بن محمد ابن الجزري الدمشقي. تحقيق: علي محمد الصباغ، دار الكتاب العربي. - نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: المحسن بن علي التنوخي البصري. (1391 هـ). - نصب الراية لأحاديث الهداية: جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي. ط: دار المأمون، القاهرة، الطبعة الأولى، (1357 هـ). - نقد الشعر: قدامة بن جعفر البغدادي. ط: مطبعة الجوائب - قسطنطينية، الطبعة الأولى، (1302هـ). - النكت والعيون: أبو الحسن علي بن محمد الماوردي. تحقيق: السيد عبد المقصود. ط: المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، (1412 هـ). - نهاية الأرب في فنون الأدب: أحمد بن عبد الوهاب القرشي التيمي البكري، شهاب الدين النويري. ط: دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الأولى، (1423 هـ). - نهاية السول: جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي. ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1405 هـ). - النهاية في غريب الحديث: مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير. تحقيق: محمود محمد الطناحي، المكتبة الإسلامية، اسطنبول. - النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى: محمد الحمود. ط: مكتبة الإمام الذهبي، الكويت، الطبعة الثانية، (1417 هـ). - نواقض الإيمان الاعتقادية: محمد بن عبد الله بن علي الوهيبي. ط: دار المسلم، الطبعة الأولى، الرياض، (1416 هـ).

- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار: محمد بن علي الشوكاني. ط: دار القلم، بيروت. - الهداية شرح بداية المبتدي: أبو الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني. ط: مكتبة الحلبي، مصر. - الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع: عبد الفتاح عبد الغني القاضي. ط: مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، (1404 هـ). - الوسيط في تراجم أدباء شنقيط: أحمد بن الأمين الشنقيطي. ط: مطبعة المدني، مصر. الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، مؤسسة منير، موريتانيا، (1409 هـ). - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان. تحقيق: إحسان عباس. دار صادر، بيروت.

§1/1